عصور التقدم البشري الأولى - 2 -
أما العالم الاقتصادي الألماني " كارل بيشــر Karl Bucher " فقد ذهب إلى أن الاقتصاد البشري مَرَّ بثلاث مراحل قبل أن يصل إلى المرحلة الصناعية قي أوروبا في القرن التاسع عشر. وفي أولى تلك المراحل الثلاث كانت حياة الإنسان تعتمد إما على الجمع والالتقاط أو قنص الحيوان أو صيد السَّمك بحسب ظروف كل مجتمع على حدة، ثم انتقل الإنسـان بعد ذلك إلى مرحلة الرعي، وأخيراً وصل إلى مرحلة الحياة المستقرة التي تعتمد على الزراعة.[1 ]
أما العالم الأمريكي " لويس مورجان Lewis Morgan" فيذكر في كتابه "المجتمع القديم Ancient Society " أن الإنسان قد مَرَّ بحقبتين كبيرتين هما "حقبة التَّوَحُش" و "حقبة البربرية" قبل أن يصل إلى "الحضارة الأوربية الحديثة". ثم يقسم كلاً من هاتين الحقبتين بعد ذلك إلى ثلاث مراحل أخرى هي "دنيا، وسطى، عليا". وبناء عليه يكون المجتمع الإنساني قد مرَّ بحسب تقسيمه بالمراحل التالية :
أ. مرحلة التوحش الدنيا: وتبدأ من طفولة البشرية.
ب. مرحلة التوحش الوسطى: وتبدأ باستخدام النار، وكان الإنسان يعتمد في أساسها على صيد السمك.
ت. مرحلة التوحش العليا: وتبدأ منذ اخترع الإنسان القوس والنشاب والسهام، وبذلك كانت حياته تقوم في الأغلب على القنص.
ث. مرحلة البربرية الدنيا: وتبدأ باختراع الأواني الفخارية.
ج. مرحلة البربرية الوسطى: التي تتميز بحفظ واستئناس الحيوانات، وزراعة الذرة ، والاعتماد على الرّي.
ح. مرحلة البربرية العليا: وتبدأ باكتشاف طريقة سبك الحديد، وبالتالي استخدام الآلات والأدوات الحديدية.
خ. وأخيراً وصلت الإنسانية إلى المرحلة السابعة والأخيرة وهي: "مرحلة الحضارة الصحيحة": التي تمتاز باكتشاف حروف الهجاء والكتابة، وتمتد حتى عصرنا الحالي.[ 2]
أما فيما يتعلق بأدوات ووسائل العيش فيقول مورجان: أن الإنسان انتحل خمس طرائق في معاشه، ويرد اثنتين منها إلى حقبة التوحش، والثلاث الأخرى إلى البربرية، وأولى تلك الوسائل هي طريقة العيش الطبيعية عن طريق جمع الفواكه والبذور والجذور في المنطقة التي يسكنها الإنسان، والثانية هي صيد السمك. أما الوسائل الثلاث الأخرى فهي الاعتماد على زراعة الحبوب في الحدائق، والاعتماد على اللحم واللبن، ثم ممارسة الزراعة الواسعة في الجبال.[3 ]
ويبدو كما يقول "ايفانز ريتشارد "[ 4]:
ان معظم العلماء التطوريين في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وأشهرهم:
سير هنري مين، في كتابة "القانون القديم".
تايلور، في كتابه "أبحاث في التاريخ القديم للجنس البشري".
سير جون لبوك، في كتابه "أصل الحضارة ".
ماكميلان، في كتابه الذي ظهر في مجلدين بعنوان "دراسات في التاريخ القديم".
كانوا يذهبون إلى أن الشعوب البدائية التي لا توجد الآن، أو على الأصح التي كانت تعيش إلى أيامهم ، تمثل أدنى المراحل التي مرت بها البشرية، وأنه بناء على ذلك فإنَّ ترتيب الشعوب والمجتمعات التي توجد الآن حسب درجة تقدمها وارتقاءها إنما يعطينا صورة واضحة ومتكاملة عن كل المراحل التي مرَّ بها المجتمع الإنساني منذ وُجِدَ حتى الآن، وهذا يعني أن الاهتمام الزائد الذي كان يبديه هؤلاء العلماء بما كان يعرف حتى عهد قريب باسم "الشعوب البدائية" لم يكن اهتماماً بتلك الشعوب بذاتها وإنما لاستخدامها في إقامة نماذج ومُثُل افتراضية كانوا يعتقدون أنها تمثل التاريخ المبكر للجنس البشري عامة، ولذا فليس من الغريب أن نجد علماء ذلك العصر يكتبون ما كانوا يعتبرونه تاريخاً، لأنَّ العلوم والمعارف كانت تتجه في ذلك الوقت اتجاهاً تاريخياً في أساسه، وهي كلها مجهودات كانت تهدف دائماً إلى تفسير الشيء القريب بالشيء البعيد، أي قياس الحاضر بالغائب.
ولقد أدت تلك الافتراضات والدَّعاوى بأن الشعوب البدائية تمثل أدنى المراحل التي مرَّت بها البشرية إلى الوقوع في كثير من الأخطاء نتيجة لإطلاقهم بعض الأحكام العامة غير الصحيحة والتي لا تستند في كثير من الأحيان إلى حقائق ووقائع مؤكدة)[5 ]
فواضح إذن أن النظريات التي كان يضعها هؤلاء العلماء عن الماضي لم تكن تقوم على الحدس والتخمين فقط، وإنما كان يداخلها على ما يقول "ايفانز ريتشارد" كثير من العناصر التقويمية أيضاً !!!.6 ]، ويذهب "ايفانز ريتشـارد " إلى أن السبب الأول لكل ذلك الخلط لا يرجع إلى اعتقاد علماء القرن التاسع عشر في التقدم ورغبتهم في الوصول إلى طريقه يمكنهم بها أن يعرفوا كيف حدث ذلك التقدم، لأنهم كانوا يدركون تماماً أن النماذج التي يصفونها لم تكن سوى افتراضات لا يمكن تحقيقها، وانما كان ذلك الخلط يرجع في المحل الأول إلى الدعوى التي ورثها هؤلاء العلماء من عصر التنوير، ومؤداها أن المجتمعات أنساقٌ طبيعية أو كائنات عضوية تتطور بطريقة معينة وتمر أثناء تطورها بمراحل ضرورية يمكن ردها إلى مبادئ عامة أو قوانين.[7 ]
أما "دوجالد ستيوات Dugald Stewart " فهو يطلق على أبحاث تاريخ الإنسـان التطوري "التاريخ الظني" أو "التاريخ التخميني" لمعرفة الصورة الأولى التي كانت عليها النّظم الاجتماعيّة، لإعادة تركيب تاريخ المجتمعات البشرية وتصنيفها من حيث درجة رقيها وترتيب مراحل الحضارة التي مرَّت بها تلك المجتمعات منذ نشأتها حتى الآن، وذلك حسب نظام عقلي دقيق يرسمون هم أنفسهم خطته ويحددون خطواته تجديداً تعسفيا، ولذلك فكثيراً ما كانوا يصلون إلى نتائج غريبة ومتناقضة.[ 8]
بل كثيراً ما كان العلماء الذين يستخدمون نفس الوسيلة، ويتبعون نفس المنهج في دراسة نفس الموضوع يصلون إلى نتائج مختلفة كل الاختلاف. فبينما نجد "سير هنري مين H.S.Maine " مثلاً يذهب إلى أن العائلة الأبوية التي ينتسب إليها الأبناء إلى الأب هي الشَّكل الأول للنظام العائلي على الإطلاق . فإنَّ "باخوفن Bachofen " يدعي أنَّ الإنسانية عرفت أولاً بعد الإباحية المطلقة نظام العائلة الذي يرتكز على الانتساب إلى الأم قبل أن تصل إلى العائلة الأبوية. ومن الطريف أنَّ مين وباخوفن قد نشرا نتائج دراستيهما في نفس السنة أي عام (1861).[9 ]
وللحقيقة فإنَّ فكرة التّطور بمعنى التَّقَدُم والارتقاء قد استغلت لإثبات ما يسمى بالتطورية الاجتماعية، إذ امتدت من أسلوب لفهم أصل الحياة والكون إلى فهم الإنسان والمجتمع عن طريق الاستعانة بما يعرف باسم "المماثلة البيولوجية Analogy" ومحاولة تصور المجتمع ككائن عضوي حي ومقارنة ما يحدث فيه من تغيرات وتطورات بما يحدث في الكائنات العضوية الأخرى ... ولقد تغلغلت الفكرة إلى كل مجالات العلوم التي أصبحت بمثابة ميادين لاختبار مدى صدق تلك النظرية، وتمثل ذلك بوجه خاص في الكتابات الأنثربيولوجية والسوسيولوجية[ 10] والتاريخية والاقتصادية وفي النظرة السياسية[ 11] ونتج عن ذلك تأسيس أو قيام ما يسمى "التطورية الاجتماعية Social Evolutionism " وما يسمى "الداروينية الاجتماعية Social Darwinism " ومع ذلك فإنَّ فكرة التَّطور بمعنى التّقدم والارتقاء، وكذلك فكرة التّقدم الاجتماعي لم يسلما من كثير من الانتقادات العنيفة التي وجهها إليها عدد من العلماء الرّافضون لها، إذ يرفض هؤلاء المعارضون أن يتصوروا المجتمع البشري يسير في ذلك الخط الذي يرسمه له أصحاب مدرسة التقدم، ويرون عكس ذلك تماماً أن الإنسان خُلق في الأصل على درجة عاليه نسبياً من الرّقي الثقافي، ولكن هذه الثقافة الأولى الرّاقية تعرّضت لبعض عوامل مضادة ولبعض الظروف غير المواتية التي دفعت بها إلى هوة التّدهور والتأخر والانحلال. فتاريخ الثقافة بدأ – في رأي أصحاب تلك المدرسة – بظهور جنس بشري متحضّر على سطح الأرض، ثم لم تلبث هذه الثقافة الأولى أن اتجهت وجهتين مختلفتين: إما نكـوص وتدهور وانحطاط ترتب عليها ظهور المجتمعات المتوحشة، وإما إلى تقدم وارتقاء ورفعة أدّت إلى ظهور الشعوب المتحضرة الرّاقية.
ومن أكبر مشايعي هذه النظرية "الأسـقف هويتلي Whitely" – أسـقف كانتربري- إذ كتب في ذلك كتاباً بعنوان "مقال عن أصل الحضارة Essay on the origin of civilization " كان له دوي كبير في حينه، ويبني هويتلي كتابه على حجة استقاها من " نيبوهـر Niebuhr " أحد أعداء النظرية التقدمية المتطرفين. وكان نيبوهر يُنكِرُ بشدَّة إمكان نهضة الإنسان الأول وتقدمه وارتقائه من مرحلة متوحشة أولى إلى المراحل الأكثر تحضراً عن طريق التطور التلقائي الذاتي ودون تدخل أية عناصر أو عوامل أخرى خارجية، وكان يتحدى العلماء التقدميين في أن يأتوا بمثال واحد لشعب بدائي واحد أمكنه أن يرقى إلى مرحلة التّحضر من تلقاء نفسه. إنما البدائيون عنده وعند أتباع تدهور الثقافة الأولى هم سلالة متدهورة من شعب متحضر في الأصل .
والحق الذي لا يُمارى فيه أنّ الله تعالى قد خلق آدم عليه السّلام وعَلّمه وأدَّبهُ ، لذا فآدم ومن سار على نهجه من نسله هم في قمَّة الثقافة والحضارة والتّقدم. وقد انحط وتدهور أقوام من عقب آدم نهجوا نهجاً مخالفاً لنهجه، فأرسل الله تعالى الأنبياء والرّسُل لهداية البشر وتقويم انحرافاتهم ولرفعهم إلى المستوى اللائق بهم كبشر، فآمن واستقام منهم أقوام، وكذبهم أقوام استحبوا وألفوا ما هم فيه من الانحراف والانحطاط والتدهور. فالرّسل وأتباعهم هم في قمّة الثقافة والتقدم والرقي، أصحاب الفكر المستنير والحضارة الراقية، ومن خالفهم فقد استحبّ العمى على الإبصار وسار أشواطاً بعيدة في طريق التّخلف والجهل والانحلال والانحدار والتدهور، وما دمنا نؤمن أنّ آدم عليه السّلام هو أول البشر فالأصل في بني الإنسان العلم والتحضر والثقافة والرقي. أما التوحش والبدائية والانحطاط فهي خلاف الأصل إذ وجدت في سلالات متدهورة من أمم وشعوب متحضرة أصلاً.
وقد شايع نيبوهر في فكرته عدد من كبار العلماء في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر مثل "الكونت دي ميستر Count Josef De Maistre" ومن قبله "دي بر وسسDe Brosses" و "جوجيه Goguet".[ 12] إلا أنه يجب التنويه إلى إنّ عدداً غير قليل من التطوريين المعاصرين يُنكر أن يكون التنافس والصراع من وسائط ووسائل التقدم الاجتماعي، فكلمة الأصلح في رأيهم اصطلاح غير دقيق ومضلل، ولا يفيد بالضرورة الامتياز والسُّمو في الخصائص والقدرات والقوى في كلّ الأحوال، إذ قد يكون البقاء من نصيب الفرد الذي ينجب أكبر عدد من الذرية حتى وإن لم تكن لتلك الذّرية خصائص وقوى وقدرات متميزه.[13 ] وهذا معناه أنّ هؤلاء العلماء يميلون للتشكيك في الدور الذي يلعبه الانتخاب الطبيعي في التاريخ البشري والتهوين من أهميته وفاعليته، ومن هذه الناحية فإنهم ينظرون إلى الإنسان على أنّه حيوان حامل للثقافة وناقل لها عن طريق المحاكاة والتّعلم، وهما عمليتان تختلفان كل الاختلاف عن عملية نقل الخصائص والصفات الفيزيقية عن طريق التكاثر البيولوجي، وعليه فليس هناك ما يدعو إلى تفسير النظرية الاجتماعية تفسيراً بيولوجياً أو صياغتها في حدود مصطلحات وألفاظ البيولوجيا، وإن كان هذا لا يمنع من وجود بعض أوجه التشابه بين التطور البيولوجي والتطور الثقافي.[14 ]
وعلى الرغم من أنّ جوليان هكسلي" عالم بيولوجي تطوري فانه يقف موقفاً مماثلاً لذلك، ويذهب إلى أنّ التنافس داخل النوع الواحد لا يمكن أن يكون مصدراً للتقدم التطوري خلافاً لنظرية سبنسر عن الصراع والتنافس.
ــــــــــــــــــــــــــــ الهامش ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] تيلور، " نوابغ الفكر الغربي "، ترجمة دكتور أحمد أبو زيد،
[2] المصدر السابق.
[3] المصدر السابق.
[4] المصدر السابق عن ريتشارد ايفانز، الانثربولوجيا الاجتماعية، ترجمة دكتور أحمد أبو زيد، الإسكندرية (1958)، صفحه66).
[5] المصدر السابق، الصفحات ( 66 – 70 ) .
[6] المصدر السابق.
[7] المصدر السابق.
[8] دورية، نوابغ الفكر الغربي، صفخه ( 24 ).
- دورية " عالم الفكر " ، المجلد الثالث ، العدد الرابع ( 1972 ) ، صفحه ( 122 ) .
[9] المرجع السابق.
[10] الاجتماعية
[11] - Hofstadter, R., Social Darwinism in American thought. pp 3-4.
[12] Lewontin, R.C., The concept of Evolution in International. Encyclopedia of social science, En's “Evolution” -
[13] المرجع السابق، صفحه ( 91 ).
[14] المرجع السابق، صفخه ( 91 ).
ــــــــــــــــــــــــ 91 > 97 ــــــــــــــــــــ
منقول من : موسوعة الخلق والنشوء
حاتم ناصر الشرباتي
الناشر: مكتبة الايمان ، المنصورة ، مصر
الموقع الشخصي لحاتم ناصر الشرباتي
www.sharabati.org
يتبع إن شاء الله>>>>>>>>>>>>> على هامش نظريات التطور والارتقاء المادي
Bookmarks