الحمد لله وحده.
لست هنا لمحاورة صاحب الموضوع، فأرجو ألا يتكلف مجادلتي!
ولكني في عجب حقيقة من تأخر بيان بعض الأفاضل لأصل المغالطة المنطقية الفجة في كلام صاحب الموضوع.
يقول الرجل:
فهنا خلط واضح بين قضايا لا تستوي في ميزان المنطق أصلا..وبالتالي .. حين يتحدث أحد عن إعجاز عددي او علمي أو كذا في القرآن ويحاجج بأن احتمالية أن يأت الأمر هكذا صدفة بدون تدخل إلهي , هي ضعيفة جدا تقارب الصفر في المائة ومن ثم ينطلق إلى النتيجة -الخاطئة- وهي أن الأمر أتى من إله لا من رسولهم محمد , كل هذا انحراف عن المنطق السليم .. لأن القريب من الصفر لا يعني الصفر وستظل هناك احتمالية ولو ضئيلة .. ووجود مثل هذه الاحتمالية تهدم قطعية الحكم بالتدخل الإلهي ..أو أي حكم مشابه
والقاعدة , إذا تسلل الاحتمال-مهما بلغ من الضآلة- إلى الدليل سقط به الاستدلال
نفس الشيء عندما يعطون مثالا على استحالة نشوء الكون صدفةً , ويقولون لو أن قردا جلس على حاسب آلي وأخذ يعبث بأزراره فما احتمالية أن يكتب قصيدة لشكسبير صدفة ؟ احتمالية تكاد تكون معدومة وبالتالي مرفوضة من وجهة نظرهم , ولكن على خلاف ما يريدون , ستظل احتمالية في حيز الإمكان الوجودي وبالتالي غير مرفوضة بل فقط مستبعدة وفرق كبير بين الاثنين
أولا، يتكلم صاحبنا عن مفهوم "الصدفة"، فيقرر قاعدة مفادها أن ضعف احتمال الحدوث Probability لا يعني نفي إمكان الحدوث Rational Possibility، "بمعنى أن غلبة عدم حدوث (س) على الظن لا تسوغ لنا في منطق الاحتمالات الرياضي أن نعتقد (كحكم منطقي modal belief) استحالة حدوث (س)، وهذا صحيح قطعا، ولكن هذا الحكم المنطقي بالإيجاب والمنع لا يوصل إليه من المنطق الاحتمالي أصلا، ذلك أن المنطق الاحتمالي محصور تطبيقه في دائرة الممكنات العقلية contingency وحدها، أي في دائرة ما يجيز العقل وقوعه من الحوادث، أما ما كان حكمه المنطقي امتناع الوقوع أو وجوب الوقوع فهذا لا يجري عليه المنطق الاحتمالي أصلا! هذه قاعدة منطقية يجب أن يتنبه إليها الأفاضل حتى لا يستدرجوا إلى ما يرجوه هواة السفسطة! لا يجوز في العقل أن نتكلم عن خلق الكون بلغة الاحتمالات ولغة الصدفة، لأن نوع الدعوى المعرفية نفسها خارج عن دائرة المنطق الاحتمالي أصلا!!
ثم إن الصدفة في اللغة الطبيعية وصف لحالة بشرية معرفية، وليست وصفا للواقع الأنطولوجي الوجودي للأشياء أو الأحداث في الخارج. فأنا عندما أقول رأيت فلانا صدفة، فالذي أقصده أن هذا اللقاء لم يكن عن ترتيب مسبق بيننا أو عن ترتيب أعلم أنا به، ولا يلزم من كلامي هذا نفي وجود من قام بترتيب هذا اللقاء مطلقا كما هو واضح، وإن كنت أجهل بذلك الترتيب. ومثل هذا الحدث يجيز العقل أن تقاس الاحتمالية الإحصائية لوقوعه بالنظر إلى الحالات المشابهة ومعدلات التكرار ونحو ذلك، كحكم على قدرتنا نحن البشر على التنبؤ بالنظائر والأشباه لما عهدناه من خبرتنا البشرية! أما عندما يكون الكلام عما إذا كان الكون قد خلق أم لم يخلق، فإننا ننتقل حتما من الكلام حول التجربة البشرية المحصورة في الممكنات العقلية، إلى إطلاق الأحكام المنطقية الأولية a-priori modal judgments، أولا لأن ما نتكلم عنه في ذلك ليس حدثا من جملة ما يدخل في دائرة تجربتنا الحسية - كما هو واضح أيضا - فضلا عن أن يُتصور إمكان تكرار وقوعه أمامنا وفي إطار تجربتنا البشرية، حتى نطبق عليه المنطق الاحتمالي! وثانيا لأنه حتى لو سلمنا تنزلا بأن رأينا بأعيننا كونا ينشأ في يوم من الأيام، فإن النزاع فيما إذا كانت تلك النشأة خلقا أم "صدفة" = نزاع منطقي محض ولا دخل للترجيح الاحتمالي فيه! فإذا كان الكلام عن "الصدفة" في الممكنات العقلية التي نراها تتكرر من حولنا قلت أو كثرت، ينبغي ألا يتخطى دائرة عدم العلم لينتقل إلى العلم بالعدم، بمعنى أنه لا يجوز لنا إنكار وجود قانون حاكم أو وجود عامل منظم من جنس ما نصفه بالإمكان العقلي، لمجرد أن غاب علينا العلم به في المحسوس، فما بالك بحدث يزعم العقلاء أن وقوعه خلقا وتكوينا ضرورة عقلية وليست من جنس الممكنات؟
المهم، والطامة التي حملتني على كتابة هذا التنبيه، إنما هي قوله "والقاعدة , إذا تسلل الاحتمال-مهما بلغ من الضآلة- إلى الدليل سقط به الاستدلال"! هذا كلام باطل قطعا! ولا أدري كيف يقبل صاحب دعوى كهذه أحكام القضاة في المحاكم بل كيف يقبل العلم الطبيعي نفسه الذي يتداوى به عند الأطباء، الذي يقوم من أوله إلى آخره على الاستقراء الحسي empirical induction، الذي هو نوع من الأدلة يتسلل إليه من الاحتمالات ما لا يكاد يحصى؟ والله لو التزم هذا الرجل بلوازم هذه العبارة وحدها في كلامه، لأهلك نفسه، لو كان يعقل!
الفهم الصحيح لهذه القاعدة، الذي لا تنهدم به سائر المعارف البشرية قاطبة، أن يقال إن الدليل الذي تستوي فيه وجوه الاحتمال يبطل به الاستدلال، وهذا ما قصده أئمتنا الذين حرروا القاعدة التي يتعلق بها صاحبنا بلفظ مشابه، بمعنى أن يكون احتمال إثبات الدعوى المعرفية knowledge claim ونفيها من طريق هذا الدليل نفسه = متساويا (0.5 / 0.5) في ميزان الناظر، فيخدم كلا من الفريقين المتنازعين على التساوي (المثبت والنافي للدلالة المزعومة)، فهنا يسقط الدليل ولا يصلح للاستدلال! فإن تنازعته ثلاث طوائف - مثلا - كل منها تزعم دلالته على دعواها، وكانت احتمالية موافقته لقول كل واحدة منهم 0.3 (بالتقدير الإحصائي التقريبي)، لم يكن لأي من تلك الطوائف أن تتخذه من جملة أدلتها، وهكذا.
أما أن يقال إن مجرد ورود الاحتمال (بمعنى الإمكان العقلي) وإن ضعف ذلك الاحتمال وقارب الصفر، يُسقط الاستدلال بأي دليل، فهذا لا يقول به عاقل أصلا! اللهم إلا إن كان الرجل من أتباع الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم الذي هدم المنطق الاستقرائي كله بدعاوى مشابهة (بما في ذلك منطق الاستدلال بالاحتمالات الرياضية بالمناسبة Probabilistic inference الذي يبدو أنه جاء إلى هنا ليعلمنا فيه درسا)، فأشبعه فلاسفة العلم الطبيعي ردا في كتبهم من زمانه وإلى اليوم، حتى صارت تلك المسألة مما يتندرون به أو يوردونه من باب الرياضة الذهنية والتحديات العقلية الشاحذة للذهن لا غير، وما ذلك إلا لأنهم يعلمون ما يستلزمه هذا الاعتراض من هدم للمعرفة البشرية عموما والعلم الطبيعي خصوصا، فليراجع صاحبنا ذلك في مظانه من مؤلفاتهم إن شاء! ولا مانع عندي من إحالته على كتاب من كتب المبتدئين في فلسفة العلم الطبيعي Philosophy of science for dummies إن أراد!
والقصد أنه ليس لمن يفهم قاعدة ورود الاحتمال على الاستدلال الظني بهذا الفهم الهيومي الساقط أن يكلمنا في المنطق الاحتمالي الرياضي أصلا!
أما كلامه عن (الإعجاز) فأقول بإيجاز إن دلائل صدق القرءان (التي يقال لها إعجاز) منها القطعي ومنها الظني الراجح، ومنها ما أخطأ فيه أصحابه ولا إشكال عندنا في ذلك (إبستميا)، ولا يرجع ذلك على ثبوت إلهية مصدره بالنقض والإبطال. فمثلا عندما يقال إن احتمالية أن يكون النبي عليه السلام قد عرف كذا وكذا مستقلا بنفسه دون اتصال بالوحي من الخالق، احتمالية ضئيلة للغاية، وتقام الدلائل على ذلك، فإن هذا إن صح يعد دليلا عند عامة العقلاء، ولا يعترض عليه بمجرد إثبات الإمكان العقلي لوقوع العكس! والأدلة الظنية عندما تتكاثر فإنها يعضد بعضها بعضا وتفيد درجة من درجات اليقين المعرفي، وهذه قاعدة عقلية بدهية معتمدة في جميع العلوم ولا يخالف فيها إلا هيوم وأتباعه، فكيف إذا كان من تلك الأدلة ما لا يقبل المراء والجدال أصلا؟ والقصد أن المنطق الاحتمالي وإن كان يرِد على مسألة كهذه التي ضرب الرجل بها المثل هنا، فإن هذا لا يعني بطلانها ضرورة! المنطق الاحتمالي يرد على تصحيح الأحاديث وتضعيفها (إلا ما كان منها محل إجماع لحجية الإجماع في شريعتنا) وعلى ترجيح الأحكام الشرعية (إلا ما كان منها قطعيا لحجية الإجماع أيضا) ويرد على كل استدلال يقوم على الموازنة بين القرائن والأدلة ولا إشكال! ولكن إذا كان المنطق الاحتمالي واردا في هذا (ونحن نسلم بهذا كما تقدم)، فبأي عقل يسوي من يتكلم باسم المنطق بين دعوى مفادها أن الكون "مكوَّن" معلل هو وجميع أسبابه بعلة تامة خارجة عنه واجبة عقلا، وبين دعوى مفادها نصب القرينة الظنية على ضآلة احتمالية أن يكون القرءان من تأليف محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم؟ هذا خلط واضح لا يخفى!
هذا ما أردت تنبيه الإخوة الأفاضل إليه، والله الموفق.
Bookmarks