.إبراهيم البيومي غانم

دخلت الدولة العميقة في مصر مرحلة «التشنج» مع بداية شهر يونيو الجاري، بهجوم «طائش» يوم 3 من هذا الشهر شنَّهُ مرشحها لرئاسة الجمهورية، وهو نفسُه مرشحُ الفلول والثورة المضادة، الفريقُ أحمد شفيق على جماعة الإخوان ومرشح الثورة المصرية المجيدة الدكتور محمد مرسي. حاول شفيق في هجومه «الفشنك» أن يقلب حقائق موقعة الجمل رأساً على عقب، فاتهم الجماعة بأنها هي المسؤولة عن قتل المتظاهرين يوم موقعة الجمل الشهيرة في الثاني من فبراير سنة 2011! فأثار سخرية أصدقائه منه قبل خصومه.
وبعد أربعة أيام فقط من هجوم الفريق «الفشنك» بلغت حالة التشنج ذروتها بهجوم «فشنك» آخر، وفي نفس الاتجاه ولنفس الغرض شنه رئيس نادي القضاة المستشار أحمد الزند يوم 7 من هذا الشهر بحجة الدفاع عن القضاء، ومنع التعليق على الأحكام التي صدرت بإدانة الرئيس المخلوع ووزير داخليته بالسجن المؤبد، وتبرئة صديقه حسين سالم وولديه جمال وعلاء مبارك وستة من كبار قيادات وزارة الداخلية!
وثمة هجوم ثالث شنه الفريق يوم «جمعة الإصرار» 8 يونيو لم يأت فيه بجديد، وطاش كسابقه.
الهجمات «الفشنك» للفريق والمستشار أتت عشية إجراء الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها يومي 16 و17 يونيو الجاري. وكلما تأملنا في مضمون تلك الهجمات وسياقها وأغراضها تأكد لنا أن «الدولة العميقة» قد دخلت حقاً في حالة خطيرة من التشنج المرضي، بعد أن خرجت من مرحلة «استرداد الوعي» وعادت إلى ممارسة أعمالها القذرة في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، وبعد أن أفاقت قبل ذلك من الصدمة التي كانت قد أفقدتها توازنها على أثر قيام ثورة 25 يناير 2011.
الهجمات «الفشنك» جمعتها «حالة تشنج» موحدة ليس فقط في المضمون والهدف -وهذا هو الأهم طبعاً- وإنما تشابهت أيضاً في ركاكة اللغة العربية التي يتتعتع بها كل من الفريق والمستشار. وللحقيقة والإنصاف فإن للفريق بعض العذر في ركاكة لغته العربية وتدني مستواها لكونه رجلاً عسكرياً، ولكن أي عذر يمكن أن نلتمسه للمستشار، ولعدد آخر من زملائه المستشارين الذين يشغلون مناصب قضائية عليا في ركاكة لغتهم، وتتعتعهم في قراءة آيات القرآن كلما أرادوا الاستشهاد بها؟
هل يُعقل أن يكون هذا الحال قاسماً مشتركاً بين جميع رؤساء أعلى الهيئات القضائية مقاماً في البلاد ودون استثناء واحد، وهم: رئيس المحكمة الدستورية العليا الذي هو نفسه رئيس اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية، ورئيس محكمة استئناف القاهرة الذي كان رئيساً للجنة العليا لانتخابات مجلسي الشعب والشورى، ورئيس محكمة جنايات القاهرة الذي حكم في قضية مبارك المخلوع ومن معه، وأخيرا وليس آخراً رئيس نادي قضاة مصر؟!
هل هذا معقول أو مقبول؟ ألا تستوقفنا ظاهرة الأخطاء اللغوية المروعة في أحاديثهم وتصريحاتهم؟ ألا تثير هذه الظاهرة في أذهاننا تساؤلات كثيرة بشأن العلاقة بين ضرورة إتقان اللغة العربية كشرط لازم لفهم النصوص المنطوق بها أو أوراق الدعاوى المقروءة، أو الشهادات المسموعة أو المكتوبة في الخصومات المنظورة؟
إن السواد الأعظم من المصريين يسلمون بنزاهة قضاة مصر في عمومهم ويثقون في حسن نواياهم كل الثقة، ولكن أليس من حقهم أيضاً أن يثقوا في كفاءتهم المهنية بمعناها الشامل، وخاصة بالنسبة لأولئك الذين يقفون على قمم المؤسسات القضائية في البلاد، الذين يخطئون في أوليات قواعد النحو والصرف بشكل مثير للدهشة إلى حد الذهول؟!
تصريحات الزند الفجة وتشويحه بيديه، وزلات لسانه وتهكماته على البرلمان واستعماله ألفاظاً سوقية أثارت استياء كثير من المثقفين ورجال القانون والقضاء، كما أشعلت غضب المتظاهرين بميدان التحرير، وجعلتهم يصرون على ضرورة «تطهير القضاء». واللوم كل اللوم يجب أن يقع على المستشار الزند الذي أساء للقضاة وللقضاء، ومنح نفسه بنفسه حق التحدث باسمهم وهو يتهجم على السلطة التشريعية المنتخبة، متجاوزاً ما هو معروف عن القضاة من اتزان ورزانة وتعقل وروية.
ليت الزند يقرأ ويتدبر النصائح التي قالها قبل ستمائة سنة تقريباً الإمام علاء الدين الطرابلسي الحنفي -المتوفى سنة 844 هـ/1440م- ففي كتابه الرائع الموسوم باسم «معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام»، أزجى الطرابلسي جملة من النصائح النفيسة للقضاة كأنه يتحدث إلى قضاة زماننا، وكأنه يخاطب الزند تحديداً ويقول له: «يجب على من ولي القضاء أن يعالج نفسه على آداب الشرع، وحفظ المروءة، وعلوّ الهمة، ويتوقّى ما يشينه في دينه ومروءته وعقله، فإنه أهل لأن يُنظر إليه ويُقتدى به، وليس يسعه في ذلك ما يسع غيره، فالعيون إليه مصروفة، ونفوسُ الخاصة على الاقتداء بهديه موقوفة، وليجتهد أن يكون جميل الهيئة، وقورَ المشية والجلسة، حسنَ النطقِ والصمت، محترزاً في كلامه من الفضول وما لا حاجة به، كأنما يعدّ حروفه على نفسه عدّا، فإن كلامه محفوظ وزلله في ذلك ملحوظ، وليقلل عند كلامه الإشارة بيده والالتفات بوجهه، فإن ذلك من عمل المتكلفين وصنع غير المتأدبين، وليلزم من السمت الحسن والسكينة والوقار ما يحفظ به مروءته، فتميل الهمم إليه، ويكبر في نفوس الخصوم من الجرأة عليه، من غير تكبّر يظهره، ولا إعجاب يستشعره، وكلاهما شيْن في الـدين، وعيب في أخلاق المؤمنين.
على كل منا أن يحكم بتلك النصائح النفيسة على أداء المستشار في مؤتمراته الصحفية، ومنها مؤتمره الأخير الذي خرج فيه على كل تلك النصائح، إلى الحد الذي أحرج زملاءه القضاة الأجلاء، ودفع بعضهم إلى التقدم ببلاغات ضده؛ بسبب تصريحاته التي تثير الفتنة والوقيعة بين السلطتين التشريعية والقضائية.
مفهومٌ، ولكنه غير مقبولٍ، أن يتشنج مرشح الفلول والثورة المضادة وهو يلقي الاتهامات يمينا وشمالاً على خصومه؛ أملاً في أن يخدع الرأي العام ويستميله كي يصوت له في جولة الإعادة.
أما غير المفهوم وغير المقبول في الوقت نفسه فهو أن يتورط رئيس نادي القضاة المستشار الزند في سلوك هذا المسلك، ويمضي في تحريض القضاة على البرلمان، ويسمح لنفسه أن يقول إن القضاء سيكون له دور سياسي (هكذا!) وأنه لن يطبق قانوناً يصدره مجلس الشعب الحالي بشأن السلطة القضائية! وأنه يمتلك معلومات وأسراراً سيفشيها! (وما الذي أسكتك)؟ ثم إنه هدد أيضاً بتدويل المشكلة بين البرلمان والقضاء! مثل هذا الكلام لا يمكن فهمه أو قبوله على أنه رأي شخصي لمستشار يعمل حقاً في القضاء، فقط يمكن فهمه على الطريقة التركية؛ أي طريقة الدولة العميقة ذائعة الصيت السيء في السياسة التركية.
«الدولة العميقة» اسم الشهرة لدولة الأجهزة الأمنية وشبكة المصالح الخفية التي يستغل أصحابها مناصبهم في مؤسسات الدولة الرسمية لتحقيق أغراضهم الخاصة، حتى ولو على حساب المصلحة العامة. وقد بادرنا إلى الكتابة عن هذا المفهوم وتوظيفه لأول مرة في تحليل وقراءة التحولات السياسية في مصر، وسجلنا أول ظهور علني لما أطلقنا عليه اسم «الدولة العميقة» في موقعة الجمل (مقالنا في جريدة السبيل الأردنية بتاريخ 7 فبراير 2011) في ليلة ذلك الأربعاء الأسود الثاني من فبراير سنة 2011. ثم توالت جرائم عملاء الدولة العميقة في محمد محمود، وماسبيرو، وبورسعيد، ومجلس الوزراء. وما سبق ذلك وما ترافق معه مع جرائم الانفلات الأمني وافتعال الأزمات الاقتصادية، وتهديد بعض الأشخاص بالاغتيال. ويضاف إلى كل ذلك الحملات الإعلامية لتشويه البرلمان ومرشح الثورة الدكتور محمد مرسي. وكنا قد حذرنا في مقالنا المنشور بصحيفة السبيل وموقع علامات أون لاين وصحيفة الحرية والعدالة بتاريخ 21 أبريل 2012 من تصاعد النزعة الانتقامية للدولة العميق،ة كلما اقتربت المرحلة الانتقالية من نهايتها. وهذا ما حدث بالفعل خلال الأيام الأخيرة بهجمات «فشنك» شنها الفريق والمستشار.
ليست مشكلة الثورة مع هذا الفريق أو ذاك المستشار؛ فهما فقط مِن واجهات الدولة العميقة، ومن الناطقين باسمها والساعين إلى تحقيق أهدافها بوأد الثورة واستعادة النظام القديم. الدولة العميقة أوسع وأخطر، هي شبكة من المصالح التي تتقاسمها تشكيلات موازية لدولة القانون والمؤسسات، وتعمل من داخل تلك المؤسسات لا من خارجها. هي ليست تنظيما غير قانوني مناهض للدولة، وإنما هي تنظيم عصابي داخل مؤسسات الدولة والبيروقراطية الحكومية نفسها.
ولهذا أقول: إن فوز مرشح الثورة د.محمد مرسي بمنصب رئاسة الجمهورية لن يكون اليوم الأخير في عمر الدولة العميقة، وإنما يفترض أن يكون اليوم الأول للبدء في ترويض عملائها المنتشرين في مختلف أجهزة الدولة ومؤسساتها العامة، ومحاولة دمجهم في مسار الإصلاح والمصالحة الوطنية الشاملة
.

http://www.assabeel.net/studies-and-...-العميقةِ.html