السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ ضَرورَةٌ حَتْمِيَّةٌ
(1)
السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ والْمُذَكِّرات التَّفْسِيرِيَّة


بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وبعدُ.

فقد اتَّفَقَتْ عقولُ أهل الأرضِ قاطبةً، مؤمنهم وكافرِهم، على وضع الشروح والتفسيرات للمتون الدينية الإيمانية، وكذا المتون القانونية الوضعية، أو النظريات والقوانين العلميَّة.

ولعل أشهر من استخدم هذا بصورةٍ موسَّعة هم رجال القانون الوضعي في العصر الحديث، ورغم اعتراضنا على تحكيم القوانين من عدة جهات، أهمها مصادمة هذه القوانين وافتئاتها على حق الله عز وجل في التشريع لعباده؛ إلا أننا نرصد هنا مسيرة رجال القانون في تناول متونهم القانونية، لنرى من خلالها ما تواطأتْ عليه عقولُ البشر الآن.

لقد عكف رجال القانون على وضع متونهم القانونية، غير أنهم سرعان ما وجدوها عاجزةً أمام اختلاف الرؤى والأنظار، بل ربما كان القانون الواحد عرضة لفهمه بعشرات الفهوم المختلفة، والخروج من خلاله بعشرات الرؤى المتضاربة أحيانًا.
ولعلاج هذه المشكلة بادر رجال القانون بإصدار شروح وتفسيرات لهذه القوانين، واشتهرت المذكرات التفسيرية بينهم بما لا يكاد يجهله إلا القليل من غير القانونين، فضلا عنهم.

والمذكِّرَة التفسيرية أو الشروحات القانونية ليست قانونًا جديدًا معارضًا لأصل القانون القديم، وإنما هي مستوحاةٌ من القانون الأصل، وتستمد قوتها وبقائها من قوة وبقاء القانون الأم، ولكنها في الوقت نفسه تأخذ أهميتها من كونها مفسرةً للقانون، مبيِّنَةً لأبعاده المختلفة.

ولها الحق في أن تضيف شيئًا زائدًا مستوحىً من روح القانون الأم، ومأخوذًا منه.

وقد اكتسبت هذه المذكرات التفسيرية للقوانين أهمية خاصة في الأزمنة الأخيرة، بعد تداخل الثقافات، وكثرة الارتباطات الحياتية بين الناس، وفشوِّ التعاملات والاتفاقات، مع اختلاف اللغات واللهجات، مما نتج عنه في كثيرٍ من الأحيان اختلاف الرؤى في فهم بعض بنود الاتفاقيات بناءً على الترجمة الحرفية لكلمة ما، أو لبندٍ من البنود.
فجاءت المذكرات التفسيرية والشروحات القانونية مبيِّنةً لهذا، رافعة للإشكال المتوقَّع لاختلاف اللغة أو اختلاف الأفهام والعقول والرؤى.

وأمثلةُ ذلك كثيرةٌ مشهورة بحيث يستغنى بشهرتها عن استجلاب أحد أمثلتها، إذْ صارت كالمتواترات المقطوع بها.

وقد نحى بعض المحامون في الفترات الأخيرة إلى تأكيد دفاعاتهم القانونية بإضافة أحكام محكمة النقض القائمة في الحالات المثيلة، والتي تمثل التطبيق العملي للقانون، وكذلك الحال مع المحكمة الدستورية وغيرها من المحاكم العليا، بوصفها الجهة العليا لفرض القوانين ومناقشتها، ثم لتطبيقها بعد ذلك.
فكان تطبيق هذه المحاكم لقانونٍ ما وحكمها به في إحدى جلساتها مثالا عمليًّا وتطبيقًا واقعيًا كشرحٍ على القانون وكيفية تطبيقه.

ولأهمية ذلك رأينا التباري الواضح مؤخرًا لإصدار أحكام محكمة النقض ووقائع جلساتها، ومثلها الدستورية العليا، وغير ذلك في إصدارات حاسوبية أو مطبوعات سيارة، تتلقَّفها أيدي المختصين بالقانون تلقُّفًا يزيد على تلقُّفِهم للقانون الأصل.

فالقانون الأصلي في نظرهم لا يتجاوز المتن الذي يحتاج لشرح واقعي، وتطبيقٍ عمليٍّ يحسم مادة النزاع والاختلاف في التطبيق.

وهذه المواضعة العامة، والاتفاق والتواطؤ بين كافة البشر في هذه الجزئية تعطينا انطباعًا راسخًا في أن التطبيق لا يقل في أهميته عن التشريع.
فالتشريع يضع لنا الصيغة، والتطبيق يضع لنا تفسيرها.


والحق أن هذا التواتر البشري والتواطؤ العقلي ليس وليدَ لحظةٍ عابرةٍ ولكنه جهد سنين بشرية طويلة، غير أنه مسبوقٌ بتلك التشريعات الإلهية العظيمة والتي تفوق كافة تشريعات البشر.

لقد سبق الوحي الإلهي جميع البشر حين أراد سبحانه وتعالى وله المنة الكبرى أن يجمع بين التشريع والتطبيق في رسائله إلى البشر كافة.
وتلك ضرورة حتمية لطبيعة الرسالات السماوية لبني البشر.

لابد وأن نرجع بأذهاننا لحظات إلى الوراء لنطالع التاريخ البشري من لدن آدم عليه السلام وحتى لحظتنا هذه ولنسأل أنفسنا: ما هو حجم الاتفاق الكائن بين البشر؟ مقارنة بحجم اختلافهم في المدارك والعقول والرؤى؟

حين نعود بأذهاننا إلى حجم الاختلافات والبون الشاسع بين عقول ومدارك البشر سنرى أننا بحاجةٍ لقانونٍ لدستورٍ سماويٍّ يصلح لهؤلاء جميعًا، غير أنه في الوقت نفسه لابد وأن ينزل على بشرٍ، يصطفيهم الله عز وجل ويكلفهم بهذه الرتبة السامية.

فالبشر سكان الأرض لا يصلح أن يرسل الله عز وجل إليهم إلا بشرًا من جنسهم، ولو كان سكانها من الملائكة لأنزل الله عز وجل إليهم مَلَكًا.
وفي هذا يقول عز وجل:
{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الهُدَى إِلاَّ أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً . قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَّسُولاً} [الإسراء:94- 95].

بشريَّة السكان تستلزم بشرية الرسول، واختلاف عقولهم تستلزم شرحًا وتفسيرًا لرسالته وما يوحيه الله عز وجل إليه.
فما يصلح لزيد لا يستقيم في فهم عمرو.

فلابد من مذكِّرة تفسيرية وشرح وافٍ يفسِّرُ لنا ماهية الرسالة وتفاصيلها، ويوقفنا على مراد الله عز وجل من كلامه في كتبه التي يوحيها للرسل، حتى ختمهم بالنبي الخاتم وآخر المرسلين لأهل الأرض وهو النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

والمذكَّرات التفسيرية التي وضعها الله عز وجل لعباده ونصبها لهم كانت من أرقى أنواع التفسيرات وأجملها في كافة وجوهها، ذلك لأنها جاءت على لسان المرسلين أنفسهم، فظهرت التفسيرات والبيانات على لسانهم وأفعالهم.

ومن هنا لم نكن بحاجة بعد هذه الأفعال والتفسيرات إلى كتابٍ يشرح الكتاب الأول.

وبناءً عليه فإن أفعال المرسلين لابد وأن تأخذ صفة القوة والأهمية لصلتها بالرسالة وشرحها وتفسيرها، كما أنه لابد من حفظ هذه الأفعال والتفسيرات على مر الأزمان التي أرادها الله لرسالاته.
فلما انتهت الرسالات بالنبي والرسول الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم فقد تكفَّل الله عز وجل بحفظ أفعاله وأقواله وبَيَّن سبحانه وتعالى أنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى فقال عز وجل:
{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى . إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3- 4].

وكان لابد من حفظ أفعاله وأقواله لاكتسابها صفة القوة نظرًا لأنها الشرح الوافي لمراد الله عز وجل بكلامه، والتفسير التطبيقي لكلام الله عز وجل، كما وصفته عائشة رضي الله عنها في قولها عنه صلى الله عليه وسلم: ((كان خُلُقُه القرآن)).

فأفعاله وأقواله وتصرفاته مثال تطبيقي لما في القرآن الكريم فلابد من حفظ هذا التفسير أثناء التعهد الإلهي بحفظ القرآن الكريم، كما قال عز وجل:
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].

والذِّكر هنا لابد وأن يكون المقصود به القرآن بتطبيقه وتفسيره الفعلي على يد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو أعلم الناس بمراد مُرْسِلِه.
فالرسل هم أعلم الناس بالله عز وجل وبمراده الذي طلبه، وتطبيقاتهم لكلامه سبحانه وتعالى تكتسب نفس القوة لاستمدادها ذلك من كلام الله عز وجل.

ولذا طلب الله عز وجل من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلم المسلمين كتاب الله عز وجل وامتنَّ عليهم بذلك فقال سبحانه وتعالى:
{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [آل عمران: 164].

ويقول عز وجل في آيةٍ أخرى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ . بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44].

وهذا التعليم النبوي الكريم لأمتِه، والبيان للناس لابد وأن يكون محفوظًا يصل لكافة المسلمين في شتى بقاع الأرض وعبر كافة الأزمنة، فهذا ما يستلزمه العدل الإلهي، في عدم التفريق بين المسلمين الأوائل واختصاصهم بالتعليم دون غيرهم.
كما أن قيام الحجة على الناس لا يقوم إلا بما يعقلونه ويفهمونه، ولذا رأينا الشريعة الإسلامية في غير موضعٍ تطالبنا بمخاطبة الناس على قدر عقولهم، لأنَّ الحجة لا تقوم على الناس إلا بما يقدرون على فهمه، ولذا جاءت المعجزات التي أيد الله عز وجل به رسله من جنس ما يفهمه أقوامهم، وجاء القرآن الكريم بلسانٍ عربي مبين فصيح من جنس كلام العرب الذي يفهمونه ويحسنون فهمه.

وفي هذا يقول الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الَعَزِيزُ الحَكِيمُ}[إبراهيم: 4].

ونلاحظ في الآيات التالية على هذه الآية من سورة إبراهيم قوله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ . وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ العَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ . أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} [إبراهيم:5- 6].
فالمعجزات تأتي بلسان الأقوام، ثم الرسل تبين للناس ما أنزل الله عز وجل إليهم، وترشدهم بأقوالهم وأفعالهم لمراد الله عز وجل منهم.

لكن أفعال الرسل وأقوالهم ليست بديلة عن الكتب الإلهية التي هي أصل الرسالات، وإنما أفعالهم وأقوالهم مستمدة من كتب الله عز وجل، وما أوحاه إليهم سبحانه وتعالى، فهم التجسيد العملي لمراد الله عز وجل من عباده.

ونلاحظ في الآيات السابقات أن موسى عليه السلام قد طلب الله عز وجل منه أن يخرج قومه من الظلمات إلى النور، وتستمر الأحداث التي حكاها الله عز وجل عن الأقوام السابقين مع أنبيائهم ورسلهم حتى يختم الله عز وجل الجميع بنبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
ونرى الجميع عليهم السلام يصدعون بما أمرهم الله عز وجل به، ويمشون في الناس يعلمونهم ما أوحاه الله إليهم.

وفي هذا يقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ . وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ . فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ . وَتَوَكَّلْ عَلَى العَزِيزِ الرَّحِيمِ} [الشعراء:214- 217].

فهذا الفعل النبوي الكريم في إنذاره لأُمَّتِه وعشيرته لابد وأن يكون محفوظًا لنعرف كيف أنذرهم؟ وبأي طريقةٍ فهم النبي صلى الله عليه وسلم كلام ربِّه سبحانه وتعالى؟

ولذا فقد تكفل سبحانه وتعالى بحفظ السنة كما تكفل بحفظ القرآن الكريم سواء بسواءٍ؛ لأنها التطبيق العملي له، أو هي كما يمكن تصويرها بلهجة أهل العصر هي المذكِّرة التفسيرية للقرآن الكريم، والتي من خلالها نستطيع أن نفهم تطبيقات القرآن الكريم على وجهها الصحيح.

ولعل مما يُسْتَغْرَب هنا أن تتدخل الصهيونية العالمية في هذا الأمر فتجتهد وتصر على تشجيع فئة من الناس إِمَّا تكتب لهم صراحةً أو تحدد لهم الفكرة وتتركهم يسبحون في محاولةٍ هابطةٍ لتفريغ القرآن الكريم من الشرح والتطبيق، وليصبح مجرد كتابٍ وكلامٍ لا ندري ماذا يريد الله عز وجل به على الحقيقة، وليصبح عرضة بعد ذلك لكل ضعيف العقل والعلم ليقول برأيه في كتاب الله ما يشاء، بناء على فقدان المرجعيَّة في التطبيق والتفسير، وهو ما تسعى إليه الصهيونية العالمية تحت مسمى ((إنكار السنة النبوية))، واستأجروا لهذا جماعةً من المنبوذين إسلاميًا وعربيًا، ولعلي أشير لبعضهم في لقاءٍ قادمٍ إن شاء الله عز وجل.

غير أَنِّي أسأل الله عز وجل أن يكون القارئ الكريم قد فطِنَ لأبعاد المسألة، فهي ليست إنكارًا للسنة كما تزعم الصهيونية بمختلف مسمياتها، أو ما تموِّله من فرقٍ وأفكارٍ، وإنما هي محاولة لتفريغ القرآن الكريم من محتواه، والفصل بينه وبين تطبيقه وتفسيره النبوي الشريف.

{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} [الفرقان: 27].


وإلى لقاءٍ قادمٍ إن شاء الله عز وجل....