صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 15 من 28

الموضوع: الرسول صلى الله عليه وسلم - سعيد حوّى

  1. افتراضي الرسول صلى الله عليه وسلم - سعيد حوّى

    الرسول



    "سترى في هذا البحث ، بالدليل والبرهان أن محمداً رسول اله حقاً ، وأن محمداً أعظم الناس في كل شيء ، وأن الذين يتخذون غيره قدوة حمقى وناقصون.."


    سعيد حوّى





    مقدمة

    هذا هو الكتاب الثاني من سلسلة الأصول الثلاثة "الرسول " ، وقد استهدفت فيه مع أخويه في السلسلة ما كنت قد ذكرته في مقدمة السلسلة ، وقد حاولت أن أعرض أدلة رسالة رسولنا عليه الصلاة والسلام ، وهو موضوع قد كتبت فيه مئات الألوف من الصفحات قديماً وحديثاً ، ومع ذلك فقد بقيت المكتبة الإسلامية المعاصرة فارغة من كتاب جامع يتحدث عن مجموع القضايا الكبرى التي تعتبر أعلاماً على رسالته عليه الصلاة والسلام ، وإذا وجد شيء من ذلك في القديم فقد فاته ما قدمته معطيات عصرنا ، وإذا وجد شيء من ذلك حديثاً فقد كان في جانب دون أن يستوعب . فهناك من أبْرَزَ صفاته عليه الصلاة والسلم كعلم من أعلام نبوته ، وهناك من تحدث عن المعجزة القرآنية أو المعجزات ، وهناك من تحدث عن البشارات ، وهناك من تحدث عن النبوءات ، هناك من تحدث عن الآثار ، وهناك من جمع بين أكثر من جانب وذلك باختصار ، فكان لا بد من كتاب يسد هذه الثغرة ، وقد حاولت ذلك في هذا الكتاب مستفيداً من جهد الكاتبين في هذه الموضوعات.

    وقد جعلت هذا الكتاب في مدخل وخمسة أبواب:

    ذكرت في المدخل حاجة الناس إلى الرسل عليه الصلاة والسلام ، والمعالم التي جعلها الله علامة يُعرفون بها ، وأن هذه العلامات لا تظهر في رسول الله كما تظهر في محمد .
    وكان الباب الأول في صفاته وكمالاته التي لا يلحقه بمجموعها لاحق ، والتي لا تتأتى على هذا الكمال والجمال والجلال والشمول إلاّ من رسول .

    وكان الباب الثاني في معجزاته ؛ المعجزة القرآنية والمعجزات الأخرى .

    وكان الباب الثالث في نبوءاته التي كان في تحققها علامة صدق على أنه لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى .

    وكان الباب الرابع في ثمراته التي تشهد أنها ثمرات بنبوة ورسالة .

    وكان الباب الخامس في بشارات الرسل السابقين عليه ، وانطباق هذه البشارات عليه .

    فجاء الكتاب جامعاً مختصراً شاملاً يعمق بإذن الله في قلب المؤمن – هو والكتاب الذي قبله – معاني الشهادتين " أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله " وهي كلمتا الإسلام ومفتاح الدخول إلى الجنة .

    ولقد أزال الكتاب كثيراً من الشبه والإشكالات وصحح كثيراً من المفاهيم وقضى على أوهام ، فهناك مَن أبرز شخصية الرسول على أنها عبقرية فذة وكمال هائل قاطعاً ذلك عن الوحي والرسالة ، فأثبتنا في هذا الكتاب أنه أكمل خلق الله وهو محل الاصطفاء من الله ، وإنما كان أكمل خلق الله بما آتاه الله من الاستعداد وبما أوحاه إليه من الرسالة ووفّقه إليه من كمال الأعمال وجمال الأخلاق . وهناك من حاول أن ينفي معجزاته مما سوى القرآن أو ينفي الإعجاز من القرآن وهناك من حاول أن يجعل المعجزة هي الأصل في حياته معطلاً ابتلاءه في عالم الأسباب فجاء الكتاب مصححاً لهذا كله ، وهناك من الكافرين من حاول التشكيك في أفعاله وثمراته فنفى أن تكون ثمار نبوة فجاء هذا الكتاب مصححاً ومسدّداً ومفنّداً.

    فاجتمع بذلك في الكتاب ما يحتاجه كل مسلم ؛ إنْ لمعرفة رسول الله أو لمعرفة أدلة رسالته أو لمعرفة الشبه المعاصرة الرد عليها أو لمعرفة ما يحتج به وهو يدعو إلى الله وينصر رسوله أو لمعرفة ما يزداد به توقيراً وتعظيماً لرسول الله ، ولقد طالب الله كل مؤمن أن يؤمن برسول الله وينصره ويوقره : { إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * لِّتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ}. (الفتح : 8 ، 9)
    ونسأل الله أن يجعل في هذا الكتاب من النفع العام والخاص ما يجعلنا قائمين بحق رسول الله ونسأله أن يتقبل ويغفر الزلل .

  2. افتراضي

    مدخل


    من بين المخلوقات الحسية التي تعد بالبلايين يظهر هذا الإنسان بشكل متميز جداً ، وتميزه عن بقية المخلوقات يجعله عالَماَ وحده ، تنطوي فيه العوالم ويبقى بعد ذلك بقية من التفرد .
    ونواحي هذا التفرد في الإنسان كثيرة نشير إلى بعضها :

    1 – في خلقته : قال تعالى : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } فما من شيء في الإنسان إلا وقد ركب وصور على أحسن مثال وأجمله وأعدله وأكمله ، قارن بين الإنسان وبين أي مخلوق آخر من حيث الخلقة تجد تشابهاً في ما لا بد منه للحي كحي ، ثم ترى بعد ذلك أوجه التمايز . يد الإنسان تمتاز على أي مخلوق آخر ، ولولا هذا لما كانت حضارات ، وقامة الإنسان وانتصاب جسمه لا يشبه فيه غيره ، وبشرة الإنسان وأعضاؤه كل ذلك فيه تميز ، وهو في الإنسان أكمل وأعدل وأجمل من الظفر إلى الشعر إلى الأنف إلى الأذن إلى الوجه إلى القدم إلى أي شيء .

    2 - في علمه : قال تعالى : { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَآءَ كُلَّهَا } وقال : {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} فالإنسان أعطي ملكة التعلم بشكل لا مثيل له عند غيره . فالمادة لا تعقل أصلاً ، وكذلك النبات ، وعلم الحيوان محصور ضمن حدود طعامه وشرابه وسفاده ، والخطر الذي يتهدده ، ولا يتعلم شيئاً إلا بصعوبة . أما الإنسان فيعقل ذاته ، ويعقل غيره ، ويركب ويحلل ، يعرف الأشياء ، ولماذا وجدت ، وكيف يستفاد منها ، ويعرف القوانين التي تربط بين الأشياء أو التي تخضع لها الأشياء ، وآثار علم الإنسان واضحة جلية وتميز الإنسان في ذلك واضح جلي .

    3 - في إرادته: قال تعالى : {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} إن العلم شيء سلبي ، والذي يجعله إيجابياً هو الإرادة ، وكلما كانت الإحاطة في موضوع أتم كان مجال الاختيار أوسع ، ولما كان الإنسان أكثر علماً فهو أوسع إرادة ، ومجال الإرادات أمامه أكثر وهو بالتالي يملك أكبر قدر من الإرادة . ولذلك تراه يستطيع أن يتصرف أمام الحادث الواحد بأكثر من أسلوب ، فإذا ظلم قد يعفو أو ينتقم ، وقد يكظم غيظه أو يظهره ، وقد يؤخر الانتقام لتسنح له الفرصة وقد يجبن ، وقد يترفع وقد يسف ، وقد يرد بالمثل وقد يطغى وقد وقد ... مواقف كثيرة أمام الحادث الواحد ، أما الحيوان فله تصرف واحد أمام الحادث الواحد على ضآلة عدد مواقفه ومحدوديتها ... وهكذا فتميز الإنسان في صفة الإرادة واضح جلي .
    4 – في مكانته وإمكاناته : إن مكانة الإنسان في الوجود هي السيادة ، وذلك أن كل شيء مسخر له : {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} . {أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} . {هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} وإمكانيات الإنسان تبلغ أن تستفيد من طاقات هذا الكون . فقدرة الإنسان هائلة يكفي لمعرفة تميزها على سبيل المثال أن نذكر أن كل الحيوانات لا تستطيع أن تصنع فأساً بينما صنع الإنسان الأقمار الصناعية والقنابل الذرية .

    5 – في ملكة البيان عنده : قال تعالى : {الرَّحْمَـنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ} إن الحيوانات كلها لا تخرج من أفواهها إلا أصواتاً مبهمة ، أما الإنسان فإنه يستطيع أن يخرج هذه الأصوات وزيادة على ذلك فإنه يستطيع أن يخرج سبعاً وعشرين حرفاً تتركب منها مليارات الكلمات في كل لغات العالم يتكلم بها الإنسان . فيسخر ويضحك ويبكي ويفسد ويصلح ويشعر أو ينثر ويبين عن خلجات الخاطر وإشراقة الوجدان ، وقوانين الكون والسماء والأرض ويغني وينشد ، إن تميز الإنسان في ملكة البيان من أبرز خصائصه .

    6 – في عقله وإدراكه وخياله وتصوره : إن الحيوان يشترك مع الإنسان في حواسه ولكن يمتاز عنه إدراكاً وتصوراً وخيالاً بشكل أرقى وأعلى . فالإنسان والحيوان يشاهدان زرقة البحر ولكن شتان بين النظرتين . فزرقة البحر ألهم بسببها الإنسان شعراً ونثراً وعلماً ومتعة وتأملات وإشارات وأشياء كثيرة ، وتضع السم للذبابة في ماء السكر فتأكل منه وتموت وتأتي الأخرى والأخرى ويمتن جميعاً ولا يخطر لواحدة منهن أن تتعظ ، ترى كم إنساناً يأكل من طعام مات منه غيره ورآه ؟..

    7 – في استعداده الأخلاقي : هناك أخلاق عالية وأخلاق سافلة ، أخلاق راقية وأخلاق منحطة ، أخلاق فاضلة وأخلاق مرذولة ، والإنسان عنده استعداد لأن يتدنى فيكن أخبث الموجودات أو يَتَعَلَّى فيكون مثال طهر . وعنده استعداد ليكون في أحد حيزي الخير أو الشر أو يخلط بين الجانبين على حين الحيوان يبقى ذا خلق واحد في الغالب ، فالغل والحقد والحسد والغش الكبر والرياء والغضب والطمع والبذخ والبطر والفخر والخيلاء والصلف والمداهنة والعجب والمكر والخيانة والمخادعة والقوة والفظاظة والجفاء والطيش وقلة الحياء وقلة الرحمة ، ثم تأتي أضداد هذه المعاني كلها وأمثال هذه وهذه كثير ، كل ذلك مما يمكن أن يتخلق به الإنسان ومن ثم كان استعداد الإنسان الأخلاقي سمة بارزة تميزه عن أي مخلوق آخر .

    والسؤال الآن هو : ماذا يترتب على الإنسان نتيجة لهذا التفرد ؟

    إن القاعدة : "على قدر ما تعطى تطالب ضمن استطاعتك" هي قاعدة هذا الموضوع ، فإن الله جلت حكمته الذي سخر الكون للإنسان قد رتب على ذلك أن جعل الإنسان هو المسؤول الوحيد أمامه من هذه المخلوقات المرئية كلها فقال : {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} وقال : {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} وقال : {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} فالله عز وجل جعل الإنسان بهذا التفرد خليفة في الأرض فقال : {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} وقال : {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ} والاستخلاف يعني ما يلي :

    1. إن المستخلف في الملك ليس مالكاً أصيلاً .
    2. أن عليه أن يتصرف حسب أمر المستخلف لا حسب أمره هو .
    3. ألا يشق عصا الطاعة ويتعدى الحدود المقررة له .
    4. أن يفعل ما يريد المستخلف لا ما يريده هو .

    وهذا كله يعني أن الإنسان ليس حراً بل هو عبد الله الذي أقامه هذا المقام في الوجود قال تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} فسيادة الإنسان على الكون تأتي في مقابل عبوديته لله . وما لم يعط الإنسان عبوديته لله يكون قد أقام نفسه مقام الجماد والنبات والحيوان غير المسؤولين . لذلك نرى القرآن عقد ألح على عدم إنسانية من لا يلتزم بطاعة الله فقال تعالى : {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ} وقال : {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذالِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} وقال : {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} وقال : {إِنَّ شَرَّ الدَّوَاب عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } وقال : {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} وقال : {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} وقال : {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} وقال : {كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} . إن القيام بأمر الله هو وحده الذي يطلق طاقات الإنسان كلها في طريقها الصاعد نحو الكمال ، وترك أمر الله يعني إطلاق الطاقات نحو الحيوانية الحرة .

    * * * * *

    ولا يقوم الإنسان بأمر الله إلا إذا عرفه حق معرفته وعرف ما يأمر به ، ولا يتم للإنسان هذا إلا بمعرفة الرسول الذي يصطفيه الله للقيام بهذه المهمة ، ذلك أن الله لم تقتض حكمته أن يتصل بكل إنسان على حدة ليبلغه أمره ، بل اقتضت حكمته أن يصطفي من الناس رسولاً يقوم بهذا نيابة عنه {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} وفي ذلك حكم منها:

    1. إن الاتصال بعالم الغيب يحتاج لأهلية خاصة واستعداد عظيم , ولم يعط كل إنسان مثل هذا {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} إذ أن حكمة الله اقتضت ألا تجعل الناس درجة واحدة لأنه لا تستقيم الحياة البشرية بذلك . فمن للمهن ، ومن للحرف ، ومن لقضاء حاجات الناس ، ومن للخدمة ، ومن للسيادة ومن للتبعية ، إذا كان الناس على نسق واحد ، قال تعالى : {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً} وكانسجام مع هذا القانون العام اصطفى الله بشراً ليكونوا رسلاً ، وقال – عز من قائل : {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ...} .

    2. إن امتحان الإنسان واختباره هدف أساسي من أهداف التكليف {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} وامتحان الإنسان بالإنسان هدف آخر {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} ، {وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَـؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} وانسجاماً مع هذا جرت سنة الله أن يختار إنساناً رسولاً ليبتلي الآخرين به . إنه الاختبار العظيم الذي من نجح فيه تخلص من رجس الحسد ، وشهوة الاستعلاء ، وتمحص خالصاً للحق محباً له . ولأهمية ذلك نلاحظ أنه حتى الرسل امتحنوا بهذا المعنى {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا} .

    3. ومن أهم ما امتحن به الإنسان تكليفه بالإيمان بالغيب الذي قام الدليل على صدق المُخْبِر به وهذا لا يتم إلا إذا كان بين الله وخلقه واسطة هو الرسول ، هذا مع ملاحظة أن الرسل ممتحنون بشيء من هذا {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ} {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي} وإذن كانت حكمة الله أن يصطفي رسلاً من البشر يعرفهم على ذاته ويعرفهم على ما يريد منهم ومن خلقه ، ويأمرهم أن يعرفوا الناس عليه وعلى تكاليفه ؛ لتتحقق بذلك إنسانيتهم ، ولتتطهر بذلك أنفسهم ، وليعيشوا محققين ما من أجله خلقوا .

    وهؤلاء الرسل يمثلون ذروة الكمال البشري ، لأنهم يمثلون ذروة العبودية لله ، ويقومون بأضخم مهمة في الوجود وهي مهمة إرشاد الإنسان إلى طريقه الصحيح ، أي إلى الكمال ، بتخليصه من أدران نفسه وكل مؤثر حيواني أو مادي أو غريب عن فطرتها ، حتى تصبح ربانية {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} {كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً}

    * * * * *

    وبعد : كيف نعرف نحن بقية البشر رسل الله ؟ إن معرفة الرسول واتباعه يترتب عليها هدايتي واستحقاقي ثواب الله ، بينما جهلي وكفري به حال وجوده ودعوته لي يترتب عليها بقائي على ضلالي واستحقاقي عذاب الله في الدنيا والآخرة ، لذلك كان مهماً جداً أن أعرف كيف أهتدي إلى الرسول ، وبدون معرفة هذا قد يلتبس علي الأمر فأعتبر غير الرسول رسولاً فأضل أو أجهل الرسول فأعذب {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} .

    لذلك فقد جعل الله للرسل علامات يعرفون بها . هذه العلامات هي :

    1- الصفات الشخصية لصاحب الرسالة : فليس من المعقول أن يكون الرسول كذاباً إذ أن الكذاب لا يصدق في الأمور العادية فضلاً عن مثل هذه القضية الكبرى ، فالأخلاقية العالمية سمة لا بد منها لإنسان مرسل من عند الله ليطهر البشر من كل شر ويدلهم على كل خير . فإذا ما كان شريراً تظهر عليه صفات الأشرار فأنى يجعله الله محل رسالته ، كما أنه ليس من المعقول أن يكون أبلها أو غير ذكي إذ المغفل أو عادي الذكاء لا يسلم له الناس عقولهم ولا يستطيع هو أن يقنع هذه العقول ، ومهمة الرسول لا تقوم إلا إذا كان أكبر الناس عقلاً وفطنة كي يستطيع إقامة الحجة على الناس ، كما أنه ليس من المعقول أن يدعو الرسول إلى شيء ويكون سلوكه مخالفاً لما إليه يدعو . فهو يدعو إلى طاعة الله فليس من المعقول أن يعصيه ، ويدعو إلى ترك معصيته فلا يعقل ألا يطيعه ، فينبغي إذن أن يكون مظهراً كاملاً للطاعة وترك المعصية . كما أنه ليس من المعقول أن يرسل رسولاً ولا تكون عنده إمكانية تبليغ الرسالة المكلف بها إلى أصحابها . وبدون هذا لا تقوم الحجة على الناس وهذا يحتاج إلى شخصية فذة عظيمة . إذ دعوة الرسل ليس كغيرها من الدعوات التي ترضي شهوات البشر ، بل هي دعوة مهمتها كبح جماح النفس البشرية ، وعلى هذا فأمام عملية التبليغ عقبات ومخاطر وصعوبات واضطهاد لا يصبر عليها إلا صادق مع الله . ثم الرسول هو قدوة البشر في طريقهم إلى الله ،فلا بد أن يكون أرقى البشر في كل جانب من جوانب الحياة وعنده دائماً الحل الأمثل للبشر.

    2- المعجزات : والمعجزة هي الأمر الخارق للعادة الذي يظهره الله على يد الرسول أو النبي . وهي علامة على الرسالة لأنها تخرج عن عالم الأسباب كلها ، بحيث يعجز الإنسان كإنسان أن يأتي بها وذلك أن قدرة الإنسان محدودة ضمن قوانين الكون ، وقدرة الله وحدها هي المطلقة ، فكون الرسول تظهر معه آثار القدرة المطلقة فذلك دليل على أن له صلة مع الله . ويخلط الناس عادة بين المعجزة التي هي علامة رسالة الرسول وبين السحر وآثار الرياضة الروحية . والذي نحب أن نقرره هنا هو أن السحر والشعوذة نوعان من العلوم التي تخضع لقوانين هذا الكون وإن كانا مجهولين إلا للقليل من الناس ولكن أي إنسان تعلم علم السحر يستطيع أن يفعل ما يفعله الساحر وكذلك فيما يتعلق بآثار الرياضة الروحية ، فلعالم الروح قوانينه التي من اكتشفها قد تظهر معه بعض آثارها ولكنها ما خرجت عن كونها من الأسباب العادية إذ أن أي إنسان يستطيع أن يفعل ما يفعله الرائضون إذا سلك نفس طريقهم . أما المعجزة فلا علاقة لها بعالم الأسباب أصلاً ، فليست كأثر عن علم أو تجربة أو قانون ، إذ أن من شروط المعجزة ألا يستطيع أحد من البشر أن يأتي بها .

    إن المعجزة تكون بقدرة الله الذي يقول للشيء كن فيكون . إن عيسى عليه السلام كان يبرئ الأبرص ، وقد يشفى البرص على يد طبيب ولكن الفارق بين الحالتين أن ذلك بقدرة الله وهذا بمعرفة القوانين التي بثها الله بالكون . إن الإنسان يستطيع بذكائه وإمكانياته أن يستخرج الماء من أعماق الأرض أو أن يركب بالسوائل المعروفة من الأوكسجين والهيدروجين ماء ، ولكن الفارق بين الماء المستخرج والمصنوع ، وبين الماء الذي خرج بضرب عصا موسى أو نبع حيث وضع محمد أصابعه كالفارق بين صنع الله وصنع وربط القانون بالقانون ، وهكذا استطاع الإنسان أن يجاوز سطح الأرض ، ويسير في الفضاء ، ولكن الفارق بين هذا وبين عروج محمد رسول الله إلى السماء كالفارق بني كل ما صنع الله وصنع المخلوق ، العروج كان بكلمة الله ، وصعود الإنسان إلى هذا الفضاء كان بالارتقاء بالأسباب . فالمعجزة إذن لا دخل لأي سبب كوني فيها سواء كان روحيّاً أو ماديّاً أو أي شيء آخر . ومن هنا كانت ذات دلالة كاملة على أن صاحبها رسول الله .

    3- النبوءات : النبوءة هي الإخبار عن المستقبل ، وكون وقوعها دليلاً على صحة دعوى الرسالة يعود إلى أن علم الإنسان محدود بالزمان الحاضر والماضي ومحجوب عن المستقبل ، والله وحده ذو العلم المحيط بكل زمان ومكان ، وما كان ويكون ، فكون الرسول يخبر عما سيكون ويقع كما أخبر ، فذلك دليل على أن له صلة بالله ، وكما أن المعجزة تخرج عن عالم الأسباب لتصلح دليلاً ، فكذلك هنا ، والمقصود بالإخبار عن الغيب ما ليس له علاقة بنتائج تترتب على مقدمات ، أو توقعات دلت عليها طوالع ، فهذا يستطيعه كثير من الناس بما أوتوا من حكمة وحنكة وخبرة ومعرفة وتجربة .
    4- الثمرات : إن ثمرات الرسول تدل عليه ابتداءً من انسجام دعوته مع قواعد الفطرة ، إلى الأخلاقية العظيمة التي تظهر على أتباعه ، كأن يحكم الحق القوة ، ويظهر الوفاء على الغدر وإن كان في الغدر منفعة ، وكأن تصبح نفس الإنسان منضبطة انضباطاً كاملاً بالخير ، فيؤدي الحقوق ويقيم الواجبات ويعيش لله وبالله عادلاً في دنياه حريصاً على آخرته ، تفجرت طاقاته كلها ، وسارت في طريقها الصحيح ، فنمت ملكاته العليا وانضبطت ملكاته الدنيا جميعاً . إن ثمرات دعوة الرسول تختلف اختلافاً جوهرياً عن ثمرات أي دعوة أخرى حتى لتكاد الفطرة تحس بحدسها إذا رأت ثمرات النبوة أن سبب هذه الثمرات لا بد أن يكون وراءه عناية ربانية خاصة ..

    5- البشارات : إن الرسل كلهم رسل الله الواحد الأحد ، وقد يأمر الله الرسول السابق أن يبشر برسول لاحق فتكون نبوءة للأول وتمهيداً للثاني . وليس هذا شرطاً في كل رسالة ولكنه متوقع وجوده ومتأكد حصوله ، وقد يذكر في البشارات اسم الرسول اللاحق أو صفاته أو كليهما والبشارة يستأنس بها إذ وجدت بقية العلامات .

    * * * * *

    قدمنا هذا الكلام بين يدي الأبواب الخمسة التي لها علاقة بهذه القضايا الخمس والتي نتحدث فيها عن رسالة النبي العربي محمد وثبوتها . هذه الرسالة التي ختم الله بها النبوة {وَلَـكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} ونسخ بها كل شريعة سابقة ، وكلف الإنسانية كلها بها ، بحيث لا يستحق أحد رحمته إلا إذا التزم بها ، ومن لم يلتزم بها استحق عذابه . وتم بها انتقال الرسالة من طور القومية إلى طور الإنسانية الشاملة ، إذ أن رسل الله قبل محمد كانوا يبعث الواحد منهم إلى قومه خاصة وبعث محمد إلى الناس عامة ، فأصبحت الإنسانية كلها ببعثته ملزمة بشريعة واحدة هي شريعته ، وليس أمام أحد من البشر خيار سوى سلوك الطريق الذي هدى إليه ، وإلا فإنه يكون من الضالين . ولما كانت هذه الرسالة لها مثل هذه الأهمية . جعل الله عز وجل فيها ومعها واضحات الأدلة ومشرقات البراهين الكثير الكبير بحيث لا يبقى معه حجة لمحاج أو شبهة لأحد .

    هذه الأبواب الخمسة ستجد إن شاء الله في كل واحد منها ما يؤكد لك هذا المعنى بشكله الكامل بحيث لا تشك معه أن محمداً رسول الله وأنه لا عذر لأحد كفر به أو أعرض عن شريعته بعد أن بلغته دعوته .

    وسنعرض الأبواب الخمسة على الترتيب التالي :
    الباب الأول : الصفات .
    الباب الثاني : المعجزات .
    الباب الثالث : النبوءات .
    الباب الرابع : الثمرات .
    الباب الخامس : البشارات .

    وبذلك ينتهي المبحث الثاني من مباحث سلسلة الأصول الثلاثة ليبدأ المبحث الثالث وهو الإسلام دين الله وشريعته التي بلغنا إياها رسوله . وبذلك نكون قد عرفنا المكلِّف وهو الله في المبحث الأول . والتكليف وهو الإسلام في المبحث الثالث ، ومبلِّغ التكليف والقدوة فيه وهو الرسول في المبحث الثاني ، وهو هذا فإلى الباب الأول من هذا المبحث .

    * * *
    التعديل الأخير تم 02-09-2006 الساعة 10:10 AM

  3. افتراضي

    الباب الأول


    الصّفات


    بدأنا بهذا الباب بقصد التعريف على جوانب في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم كي يكون بمثابة مفتاح للأبواب الأخرى وقد سرنا فيه على الترتيب التالي :

    1 – مقدمة : نستعرض فيها صفات الرسول الجسمية ليتضح أن تركيبه الجسمي متناسب مع الرسالة التي كلف بها .

    2 – الفصل الأول : ويبحث في الصفات الأساسية للرسل وكيف كان للرسول صلى الله عليه وسلم منها أعلى ما يتصور في حق بشر .

    3 – الفصل الثاني : ويبحث في كون الرسول صلى الله عليه وسلم هو القدوة العليا للبشر في كل جانب من جوانب الحياة ، لأنه كان في كل جانب في الذروة العليا من الكمال .

    وجعلنا المقدمة تحت عنوان : تكوين الرسول الجسمي .
    وجعلنا الفصل الأول تحت عنوان : الصفات الأساسية .
    وجعلنا الفصل الثاني تحت عنوان : القدوة العليا .

    ونأمل ألا ننتهي من هذا الباب إلا وقد اتضح لطالب الحق أن محمداً رسول الله حقّاً صلى الله عليه وسلم .

    * * *

    المقدمة

    تكوينُ الرسول صلى الله عليه وسلم الجِسمي

    إن أول ما يقع بصر الإنسان على رسول الله صلى الله عليه وسلم يشعر أنه أمام جمال مدهش لا مثيل له ، ومظهر يوحي بثقة مطلقة لا حد لها ، وهذا ما انعقد عليه إجماع من شاهدوه عليه الصلاة والسلام :
    أخرج الدارمي والبيهقي عن جابر بن سمرة قال : "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة أضحيان – أي : مقمرة مسفرة – فجعلت أنظر إليه وإلى القمر فلهو كان أحسن في عيني من القمر " .

    وأخرج الترمذي والبيهقي عن أبي هريرة قال : " ما رأيت شيئاً أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنَّ الشمس تجري في وجه ، وما رأيت أحداً أسرع في مشيه منه كأن الأرض تطوى له إنا لنجهد وإنه غير مكترث " .

    وأخرج الشيخان عن البراء قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيد ما بين المنكبين ، يبلغ شعره شحمة أذنيه ، ما رأيت شيئاً أحسن منه " .

    وأخرج مسلم عن جاب ربن سمرة في وصف وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بل مثل الشمس والقمر مستديراً " .

    وأخرج الشيخان عن البراء قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهاً وأحسنهم خلقاً ، ليس بالطويل الذاهب ولا بالقصير " .

    وأخرج مسلم عن أبي الطفيل أنه قيل له صف لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كان أبيض مليح الوجه " .

    وأخرج الدارمي والبيقهي والطبراني وأبو نعيم عن أبي عبيدة قال : قلت للربيع بنت معوذ : صفي لي رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : " لو رأيته قلت الشمس طالعة " .
    وأخرج البخاري عن أبي هريرة قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ضخم القدمين حسن الوجه لم أر بعده مثله " .

    وأخرج أبو موسى المديني في كتاب الصحابة عن أمد بن أبد الحضرمي قال : " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأيت قبله ولا بعده مثله " .

    وأخرج الدارمي عن ابن عمر قال : " ما رأيت أشجع ولا أجود ولا أضوأ من رسول الله صلى الله عليه وسلم " .

    وأخرج أحمد والبيهقي عن محرش الكعبي قال : " اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم من الجعرانة ليلاً فنظرت إلى ظهره كأنه سبيكة فضة " .

    ومن شعر عمه أبي طالب فيه :
    وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل

    وأخرج عبد الله بن الإمام أحمد والبيهقي عن علي قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم ليس بالذاهب طولاً ، وفوق الربعة إذا جاء مع القوم غمرهم ، أبيض ضخم الهامة – أي : الرأس – أغر أبلج أهدب الأشفار – أي : طويل شعر العين أسوده – كأن العرق في وجهه اللؤلؤ ، لم أر قبله ولا بعده مثله " .

    ومن وصف هند بن أبي هالة له : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فخماً مفخماً ، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر ... عظيم الهامة ، رجل الشعر ... أزهر اللون ، واسع الجبين ، أزج الحواجب سوابغ في غير قَرَن ، بينهما عرق يدره الغضب ( الحاجب الأزج المقوس الطويل الوافر الشعر ) أقنى العرنين ( العرنين الأنف أو ما صلب منه والقنا طول الأنف ودقة أرنبته واحد يداب وسطه ) له نور يعلوه ، يحسبه من لم يتأمله أشم ( الأشم الطويل قصبة الأنف ) كث اللحية ، أدعج ( الدعج شدة سواد العين ) سهل الخدين ، ضليع الفم ، أشنب ، مفلج الأسنان ( أي لأسنانه رونق وغير متراكبة ) دقيق المسربة ( أي خفيف شعر ما فوق السرة ) كأن عنقه جيد دمية في صفاء ، معتدل الخلق ، بادن متماسك سواء البطن والصدر ، عريض الصدر بعيد ما بين المنكبين ... أنور المتجرد ، طويل الزندين ، رحب الراحة ... شثن الكفين والقدمين ، سابل الأطراف ( أي طويل الأصابع ) خمصان الأخمصين .. ذَريع المشية إذا مشى كأنما ينحط من صبب ، وإذا التفت التفت جميعاً ، خافض الطرف نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى السماء ... " .

    وكان إذا مس أحداً أحس بطمأنينة عجيبة وروح عجيب :

    وأخرج أحمد عن سعد بن أبي وقاص قال : " اشتكيت بمكة فدخل علي رسول اللهصلى الله عليه وسلم يعودني ، فوضع يده على جبتهي فمسح وجهي وصدري وبطني ، فما زلت يخيل إلي أني أجد يده على كبدي حتى الساعة " .

    وأخرج مسلم عن جابر بن سمرة قال : " مسح رسول الله خدي فوجدت ليده برداً وريحاناً كأنما أخرجهما من جونة عطار " . وأخرج الشيخان عن أنس قال : " ما مسست حريراً ولا ديباجاً ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا شممت مسكاً ولا عنبراً أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم " .

    وكان منظره يوحي لمن يراه بأنه أمام نبي :

    أخرج الترمذي عن عبد الله بن سلام قال : " لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة جئته لأنظر إليه فلما استبنت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب " .

    وعن أبي رمثة التميمي قال : " أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ومعي ابن لي فأُريته فلما رأيته قلت هذا نبي الله " .

    ويقول عبد الله بن رواحة في وصفه :

    لو لم تكن فيه آيات مبينة لكان منظره ينبيك بالخبر

    هذه بعض آثار مما ورد وصف تكوينه الجسمي نقلناها بين يدي صفاته وكمالاته الخُلقية العظيمة لتتضح لك شخصيّته من جميع جوانبها عليه الصلاة والسلام .

    * * *

    الفصل الأول


    الصِّفات الأسَاسية

    إنه لا بد لكل رسولٍ لله أن يكون متصفاً بصفات أساسية أربع حتى يكون أهلاً للرسالة . هذه الصفات الأربع هي :

    1 – الصدق المطلق الذي لا ينقض في كل حال ، بحيث لو امتحن كل قول له لكان مطابقاً للواقع إذا وعد أو عاهد أو جَدَّ أو داعب أو أخبر أو تنبأ . وإذا انتقضت هذه الصفة أيَّ نقضٍ ، فإن دعوى الرسالة تنتقض من أساسها ؛ لأن الناس لا يثقون برسول غير صادق والرسول الصادق لا تجد في جزء من أجزءا كلامه شيئاً من الباطل في أي حال من الأحوال.

    2 – الالتزام الكامل بما يدعو إليه نيابة عن الله ؛ إذ مهمة الرسول تبليغ الناس ما كلفهم به الله ، فإذا لم يقم الرسول نفسه بهذه التكاليف دلّ ذل على عدم تفاعله مع التكليف وهذا دليل كذبه في دعوى الرسالة ؛ إذ الرسول الذي يتصل به الله أعر فبجلال الله وبالتالي لا يعصي له أمراً ؛ لأن عصيان أمر الله خيانة ، وغير الأمناء ليسوا أهلاً لحمل رسالة الله .

    3 – التبليغ الكامل المستمر لمضمون الرسالة ، وعدم المبالاة معه بسخط الناس أو تعذيبهم أو إيذائهم أو كيدهم أو مؤامراتهم أو إرجافهم ، والاستقامة على أمر الله وعدم الانحراف عنه ، مهما كانت المغريات والاستمرار على ذلك ؛ إذ بدون التبليغ لا تظهر الرسالة ، وبدون الاستمرار عليه والصبر لا تستقر ، والخضوع لضغط الناس أو لإغرائهم دليل كذب دعوى البلاغ عن الله . إذ لا يبلغ رسالة الله إلا من رغب بالله عن غيره ، وكان الله وحده هو العظيم عنده ، ولا يبالي بغير رضاه .

    4 – العقل العظيم إذ لا يسلم الناس ولا يتبعون إنساناً إلا إذا كان أرجحهم عقلاً ؛ ليطمئنوا إلى أنه لا يسير بهم في الطريق الخطأ كما أنه بدون العقل العظيم لا يستطيع صاحب الرسالة أن يقنع الآخرين بالحق الذي معه ، وخاصّة أصحاب المدارك الواسعة والعقول الكبيرة ، ولا يستطيع أن يرد هجمات المبطلين والمتكبرين والمنحرفين والمنتفعين بالانحراف . فلا بد أن يكون الرسول أذكى الخلق وأفطنهم وأعقلهم وأحكمهم وأكملهم مدارك كي تقوم به الحجة .
    فإذا اجتمعت هذه الصفات الأربع لإنسان يذكر أنه رسول الله مع بقية العلامات التي يعرف بها الرسول دون وجود مانع يحيل الدعوى ، كان ذلك برهاناً ودليلاً على صحة الدعوى ؛ إذ لا يوجد مبرر لتكذيب الصادق ، ولا يوجد تعليل لحرارة الالتزام غير التسليم ، وعدم الانصراف عن التبليغ مع توافر الانصراف لا تعلل إلا بالإخلاص للدعوة وصاحبها ، ودعوة حجتها معها ، وصاحبها قادر على إقامة الحجة في أي جانب من جوانبها فيها دليل حقيتها .

    وسنرى في هذا الفصل أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان المثل الأعلى في كل صفة من هذه الصفات بحيث لا تستطيع أن تدرس واحدة منها عنده إلا وستلم أن صاحبها رسول الله حقّاً . وسندرس هذه الصفات على الترتيب المذكور هنا فنبدأ بصفة الصدق عنده صلى الله عليه وسلم .

    * * *

    1 – صدقه عليه الصلاة والسلام

    وطريقتنا في استعراض هذه الصفة أن نأتي بالشهادات عليها وهذه الشهادات ثلاث :

    أ – شهادة الخصوم .
    ب – شهادة الأتباع .
    ج – شهادة الواقع . وشهادة الواقع تتمثل في أربع : في الإخبار ، وفي الوعد والعهد ، وفي المزح والمداعبة ، وفي النبوءات .

    أ. شهادة الخصوم :

    وشهادة الخصوم في هذا الباب لها وزنها الكبير ، إذ تدلك على مبلغ الثقة التي كان يتمتع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الجميع ، ولكن بعض الناس استغرب واستكبر فأنكر دون ووجود مبرر لهذا الإنكار وهذه نصوص تؤكد لك هذا الذي قلناه :

    أخرج البيهقي عن المغيرة بن شعبة قال : " إن أول يوم عرفت فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أمشي أنا وأبو جهل في بعض أزقة مكة إذ لقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي جهل : يا أبا الحكم هلمَّ إلى الله ورسوله ، أدعوك إلى الله . فقال أبو جهل : يا محمد هل أنت منتهٍ عن سبَِ آلهتنا ؟ هل تريد إلا أن نشهد أنك قد بلَّغت ؟ فنحن نشهد أن قد بلَّغت ، فوالله لو أني أعلم أن ما تقو لحق لاتبعتك . فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقبل عليَّ فقال : والله إني لأعلم أن ما يقول حق ولكن يمنعني شيء . أن بني قصي قالوا : فينا الحجابة . قلنا : نعم . ثم قالوا : فينا السقاية . قلنا : نعم . ثم قالوا : فينا الندوة . فقلنا : نعم . ثم قالوا : فينا اللواء . فقلنا : نعم ، ثم أطعموا وأطعمنا ، حتى إذا تحاكت الركب قالوا : منا نبي . والله لا أفعل " وأخرجه ابن أبي شيبة بنحوه .

    وأخرج الترمذي عن علي : " أن أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا لا نكذبك ولكن نكذب ما جئت به . فأنزل الله تعالى : {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَـكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} " .

    وأخرج ابن عساكر عن معاوية – رضي الله عنه – قال : " خرج أبو سفيان إلى بادية له مردفاً هنداً ، وخرجت أسير أمامهما وأنا غلام على حمارة لي ، غذ سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو سيفان : انزل يا معاوية حتى يركب محمد . فنزلت عن الحمارة وركبها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسار أمامنا هنيهة ، ثم التفت إلينا فقال : يا أبا سفيان بن حرب ويا هند بنت عتبة ! والله لتموتن ثم لتبعثنَّ ثم ليدخلنَّ المحسنُ الجنة والمسيء النار ، وأنا أقول لكم بحق ، وإنكم لأول من أُنذرتم ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {حـم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَـ?نِ الرَّحِيمِ ...}... حتى بلغ {قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} فقال له أبو سفيان : أفرغت يا محمد ؟ قال : نعم . ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمارة وركبتها ، وأقبلت هند على أبي سفيان : ألهذا الساحر أنزلت ابني ؟ قال : لا والله ما هو بساحر ولا كذاب " وأخرجه الطبراني أيضاً .

    وروى البخاري ومسلم قصة أبي سفيان عند هرقل – كما حدّث بها أبو سفيان ابن عباس – ومنها سؤال هرقل لأبي سفيان : " قال : فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال . قلت : لا " وفي آخر القصة يقول هرقل لأبي سفيان : " وسألتك هل كنت تتهمونه قبل أن يقول ما قال ، فزعمت أن لا ، فعرفت أنه لم يكن ليدعَ الكذب على الناسِ ويكذبَ على الله تعالى " .

    وأخرج الشيخان الترمذي عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال : " لما نزلت {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي يا بني فهر يا بني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا فقال : أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقيَّ ؟ قالوا : نعم ما جربنا عليك إلا صدقاً . قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد . قال أبو لهب : تبّا لك يا محمد ألهذا جمعتنا فنزلت : {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} .

    من هذه النصوص يتبين لك أن الثقة بصدق محمد صلى الله عليه وسلم كانت متوافرة ولم يكن هذا الموضوع فيه شك أبداً وهذا الذي يعلّل لنا :

    1- ظاهرة الإيمان به من قِبل من حاربوه واحداً فواحداً طوعاً لا إكراهاً أمثال خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعمر بن الخطاب ... لذلك لأنهم ما كانوا يشكون في أن محمداً صادق ، ولكن فاجأهم بشيء لم يسمعوا به هم ولا آباؤهم فأنكروه ، حتى إذا ذهب هول المفاجأة وحكّموا عقولهم التقى صدق الفكر بالثقة الأساسية بشخص محمد صلى الله عليه وسلم فتولد عن ذلك إيمان .

    2- ظاهرة الإخلاص له بعد الإيمان . فبعضهم لم يؤمن إلا آخراً بعد أن غلب كبقايا قريش فإنهم أخيراً غلبوا للإسلام ، وكان يمنعهم من ذلك ثارات وأحقاد وشبهات وشهوات ، حتى إذا دخلوا فيه تسليماً للأمر الواقع وإذا بهم مخلصون لرسول الله صلى الله عليه وسلم كأتم ما يكون الإخلاص ، ومتفانون في الإسلام بعد أن زالت عن أعينهم غشاوات ، من بعدها تبينوا أن محمداً هو الأخ الكريم والابن الكريم فكانت معرفتهم به وثقتهم بشخصيته أساساً لإخلاصهم في طريقهم الجديد الذي ساروا فيه بعد ذلك فرحين .

    وبعد فهذه شهادة خصوم ، بعضهم أسلم بعد خصومة شديدة ، وبعضهم مات على كفره ولكن الجميع حتى في أشد حالات الخصومة كانوا مؤمنين أن محمداً صلى الله عليه وسلم صادق.

    * * * * *

    ب – شهادة الأتباع :

    ونقدم لشهادة الأتباع بما يلي :

    1- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان دائم الخلطة لأصحابه في طعامهم وشرابهم وسفرهم وصلاتهم ومجالسهم ، وهو عليه الصلاة والسلام كان يحب البساطة والصراحة ويكره التكلف ، وبعض الصحابة خالط الرسول صلى الله عليه وسلم قبل النبوة وبعدها عشرات السنين.

    2- وهؤلاء الأصحاب لم يكونوا أغراراً ولا مغفلين ولا منعزلين عن العالم ، بل بعضهم من مكة التي كان العرب يقصدونها سنوياً للحج ، وتسلم الجزيرة العربية كلها لأهلها بالفضل والزعامة ، عدا عن صلات أهلها بواسطة التجارة مع اليمن ومع الشام حيث مراكز الحضارة . وبعض أصحابه من المدينة حيث الصلات الفكرية مع اليهود وما ينشأ عن ذلك من تفتح ذهني .

    كما أن هؤلاء الأصحاب أثبتوا في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد مماته أنهم أرجح الناس عقولاً وأكثرهم دهاءً وحنكة ومعرفة بالرجال والشعوب وسياسة الأمم ، بدليل أنهم نجحوا رغم محدودية وسائلهم في فتح أعظم الدول المتحضرة وقتذاك وإدارتها وكسب مودة شعوبها ودمجهم في الأمة الإسلامية .
    فإذا ما اجتمعت هذه الناحيتان : الخلطة الدائمة ، وذكاء المخالطين ، فإن أمر الكاذب يفتضح ، وأمر الصادق يتضح .
    والظاهرة الواضحة في حياة الصحابة أنهم كلما ازدادوا برسول الله صلى الله عليه وسلم خلطة ازدادوا به إيماناً وتصديقاً ، بل أكثرهم اختلاطاً به أكثرهم إيماناً به وطاعة له ، وقد بلغ منهم درجة انه أصبح الموت من أجل ما يريد الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليهم من الحياة ، وإنفاق المال أحب إليهم من إمساكه ، والطاعة أحب إليهم من المعصية ، ودين الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليهم من الأموال والأولاد والمساكن والزوجات والوطن . وكل هذا من مظاهر التصديق الكامل إذ لولا التصديق لما كان شيء من هذا . فقد قتل منهم الابن أباه ، وأراد الأب قتل ابنه ، فعلام يفعلون هذا ؟! لولا أن إيمانهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وتصديقهم به وصل إلى ذروة الذرى . وهذه أمثلة كل منهما يعتبر أثراً من آثار التصديق الكامل ودليلاً عليه نذكرها بلا تعليق ، وفي كل منها شهادة من صاحبها بعد تجربة على أن محمداً صلى الله عليه وسلم صادق لا شَك في ذلك :

    1- أخرج الحافظ أبو الحسن الطرابلسي عن عائشة – رضي الله عنها – قالت : " لمّا اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - وكانوا ثمانية وثلاثين رجلاً – أَلَحَّ أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور فقال : يا أبا بكر إنا قليل . فلم يزل أبو بكر يلح حتى ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق المسلمون في نواحي المسجد كل رجل في عشيرته ، وقام أبو بكر في الناس خطيباً ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فكان أول خطيب دعا إلى الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين ، فضربوا في نواحي المسجد ضرباً شديداً ووطئ أبو بكر وضرب ضرباً شديداً ، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين ويحرفهما لوجهه ، ونزا على بطن أبي بكر حتى ما يعرف وجهه من أنفه .

    وجاء بنو تيم يتعادون فأجلت المشركين عن أبي بكر ، وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله ، ولا يشكون في موته ، ثم رجعت بنو تيم فدخلوا المسجد وقالوا : والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة بن ربيعة ، فرجعوا إلى أبي بكر فجعل أبو قحافة وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجاب ، فتكلم آخر النهار فقال : ما فعل رسول الله ؟ ، فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه ، ثم قاموا وقالوا لأمه أم الخير : انظري أن تطعميه شيئاً أو تسقيه إياه ، فلما خلت به ألحت عليه وجعل يقول ؛ ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت : والله مالي علم بصاحبك . فقال : اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه ، فخرجت حتى جاءت أم جميل فقالت : إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله ، فقالت : ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله ، وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك ، قالت : نعم . فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعاً دِنفاً ، فدنت أم جميل وأعلنت بالصياح وقالت : والله إن قوماً نالوا منك هذا لأهل فسق وكفر ، وإني لأرجو أن ينتقم الله لكَ منهم . قال : فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : هذه أمك تسمع . قال : فلا شيء عليك منها . قالت : سالم صالح . قال : أين هو ؟ قالت : في دار ابن الأرقم . قال : فإن لله علي أن لا أذوق طعاماً ولا أشرب شراباً أو آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمهلتا حتى إذا هدأت الرِجْل وسكن الناس ، خرجتا به يتكئ عليهما حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فأكب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله وأكب عليه المسلمون ، ورق له رسول الله صلى الله عليه وسلم رقة شديدة . فقال أبو بكر : بأبي وأمي يا رسول الله ، ليس بي بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي ، وهذه أمي برة بولدها ، وأنت مبارك فادعها إلى الله وادع الله لها ، عسى الله أن يستنقذها بك من النار . قال : فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاها إلى الله فأسلمت " .
    2- وأخرج ابن إسحاق عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال : " لما أسلم عمر – رضي الله عنه – قال : أي قريش أنقل للحديث ؟ فقيل له : جميل بن معمر الجمحي ، فغدا عليه ، قال عبد الله : وغدوت أتبع أثره وأنظر ما يفعل – وأنا غلام أعقل كل ما رأيت – حتى جاءه فقال له : أعلمت يا جميل أني أسلمت ودخلت في دين محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قال : فوالله ما راجعه حتى قام يجر رداءه واتبعه عمر واتبعته أنا ، حتى قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته : يا معشر قريش – وهم في أنديتهم حول الكعبة – ألا إن ابن الخطاب قد صبأ . قال يقول عمر من خلفه : كذب ولكني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وثاروا إليه فما برح يقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤوسهم ، قال : وطلح فقعد وقاموا على رأسه وهو يقول : افعلوا ما بدا لكم فأحلف بالله أن لو قد كنا ثلاث مائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا . قال : فبينما هم على ذلك إذ أقبل شيخ من قريش عليه حلة حبرة وقميص موشى حتى وقف عليهم فقال : ما شأنكم ؟ قالوا : صبأ عمر . قال : فمه ، رجل اختار لنفسه أمراً فماذا تريدون ؟ أترون بني عدي يسلمون لكم صاحبهم هكذا ؟ خلوا عن الرجل . قال : فوالله لكأنما كانوا ثوباً كشط عنه . قال فقلت لأبي – بعد أن هاجر إلى المدينة -: يا أبت ! من الرجل الذي زجر القوم عنك بمكة يوم أسلمت وهم يقاتلونك ؟ قال : ذاك – أي بني –العاص بن وائل السهمي " . وهذا إسناد جيد قوي – كذا في البداية .

    3- وأخرج البخاري في التاريخ عن مسعود بن خراش – رضي الله عنه – قال : " بينما نحن نطوف بين الصفا والمروة إذا أناس كثير يتبعون فتى شاباً موثقاً بيده في عنقه . قلت : ما شأنه ؟ قالوا : هذا طلحة بن عبيد الله صبأ . وامرأة وراءه تدمدم وتسبه . قلت : من هذه ؟ قالوا : الصعبة بنت الحضرمي أمه " .

    4- وأخرج البيهقي وابن سعد والحارث ابن المنذر وابن عساكر وابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب – رضي الله عنه - : " أن صهيباً – رضي الله عنه – أقبل مهاجراً نحو النبي صلى الله عليه وسلم فتبعه نفر من قريش مشركون ، فنزل فانتشل كنانته فقال : قد علمتم يا معشر قريش أني أرماكم رجلاً بسهر ، وايم الله لا تصلون إلي حتى أرميكم بكل سهم في كنانتي ثم أضربكم بسيفي ما بقي في يدي منه . ثم شأنكم بعد ذلك وإن شئتم دللتكم على مالي بمكة وتخلوا سبيلي .. قالوا : نعم . فتعاهدوا على ذلك فدلهم ، فأنزل الله على رسوله القرآن {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} حتى فرغ من الآية . فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم صهيباً قال : ربح البيع يا أبا يحيى ربح البيع يا أبا يحيى ! وقرأ عليه القرآن " .


    5- وأخرج الحاكم عن سليمان بن بلال – رضي الله عنه - : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى بدر أراد سعد بن خثيمة وأبوه جميعاً الخروج معه ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأمر أن يخرج أحدهما فاستهما . فقال خثيمة بن الحارث لابنه سعد – رضي الله عنهما - : إنه لا بد لأحدنا من أن يقيم فأقم مع نسائك . فقال سعد : لو كان غير الجنة لآثرتك به إني أرجو الشهادة في وجهي هذا ، فاستهما ، فخرج سهم سعد ، فخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر . فقتله عمرو ابن عبد ود " وأخرجه أيضاً ابن المبارك عن سليمان وموسى بن عقبة عن الزهري ، كما في الإصابة .

    6- وأخرج الطبراني عن ابن عمر " أن عمر – رضي الله عنه – قال يوم أحد لأخيه : خذ درعي يا أخي ! قال : أريد من الشهادة مثل الذي تريد ، فتركاها جميعاً " قال الهيثمي رجاله رجال الصحيح .

    7- وأخرج ابن إسحاق عن القاسم بن عبد الرحمن بن رافع أخي بني عدي بن النجار قال : " انتهى أنس بن النضر – عم أنس بن مالك – إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار – رضي الله عنهم – وقد ألقوا ما بأيديهم . فاقل : فما يجلسكم ؟ قالوا : قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم استقبل القوم ، فقاتل حتى قُتل " .

    8- وأخرج الحاكم عن زيد بن ثابت – رضي الله عنه – قال : " بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد لطلب سعد بن الربيع – رضي الله عنه – وقال لي : إن رأيته فأقرئه مني السلام ، وقل له : يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف تجدك ؟ قال : فجعلت أطوف بين القتلى ، فأصبته وهو في آخر رمق ، وبه سبعون ضربة ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم . فقلت له : يا سعد ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عليك السلام ويقول لك : أخبرني كيف تجدك ؟ قال : على رسول الله السلام ، وعليك السلام ، قل له : يا رسول الله أجدني أجد ريح الجنة ، وقل لقومي الأنصار : لا عذر لكم عند الله إن يخلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم شفر يطرف . قال : وفاضت نفسه – رحمه الله – " قال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه . وقال الذهبي : صحيح . ثم أخرج الحاكم من طريق ابن إسحاق أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة حدثه عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع – رضي الله عنه – فذكر الحديث بنحو منه . وقال : فقال سعد : أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أني من الأموات ، وأقرئه السلام وقل له : يقول سعد : جزاك الله عنا ، وعن جميع الأمة خيراً " .

    9- وأخرج البيهقي عن مالك بن عمير رضي الله عنه وكان قد أدرك الجاهلية .، قال : " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني لقيت العدو ولقيت أبي فيهم ، فسمعت لك منه مقالة قبيحة فلم أصبر حتى طعنته بالرمح – أو حتى قتلته - ، فسكت عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم . ثم جاء آخر فقال : إني لقيت أبي فتركته وأحببت أن يليه غيري ، فسكت " . قال البيهقي وهذا مرسل جيد .

    10- وأخرج البزار عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : " مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن أبي وهو في ظل أطم فقال : غبّر علينا ابن أبي كبشة . فقال ابنه عبد الله بن عبد الله – رضي الله عنه - : يا رسول الله والذي أكرمك لئن شئت لأتيتك برأسه ! فقال : لا ، ولكن بر أباك وأحسن صحبته " . قال الهيثمي رواه البزار ورجاله ثقات .

    11- وذكر ابن هشام عن أبي عبيدة وغيره من أهل العلم بالمغازي أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال لسعيد بن العاص – رضي الله عنه – وقربه : " إني أراك تظن أني قتلت أباك ، إني لو قتلته لم أعتذر إليك من قتله ، ولكني قتلت خالي العاص بن هشام بن المغيرة ، فأما أبوك فإني مررت به وهو يبحث بحث الثور بورقه ، فحدت عنه وقصد له ابن عمه علي فقتله " . كذا في البداية ، وزاد في الاستيعاب والإصابة : " فقال له سعيد بن العاص : لو قتلته لكنت على الحق وكان على الباطل . فأعجبه قوله " .

    12- وأخرج ابن سعد عن الزهري قال : " لما قدم أبو سفيان بن الحر بالمدينة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد غزو مكة فكلّمه أن يزيد في هدنة الحديبية فلم يقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام فدخل على ابنته أم حبيبة – رضي الله عنها - . فلما ذهب ليجلس على فراش النبي صلى الله عليه وسلم طوته دون . فقال : يا بنية ! أرغبت بهذا الفراش عني أم بي عنه ؟ فقالت : بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت امرؤ نجس مشرك . فقال : يا بنية ! لقد أصابك بعدي شر " . وذكر ابن إسحاق نحوه بلا إسناد ، كما في البداية وزاد : " فلم أحب أن تجلس على فراشه " .

    13- وأخرج الطبراني عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال : " لما كان يوم أحد حاص أهل المدينة حيصة . وقالوا : قُتل محمد حتى كثرت الصوارخ في ناحية المدينة . فخرجت امرأة من الأنصار محرمة فاستقبلت بأبيها وابنها وزوجها وأخيها – أي قتلى – لا أدري أيهم استقبلت به أولاً . كلما مرت على أحدهم قالت: من هذا ؟ قالوا : أبوك ، أخوك ، زوجك ، ابنك ، تقول : ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ يقولون : أمامك حتى دفعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت بناحية ثوبه ثم قالت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، لا أبالي إذ سلمتَ من عطب " .

    هذه نصوص تبين لك مدى الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم عند أتباعه المخالطين له ، مما يدلك على أن تصديقهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بلغ حداً لا مثيل له .

    * * * * *

    ج - وأخيراً شهادة الواقع:

    إن شهادة الواقع أعلى الشهادات لأن الإنسان يصل بواسطتها إلى اليقين الذي لا يخالطه شك فليقم الإنسان بإجراء اختبار كامل لكل ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل . فإذا ما وجد أن كل قول وفعل مما يمكن أن يدخل تحت الاختبار لا يخرج عن الحق والصدق . لم يبق أمام الإنسان إلا طريق واحد هو الإيمان والتصديق . وسنرى في الباب الثاني أن الاختبار الكامل للقرآن يجعلك – على مثل الشمس وضوحاً – أن القرآن كله حق وصدق وأنه من عند الله ، وسنرى في الباب الثالث – إن شاء الله – أن الاختبار الكامل لنبوءاته يدلك على أن المستقبل كان كشفاً لها وتوكيداً . أما هنا فسننقل نماذج من مزاحه ومداعباته لنرى أنها لا تخرج عن الحق والصدق ، ونماذج عن وعوده وعهوده وصدقه فيها ، ونماذج من أحاديثه التي يستطيع الإنسان أن يعرف صدقها بالاختبار ، لنرى العجب في مطابقة ما عرفه إنسان عصرنا بعد التجربة ، لما نطقت به شفتا رسول الله صلى الله عليه وسلم من عصور ، وسنختم هذه الفقرة بالتذكير بأن المصدر الوحيد الذي نستطيع أن نأخذ عنه العلم بالغيبيات بثقة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكلامه حجة على غيره فيه ، مع مناقشة بعض القضايا التي لها علاقة بهذا الأمر ونبدأ باستعراض ما ذكرنا :

    1- نماذج من صدقه صلى الله عليه وسلم في مزاحه ومداعباته :

    إن الناس عادة لا يلتزمون الصدق في المزاح ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم داعب صادقاً ومازح صادقاً وألزم أمته الصدق في كل حال .

    أخرج أحمد عن أنس بن مالك : " أن رجلاً أتى النبي فاستحمله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنا حاملوك على ولد ناقة ، فقال يا رسول الله ما أصنع بولد ناقة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وهل تلد الإبل إلا النوق ؟ " رواه أبو داود والترمذي .

    وقال زيد بن أسلم : " إن امرأة يقال لها أم أيمن جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إن زوجي يدعوك ، قال : ومن هو ؟ أهو الذي بعينه بياض ؟ قالت : والله ما بعينه بياض . فقال : بل إن بعينه بياضاً . فقالت : لا والله . فقال : ما من أحدٍ إلا وبعينه بياض " هو أراد البياض المحيط بالحدقة وهي فهمت البياض على الحدقة الذي يكون به الرجل أعورَ .

    وأخرج أحمد عن أنس : " أن رجلاً من أهل البادية كان اسمه زاهراً ، وكان يهدي النبي الهدية من البادية فيجهزه النبي إذا أراد أن يخرج . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن زاهراً باديتنا ونحن حاضره ، وكان رسول الله يحبه وكان رجلاً دميماً . فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبيع متاعه فاحتضنه من خلفه ولا يبصره الرجل ، فقال : أرسلني من هذا ؟ فالتفت فعرف النبي صلى الله عليه وسلم فجعل لا يألو ما ألصق ظهره بصدر النبي حين عرفه وجعل رسول الله يقول : من يشتري العبد ؟ فقال يا رسول الله إذن والله تجدني كاسداً ، فقال رسول الله : لكن عند الله لست بكاسد . أو قال لكن عند الله غالٍ " . رواته ثقات . فأنت ترى من سياق الحديث أنه عنى بالعبد عبد الله وكلنا عبد الله .

    وأخرج الترمذي في الشمائل عن الحسن قال : " أتت عجوزٌ النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ادع الله أن يدخلني الجنة : فقال : يا أم فلان إن الجنة لا تدخلها عجوز ، فولت تبكي فقال : أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز إن الله تعالى يقول : {إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً} " .

    وأخرج الترمذي في الشمائل عن أنس قال : " قال لي رسول الله : يا ذا الأذنين " . قال أبو أسامة يعني يمازحه ، وكل إنسان له أذنان .

    فأنت ترى من هذه الأمثلة أنه داعب ومازح دون أن يخرج عن الحق والصدق ، ولكنه استعمل هذا الصدق استعمالاً لطيفاً ، على غير المتعارف . ففهم المخاطب فهماً كانت فيه نكتة وهكذا كانت مداعباته كلها حقاً .

    أخرج الترمذي عن أبي هريرة قال : " قالوا : يا رسول الله ! إنك تداعبنا ، قال : إني لا أقول إلا حقّاً " . إنها نبوة صدق وما كان للنبوة أن يكون للباطل عندها أو معها نصيب .
    * * * * *
    2- نماذج من صدقه صلى الله عليه وسلم في وعوده وعهوده :

    أخرج أبو داود عن عبد الله بن أبي الخنساء قال : " بايعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث وبقيت له بقية فواعدته أن آتيه بها في مكانه ذلك . فنسيت يومي والغد فأتيته اليوم الثالث وهو في مكانه ، فقال : يا فتى لقد شققت عَلَيَّ ، أنا ههنا منذ ثلاث أنتظرك " .

    وأخرج ابن حبان والحاكم : " كان صلى الله عليه وسلم جالساً يقسم غنائم هوزان بحنين فوقف عليه رجل من الناس فقال : إن لي عندك موعداً يا رسول الله . قال : صدقت فاحتكم ما شئت . قال : أحتكم ثمانين ضائنة وراعيها . قال : هي لك وقال : احتكمت يسيراً ... "

    وأخرج الحاكم عن حويطب بن عبد العزى في قضية إسلامه عندما كان مشركاً تولى مطالبة الرسول صلى الله عليه وسلم بالجلاء عن مكة في عمرة القضاء بعد انقضاء مدة الثلاثة أيام المتفق عليها يقول حويطب : " ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرة القضاء وخرجت قريش من مكة كنت فيمن تخلف بمكة أنا وسهيل بن عمرو فقلنا : قد مضى شرطك فاخرج من بلدنا فصاح يا بلال لا تغب الشمس وواحد من المسلمين بمكة ممن قدم معنا " .

    وهذه فقرأت من كتاب ( بطل الأبطال ) يحلل فيها صاحبه بعض مواقف الوفاء بالعهد والوعد التي وقفها رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " قبل سنة من هدنة الحديبية كانت قريش تحاصر المدينة وقد جمعت لذلك الأحزاب من أهل القرى والأعراب فنقض بنو قريظة عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . واشتد بذلك الكرب وزلزل المؤمنون زلزالاً شديداً ، ولكن الله نصر عبده ، وأعزه وألقى الرعب في قلوب المشركين ، ولم تمض إلا فترة وجيزة حتى كان جيش الإسلام بقيادة رسول الله يزحف إلى مكة ، فنزل الحديبية وبعثت قريش رسلها إلى محمد صلى الله عليه وسلم .

    وهو ذا عروة بن مسعود الثقفي رسولها يعود إليها يصف حال محمد صلى الله عليه وسلم وجنده بهذه العبارة :
    " إني قد جئت كسرى في ملكه ، قيصر في ملكه والنجاشي في ملكه ، وإني والله ما رأيت ملكاً في قومه قط مثل محمد في أصحابه " . كان محمد في منعة وقوة ولكنه كان يعلن أنه لا يريد الحرب ، ويقول : لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها . فلما جاءه سهيل بن عمرو مفوضاً من قريش لعقد الهدنة يرجع بها محمد وجيشه عن دخول مكة ، كان من شروط هذه الهدنة شرط ظاهر الغبن وهو أن محمداً يسلم إلى قريش من لجأ إليه من المسلمين بغير إذن وليه ولا يطلب تسليم من لجأ إلى قريش من أتباعه ...

    ذلك الشرط أهاج أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حتى إن عمر – رضي الله عنه – كان يذهب تارة إلى أبي بكر وتارة أخرى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول : ألسنا المسلمين ! أليسوا المشركين ! ألست رسول الله !!.. فعلام نعط الدنية في ديننا ؟ فيقول الرسول : أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني ، ويقول أبو بكر : أشهد أنه رسول الله . فقبول المسلمين هذا الشرط هو استسلام منهم لأمر لم يدركوا سره ، وكان ذلك أعظم بلاء وامتحان لصبرهم ، وبينما هم على هذه المضاضة وقد فرغ الرسول صلى الله عليه وسلم من الجدل مع مفوض قريش سهيل بن عمرو ، ولم يكتب العقد ولم يمض ، جاءهم أبو جندل مستصرخاً يرسف في قيوده وأبو جندل هذا هو ابن سهيل بن عمرو نفسه ، فلما رأى سهيل ابنه قام إليه وأخذ بتلابيبه وقال : يا محمد قد لجت القضية بيني وبينك – أي فرغنا من المناقشة – قبل أن يأتيك هذا . قال النبي صلى الله عليه وسلم : صدقت ، وأبو جندل ينادي يا معشر المسلمين ! أأرد إلى المشركين يفتنونني في ديني ؟ تصوروا ذلكم المقام مقام محمد صلى الله عليه وسلم وهو الشجاع الذي حدثتكم عن شجاعته المنقطعة النظير ، وهو القوي الذي خرج من المدينة زاحفاً بجيش . سمعتم الآن وصف عروة بن مسعود له تصوروه وهو يرى أقرب أصحابه ( في حالة تذمر ) ثم تصوروا لاجئاً يرسف في القيود ، وهو من أبناء الأعزة في قريش ، يرسف فيها ( اتباعاً ) لمحمد ودين محمد ، ثم انظروا إليه لا يحتال ولا يتردد ولما يكتب ولما يمض ، يقول لسهيل : صدقت لقد لجت القضية ، ويرد صاحبه باكياً إلى أعدائه تصوروا كل ذلك ، ثم ليكتب إليَّ من يشاء بمثل واحد في تاريخ البشر كله كهذا المثل يضربه محمد في رعاية الكلمة التي قالها ولما تكتب ولما تمض .

    ويقول صاحب الكتاب ذاكراً مثلاً آخر :

    ثم انظروا إلى وفائه للمشركين أيضاً : كان بين شروط هدنة الحديبية أن من شاء دخل في عقد محمد وعهده ، ومن شاء دخل في عقد قريش وعهدها . فدخلت خزاعة على شركها في عهد محمد فلما نقضت قريش عهدها معه ونصرت حليفتها بكراً عليها . ذهب عمرو بن سالم الخزاعي يطالب ( رسول الله صلى الله عليه وسلم ) بالعهد ويطلب ( منه ) نصر حلفائه فوقف على رسول الله وهو في المسجد ينشده ويقول :

    يا رب إني ناشد محمداً حلف أبينا وأبيه الأتلدا
    فانصر هداك الله نصرا اعتدا وادع عباد الله يأتوا مددا
    في فيلق كالبحر يجري مزبدا إن قريشاً أخلفوك الموعدا
    ونقضوا ميثاقك المؤكدا

    فكان ذلك الاعتداء على المشركين من حلفاء المسلمين سبباً في تجهيز أضخم جيش عرفته الجزيرة والسير لنصرة الحليف وكان من آثار ذلك فتح مكة كما هو معروف هذه أمثلة سقناها من وفاء ( رسول الله صلى الله عليه وسلم ) لأعداء الملة وقد عاهدهم ... أو قبل محالفتهم على غيرهم " .

    هذه نماذج من صدقه في وعده وعهده وسواها كثير فما حدث أن وعد رسول الله ، أو عاهد فأخلف أو غدر . روى البخاري أن هرقل لما سأل أبا سفيان عن محمد : هل يغدر ؟ فأجاب أبو سفيان : لا . فقال هرقل بعد ذلك : وسألتك هل يغدر فزعمت أنه لا يغدر وكذلك الرسل لا تغدر " .

    إن الغدر نوع من أنواع الكذب والخلف بالوعد كذب . والرسول صلى الله عليه وسلم منزه عن ذلك ، ومن النماذج القليلة التي ذكرناها ترى أنه ما أحد من البشر غير الرسل وصل إلى ما وصل إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في الوفاء لشرف الكلمة ، إلا إذا كان تلميذاً من تلامذته ، يقتدي به . لقد كانت كلمة الرسول صلى الله عليه وسلم هي الضمان الذي ما بعده ضمان ، حتى أن ألد خصومه وأعرقهم في دعواته كان لا يتردد إذا تأكد أن محمداً أمنه أن يلقي بنفسه في أحضان المسلمين ، ثقة منه أن كلمة محمد ضمان لا يعدله ضمان . ومن تتبع حوادث السيرة وجد الأمثلة الكثيرة على هذا ، إنها صفة الصدق عن الأنبياء لا تتخلف .

    3- نماذج من حديثه صلى الله عليه وسلم الذي صدقته علوم عصرنا من غير النبوءات :

    أ) – قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح : " إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه ثم لينزعه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء " .

    إن هذا الحديث ذكر قضيتين كلتاهما لم تكونا معروفتين قديماً . أولاهما أن الذباب ناقل داء وهذا شيء أصبح الآن معروفاً لدى الجميع ، فالذباب ناقل جراثيم ممتاز . والثانية وهي التي يجهلها الكثير أن الذباب يحمل مضادات للجراثيم من النوع الممتاز كذلك ، وهذا تحقيق كتبه " الدكتور عز الدين جوالة " حول هذا الموضوع ننقل منه ما يلزمنا هنا يقول :

    قبل الخوض في هذا الموضوع لنتذكر ما يلي :

    1- من المعروف منذ القديم أن بعض المؤذيات قد يكون في سمها نفع ودواء ، فقد يجتمع الضدان في حيوان واحد ، فالعقرب في إبرتها سم ناقع ، وقد يداوى سمها بجزء منها ، وفي ذلك يقول العلماء : " وقد وجدنا لكون أحد جناحي الذباب داء والآخر شفاء ودواء فيما أقامه الله من عجائب خلقه وبدائع فطرته شواهد ونظائر ، منها النحلة يخرج من بطنها شراب نافع ويكمن في إبرتها السم الناقع ، والعقرب تهيج الداء بإبرتها ويتداوى من ذلك بجرمها " .

    2- وفي الطب يحضر لقاح من ذبيب الأفاعي والحشرات السامة يحقن به لديغ العقرب أو لديغ الأفعى ، بل وينفع في تخفيف آلام السرطان أيضاً .

    3- إن الطب الحديث استخرج من مواد مستقذرة أدوية حيوية قلبت فن المعالجة رأساً على عقب ، فالبنسلين استخرج من العف ، والستربتو مايسين من تراب المقابر .. إلخ أو بمعنى أدق من طفيليات العفن وجراثيم تراب المقابر . أما والحالة كذلك ، فهل يمتنع عقلاً ونظرياً أن يكون في الذباب هذه الحشرة القذرة ، والتي تنقل القذر طفيلي أو جرثوم يخرج أو يحمل دواء يقتل هذا الداء الذي تحمله .

    4- من المعروف في فن الجراثيم أن للجرثوم ذيفاناً ( مادة منفصلة عن الجرثوم ) وأن هذا الذيفان إذا دخل بدن الحيوان كَوَّنَ البدن أجساماً ضد هذا الذيفان ، لها قدرة على تخريب الذيفان والتهام الجراثيم ، تسمى بمبيدات الجراثيم .

    فهل يستبعد القول بأن الذباب تلتهم الجراثيم فيما تلتهم ، فيكون في جسم الذباب الأجسام الضدية المبيدة للجراثيم والتي مر ذكرها ، ولها القدرة على الفتك بالجراثيم الممرضة التي ينقلها الذباب إلى الطعام أو الشراب ، فإذا وقعت في الطعام فما علينا إلا أن نغمس الذبابة فيه فتخرج تلك الأجسام الضدية فتبيد الجراثيم التي تنقلها وتقضي على الأمراض التي تحملها.

    وبعد كلام للدكتور عز الدين ، يستمر فينقل تحقيقاً للطبيبين المصريين محمود كمال ومحمد عبد المنعم حسين في إثبات ما في الحديث ، ننقل بعضاً منه ، يقولان :

    ما تقوله المراجع العلمية :

    في 1871 وجد الأستاذ الألماني " بريفلد " من جامعة هال بألمانيا أن الذبابة المنزلية مصابة بطفيلي من جنس الفطريات سماها " امبوزاموسكي " وهو طفيلي يعايش الذبابة على الدوام ، وبالتدقيق فيه وجده من نوع الفطور التي تسمى " انتوموفترالي " تنتمي إلى أهم فصيلة في الفطور الأشنية ، وهي المسَّاه بالفطور الشنية المرتبطة أو المتحدة ، وهو من النوع الثاني للفطر المسمّى الفطور الأشنية الطفيلية ، وهذا الطفيلي يقضي حياته في الطبقة الدهنية الموجودة داخل بطن الذبابة بشكل خلايا مستديرة فيها خميرة خاصة سيأتي ذكرها . ثم لا تلبث هذه الخلايا المستدير أن تستطيل فتخرج من الفتحات أو من بين مفاصل حلقات بطن الذبابة فتصبح خارج جسم الذبابة .

    ودور الخروج هذا يمثل الدور التناسلي لهذا الفطر ، وفي هذا الدور تتجمع بذور الفطر داخل الخلية ، فيزداد الضغط الداخلي للخلية من جراء ذلك ، حتى إذا وصل الضغط إلى قوة معينة لا تحتملها جدر الخلية انفجرت الخلية وأطلقت البذور إلى خارجها بقوة دفع شديدة ، تدفع البذور إلى مسافة 2 سم خارج الخلية ، على هيئة رشاش مصحوباً بالسائل الخلوي .

    وعلى هذا إذا أمعنا النظر في ذبابة ميتة ومتروكة على الزجاج نشاهد :

    أ – مجالاً من بذر هذا الفطر حول الذبابة المذكورة .

    ب – ويشاهد حول القسم الثالث والأخير من الذباب على بطنها وعلى ظهرها وجود الخلايا المتفجرة ، التي خرجت منها البذور ، وقد برز منها رؤوس الخلايا المستطيلة التي مر ذكرها . وقد جاءت مكتشفات العلماء الحديثة مؤيدة ما ذهب إليه " بريفلد " ومبينة خصائص عجيبة لهذا الفطر الذي يعيش في بطن الذبابة منها :

    1- في عام 1945 أعلن أكبر أستاذ في علم الفطريات وهو " لانجيرون " أن هذا الفطر الذي يعيش دوماً في بطن الذبابة على شكل خلايا مستديرة فيها خميرة خاصة ( أنزيم ) قوية تحلل وتذيب من أجزاء الحشرة الحاملة للمرض .

    2- في عام 1947 – 1950 تمكن العالمان الإنجليزيان " آرنشتين وكوك " والعالم السويسري " روليوس " من عزل مادة سموها " جافاسين " استخرجوها من فصيلة الفطور التي تعيش في الذباب وتبين لهم أن هذه المادة مضادة للحيوية تقتل جراثيم مختلفة من بينها جراثيم غرام السالبة والموجبة والديزانتريا والتيفوئيد .

    3- وفي عام 1948 تمكن " بريان وكورتيس وهيمنغ وجيفيرس وماكجوان " من بريطانيا من عزل مادة مضادة للحيوية أسموها " كلوتيزين " وقد عزلوها عن فطريات تنتمي إلى نفس فصيلة الفطريات التي تعيش في الذباب وتؤثر في جراثيم غرام السالبة كالتيفوئيد والديزينطريا .

    4- وفي عام 1949 تمكن عالمان إنجليزيان هما " كومسي وفارمر " وعلماء آخرون من سويسرا هم " جرمان وروث واثلنجر وبلاتنز " من عزل مادة مضادة للحيوية أيضاً أسموها " انياتين " عزلوها من فطر ينتمي إلى فصيلة الفطر الذي يعيش في الذباب وتؤثر بقوة على جراثيم غرام موجب وسالب وعلى بعض فطريات أخرى كالزحار والتيفوئيد والكوليرا .

    5- وفي عام 1947 عزل " موفيتش " مواد مضادة للحيوية من مزرعة للفطريات الموجودة على نفس جسم الذبابة ، فوجدها ذات مفعول قوي على الجراثيم السالبة لصيغة غرام . كالزحار والتيفوئيد وما يشابهها ووجدها ذات مفعول قوي على الجراثيم المسببة لأمراض الحميات ذات الحضانة القصيرة المدة . وأن غراماً واحداً من هذه المادة يمكنه أن يحفظ أكثر من 1000 لتر من اللبن المتلوث بالجراثيم المذكورة .
    والخلاصة يستدل من كل ما سبق أنه :

    1- يقع الذباب على الفضلات والمواد القذرة والبراز وما شابه ذلك ، فيحمل بأرجله أو يمج كثيراً من الجراثيم المرضية الخطرة .

    2- يقع الذباب على الأكل فيلمس بأرجله الملوثة للمرض هذا الطعام ، أو هذا الشراب ، فيلوثه بما يحمل من سم ناقع ، أو يتبرز عليه فيخرج مع ونيمها تلك الجراثيم الدقيقة الممرضة .

    3- فإذا حملت الذبابة من الطعام ، وألقيت خارجه دون غمس ، بقيت هذه الجراثيم في مكان سقوط الذباب ، فإذا التهمها الآكل وهو لا يعلم طبعاً ، دخلت فيه الجراثيم ، فإذا وجدت أسباباً مساعدة تكاثرت ثم صالت وأحدثت لديه المرض ، فلا يشعر إلا وهو فريسة للحمى طريحاً للفراش .

    4- أما إذا غمست الذبابة كلها ، أو مقلت في الطعام فماذا يحدث؟ إذا غمست الذبابة أحدثت هذه الحركة ضغطاً داخل الخلية الفطرية الموجودة مع جسم الذبابة فزاد توتر البروز والسائل داخلها زيادة تؤدي إلى انفجار الخلايا ، وخروج الأنزيمات الحالة لجراثيم المرض والقاتلة له ، فتقع على الجراثيم التي تنقلها الذبابة بأرجلها فتهلكها وتبيدها ، ويصبح الطعام طاهراً من الجراثيم المرضية .

    5- وهكذا يضع العلماء بأبحاثهم تفسيراً للحديث النبوي المؤكد لضرورة غمس الذبابة كلها في السائل أو الغذاء ليخرج من بطنها الدواء الذي يكافح ما تحمله من داء .

    ويستنتج من ذلك أن العلم الحديث قد حقق ما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم .

    فقد أثبت العلم الحديث أن الذباب ينقل الجراثيم والأقذار بأرجله من النفايات والكنف والمزابل إلى الأطعمة والأشربة ، وإلى فتحات الوجه والتنفس فيسبب الأمراض المعدية من تيفوئيد وسل وكوليرا وغيرها ، وهذا ما أخبر عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم من أن بأحد جناحي الذبابة الداء .

    والداء يجب الوقاية منه والبعد عنه ، ولا يكون لك إلا بمكافحة الذباب وإبادته والاحتراس منه .

    ويقرر العلم الحديث أيضاً كما رأينا أن في الذباب طفيليّاً له ذيفان يبيد الجراثيم ويفتك بها بشدة ، وأن هذا الذيفان لا ينفصل عن جرثومة إلا بعد وصول توتره إلى درجة معينة ، يكفي لبلوغه الضغط عليه بغمسه ولو في الشراب أو الطعام . وهذا ما ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم ، {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} .(النجم : 3 ، 4)
    * * * * *

    ب )- عن عائشة أن فاطمة بنت أبي حبيش سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إني أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة ؟ فقال : " لا إن ذلك دم عرق ، ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي " .

    المسألة هنا كما يلي : للمرأة عادة شهرية يخرج فيها الدم من رحمها كأثر من آثار عدم تلقيح بويضة الأنثى بماء الذكر والدم الذي يخرج منها في هذه الحالة يسمى دم حيض وهذه امرأة يخرج منها الدم دائماً وكانت تتصور أن الدم كله حيض ولكن الرسول أفهمها أن هذا الدم ليس دم حيض ولكنه نزيف عرق .

    فماذا يقول العلماء المختصون المعاصرون ؟

    يقولون : إن الدم الوحيد الذي يخرج من الرحم – عادة – هو دم الحيض والنفاس أما الدم الآخر فمرجعه إلى نزيف يحدث في بعض الأغشية مما لا علاقة له بدم الحيض ، فهل كان حديث أهل الاختصاص في عصرنا إلا مصدقاً لما قاله عليه السلام من عصور لم يكن فيها معروفاً ؟ .

    * * * * *

    ج )- روى مسلم عن طارق الجعفي أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر فنهاه عنه فقال : إنما أصنعها للدواء فقال : " إنه ليس بدواء ولكنه داء " .

    إن هذا الحديث يذكر أن الخمرة من أسباب المرض وليست من أسباب الشفاء . فماذا يقول الأطباء في عصرنا ؟ ننقل للجواب على هذا ما ذكره صاحب كتاب روح الدين الإسلامي في هذا الموضوع ، وقد نقل هو قسماً من بحثه عن الإسلام والطب الحديث يقول :

    " الخمر أساسها مادة الكحول بكميات مختلفة ، وهذه المادة توجد بنسبة خفيفة جداً في جسم الإنسان في عملية هضم المواد السكرية ... ولها فوائد طبياً ولكن يظهر أن هذه الفوائد قاصرة على هذا القدر البسيط جداً ( والحديث لم يذكر أن ما يجري داخل الجسم من عملية التخمر فيه ضرر ولكن الكلام فيما نخمره ثم نشربه ) فإن زاد عن ذلك أحدث ضرراً خصوصاً إذا كان التعاطي لمدة طويلة ، فإنه يحدث التهاباً مزمناً في الأعصاب وفي الكلى ، وتصلباً في الشرايين وتحجراً في الكبد ، وضعفاً في القلب . وربَّ سائلٍ يقول : لم لا يؤخذ منه مقدار بسيط ؟ ( ولا يسأل هذا السؤال إلا إنسان يجهل أن الجسم متى اعتاد على الكحول طلبه وغلب عليه ، فلم يعد يستطيع الصبر عنه ) والجواب أن الكحول يختلف عن أغلب المواد في أنه حتى بالمقادير البسيطة يحدث ضعفاً في قوة الإرادة والحكم ، وتزداد به الانفعالات النفسية ، وهذا هو الخطر ، لأن الشخص يصبح شخصاً آخر ، وإرادته تصبح غير إرادته الطبيعية ، ومع علمه بضرر الزيادة في حالته الاعتيادية لا يقوى على منع نفسه ، وهو تحت تأثير البسيط منه وقد يحدث الشيء البسيط منه حركة انتعاش ولكن ضعف الإرادة المتولدة منه يجعل الشخص عبداً لعادة شرب الخمر .

    وإن تأثير الخمر يبدأ بمجرد وصول عشرة جرامات من الكحول إلى الدم للشخص البالغ ، وهذا القدر يوجد في كأس واحدة من الويسكي أو الكونياك ، وقد لا يصل الشخص إلى درجة السكر ، ولكن على كل حال له أثر ملموس في حالة الشخص الجسمية والعقلية ، وإذا فحص الشخص في هذه الحالة ، نجد أن درجة إدراكه وتقديره قد تغيرت فعلاً ، فهو مثلاً إذا كتب على الآلة الكاتبة زادت أخطاؤه عن المعتاد ، وإذا قاد سيارة لم يتبع بالضبط قوانين المرور . وقد ثبت من الإحصائيات أن أكثر ن 13 في المائة من حوادث المرور سببها الخمر.

    والجرعة الواحدة من الخمر تحدث شيئاً من الارتفاع في ضغط الدم ، وهذا الارتفاع وحده قد لا يكون له ضرر كبير ولكن الضرر يتضاعف إذا كان الشخص مرتفع الضغط من نفسه ، ثم إذا كانت كمية الخمر وافرة كانت كافية لأن تحدث هيجاناً يزيد في الضغط لدرجة ينفجر معها شريان في المخ ، يسبب شللاً قد ينجو منه الشخص جزئياً أو لا ينجو كلية ، إذ من المعلوم أن الشخص الذي ضغطه الدموي مرتفع يجب أن يلتزم الهدوء في حياته ، لأن أي هيجان يزيد في ارتفاع الضغط يعرضه لانفجار شرياني ، والسكران لا يمكنه أن يضبط عواطفه ، وبالتالي لا يمكنه أن يضمن لنفسه هذا الهدوء .

    والخمر تحدث عند غير المتعوّد عليها احتقاناً في المعدة ، قد يسبب غثياناً أو قيئاً ، وإذا كانت الجرعة كبيرة سببت التهاباً في المعدة وعسر هضم يمتد إلى بضعة أيام .

    ويرى بعض الأطباء أن الخمر ولو كانت قليلة جداً ، فهي ضارة بالخميرات في طول القناة الهضمية ، وهذه الخميرات ضرورية لسير حركة الهضم سيراً طبيعياً . والخمر لها تأثير في الوراثة ، فقد شوهد أن أولاد السكيرين ينشأون غير صحيحي الجسم ، ضعفاء البنية ناقصي العقول ، ويكون لديهم ميل إلى الإجرام ودافع إلى الشر . وأن من يبحث في كتب الطب يتولاه العجب عندما يقرأ مسببات الأمراض المختلفة . إذ يجد للخمر نصيب الأسد في ذلك .

    لقد أصبحت فكرة التداوي بالخمر محض خرافة وتأكد كونها داء بعشرات الطرق ، وأقل ما فيها ما ذكره "بتنام " في كتابه أصول الشرائع : النبيذ في الأقاليم الشمالية يجعل الإنسان كالأبله وفي الأقاليم الجنوبية يجعله كالمجنون " .

    ولعله وضح بعد هذا كيف أن كلمة الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينقصها شيء ، لأنها محض الحق الذي لا تزيده الأيام إلا تثبيتاً وتأكيداً .
    * * * * *

    د )- عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن لكل داء دواء ، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله " رواه مسلم ، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أنزل الله من داء إلا أنزل له دواء " رواه البخاري . وعن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى أنزل الداء والدواء ، وجعل لكل داء دواء ، فتداووا ، ولا تداووا بحرام " .
    أخرجه أبو داود .

    هذه الأحاديث تلح أن لكل داء دواء ، فماذا قال الواقع ؟

    لقد قال الواقع ولا يزال يقول كل يوم إن ذلك حق لا مرية فيه ، ففي كل يوم يكشف أهل الاختصاص دواء لداء لم يكن له دواء معروف . ولعلك تلاحظ أن العلماء مقبلون على محاولة اكتشاف دواء كل داء بروح الواثق أنه لا بد أن يكون لكل داء دواء وإن جهلوه الآن ، فهم لا بد واجدوه . فأخذت هذه القضية مأخذ البديهية في أذهانهم ، وفي ذلك كله تجد كيف أن كلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تنتقض بل هي الصدق كل الصدق .

    * * * * *

    هـ )- مما قرره علماء الظواهر الطبيعية في عصرنا أن ما ينزل سنوياً من الأمطار في العالم لا يتغير مقداره بتاتاً ، فلا يزيد ولا ينقص ولو مقداراً بسيطاً ، وعللوا ذلك بأن ما تقدمه الشمس من الحرارة نسبته ثابتة . والعوامل الأخرى التي تشارك في وجود ظاهرة المطر تبقى ثابتة ونسبة الأمطار بالتالي لا تتغير بتاتاً في كل عام ، وأما ما نراه من كون المطر ينزل في منطقة واحدة بنسب مختلفة خلال سنين ، فهذا لا يؤثر على جوهر القضية ، لأنه ينقص في مكان على حساب زيادته في مكان آخر ، فالنسبة بالنسبة للعالم كله واحدة وإن اختلفت بالنسبة لكل منطقة على حدة .

    وانظر بعد هذا الذي قدمناه إلى هذا الأثر تجد أن علماء عصرنا ما – زادوا – على أن أكدوا مضمونه ليكون جزءاً من شهادة الواقع على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم والأثر هو : " ما عام بأمطر من عام " .

    * * * * *

    و )- روى أبو داو والترمذي عن ابن عباس حديث دخوله وخالد بن الوليد مع رسول الله على ميمونة . ومن الحديث قال : قال صلى الله عليه وسلم : " من أطعمه الله طعاماً فليقل اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيراً منه ، ومن سقاه الله لبناً فليقل : اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه فإنه ليس شيء يجزي من الطعام والشراب إلا اللبن " .

    إن هذه الحقيقة التي أشار إليها الحديث هي كون الحليب هو الغذاء الكامل وأي غذاء آخر يبقى فيه نقص كغذاء منفرد ، أصبحت الآن تجدها في أي كتاب عن علم التغذية يصدر الآن ، وذلك بعد أن تقدمت وسائل التحليل والتجريب ، وتقدمت العلوم ، فكانت حصيلة ما وصل إليه إنسان عصرنا متناسقةً تماماً مع ما أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث بشكل واضح ، وهذه الحقيقة على بساطتها تدلك أن الكلمة النبوية حق وصدق لا يزيدها مرور الأيام إلا ثباتاً .

    * * * * *

    ز )- نشر الدكتور " جراد فنتسر " في مجلة كوسموس الألمانية مقالاً تحت عنوان : الأخطار التي تنشأ عن اقتناء الكلاب والاقتراب منه جاء فيه :

    " إن ازدياد شغف الناس بالكلاب في هذا العهد الأخير ، يضطرنا إلى لفت الأنظار للأخطار التي تنجم عن ذلك وخاصة إذا دفع اقتناؤها إلى مداعبتها وتقبيلها ، والسماح لها بلحس الأيدي وتركها تلعق فضلات الطعام من أوانيها ، فكل ما ذكره مع نبوّه عن الذوق السليم ، ومنافاته للآداب ، لا يتفق وقوانين الصحة فإن الأخطار التي تهدد صحة الإنسان وحياته بسبب هذا التسامح لا يستهان بها ، فإن الكلاب تصاب بدودة شريطية تتعداها إلى الإنسان وتصيبه بأمراض عضالة قد تصل إلى حد العدوان على حياته " .

    وقد ثبت أن جميع أجناس الكلاب حتى أصغرها حجماً تسلم من الإصابة بهذه الديدان الشريطية .

    وقد رؤي في إقليم فريزلند بهولندة حيث تستخدم الكلاب في الجر . أن فيكل مائة منها 12 إصابة . ووجد في اسلانده شخص مصاب بهذه الآفة في كل 43 شخصاً من أهاليها . وشوهد أن هذه النسبة تزيد في استراليا إذ ثبت وجود شخص في كل 39 شخصاً من سكانها مصاباً بها . وثبت كذلك أنها كانت سبباً مباشر للكثير من الأمراض في الأقطار الأخرى .

    ثم يقول : " ومما تجب على الناس مراعاته عدم مداعبة الكلاب ، وتعويد الأطفال التوقّي منها . فلا تترك تلعق أيديهم ولا يجوز إبقاء الكلاب بمحال نزهة الأطفال ، وميادين رياضتهم ، ويجب أن لا تطعم الكلاب في الأواني المعدّة لأكل الناس وأن لا يسمح لها بدخول متاجر المأكولات والأسواق العامة أو المطاعم . على وجه عام يجب إبعادها عن كل ما له صلة بمأكل الإنسان ومشربه " .

    وإن من كشوفات عصرنا استخراج كثير من مبيدات الجراثيم من التراب وخاصة تراب المقابر ، لأنه أكثر من غيره تلوثاً فمثلاً الستربتومايسين والتتراسكلين والنيوماسين ، وكلها من مبيدات الجراثيم ، استفيد من التراب في استخراجها لوجود ذيفان في جراثيمه يقضي على أنواع من الجراثيم الأخرى .

    ضع ما مر كله في ذهنك واقرأ هذا الحديث :

    روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه كلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب " . إنك ترى أن كشوفات عصرنا قد برهنت على صدق ما دلنا عليه الحديث .

    * * * * *

    4- وأخيراً : فإنه ما من كلمة قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا والحق والصدق مضمونها . ولكن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقسم إلى قسمين :

    1- ما له علاقة بالغيب .
    2- ما له علاقة بالمشهود المحسوس .

    فالنوع الثاني فقط هو الذي يستطيع الإنسان أن يختبره فإذا ما ثبت صدقه فيه كان ذلك آية صدقه على الأول ، هذا مع أنّ الله عز وجل علامات أخرى تدلّ على صدقه صلى الله عليه وسلم في أمر الغيب ، هي المعجزات والنبوءات . فرسولٌ ثبت صدقه في كل شيء مع هذه المؤيدات لا يبقى مجال أما الإنسان إلا التسليم له .

    ونحب أن نذكر هنا بعض الملاحظات المهمة بمناسبة كلامنا عن صفة الصدق عنده عليه الصلاة والسلام :

    الملاحظة الأولى : إن معرفة صحة الحديث ، وتأكد ثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . ينبغي أن يسبق دراسة المضمون . لأن كثيراً من الكلام دُسَّ عليه ، وقد قام العلماء بتمحيص الصحيح من كل ما روي عنه الصلاة والسلام ، فلا بد من الرجوع إلى ما أثبتوه أولاً ، ليكون تحليل المضمون قائماً على أساس سليم ، وينبغي أن يتوافر هذا في كل دراسة لها علاقة برسول الله صلى الله عليه وسلم .

    الملاحظة الثانية : إن بعض الألفاظ في اللغة العربية نقلت من مدلولاتها اللغوية إلى مدلولات شرعية ، فصارت تطلق على كلا المدلولين وقد تستعمل في القرآن وفي حديث الرسول تارة بالاستعمال الأول ، وتارة بالاستعمال الجديد ، فلا بدل لدارس النص من أن يتأكد من نوعية استعمال اللفظ في النص الذي يدرسه . فمثلاً كلمة " السماء " ذكرت أحياناً في القرآن للدلالة على المعنى اللغوي وهو كل ما على . وذكرت أحياناً للدلالة على السماء التي هي سكن الملائكة وفيها من عالم الغيب فلا بد لدارس نص فيه مثل هذا أن يعرف بواسطة القرائن المقصود الحقيقي من اللفظ في هذا المحل . وقد أخطأ كثيرون في فهم النصوص نتيجة لعدم وضوح هذا عندهم فعرضوا قضايا على أنها حقائق وهي ليست كذلك ، وأنكروا قضايا هي من باب الحقائق ، وهم في كلا الحالتين متوهمون ، وجعلوا توهمهم من الإسلام ، فحمّلوا الإسلام ما ليس منه جهلاً .

    الملاحظة الثالثة : إن بعض الأمور تكون نتيجة لعوامل كثيرة ، كل عامل من هذه العوامل يكون سبباً من عدة أسباب مؤثرة فيه ، وفي هذه الحال لو ذكر إنسان سبباً فقط ولم يذكر الآخر لا يعني هذا أنه ينفي البقية . فمثلاً قد يكون الكسل نتيجة لاجتماع الحر والتعب والضجر والعادة والملل ، وقد تجتمع هذه الأسباب كلها عند إنسان ، فلو قلت لهذا الإنسان : الحر جعلك تكسل لا يعني هذا أنني أنفي الأسباب الأخرى لكسله ، وهناك كثير من القضايا ربطها الله – عز وجل – بأسباب حسية وأسباب غيبية ، كالموت مثلاً فإن له سبباً حسياً هو المرض ، وآخر غيبياً هو قبض الروح من قِبَلَ الملك الموكل بذلك ، وأمور كثيرة من هذا النوع ، والقرآن والحديث قد يتحدثان في موقف عن السبب الحسي لقضية ، وقد يتحدثان في موقف آخر عن السبب الغيبي لها ، ولا يعني أن ذكر أحدهما في موطن نفي للثاني .

    ومن هنا نجد أن كثيرين من الناس يتوهمون في فهم بعض النصوص ، فتراهم إذا قرءوا نصّاً يتحدث عن السبب الغيبي فقط لقضية لها سبب حسي كذلك ، إنهم ينفون السبب الحسي أو العكس في القضايا المقابلة ، وذلك جهل عظيم يقابله جهل الذين يثبتون السبب الحسي فقط ، ولا يثبتون معه السبب الغيبي الذي أخبرنا به الرسول الصادق صلى الله عليه وسلم . إن القوارع والجوائح والمصائب التي تصيب بني البشر لها أسبابها العادية ، ولا يتنافى هذا مع كونها بقدرة الله وإرادته انتقاماً من الناس بما صنعوا وتذكيراً لهم حتى يرجعوا . قال تعالى : {وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ} .

    الملاحظة الرابعة : تمتلئ كتب التصوف الإسلامي بالحديث عن انكشاف بعض عوالم الغيب لأناس ، ويقول بعض السائرين إلى الله : إن أي إنسان يفعل ما يفعلون يصل مثل الذي يصلون إليه من مثل هذه المشاهدات التي تزيد في يقين الإنسان ، ويلاحظ أن بعض الذين يقولون مثل هذا الكلام ناسٌ مُجْمَعٌ على توثيقهم وصدقهم ، وهذا لا شك من جملة المؤكدات لصدق رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولكنا نحب هنا أن نذكر بعض الضوابط لنعرف حدود ما يمكننا قبوله من هذا الكلام فنقول :

    1- إنّ إمكانية رؤية بعض عوالم الغيب ضمن شروط معينة جائزة . أشار إليها الرسول صلى الله عليه وسلم ووقعت لبعض الصحابة ، فقد روى أحمد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه وهو يسمع عذاب القبر : " لولا تمرغ قلوبكم وتزيدكم في الحديث لسمعتم ما أسمع " . وقد روى مسلم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وحنظلة : " والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ، ساعة وساعة ، ساعة وساعة " . وأخرج البخاري عن أسيد بن حضير قال : بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة وفرسه مربوطة عنده إذ جالت الفرس ، فسكت فسكنت الفرس ثم قرأ فجالت وكان ابنه يحيى قريباً منها فانصرف فأخّره ، ثم رفع رأسه إلى السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح ، فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم فقال : وتدري ما ذاك ؟ قال : لا . قال : " تلك الملائكة دنت لصوتك ، ولو قرأت لأصبحت ينظر إليها الناس لا تتوارى منهم " . وأخرج الشيخان والترمذي عن البراء قال : كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوطة بشطنين فتغشته سحابة فجعلت تدنو وجعل فرسه ينفر منها فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له فقال : " تلك السكينة تنزلت للقرآن " .

    2- لكننا لا نستطيع قبول كلام يدعي صاحبه أنه من مثل هذا إلا بشروط منها :

    أ- أن يكون ممن تقبل شهادته ، فالفاسق والمبتدع والضال وجميع هؤلاء لا تقبل شهادتهم وكلامهم في مثل هذه القضايا .

    ب- وأن يكون هذا الاطلاع كأثر من آثار التزامه بشريعة الله ، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا نقبل كلام إنسان ادعى أنه شاهد من مثل هذا باتباعه طريقاً لم يشرعه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنه بعمله فسق والفاسق لا شهادة له .

    ج- وأن يكون ما اطلع عليه من عالم الغيب متفقاً مع أن ما أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن رسول الله هو الذي لا يمكن أن يكون في كلامه خطأ ، ولأن الله جعله الحجة على الناس في كل شيء ، فلا تقبل كلام إنسان ينقضه نص .

    د- وألا يكون مدعاه أنه شاهد شيئاً تستحيل مشاهدته شرعاً في قوانين كوننا الحالية ، أو يرتب على مشاهدته تشريعات محدثة .

    فمن توافرت فيه هذه الشروط وأخبرنا أنه قد حدث له من هذه الكشوفات ، فلا علينا لو قبلنا كلامه إذ لا مبرر لتكذيبه ، ولم يعرف عنه إلا الصدق ، ولعل الفارق بين العقل الخرافي العقل العلمي هو التثبت لا الإنكار دون مبرر ، فهذا نوع من المرض العقلي يشبه المرض الآخر .

    الملاحظة الخامسة : إن هناك ظواهر غيبية كثيرة تحتاج إلى تحليل ووضع لها في محلها الصحيح :

    1- ظاهرة الأحلام .
    2- ظاهرة التنويم المغناطيسي .
    3- ظاهرة تحضير الأرواح .
    4- ظاهرة الاتصال بعالم الجن .
    5- ظاهرة التلبائي .

    هذه الظواهر وكل منها يدعم قضية الإيمان بعالم الغيب من زاوية من الزوايا ، بصرف النظر عن تعليل هذه الظواهر ، إلا أنها جميعاً تشير إلى قضية واحدة هي وجود عالم غيبي كما أخبر الرسل ، تمثل هذه الظواهر جزءاً منه .

    فانكشاف شيء من المستقبل البعيد للإنسان وهو في حالة النوم , ووقوعه في كثير من الأحيان حرفياً دون أن يكون في بعض الحالات تفكير مسبق عنه ، دليل على وجود علم محيط بالمستقبل ، هو غيب بالنسبة لنا .

    وظاهرة التنويم المغناطيسي تدل بشكل لا يقبل الجدل ، على وجود الروح وعلى أن لها قوانينها وعالمها الخاص ، فالإنسان في حالة النوم المغناطيسي ، تكون حواسه كلها معطرة ، وحتى الأفعال الانعكاسية تكون في حالة شلل تام ، حتى لو وخزت النائم بإبرة فإنه لا يظهر عليه أي شعور ، ومع ذلك فإنك تسأله عن أشياء بعيدة عنه ، فيحدثك عنها وكأنها لا يراها وهو لا يعرفها في حالة اليقظة ، ولا يستطيع لو كان مستيقظاً أن يجيب على أي سؤال مما أجاب عليه وهو نائم ، فإذا استيقظ من هذا النوع من النوم فإنه لا يتذكر شيئاً مما سئل عنه وأجاب . وهذه نقول عجيبة سجلت في حالات التنويم المغناطيسي :

    نقل " بيو " في كتابه : " المخاطبات على التنويم المغناطيسي " هذه المحاورة بين منوَّم ومنوَّمة كما نقلها " شارول " قالت المنوَّمة : هل تسمع ما يأمرني به ؟ فقال الدكتور : من هو الذي يأمرك ؟ فقالت هي : ألست تسمعه ؟ فقال : كلا لم أسمع شيئاً ولم أر أحداً . فقالت : حقيقة لأنك نائم وأنا يقظى . فقال لها الدكتور : كيف ذلك أتدّعين أني نائم وأنت يقظى ، مع أنك تحت تأثير إرادتي في الحالة المغناطيسية ، إنك تتوهمين أنك يقظى لكونك تكلميني ، وإنك متمتع بنوع من الإرادة ، ولكنك في الحقيقة لا تستطيعين أن تفتحي جفنيك . فقالت : إني أكرر لك القول بأنك أنت النائم وأنا بالعكس اليقظى تماماً على مثل الحالة التي سنكون عليها جميعاً في يوم ما لأفسر لك ذلك . إن كل الذي تستطيع أن تراه أنت ليس إلا أشكالاً غليظة مادية ، فلا يمكن أن تميز إلا أشكالها الظاهرة ، ولكن جمالها الحقيقي محجوب عنك تماماً ، أما أنا في حالة وقوف وظائفي أعضائي الآن وفي حالة حرية روحي من علائقها الاعتيادية ، فإني أرى ما هو مستور عنك وأسمع ما لا يمكنك سماعه ، وأفهم كل ما هو غير مفهوم لديك. إلى أن قالت : وإني بمجرد الإرادة أستطيع أن أسمع الأصوات البعيدة عني ولو كان بيني وبينها مائة فرسخ . وبالاختصار فإني لا أحتاج أن تأتي الأشياء إليّ أنا بل أذهب إليها حيثما كانت ، وأحكم على حقيقتها بطريقة أضبط مما يحكم بها عليها أي إنسان آخر لا يكون في الحالة التي أنا عليها .

    ونقل " أكزاكوف " في كتابه : " المذهب الروحي وفن استحضار الأرواح " ما يلي :

    " إن زوجة الإنجليزي الشهير " دومرجان " معتادة على تنويم امرأة وجعل روحها تخرج من جسدها وتذهب إلى المحل الذي تعينه لها ، فقالت لها يوماً وهي تحت تأثير النوم المغناطيسي : إذهبي إلى منزلي القديم فقالت المنوَّمة : قد فعلت وطرقت الباب بشدة ، قالت زوجة دومرجان : فذهبت في اليوم التالي لأتأكد من صدقها ، وسألت عما حصل في تلك اللحظة فأجابني السكان بأنهم سمعوا طرقاً شديداً على الباب ، فذهبوا إليه فلم يجدوا أحداً فعلموا أن ذلك فعل الأشقياء من الأطفال .

    وينقل أكزاكوف كذلك حادثة أخرى لها علاقة بظاهرة تحضير الأرواح ، هي أنه كان يحضر روحاً مع ثلة من إخوانه ، وكانت الواسطة امرأة شهيرة هي مدام " دسبرانس " فشاهد أن الروح تجسدت من نصفها الأعلى وأن الواسطة التي هي المرأة قد فقدت أطرافها السفلى تماماً . وقد فحصوا ذلك بأيديهم وأعينهم وهم في غاية الدهشة ، فلم يجدوا لأطرافها أثراً ثم لما ذهبت الروح عادت إليها أطرافها ، وقد شاهد مثل هذه الحادثة التي فيها يفنى جسد الواسطة كله أو بعضه علماء آخرون " .

    وظاهرة تحضير الأرواح كظاهرة التنويم المغناطيسي أصبحت منتشرة في كل مكان في العالم ، وهي تدل بمجملها على وجود عالم الغيب ، إذ الأرواح التي تحضر قسم منها يذكر أنه أرواح بشر ، وأخرى تذكر أنها أرواح جن ، وهي كما رأيت في بعض مظاهرها أن بعض الأجسام لا ترى مع وجودها إذا كانت في حالة روحية معينة .

    وأما ظاهرة التلبائي وهي الظاهرة التي تحدث لبعض الناس ، إذ يشاهدون حوادث بعيدة جداً بشكل خارق ، فهي كذلك تدل على أن في الإنسان شيئاً غير الجسد ، وأما ظاهرة الاتصال بالجن وهي ظاهرة موجودة بشكل واضح في بعض المناطق ولها خصائصها الغريبة. فهي تؤكد بشكل ما وجود عالم الجن والشياطين الذي أخبر عنه الرسل . هذه الظواهر كلها تشير وتؤكد أن هناك عالم غيب ، ولكن هذه الظواهر كلها لا يصح أن تكون وسيلة من وسائل المعرفة وطريقاً من طرق الهداية ، إذ ما من واحدة منها فيها ضمانة على أنها طريق سليم للمعرفة ، إذ يختلط بها الكذب بالصدق ، والحق بالباطل ، وروح الشيطان بروح الإنسان ، وليست هناك مسؤولية محددة ، كما أن للدجل في كثير من أحوالها نصيباً . لذلك يبقى أمام الإنسان طريق وحيد مأمون لمعرفة عالم الغيب ، هو طريق الرسول المؤيد بالمعجزة من عالم الغيب ، وهي شهادة ضمان كاملة على الحق ، عدا عن كون البلاغ يأتينا عن مصدر ثقة مسؤول مشاهد لنا معروف ، مادام الرسول وحده هو المصدر الوحيد للمعرفة في موضوع عالم الغيب ، فينبغي أن يعرض استخدام هذه القضايا على هديه ، ليعرف حكم الجواز أو عدمه . كما ينبغي أن يعرض ما يأتينا منها على هديه ليعرف وجه الحق فيه ، ولا يصح أبداً أن نعتبر أمثال هذه الطرق وسيلة من وسائل المعرفة الجازمة أو طريقاً من طرق الهداية المستقلة .

    الملاحظة السادسة : إن سبب التزامنا الكامل بقول الرسول صلى الله عليه وسلم كمقياس وحيد للحق ، وهو أنه وحده الذي كلفنا الله – عز وجل – باتباعه وتصديقه ، وألزمنا ذلك وأقام علينا الحجة فيه بالعلامات الكثيرة التي جعلها مؤيدة له ، وشاهد صدق على رسالته ، فكان هذا ضماناً لنا بأنه على الحق والصدق اللَّذَيْن لا شبهة فيهما ، لأن الله وحده هو المحيط علماً بكل شيء ، والمنزه عن كل خطأ ، وهذا رسوله صلى الله عليه وسلم الذي ينطق بأمره ووحيه ، فهو كذلك منه عن الخطأ والباطل برعاية الله وتعليمه ، وهذه شهادة الواقع تثبت أن الحق كل الحق في كل كلمة قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    ذكرنا هذه الملاحظات الستة في معرض الحديث عن صفة الصدق عند رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الذي يصرف بعض الناس عن الإيمان شبهة لها علاقة بواحدة من هذه الملاحظات ، كمثل ذلك الذي يستبعد وجود عالم غيبي ، أو كذلك الذي أشكل عليه نص ، إما لأن النص غير صحيح النسبة لرسول الله . أو لعدم حمل الحديث على المعنى المراد . أو لقصور الاطلاع وهكذا ...

    وعلى كل فإن كل ما كتبناه هنا عن صفة الصدق لرسول الله هو مقدمة البرهان عليها . وإلا فإن هذا البحث بأبوابه الخمسة برهان عليها وتأكيد لمضمونها بالشكل الذي يثلج القلب بإذن الله ببرد اليقين .

    والآن ننتقل لاستعراض الصفة الأساسية الثانية للرسل وحظه الأكمل منها عليه الصلاة والسلام .

    * * *
    التعديل الأخير تم 02-11-2006 الساعة 07:47 AM

  4. افتراضي

    2 – التزامه الكامل صلى الله عليه وسلم بتطبيق ما يدعو إليه

    شهدت البشرية في تاريخها الطويل انفصالاً بين المثل والواقع ، بين المقال والفعال ، بين الدعوى والحقيقة ، وكان دائماً المثال والمقال والدعوى ، أكبر من الواقع والفعال والحقيقة ، وهذا شيء يعرفه من له أدنى معرفة بالتاريخ والحياة ، غير أن هذه الظاهرة تكاد تكون مفقودة في واقع أتباع الرسل المخلصين ، فمن باب أولى أن تكون مفقودة في حياة الرسل الذين تجد واقعهم أعظم من كل تصور نظري ، فهم وحدهم الذين دعوا الإنسانية إلى أعظم قمم السمو ، ومثلوا هم بسلوكهم العملي هذه الذروة بشكل رائع مدهش عجيب ، وهذا بحد ذاته من أدلة صدقهم . إذ الالتزام بالسمو لا تطيقه النفس البشرية عادة ما لم تتهذب هذه النفس بدافع الخضوع لأمر الله بعد الإيمان به ، ومعرفة أمره ، ويستطيع الإنسان أن يعرف هذا بالتجربة ، إذا شاهد أحوال الكافرين ، فمثلاً قد يحاول كافر أن يقلد مسلماً في صلاته متظاهراً بالإيمان ، فإذا ما راقبت مثل هذا وجدته عملياً لا يبقى على حالة واحدة من التطبيق ، كما أن تطبيقه يكون بسيطاً جداً ، ثمّ هو إن كان بحيث لا يراه الناس فإنه لا يفعل شيئاً أصلاً ، فعندما ترى الرسل في عبادتهم العجيبة الكثيرة لله ، مع قيامهم بأمر الله كما كلفهم على ما في ذلك من مشقة أو جهد ، دون تكلف بل بكامل الرضا والسعادة ، فذلك لا شك دليل صدق لا يدحض .

    ولما كان الكلام هنا خاصاً عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وظهور هذا في حياته العملية على أعلى ما يخطر بقلب بشر ، رأينا أن نختار بعضاً من الأوامر والنواهي القرآنية التي وجهها الله لرسوله في قضايا متعددة ، لنرى كيف كان قيام رسول الله بها دليلاً كاملاً على أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحرصنا على أن تكون الأوامر التي ندرسها مختلفة الجوانب لنرى كيف كان يقيم رسول الله صلى الله عليه وسلم كل أمْر أُمِرَ به بشكل كامل . بحيث لا يكون تنفيذه لأمر مضيعاً لأمر آخر ، كما نرى عند بعض الناس ، إذ نراهم مقبلين على تنفيذ أمر الله في العبادة مثلاً ، مفرطين في بقية أوامر الله وتكاليفه ، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم بكل أمر بما لا يسبق إليه ، مع إحاطته وعدم تفريطه بأي جانب من جوانب الإسلام الذي كلف به ، وأمر أن يدعو إليه ، حتى إنّ الدارس المنصف لحياته في هذا الجانب لا يتمالك إلا أن يشهد أنه رسول الله حقاً . يقول الجلندي ملك عُمان لما بلغه أن رسول الله يدعوه إلى الإسلام : ( والله لقد دلني على هذا النبي الأمي : أنه لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به ، ولا ينهى عن شر إلا كان أول تارك له ، وإنه يغلب فلا يبطر ويُغْلَبٌ فلا يضجر ، ويفي بالعهد وينجز الموعود ، وأشهد أنه نبي ) .

    والتكاليف التي اخترناها لرؤية تطبيقه العملي لها هي ما يلي :

    أ‌- قوله تعالى : {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ} .
    ب‌- قوله تعالى : {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} . {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} .
    ج- قوله تعالى : {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} .
    د- قوله تعالى : {ياأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} .
    هـ- قوله تعالى : {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} . {كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} .

    فلنر نماذج من تطبيقه لكل أمرٍ من الأوامر الآنفة الذكر ، مع ملاحظة أن كل أمر من أوامر الله له كان يقوم به على مثل هذا ، بحيث لا تجد أمراً من أوامر الله إلا وله من تنفيذه أعلى حظ يتصوره بشر ، لأنه أعظم إنسان مثّل العبودية لله على الأرض .

    أ – نماذج من تنفيذه للأمر الأول {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ} :

    أخرج الشيخان عن عائشة قالت : " كان النبي يقوم من الليل ( أي مصلياً لله ) حتى تتفطر قدماه ، فقلت له : لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال : أفلا أكون عبداً شكورا ؟! " .

    وذكر المغيرة عن رسول صلى الله عليه وسلم مثل هذا .

    وأخرج البخاري عن عائشة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي إحدى عشرة ركعة ( أي في الليل ) يسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه ، ويركع ركعتين قبل صلاة الفجر ، ثم يضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المنادي للصلاة " .

    وأخرج الشيخان عن ابن مسعود قال : " صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فلم يزل قائماً حتى هممت بأمر سوء ، قيل : ما هممت ؟ قال : هممت أن أجلس وأدعه " .

    وأخرج مسلم عن حذيفة قال : " صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة ، فقلت : يركع عند المائة ، ثم مضى ، فقلت : يصلي بها ركعة ( أي بالبقرة ) فمضى فقلت : يركع بها ، ثم افتتح النساء فقرأها ، ثم افتتح آل عمران فقرأها ( وهذه السور تعدل سدس القرآن ) يقرأ مسترسلاً إذا مر بآية فيها تسبيح سبّح ، وإذا مر بتعوذ تعوّذ ، ثم ركع فجعل يقول : سبحان ربي العظيم ، فكان ركوعه نحواً من قيامه ، ثم قال : سمع الله لمن حمده ، ربنا لك الحمد ثم قام طويلاً قريباً مما ركع ، ثم سجد فقال : سبحان ربي الأعلى ، فكان سجوده قريباً من قيامه".

    وروى مسلم عن عائشة قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فاتته الصلاة ( أي قيام الليل ) من وجع أو غيره صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة " .

    وأخرج مالك والترمذي وأبو داود عن عائشة قالت : " فقدته صلى الله عليه وسلم من الفراش فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو ساجد يقول : اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك ، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " .

    وأخرج البخاري عن أنس قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر من الشهر حتى نظن أن لا يصوم منه ، ويصوم حتى نظن أن لا يفطر منه شيئاً ، وكان لا تشاء أن تراه من الليل مصلياً إلا رأيته ولا نائماً إلا رأيته " .

    وروى الترمذي عن عائشة قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحرى صوم الاثنين والخميس " .

    وروى النسائي عن ابن عباس قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفطر البيض في حضر ولا سفر " .

    وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان " .

    وروى البخاري ومسلم عن عائشة قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا الليل كله ، وأيقظ أهله ، وجدَّ وشدَّ المئزر " .

    وروى البخاري ومسلم عن عائشة قالت : " لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم من شهر أكثر من شعبان ، فإنه كان يصوم شعبان كله وفي رواية : كان يصوم شعبان إلا قليلاً " .

    وعن ابن مسعود قال : " قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقرأ عَلَيَّ القرآن . فقلت : أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ فقال : إني أحب أن أسمعه من غيري . فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت هذه الآية : {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاءِ شَهِيداً} فقال : حسبك فالتفتُّ فإذا عيناه تذرفان " ( أي يبكي ) رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود ومالك .

    وروى مسلم عن عائشة قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه " .
    وروى أبو داود والترمذي بإسناد حسن صحيح عن ابن عمر قال : كنا نعدل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة : رب اغفر لي وتب عَلَيَّ إنك أنت التواب الرحيم " .

    وروى مسلم عن الأغر المزني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنه ليران على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة " .

    وقال الحسن بن علي : " سألت أبي عن دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أي إلى بيته ) فقال : كان دخوله لنفسه مأذوناً له في ذلك ، وكان إذا أوى إلى منزله جزأ دخوله ثلاثة أجزاء جزءاً لله وجزءاً لأهله وجزءاً لنفسه ، ثم جزَّأ جزأه بينه وبين الناس فرد ذلك على العامة بالخاصة " أخرجه الطبراني في الكبير .

    وهذه نماذج متممة من مناجاته لله وذكره له في بعض أحواله :

    عن جويرية – زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح . وهي في مسجدها ، ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة ، فقال : ما زلت على الحال التي فارقتك عليها قالت : نعم ، قال : لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن : " سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته " .

    عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر للصلاة سكت هنيهة قبل أن يقرأ ، فقلت : يا رسول الله ! بأبي أنت وأمي ، سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول ؟ قال : أقول " اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس . اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد " أخرجه الخمسة إلا الترمذي وهذا لفظ الشيخين .

    زاد أبو داو والنسائي في أوله : " اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب " .

    وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في سجوده : اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله ، أوله وآخره ، سره وعلانيته " .

    وعن عائشة – رضي الله عنها – قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي ، يتأول القرآن " (أي يطبق ما جاء في القرآن من أمر الله ) .

    وفي أخرى لمسلم وأبي داود والنسائي : كان يقول في ركوعه وسجوده " سبوح قدوس رب الملائكة والروح " .

    وعن جابر – رضي الله عنه – قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ركع قال : اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت وعليك توكلت أنت ربي خشع سمعي وبصري ولحمي ودمي وعظامي لله رب العالمين " . أخرجه النسائي .

    وعن ابن أبي أوفى – رضي الله عنه – قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع ظهره من الركوع قال : سمع الله لمن حمده ، اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد " أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي .

    وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بين السجدتين : اللهم اغفر لي وارحمني واجبرني واهدني وارزقني " أخرجه أبو داو والترمذي واللفظ له .

    وعن علي – رضي الله عنه – قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد قال : اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت ، سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره ، تبارك الله أحسن الخالقين ثم يكون آخر ما يقول بين التشهد والتسليم : اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت ، وما أسرفت وما أنت أعلم به مني ، أنت المقدم وأنت المؤخر ، لا إله إلا أنت " .

    وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بعد التشهد : اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ، وأعوذ بك من عذاب القبر ، وأعوذ بك من فتنة الدجال ، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات " .

    وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة حين فرغ من صلاته يقول : اللهم إني أسألك رحمة من عندك تهدي بها قلبي وتجمع بها أمري ، وتلم بها شعثي وترد بها غائبي ، وترفع بها شاهدي ، وتزكي بها عملي ، وتلهمني بها رشدي ، وترد بها ألفتي ، وتعصمني بها من كل سوء . اللهم أعطني إيماناً ويقيناً ليس بعده كفر ، ورحمة أنال بها شرف كرامتك لي في الدنيا والآخرة . اللهم إني أنزل بك حاجتي ، وإن قصر رأيي وضعف عملي وافتقرت إلى رحمتك ، فأسألك يا قاضي الأمور ، ويا شافي الصدور كما تجبر بين البحور أن تجيرني من عذاب السعير ، ومن دعوة الثبور ، ومن فتنة القبور . اللهم ما قصر عنه رأيي ، ولم تبلغه مسألتي ولم تبلغه نيتي من خير وعدته أحداً من خلقك أو خيرٍ أنت معطيه أحداً من عبادك ، فإني راغب إليك فيه وأسألك برحمتك يا رب العالمين .

    اللهم يا ذا الحبل الشديد والأمر الرشيد أسألك الأمن يوم الوعيد ، والجنة يوم الخلود مع المقربين الشهود ، الركع السجود ، الموفين بالعهود ، إنك رحيم ودود ، وإنك تفعل ما تريد . اللهم اجعلنا هادين مهتدين غير ضالين ولا مضلين ، سلماً لأوليائك حرباً لأعدائك ، نحب من أحبك ، ونعادي بعداوتك من خالفك . اللهم هذا الدعاء وعليك الإجابة وهذا الجهد وعليك التكلان . اللهم اعل نوراً في قلبي ، ونوراً في قبري ، ونوراً من بين يدي ، ونوراً من خلفي ، ونوراً عن يميني ، ونوراً عن شمالي ، ونوراً من فوقي ، ونوراً من تحتي ، ونوراً في سمعي ، ونوراً في بصري ، ونوراً في شعري ، ونوراً في بشري ، ونوراً في لحمي ، ونوراً في دمي ، ونوراً في مخي ، ونوراً في عظامي ، اللهم أعظم لي نوراً ، وأعطني نوراً ، واجعل لي نوراً ، سبحان الذي تعطف العز وقال به ، سبحان الذي لبس المجد وتكرم به ، سبحان الذي لا ينبغي التسبيح إلا له ، سبحان ذي الفضل والنعم ، سبحان ذي المجد والكرم ، سبحان ذي الجلال والإكرام " .

    وعن ثوبان – رضي الله عنه – قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم يستغفر ثلاثاً ويقول : " اللهم أنت السلام ومنك السلام ، تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام " .

    عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد قال : اللهم ربنا لك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد أنت مالك السماوات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد ، أنت الحق ، ووعدك الحق ، ولقاؤك حق ، وقولك الحق ، والجنة حق ، والنار حق ، والنبيون حق ، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق ، والساعة حق ، اللهم لك أسلمت وبك آمنت ، وعليك توكلت ، وإليك أنبت ، وبك خاصمت ، وإليك حاكمت ، فاغفر لي ما قدمت ، وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت ، وما أنت أعلم به مني ، أنت المقدم ، وأنت المؤخر ، لا إله إلا أنت " .

    عن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا أمسى : أمسينا وأمسى الملك لله والحمد لله . لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير . رب أسألك خير ما في هذه الليلة وخير ما بعدها ، وأعوذ بك من شر هذه الليلة وشر ما بعدها . رب أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر . رب أعوذ بك من عذاب في النار ، وعذاب في القبر . وإذا أصبح قال ذلك : أصبحنا وأصبح الملك لله والحمد لله .. " .

    عن أنس – رضي الله عنه – قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه قال : الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا ، وكفانا وآوانا فكم من لا كافي له ولا مؤوي " .

    وعن عائشة – رضي الله عنها – قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخذ مضجعه نفث في يديه وقرأ المعوذتين ، وقل هو الله أحد ، ويمسح بهما وجهه وجسده ، يفعل ذلك ثلاث مرات فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به " .

    وعن عائشة – رضي الله عنها – قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ من الليل قال : لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك ، أستغفرك لذنبي وأسألك رحمتك ، اللهم زدني علماً . ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب " .

    وعن علي – رضي الله عنه – قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند مضجعه : اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم وبكلماتك التامات من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها . اللهم أنت تكشف المغرم والمأثم ، اللهم لا يهزم جندك ، ولا يخلف وعدك ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد . سبحانك اللهم وبحمدك " .

    عن أم سلمة – رضي الله عنها – قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من بيته قال : بسم الله توكلت على الله . اللهم إنا نعوذ بك من أن نزل أو نضل ، أو نظلم أو نظلم ، أو نجهل أو يجهل علينا " .

    وعن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال : " قلَّما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلسه حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه : اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصي ، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ، ولا تجعل الدنيا أكثر همنا ، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا " .

    وعن مالك : " أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وضع رجله في الغرز وهو يريد السفر يقول : بسم الله اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل ، اللهم ازو لنا الأرض وهون علينا السفر ، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب ومن سوء المنظر في المال والأهل " .


    وعن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قفل من السفر يكبر على كل شرف من الأرض ثلاث مرات ، ثم يقول : لا إله غلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، آيبون تائبون ، عابدون ساجدون ، لربنا حامدون . صدق الله وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده " .

    وعن عبد الله الخطمي – رضي الله عنه – قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ودّع أحداً قال : أستودع الله دينكم وأمانتكم ، وخواتيم أعمالكم " .

    وله في أخرى عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال : " أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم أعمالك " .

    وعن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقبل الليل عليه في السفر قال : يا أرض ربي وربك الله ، أعوذ بالله من شرك وشر ما خلق فيك وشر ما يدب عليك ، أعوذ بالله من أسد وأسود ، ومن الحية والعقرب ، ومن ساكن البلد ، ووالد وما ولد " .

    وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند الكرب : لا إله إلا الله العظيم الحليم ، لا إله إلا الله رب العرش العظيم ، لا إله إلا الله رب السماوات والأرض ورب العرش الكريم " . وعن أنس – رضي الله عنه – قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كربه أمر يقول : يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث . وقال : ألظوا بياذا الجلال والإكرام " .

    عن الخدري – رضي الله عنه – قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استجد ثوباً قال : اللهم لك الحمد أنت كسوتني هذا ويسميه ، أسألك خيره وخير ما صنع له وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له " .

    وعن أبي سعيد – رضي الله عنه – قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أكل أو شرب قال : الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين " .

    وعن أنس – رضي الله عنه – قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء لقضاء الحاجة يقول : اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث " .

    وعن عائشة – رضي الله عنها – قالت : " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال : غفرانك " .

    عن فاطمة بنت الحسين بن علي ، عن جدتها فاطمة الكبرى – رضي الله عنها – قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد صلى الله عليه وسلم وقال : رب اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك ، وإذا خرج صلى على محمد صلى الله عليه وسلم وقال : رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك " .

    عن طلحة بن عبيد الله – رضي الله عنه – قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى الهلال قال : اللهم أهله علينا باليمن والإيمان ، والسلامة والإسلام ، ربي وربك الله " .

    وعن قتادة – رضي الله عنه – قال : " أنه بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال قال : هلال خير ورشد ثلاث مرات ، آمنت بالذي خلقك ثلاث مرات ، ثم يقول : الحمد لله الذي ذهب بشهر كذا وجاء بشهر كذا " .

    عن ابن عمر – رضي الله عنه – قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع الرعد والصواعق قال : اللهم لا تقتلنا بغضبك ، ولا تهلكنا بعذابك ، وعافنا قبل ذلك " .

    وعن عائشة – رضي الله عنها – قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال : اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به ، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به " .

    عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه : اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري ، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي ، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي ، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير ، واجعل الموت راحةً لي من كل شر " .

    وعن أنس – رضي الله عنه – قال : " كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم اللهم آتنا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار " .

    عن أنس – رضي الله عنه – قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والهرم والبخل ، وأعوذ بك من عذاب القبر ، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات " .

    وعن أنس أيضاً – رضي الله عنه ، قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : اللهم إني أعوذ بك من الجذام والبرص والجنون ومن سيء الأسقام " .

    وعن ابن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع ، ومن دعاء لا يسمع ، ومن نفس لا تشبع ، ومن علم لا ينفع ، أعوذ بك من هؤلاء الأربع " .

    وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – رفعه : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : اللهم إني أعوذ بك من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق " .

    وعن عائشة – رضي الله عنها – قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول قبل موته : سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه ، فقلت له في ذلك ، فقال : أخبرني ربي أني سأرى علامة في أمتي ، فإذا رأيتها أكثرت من قول : سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه . فقد رأيتها : {إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابَا} " .

    * * * * *

    هذه نماذج من عبادته صلى الله عليه وسلم لله شكراً ، وهذا كله ولم نذكر إقامته للصلوات الخمس ولا لرواتبها ، ولم نتعرض لكل ما اثر عنه من عبادة لله جل جلاله ، فهل بلغ أحد في عبادة الله وشكره ما بلغه رسول الله ؟ وهل يستطيع أحد أن يتصور أن هذا ممكن الوقوع والحصول بهذا الكمال والجلال ، وبهذه الكثرة والسعة وبهذا الانسجام التوافق ، مع هذه المعرفة العظيمة لله وكمالاته . لولا أن محمداً رسول الله يقوم بأمره كأعظم ما يقوم به أحد ؟

    * * * * *

    ب – نماذج من تنفيذه لأمر الله في المثال الثاني : {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} ، ولنهي الله {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} .

    روى البخاري ومسلم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة " .

    وروى البخاري عن أبي ذر – رضي الله عنه – قال : " كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرة المدينة فاستقبلنا أحد فقال : يا أبا ذر ! قلت : لبيك يا رسول الله . قال : ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهباً تمضي علي ثالثةٌ وعندي منه دينارٌ – إلا شيئاً أرصُدُه لدَيْنٍ – إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا ؛ عن يمينه وعن شماله ومن خلفه " .

    وروى مسلم عن النعمان بن بشير – رضي الله عنه – قال : " ذكر عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – ما أصاب الناس من الدنيا فقال : لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يلتوي ما يجد من الدقل ما يملأ به بطنه " الدقل : رديء التمر .

    وروى البخاري ومسلم عن عائشة – رضي الله عنها – قالت : " توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في بيتي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رفّ لي " .

    وروى البخاري عن عمر بن الحارث أخي جويرية بنت الحارس أم المؤمنين – رضي الله عنهما – قال : " ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته ديناراً ولا درهماً ولا عبداً ولا أمة ولا شيئاً إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها وسلاحه وأرضاً جعلها لابن السبيل صدقة " .

    وروى ابن جابر عن جابر – رضي الله عنه - : " أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فأعطاه ، ثم أتاه آخر فسأله فوعده ، فقام عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – فقال : يا رسول الله ! سئلت فأعطيت ، ثم سئلت فأعطيت ، ثم سئلت فوعدت ، فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كرهها ، فقام عبد الله بن حذافة السهمي – رضي الله عنه – فقال : أنفق يا رسول الله ولا تخش من ذي العرش إقلالاً ، فقال : بذلك أمرت " كذا في الكنز ج 3 ص 311 .

    وأخرج البزار بإسناد حسن والطبراني عن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال : " دخل النبي صلى الله عليه وسلم على بلال – رضي الله عنه – وعنده صبر من تمر فقال : ما هذا يا بلال ؟ قال : أعد ذلك لأضيافك قال : ما تخشى أن يكون لك دخان في نار جهنم ، أنفق يا بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالاً " . وأخرجه أبو نعيم في الحلية ج1 ص 149 عن عبد الله نحوه ، ورواه أبو يعلى والطبراني عن أبي هريرة – رضي الله عنه – بنحوه بإسناد حسن وكما في الترغيب ج 2 ص 174 .

    وأخرج أبو يعلى عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال : " أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم ثلاث طوائر فأطعم خادمه طائراً . فلما كان من الغد أتته بها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألم أنهك أن ترفعي شيئاً لغد ، فإن الله تعالى يأتي برزق كل غد " قال الهيثمي ج10 ص241 ورجاله ثقات .

    وأخرج الطبراني في الكبير – ورواته ثقات محتج بهم في الصحيح – عن سهل بن سعد – رضي الله عنه – قال : " كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة دنانير وضعها عند عائشة – رضي الله عنها – فلما كان في مرضه قال : يا عائشة ابعثي بالذهب على علي ، ثم أغمي عليه وشغل عائشة ما به حتى قال ذلك مراراً ، كل ذلك يغمى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويشغل عائشة – رضي الله عنها – ما به ، فبعث إلى علي فتصدق بها . وأمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديد الموت ليلة الاثنين فأرسلت عائشة – رضي الله عنها – بمصباح لها إلى امرأة من نسائها فقالت : أهدي لنا في مصباحنا السمن فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسى في حديد الموت " . ورواه ابن حبان في صحيحه من حديث عائشة بمعناه . كذا في الترغيب ج2 ص 178 .

    وعن أحمد عن عائشة – رضي الله عنها – قالت : " أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتصدق بذهب كان عنده في مرضه . قالت : فأفاق ، قال : ما فعلت ؟ قلت : شغلني ما رأيت منك . قال : فهلم بها . قال : فجاءت بها إليه سبعة أو تسعة – أبو حازم يشك – دنانير . فقال حين جاءت بها : ما ظن محمد لو لقي الله وهذه عنده وما تنفي هذه من محمد صلى الله عليه وسلم لو لقي الله هذه عنده " . قال الهيثمي ( ج10 ص240 ) : رواه أحمد بأسانيده ، ورجال أحدها رجال الصحيح.

    أخرج أحمد بإسناد صحيح عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال : " حدثني عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على حصير . قال : فجلست فإذا عليه إزاره وليس عليه غيره ، وإذا الحصير قد أثر في جنبه ، وإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع ، وقرظ في ناحية الغرفة ، وإذا إهاب معلق ، فابتدرت عيناي فقال : ما يبكي يا ابن الخطاب فقال : يا نبي الله ، ومالي لا أبكي وهذا الحصير قد أثر في جنبك وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى ، وذاك كسرى وقيصر في الثمار والأنهار وأنت نبي الله وصفوته وهذه خزانتك . قال : يا ابن الخطاب . أما ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا " . قرظ : ما يدبغ به . إهاب : جلد . ابتدرت : بكت .

    وعن عائشة – رضي الله عنها – قالت : " ما شبع آل محمد من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض " وفي رواية : " ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة من طعام ثلاث ليال تباعاً حتى قبض " متفق عليه .

    وعن عروة عن عائشة – رضي الله عنها – أنها كانت تقول : " والله يا ابن أختي إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال – ثلاثة أهلة في شهرين – وما أوقد في أبيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار . قلت : يا خالة فما كان يعيشكم ؟ قالت : الأسودان التمر والماء ، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار ، وكنت لهم منائح وكانوا يرسلون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانها فيسقيناه " متفق عليه . منائح : جمع منيحة وهي ناقة يعيرها صاحبها إنساناً ليشرب لبنها ويعيدها .

    وعن أنس – رضي الله عنه – قال : " لم يأكل النبي صلى الله عليه وسلم على خوان حتى مات ، وما أكل خبزاً مرققاً حتى مات " . أخرجه البخاري . الخوان : ما يؤكل عليه .

    وعن خالد بن عمر العدوي قال : " خطبنا عتبة بن غزوان وكان أميراً على البصرة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا ، فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك فاتزرت بنصفها ، واتزر سعد بنصفها فما أصبح اليوم منا أحد إلا أصبح أميراً على مصر من الأمصار ، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً وعند الله صغيراً " رواه مسلم .

    وعن جابر – رضي الله عنه – قال : " ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط فقال لا " متفق عليه .

    وعن أنس – رضي الله عنه – قال : " ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئاً إلا أعطاه ، ولقد جاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين فرجع إلى قومه فقال : يا قوم أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر ، وإن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يلبث إلا يسيراً حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها " رواه مسلم .

    وعن عمر – رضي الله عنه – قال : " قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً فقلت : يا رسول الله لغير هؤلاء كانوا أحق به منهم ؟ فقال : إنهم خيروني أن يسألوني بالفحش فأعطيهم أو يبخلوني ولست بباخل " . أخرجه مسلم .

    وعن جبير بن مطعم – رضي الله عنه – أنه قال : بينما هو يسير مع النبي صلى الله عليه وسلم مَقْفَلَهُ من حنين فعلقه الأعراب يسألونه حتى اضطروه إلى سمرة فخطفت رداءه فوقف النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " أعطوني ردائي فلو كان لي عدد هذه العضاة نعماً لقسمته بينكم ثم لا تجدوني بخيلاً ولا كذاباً ولا جباناً " . رواه البخاري . مقفله : حالة رجوعه . السمرة : شجرة ، والعضاه : شجر له شوك .

    وأخرج أحمد عن جابر – رضي الله عنه – قال : " أقبل أبو بكر – رضي الله عنه – يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس ببابه جلوس والنبي صلى الله عليه وسلم جالس فلم يؤذن له ثم أقبل عمر – رضي الله عنه فاستأذن فلم يؤذن له ، ثم أذن لأبي بكر وعمر فدخلا ، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس وحوله نساؤه وهو صلى الله عليه وسلم ساكت ، فقال عمر : لأكلمن النبي صلى الله عليه وسلم لعله يضحك . فقال عمر : يا رسول الله ! لو رأيت ابنة زيد امرأة عمر سألتني النفقة آنفاً فوجأت عنقها فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال : هن حولي يسألنني النفقة . فقام أبو بكر إلى عائشة ليضربها ، وقام عمر إلى حفصة ، كلاهما يقولان : تسألان النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده . فنهاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن : والله لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا المجلس ما ليس عنده . قال : وأنزل الله عز وجل الخيار فبدأ بعائشة فقال : إني أذكر لك أمراً ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك ، قالت : وما هو ؟ قال : فتلا عليها : {ياأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ} – الآية . قالت عائشة : أفيك أستأمر أبوي ؟ بل أختار الله ورسوله ، وأسألك أن لا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت . فقال صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى لم يبعثني معنفاً ولكن بعثني معلماً ميسراً ، لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها " . أخرجه مسلم والنسائي ، وعند ابن أبي حاتم عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال : " قالت عائشة : أنزلت آية التخيير فبدأ بي أول امرأة من نسائه فقال صلى الله عليه وسلم إني ذاكر لك أمراً فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك ، قالت : وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه . قالت ثم قال : إن الله تبارك وتعالى قال : {ياأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ} – الآيتين . قالت عائشة : فقلت : أفي هذا أستأمر أبوي ؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الاخرة . ثم خير نساءه كلهن فقلن مثل ما قالت عائشة " وأخرجه البخاري ومسلم عن عائشة مثله .

    * * * * *

    هذه الأمثلة على الزهد والإنفاق وتحمل خشونة الحياة والإقبال على الله طلباً لمرضاته ، وحرصاً على نيل ثوابه في اليوم الآخر ، وهي قليل من كثير ، تبين كيف قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر الله حق القيام بحيث لا يسبق ولا يلحق ، غذ لو رجعت إلى الأمرين اللذين ذكرنا الأمثلة على تطبيقهما . فإنك لا تستطيع أن تجد أبلغ من هذا في تنفيذ أمر الله وإنه لمجافاة لكل واقع بشري وتنكب عن كل حقائق النفس البشرية ، أن تتصور أن مثل هذا التطبيق والتنفيذ ، بهذا الشكل ، لمثل هذه الأوامر ، يمكن أن يكون ، لولا أن صاحبه رسول الله حقاً . صغرت لديه الدنيا بما فيها وهان لديه المال بكل أنواعه لمعرفته بأن الله أعظم من كل شيء ويهون في سبيله كل شيء .

    * * * * *

    ج- نماذج من تنفيذه صلى الله عليه وسلم للأمر الثالث : {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} :

    عاتب الله رسوله صلى الله عليه وسلم لأنه أتاه مرة مؤمن مسلم وهو يعرض دعوة الإسلام على زعيم من زعماء المشركين فلم يقبل على المسلم تقول عائشة : " أنزلت {عَبَسَ وَتَوَلَّىا} في ابن أم مكتوم الأعمى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول : يا رسول الله أرشدني وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعْرِضُ عنه ويقبل على الآخر ويقول : أترى بما أقول بأساً ؟ فيقول : لا . ففي هذا أنزلت " أخرجه مالك والترمذي .

    وآيات العتاب هي : {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَآءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى * ... } .

    فكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا العتاب وبعد ذلك الأمر في علاقته بالمؤمنين عوامهم وخواصهم ؟

    أخرج أبو نعيم في الدلائل عن أنس – رضي الله عنه – قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشد الناس لطفاً ، والله ! ما كان يمتنع في غداة باردة من عبد ولا من أمة ولا صبي أن يأتيه بالماء فيغسل وجهه وذراعيه ، وما سأله سائل قط إلا أصغى إليه أذنه ، فلم ينصرف حتى يكون هو الذي ينصرف عنه ، وما تناول أحد بيده إلا ناوله إياها فلم ينزع حتى يكون هو الذي ينزعها منه " .

    وعند يعقوب بن سفيان – عن أنس رضي الله عنه – قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صافح الرجل لا ينزع يده ، وإن استقبل بوجه لا يصرفه عنه ، حتى يكون الرجل ينصرف عنه , ولا يرى مقدماً ركبتيه بين يدي جليس له " . ورواه الترمذي وابن ماجه ، كما في البداية ج 6 ص 39 .

    وعند أبي داود عنه قال : " ما رأيت رجلاً قط التقم أذن النبي صلى الله عليه وسلم فينحي رأسه حتى يكون الرجل هو الذي ينحي رأسه ، وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذاً بيده رجل فترك يده حتى يكون الرجل هو الذي يدع يده " .

    تفرد به أبو داو كذا في البداية ح 6 ص 39 .

    وأخرج البزار عن أبي هريرة – رضي الله عنه – " أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستعينه في شيء – قال عكرمة رضي الله عنه : أراه قال في دم -: فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً ثم قال : أحسنت إليك ، قال الأعرابي : لا ولا أجملت ، فغضب بعض المسلمين وهموا أن يقوموا إليه ، فأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم أن كفوا ، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغ منزله دعا الأعرابي إلى البيت فقال : إنما جئتنا تسألنا فأعطيناك فقلت ما قلت ، فزاده رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً وقال : أحسنت إليك ، فقال الأعرابي : نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً ! قال النبي صلى الله عليه وسلم إنك جئتنا فسألتنا فأعطيناك فقلت ما قلت ، وفي نفس أصحابي عليك من ذلك شيء ، فإذا جئت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب عن صدورهم ! فقال : نعم ، فلما جاء الأعرابي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن صاحبكم كان جاءنا فسألنا فأعطيناه فقال ما قال وإنا قد دعوناه فأعطيناه فزعم أنه قد رضي ، كذا يا أعرابي ، فقال الأعرابي : نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن مثلي ومثل هذا الأعرابي ، كمثل رجل كانت له ناقة فشردت عليه فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفوراً ، فقال لهم صاحب الناقة : خلوا بيني وبين ناقتي فأنا أرفق بها وأنا أعلم بها ! فتوجه بها وأخذ من قشام الأرض وودعاها حتى جاءت واستجاب وشد عليها رحلها ، وإني لو أطعتكم حيث قال ، ما قال لدخل النار " .

    وأخرج الطبراني عن أبي غالب قال : " قلت لأبي أمامة – رضي الله عنه – حدثنا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ، يكثر الذكر ، ويقصر الخطبة ويطيل الصلاة ، ولا يأنف ولا يستكبر أن يذهب مع المسكين والضعيف حتى يفرغ من حاجته " . وإسناده حسن ، كما قال الهيمثي في (ج9 ص20 ) وأخرجه البيهقي والنسائي عن عبد الله بن أبي أوفى – رضي الله عنه – نحوه كما في البداية ج6 ص45 .

    وأخرج الترمذي في الشمائل ( ص 25 ) عن عمرو بن العاص – رضي الله عنه – قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل بوجهه وحديثه على أشر القوم يتألفهم بذلك ، فكان يقبل بوجهه وحديثه عَلَيَّ حتى ظننت أني خير القوم فقلت : يا رسول الله ! أنا خير أو أبو بكر – رضي الله عنه - . فقال : أبو بكر . فقلت : يا رسول الله ! أنا خير أم عمر – رضي الله عنه – فقال : عمر . فقلت : أنا خير أم عثمان – رضي الله عنه – فقال : عثمان فلما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فصدقني فلوددت أني لم أكن سألته " . وأخرجه الطبراني عنه ونحوه ، وإسناده حسن كما قال الهيثمي ج9 ص15 وقال في الصحيح : بعضه بغير سياقه .

    وعند البزار والطبراني عن أبي هريرة – رضي الله عنه - : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن أحد يأخذ بيده فينزع يده حتى يكون الرجل هو الذي يرسله ، ولم يكن يرى ركبتيه أو ركبته خارجاً عن ركبة جليسه ، ولم يكن أحد يصافحه إلا أقبل عليه بوجهه ثم لم يصرفه عنه حتى يفرغ من كلامه " . وإسناد الطبراني حسن .

    وعند أحمد عن أنس – رضي الله عنه – قال : " إن كانت الوليدة من ولائد أهل المدينة لتجيء فتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فما نزع بمن يدها حتى تذهب به حيث شاءت " رواه ابن ماجه . وعند أحمد عنه قال : " إن كانت الأمة من أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به في حاجتها " . رواه البخاري في كتاب الأدب من صحيحه معلقاً كما في البداية ج6 ص 39 ، وروى مسلم في صحيحه ج2 ص256 عن أنس " أن امرأة كان في عقلها شيء فقالت : يا رسول الله إن لي إليك حاجة فقال : يا أم فلان انظري أي السكك شئت حتى أقضي لك حاجتك ! فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها " . وأخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة ص 57 عن أنس مثله .

    وأخرج مسلم (ج2 ص253) عن أنس – رضي الله عنه – قال : " لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أخذ أبو طلحة – رضي الله عنه – بيدي فانطلق بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! إن أنساً غلام كيس فليخدمك قال : فخدمته في السفر والحضر ، والله ما قال لي لشيء صنعته : لم صنعت هذا هكذا ولا لشيء لم أصنعه : لم لم تصنع هذا هكذا ؟ وعنده أيضاً عن أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقاً فأرسلني يوماً لحاجة فقلت : والله لا أذهب وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله صلى الله عليه وسلم فخرجت حتى أمر على الصبيان وهم يلعبون في السوق فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي من ورائي ! قال : فنظرت إليه وهو يضحك فقال : يا أنس اذهب حيث أمرتك ! قال : قلت نعم أنا أذهب يا رسول الله ! قال أنس : والله لقد خدمته تسع سنين ما علمته قال لشيء صنعته : لم فعلت كذا وكذا ؟ ولشيء تركته : هلا فعلت كذا وكذا وعنده أيضاً عنه قال : خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين ، والله ما قال لي أفاً قط ، ولا قال لي لشيء : لم فعلت كذا وهلا فعلت كذا ؟ " .

    وعند أبي نعيم في الدلائل صفحة 57 عن أنس – رضي الله عنه – قال : " خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم سنين فما سبني سبة قط ولا ضربني ضربة ولا انتهرني ولا عبس في وجهي ولا أمرني بأمر فتوانيت فيه فعاتبني عليه ، فإن عاتبني عليه أحد من أهله قال : دعوه ! فلو قدر شيء لكان " .

    وأخرج البزار عن جابر – رضي الله عنه – قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه الوحي أو وعظ قلت : نذير قوم أتاهم العذاب ، فإذا ذهب عنه ذلك رأيت أطلق الناس وجهاً وأكثرها ضحكاً وأحسنهم بشراً " . قال الهيثمي ج9 ص17 : إسناده حسن .

    وأخرج البيهقي وابن النجار عن عائشة – رضي الله عنها – قالت : " جاءت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها : من أنت ؟ قالت : جثامة المزنية قال : بل أنت حنانة المزنية ، كيف أنتم ، كيف حالكم ؟ كيف كنتم بعدنا ؟ قالت بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله . فلما خرجت قلت : يا رسول الله ! تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال ! فقال : يا عائشة ! هذه كانت تأتينا زمان خديجة وإن حسن العهد من الإيمان " .

    وأخرج البخاري في الأدب ص 188 عن أبي الطفيل – رضي الله عنه – قال : " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لحماً بالجعرانة وأنا يومئذ غلام أحمل عضو البعير فأتته امرأة فبسط لها ردائه . قلت من هذه ؟ قال : أمه التي أرضعته " .

    وروى الطبراني عن الحسن بن علي – رضي الله عنهما – وقد سأل أباه عن بعض صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان من سؤاله وجواب علي – رضي الله عنه – ما يلي :

    قال الحسن : وسألته عن مخرجه كيف كان يصنع فيه ؟ فقال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخزن لسانه إلا مما يعينهم ويؤلفهم ، ويكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم ، ويحذر الناس ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد منهم بشره ولا خلقه ، يتفقد أصحابه ، ويسأل الناس عما في الناس ، ويحسن الحسن ويقويه ، ويقبح القبيح ويوهيه ( يجعله ضعفياً واهياً بالمنع والزجر عنه ) معتدل الأمر غير مختلف لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يميلوا ، لكل حال عنده عتاد ، ولا يقصر عن الحق ولا يجوزه ، الذي يلونه من الناس خيارهم ، أفضلهم عنده أعمهم نصيحة ، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة " .

    قال : فسألته عن مجلسه كيف كان ؟ فقال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر ، ولا يوطن الأماكن وينهى عن إيطانها ، وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ويأمر بذلك ، يعطي كل جلسائه نصيبه ، ولا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه ، من جالسه أو قاومه في حاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه ، ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أو لميسور من القول . قد وسع الناس منه بسطه وخلقه فصار لهم أباً وصاروا له أبناء عنده في الحق سواء ، مجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة ، لا ترفع فيه الأصوات ، ولا تؤبن ( تعاب ) فيه الحرم ، ولا تثنى فلتاته ( أي لا تشاع زلاته وهفواته والمراد لا فلتات في مجلسه ) متعادلين يتفاضلون فيه بالتقوى ، متواضعين يوقرون فيه الكبير ويرحمون الصغير ، يؤثرون ذا الحاجة ، ويحفظون الغريب " .

    قال : فسألته عن سيرته في جلسائه فقال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم البشر ، سهل الخلق ، لين الجانب ، ليس بفظ ( أي سيء الخلق ) ، ولا غليظ ، ولا سخاب ، ولا فحاش ، ولا عياب ، ولا مزاح ، يتغافل عما لا يشتهي ، ولا يوئس منه راجيه ، ولا يخيب فيه ، وترك الناس من ثلاث : كان لا يذم أحداً ولا يعيره ، ولا يطلب عورته ، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه ، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير ، وإذا تكلم سكتوا وإذا سكت تكلموا ، لا يتنازعون عنده الحديث ، يضحك مما يضحكون منه ويتعجب مما يتعجبون منه ، ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته حتى إن كان أصحابه ليستحلبونه في المنطق ( وفي الكنز : ليستجلبونهم ) ، ويقول : إذا رأيتم صاحب حاجة فأرفدوه ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ ، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجوز ، فيقطعه بانتهاء أو قيام " .

    * * * * *

    هذه أمثلة من مواقفه صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين ، وتواضعه وخفض جناحه لهم ، ارجع بعد دراستها إلى الآية التي أمرته بذلك فهل تراه إلا قائماً بها حقاً ، وهل ترى إنساناً يبلغ عشر ما بلغه محمد صلى الله عليه وسلم من المجد ويبقى يعامل المستضعفين والكبار والصغار والرؤساء الأتباع هذه المعاملة على سواء ؟ وهل هذا وضع طبيعي للنفس البشرية لولا أن الله هذبها وكانت مؤمنة بالله فعلاً متصلة به حقيقة طائعة له طاعة فناء ؟ اللهم ما كان هذا ليكون لولا أن محمداً عبدك ورسولك .

    * * * * *

    د – نماذج من تنفيذه صلى الله عليه وسلم للأمر الرابع : {ياأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} :

    إن خلق الرحمة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدانيه فيه أحد من خلق الله . أخرج الشيخان عن أنس أن نبي الله قال : " إني لأدخل الصلاة وأنا أريد أن أطيلها ، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي مما أعلم من وجد أمه من بكائه " . ووسعت رحمته الناس حتى قال الله تعالى له : {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} وقد ظهرت هذه السجية على طبيعتها يوم فتح مكة ؛ إذ عفا عن أهلها بعد أن فعلوا فيه ما فعلوا . كما ظهرت على سجيتها بعد انتهاء غزوة بدر وأسر الأسرى ، ولم يكن نزل عليه من أمر الله في القضية شيء ، وإنما هو الاجتهاد الذي أذن فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه القضايا ، وكان أمام الرسول اقتراحان في شأن الأسرى : اقتراح أبي بكر واقتراح عمر ، وكان اقتراح أبي بكر أخذ الفداء وإطلاق السراح ، وكان اقتراح عمر القتل حتى يعلم الله أنه ليس في قلوب المسلمين رحمة بالكافرين ، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي أبي بكر لأنه أقرب لطبعه ، وهو الذي لاقى من قومه ما لاقى ، ثم إن الله عاتبه في هذه القضية على اللين ، وليس من إثم ولكن الله يريد أن يأخذ رسوله بالحزم فقال له : {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىا حَتَّىا يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} ثم نزلت أوامر الله تطالب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاد والشدة الغلظة على الكافرين ، فأصبحت ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الرحمة الكبيرة والصبر الطويل والتحمل الكثير والمسالمة الدائمة ؛ المقاتل الشديد والمنفذ الذي جعل طاعة الله فوق كل عواطفه ، بل حتى عواطفه هي تنفيذ لأمر الله , واستعراض بسيط لحياته الحربية عليه الصلاة والسلام يرينا أن هذا النوع من القتال الذي خاضه عليه الصلاة والسلام ما كان ليكون من صنع بشر ، لولا أن هذا الإنسان ينفذ أمر الله ، معتمداً عليه ، فإنه ما من مقدمة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم تشير إلى مثل هذه النتائج ، لولا أن المسألة ربانية الطريق بدءاً وختاماً ، أسلوباً وتنفيذاً . ربٌ يأمر وعبد رسول ينفذ .

    يؤمر ألا يخشى شيئاً فلا يخاف إلا الله ، ويؤمر بأن يتوكل على الله ويعتمد عليه وحده ، فيدخل أي معركة بما يتوفر له من قوة دون خوف من أي حشد يقابله ، ويؤمر بألا يكون في قلبه رحمة بالكافرين فيضربهم حتى يستأصلهم ، ويؤمر بمتابعة القتال فيقاتل ولما يسترح ، ويؤمر بالعمل المتواصل حتى يخضع أعداء الله فلا يكاد ينتهي من تهيئة غزوة إلا إلى غيرها ، ومن إخضاع منطقة إلا إلى منطقة أخرى . وهكذا حتى يضع أتباعه على الطريق لإخضاع العالم بعده لسلطان الله .

    كان عدد أصحابه يوم بدر ثلاث مائة وخمسة عشر رجلاً ، وعدد المشركين حوالي ثلاثة أضعاف تفوقهم بالعدة ، ويدخل الرسول صلى الله عليه وسلم المعركة وينتصر فيها ولا يعتمد إلا على الله.

    روى مسلم وأبو داو والترمذي عن عائشة – رضي الله عنها – قالت : " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بدر فلما كان بحَرَّة الوبر أدركه رجل قد كان يذكر منه جرأة ونجدة ، ففرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه ، فلما أدركه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : جئت لأتبعك وأصيب معك ، فقال صلى الله عليه وسلم : تؤمن بالله ورسوله ؟ قال : لا . قال : فارجع فلن أستعين بمشرك . قالت : ثم مضى حتى إذا كان بالشجرة أدركه الرجل فقال : كما قال أول مرة . فقال له صلى الله عليه وسلم كما قال أول مرة ، قال فارجع فلن أستعين بمشرك . ثم رجع فأدركه بالبيداء . فقال له كما قال أول مرة . وقال : هل تؤمن بالله ورسوله ؟ قال : نعم . قال : فانطلق . فانطلق معه " .

    وروى مسلم عن أبي الطفيل – رضي الله عنه – قال : قال حذيفة بن اليمان – رضي الله عنه - : " ما منعني أن أشهد بدراً إلا أني خرجت أنا وأبي الحسيل ، فأخذنا كفار قريش فقالوا : إنكم تريدون محمداً ، فقلنا : ما نريد إلا المدينة ، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه أن لا نقاتل معه ، فلما أتينا المدينة ذكر ذلك له صلى الله عليه وسلم فقال : انصرفا نفي لهم ونستعين بالله تعالى عليهم " .

    وأخرج الشيخان واللفظ لمسلم عن أنس – رضي الله عنه – قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس ، وكان أجود الناس ، وكان أشجع الناس ، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة ، فانطلق ناس من قبل الصوت ، فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً وقد سبقهم إلى الصوت وهو على فرس لأبي طلحة – رضي الله عنه – عري في عنقه السيف وهو يقول : لم تراعوا ، قال : وجدناه بحراً أو إنه لبحر ، وكان فرساً يبطئ " . وأخرج البخاري عن أبي إسحاق : سمع البراء بن عازب – رضي الله عنه – وسأله رجل من قيس أفررتم عن رسول الله يوم حنين فقال : " لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفرر " .

    والمعروف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبت في حنين في عشرة من أصحابه ، أدار بهم المعركة التي فر فيها أثنا عشر ألفاً ثم كان النصر بعد الهزيمة . وفي غزوة أحد كان المشركون أضعاف المسلمين ودخل الرسول صلى الله عليه وسلم المعركة , وأفشل المعركة بعض المتسرعين الذين لم يلتزموا خطة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصيب المسلمون يومها إصابات كثيرة وانفصل الجيشان ورجع كل إلى بلده ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كاد يصل إلى المدينة حتى أمر من دخل المعركة بالجهاز السريع فخرجوا بجراحهم وآلامهم ، وساروا وراء قريش ، فبلغ قريشاً الخبر ففرت وتحولت الهزيمة إلى انتصار ، وأكثر من هذا أنه قطع على قريش خط الرجعة إذ فكروا وهم عائدون أن يرجعوا إلى المدينة ليدخلوها فاتحين مستأصلين لجذور الإسلام . مع ملاحظة أن رسول الله بقي يقاتل يوم أحد حتى كف المشركون أنفسهم عن القتال ولم يفر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبداً .

    وفي غزوة الأحزاب تجمعت الجزيرة العربية كلها لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونقض يهود بني قريظة عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصبح المسلمون في وضع لا يطيقه أحد من البشر ، يتهددهم الخطر من جوانب لا تعد ، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انسحبت الأحزاب ، ولم يتمهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد انسحابهم حتى سار إلى قريظة لتأديب هؤلاء الناكثين للعهد فحاصرهم حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ حليفهم بالجاهلية فأخذ سعد العهد عليهم وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يلتزموا حكمه فأعطوه ، فحكم سعد أن تقتل رجالهم وتسبى نساؤهم وذراريهم ، فقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم في يوم واحد أربعمائة رجل صبراً . وهاجم الدولة الرومانية وهي يومها من هي وقوته لم تبلغ إلا قليلاً مما فتح لأصحابه بعد ذلك أن يدخلوا معاركهم مع الدولة الرومانية والدولة الفارسية بآن واحد على قلة في العدة العدد وانتصروا بتلك الشعلة التي أشعلها فيهم الله على يد رسوله صلى الله عليه وسلم ، ويكفي أن تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا بنفسه – كما يروي مسلم – تسع عشرة غزوة ، هذا عدا عن السرايا والبعوث الحربية التي كان يرسلها . هذا مع أن بقاءه في المدينة كان مدته عشر سنوات فقط .

    والحديث عن غزواته طويل جداً نجده مفصلاً في كتب السيرة. ويكفي أن نذكر أن من آثارها أن وحّد الجزيرة العربية كلها ، بيمنها وحجازها ونجدها وسواحلها ، حتى لم يبق فيها شبر لم يخضع لسلطان الله ، وفتح لأتباعه طريق العمل العالمي . من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا .ونحن هنا لا نريد التفصيل وإنما نريد فقط إبراز ما به يظهر التطبيق الكامل لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالتالي ما دعا إليه فكان في كل شيء لا تخالف أعماله دعوته .



    هـ - نماذج من تطبيقه صلى الله عليه وسلم للأوامر في المثال الخامس : {كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} . {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} .

    أخرج البخاري عن عروة : أن امرأة سرقت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح ، ففزع قومها إلى أسامة بن زيد يستشفعونه قال عروة : " فلما كلمه أسامة فيها تلون وجه رسول الله وقال : أتكلمني في حد من حدود الله تعالى ؟ فقال أسامة : استغفر لي يا رسول الله . فلما كان العشي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال : أما بعد فإنما هلك الناس أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد . والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك المرأة فقطعت يدها ، فحسنت توبتها بعد ذلك وتزوجت ، قالت عائشة : كانت تأتي بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله " .

    وأخرج أبو داود عن العرباض بن سارية السلمي قال :

    " نزلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قلعة خيبر ومعه من معه من المسلمين ، وكان صاحب خيبر رجلاً مارداً متكبراً ، فأقبل إلى النبي فقال : يا محمد ألكم أن تذبحوا حمرنا وتأكلوا ثمرنا وتضربوا نساءنا ؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : يا ابن عوف اركب فرسك ، ثم ناد أن الجنة لا تحل إلا لمؤمن ، وأن اجتمعوا للصلاة . فاجتمعوا ثم صلى بهم ثم قام فقال : أيحسب أحكم متكئاً على أريكته قد يظن أن الله تعالى لم يحرم شيئاً إلا ما في القرآن ، إلا إني والله لقد وعظت وأمرت ونهيت عن أشياء إنها لمثل القرآن أو أكثر ، وإن الله تعالى لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن ، ولا ضرب نسائهم ، ولا أكل ثمارهم ، إذا أعطوا الذي عليهم " .

    وأخرج ابن عساكر عن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي أنه " كان ليهودي عليه أربعة دراهم فاستعدى عليه فقال : يا محمد ! إن لي على هذا أربعة دراهم وقد غلبني عليها ، قال: أعطه حقه . قال : والذي بعثك بالحق ما أقدر عليها . قال : أعطه حقه . قال : والذي نفسي بيده ما أقدر عليها . قد أخبر أنك تبعثنا إلى خبير فأرجو أن تغنمنا شيئاً فارجع فأقضيه ، قال: أعطه حقه . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال ثلاثاً لم يراجع . فخرج ابن أبي حدرد إلى السوق وعلى رأسه عصابة وهو متزر ببردة ، فنزع عن رأسه فاتزر بها ونزع البردة فقال : اشتر مني هذه البردة ، فباعها منه بأربعة دراهم ، فمرت عجوز فقالت : ما لك يا صاحب رسول الله ؟ فأخبرها ، فقالت : ها دونك هذا البرد لبرد عليها طرحته عليه " وأخرجه أحمد أيضاً .

    وأخرج ابن ماجه عن أبي سعيد قال : " جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه ديناً كان عليه فاشتد عليه حتى قال : أحرج عليك إلا قضيتني ، فانتهره أصحابه فقالوا : ويحك تدري من تكلم ؟ فقال : إني أطلب حقي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هلا مع صاحب الحق كنتم ، ثم أرسل إلى خولة بنت قيس فقال لها : إن كان عندك تمر فأقرضينا حتى يأتينا تمر فنقضيك فقالت : نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، فاقترضه فقضى الأعرابي وأطعمه فقال : أوفيت أوفى الله لك فقال : أولئك خيار الناس ، إنه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حق غير متعتع .

    وأخرج أبو داود عن أسيد بن حضير : " أن رجلاً من الأنصار كان فيه مزاح ، فبينما هو يحدث القوم ويضحكهم إذ طعنه النبي صلى الله عليه وسلم في خاصرته بعود كان في يده فقال : اصبرني يا رسول الله ( أي مكني من نفسك لأقتص منك ) قال : اصطبر فقال : إن عليك قميصاً وليس علي قميص ، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه فاحتضنه وجعل يقبل كشحه ( الكشح ما وفق شد الإزار من جانب البطن ) وقال : إنما أردت هذا يا رسول الله " .

    أخرج الطبراني عن عبد الله بن سلام بإسناد رجاله ثقات قال :

    " لما أراد الله هدي زيد بن سعنة ، قال زيد بن سعنة : ما من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في وجه محمد حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه ؛ يسبق حلمه جهله ، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً ، قال زيد بن سعنة : فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً من الحجرات ومعه علي بن أبي طالب ، فأتاه رجل على راحلته كالبدوي فقال : يا رسول الله ! لي نفر في قرية بني فلان قد أسلموا ودخلوا في الإسلام ، وكنت حدثتهم إن أسلموا أتاهم الرزق رغداً ، وقد أصابتهم سنة وشدة وقحط من الغيث ، فأنا أخشى عليهم يا رسول الله أن يخرجوا من الإسلام طمعاً كما دخلوا فيه طمعاً ، فإن رأيت أن ترسل إليهم بشيء تغيثهم به فعلت ، فنظر إلى رجل بجانبه أراه علياً فقال : يا رسول الله ما بقي منه شيء ، قال زيد ابن سعنة : فدنوت إليه فقلت يا محمد هل لك أن تبيعني تمراً معلوماً في حائط بني فلان إلى أجل معلوم ، إلى أجل كذا وكذا ، قال : لا تسمي حائط : بني فلان ، قلت : نعم فبايعني ، فأطلقت همياني فأعطيته ثمانين مثقالاً من ذهب في تمر معلوم إلى أجل كذا وكذا فأعطاها الرجل ، وقال : اعدل عليهم وأغثهم ، قال زيد بن سعنة : فلما كان قبل محل الأجل بيومين أو ثلاث خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان في نفر من أصحابه ، فلما صلى على الجنازة ودنا إلى الجدار ليجلس إليه ، أتيته فأخذت بمجامع قميصه وردائه ونظرت إليه بوجه غليظ قلت له : يا محمد ألا تقضيني حقي ، فوالله ما علمتم بني عبد المطلب إلا مطلاً ، ولقد كان بمخالطتكم علم . ونظرت إلى عمر وعيناه تدوران في وجهه كالفلك المستدير ثم رماني ببصره فقال : يا عدو الله أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع ؟ وتصنع به ما أرى ؟ فوالذي نفسي بيده لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفي رأسك ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلي في سكون وتؤدة ، فقال : يا عمر أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا ؛ أن تأمرني بحسن الأداء وتأمره بحسن ابتاعه ، اذهب به يا عمر فأعطه حقه وزده عشرين صاعاً من تمر مكان مارعته . قال زيد : فذهب بي عمر فأعطاني حقي وزادني عشرين صاعاً من تمر . فقلت : ما هذه الزيادة يا عمر ؟ قال : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أزيدك مكان مارعتك ، وقال : وتعرفني يا عمر ؟ قال : لا . قلت : أنا زيد بن سعنة . قال : الحبر . قلت : الحبر . قال فما دعاك إلى أن فعلت برسول الله ما فعلت ؟ وقلت له ما قلت ، قلت : يا عمر ! لم يكن من علامات النبوة شيئاً إلا وقد عرفت في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه ؛ يسبق حلمه جهله ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً ، وقد اختبرتهما ، أشهدك يا عمر أني قد رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ نبياً ، وأشهدك أن شطر مالي – فإني أكثرها مالاً – صدقة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، قال عمر : أو على بعضهم فإنك لا تسعهم ، قلت أو على بعضهم . فرجع عمر وزيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال زيد : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وآمن به وصدقه وبايعه ، وشهد معه مشاهد كثيرة ، ثم توفي في غزوة تبوك مقبلاً غير مدبر – رحم الله زيداً " .

    من هذه الآثار يتبين كيف قام رسول الله بالقسط ، وأقامه على نفسه وأتباعه وأصحابه بلا محاباة ولا مداراة ولا مداهنة ، فكان في القمة التي لا يرقى إليها راق في تنفيذ أمر الله وتطبيقه .

    * * * * *

    هذه نماذج رأينا فيها تنفيذاً لخمسة أوامر قام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشكل الذي لا يبقى معه مزيد لمستزيد ، وهذا الذي رأيناه هنا هو الذي نراه في كل أمْرٍ أمَرَ الله به عباده ، حتى إن عائشة لما وصفت خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : " كان خلقه القرآن " وهذا واقع لا يعرفه حق المعرفة إلا من درس القرآن ودرس معه سيرة رسول الله تفصيلاً ، فإنه يرى بوضوح أنه ما من أمر وجهه الله لخلقه إلا وكان رسول الله أعظم الخلق تنفيذاً له وتطبيقاً ، بلا تفريط في أمر من أوامر الله ، وأي أمرٍ من أوامر الله درست تنفيذ رسول الله صلى الله عليه وسلم له دلك هذا التنفيذ على أن محمداً رسول الله ، وقد رأيت في الأمثلة الماضية هذه النماذج العالية من الالتزام الرائع الذي يجعلك كل موقف من مواقفه تستبعد وقوعه من غير رسول ، أو تابع رسول يقتدي به ، وهذه الصفة التي مرت معنا هي التي يسميها علماء المسلمين الأمانة ، إذ الأمانة عندهم تعني القيام بما كلف الله به عباده أخذاً من قوله : {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} فالأمانة هي التكليف ، وحملها هو إقامة ما كلف الله به عباده , والرسل هم قدوة البشر في القيام بأمر الله ، فلا بد أن يكونوا أكثر الخلق أمانة أي التزاماً صادقاً بما يدعون الخلق إليه نيابة عن الله ، ووجود هذا الالتزام بما يدعو إليه الخلق من فضائل هو رسول الله رب العالمين .

    والآن وقد وضح أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم الحظ الأعلى من الصفة الثانية التي ينبغي أن يتصف بها كل من كان رسولاً لله حقاً ، فلننتقل إلى الصفة الأساسية الثالثة لكل رسول وهي تبليغ دعوة الله مهما كانت الظروف ، لنرى كذلك أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم الحظ الأعلى منها ، ونرى في كل موقف من مواقفه فيها ما يثبت أنه رسول الله حقاً .

  5. افتراضي

    3 – تبليغه صلى الله عليه وسلم دعوة الله وقيامه بذلك قياماً كاملاً

    لقد سلك رسول الله صلى الله عليه وسلم كل طريق سليم لتبليغ دعوة الله على الوجه الأكمل ، وسلك الناس في المقابل كل طريق يخطر بالبال ليثنوه عن القيام بأمر الله فلم يفعل :

    اتصل بالأفراد اتصالاً شخصياً ، وعرض نفسه على قبائل العرب ، ورحل من أجل تبليغ الدعوة ، وتتبع مواطن اجتماع الناس ليبلغهم ، وأرسل الرسل نيابة عنه لتبليغ الدعوة ، واستقدم الوفود ليأخذوا عنه ويرجعوا مبلغين ، وراسل الأمراء والملوك داعياً لهم إلى الله ولكف أصحابه أن يتعلَّموا ويعلِّموا ، وأمر جنده ألا يحاربوا قبل أن يدعوا إلى الإسلام ، ثمّ حمّل جميع المسلمين أمانة البلاغ ليبلغوا العالم دعوة الله ؛ حتى لا يبقى أحد من البشر إلا وقد بُلِّغَ ، وقامت عليه الحجة ، وفي المقابل ما ترك الآخرون طريقاً إلا سلكوه لإنهاء الدعوة والداعية .

    سلكوا طريق الإيذاء له ولأتباعه ليثنوه عن التبليغ فما فعل . وسلكوا طريق الإغراء ليثنوه عن التبليغ فما فعل . وسلكوا طريق الضغط العائلي ليثنوه عن التبليغ فما فعل . وسلكوا طريق الاستهزاء والإعراض والسخرية والاتهامات ليثنوه عن التبليغ فما فعل . وسلكوا معه طريق المقاطعة الشاملة له ولمن أزره ليثنوه عن التبليغ فما فعل . وقرروا قتله وملاحقته ليثنوه عن التبليغ فما فعل . وطال الزمن والمستجيبون قليلون ، والجميع يحاولون إيئاسه واستمر ، ثم حاربوه ليستأصلوا دعوته ويستأصلوه وصبر واستمر رغم هذا كله ، ثم انتصر وانتصر دينه ولا زال ينتصر ويتقدم رغم الأوضاع السياسية السيئة للمسلمين ، وكل ذلك ببركات الداعية المبلغ الأول .

    وقبل أن نستعرض نماذج عن هذا كله . نحب أن نكرر التذكير بشيء حتى لا يلهينا العرض عن الغاية .

    هذا الشيء هو : أن إثباتنا هذه الصفات لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبرهاننا على ذلك ، إنما هو من أجل الوصول إلى برد اليقين بالإيمان به ، وابتاعه عن ثقة بأن ما أخبر به حق مطلق فمن عرفته بالصدق طوال حياته وتأكدت من تحريه له تطمئن إذا أخبرك عن شيء . والرسول كذلك ، وقيام الرسول بتكاليف دعوته على ما فيها من مخالفة لهوى النفس ومن جهد ونصب دون انتظار مكافأة دنيوية ، دليل آخر على رسالته إذ غير هذا الطريق لطالب غير الله أسهل.

    وأما عملية التبليغ فليست هي عند الرسل كبقية عمليات التبليغ الأخرى التي يقوم بها بقية البشر في الدعوة لفكرة ما ، ومن ثم كانت عملية التبليغ عند الرسل دليلاً على صدقهم في كونهم مرسلين من عند الله .

    إن غير الرسل يدعون الناس إلى شيء تألفه نفوسهم وتهواه ، أي إنهم يأتون الناس من قبل ما يشتهون فلا يعانون شيئاً ولا يحتاجون إلى تضحية ، وأحياناً يضحون ولكن لا ينتظرون كسباً مادياً أكثر من تضحيتهم ، وتراهم دائماً يلاحظون السلام إلا إذا أتاهم ما لم يكن بالحسبان ، وترى الحياة عزيزة جداً عليهم ، وما أسهل ما ينسون دعوتهم إذا يئسوا من الكسب أو النصر . ونحن لا نعني بالطبع هنا أتباع الرسل إذ هؤلاء يعملون بروح الاقتداء بالرسل فعندهم من حرارة إخلاصهم .

    إن حماية النفس مقدمة عند أصحاب الدعوات الباطلة على التبليغ ولكن التبليغ عند الرسل لدعوة الحق مقدم على كل شيء .

    إن الرسل يبلغون الناس رسالة الله التي فيها ضبط نفوس البشر حتى تستقيم على السنن الصحيح للحياة ، وهم بهذا يدخلون في صراع مع أهواء البشر ، ولكل إنسان هوى ، فهم يدخلون في صراع مع الناس جميعاً . والصعوبة التي يعانونها من أعدائهم يعانون قريباً منها في تربية أتباعهم والارتفاع بهم ، إذ البشر هم البشر على كل حال ، وتجاوز الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه العقبات كلها ، وثباته على دعوة الحق بلا مداراة ولا مواربة ، بل والمطالبة للنفس البشرية بواجباتها كاملة ، والصبر على ذلك ، وتحمل كل شيء في هذا السبيل مرضاة لله ، كل هذا دليل على حرارة الصدق والإخلاص للدعوة ولله المكلف بها .وسنرى في كل نموذج نقدمه عن عملية التبليغ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وما رافقه شاهد صدق على هذا الذي قدمناه .

    وسنقدم نوعين من النماذج :

    1- نماذج عن مواقف الكافرين منه ليثنوه عن الاستمرار بالتبليغ .
    2- نماذج عن الطرق التي سلكها للقيام بعملية التبليغ .

    نماذج النوع الأول :

    أ- إيذاؤه وصبره على ذلك :

    1- أخرج الطبراني عن الحارث بن الحارث : " قال : قلت لأبي : ما هذه الجماعة ؟ قال : هؤلاء القوم الذين اجتمعوا على صابئ لهم . قال : فنزلنا فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى توحيد الله عز وجل والإيمان ، وهم يردون عليه ويؤذوه حتى انتصف النهار وانصدع الناس عنه ، أقبلت امرأة قد بدا نحرها ، تحمل قدحاً ومنديلاً فتناوله منها فشرب وتوضأ ثم رفع رأسه فقال : يا بنية خمري عليك نحرك ، ولا تخافي على أبيك . قلنا من هذه ؟ قالوا : هذه زينب بنته . رضي الله عنها " .
    وعنده أيضاً عن منبت الأزدي قال : " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية وهو يقول : يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا . فمنهم من تفل في وجهه ومنهم من حثا عليه التراب ومنهم من سبه حتى انتصف النهار . فأقبلت جارية بعس من ماء فغسل وجهه ويديه وقال : يا بنية لا تخشي على أبيك غيلة ولا ذلة . فقلت : من هذه ؟ قالوا : زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي جارية وضيئة " .

    2- وأخرج البيهقي عن عبد الله بن جعفر – رضي الله عنهما - قال : " لما مات أبو طالب عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم سفيهٌ من سفهاء قريش فألقى عليه تراباً فرجع إلى بيته ، فأتت امرأة من بناته تمسح عن وجهه التراب وتبكي فجعل يقول : أي بنية ! لا تبكي فإن الله مانع أباك " .

    3- وعن ابن أبي شيبة عن عمرو بن العاص – رضي الله عنه – قال : " ما رأيت قريشاً أرادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم إلا يوماً ائتمروا به وهم جلوس في ظل الكعبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند المقام . فقام إليه عقبة بن أبي معيط فجعل رداءه في عنقه ثم جذبه حتى وجب لركبتيه ساقطاً ، وتصايح الناس فظنوا أنه مقتول ، فأقبل أبو بكر – رضي الله عنه – يشتد حتى أخذ بضبعي رسول الله صلى الله عليه وسلم من روائه ، ويقول : { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} . ثم انصرفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى . فلما قضى صلاته مر بهم – وهم جلوس في ظل الكعبة – فقال : يا معشر قريش ! أما والذي نفس محمد بيده ما أرسلت إليكم إلا بالذبح وأشار بيده إلى حلقه . فقال أبو جهل : ما كنت جهولاً . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنت منهم " .

    4- وأخرج أحمد عن عروة بن الزبير عن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنه – قال : " قلت له : ما أكثر ما رأيت قريشاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانت تظهر من عداوته . قال : حضرتهم – وقد اجتمع أشرافهم في الحج – فقالوا : ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط ، سفّه أحلامنا ، وشتم آباءنا وعاب ديننا ، وفرق جماعتنا وسب آلهتنا . لقد صبرنا منه على أمر عظيم – أو كما قالوا – قال : فبينما هم في ذلك إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل يمشي حتى استقبل الركن ثم مر بهم طائفاً بالبيت . فلما مر بهم غمزوه ببعض ما يقول . ( غمزوه : أي أشاروا مسيئين إليه ) قال : فعرت ذلك في وجهه ثم مضى . فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها فعرفت ذلك في وجهه ثم مضى . فلما مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها فقال : أتسمعون يا معشر قريش أما والذي نفس محمد بيده ! لقد جئتكم بالذبح . فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم رجل إلا على رأسه طائر واقع ، حتى إن أشدهم فيه وقيعة قبل ذلك ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول حتى إنه ليقول : انصرف يا أبا القاسم ، انصرف راشداً ، فوالله ما كنت جهولاً . فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر – وأنا معهم – فقال بعضهم لبعض : ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم منه حتى إذا باداكم بما تكرهون تركتموه . فبينما هم في ذلك إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوثبوا إليه وثبة رجل واحد ، فأطافوا به يقولون : أنت الذي تقول كذا وكذا ؟ لما كان يبلغهم من عيب آلهتهم ودينهم ، قال فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم ، أنا الذي أقول ذلك . قال : فلقد رأيت رجلاً منهم أخذ بمجمع ردائه وقام أبو بكر رضي الله عنه دونه يقول وهو يبكي : { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ } ؟ ثم انصرفوا عنه فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشاً بلغت منه قط " .

    5- وأخرج البزار والطبراني عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال : " بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وأبو جهل بن هشام وشيبة وعتبة ابنا ربيعة وعقبة بن أبي معيط وأمية بن خلف ورجلان آخران كانوا سبعة وهم في الحجر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فلما سجد أطال السجود . فقال أبو جهل : أيكم يأتي جزور بني فلان فيأتينا بفرثها فنكفئه على محمد صلى الله عليه وسلم ، فانطلق أشقاهم عقبة بن أبي معيط فأتى به فألقاه على كتفيه ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد . قال ابن مسعود : وأنا قائم لا أستطيع أن أتكلم ليس عندي منعة تمنعني فأنا أذهب ، إذ سمعت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبلت حتى ألقت عن عاتقه ثم استقبلت قريشاً تسبهم فلم يرجعوا إليها شيئاً ، ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه كما كان يرفعه عند تمام السجود . فلما قضى صلى الله عليه وسلم صلاته قال : اللهم عليك بقريش – ثلاثاً – عليك بعتبة وعقبة وأبي جهل وشيبة . ثم خرج من المسجد فلقيه أبو البختري بسوط يتخصر به ، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أنكر وجهه فقال : مالك ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : خل عني . قال : علم الله لا أخلي عنك أو تخبرني ما شأنك ؟ فلقد أصابك شيء . فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه غير مخل عنه أخبره فقال : إن أبا جهل أمر فطرح علي فرث فقال أبو البختري : هلم إلى المسجد فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وأبو البختري فدخلا المسجد ثم أقبل أبو البختري إلى أبي جهل فقال : يا أبا الحكم أنت الذي أمرت بمحمد فطرح عليه الفرث ؟ قال : نعم : قال : فرفع السوط فضرب به رأسه . قال : فثار الرجال بعضها على بعض . قال : وصاح أبو جهل ويحكم هي له ، إنما أراد محمد صلى الله عليه وسلم أن يلقي العداوة بيننا وينجو هو وأصحابه " .

    6- وأخرج أبو نعيم في دلائل النبوة ص 103 : عن عروة بن الزبير – رضي الله عنهما – قال : " ومات أبو طالب وازداد من البلاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة ، فعمد إلى ثقيف يرجو أن يؤووه وينصروه ، فوجد ثلاثة نفر منهم سادة ثقيف وهم إخوة ؛ عبد ياليل بن عمرو ، وخبيب بن عمرو ، ومسعود بن عمرو ، فعرض عليهم نفسه وشكا إليهم البلاء وما انتهك قومه منه فقال أحدهم : أنا أسرق ثياب الكعبة إن كان الله بعثك بشيء قط ؟ وقال آخر : والله لا أكلمك بعد مجلسك هذا كلمة واحدة أبداً لئن كنت رسولاً لأنت أعظم شرفاً وحقاً من أن أكلمك . قال الآخر : أعجز الله أن يرسل غيرك ؟

    وأفضوا ذلك في ثقيف الذي قال لهم ، واجتمعوا يستهزؤون برسول الله صلى الله عليه وسلم وقعدوا له صفين على طريقه ، فأخذوا بأيديهم الحجارة فجعل لا يرفع رجله ولا يضعها إلا رضخوها بالحجارة وهم في ذلك يستهزؤون ويسخرون . فلما خلص من صفيهم وقدماه تسيلان الدماء عمد إلى حائط من كرومهم ، فأتى ظل حبلة من الكرم فجلس في أصلها مكروباً موجعاً تسيل قدماه الدماء ، فإذا في الكرم عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ، فلما أبصرها كره أن يأتيهما لما يعلم من عداوتهما لله ولرسوله وبه الذي به ، فأرسلا إليه غلامهما عداساً بعنب وهو نصراني من أهل نينوى .

    فلما أتاه وضع العنب بين يديه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بسم الله " فعجب عداس ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أي أرض أنت يا عداس ؟ قال أنا من أهل نينوى . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : من أهل مدينة الرجل الصالح يونس بن متى ؟ فقال عداس : وما يدريك من يونس بن متى ؟

    فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم من شأن يونس ما عرف ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحقر أحداً يبلغه رسالات الله تعالى .

    قال : يا رسول الله أخبرني خبر يونس بن متى ، فلما أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم من شأن يونس بن متى ما أوحي إليه من شأنه ، خر ساجداً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جعل يقبل قدميه وهما تسيلان الدماء .

    فلما أبصر عتبة وأخوه شيبة ما فعل غلامهما سكتا . فلما أتاهما قالا له : ما شأنك سجدت لمحمد وقبلت قدميه ولم نرك فعلت هذا بأحد منا .

    قال : هذا رجل صالح حدثني عن أشياء عرفتها من شأن رسول بعثه الله تعالى إلينا يدعى يونس بن متى ، فأخبرني أنه رسول الله ، فضحكا وقالا : لا يفتنك عن نصرانيتك ، إنه رجل يخدع ، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة " .

    وذكر في البداية ( ج3 ص 136 ) عن موسى بن عقبة : " وقعد له أهل الطائف صفين على طريقه ، فلما مر جعلوا لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة حتى أدموه فخلص منهم وهما يسيلان الدماء . وفيما ذكر ابن إسحاق : فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد يئس من خير ثقيف وقد قال لهم – فيما ذكر لي -: إن فعلتم ما فعلتم فاكتموا علي ، وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه عنه فيذئرهم ذلك عليه . فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس وألجؤوه إلى حائط لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وهما فيه . ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه ، فعمد إلى ظل حبلة من عنب فجلس فيه وابنا ربيعة ينظران إليه ويريان ما يلقى من سفهاء أهل الطائف " .

    من هذه القصص قصص الإيذاء الرهيب نعرف ما لاقى وهو الشريف الهاشمي ذو النفس الحساسة ، ابن الأشراف ومع ذلك تحمّل واستمرّ وليس بيده ألا يستمر ، وكما أوذي هو أوذي أتباعه كذلك وقتل بعضهم ... ومع ذلك صبروا وثبّتهم على الصبر ، وهذا شيء يجرح الضمير أن يرى الإنسان الناس يعذّبون بسبب دعوته ، لولا أن ذلك هو الحق الذي لا ريب فيه ، وأن الإنسان ليس مخيراً في سلوكه بل هو الذي لا بد منه للقيام بحق الله وإنها لرسالة الله .

    * * * * *

    ب – محاولة إغرائه ورفضه صلى الله عليه وسلم لذلك :

    قال ابن إسحاق ؛ وحدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي ، قال " حدِّثت أن عتبة بن ربيعة ، وكان سيداً ، قال يوماً وهو جالس في نادي قريش ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده : يا معشر قريش ، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ، ويكف عنا ؟ وذلك حين أسلم حمزة ، ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون ، فقالوا : بلى يا أبا الوليد . قم إليه فكلمه ، فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا ابن أخي : إنك منا حيث قد علمت ، من السطة في العشيرة ( السطة : الشرف ) والمكان في النسب ، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم ، فرقت به جماعتهم ، وسفهت به أحلامهم ، وعبت به آلهتهم ودينهم ، وكفّرت به من مضى من آبائهم ، فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها ، لعلك تقبل منها بعضها ، قال : فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم قل يا أبا الوليد ، أسمع ، قال : يا ابن أخي ، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا ، حتى تكون أكثرنا مالاً ، وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك ، وإن كنت تريد به ملكاً ، ملكناك علينا ، وإن كان الذي يأتيك رئياً تراه ، لا تستطيع رده عن نفسك ، طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه ، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه . أو كما قال له : حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه ، قال :

    أقد فرغت يا أبا الوليد ؟

    قال : نعم ،

    قال : فاسمع مني .

    قال : أفعل ..

    فقال : بسم الله الرحمن الرحيم {حـم * تَنزِيلٌ مِّنَ لرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ * وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} .

    ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه ، فلما سمعها منه عتبة أنصت لها ، وألقى يديه خلف ظهره ، معتمداً عليها ، يسمع منه ، ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها ، فسجد ثم قال : قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت ، فأنت وذاك .

    فقام عتبة إلى أصحابه ، فقال بعضهم لبعض : نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به ، فلما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد ؟

    قال : ورائي أني قد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالشعر ، ولا بالسحر ، ولا بالكهانة ، يا معشر قريش ، أطيعوني واجعلوها بي وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه ، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم ، وعزه عزكم وكنت أسعد الناس به ، قالوا : سَحرك والله يا أبا الوليد بلسانه ، قال : هذا رأيي فيه ، فاصنعوا ما بدا لكم " .

    وقال ابن إسحاق : " اجتمع عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة وأبو سفيان بن حرب ، والنضر بن الحارث ( بن كلدة ) أخو بني عبد الدار ، وأبو البختري بن هشام ، والأسود بن المطلب ، وزمعة بن الأسود ، والوليد بن المغيرة ، وأبو جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية ، والعاص بن وائل ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج السهميان ، وأمية بن خلف ، أو من اجتمع منهم ، قال : اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة ، ثم قال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه ، حتى تعذروا فيه ، فبعثوا إليه :

    عن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك ، فأتهم .

    فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعاً وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بداء ، وكان عليهم حريصاً يحب رشدهم ، ويعز عليه عنتهم ، حتى جلس إليهم ، فقالوا له : يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنكلمك . وإنا والله ما نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك ، لقد شتمت الآباء ، وعبت الدين , وشتمت الآلهة ، وسفهت الأحلام ، وفرقت الجماعة ، فما بقي أمر قبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك – أو كما قالوا له – فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً ، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً ، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا ، فنحن نسودك علينا ، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه قد غلب عليك ، وكانوا يسمون التابع من الجن رئياً – فربما كان ذلك ، بذلنا لك أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه ، أو نعذر فيه .

    فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بي ما تقولون ، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ، ولا الشرف فيكم ، ولا الملك عليكم ، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً ، وأنزل علي كتاباً ، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً . فبلغتكم رسالات ربي ، ونصحت لكم ، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله ، حتى يحكم الله بيني وبينكم ، أو كما قال صلى الله عليه وسلم . قالوا : يا محمد فإن كنت غير قابل من شيئاً مما عرضناه عليك فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلداً ، ولا أقل ماءً ، ولا أشيد عيشاً منا ، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به ، فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا وليبسط لنا بلادنا ، وليفجر لنا فيها أنهاراً كأنهار الشام والعراق ، وليبعث لنا من مضى من آبائنا ، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب ، فإنه كان شيخ صدق ، فنسألهم عما تقول : أحق هو أم باطل؟ فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك ، وعرفنا به منزلتك عند الله ، وأنه بعثك رسولاً كما تقول .

    فقال لهم صلوات الله وسلامه عليه : ما بهذا بعثت إليكم ، إنما جئتكم من الله بما بعثني به ، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم ، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله تعالى ، حتى يحكم الله بيني وبينكم .

    قالوا : فإذا لم تفعل هذا لنا فخذ لنفسك ، سل ربك أن يبعث معك ملكاً يصدقك بما تقول ، ويراجعنا عنك ، وسله فليجعل لك جناناً وقصوراً وكنوزاً من ذهب وفضة يغنيك بهذا عما نراك تبتغي ، فإنك تقوم بالأسواق كما نقوم ، وتلتمس المعاش كما نلتمسه ، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولاً كما تزعم . فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أنا بفاعل ، وما أنا بالذي يسأل ربه هذا ، وما بعثت إليكم بهذا ، ولكن الله بعثني بشيراً ونذيراً – أو كما قال – فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم .

    قالوا : فأسقط السماء علينا كسفاً ، كما زعمت إن شاء ربك فعل ، فإنا لا نؤمن لك إلا أن تفعل .

    قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذلك إلى الله ، إن شاء أن يفعله بكم فعل ، قالوا : يا محمد ، أفما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ، ونطلب منك ما نطلب ، فيتقدم إليك فيعلمك ما تراجعنا به ، ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا ، إذا لم نقبل منك ما جئتنا به ! إنه قد بلغنا أنك إنما يعلمك هذا رجل باليمامة ، يقال له : الرحمن ، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبداً ، فقد أعذرنا إليك يا محمد ، وإنا والله لا نتركك وما بلغت منا حتى نهلكك أو تهلكنا ، وقال قائلهم : نحن نعبد الملائكة ، وهي بنات الله , وقال قائلهم : لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلاً .

    فلما قالوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم قام عنهم ، وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم – وهو ابن عمته ، فهو لعاتكة بنت عبد المطلب فقال له : يا محمد ، عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ، ثم سألوك لأنفسهم أموراً ليعرفوا بها منزلتك من الله كما تقول ويصدقوك ويتبعوك ، فلم تفعل ، ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم ومنزلتك من الله فلم تفعل ، ثم سألوك أن تجعل لهم بعض ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل – أو كما قال له – فوالله لا أؤمن بك أبداً حتى تتخذ إلى السماء سلماً ، ثم ترقى فيه وأنا أنظر إليك حتى تأتيها ، ثم تأتي معك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول . وايم الله لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك ، ثم انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزيناً آسفاً لما فاته مما كان يطمع به من قومه حين دعوه ولما رأى من مباعدتهم إياه " .

    قارن بين الصورتين : اضطهاد بدون حدود ، وإغراء إلى هذا المستوى ، ولا خيار . خذ ما تريد واترك ما أنت عليه أو تضطهد هذا الاضطهاد المر . ومحمد صلى الله عليه وسلم في الحالتين هو هو لا الاضطهاد يؤثر في صده عن عملية التبليغ ولا الإغراء يثنيه . وفي موقفه في كلا الحالتين شهادة على أنه رسول الله حقاً وأنه صاحب دعوة هداية أولاً وآخراً .

    * * * * *

    ج – محاولتهم أن يضغطوا عليه صلى الله عليه وسلم عائلياً :

    أخرج الطبراني في الأوسط والكبير عن عقيل بن أبي طالب – رضي الله عنه – قال : " جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا : يا أبا طالب ! إن ابن أخيك يأتينا في أفنيتنا وفي نادينا فيسمعنا ما يؤذينا به ، فإن رأيت أن تكفه عنا فافعل ، فقال لي : يا عقيل ! التمس لي ابن عمك ، فأخرجته من كبس ( أي بيت صغير ) من أكباس أبي طالب . فأقبل يمشي معي يطلب الفيء يمشي فيه فلا يقدر عليه حتى انتهى إلى أبي طالب . فقال له أبو طالب ، يا ابن أخي ! والله ما علمت إن كنت لي لمطاعاً ، وقد جاء قومك يزعمون أنك تأتيهم في كعبتهم وفي ناديهم تسمعهم ما يؤذيهم ، فإن رأيت أن تكف عنهم . فحلق ببصره إلى السماء فقال : والله ما أنا بأقدر أن أدع ما بعثت به من أن يشعل أحدكم من هذه الشمس شعلة من نار . فقال أبو طالب : والله ما كذب ابن أخي قط ، ارجعوا راشدين " .

    قال الهيثمي ( ج6 ص14 ) : رواه الطبراني وأبو يعلى باختصار يسير من أوله ، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح ، انتهى . وأخرجه البخاري في التاريخ بنحوه كما في البداية (ج3 ص42 ) .

    وعند البيهقي : " أن أبا طالب قال له صلى الله عليه وسلم : يا ابن أخي ! إن قومك قد جاءوني وقالوا كذا وكذا ، فأبقِ عليَّ وعلى نفسك ، ولا تحملني من الأمر ما لا أ"يق أنا ولا أنت ، فاكفف عن قومك ما يكرهون من قولك .

    فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قد بدا لعمله فيه ، وأنه خاذله ومسلمه ، وضعف عن القيام معه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عم ! لو وضعت الشمس في يميني والقمر في يساري ، ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك في طلبه ، ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى . فلما ولى قال له حين رأى ما بلغ برسول الله صلى الله عليه وسلم : يا ابن أخي ، فأقبل عليه فقال : امض على أمرك وافعل ما أحببت ، فوالله لا أسلمك لشيء أبداً " . كذا في البداية ( ج3 ص42 ) .

    والذي يعرف عادة العرب في احترام الأكابر منهم وطاعتهم لأمرائهم ومشايخ بيوتهم يدرك مدى الأثر النفسي الكبير الذي يحدثه تدخل أبي طالب شيخ بني هاشم نتيجة ضغط قومه عليه . ومحمد صلى الله عليه وسلم الحيي الخجول المهذب ما كان ليخالف أمر عمه ورغبته لو كانت المسألة مسألة شخصية ولكن الأمر أكبر من ذلك . إنه أمر الله الذي هو أكبر من كل عرف ومن كل اعتبار ومن كل ضغط . وفي ذلك شهادة كاملة لمن عرف عادات القبائل العربية على أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    * * * * *

    د- سلوكهم طريق الاستهزاء والسخرية والإعراض والاتهامات :

    من سيرة ابن هشام ننقل هذه المقاطع :

    " ثم إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش ، وكان ذا سن فيهم ، وقد حضر الموسم فقال لهم : يا معشر قريش ! إنه قد حضر هذا الموسم وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فأجمعوا فيه رأياً واحداً ولا تختلفوا ، فيكذب بعضكم بعضاً ، ويرد قولكم بعضه بعضاً ، قالوا : فأنت يا أبا عبد شمس ، فل وأقم لنا رأياً نقول به ، قال : بل أنتم فقولوا أسمع ، قالوا : نقول كاهن ، قال : لا والله ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا بسجعه ، قالوا : فنقول : مجنون ، قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه ، فما هو بخنقه ، ولا تخالجه ولا وسوسته ، قالوا : فنقول شاعر ، قال : ما هو بشاعر ، لقد عرفنا الشعر كله ؛ رجزه ، وهزجه ، وقريضه ، ومقبوضه ومبسوطه ، فما هو بالشعر ، قالوا : فنقول ساحر ، قال : ما هو بساحر ، لقد رأينا السحار وسحرهم ، فما هو بنفثهم ولا عقدهم ، قالوا : فما نقول يا أبا عبد شمس ؟ قال : والله إن لقوله لحلاوة ، وإن أصله لعذق ( النخلة ) وإن فرعاه لجناة – قال ابن هشام ، ويقال لغدق ( الغدق : الماء الكثير ) وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل ، وأن أقرب القول فيه لأن تقولوا : ساحر جاء بقول هو سحر ، يفرق به بين المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجته ، وبين المرء وعشيرته ، فتفرقوا عنه بذلك ، فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه وذكروا لهم أمره .

    - وقال ابن إسحاق :

    ثم إن قريشاً اشتد أمرهم للشقاء الذي أصابهم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أسلم معه منهم ، فأغروا برسول الله صلى الله عليه وسلم سفهاءهم ، فكذبوه وآذوه ، ورموه بالشعر والسحر والكهانة والجنون ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مظهر لأمر الله لا يستخفي به ، مبادلهم بما يكرهون من عيب دينهم ، واعتزال أوثانهم ، وفراقه إياهم على كفرهم .

    - وقال ابن إسحاق :

    وكان النضر بن الحارث من شياطين قريش ، وممن كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصب له العداوة ، وكان قد قدم الحيرة ، وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس وأحاديث رستم واسبنديار ، فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً فذكر فيه بالله ، وحذر قومه ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة الله ، خلفه في مجلسه إذا قام ، ثم قال : أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثاً منه ، فهلم إلي ، فأنا أحدثكم أحسن من حديثه ، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم واسبنديار ، ثم يقول : بماذا محمد أحسن حديثاً مني .

    وقال :

    فلما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما عرفوا من الحق ، وعرفوا صدقه فيما حدث ، وموقع نبوته فيما جاءهم من علم الغيوب ، حين سألوه عما سألوا عنه ، حال الحسد منهم له بينهم وبين اتّباعه وتصديقه ، فعتوا على الله وتركوا أمره عياناً ، ولجوا فيما هم عليه من الكفر ، فقال قائلهم : {لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} أي اجعلوه لغواً باطلاً واتخذوه هزواً ، لعلكم تغلبونه بذلك ، فإنكم إن ناظرتموه أو خاصتموه يوماً غلبكم .

    - وقال : فقال أبو جهل يوماً وهو يهزأ برسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الحق : يا معشر قريش ! يزعم محمد أنما جنود الله الذين يعذبونكم في النار ويحبسونكم فيها تسعة عشرة ، وأنتم أكثر الناس أعداداً ، وكثرة ، أفيعجز كل مئة رجل منكم عن رجل منهم ، فأنزل الله تعالى عليه في ذلك من قوله : {وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ} ... إلى آخر القصة .

    فلما قال ذلك بعضهم لبعض ، جعلوا إذا جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن وهو يصلي فيتفرقون عنه ، ويأبون أن يستمعوا له ، فكان الرجل منهم إذا أراد أن يستمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ما يتلو من القرآن وهو يصلي ، استرق السمع دونهم ، فَرَقاً منهم ، فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع منه ، ذهب خشية أذاهم ، فلم يستمع ، وإن خفض رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته ، فظن الذي يستمع أنهم يستمعون شيئاً من قراءته وسمع هو شيئاً دونهم ، أصاخ له ليستمع منه " .

    تصور حرب الدعاية الفظيعة التي لجأوا إليها ، وهم قريش موطن ثقة العرب ، والذين تأتيهم العرب سنوياً للحج ، فهم يشوهون اسمه عاماً بعد عام ، ويحاولون أن يحاربوه بكل سلاح من أسلحة القول ، والعربي لا تسمح نفسه أبداً أن يقف موقف المتهم ، ومع ذلك بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم صابراً على هذه الحرب الدعائية الفظيعة ، هذه المدة الطويلة ، ثلاثة عشر عاماً ، وما وَنَى وما كَلَّ ، وهو يقوم بعملية التبليغ المستقيمة النظيفة .

    إن استمرار الداعية في مثل هذا الجو المحموم ، دليل على صدقه فيما يدعو إليه ، وإلا فكيف نعلل استمرار رجل في دعوة يلاقي ما لاقى ، مع العرض عليه كل متاع الدنيا ، ثم لا يرضى إلا بحمل الناس على دعوته . إن هذا لا يُعلّل إلا بصدقه في دعوته ، وأنه يبلغها مأموراً من الله عز وجل ، وقد وضح له أن النكوص عن طريقه وراءه ما وراء الذي يَعصِي أمر الله من عقاب الله .

    * * * * *

    هـ - استعمال سلاح المقاطعة :

    قال ابن إسحاق : " فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزلوا بلداً أصابوا به أمناً وقراراً ، وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم ، وأن عمر قد أسلم ، فكان هو وحمزة بن عبد المطلب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وجعل الإسلام يفشو في القبائل ، اجتمعوا وائتمروا بينهم أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب ، على أن لا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم ولا يبيعوهم شيئاً ، ولا يبتاعوا منهم ، فلما اجتمعوا لذلك كتبوه في صحيفة ، ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك ، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم ، وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي – قال ابن هشام : ويقال النضر بن الحارث – فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فشل بعض أصابعه " .

    وقال ابن إسحاق : " فلما فعلت قريش انحازت بنو هاشم وبنو عبد المطلب إلى أبي طالب بن عبد المطلب ، فدخلوا معه في شعبه واجتمعوا إليه وخرج من بني هاشم أبو لهب عبد العزي بن عبد المطلب إلى قريش فظاهرهم " .

    وقال ابن إسحاق : " وحدثني حسين بن عبد الله : أن أبا لهب لقي هند بنت عتبة بن ربيعة حين فارق قومه وظاهر عليهم قريشاً ، فقال : يا بنت عتبة هل نصرت اللات والعزى وفارقت من فارقهما وظاهر عليهما ؟ قالت : نعم فجزاك الله خيراً يا أبا عتبة " .

    - وأخرج أبو نعيم في الحلية ج1 ص93 عن سعد – رضي الله عنه – قال : " كنا قوماً يصيبنا ظلف العيش بمكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشدته ، فلما أصابنا البلاء اعترفنا لذل ومَرَنَّا عليه وصبرنا له ، ولقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة خرجت من الليل أبول . وإذا أنا أسمع بقعقعة شيء تحت بولي فإذا قطعة جلد بعير ، فأخذتها فغسلتها ثم أحرقتها فوضعتها بين حجرين ثم استففتها وشرب عليها الماء فقويت عليها ثلاثاً " .

    هذه المقاطعة التي كانت من آثارها ما رأيت استمرت ثلاث سنين متواليات . لا بيع ولا شراء ولا زواج ولا إزواج ولا طعام ولا شراب .

    يقول السهيلي : " كانت الصحابة إذا قدمت عير إلى مكة يأتي أحدهم السوق ليشتري شيئاً من الطعام قوتاً لعياله ، فيقول أبو لهب : فيقول : يا معشر التجار غالوا على أصحاب محمد حتى لا يدركوا معكم شيئاً وقد علمتم مالي ووفاء ذمتي فأنا ضامن أن لا خسار عليكم ، فيزيدون عليهم في السلعة قيمتها أضعافاً ، حتى يرجع أحدهم إلى أطفاله وهم يتضاغون من الجوع ، وليس في يده شيء يطعمهم به ، ويغدو التجار على أبي لهب فيربحهم فيما اشتروا من الطعام واللباس " .

    ثلاث سنوات متواليات والمسلمون وأقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين أنفسهم ممن يحمونه عصبية بني هاشم وبني المطلب على هذه الحال . ورسول الله صلى الله عليه وسلم صابر وهو يرى هذه المناظر المؤلمة . زوجه خديجة الطاعنة في السن ، عمه أبو طالب الطاعن في السن ، أسرته أقاربه يعانون هذه الحياة المجهدة ، ومع ذلك ما فكر لحظة في إيقاف عملية التبليغ والجهر بالدعوة ، وليس هناك ظاهرياً بارقة أمل ، فالجزيرة العربية كلها مجمعة على الوقوف ضده مع قريش ، ومع ذل بقي مستمراً لا لقاء ولا مداهنة ولا تنازل ولا أي شيء آخر . فمن يستطيع أن يتحمل هذا لولا إيمان بالله وثقة به صدق بوعده ووعيده ، واتصال بالله كامل يستسلم صاحبه لأمر الله فيه . إنها صفات الأنبياء ولا يمكن أن تعلل إلا بأن صاحبها رسول الله حقاً ...

    * * * * *

    و – محاولتهم قتله صلى الله عليه وسلم :

    - قال ابن إسحاق :

    " ثم إن قريشاً حين عرفوا أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسلامه وإجماعه لفراقهم في ذلك وعداوتهم ، مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا له : - فيما بلغني – يا أبا طالب : هذا عمارة بن الوليد ، أنهد فتى في قريش وأجمله ، فخذه فلك عقله ونصره ، واتخذه ولداً فهو لك ، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي قد خالف دينك ويدن آبائك ، وفرَّق جماعة قومك ، وسفه أحلامهم ، فنقتله ، فإنما هو رجل برجل . فقال : والله لبئس ما تسومونني ، أتعطوني ابنكم أغذوه لكم , وأعطيكم ابني تقتلونه ! هذا والله ما لا يكون أبداً . قال : فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي : والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلص مما تكرهه ، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً ، فقال أبو طالب للمطعم : والله ما أنصفوني ، ولكنك قد أجمعت خذلاني ، ومظاهرة القوم علي فاصنع ما بدا لك – أو كما قال – فحقب الأمر وحميت الحرب وتنابذ القوم وبادى بعضهم بعضاً " .

    وقال ابن إسحاق :

    " فلما قام عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو جهل : يا معشر قريش إن محمداً قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا وشتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وشتم آلهتنا ، وإني أعاهد الله لأجلس له غداً بحجر ما أطيق حمله – أو كما قال – فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه ، فأسلموني عند ذلك أو امنعوني ، فليصنع بنو عبد مناف ما بدا لهم ، قالوا : والله لا نسلمك لشيء أبداً ، فامض لما تريد " .

    وقال ابن إسحاق :

    " وكان إسلام عمر – فيما بلغني – أن أخته فاطمة بنت الخطاب ، وكانت عند سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ، وكانت قد أسلمت وأسلم بعلها سعيد بن زيد وهما مستخفيان بإسلامهما من عمر , وكان نعيم بن عبد الله النحام رجل من قومه ، من بني عدي بن كعب قد أسلم ، وكان أيضاً يستخفي بإسلامه فرقاً من قومه ، وكان خباب بن الأرت يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب يقرئها القرآن ، فخرج عمر يوماً متوشحاً سيفه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورهطاً من أصحابه قد ذكروا أنهم قد اجتمعوا في بيت عند الصفا وهم قريب من أربعين ما بين رجال ونساء ، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه حمزة بن عبد المطلب ، وأبو بكر بن أبي قحافة الصديق ، وعلي بن أبي طالب في رجال من المسلمين – رضي الله عنهم – ممن كان أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ولم يخرج فيمن خرج إلى أرض الحبشة ، فلقيه نعيم بن عبد الله فقال له : أين تريد يا عمر ؟ فقال : أريد محمداً هذا الصابئ ، الذي فرق أمر قريش وسفّه أحلامها وعاب دينها وسب آلهتها ، فأقتله . فقال له نعيم : والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر ، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمداً ! أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم ؟ فقال : وأي أهل بيتي ؟ قال : ختنك وابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو ، وأختك فاطمة بنت الخطاب فقد والله أسلما وتابعا محمداً على دينه ، فعليك بهما . قال : فرجع عمر عامداً إلى أخته وختنه " .

    وقال ابن إسحاق : " من خبر اجتماع الملأ من قريش وتشاورهم في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم لبعض : إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم ، فإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا فيمن قد اتبعه من غيرنا ، فأجمعوا فيه رأياً . قال فتشاوروا ثم قال قائل منهم : احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه باباً ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله ، زهيراً والنابغة ، ومن مضى منهم مع هذا الموت ، حتى يصيبه ما أصابهم ، فقال الشيخ النجدي : لا والله ، ما هذا لكم برأي ، والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه ، فلأوشكوا أن يثبتوا عليكم فينزعوه من أيديكم ، ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم ، ما هذا لكم برأي ، فانظروا في غيره ، فتشاوروا ثم قال قائل منهم : نخرجه من بين أظهرنا ، فننفيه من بلادنا ، فإذا خرج عنا فوالله لا نبالي أين ذهب ولا حيث وقع ، وإذا غاب عنا وفرغنا منه ، أصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت . فقال الشيخ النجدي : لا والله ، ما هذا برأي ، ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به ، والله لو فعلتم ذلك ما أمنت أن يحل على حي من العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه . ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم بهم في بلادكم ، فيأخذ أمركم من أيديكم ثم يفعل بكم ما أراد . دبروا فيه رأياً غير هذا .

    قال : فقال أبو جهل بن هشام : والله إن لي فيه لرأياً ، ما أراكم وقعتم عليه بعد .

    قالوا : وما هو يا أبا الحكم ؟

    قال : أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شاباً جليداً نسيباً وسيطاً ( الشريف في قومه ) فينا ، ثم نعطي كل فتى منهم سيفاً صارماً ، ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد ، فيقتلوه فنستريح منه ، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعاً ، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعاً ، فرضوا منا بالعقل ، فعقلناه لهم ( العقل : الدية ) قال : فقال الشيخ النجدي : القول ما قال الرجل ، هذا الرأي لا رأي غيره فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له " .

    هذه نماذج من قرارات القوم بشأن اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم . وإذن فالفترة التي قضاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة لم تكن فترة أمن من كل الجوانب . ومع هذه التهديدات المتواصلة وهذا الجو الذي يحطم الأعصاب . نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما انقطع فترة عن القيام بعملية التبليغ والجهر بها ، ومجابهة الناس بما يدعو له ، إن هذا كله ليس عادياً في بيئة عربية وعلى النفسية العربية لولا أن المسألة مسألة وحي من الله وأمر .

    * * * * *

    ز- ملاحقة خطواته صلى الله عليه وسلم ومحاولة إيئاسه منهم :

    أخرج ابن إسحاق عن ربيعة بن عباد – رضي الله عنه – قال : " إني لغلام شاب مع أبي بمنى ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقف على منازل القبائل من العرب فيقول : يا بني فلان ! إني رسول الله إليكم آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد ، وأن تؤمنوا بي وتصدقوا بي وتمنعوني حتى أبين عن الله ما بعثني به . قال : وخلفه رجل أحول وضيء غديرتان عليه حلة عدنية . فإذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله وما دعا إليه قال ذلك الرجل : يا بني فلان ! إن هذا إنما يدعوكم أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم وحلفائكم من الجن من بني مالك بن أقيش إلى ما جاء به من البدعة والضلالة فلا تطيعوه ولا تسمعوا عنه .

    قال : فقلت لأبي يا أبت .. من هذا الرجل الذي يتبعه ويرد عليه ما يقول ؟ قال هذا عمه عبد العزى بن عبد المطلب أبو لهب " .

    وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – قال : " لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في المواسم فيدعو القبائل ، ما أحد من الناس يستجيب له ويقبل منه دعاءه ، فقد كان يأتي القبائل بمجنة وعكاظ وبمنى حتى يستقبل القبائل يعود إليهم سنة بعد سنة حتى إن القبائل منهم من قال : ما آن لك أن تيأس منا ؟ " .

    لقد بقي مستمراً في عملية التبليغ على وتيرة واحدة وبدأب متواصل ، رغم هذه الظروف غير المواتية ، والتي تجعل الإنسان العادي ييأس أو يفتر . ولكن شيئاً من هذا لم يحدث ، فلولا أنه رسول الله حقاً يقوم بهذا كله إيماناً بالله وتنفيذاً لأمره وتصديقاً بوعده وخوفاً من وعيده لما أمكنه الاستمرار وتجاوز شيء من هذا .

    ونكتفي بهذه الأمثلة على تخطيه العقبات أمام البلاغ ؛ لننتقل إلى عرض نماذج من عمله الدائب المستمر الشامل في تبليغ دعوة الله ، أي إلى :

    * * *



    نماذج النوع الثاني : الطرق التي سلكها صلى الله عليه وسلم لإيصال دعوة الله إلى الناس .

    أ- دعوته صلى الله عليه وسلم الناس للاجتماع من أجل أن يبلغهم :

    أخرج أحمد عن ابن عباس قال : " لما أنزل الله {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} أتى النبي صلى الله عليه وسلم الصفا فصعد عليه ثم نادى : يا صباحاه فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء إليه وبين رجل يبعث رسوله فقال رسول الله : يا بني عبد المطلب يا بني فهر يا بني كعب أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني ؟ قالوا : نعم . قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، فقال أبو لهب : تباً لك سائر اليوم أما دعوتنا إلا لهذا ؟ وأنزل الله {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} .

    ب – ذهابه صلى الله عليه وسلم إلى أماكن تجمع الناس وتبليغهم دعوة الله :

    أخرج أحمد عن رجل من بني مالك بن كنانة قال : " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز يتخللها يقول : " يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا " قال وأبو جهل يحثي عليه التراب ويقول لا يغوينكم هذا عن دينكم فإنما يريد لتتركوا آلهتكم وتتركوا اللات والعزى وما يتلفت إليه رسول الله " .

    وأخرج أحمد عن ربيعة بن عباد من بني الديل وكان جاهلياً فأسلم قال : " رأيت رسول الله في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول : " يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا " والناس يجتمعون عليه ووراءه رجل وضيء الوجه أحول ذو غديرتين يقول إنه صابئ كاذب يتبعه حيث ذهب ، فسألت عنه فقالوا : هذا عمه أبو لهب " .

    وأخرج البخاري في التاريخ وأبو زرعة والبغوي وابن أبي عاصم والطبراني عن الحارث ابن الحارث الغامدي قال :

    " قلت لأبي ونحن بمنى ما هذه الجماعة ؟ قال : هؤلاء اجتمعوا على صابئ لهم قال : فتشرفت فإذا برسول الله يدعو الناس إلى توحيد الله وهم يردون عليه الحديث " .

    وأخرج الطبراني عن مدرك قال : حججت مع أبي فلما نزلنا منى إذا نحن بجماعة فقلت لأبي : ما هذه الجماعة ؟ قال : هذا الصابئ ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يا أيها الناس قولوا : لا إله إلا الله تفلحوا " قال الهيثمي ( ج6 ص21 ) ورجاله ثقات .

    وأخرج ابن إسحاق عن الزهري : " أنه عليه الصلاة والسلام أتى كندة في منازلهم وفيهم سيد لهم يقال له مليح فدعاهم إلى الله – عز وجل – وعرض عليهم نفسه فأبوا عليه " .

    وعن محمد بن عبد الرحمن بن حصين : " أنه ( أي رسول الله ) أتى كلباً في منازلهم إلى بطن منهم يقال لهم بنو عبد الله فدعاهم إلى الله ، وعرض عليهم نفسه ، حتى إنه ليقول : يا بني عبد الله إن الله قد أحسن اسم أبيكم فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم " .

    وفي البداية عن عبد الله بن كعب بن مالك : " أن رسول الله أتى بني حنيفة في منازلهم فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه فلم يك أحد من العرب أقبح رداً عليه منهم " .

    وعن ابن إسحاق عن الزهري : " أنه ( أي رسول الله ) أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه فقال له رجل منهم يقال له بحيرة بن فراس : والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب ، ثم قال له : أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ قال الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء . فقال له : أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا لا حاجة لنا بأمرك ؛ فأبوا عليه . فلما صدر الناس رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم قد كان أدركه السن حتى لا يقدر أن يوافي معهم الموسم . فكانوا إذا رجعوا إليه حدثوه بما يكون في ذلك الموسم . فلما قدموا عليه ذلك العام سألهم عما كان في موسمهم فقالوا : جاءنا فتى من قريش ثم أحد بني عبد المطلب يزعم أنه نبي يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به إلى بلادنا . فوضع الشيخ يديه على رأسه ثم قال : يا بني عامر ! هل لها من تلاف ؟ هل لذناباها من مطلب ؟ والذي نفس فلان بيده ما تقوّلها إسماعيلي قط ، وإنها الحق فأين رأيكم كان عنكم ؟ " .

    وأخرج الحافظ أبو نعيم عن العباس – رضي الله عنه – قال : " قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا أرى لي عندك ولا عند أخيك منعة فهل أنت مخرجي إلى السوق غداً حتى نقر في منازل قبائل الناس وكانت مجمع العرب . قال فقلت : هذه كندة ولفها وهي أفضل من يحج البيت من اليمن ، وهذه منازل بكر بن وائل ، وهذه منازل بني عامر بن صعصعة ، فاختر لنفسك ؟ قال فبدأ بكندة فأتاهم فقال : ممن القوم ؟ قالوا : من أهل اليمن . قال : من أي اليمن ؟ قالوا : من كندة . قال : من أي كندة ؟ قالوا : من بني عمرو بن معاوية ، قال : فهل لكم إلى خير ؟ قالوا : ما هو ؟ قال : تشهدون أن لا إله إلا الله ، وتقيمون الصلاة وتؤمنون بما جاء من عند الله . قال عبد الله بن الأجلح : وحدثني أبي عن أشياخ قومه أن كندة قالت له : إن ظفرت تجعل لنا الملك من بعدك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الملك لله يجعله حيث يشاء . فقالوا : لا حاجة لنا فيما جئتنا به " .

    وقال الكلبي : " فقالوا أجئتنا لتصدنا عن آلهتنا وننابذ العرب . الحق بقومك فلا حاجة لنا بذلك . فانصرف من عنده فأتى بكر بن وائل فقال : ممن القوم ؟ قالوا : من بكر بن وائل . فقال : من أي بكر بن وائل ؟ قالوا : من بني قيس بن ثعلبة . قال : كيف العدد ؟ قالوا : كثير مثل الثرى . قال : فكيف المنعة ؟ قالوا : لا منعة جاورنا فارس فنحن لا نمتنع منهم ولا نجير عليهم . قال : فتجعلون لله عليكم إن هو أبقاكم حتى تنزلوا منازلهم ، وتستنكحوا نساءهم ، وتستعبدوا أبناءهم أن تسبحوا الله ثلاثاً وثلاثين ، وتحمدوه ثلاثاً وثلاثين ، وتكبروه أربعاً وثلاثين . قالوا : من أنت ؟ قال : أنا رسول الله . ثم انطلق فلما ولى عنهم قال الكلبي : وكان عمه أبو لهب يتبعه فيقول للناس : لا تقبلوا قوله ، ثم مر أبو لهب فقالوا : هل تعرف هذا الرجل ؟ قال : نعم ، هذا في الذروة منا فعن أي شأنه تسألون ؟ فأخبروه بما دعاهم إليه وقالوا : زعم أنه رسول الله . قال : ألا لا ترفعوا برأسه قولاً فإنه مجنون يهذي من أم رأسه . قالوا : قد رأينا ذلك حين ذكر من أمر فارس ما ذكره " .

    ج) رحلته صلى الله عليه وسلم من أجل التبليغ :

    أخرج الطبراني عن عبد الله بن جعفر قال : " لما توفي أبو طالب خرج النبي إلى الطائف ماشياً على قدميه يدعوه إلى الإسلام فلم يجيبوه فأتى ظل شجرة فصلى ركعتين ثم قال : اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين ! أنت أرحم الراحمين ، إلى من تكلني ؟ إلى عدو يتجهمني أم إلى قريب ملكته أمري ؟ إن لم تكن غضبان علي فلا أبالي غير أن عافيتك أوسع لي . أعوذ بوجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي غضبك أو يحل بي سخطك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بالله " .

    د) تكليفه صلى الله عليه وسلم من أسلم تبليغ من لم يسلم :

    أخرج ابن أبي عاصم عن الأحنف بن قيس قال : " بينما أنا أطوف بالبيت في زمن عثمان إذ أخذ رجل من بني ليث بيدي فقال : ألا أبشرك ؟ قلت : بلى ، قال : أتذكر إذ بعثني رسول الله إلى قومك فجعلت أعرض عليهم الإسلام وأدعوهم إليه فقلت أنت : إنك لتدعونا إلى خير وتأمر به ، وإنه ليدعو إلى الخير . فبلغ ذلك النبي فقال : اللهم اغفر للأحنف " .

    وأخرج الدارقطني عن ابن عمر قال : " دعا النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف فقال : تجهز فإني باعثك في سرية – فذكر الحديث – وفيه : فخرج عبد الرحمن حتى لحق بأصحابه فسار حتى قدم دومة الجندل فلما دخلها دعاهم إلى الإسلام ثلاثة أيام فلما كان اليوم الثالث أسلم الأصبغ بن عمرو الكلبي وكان نصرانياً ، وكان رأسهم فكتب عبد الرحمن – مع رجل من جهينة يقال له رافع بن مكيث – إلى النبي يخبره فكتب إليه النبي أن تزوج ابنة الأصبغ فتزوجها وهي تماضر التي ولدت له بعد ذلك أبا سلمة بن عبد الرحمن " .

    وأخرج ابن إسحاق عن محمد بن عبد الرحمن التميمي قال : " بعث رسول الله عمرو بن العاص يستنفر العرب إلى الإسلام ، وذلك أن أم العاص بن وائل كانت من بني بلى ، فبعثه رسول الله إليهم يتألفهم بذلك " .

    وأخرج البيهقي عن البراء " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام . قال البراء : فكنت فيمن خرج مع خالد بن الوليد ، فأقمنا ستة أشهر يدعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوه . ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – وأمره أن يقفل خالداً إلا رجلاً كان ممن مع خالد ، فأحب أن يعقب مع علي فليعقب معه . قال البراء : فكنت فيمن عقب مع علي . فلما دنونا من القوم خرجوا إلينا ثم تقدم . فصلى بنا علي صفاً صفاً واحداً ثم تقدم بين أيدينا وقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت همدان جميعاً ، فكتب علي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامهم . فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب خر ساجداً ثم رفع رأسه فقال : السلام على همدان !!! السلام على همدان " .

    أخرج أبو نعيم في الحلية عن عروة بن الزبير – رضي الله عنه – " أن الأنصار لما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله وأيقنوا واطمأنت أنفسهم إلى دعوته فصدقوه وآمنوا به – كانوا من أسباب الخير وواعدوه الموسم من العام المقبل فرجعوا إلى قومهم – بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابعث إلينا رجلاً من قبلك فيدعو الناس إلى كتاب الله فإنه أدنى أن يتبع فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير – رضي الله عنه – أخا بني عبد الدار ، فنزل بني غنم على أسعد بن زرارة يحدثهم ويقص عليهم القرآن فلم يزل مصعب عند سعد بن معاذ يدعو ويهدي الله على يديه حتى قل دار من دور الأنصار إلا أسلم فيها ناس لا محالة ، وأسلم أشرافهم ، وأسلم عمرو بن الجموح وكسرت أصنامهم . ورجع مصعب بن عمير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يدعى المقرئ " .

    وروى الطبراني في الكبير عن بكير بن معروف عن علقمة ... عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما بال أقوام لا يفقهون جيرانهم ولا يعلمونهم ولا يعظونهم ولا يأمرونهم ولا ينهونهم ، وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ولا يتفقهون ولا يتعظون ، والله ليعلمن قوم جيرانهم ويفقهونهم ويعظونهم ويأمرونهم وينهونهم ، وليتعلمن قوم من جيرانهم ويتفقهون ويتعظون ، أو لأعاجلنهم العقوبة " .

    ثم نزل فقال قوم : من ترونه عنى بهؤلاء ؟ قال : الأشعريين ، هم قوم فقهاء ولهم جيران جفاة من أهل المياه والأعراب . فبلغ ذلك الأشعريين فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : يا رسول الله ! ذكرت قوماً بخير وذكرتنا بشر فما بالنا فقال : " ليعلمن قوم جيرانهم وليعظنهم وليأمرنهم ولينهونهم وليتعلمن قوم من جيرانهم ويتعظون ويتفقهون أو لأعاجلنهم العقوبة في الدنيا " فقالوا : يا رسول الله ! أنعظن غيرنا ؟ فأعاد قوله عليهم فأعادوا قولهم : أنعظن غيرنا ؟ فقال ذلك أيضاً ، فقالوا : أمهلنا سنة فأمهلهم سنة يفقهوهم ويعلموهم ويعظوهم ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} .

    و) إرساله صلى الله عليه وسلم الرسل والرسائل لتبليغ الملوك والأمراء :

    أخرج البيهقي عن ابن إسحاق قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي في شأن جعفر بن أبي طالب وأصحابه وكتب معه كتاباً :

    " بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله إلى النجاشي الأصحم ملك الحبشة ، السلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الملك القدوس المؤمن المهيمن ، وأشهد أن عيسى روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطاهرة الطيبة الحصينة فحملت بعيسى ، فخلقه من روحه ونفخته كما خلق آدم بيده ونفخه ، وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له ، والمولاة على طاعته ، وأن تتبعني فتؤمن بي وبالذي جاءني فإني رسول الله ، وقد بعثت إليك ابن عمي جعفراً ومعه نفر من المسلمين فإذا جاءوك فأقرهم ودع التجبر فإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل ، وبلغت ونصحت فاقبلوا نصيحتي ، والسلام على من اتبع الهدى " .

    وأخرج البخاري عن ابن عباس حديث أبي سفيان مع هرقل وفيه نص رسالة رسول الله إليه وهذا نصها : " بسم الله الرحمن الرحيم . من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم ! سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد ، فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الإريسيين ، {قُلْ ياأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} .

    وأخرج ابن جرير من طريق ابن إسحاق نص رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وهي : " بسم الله الرحمن الرحيم . من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس ! سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله ، أدعوك بدعاء الله فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة ؛ لأنذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين ، فإن تسلم تسلم وإن أبيت فإن إثم المجوس عليك " .

    وأخرج البيهقي نص رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجران وهي :

    " بسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب من محمد النبي رسول الله إلى أسقف نجران وأهل نجران ! سلم أنتم فإني أحمد إليكم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب أما بعد ! فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد وأدعوك إلى ولاية الله من ولاية العباد ، فإن أبيتم فالجزية فإن أبيتم فقد آذنتكم بحرب والسلام " .

    وقد أرسل الرسول عليه الصلاة والسلام رسائل مشابهة إلى المقوقس وإلى ملك اليمامة وإلى المنذر بن ساوة عظيم البحرين وإلى الحارث بن أبي شمر الغساني وإلى الحارث بن عبد كلال الحميري وإلى ملكي عمان ابني الجلندي وغيرهم .

    * * *

    هذه نماذج من عملية التبليغ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تعطيك صورة مبسطة عن قيامه بتبليغ أمر الله ودينه وشريعته ، واستفياء هذا الموضوع حقه يحتاج إلى مجلد ضخم على الأقل . إذ إن رسول الله خلال ثلاثة وعشرين عاماً بعد النبوة ، لم يهدأ ولم يسترح ولم يفوّت فرصة يستطيع بها أن يبلغ ، بالاتصال الشخصي والعرض الجماعي ، وفي السفر والحضر وبنفسه وأتباعه وبالمشافهة والخطاب ، ثم عمم الأمر على أمته جميعاً بأن أوجب عليهم البلاغ أنه عليه الصلاة والسلام لم يمت إلا والجزيرة العربية كلها مستجيبة لأمر الله ، وأكبر الدول المجاورة للجزيرة العربية قد بلغتها الدعوة ولم يمض عصر الخلفاء الراشدين إلا وكان أكثر العالم المعروف وقتذاك قد بلغته الدعوة ، فمن مستجيب ومن معرض قامت عليه الحجة فأصر على الكفر عناداً ، وما من إنسان يستطيع أن يتصور مثل هذا الحماس للتبليغ المنقطع النظير يمكن أن يكون إلا وليد اقتناع كامل بصدق الدعوة والداعية ، وما كان الداعية ليعطي هذا الحماس لأتباعه ، لو لم يكن هو في أعلى حالات الصدق والقيام بالواجب والشعور بالمسؤولية أمام الله .

    إن تاريخ العام كله لا يقص علينا ، أن أحداً استوعبت دعوته من قبل الآخرين في حياته كما حدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لم يمت إلا وعشرات الآلاف من أتباعه يحفظون من الكتاب المنزل عليه الكثير ، ومن أحاديثه وتعاليمه الكثير الكبير ، ثم حفظت نصوص تعاليمه حرفياً لكل الأجيال الآتية من بعد . لأنها كلها مكلفة باتباعه ومحاسبة أمام الله إن لم تتبعه بعد البلاغ . أما من لم تبلغه دعوته فقد اقتضت رحمة الله ألا يعتبر مسؤولاً ، وكلن عملياً – وذلك كله من آثار قيام الرسول صلى الله عليه وسلم بواجب التبليغ – لم يبق أحد منذ زمن بعيد إلا في النادر لم تبلغه دعوة رسول الله ، وأنت ترى الآن الدعاة إلى الله على صراط رسول الله منتشرين في العالم كله ، لقد قام رسول الله بعملية التبليغ حق القيام ، وكما رأيت فإن كل موقف من مواقفه فيها ما يجعلك على برد اليقين ، بأن هذه المواقف ما كانت لتكون ، لولا أن رسول الله محمداً صادق في دعوى الرسالة عن الله .

    فإلى الصفة الأساسية الرابعة للتبليغ وجوهر الرسالة عن الله وهي العقل العظيم والفطانة لترى أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم الحظ الأعلى منها :

    * * *

  6. افتراضي

    4 – عقله العظيم وفطانته عليه الصلاة والسلام

    1- إن الصفة الرابعة للرسل عليهم الصلاة والسلام هي الفطانة وهي الصفة الملازمة للتبليغ . إذ الرسول معرّض وهو يقوم بعملية التبليغ لمناقشات لخصوم أو لتساؤلات الأتباع أو لاعتراضات المشككين وانتقاداتهم ، فلا بد أن يكون لديه من الذكاء وقوة البيان وحدة العارضة ما يستطيع به أن يدحض شبه الآخرين فلا تقوم لهم حجة ، إذ لو قامت لهم حجة لما كان له عليهم سلطان وذلك مقتضى قوله تعالى : {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} .

    وهذا لا يتم إلا بأن تكون دعوة الرسول حقاً كلها ، إذ غير الحق لا تكون حجته واضحة ، والباطل دائماً حجته داحضه ، ولا يتم كذلك إلا بعقل يستطيع إحكام الحجة في العرض . فكم من حق لم يجد عقلاً فضاع ، ولا يتم هذا كله إلا بفصاحة وبيان يمكن بهما عرض الحجة بالشكل الأكمل ، ولا يتأتى هذا إلا لأعلم الناس وأذكى الناس وأفصح الناس .

    فالناس يتفاوتون علماً ويختلفون اختصاصاً . فمنهم رجل الدين , ومنهم السياسي ، ومنهم الاقتصادي ، ومنهم الطبيب ، ومنهم رجل الحكمة ومنهم ومنهم . وكل واحد من هؤلاء ينبغي أن تقام عليه الحجة فما لم يكن الرسول أعلم الخلق لا يستطيع إقامة الحجة .

    والناس يتفاوتون ذكاء وقوة حجة وعارضة ، والرسول مهمته أن يقيم الحجة على كل البشر فما لم يكن أذكى البشر فإنه لا يستطيع أن يفعل .

    وإنسان يحتاج إلى هذا كله لا بد له من لسان مبين , وفصاحة عظيمة ، حتى قال موسى يوم كلفه الله بالوحي : {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُواْ قَوْلِي} .

    وباجتماع هذه الجوانب كلها تتحقق صفة الفطانة عند الرسول وتدل بذلك على صاحبها أنه رسول الله حقاً مع استكمال بقية الشروط .

    فالحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .

    والحجة الكاملة البينة الخاصة فيه .

    والعرض السليم الكامل الأداء .

    وإلزام الخصوم العجز عن أن يكون لهم موقف حق إلا بالمتابعة .

    كل هذا لا يتأتى إلا لدعوة الله المحيط علماً بكل شيء ، ولرسوله الذي يختاره أهلاً لحمل دعوته {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} .

    * * *

    2- وباستعراضنا لهذه الجوانب عند رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم نجد أن له من كل شيء ذروته ، فمن حيث إن دعوته كلها حق فذلك لا مرية فيه وتحقيق ذلك في كل بحوث هذا الكتاب .

    ومن حيث الفصاحة فهو أفصح العرب على الإطلاق وأبينهم لغة ونطقاً وأداء .

    ومن حيث إقامة الحجة فإنك لا تجد إنساناً يستطيع إقامة الحجة المقنعة على كل إنسان حسب مستواه العقلي بكل بساطة كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبهذا تأتّى له أن يقيم الحجة على الناس بدينه كله ، عقيدة وعبادات وسلوكاً ومنهاج حياة ، هذا مع توفيق الله له ، وحكمته – جل جلاله – في أن جعل القرآن الكريم قد فصّل كل شيء ، وحاجّ كل إنسان فحجّه ، فكان القرآن مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيح كما فحصه علماء الحديث – وهما محفوظان – حجة الله على البشر في كل جيل إلى قيام الساعة .

    * * *

    3- ولتوضيح ظهور هذه الجوانب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم . سنختار نماذج من مناقشاته يقيم بها الحجة على آخرين ومن خطبه أو كتبه يدعو بها إلى شيء من شريعته ومن كَلِمِهِ المعلل بالحكمة في الأمر أو النهي أو الخير مما يدلك على مدى ملكة الإقناع التي وهبها الله لرسوله حتى جعله أكمل الخلق في كل الخلق :

    أخرج عبد الله بن أحمد وأبو يعلى عن سعيد بن أبي راشد قال : رأيت التنوخي رسول هرقل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمص وكان جاراً لي شيخاً كبيراً قد بلغ الفناء أو قرب ، فقلت ألا تخبرني عن رسالة هرقل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل ؟ قال : بلى ... وذكر الحديث ومن جملته :

    " فانطلقت بكتابه ( أي كتاب هرقل ) حتى جئت تبوك فإذا هو جالس بين أصحابه على الماء . فقلت : أين صاحبكُم ؟ قيل : هاهو ذا . فأقبلت أمشي حتى جلست بين يديه فناولته كتابي فوضعه في حجره ثم قال : ممن أنت ؟ قلت : أنا أحد تنوخ . فقال : هل لك في الحنيفية ملة إبراهيم ؟ قلت : إن رسول قوم وعلى دين قوم لا أرجع عنه حتى أرجع إليهم . قال : {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} .

    إلى أن قال : ثم إنه ناول الصحيفة رجلاً عن يساره فقلت : من صاحب كتابكم الذي يقرأ لكم ؟ قالوا : معاوية ، فإذا في كتاب صاحبي يدعوني إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ، فأين النار ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سبحان الله فأين الليل إذا ذهب النهار " .

    قال الهيثمي : رجال أبي يعلى ثقات ورجال عبد الله بن أحمد كذلك .

    أخرج ابن خزيمة عن عمران بن خالد بن طليق بن محمد بن عمران بن حصين قال : " حدثني أبي عن أبيه عن جده أن قريشاً جاءت إلى الحصين – وكانت تعظمه – فقالوا له : كلم لنا هذا الرجل فإنه يذكر آلهتنا ويسبهم ، فجاءوا معه حتى جلسوا قريباً من باب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : أوسعوا للشيخ . وعمران وأصحابه متوافرون . فقال حصين : ما هذا الذي بلغنا عنك . إنك تشتم آلهتنا وتذكرهم وقد كان أبوك حصينة وخيراً ؟ فقال : يا حصين إن أبي وأباك في النار ، يا حصين كم تعبد من إله ؟ قال سبعاً في الأرض وواحداً في السماء . قال : فإذا أصابك الضر من تدعو ؟ قال : الذي في السماء . قال : فإذا هلك المال من تدعو ؟ قال : الذي في السماء . قال : فيستجيب لك وحده وتشركهم معه ، أرضيته في الشكر أم تخاف أن يغلب عليك ؟ قال : لا واحدة من هاتين ، قال : وعلمت أني لم أكلم مثله .

    قال : يا حصين أسلم تسلم .

    قال : إني لي قوماً وعشيرة فماذا أقول ؟

    قال : قل اللهم أستهديك لأرشد أمري ، وزدني علماً ينفعني .

    فقالها حصين فلم يقم حتى أسلم . فقام إليه عمران فقبل رأسه ويديه ورجليه . فلما رأى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بكى وقال :

    بكيت من صنيع عمران ، دخل حصين وهو كافر فلم يقم إليه عمران ولم يلتفت ناحيته فلما أسلم قضى حقه فدخلني من ذلك الرقة . فلما أراد حصين أن يخرج قال لأصحابه : قوموا فشيعوه إلى منزله ، فلما خرج من سدة الباب رأته قرش فقالوا : صبأ ، وتفرقوا عنه " كذا في الإصابة ج1 ص337 .

    أخرج أحمد عن أبي تميمة الهجيمي عن رجل من قومه " أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال : شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه رجل فقال : أنت رسول الله أو قال أنت محمد ؟ فقال : نعم . قال : ما تدعو ؟ قال : أدعو الله عز وجل وحده ؛ مَنْ إذا كان لك ضر فدعوته كشفه عنك ، ومن إذا أصابك عام فدعوته أنبت لك ، ومن إذا كنت في أرض قفر فأضللت فدعوته رد عليك.

    فأسلم الرجل ثم قال : أوصني يا رسول الله ، فقال : لا تسب شيئاً . أو قال أحداً – شك الحكم – قال : فما سببت بعيراً ولا شاة منذ أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    أخرج أحمد عن عدي بن حاتم قال : " لما بلغني خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم كرهت خروجه كراهية شديدة فخرجت حتى وقعت ناحية الروم – وفي رواية : حتى قدمت على قيصر – قال : فكرهت مكاني ذلك أشد من كراهتي لخروجه . قال : قلت : والله لو أتيت هذا الرجل فإن كان كاذباً لم يضرني وإن كان صادقاً علمت ، قال : فقدمت فأتيته . فلما قدمت قال الناس : عدي بن حاتم ، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي : يا عدي بن حاتم أسلم تسلم – ثلاثاً - . قال : قلت : إني على دين . قال : أنا أعلم بدينك منك ، فقلت : أنت تعلم بديني مني ؟ قال : نعم ، ألست من الركوسية وأنت تأكل مرباع قومك ؟ قلت : بلى ، قال : هذا لا يحل لك في دينك ، قال : نعم ، فلم يعد أن قالها فتواضعت لها ، قال : أما إني أعلم الذي يمنعك من الإسلام تقول : إنما اتبعه ضعفة الناس ومن لا قوة لهم وقد رمتهم العرب . أتعرف الحيرة ؟ قلت : لم أرها وقد سمعت بها . قال : فوالذي نفسي بيده ليمتن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد . وليفتحن كنوز كسرى بن هرمز ، قال : قلت كنوز ابن هرمز ؟ قال : نعم ، كسرى بن هرمز ، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد.

    قال عدي بن حاتم : فهذه الظعينة تأتي من لحيرة تطوف بالبيت في غير جوار ، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى ، والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها " . كذا في البداية ج5 ص66 وأخرجه البغوي أيضاً في مجمعه بمعناه ، كما في الإصابة .

    وأخرج أحمد عن عدي بن حاتم قال : " جاءت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا بعقرب فأخذوا عمتي وناساً فلما أتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : نصفوا له . قالت : يا رسول الله بان الوافد وانقطع الولد وأنا عجوز كبيرة ما بي من خدمة ؛ فَمُنَّ عليَّ ، منَّ الله عليك . فقال : ومن وافدك ؟ قالت : عدي بن حاتم . قال : الذي فر من الله ورسوله ؟ قالت : فمنَّ عليَّ ، فلما رجع ورجل إلى جنبه – نرى أنه عليُّ – قال : سليه حملاناً ، قال : فسألته فأمر لها . قال عدي : فأتتني فقالت : لقد فعلت فعلة ما كان أبوك يفعلها وقالت : إيته راغباً أو راهباً ، فقد أتاه فلان فأصاب منه وأتاه فلان فأصاب منه ، قال : فأتيته فإذا عنده امرأة وصبيان – أو صبي – فذكر قربهم منه ، فعرفت أنه ليس ملك كسرى وقيصر . فقال له : يا عدي بن حاتم! ما أفرك ؟ أفرك أن يقال : لا إله إلا الله ، مَنْ إله إلا الله ؟ ما أفرك ؟ أفرك أن يقال : الله أكبر . فهل شيء أكبر من الله عز وجل ؟ فأسلمت فرأيت وجهه قد استبشر " .

    أخرج أبو يعلى ، عن حرب بن سريج قال : حدثني رجل من بلعدوية ، قال : حدثني جدي قال : " انطلقت إلى المدينة فنزلت عند الوادي ، فإذا رجلان بينهما عنزة واحدة ، وإذا المشتري يقول للبائع : أحسن مبايعتي ، قال : فقلت في نفسي هذا الهاشمي الذي قل أضل الناس ، أهو هو ؟ قال : فنظرت فإذا رجل حسن الجسم ، عظيم الجبهة ، دقيق الأنف ، دقيق الحاجبين . وإذا من ثغره نحره إلى سرته مثل الخيط الأسود شعر أسود ، وإذا هو بين طمرين . قال : فدنا منا فقال : السلام عليكم ، فرددنا عليه ، فلم ألبث أن دعا المشتري فقال : يا رسول الله قل له يحسن مبايعتي ، فمد يده وقال أموالكم تملكون ، إني أرجو أن ألقى الله عز وجل يوم القيامة لا يطلبني أحد منكم بشيء ظلمته في مال ولا في دم وعرضٍ إلا بحقه ، رحم الله امرأ سهل البيع ، سهل الشراء ، سهل الأخذ ، سهل العطاء ، سهل القضاء ، سهل التقاضي ثم مضى .

    فقلت : والله لأقصن هذا فإنه حسن القول ، فتبعته فقلت : يا محمد فالتفت إلي بجميعه فقال : ما تشاء ؟

    قلت : أنت الذي أضللت الناس وأهلكتهم وصددتهم عما كان يعبد آباؤهم .

    قال : ذاك الله .

    قال : ما تدعو إليه ؟

    قال : أدعو عباد الله إلى الله .

    قال : فقلت : ما تقول ؟

    قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله وتؤمن بما أنزله علي وتكفر باللات والعزى وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة .

    قال : قلت : وما الزكاة ؟

    قال : يرد غنينا على فقيرنا .

    قال : قلت : نعم الشيء تدعو إليه .

    قال : فلقد كان وما في الأرض أحد يتنفس أبغض إلي منه ، فما برح حتى كان أحب إلي من ولدي ووالدين ومن الناس أجمعين .

    قال : فقلت : قد عرفت ، قال : قد عرفت ؟

    قلت : نعم .

    قال : تشهد أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله وتؤمن بما أنزل علي ، قال : قلت : نعم يا رسول الله ، إني أرد ماءً عليه كثير من الناس فأدعوهم إلى ما دعوتني إليه فإني أرجو أن يتبعوك . قال : نعم فادعهم ، فأسلم أهل ذلك الماء رجالهم ونساؤهم فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه " .

    وذكر البخاري وأبو داود وأتم ما ذَكَرَا رزين مساجلة جرت بني المسلمين وأبي سفيان بعد موقعة أحد – وقد أصيب المسلمون – فنادى أبو سفيان جماعة من المسلمين وهذا نص الحادثة كما رووها : " فأشرف أبو سفيان ( أي على المكان الذي كانوا فيه ) فقال : أفي القوم محمد ؟ فقال : ( أي الرسول وكان معهم ) لا تجيبوه . فقال : أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ فقال : لا تجيبوه . فقال : أفي القوم ابن الخطاب ؟ فلم يجبه أحد ، فقال : إن هؤلاء قتلوا ، ولو كانوا أحياء لأجابوا : فلم يملك عمر – رضي الله عنه – نفسه . فقال : كذبت يا عدو الله ، أبقى الله لك ما يحزنك . قال أبو سفيان : أُعْلُ هبل . فقال صلى الله عليه وسلم أجيبوه . فقالوا : ما نقول ؟ قال : قولوا الله أعلى وأجل . قال أبو سفيان : لنا العزى ولا عزى لكم . فقال صلى الله عليه وسلم : أجيبوه . قالوا ما نقول ؟ قال قولوا الله مولانا ولا مولى لكم . قال أبو سفيان : يوم بيوم والحرب سجال ، وتجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني . قال صلى الله عليه وسلم : أجيبوه ، قالوا : ما نقول ؟ قال : قولوا لا سواء ، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار " أخرجه البخاري وأبو داود إلى قوله " لم تسؤني " وأخرج باقيه رزين .

    وعن ابن إسحاق من حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال : " لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم يوم حنين – وقسم للمتألفين من قريش ( أي حديثو العهد بالإسلام ليمكن الإسلام في قلوبهم ) وسائر العرب ما قسم ، ولم يكن في الأنصار منهم شيء قليل ولا كثير – وجد ( أي تغيرت قلوبهم ) هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى قال قائلهم : لقي والله رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه . فمشى سعد بن عبادة – رضي الله عنه – إلى رسول لله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! إن هذا الحي من الأنصار ، قد وجدوا عليك في أنفسهم . فقال : فيم ؟ قال : فيما كان من قسمك هذه الغنائم في قومك وفي سائر العرب ، ولم يكن فيهم ذلك شيء . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فأين أنت من ذلك يا سعد ؟ قال : ما أنا إلا امرؤ من قومي .

    قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة . فإذا اجتمعوا فأعلمني . فخرج سعد فصرخ فيهم ، فجمعهم في تلك الحظيرة . فجاء رجل من المهاجرين فأذن له فدخلوا ، وجاء آخرون فردهم – حتى إذا لم يبق من الأنصار إلا اجتمع له . أتاه فقال : يا رسول الله قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار حيث أمرتني أن أجمعهم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام فيهم خطيباً ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : يا معشر الأنصار ! ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله ، وعالة ( أي فقراء ) فأغناكم الله ، وأعداء فألف الله بين قلوبكم ؟ قالوا : بلى . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا تجيبون يا معشر الأنصار ؟ قالوا : وما نقول يا رسول الله ! وبماذا نجيبك ؟ المنُّ لله ولرسوله . قال : والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدقتم ؛ جئتنا طريداً فآويناك ، وعائلاً فآسيناك ، وخائفاً فآمناك ، ومخذولاً فنصرناك . فقالوا : المنُّ لله ولرسوله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أوجدتم في نفوسكم يا معشر الأنصار في لعاعة ( أي في شيء تافه إذ اللعاعة نبت ناعم لا يعمر طويلاً ) من الدنيا ؟ تألفت بها قوماً أسلموا ووكلتم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام ، أفلا ترضون – يا معشر الأنصار – أن يذهب الناس إلى رحالهم بالشاة والبعير ، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم ، فوالذي نفسي بيده لو أن الناس سلكوا شعباً ، وسلكت الأنصار شعباً ، لسلكت شعب الأنصار ، ولولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار ، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار . قال : فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم ( أي بلوها بدموعهم ) وقالوا : رضينا بالله ربّاً ورسوله قسماً ثم انصرف . وتفرقوا " وهكذا رواه الإمام أحمد من حديث ابن إسحاق ولم يروه أحد من أصحاب الكتب من هذا الوجه وهو صحيح .

    وأخرج مالك عن عطاء بن يسار : " أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أستأذن على أمي ؟ فقال : نعم . فقال الرجل : إني معها في البيت . فقال : استأذن عليها . فقال : إني خادمها ؟ فقال رسول الله : استأذن عليها ، أتحب أن تراها عريانة ؟ قال : لا . قال : فاستأذن عليها " .

    وأخرج الإمام أحمد والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي أمامة – رضي الله عنه - : " أن فتى شاباً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ائذن لي بالزنا . فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا : مه . فقال : أدْنُ فدنا منه قريباً . قال : اجلس فجلس قال صلى الله عليه وسلم : أتحبه لأمك ؟ قال : لا والله جعلني الله فداءك . قال : ولا الناس يحبونه لأمهاتهم ، قال صلى الله عليه وسلم : أفتحبه لابنتك ؟ قال : لا والله ، يا رسول الله جعلني الله فداءك . قال : ولا الناس يحبونه لبناتهم ، قال صلى الله عليه وسلم أفتحبه لأختك ؟ قال : لا والله جعلني الله فداءك . قال ولا الناس يحبونه لأخواتهم ، قال صلى الله عليه وسلم : أفتحبه لعمتك ؟ قال : لا والله ، جعلني الله فداءك . قال : ولا الناس يحبونه لعماتهم ، قال صلى الله عليه وسلم : أفتحبه لخالتك ؟ قال : لا والله ، جعلني الله فداءك . فقال : ولا الناس يحبونه لخالاتهم ، قال : فوضع يده صلى الله عليه وسلم عليه ثم قال : اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وأحصن فرجه قال : فلم يكن – بعد – ذلك الفتى يلتفت إلى شيء " .

    ومن نقاشه مع وفد نصارى نجران كما ترويه كتب السيرة في أمر عيسى هذا المقطع :

    " قالوا : من أبوه ( أي عيسى يريدون أن يقيمون الحجة بهذا السؤال على أنه ابن الله – تعالى الله- عن ذلك علواً كبيراً - ) .

    وقد رد القرآن عليهم بقوله : {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} .

    ورد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يلي :

    قال : ألستم تعلمون أن الله حي لا يموت وأن عيسى يأتي عليه الفناء ؟

    قالوا : بلى .

    قال : ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه ؟

    قالوا : بلى .

    قال : فهل يملك عيسى من ذلك شيئاً ؟

    قالوا : لا .

    قال : ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ؟

    قالوا : بلى .

    قال : فهل يعلم عيسى من ذلك شيئاً إلا ما عُلِّم ؟

    قالوا : لا .

    قال : ألستم تعلمون أن ربنا صور عيسى في الرحم كيف يشاء ؟ وأن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث ؟

    قالوا : بلى .

    قال : ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها ثم غذّي كما يغذّى الصبي . ثم كان يأكل الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث؟

    قالوا : بلى .

    قال : فكيف يكون هذا كما زعمتم ؟

    ويوم الحديبية وقد حميت قريش للحرب وهو لا يريده قال كلمة أحاطت بجوانب الموضوع الذي يجعل قريشاً لا تريد إلا ما أراد قال :

    " يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب ، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب ؟ فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ، فما تظن قريش ؟ فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة " . تنفرد السالفة : يعني الموت .

    * * * * *

    هذه نماذج على مناقشاته التي يقيم بها الحجة على ألآخرين بالبساطة المقنعة والفصاحة الآسرة .

    وسنرى نماذج على حدة ذكائه الهائل في تصريف الأمور وتدبيرها في الفصل الثاني من هذا الباب .

    أما هنا فنريد أن نتمم ببيان فصاحته التي لا مثيل لها وهي السمة المرافقة التي لا بد منها في إقامة الحجة ونضرب على ذلك أمثلة من خطبه وكتبه وكلمه الذي كان كله بليغاً .

    * * * * *

    في حجة الوداع خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس خطبة طويلة ، وكان الذي يبلغها عنه ربيعة بن أمية ، وهذا جزء منها ترى فيه نماذج الكلم الذي فعل فعله في القلوب بما لم يفعله كلام آخر :

    " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لربيعة : قل يا أيها الناس إن الرسول يقول : هل تدرون أي شهر هذا ؟ فقال ربيعة . فصاح الناس : الشهر الحرام . فقال رسول الله : قل لهم إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة شهركم هذا .

    ثم قال : قل يا أيها الناس إن الرسول يقول : هل تدرون أي بلد هذا ؟ فيقول ربيعة فيصيح الناس : البلد الحرام فيقول عليه الصلاة والسلام : قل لهم إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة بلدكم هذا .

    ثم يأمره : يا أيها الناس إن رسول الله يقول : هل تدرون أي يوم هذا ؟ فيقول لهم فيصيحون : يوم الحج الأكبر . فيقول قل لهم : إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا " .

    ذكره ابن هشام وهو بمعناه عند البخاري ومسلم .

    ومن كلمة له عليه الصلاة والسلام : " أمرني ربي بتسع : خشية الله في السر والعلانية وكلمة العدل في الغضب والرضا ، والقصد في الفقر والغنى ، وأن أصل من قطعني وأعطي من حرمني ، وأعفو عمن ظلمني ، وأن يكون صمتي فكراً ، ونطقي ذكراً ونظري عبرة ، وآمر بالمعروف " لرزين ، والجمل الستة الأولى لها طرق وشواهد تحسنها .

    * * * * *

    ومن وصاياه صلى الله عليه وسلم :

    " يا غلام ! احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك – أو قال : أمامك – تعرَّف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة . إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله تعالى ؛ فإن العباد لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله تعالى لك لم يقدروا على ذلك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله تعالى لك لم يقدروا على ذلك . جفت الأقلام وطويت الصحف ، فإن استطعت أن تعمل لله بالرضا في اليقين فافعل ، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً واعلم أن النصر مع الصبر ، وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسراً ولن يغلب عسر يسرين " . صحيح ، أخرجه أحمد والترمذي مع اختلاف في اللفظ .

    * * * * *

    ومن خطبة طويلة له عليه الصلاة والسلام حفظ منها أبو سعيد الخدري ما يلي :

    " إن الدنيا خضرة حلوة ، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعلمون ، ألا فاتقوا الدنيا واتقوا النساء " .

    " ألا لا يمنعن رجلاً هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه " .

    " ألا إنه ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة بقدر غدرته ، ولا غدرة أعظم من غدرة إمام عامة ، يركز لواؤه عند استه " .

    " ألا إن بني آدم خلقوا على طبقات شتى ، فمنهم من يولد مؤمناً ويحيا مؤمناً ويموت مؤمناً ، ومنهم من يولد مؤمناً ويحيا مؤمناً ويموت كافراً ، ومنهم من يولد كافراً ويحيا كافراً ويموت مؤمناً ، ومنهم من يولد كافراً ويحيا كافراً ويموت كافراً ، ألا وإن منهم البطيء الغضب سريع الفيء والسريع الغضب سريع الفيء ، البطيء الغضب بطيء الفيء ، فتلك بتلك . ألا وإن منهم بطيء الفيء سريع الغضب ، ألا وخيرهم بطيء الغضب سريع الفيء وشرهم سريع الغضب بطيء الفيء ، ألا وإن منهم حسن القضاء حسن الطلب ، ومنهم سيء القضاء حسن الطلب ، ومنهم حسن الطلب حسن القضاء ، فتلك بتلك ألا وإن منهم السيء القضاء سيء الطب ، ألا وخيرهم الحسن القضاء الحسن الطب ، وشرهم سيء القضاء سيء الطلب ، ألا وإن الغضب جمرة في قلب ابن آدم ، أما رأيتم إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه ؟ فمن أحسن بشيء من ذلك فليلصق بالأرض " . أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن .

    * * * * *

    - عن معاذ بن جبل – رضي الله عنه - :

    قال : " كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأصبحت يوماً قريباً منه ونحن نسير . فقلت : يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار . فقال : لقد سألت عن عظيم ، وإنه ليسير على من يسره الله عليه . تعبد الله لا تشرك به شيئاً ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان , وتحج البيت . ثم قال : ألا أدلك على باب من أبواب الخير ؟ قلت : بلى يا رسول الله . قال : الصوم جنة ، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار ، وصلاة الرجل من جوف الليل شعار الصالحين . ثم تلى : {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} . إلى قوله : {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ، ثم قال : ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه ؟ قلت : بلى يا رسول الله . قال : رأس الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد . ثم قال : ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟ قلت : بلى يا رسول الله . قال : كف عليك هذا ، وأشار إلى لسانه ، قلت : يا رسول الله ! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ فقال : ثكلتك أمك يا معاذ ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم – أو قال : على مناخرهم – إلا حصائد ألسنتهم " .

    عن أبي ذر – رضي الله عنه – قال :

    " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثلاثة يحبهم الله ، وثلاثة يبغضهم الله . فأما الثلاثة الذي يحبهم الله : فرجل أتى قوماً فسألهم بالله ولم يسألهم بقرابة بينه وبينهم فمنعوه ، فتخلف رجل بأعقابهم فأعطاه سراً لا يعلم بعطيته إلا الله والذي أعطاه ، وقوماً ساروا ليلتهم حتى إذا كان النوم أحب إليهم مما يعدل به فنزلوا ، فقام يتملقني ويتلو آياتي ، ورجل كان في سرية فلقي العدو فانهزموا فأقبل بصدره حتى يقتل أو يفتح له . وأما الثلاثة الذين يبغضهم الله : فالشيخ الزاني ، والفقير المختال ، والغني الظلوم " .

    وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله – عز وجل – يوم القيامة : يا ابن آدم ! مرضت فلم تعدني ، فيقول : يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين ؟ قال : أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده ؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده . يا ابن آدم ! استطعمتك فلم تطعمني . قال : يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين ؟ قال : إن عبدي فلاناً استطعمك فلم تطعمه ، أما علمت لو إنك أطعمته لوجدت ذلك عندي . يا ابن آدم ! استسقيتك فلم تسقني . قال : يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين ؟ فيقول : إن عبدي فلاناً استسقاك فلم تسقه ، أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي " .

    * * * * *

    والسر في فصاحته صلى الله عليه وسلم أنه يقول الكلمة القصيرة فتبلغ كل مبلغ وتحيط كل إحاطة ، وتصل إلى أدق القضايا ، ويتفاوت الناس في الأخذ منها على مقدار ما أوتوا من حكمة وعلم وذكاء وفهم . وقد عبر هو عليه الصلاة والسلام عن سر فصاحته فقال : أوتيت جوامع الكلم . وانظر عبارته هذه ، تر معناها أنه ليعبر عن المعاني العظيمة الكثيرة الكبير بكلمة مختصرة سهلة ، ولكنها لا تدرك معانيها لما أحاطت به ، وهذه قضية يعرفها كل من اطلع على أحاديث عليه الصلاة والسلام ، التي بلغت عشرات الآلاف ، والمحفوظة في كتب الحديث المعتمدة المنقحة الصحيحة . وخذ أي حديث من أحاديثه وأي كلمة من كلامه تجد هذا واضحاً بالشكل الذي لا يلحق به إنسان إلا في نوادر الحالات ، ولكن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كله من هذا النوع ومن ثم كان أفصح العرب على الإطلاق .

    وقد ضرب العقاد أمثلة على هذا الذي قلناه وحللها فأتى بالجيد ، نجتذيء منه بمثال يقول : " ومن أمثلته ( أي الكلام الجامع للمعاني الكبار في الكلمات القصار عند رسول الله ) علم السياسة الذي اجتمع كله في قوله صلى الله عليه وسلم : " كما تكونوا يول عليكم " . فأي قاعدة من القواعد الأصيلة في سياسة الأمم لا تنطوي بين هذه الكلمات ؟ ؟

    ينطوي فيها أن الأمم مسؤولة عن حكوماتها لا يعفيها من تبعة ما تصنع تلك الحكومات عذر بالجهل ، أو عذر بالإكراه ، لأن الجهل جهلها الذي تعاقب عليه ، والإكراه ضعفها الذي تلقى جزاءه .

    وينطوي فيها أن العبرة بأخلاق الأمة لا بالنظم والأشكال التي تعلنها الحكومة . فلا سبيل إلى الاستبداد بأمة تعاف الاستبداد ولو لم يتقيد فيها الحاكم بقيود القوانين ، ولا سبيل إلى حرية أمة تجهل الحرية ، ولو تقيد فيها الحاكم بألف قيد من النظم والأشكال .

    وينطوي فيها أن الولاية تبع تابع ، وليست بأصل أصيل ، فلا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأحرى ألا يغير الوالي قوماً حتى يتغيروا هم قبل ذلك .

    وينطوي فيها أن الأمة مصدر السلطات على حد التعبير الحديث .

    وينطوي فيها أن الأمة تستحق الحكم الذي تصبر عليه ، ولو لم يكن حكم صلاح واستقلال ، وذلك هو الإبلاغ الذي ينفذ فيه وجهاته كل نفاذ " .

    ويختم العقاد كلامه في هذا الموضوع بقوله :

    " وأمثال هذه الأحاديث في أصول السياسة والأخلاق والاجتماع مما لا يتناوله الإحصاء ، في هذا المقام . كان محمد صلى الله عليه وسلم فصيح اللغة ، فيصح اللسان ، فصيح الداء ، وكان بليغاً مبلغاً على أسلس ما تكون بلاغة الكرامة والكفاية ، وكان بلسانه وفؤاده من المرسلين ، بل قدوة المرسلين " .

    وحسبك هذه الشهادة من العقاد شيخ أدباء العرب في القرن العشرين .

    * * * * *

    وبهذا نرجو أن تكون قد اتضحت لك صفة الفطانة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان الحق ، وإقامة الحجة فيه ، ونصاعة البيان في عرضه ، وكمال الأداء في إيصاله . وستتضح لك هذه الصفة أكثر في الفصل الثاني ، حيث الكلام عن السياسي الأول ، والمحارب الأول ، والمعلم الأول عليه الصلاة والسلام ، ولعل الفصل الثاني سيكون أكثره مشيراً إلى عظمة عبده وفطانته صلى الله عليه وسلم فلنقتصر هنا على ما قدمناه .

    * * * * *

    وبهذا نختم الفصل الأول من هذا الباب وقد رأيت فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم له من الصفات الأساسية للرسل كمالها وتمامها وأن ذلك دليل على أنه رسول الله حقاً ، خلقه الله على أكمل الأحوال وأرفع المقامات ووفقه لأعظم الأعمال ، مما ينوء بحمله كل الرجال مجتمعين . فسار في طريق لم تضطرب بدايته فيه ، ولم تتحول مسيرته عنه . حتى وصل إلى نهايته على استقامة من أول الشوط إليها ، كل خطوة بعد التي تليها ، بناء يتكامل يوماً فيوماً حتى تم ، لا نقص فيه ولا عوج ، ولا ينقض منه شيء أبداً ، وما كان ذلك ليكون لولا أن الله المحيط علماً بكل شيء هو الذي يسدّد رسوله صلى الله عليه وسلم ويرعاه ويسيّره حتى كان ما كان .

    * * *

  7. افتراضي

    الفصل الثاني

    القُدوَة العليَا

    وفي الفصل الأول رأينا أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الصفات الأساسية للرسل الحظ الأعلى. وسنرى في هذا الفصل أن جوانب شخصية الرسول عليه الصلاة والسلام متعددة تعدداً يجعله منفرداً عن الرسل بميزات ، إن شاركوه في بعضها فلم يشاركوه في الكل . فشخصية الرسول تمثلت فيها كل جوانب الحياة ، وما كل رسول كان له مثل هذا . فالرسول عليه الصلاة والسلام كان أباً وما كل رسول كان أباً ، وكان زوجاً وما كل رسول تزوج ، وكان رئيس دولة ومؤسسها وما كل رسول أقام دولة ، وكان القائد الأعلى لجيش الإسلام والمحارب الفذ وما كل رسول حارب . وبعث للإنسانية عامة فشرع لها بأمر الله ما يلزمها في كل جوانب حياتها العقدية والعبادية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والسياسية ، ولم يبعث رسول قط إلى الإنسانية عامة غيره وكان المستشار والقاضي والمربي والمعلم والمهذب والعابد والزاهد والصابر والرحيم ... إلى آخر صفاته – عليه الصلاة والسلام – التي استوعبت كل جوانب الحياة ، فكان بذلك بين الرسل الرسول المفرد العلم الممتاز {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} وإنما كان ذلك لأن الله جلت حكمته جعل الإسلام المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم نظاماً شاملاً لجوانب حياة البشر كلها ، وجعل حياة رسوله نموذجاً لدينه كله في كل جوانبه ، حتى تقوم الحجة على الناس مرتين ، مرة بالبيان النظري ومرة بالبيان العملي ، وشيء آخر هو أن البشر فيهم الأب والابن والزوج . وفيهم السياسي والاقتصادي ورجل الشورى ، وفيهم المحارب والمسالم ، وفيهم المبتلى والمعافى ، وفيهم الراعي والرعية ، وفيهم العامل والتاجر ، فالحياة البشرية متعددة الجوانب , وكل إنسان يعيش حياة تختلف في بعض جوانبها أو تتفق مع الآخرين ، وقد فرض الله على البشر على اختلاف مستوياتهم ، أن يكون الرسول قدوتهم في كل شيء ، فما لم تكن شخصية الرسول متعددة الجوانب والمواقف هذا التعدد ، لا يكون قدوة لكل البشر في كل شيء .

    وقد يعجب إنسان أن تكون حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخصب بحيث تستوعب كل جوانب حياة البشر . فتكون قدوة لهم في هذا كله ، ولكنه الواقع الذي تشهد له كل الدراسات النظرية والعلمية .

    فمثلاً من الناحية النظرية : ادرس مواقف الصبر عنده فإنك تجدها وقد استوعبت كل موقف يحتاج الناس به الصبر . لقد أقام الله رسوله مقام المخرج من وطنه ، ومقام من مات له أولاد وأولاد وأولاد ، ومن ماتت له زوجة وعم وأبناء عم بعضهم قتلى . ومقام من فشل أصحابه في معركة كان يديرها هو ، ومقام من أوذي واستهزئ به ، ومقام من شمت فيه ومن اتهم في عرض أ؛ب الخلق إليه ، ومقام من مرض وجرح ، ومقام من جاع وعطش وخاف وغير ذلك من المقامات التي يعتبرها الناس مصائب بحيث لا تصيب الإنسان مصيبةً إلا ويرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أصيب بمثلها ، وكان له موقف مثالي منها ، فيقف مثله إن كان مؤمناً.

    ومن الناحية العملية : فإن تاريخ الأمة الإسلامية ما خلا في عصر من عصوره ، من ملايين من أفراد هذه الأمة مختلفي المدارك ، ومختلفي المستويات . ومختلفي الاختصاصات ومختلفي المشارب ، منهم الغني والفقير والقائدة والرئيس والعالم والعابد وغيرهم وغيرهم ، كل منهم متمسك بحبل الاقتداء برسول الله في الصغيرة والكبيرة . حتى أنك لتجد النماذج المتباينة من هؤلاء وكل منهم يقيم الدليل على أن سلوكه هو سلوك رسول الله فيما يسير عليه ، وكل ذلك في الواقع ناتج عن الخصب في حياة الرسول التي استوعبت أحوال البشر جميعاً .

    والرسول عليه الصلاة والسلام في كل موقف من هذه المواقف ، وفي كل حال من الأحوال ، وفي كل جانب من الجوانب ، كان المثل الأعلى للبشر والقدوة العليا لهم . إذ إليه يرجع الكمال في كل شيء ، ومنه يعرف الكمال في كل شيء ، وهذا هو الجانب الذي سنعرض له في هذا الفصل ليتضح لنا أنه لا كمال لأي إنسان مهما كان في أي حالة . إلا باتباعه والاقتداء به والتأسي به ، وإن الله لم يعط من الكمال لإنسان ما أعطاه محمداً ، ولم يجتمع في إنسان من الكمالات ما اجتمع في شخصه العظيم ، وذلك آية لله على أن هذا الإنسان رسوله ؛ إذ ما كان ليجتمع لإنسان منبت عن الله وكمالاته ، وإحاطة علمه وتوفيقه .

    وطبعاً نحن لا نستطيع – وخاصة في مثل هذا الفصل القصير المخصص لهذا البحث – أن نحيط بجوانب شخصية الرسول – عليه الصلاة والسلام – مع الإشارة إلى الكمال عنده في كلٍّ . فذلك شيء يستنفد جهد الباحثين الكثير ولا يحاط به . وإنما سنكتب هنا أربع فقرات فقط وباختصار . حول أربعة جوانب من حياته عليه الصلاة والسلام ونرى فيها ما قدمناه واضحاً وهو مقصود هذا الفصل .

    هذه الفقرات هي :

    الفقرة الأولى : الأخلاقي الأول

    الفقرة الثانية : رجل الأسرة الأول أباً وزوجاً

    الفقرة الثالثة : المعلم والمربي الأول

    الفقرة الرابعة : رجل الدولة الأول سياسيّاً وعسكريّاً .

    واخترنا هذه الجوانب لأن المعروف عند الناس أن كمال الإنسان في جانب من هذه الجوانب يكون على حساب تفريطه في بقية الجوانب ، وكلامنا في غير المقتدين بالرسل من أتباعهم ، فاجتماع الكمال لرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الجوانب كلها دليل على صحة ما قلناه . ولتبدأ باستعراض الفقرة الأولى .


    * * *

    1- الأخلاقي الأول

    {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}


    إن أبرز سمة في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم المتعددة الجوانب أخلاقياته التي لا مثيل لها ، فلو أجمعت أنك جمعت كل خلق عظيم في العالم ، وكل تصرف أخلاقي سليم تصرفه في يوم من الأيام إنسان ، فإن ما تجده في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم يربو على هذا كله مجتمعاً . مع انعدام التصرفات غير الأخلاقية في حياته عليه الصلاة والسلام ، مما لا تستطيع معه أن تجد في حياته كلها تصرفاً يمكن أن ترى أعظم منه . وكان أصحابه – رضي الله عنهم – يعرفون منه هذا ، ويتصرفون على أساسه معه ، فكثيراً ما كانوا يوقفون ناساً مواقف سنّ الأنبياء السابقون فيها سنناً فكان يفعل ما فعلوا ، ويعرف الصحابة ماذا سيفعل ، إذ أنهم يعرفون عنه أنه لا يرضى أن يكون أحد أرقى منه تصرفاً أو مسلكاً .

    في الطريق إلى فتح مكة لقي الرسول صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعبد الله بن أبي أمية ، وهما ابن عمه وابن عمته ، وكانا من أشد الناس إيذاء له بمكة ، فأعرض عنهما فأشار علي بن أبي طالب على ابن عمه قائلاً : " ائته من قبل وجهه وقل له ما قال إخوة يوسف : {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ} فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه جواباً ، ففعل ذلك أبو سفيان ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} .

    فانظر ذلك الذي لا يرضى أن يسبقه أحد في موقف من مواقف مكارم الأخلاق . إن أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم هي ميزة شخصيته الكبرى ، حتى أنه ليحدد مهمة رسالته بقوله : " إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق " والواقع أنك لا تستطيع أن تأخذ صورة كاملة عن أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم ، إلا إذا فهمت القرآن والسنة ، وكل ما له علاقة بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم . إذ أخلاقه كما وصفته سيدتنا عائشة – رضي الله عنها – هي القرآن ، إذ قالت : " كان خلقه القرآن " .

    وقد رأيت بشكل عملي في بحث الأمانة من الفصل الأول أن كل آية من القرآن كان صلى الله عليه وسلم المظهر العملي لها ، إذ استعرضنا هناك عدداً من الآيات والأمثلة التطبيقية على ذلك .

    إلا أننا نريد بهذا البحث أن نأتيك ببعض أمهات الأخلاق ومظاهرها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشكل الذي لا يرقى إليه أحد سابقاً أو لاحقاً .

    ونختار من هذه الأخلاق أخلاق الصبر والرحمة والحلم والكرم والتواضع . فهذه من أمهات الأخلاق التي تحمد إذا كانت في محلها ، وسنرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع كل شيء في محله فإذا كان العفو غير محمود فلا عفو ، وإذا كانت الرحمة غير محمودة فلا رحمة ، وهكذا ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو الميزان الذي توزن بتصرفاته أخلاق البشر ويتحدد بهذه التصرفات حدود كل خلق فلا يطغى خلق على خلق .

    أولاً : نماذج من صبره صلى الله عليه وسلم :

    1- مر معك في مبحث التبليغ صور من صبره صلى الله عليه وسلم على الاضطهاد والتعذيب ، والإيذاء والتجويع والسخرية والردود القبيحة عليه والإهانات المتوالية ، وكل هذا تحمله بصبر . فإذا ما علمنا أن هذه الفترة استغرقت ثلاثة عشر عاماً ، أدركنا مقدار الصبر الذي تمتع به رسول الله صلى الله عليه وسلم . وليس هذا فحسب بل كل ما أصيب به هو أصيب به أتباعه والأذى الذي لحق به لحق بأقاربه وهو الشريف ، وكل هذا يجرح نفس الإنسان ، ويحطم أعصابه ، ومع ذلك فما أبه صلى الله عليه وسلم لهذا كله ، بل تحمّله وتحمّل معه الاتهامات الباطلة بالجنون والكذب والسحر ....,...

    والذي جرّب هذه القضايا كلها يعلم كم تحتاج إلى طاقة من الصبر لا تنفد . فإذا ما علمنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحمل هذا كله ، وهو يقف من الناس موقف الهجوم على باطلها وموقف الدعوة إلى ما عنده . نعلم أن المسألة هنا أكبر من الصبر ذاته .

    2- فإذا ما انتقلنا إلى موطن آخر يمتحن فيه الصبر وهو موطن القتال ، رأينا كذلك عجباً . ولعل أبرز مواقفه الصابرة في الحرب والتي تتحطم فيها أقوى الأعصاب موقفاه يوم أحد ويوم الخندق ، يوم الهزيمة الذي بقي فيه ثابتاً ، ويوم الحصار الذي أخذ بالأنفاس وبقي فيه كله أمل وهاك وصفاً مختصراً لموقفه الصابر في اليومين .

    روى مسلم : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش " .

    " واستطاع المشركون أن يخلصوا قريباً من النبي صلى الله عليه وسلم فرماه أحدهم بحجر كسر أنفه ورباعيته وشجه في وجهه فأثقله وتفجر منه الدم ، وشاع أن محمداً قتل ، فتفرق المسلمون ودخل بعضهم المدينة وانطلقت طائفة فوق الجبل ، واختلط على الصحابة أحوالهم فما يدرون ما يفعلون " .

    " وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينثل السهام من كنانته ويعطيها سعد بن أبي وقاص يقول : ارم فداك أبي وأمي ، وكان أبو طلحة الأنصاري رامياً ماهراً في إصابة الهدف قاتل دون رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان إذا رفع رسول الله شخصه ينظر أين يقع سهمه " .

    في هذا اليوم الشديد إذ فرّ المسلمون فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا هذا العدد القليل ، بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم صابراً يدير المعركة التي طرفاها ثلاثة آلاف مقابل أفراد . ولم يهزم ولكنه أصر مع من معه على الاستبسال ، حتى رأى المشركون أن خسارتهم أكبر من ربحهم فتركوهم .

    فأي صبر هذا الصبر ؟

    ولا ننسى أن نذكر أن شائعة قتل محمد صلى الله عليه وسلم كانت قد راجت والرسول صلى الله عليه وسلم نفسه منع مَنْ عرفه مِن تكذيبها ؛ حتى يثبط قريشاً عن المضي في المعركة ، فإذن هو صبر في أحرج المواقف لا يخرج صاحبه عن كامل التدبير .

    ويوم الخندق وقد حوصرت المدينة هذا الحصار الطويل الصعب الذي لم يعرف المسلمون فيه نوماً ولا راحة ، والأحزاب تمطرهم بوابل من الهجمات على الأمكنة الضعيفة ، وتحركات المسلمين متلاحقة من مكان إلى مكان خشية المباغتة وقد طالت الفترة وتعب المسلمون ، وكانوا كما وصفهم الله {إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَاْ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً} في هذا الوضع المخيف يأتي الخبر الصاعق أن قريظة نقضت عهدها وقررت القتال وأصبح المسلمون جميعاً معرضين لقتل الأنفس وسبي الذرية ، فأي صبر يحتاجه القائد في تلك اللحظات في ذلك الموقف الذي يحطم الأعصاب .

    لقد تقنع رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوبه واضطجع ومكث طويلاً حتى إذا هضم المسلمون خطورة موقفهم قام يبث الأمل ويشد العزائم ويرفع المعنويات وهو يقول : " أبشروا بفتح الله ونصره " .

    إن خطورة الموقف الشديد لم تؤثر ذرة على أعصاب القائد العظيم بل هو الصبر الذي يربو على الصبر .

    3- فإذا ما انتقلنا إلى موطن آخر من المواطن التي يمتحن فيها الصبر ، وهو موطن موت الأولاد والأقارب والأصحاب وقلب رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القلب الرحيم ، نجد الصبر الذي يفيض العبرة بلا شكوى ولا ضجر ، وهذه أمثلة من مواقفه في هذه المواطن :

    أخرج ابن سعد عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال :

    رأيت إبراهيم وهو يكيد بنفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله : " تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي ربنا والله يا إبراهيم إنا بك لمحزونون " .

    وأخرج ابن سعد أيضاً عن مكحول قال :
    دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معتمد على عبد الرحمن بن عوف – رضي الله عنه – وإبراهيم يجود بنفسه فلما مات دمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له عبد الرحمن : أي رسول الله ! هذا الذي تنهى الناس عنه متى يرك تبكي يبكوا ، قال : فلما شريت عنه عبرته قال : " إنما هذا رحم وإن من لا يرحم لا يُرحم ، إنما ننهى الناس عن النياحة وأن يندب الرجل بما ليس فيه " .

    ثم قال : " لولا أنه وعد جامع وسبيل مئتاء وأن آخرنا لاحق بأولنا لوجدنا عليه وجداً غير هذا وإنا عليه لمحزونون . تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب ، وفضل رضاعه في الجنة " .

    وأخرج الحاكم عن ابن عباس قال :

    " لما قتل حمزة يوم أحد أقبلت صفية تطلبه ، لا تدري ما صنع ، فلقيت عليّاً والزبير فقال علي للزبير : اذكر لأمك ، وقال الزبير لعلي : لا ، اذكر أنت لعمتك ، قالت : ما فعل حمزة ؟ فأرياها أنهما لا يدريان فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني أخاف على عقلها فوضع يده على صدرها ودعا فاسترجعت وبكت ، ثم جاء فقام عليه وقد مثّل به ، فقال : لولا جزع النساء لتركته حتى يحصل من حواصل الطير وبطون السباع ، ثم أمر بالقتلى فجعل يصلي عليهم ، فيضع تسعة وحمزة فيكبر عليهم تكبيرات ثم يرفعون ويترك حمزة ، ثم يؤتوا بتسعة فيكبر عليهم سبع تكبيرات ثم يرفعون ويترك حمزة ، ثم يؤتوا بتسعة فيكبر عليهم سبع تكبيرات حتى فرغ منهم " .

    وأخرج الطيالسي وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وأبو عوانة وابن حبان عن أسامة ابن زيد – رضي الله عنه – قال :

    " كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأرسلت إليه إحدى بناته تدعوه وتخبره أن صبيّاً لها في الموت . فقال للرسول : ارجع إليها فأخبرها أن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فلتصبر ولتحتسب . فعاد الرسول فقال : إنها قد أقسمت لتأتينها ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وقام معه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ورجال وانطلقت معهم فرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبي ونفسه تقعقع كأنها في شن ففاضت عيناه فقال له سعد : ما هذا يا رسول الله ؟ قال : هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده إنما يرحم الله من عباده الرحماء " .

    4- فإذا ما انتقلنا إلى موطن آخر من المواطن التي يمتحن بها الصبر وهو الصبر على المرض والجوع والفقر . نجد دائماً القمة التي لا يرقى إليها الراقون .

    أخرج أحمد والطبراني وهذه رواية الطبراني :

    " أن فاطمة ناولت النبي صلى الله عليه وسلم كسرة من خبز الشعير ، فقال : ما هذه ؟ قالت : قرص خبزته فلم تطب نفسي حتى أتينك بهذه الكسرة ، فقال لها : هذا أول طعام أكله أبوك منذ ثلاثة أيام " .

    وأخرج ابن سعد والبيهقي عن ابن البحير :

    " أصاب النبي صلى الله عليه وسلم جوع يوماً فعمد إلى حجر فوضعه على بطنه ، ثم قال : ألا ربّ نفسٍ طاعمة ناعمة في الدنيا جائعة عارية يوم القيامة ، ألا ربّ مكرم لنفسه وهو لها مهين , ألا ربّ مهين لنفسه وهو لها مكرم " وحسّنه السيوطي .

    وأخرج مسلم والترمذي عن النعمان بن بشير – رضي الله عنه – قال :

    " ألستم في طعام وشراب ما شئتم ؟ لقد رأيت نبيكم صلى الله عليه وسلم وما يجد من الدقل ما يملأ بطنه ( الدقل : أردأ التمر ) " وفي رواية لمسلم عن النعمان – رضي الله عنه – قال : ذكر عمر – رضي الله عنه – ما أصاب الناس من الدنيا ، فقال : لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يلتوي ما يجد من الدقل ما يملأ بطنه " .

    وأخرج أبو نعيم في الحلية والخطيب وابن عساكر ، وابن النجار عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال :

    " دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي جالساً فقلت : يا رسول الله ! أراك تصلي جالساً فما أصابك ؟ قال : الجوع يا أبا هريرة . فبكيت . فقال : لا تبك يا أبا هريرة ، فإن شدة الحساب يوم القيامة لا تصيب الجائع إذا احتسب في دار الدنيا " .

    وأخرج الطبراني وابن حبان في صحيحه عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال :

    " خرج أبو بكر –رضي الله عنه- بالهاجرة إلى المسجد ، فسمع عمر رضي الله عنه فقال : يا أبا بكر ما أخرجك هذه الساعة ؟ قال : ما أخرجني إلا ما أجد من حاق الجوع ( أي شدة الجوع ) قال : وأنا –والله- ما أخرجني غيره . فبينما هما كذلك إذ خرج عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما أخرجكما هذه الساعة ؟ قالا : والله ما أخرجنا إلا ما نجد في بطوننا من حاق الجوع . قال : وأنا – والذي نفسي بيده – ما أخرجني غيره . فقوما فانطلقوا " .

    وأخرج ابن ماجه وابن أبي الدنيا عن أبي سعيد –رضي الله عنه-

    " أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو موعوك ، عليه قطيفة فوضع يده فوق القطيفة فقال : ما أشد حماك يا رسول الله . قال : إنا كذلك يشدد علينا البلاء ويضاعف لنا الأجر . ثم قال : يا رسول الله ! من أشد الناس بلاء ؟ قال: الأنبياء . قال : ثم من ؟ قال : العلماء . قال : ثم من ؟ قال : الصالحون " .

    وخرج البيهقي عن أبي عبيدة بن حذيفة – رضي الله عنه – عن عمته فاطمة – رضي الله عنها – قالت :

    " أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في نساء نعوده وقد حُمَّ ، فأمر بسِقاء فعلق على شجرة ثم اضطجع تحته فجعل يقطر على فواقه من شدة ما يجد من الحمى فقلت : يا رسول الله ، لو دعوت الله أن يكشف عنك ، فقال : إن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم " .

    فأنت ترى من هذه الأمثلة أنه ما من موطن من مواطن امتحان الصبر إلا امتحن فيه صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي كل مرة نجد عنده الصبر الذي لا يخالطه هلع ، إنها أخلاق النبوة في أعلى كمالات البشر .

    * * *

    ثانياً : نماذج من رحمته صلى الله عليه وسلم :

    1- والناس الذين يخوضون المعارك ويسوسون البشر ، تقسو قلوبهم وتجف دموعهم ، ونادراً ما تجد الموغل في ذلك متصفاً بصفة الرحمة ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن اقتدى به ليسوا من هذا الطراز ، فمهما شئت عندهم من شجاعة وقوة وشدة وصبر وجدت ، ولكنها صفات لا تطغى على خلق الرحمة أبداً ، بل كما أن هذه الصفات في كمالها فكذلك خلق الرحمة عنده صلى الله عليه وسلم في كماله ، وقد رأيته في فقرة سابقة كيف تفيض عينه صلى الله عليه وسلم في كثير من المواقف رحمة وشفقة ، وهو الصابر الذي ما عرف أكثر صبراً منه ، والمقاتل الذي ما عرف أكثر حنكة منه ، يفيض قلبه بالرحمة فيبكي وتدمع عيناه ، وقد يسمع صوت بكائه ؛ إنها نفس تجيش جيشاً ببحار الرحمة .
    2- وهناك مواطن يفقد فيها الرحماء رحمتهم ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفارقه رحمته ، يُؤذى ويُضرب ويُضطهد فيقول : " اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون " ويوم فتح مكة وقد فعلت به ما فعلت ، كان موقفه غير المتوقع كما قص عمر قال : " لما كان يوم الفتح ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة أرسل إلى صفوان بن أمية وإلى أبي سفيان بن حرب وإلى الحارث بن هشام قال عمر : فقلت :

    لقد أمكن الله منهم لأعرفنهم بما صنعوا حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مثلي ومثلكم كما قال يوسف لإخوته { لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين } .
    قال : عمر فافتضحت حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم كراهية أن يكون بدر مني ، وقد قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال " .

    إن المواطن التي تُغلب عادة فيها عواطف الرحمة بعواطف الانتقام أو الانتصار تبقى صفة الرحمة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في محلها لا تطغى على غيرها ولا يطغى غيرها عليها .

    وكانت رحمته تسع الناس جميعاً ويحس بها المستضعفون قبل الأقوياء ، يقول عبد الله بن عمرو : " دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد فجلس إلى الفقراء وبشرهم بالجنة وبدا على وجوههم البشر فحزنت لأنني لم أكن منهم " .

    وجاء في صحيح البخاري : " أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ذات يوم رجلاً أسود فقال : ما فعل ذلك الإنسان ؟ قالوا : مات يا رسول الله ، قال : أفلا آذنتموني ؟ فقالوا : إنه كذا وكذا قصته فحقروا من شأنه ، قال : دلوني على قبره ، فأتى قبره فصلى عليه " .

    وقال معاوية بن سويد : " كنا بني مقرن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لنا خادم إلا واحدة فلطمها أحدنا فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اعتقوها ، فقيل : ليس لهم خادم غيرها ، فقال : فليستخدموها فإذا استغنوا عنها فليخلوا سبيلها " .

    وأخرج الشيخان عن أنس –رضي الله عنه- أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : " إني لأدخل الصلاة وأنا أريد أن أطيلها فأسمع بكاء الصبي فأتجوّز في صلاتي مما أعلم من وجد أمه من بكائه ".

    وبلغت رحمته الحيوان فكان أرحم الخلق به .

    قال عبد الرحمن بن عبد الله : " كنا مع رسول الله في سفر فرأينا حمرة ( طائر مثل العصفور ) معها فرخان لها فأخذناهما فجاءت الحمرة تعرش ( ترفرف ) فلما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم قال : من فجع هذه بولدها ردوا ولدها إليها " .

    ونهى أن يتخذ الحيوان هدفاً يرمى بالنبال ليتعلم فيه الرمي ، وأمر من يريد الذبح أن يحد شفرته ويريح ذبيحته وألا يذبح الحيوان بمرأى من الحيوان ، إن رحمته بلغت كل شيء .

    ولكنها الرحمة التي لا تجاوز حدها :

    لما أسر أبا عزة الشاعر أو مرة استعطفه ( أبو عزة ) حتى أطلق سراحه على شرط ألا يقف بعد اليوم ضده ، وتدور الأيام ويدخل أبو عزة المعركة ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأسره مرة ثانية ويستعطفه مرة ثانية ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ويأمر بقتله . وهذا الذي سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الحالة هو الذي أخذ به القانون الدولي في القرن العشرين حيث نص على أن الأسير الذي يطلق سراحه بشرط عدم الدخول في المعركة ضد آسريه مرة ثانية إذا أسر بعدها يقتل .

    إنها الرحمة التي تفيض حتى تكاد تقتل صاحبها أسى لما يرى من انصراف الخلق عن طريق الجنة إلى طريق النار . حتى يعاتب الله – عز وجل – صاحبَها : { فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً } .

    إنها رحمة النبوة وإنها صفاتها .

    * * *

    ثالثاً : نماذج من حلمه صلى الله عليه وسلم :

    1- وله – صلى الله عليه وآله وسلم – من الحلم – كما له من كل خلق – كماله . يغضب للحق إذا انتهكت حرماته وإذا غضب فلا يقوم لغضبه شيء حتى يهدم الباطل وينتهي ، وفيما عدا ذلك فهو أحلم الناس عن جاهل لا يعرف أدب الخطاب ، أو مسيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه يمكن إصلاحه ، أو منافق يتظاهر بغير ما يبطن . تجد حلمه دائماً عجيباً يفوق الحد الذي يتصوره الإنسان ، خاصة وأن حلمه مع القدرة على البطش والقتل والإرهاب .

    إذ لا يشك أحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أمر بقتل إنسان لتبادر المئات إلى تنفيذ أمره . بل إن بعضهم لا يحتاجون إلى الأمر بقدر ما يحتاجون إلى الإذن . فلو أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لطارت رؤوس عن كواهل أصحابها قبل أن ينهوا كلامهم . ولكن الرسول الحليم صلى الله عليه وسلم كان يتحمل ويحلم حتى إنك لتراه الحلم مجسماً .

    وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال :

    " بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسماً إذا أتاه ذو الخويصرة – رجل من بني تميم – فقال : يا رسول الله ! اعدل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ويلك من يعدل إن لم أعدل ! لقد خبت وخسرت ! إذا لم أعدل فمن يعدل ، فقال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - : يا رسول الله ! ائذن لي فيه فأضرب عنقه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعه ... "

    ويوم حنين إذ قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قسم ، قال رجل – كما يروي البخاري - : " والله إن هذه لقسمة ما عدل فيها وما أريد بها وجه الله ، فقلت : ( أي عبد الله ) : والله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته فأخبرته فقال : من يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله ، رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر " .

    وروى أحمد عن عائشة قالت : " ما ضرب رسول الله بيده خادماً له قط ، ولا امرأة ولا ضرب بيده شيئاً إلا أن يجاهد في سبيل الله ، ولا خير بين شيئين قط إلا كان أحبهما إليه أيسرهما حتى يكون إثماً فإذا كان إثماً كان أبعد الناس من الإثم . ولا انتقم لنفسه من شيء يؤتي إليه حتى تنتهك حرمات الله فيكون هو ينتقم لله " .

    وأخرج الشيخان عن أنس بن مالك : " أن امرأة أتت رسول الله بشاة مسمومة فأكل منها فجيء بها إلى رسول الله فسألها عن ذلك قالت : أردت لأقتلك ، فقال : ما كان الله ليسلطك علي ، أو قال : على ذلك . قالوا : ألا تقتلها ؟ قال : لا ... "

    وأخرج ابن جرير عن أنس – رضي الله عنه – قال : " دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً المسجد وعليه برد نجراني غليظ الصنعة ، فأتاه أعرابي من خلفه فأخذ بجانب ردائه حتى أثرت الصنعة في صفح عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ! أعطنا من مال الله الذي عندك ، فالتفت رسول الله فتبسم فقال : مروا له " .

    وأخرج عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : " كنا نقعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغدوات في المسجد ، فإذا قام إلى بيته لم نزل قياماً حتى يدخل بيته ، فقام يوماً فما بلغ وسط المجلس أدركه أعرابي فقال : يا محمد ! احملني على بعيرين فإنك لا تحملني من مالك ولا مال أبيك ، وجذب بردائه حتى أدركه فاحمرت رقبته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا وأستغفر الله لا أحملك حتى تقيدني قالها ثلاث مرات ثم دعا رجلاً فقال له : احمله على بعيرين . على بعير شعير وعلى بعير تمر " ورواه أحمد .

    وأخرج الطبراني عن أبي أمامة – رضي الله عنه – قال :

    " كانت امرأة ترافث الرجال ( أي تكلمهم كلاماً بذيئاً ) وكانت بذيئة فمرت بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يأكل ثريداً على طربال فقالت : انظروا إليه يجلس كما يجلس العبد ويأكل كما يأكل العبد .

    فقال النبي : وأي عبد أعبد مني ؟
    قالت : ويأكل ولا يطعمني .
    قال : فكلي .
    قالت : ناولني بيدك ، فناولنها .
    فقالت : أطعمني مما في فيك ، فأعطاها فأكلت فغلبها الحياء فلم ترافث أحداً حتى ماتت " .

    وأخرج أبو نعيم عن عائشة – رضي الله عنها – قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه فصنعت له طعاماً وصنعت له حفصة طعاماً فسبقتني حفصة فقلت للجارية : انطلقي فاكفئي قصعتها ، فأهوت أن تضعها بين يدي النبي فكفأتها فانكفأت القصعة فانتشر الطعام ، فجمعها النبي وما فيها من الطعام على الأرض فأكلوا . ثم بعثت بقصعتي فدفعها النبي إلى حفصة فقال : خذوا ظرفاً مكان ظرفكم وكلوا ما فيها ، فما رأيته في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم " .

    وحلمه صلى الله عليه وسلم أوسع من أن يحاط بجوانبه ، ولولا هذا الحلم ما استطاع أن يسوس شعباً كالعرب يأنف أن يطيع أو ينصاع أو يجرح ، وصدق الله العظيم إذ يقول : {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}

    * * *

    رابعاً : نماذج من كرمه صلى الله عليه وسلم :

    إن الكرم في الإسلام طريق من طرق الجنة ، وإن البخل طريق النار . ولذلك فقد كان كرم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجارى . ولا يبارى . إن الله قد جعل خُمُس الغنائم إليه ، وكانت حصته – عليه الصلاة والسلام – من هذا الخمس الخمس . وقد غنم المسلمون غنائم كثيرة ولو أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع مالاً لكان أكثر الخلق مالاً . إن خمس غنائم حنين كان ثمانية آلاف من الغنم وأربعة آلاف وثمان مائة من الجمال وثمانية آلاف أوقية من الفضة وألفاً ومائتين من السبي . هذا الخمس كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقرباه منه خمساه فكم نتصور غنى الرسول صلى الله عليه وسلم لو أراد أن يجمع مالاً من غزواته كلها من خيبر الغنية وقريظة وبني النضير ...

    فإذا علمنا أن مقدار حق رسول الله صلى الله عليه وسلم المعطى له من هذه الأموال مثل هذا وإذا عرفنا أنه كان بالإمكان استثماره وتنميته ثم علمنا بعد ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة عند يهودي وأنه أمر أن يوزع ميراثه إن كان على المسلمين ، وأنه ليس لأقاربه من ميراثه شيء ، وأنه ما كان يلبس إلا الخشن ولا ينام إلا على القليل ، وأنه يجوع الأيام وأنه كان يخشى إذا بقي في بيته مال فلم يوزعه على الناس ، إذا عرفت هذا أدركت أي كرم كان عنده صلى الله عليه وسلم وأي نفس طاهرة هذه النفس وأدركت أنها النبوة . وأن غير النبوة لا تجود بهذا الجود وترضى مع القدرة بهذه الحياة . إلا إذا كانت نفساً متأسية برسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد شهد على ذلك أقوى الناس شركاً وعناداً وبغضاً له صلى الله عليه وسلم فأسلموا نتيجة ذلك ولعل في ما ذكرناه غنية عن ضرب الأمثلة ولكن في المزيد خيراً .

    أخرج الشيخان عن ابن عبسا – رضي الله عنه – قال :

    " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقى جبريل عليه السلام . وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن قال : فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة " .

    وأخرج الشيخان عن جابر بن عبد الله – رضي الله عنه – قال : " ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط فقال : لا .. " .

    وأخرج الطبراني عن الربيع بنت معوذ بن عفراء – رضي الله عنها – قالت : " بعثني معوذ بن عفراء بصاع من رطب عليه آخر من قثاء زغب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان النبي صلى الله عليه وسلم ، يحب القثاء ، وكانت حلية قد قدمت من البحرين فملأ يده منها فأعطانيها " .

    وفي رواية : " فأعطاني ملء كفي حلياً أو ذهباً " ورواه أحمد بنحوه وزاد : " فقال : تحلي بهذا " .

    وأخرج الطبراني في الأوسط عن أم سنبلة – رضي الله عنها – " أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم بهدية فأبى أزواجه أن يقبلنها ، فقلن : إنا لا نأخذ ، فأمرهن النبي صلى الله عليه وسلم فأخذنها ثم أقطعها وادياً .. "

    وأخرج ابن جرير عن سهل بن سعد قال : " جاءت امرأة إلى رسول الله ببردة فقالت : يا رسول الله جئتك أكسوك هذه ، فأخذها رسول الله وكان محتاجاً إليها فلبسها ، فرآها عليه رجل من أصحابه ، فقال : يا رسول الله ما أحسن هذه اكسنيها فقال : نعم . فلما قام رسول الله لامه أصحابه وقالوا : ما أحسنت حين رأيت رسول الله أخذها محتاجاً إليها ثم سألته إياها وقد عرفت أنه لا يسأل شيئاً فيمنعه . قال : والله ما حملني على ذلك إلا رجوت بركتها حين لبسها رسول الله لعلي أكفن فيها " .

    وأخرج أحمد عن أنس : " أن رسول الله لم يسأل شيئاً على الإسلام إلا أعطاه ، قال : فأتاه رجل فأمر له بشاء كثير بين جبلين ما شاء الصدقة ، قال : فرجع إلى قومه فقال : يا قوم ! أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء ما يخشى الفاقة " .

    وزاد في رواية : " فإن كان الرجل ليجيء إلى رسول الله ما يريد إلا الدنيا فما يمسي حتى يكون دينه أحب إليه وأعز عليه من الدنيا وما فيها " .

    وأخرج ابن عساكر في قصة إسلام صفوان بن أمية عن عبد الله بن الزبير ما يلي :

    " وخرج رسول الله قبل هوازن وخرج معه صفوان وهو كافر وأرسل إليه يستعيره سلاحه فأعار سلاحه مائة درع بأداتها . فقال صفوان : طوعاً أو كرهاً . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عارية رادة فأعاره . فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحملها إلى حنين فشهد حنيناً والطائف ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجعرانة فبينما رسول الله يسير في الغنائم ينظر إليها – ومعه صفوان ابن أمية فجعل صفوان بن أمية ينظر إلى شعب ملاء نعماً وشاء ورعاء فأدام النظر إليه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرمقه فقال : أبا وهب يعجبك هذا الشعب . قال : نعم . قال : هو لك وما فيه .

    فقال صفوان عند ذلك : ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبي ، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وأسلم مكانه " .

    هذه نماذج من الكرم تضيع بجانبها كل قصص الكرم المعروفة المشهورة عند الناس . كرم يجعل صاحبه يعيش حياة الجهد والمشقة والفاقة ، حياة لا يطيقها أحد غيره هو وعياله ، مع هذا الملك العريض الواسع ، والسلطان الكبير والواردات الكثيرة ، وزيادة على ذلك أنه لو أراد من أموال المسلمين شيئاً لخاصة نفسه لكان المسلمون في ذلك كراماً . وله الحق في ذلك أليس هو مدبر شؤونهم ومعلمهم ، ولكن هذا كله لم يحدث ، إنه كرم في النفس يمنع صاحبه عن التطلع إلى أموال الآخرين ، وكرم في النفس لا يقوم معه من ملك صاحبه شيء . إنها أخلاق النبوة العربية الهاشمية المصطفاة سليلة إبراهيم عليه السلام .

    * * *

    خامساً : نماذج من تواضعه وتياسره صلى الله عليه وسلم :

    ننقل هنا ما كتبه صاحب بطل الأبطال تحت هذا العنوان مكتفين به في هذا الباب مع حذف بعض جمل المقال يقول :

    " صفة بينة لبطل الأبطال صلى الله عليه وسلم كانت ولا تزال على مر الأجيال بادية واضحة في طبعه الكريم تلك هي : التياسر والتواضع ، فيهما كان محمد صورة صادقة لكرامة الإنسان يؤتاها من صميم نفسه ولا يصطنعها مما يحيط به من مظاهر خادعة متكلفة ، كان محمد التياسر نفسه يتمثل في الرجل الكامل ، وينبعث من أعماق قلبه ، فيبدد ما يتجمع حوله من زخرف السيادة والملك وما يتبعهما من الرياء والزينة ، وما يخدع به الناس من قول أو فعل ، كان محمد قريباً سهلاً هيناً يلقى أبعد الناس وأقربهم وأصحابه وأعداءه وأهل بيته ووفود الملوك بلا تصنع ولا تكلف ، بل بالحق سافراً ، فكانت أعماله تصدر طبيعية كل منها يدل على خلقه كما تدل الصورة على صاحبها واسمعوا إلى عدي بن حاتم ..

    يقول وقد كان يظن أنه سيلقى ملكاً في المدينة :

    " دخلت على محمد وهو في المسجد فسلمت عليه فقال ك من الرجل ؟

    فقلت : عدي بن حاتم ، فقام وانطلق بي إلى بيته ، فوالله إنه لعامد بي إليه إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة فاستوقفته فوقف طويلاً تكلمه في حاجتها ، قال فقلت : والله ما هذا بملك . قال : ثم مضى بي رسول الله حتى إذا دخل بي إلى بيته تناول وسادة من أدم محشوة ليفاً فقذفها إلي فقال : اجلس على هذه ، قال : قلت : بل أنت فاجلس عليها ، فقال : بل أنت . فجلست عليها وجلس رسول الله على الأرض ، قال : قلت : في نفسي : والله ما هذا بأمر ملك " هذه طبيعة محمد لا طلاء عليها ، يأتيه عدي وقد وقع في بعض أهله قبل ذلك أسرى لجيوشه يأتيه مغلوباً فيجلسه على وسادة ويجلس هو على الأرض ..

    ثم انظروا إليه وقد مات ابنه إبراهيم ، فكسفت الشمس فقال الناس : " كسفت الشمس لموت إبراهيم . فيقوم في المسجد : إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تنكسفان لموت أحد ولا حياته " .

    هذه هي النفس البريئة التي تعش الحق للحق . وتتعالى في تواضع عن استغلال وهم من الأوهام .

    انظروا كذلك كيف يستأذن على أحد أصحابه وكيف ينصرف ؟

    يقول قيس بن سعد :

    زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزلنا فقال : السلام عليكم ورحمة الله ، فرد أبي رداً خفياً ، فقلت لأبي : ألا تأذن لرسول الله ، فقال : زده حتى يكثر علينا من السلام فقال صلى الله عليه وسلم : السلام عليكم ورحمة الله ، ثم رجع فاتبعه سعد فقال : يا رسول الله ! إني كنت أسمع تسليمك وأرد عليك رداً خفياً لتكثر علينا من السلام ، فانصرف معه النبي ، وأمر له سعد بغسل فاغتسل ثم ناوله ملحفة مصبوغة بزعفران فاشتمل بها ثم رفع يديه وهو يقول : اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد .

    فلما أراد الانصراف قرب له سعد حماراً ، فقال سعد : يا قيس اصحب رسول الله ، فصحبته فقال : اركب معي ، فأبيت فقال : إما أن تركب وإما أن تنصرف " .

    هذه زيارة سيد العرب والعجم لأحد أنصاره من كبارة المدينة تمر في غير حفل ولا ظهور . يذهب إليه ماشياً ، ويعود على حمار يريد أن يردف عليه رفيقه . تلك السجية الظاهرة لم تحل دون أن يكون محمد مطاعاً وطاعته قربة . فإن يحسب الناس أن مظاهر الرياسة والسلطان لازمة لحسن الولاء واستدامة الطاعة ، فلقد كان ولاء سعد والأنصار لمحمد المتواضع مضرب الأمثال في تاريخ الدعوة الإسلامية ( بل في كل تاريخ ) ولم تكن دعوته قيساً إلى الركوب معه على الحمار أمراً غريباً ، بل كانت هذه عادته يردف على حماره وبلغته وناقته ويعاقب مع رفاقه ( المعاقبة أن يركب واحد مرة ويركب الثاني أخرى ) قال ابن عباس : إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة استقبله أغيلمة بني عبد المطلب فحمل واحداً بين يديه وآخر خلفه . وقال معاذ : كنت ردف رسول الله على حمار يقال له عفير ، وجاء إليه رجل وهو يمشي فقال : اركب ، وتأخر على حماره ، فقال محمد صلى الله عليه وسلم : أنت أحق بصدر دابتك مني إلا أن تجعله لي . فقال الرجل : فإني جعلته لك . ويقول جابر : كان رسول الله يتخلف في السير ، فيزجي الضعيف ( أي يسوقه ليلحق الرفاق ) ويردف ، ويدعو لهم .

    كان مرة في سفر مع صحبه ، فأرادوا أن يهيئوا لهم طعاماً فقسم العمل بينهم ، فقام يجمع الحطب فأرادوا أن يكفوه ذلك فأبى ، لأن الله يبغض الرجل يتعالى على رفاقه . ولما وقف عليه أعرابي يرتجف خشية ، ذَكَّرَه أنه ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد . وخرج على جماعة من أصحابه يتوكأ على عصا ، فقاموا له فقال : لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضاً ...

    وكان محمد يكره الإطراء والألقاب : انطلق إليه وفد بني عامر ، فلما كانوا عنده قالوا : أنت سيدنا ، فقال : السيد الله ، فقالوا : وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طوْلاً ، فقال : قولوا قولكم ، ولا يستجرينكم الشيطان .

    كان في تياسره جم التواضع ، وافر الأدب ، يبدأ الناس بالسلام ، وينصرف بكله إلى محدثه صغيراً كان أو كبيراً ، ويكون آخر من يسحب يده إذا صافح ، وإذا تصدق وضع الصدقة في يد المسكين ، وإذا أقبل جلس حين ينتهي المجلس بأصحابه ، لم يكن يأنف من عمل يعمله لقضاء حاجته أو حاجة صاحب أو جار ، فكان يذهب إلى السوق ويحمل بضاعته ويقول : أنا أولى بحملها ، ولم يستكبر عن عمل الأجير والفاعل سواء كان في بناء مسجد المدينة أو في الخندق وهو أمير الجيش يدفع الأحزاب .

    وكان محمد كذلك متواضعاً في ملبسه وسكنه ، يلبس كعامة من حوله ويسكن ، وقد واتته الدولة والسلطان في صف من حجرات واطئة مبنية باللبن ، بين كل حجرة وأخرى حائط من جريد النخل ملبس بالطين ومغطى بجلد أو كساء أسود من الشعر ، وكان يجيب دعوة الحر والعبد والأمة والمسكين ، ويقبل عذر المعتذر ، وكان يرقع ثوبه ويخصف نعله بيده ، ويخدم ونفسه ويعقل بعيره ، ويأكل مع الخادم ويقضي حاجة الضعيف والبائس .
    كل هذا التواضع والتياسر الصادق من نفسه الطاهرة ، والذي هو صورة صادقة له ، لم ينقص من هيبته ولا محبته ، وقد قيل في وصفه : من رآه بداهة هابه ومن عاشره أحبه . فكانت علاقة أصحابه والناس به علاقة أدب جم وحب ووقار كامل ، لم يتكبر ولكنه لم يرض سوء الأدب ، وكثيراً ما بين لأصحابه كيف يتصرفون في حضرته وفي خطابه .

    يقول .. وليم موير ... في وصف تواضعه وتياسره : " كانت السهولة صورة من حياته كلها ، وكان الذوق والأدب من أظهر صفاته في معاملته لأقل تابعيه ، فالتواضع والشفقة والصبر والإيثار والجود صفات ملازمة لشخصه وجالبة لمحبة جميع من حوله ، فلم يعرف عنه أنه رفض دعوة أقل الناس شأناً ، ولا هدية مهما صغرت ، وما كان يتعالى ويبرز في مجلسه ، ولا شعر أحد عنده أنه لا يختصه بإقباله وإن كان حقيراً . وكان إذا لقي من يفرح بنجاح أصابه أمسك يده وشاركه سروره . وكان مع المصاب والحزين شريكاً شديد العطف حسن المواساة وكان في أوقات العسر يقتسم قوته مع الناس ، وهو دائم الاشتغال والتفكير في راحة من حوله وهناءتهم " .

    ولسنا في تاريخ محمد بحاجة على أحد ، فإن مما اختص به من بين رسل العالم وأبطاله وضوح حياته وجلاؤها من جميع نواحيها . وإنما سقنا عبارة " موير " هنا لشعورنا أنها صادرة عن إعجاب صادق . ولو أننا درسنا سيرة محمد الدراسة اللائقة بها ، لكان اليوم حياً بين أصحابه ، ولوجدنا الصورة التي طبعها على الوجوه بعمله وقوله لا تزال واضحة وضوح نفسه العظيمة ، المتحلية بأخلاق لا يغطيها الطلاء ولا يحجبها رياء ولا ترى إلا على حالة واحدة في الليل والنهار وفي السر والعلانية وفي الشدة والرخاء وفي الضعف والقوة ، وفي السوق وهو في شبابه ، وفي الشيخوخة وهو على عرش النبوة والملك .

    وكان محمد بأخلاقه شخصية من اليسر والتواضع لا تبديل ولا تغيير فيها ، هي النفس التي اتصلت بالسماء وعاشت على الأرض دانية إلى الناس محببة إليهم في كل أطوار حياته . كان بطل الأبطال صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى الذي نحن اليوم أحوج ما نكون إليه في نطاق الأخوة الإسلامية ، لا يرفع من شأن أحدهم غنى أو جاه أو حسب أو نسب وإنما هو مؤمن تقي أو فاجر شقي والناس من آدم وآدم من تراب " اهـ.

    وأخيراً وبعد أن ضربنا لك أمثلة على خمس من أمهات أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم وضح بما لا يقبل الشك أن العالم لم يعرف ارتفاعاً في الأخلاق في كلياتها وجزئياتها وأبعادها وشمولها كله كما عرفه في رسول الله صلى الله عليه وسلم وكما شهد بذلك القرآن العظيم . وأن منتهى آمال الأخلاقيين أن يقلدوه في خلق واحد من أخلاقه وهم لا يرتقون بهذا الخلق إلا إلى بعض ما عنده صلى الله عليه وسلم . وإن الناس جميعاً بكل ما أوتوا من أخلاق لو جمعت أخلاقهم الحميدة فإنهم لا يبلغون أن يحيطوا إلا بالأقل مما كان ( عليه الصلاة والسلام ) . هذا مع أن الناس لا تخلص أخلاقيتهم مما يعابون عليه بحق . أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان الأخلاق كلها محضاً . ليس فيها ما يخالط مما يلام عليه الإنسان ، إلا إذا كان اللائم أعمى البصيرة ، يرى الخير شراً والشر خيراً ، أو حاسداً أو متكبراً أعماه الحسد والكيد عن رؤية الحقيقة التي لا تغيب عن أحد . وإن أحد عرف الرسول صلى الله عليه وسلم في زمانه من عدو أو صديق إلا وأسلم في ضميره أن الخلق المحمدي لا يرقى إليه مطعن ، وقد مر معك كثير من شهادة الأعداء وهم أعداء بذلك . وقديماً قال أحد آباء زوجاته المشركين وقد بلغته خطبته لبنته ، " هو الفحل لا يجدع أنفه " . وقال عكرمة بن أبي جهل بعد حربه الطويلة لرسول الله هو وأبوه في لحظة إسلامه :

    " أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنت عبد الله ورسوله وأنت أبر الناس وأصدق الناس وأوفى الناس ، قال عكرمة : أقول ذلك وإني لمطأطيء رأسي استحياء منه ... "

    * * *

  8. افتراضي

    2- رجل الأسرة الأول : أباً وزوجاً
    ( أ )

    التعريف بأزواجه عليه الصلاة والسلام :

    قال ابن هشام : وكُنَّ تسعاً : عائشة بنت أبي بكر ، وحفصة بنت عمر بن الخطاب ، وأم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب ، وأم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة ، وسودة بنت زمعة ابن قيس ، وزينب بنت جحش بن رئاب ، وميمونة بنت الحارث بن حزن ، وجويرية بنت الحارث بن أبي ضرار ، وصفية بنت حيي بن أخطب ، فيما حدثني غير واحد من أهل العلم .

    وكان جميع من تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة . خديجة بنت خويلد وهي أول من تزوج . زوجه إياها أبوها خويلد بن أسد ، ويقال أخوها عمرو بن خويلد ، وأصدقها رسول الله عشرين بكرة فولدت لرسول الله ولده كلهم إلا إبراهيم ، وكانت قبله عند أبي هالة بن مالك أحد بني أسيد بن عمرو بن تميم حليف بني عبد الدار ، فولدت له هند بن عمرو بن مخزوم فولدت له عبد الله وجارية . وتزوج رسول الله عائشة بنت أبي بكر الصديق بمكة وهي بنت سبع سنين وبنى بها بالمدينة وهي بنت تسع سنين أو عشر ولم يتزوج رسول الله بكراً غيرها . زوجه إياها أبوها أبو بكر وأصدقها رسول الله أربع مائة درهم . وتزوج رسول الله سودة بنت زمعة .. زوجه إياها سليط بن عمرو ويقال : أبو حاطب بن عمرو .. وأصدقها رسول الله أربع مائة درهم ، وكانت قبله عند السكران بن عرمو ..

    وتزوج رسول الله زينب بنت جحش بن رئاب الأسدية زوجه إياها أخوها أبو أحمد ابن جحش وأصدقها رسول الله أربع مائة درهم وكانت قبله عند زيد بن حارثة مولى رسول الله ففيها أنزل الله تبارك وتعالى {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} . وتزوج رسول الله أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومية واسمها هند ، زوجه إياها سلمة بن أبي سلمة ابنها وأصدقها رسول الله فراشاً حشوه ليف وقدحاً وصفحة ومجشة ( أي رحى ) وكانت قبله عند أبي سلمة بن عبد الأسد واسمه عبد الله فولدت له سلمة وزينب ورقية .

    وتزوج رسول الله حفصة بنت عمر بن الخطاب ، زوجه إياها أبوها عمر بن الخطاب ، وأصدقها رسول الله أربع مائة درهم وكانت قبله عند خنيس بن حذافة السهمي .

    وتزوج رسول الله أم حبيبة واسمها رملة بنت أبي سفيان بن حرب زوجه إياها خالد بن سعيد بن العاص وهما بأرض الحبشة وأصدقها النجاشي عن رسول الله أربع مائة دينار وهو الذي كان خطبها على رسول الله وكانت قبله عند عبيد الله بن جحش الأسدي .

    وتزوج رسول الله جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار الخزاعية كانت في سبايا المصطلق من خزاعة فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن الشماس الأنصاري فكاتبها على نفسها فأتت رسول الله تستعينه في كتابها ، فقال : هل لك في خير من ذلك ؟ قالت : وما هو ؟ قال : أقضي عنك كتابتك وأتزوجك . فقالت : نعم فتزوجها ..

    وتزوج رسول الله صفية بنت حيي بن أخطب سباها من خيبر فاصطفاها لنفسه وأولم رسول الله وليمة ما فيها شحم ولا لحم كان سويقاً وتمراً وكانت قبله عند كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق .

    وتزوج رسول الله ميمونة بنت الحارث بن حزن .. زوجه إياها العباس بن عبد المطلب وأصدقها العباس عن رسول الله أربع مائة درهم وكانت قبله عند أبي رهم بن عبد العزى .. ويقال إنها التي وهبت نفسها للنبي وذلك أن خطبة النبي انتهت إليها وهي على بعيرها وفقالت : البعير وما عليه لله ولرسوله فأنزل الله تبارك وتعالى {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا} ...

    وتزوج رسول الله زينب بن خزيمة بنت الحارث ... وكانت تسمى أم المساكين لرحمتها إياهم ورقتها عليهم زوجه إياها قبيصة بن عمرو الهلالي وأصدقها رسول الله أربع مائة درهم وكانت قبله عند عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف ، وكانت قبل عبيدة عند جهم بن عمرو بن الحارث وهو ابن عمها .

    فهؤلاء اللاتي بنى بهن رسول الله إحدى عشرة فمات قبله منهن اثنتان خديجة بنت خويلد وزينب بنت خزيمة . وتوفي عن تسع قد ذكرناهن في أول هذا الحديث .

    واثنتان لم يدخل بهما أسماء بنت النعمان الكندية تزوجها فوجد بها بياضاً فمتعها وردها إلى أهلها . وعمرة بنت يزيد الكلابية وكانت حديثة عهد بكفر فلما قدمت على رسول الله استعاذت من رسول الله فقال رسول الله : منيع عائذ الله ، فردها إلى أهلها ، ويقال : إن التي استعاذت من رسول الله كندية بنت عم لأسماء بنت النعمان ويقال : إن رسول الله دعاها فقالت : إنا قوم نؤتى ولا نأتي فردها رسول الله إلى أهلها .

    القريشيات من أزواج النبي ست : خديجة .. وعائشة .. وحفصة .. وأم حبيبة .. وأم سلمة .. وسودة بنت زمعة .

    والعربيات غيرهن ست : زينب بنت جحش .. بن أسد بن خزيمة ، وميمونة بنت الحارث بن هلال بن عامر ... بن صعصعة ... بن قيس بن عيلان ، وزينب بنت خزيمة ... بن هلال بن عامر بن صعصعة ...، وجويرية بنت الحارث بن أبي ضرار الخزاعية ، ثم المصطلقية ، وأسماء بنت النعمان الكندية ، وعمرة بنت يزيد الكلابية .

    ومن غير العربيات : صفية بنت حيي أخطب من بني النضير .

    * * *
    ( ب )

    ويقول الكارون : إن هذا يخدش نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أن يكون له كل هذا العدد من الزوجات .

    ونقول : إن الذين يقولون هذا الكلام أحد ثلاثة : إما إنسان له دين غير الإسلام ، وهذا إما أن يكون دينه يقود بتعدد الزوجات أو لا . أو إنسان لا يؤمن بدين .

    أما الإنسان الذي لا يؤمن بدين فهذا لا يرى حرجاً أن يعاشر آلاف النساء عشرة الزوجات ، ولا يرى في ذلك بأساً ولا يتحرج أن يضاجع أي امرأة ولو كانت أخته ، ولو كانت زوجة صاحبه ، وما أكثر ما سمعنا بأمثال هذا عن هؤلاء . فلا محل لكلام هؤلاء ولا يُناقَشون أصلاً ، لأنه ليس لديهم مقاييس يمكن أن تكون معقولة يناقشهم الإنسان عليها .

    وأما الذين لهم دين يقول بالتعدد المطلق فهؤلاء كذلك لا نقاش معهم إذ ما أبيح لهم كيف يحرمونه على غيرهم .

    وأما الذين لهم دين يقول بعدم جواز التعدد كالنصارى الحاليين فإننا نقول لهم : إما أن عدم التعدد هو شريعة الله فهذا غير صحيح بدليل تاريخ الكنيسة عندكم ، وأما أن زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا العدد من النساء يتنافى مع جلال النبوة . فإن الكتب التي بين أيديكم وتؤمنون بها وهي كتب العهد القديم ، تذكر أن من الأنبياء الذين تؤمنون بنبوتهم من تزوج بنساء أكثر بكثير من نساء سيدنا محمد عليه السلام . فلماذا تتناقضون ؟

    غير محمد صلى الله عليه وسلم من الأنبياء إذا تزوج أكثر منه فذلك لا يتنافى مع جلال النبوة أما هو فيتنافى ؟

    إن هذا عمى عن الحقيقة وتجاهل لها ، فإن فرط الرجولة ليس عيباً في الرجل بل كمال فيه إذا بقيت ضمن الإطار الذي حدده الله .

    إن الأنبياء منفذون لأوامر الله لا يخرجون عنها ، فإذا ما صحت نبوة نبي وتصرف ضمن أوامر الله فلا حرج عليه وقد أشار القرآن إلى هذا المعنى في قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش : {مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً} .

    * * *
    ( ج )

    إن ظاهرة الرسالة ظاهرة نادرة في التاريخ البشري وظهورها بمحمد صلى الله عليه وسلم هو الظهور الأخير ؛ لذلك فقد خص الله رسوله صلى الله عليه وسلم ببعض الأحكام ، وكل ماخص به صلى الله عليه وسلم كان فيه نوع من التكليف أكبر ، ونوع من العبء أكبر ، وحتى هذه القضية قضية تعدد زوجاته ، كان غرمها أكبر من غنمها ، وعبؤها أكبر من سهولتها ، لما يترتب على ذلك من القيام بحقوق هذا العدد الكثير . وسياستهن وتدبير أمورهن من جهد ، مع كثرة أعباء الرسول صلى الله عليه وسلم الأخرى من جهاد وتعليم وتدبير و ...

    ولو تأمل الإنسان هذا الموضوع بعمق لوجد أنه دليل مستقل على النبوة والرسالة وذلك لما فيه من الحكم الكثيرة والمصالح المتعددة .

    فلقد أحل الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يتزوج ما شاء بقوله :

    {ياأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}

    ثم أنزل بعد ذلك :

    {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَآءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ... }

    إذن بعد أن تزوج ما تزوج منع من الزواج فلم يتزوج عد وجعل الله زوجاته أمهات المؤمنين فلا يجوز لأحد أن يتزوج منهن بعده صلى الله عليه وسلم فما الحكمة في ذلك كله ؟

    أولاً : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج الكبيرة والصغيرة والوسط ، والمرأة في كل طور من أطوارها لها مشاكلها . وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم العملية وأجوبته الدائمة بما يتفق مع كل طور ، ونقل هذا كله إلى الأمة الإسلامية مما تقتضيه مهمة الرسالة التي جعلها الله عز وجل مبينة لكل شيء مما يلزم الإنسان .

    ثانياً : إن المرأة في الإسلام مكلفة كالرجل ، ولها وضعها الخاص الذي تختلف فيه عن الرجل . ووجود هذا العدد من النساء يساعد على نقل كل ما له علاقة بالمرأة إلى الأمة الإسلامية . بحيث يكون أمهات المؤمنين أسوة النساء في العالم على اختلاف أحوالهن ومشاربهن .

    ثالثاً : زواج الرسول صلى الله عليه وسلم من هؤلاء النسوة الطاهرات وفيهن القرشية وغير القرشية وفيهن ذات الأصل اليهودي ، وفيهن من كان أبواها مهاجرين ، وفيهن من كان أبواها كافرين وقت زواجه منها ، ومنهن الصغيرة جداً ، ومنهن الكبيرة جداً يجعل المسلم لا يرى حرجاً في الزواج من أي امرأة أحلها الله له ما دامت متوافرة فيها شروط الحل . ولا يرى حرجاً في التعدد وهو كما سنرى في بعض الأحوال ضرورة لا بد منها .

    رابعاً : والرسول صلى الله عليه وسلم الذي افترض الله على المسلمين محبته ، قد استل بهذا الزواج سخائم قلوب ما كانت لتزول لولا هذه الصلاة من القرابة .

    خامساً : إن صلة الوصل بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ونساء الأمة هن زوجاته في الغالب وكثرة زوجاته يجعل دائرة اتصال المسلمات به صلى الله عليه وسلم أكثر ، ويجعل إيصال الأحكام إلى النساء متيسراً ، فكل واحدة منهن يألفها بعض النساء بجامع القرابة أو السن . ولولا ذلك ما استطاعت امرأة واحدة أن تستوعب كل شئون النساء ولولا ذلك ما رأينا آلاف الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق زوجاته يتحدثن فيها عن آلاف الأمور كانت تبقى غامضة أو غير معروفة .

    سادساً : والإسلام قد أتى بمفاهيم جديدة ومثل كاملة مما له علاقة بالمرأة وكان لا بد أن تهضم هذه المثل الجديدة مجموعة كبيرة من النساء لضمان استيعابها واستمرارها وتأكيدها وهي قلب لمفاهيم سائدة ، وأوضاع فاسدة ، فكان هذا العدد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم يحقق هذه الحكمة .

    سابعاً : ثم كان هذا الزواج حَلاً لا بد منه في بعض الحالات .

    فأم سلمة المخزومية بنت سيد مخزوم المهاجرة إلى الحبشة وإلى المدينة والتي استشهد زوجها ، وليس لها أحد ، وهي بنت زاد الركب أبي أمية المخزومي ، وقد خطبها أبو بكر وعمر فرفضت . فهل تبقى وحدها أرملة وهي التي تحملت من أجل الإسلام ما تحملت ، إنه ليس هناك حل أبر وأكرم من ضم رسول الله صلى الله عليه وسلم لها إلى نسائه وقد رضيت .

    ورملة بنت أبي سفيان زعيم قريش بل العرب كلها ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي أسلمت وهجرت أباها وقومها وهاجرت إلى الحبشة مع زوجها ثم تنصر زوجها وارتد ومات كافراً ، هذه تترك لمن ؟ أليست مكافأتها في مكانتها أن تكون زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكم سيكون لهذا أثره في نفس العدو الأكبر أبيها ؟

    وزينب بنت جحش التي زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم من متبناه زيد ولم تستقم حياتهما وأراد الله أن يهدم قاعدة التبني عند العرب التي لا تقوم على أساس معقول فهدمها بشكل جذري يوم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوج زينب مطلقة متبناه زيد .

    وجويرية بنت الحارث بنت سيد قومها ، وقومها من أعز بيوت العرب عرضاً ، وقد أسر رجال قومها ، وسبي نساؤهم ، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الناس : أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعتقوا كل من له علاقة بها .

    وصفية بنت حيي كان أبوها ملك اليهود تقريباً وزوجها كذلك من ساداتهم وقد هلك أبوها وأخوها وزوجها وكان من سنتهصلى الله عليه وسلم الرحمة بعزيز قوم ذل فضمها إلى نسائه رحمة بها ، واستل ما بفؤادها من حقد كان يمكن أن يعذبها مدى الحياة ، وبزواجه بعائشة وحفصة وثق الصلة بينه وبين أعظم رجلين بعده من أمته وهكذا ..

    ثامناً : وفتح بهذا الزواج صلى الله عليه وسلم لزعماء أمته أفقاً جديداً لا ينبغي أن يغيب عنهم أثناء العمل المتواصل . وهو تقوية الصلات مع الآخرين بواسطة الزواج . وتوهين حقد المغلوبين بهذه الواسطة ، وقد رأينا المسلمين استفادوا من هذا الجانب استفادة كبيرة .

    تاسعاً : ثم هو بهذا الزواج وبسلوكه العملي العادل يبين الطريق الصحيح للسلوك الذي ينبغي أن يسلكه من تعددت زوجاته ، بحيث لا تختل قيم الحياة ، ولا تشعر المرأة بعذاب الظلم ، ويعرف النساء على حقوقهن وحدود هذه الحقوق .

    وبظهور هذه الحكم وواقعيتها نرى أن هذا الزواج أدل على النبوة . وسنرى هذا بشكل أوضح عندما ندرس سيرته معهن صلى الله عليه وسلم .

    * * *

    ( د )

    رأينا أن كل امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في زواجها مصلحة وحكمة وخلق عظيم وإنسانية عالية ، تلمح بها تصرفات النبوة ومثاليتها وأخلاقيتها ، وسنرى في هذه الفقرة ونحن نستعرض الخطوط العريضة لسيرته صلى الله عليه وسلم معهن أن كل خط من هذه الخطوط دليل على النبوة وفيه أرقى أمثلة الأسوة .

    " أول هذه الخطوط العدل في السكن والنفقة والكسوة والمبيت والزيارات والوقت . كان بينهن الجميلة جداً والكبيرة والشابة والعادية الجمال . وما كان يصرفه شيء من الميزات عن العدل ، لكل واحدة منهن ليلة ، وإذا زار إحداهن زارهن بعد ذلك جميعهن وحتى وهو في مرضه الأخير وهو أحوج إلى الاستقرار في بيت واحد لم يرض أن يستقر في بيت عائشة إلا بعد أن أذن له الجميع بذلك . ومع هذه الدقة في العدل كان يستغفر الله من عدم عدله في المحبة . إذ لا سلطان له على قلبه فيها ، بل السلطان لله فكان صلى الله عليه وسلم يقول :

    " اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك " .

    وكان إذا أراد السفر أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله معه . قالت أم سلمة " لما تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام عندي ثلاثاً وقال : إنه ليس بك هوان على أهلك . إن شئت سبعت لك وإن سبعت لك سبعت لنسائي " .

    وعن أنس : " من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعاً ثم قسم وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثاً ثم قسم " .

    * وثاني هذه الخطوط : التكافؤ في الإنسانية . فمن سنن الإسلام أن المرأة كالرجل في الإنسان إلا أن زوجها رئيسها {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} وهذا شيء غير مألوف عند الغرب ولا في زمان نزول الإسلام ولكنه دين الله .

    ومن أمثلة هذا التكافؤ في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم العملية ، أنه كان ينزل على مشورة بعض نسائه وأنه كان يسمح لهن بمناقشته ، وإذا تزوج امرأة فبرضاها .

    يوم الحديبية أمر المسلمين أن يحلقوا وينحروا بعد الصلح ليتحللوا . فبقوا واجمين فدخل على زوجه أم سلمة وهو متأثر فسألته ، فأخبرها فقالت : يا رسول الله أتحب ذلك ؟ اخرج ثم لا تكلم أحداً منهم حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك ، فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك ، فلما رأى المسلمون ما صنع النبي صلى الله عليه وسلم زاح عنهم الذهول فقاموا عجلين ينحرون هديهم ويحلق بعضهم بعضاً حتى كاد بعضهم يقتل الآخر .. " راجع قصة ذلك في صحيح البخاري .

    وقال عمر : فتغضبت يوماً علي امرأتي فإذا هي تراجعني فأنكرت أن تراجعني فالت : ما تنكر أن أراجعك فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل قال فانطلقت فدخلت على حفصة فقلت : أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : نعم . قلت : وتهجره إحداكن اليوم إلى الليل ؟ قالت نعم . قلت : قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر .

    وقال أنس في الحديث عن صفية : " فكان صلى الله عليه وسلم يحوي لها وراء بعباءة ثم يجلس عند بعيره فيضع ركبته فتضع صفية – رضي الله عنها – رجلها على ركبته حتى تركب " .

    فإذا ما عرفت أنه في عصر الفروسية في أوروبا الذي يعتبر العصر الذهبي للمرأة ما كانت تجرؤ امرأة على أن تقدم مشورة لزوجها ، أدركت أن تصرف محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس وليد بيئته ولا زمانه وإنما هو تصرف الأنبياء .

    ينقل العقاد هذه الحادثة ويعلق عليها من كتاب لغربي يتحدث عن المرأة في عصر الفروسية قال :

    يروي ( أي صاحب الكتاب ) فيها أن الملكة بلانشفلور ذهبت إلى قرينها الملك بيبين تسأله معونة أهل اللورين ، فأصغى إليها الملك ثم استشاط غضباً ولطمها على أنفها بجمع يده . فسقطت مننها أربع قطرات من الدم وصاحت تقول : شكراً لك ، إن أرضاك هذا فأعطني من يدك لطمة أخرى حين تشاء .

    ولم تكن هذه حادثة مفردة ، لأن الكلمات على هذا النحو كثيراً ما تتكرر كأنها صيغة محفوظة ، وكأنما كانت تلك اللطمة بقبضة اليد جزاء كل امرأة جسرت في عهد الفروسية على أن تواجه زوجها بمشورة .

    ولكن المظهر الأعظم من مظاهر هذا التكافؤ . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يستنكف داخل بيته أن يقوم بحاجته ، وأن يخدم نفسه ، بل إنه كان يقوم أحياناً بحاجة أهله ، وكان يقول :

    " خدمتك زوجتك صدقة " ، فقيام المرأة بشأن البيت ليس عاراً يترفع عنه الرجل ، بل هو كمال يتطاول إليه الرجل ولا يأنف ، وكيف يأنف المسلم وقد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    والمرأة تحب من زوجها أن يكون جميلاً متجملاً ، وأن يقضي حقها الجنسي ، وأن يكون لطيفاً معها مؤنساً لها ، وهذا كله خط آخر من خطوط معاملة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لأزواجه .

    فقد كان أجمل الناس وكان مع هذا الجمال أنيقاً ، لا يطيق ما يتنافى مع هذه الأناقة مع بساطة المظهر وروي عنه قوله : اغسلوا ثيابكم وخدوا من شعوركم واستاكوا وتزينوا وتنظفوا فإن بني إسرائيل لم يكونوا يفعلون ذلك فزنت نساؤهم . ويقول " فإذا جامع أحدكم أهله فليصدقها ثم إذا قضى حاجته قبل أن تقضي حاجتها فلا يعجلها حتى تقضي حاجتها " . وكان يفعل هذا كله وأكثر منه فقد ورد في وصفه إذا خلا مع أهله :

    " كان ألين الناس ضحاكاً بساماً " .

    " كان من أفكه الناس مع نسائه " .

    " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار وهن إحدى عشر . قيل لأنس وكان يطيقه ؟

    قال : كنا نتحدث أنه أعطي قوة ثلاثين في الجماع .

    وكان من آداب الإسلام أنه إذا كان للرجل زوجة أن يعفها . أي أن يجامعها حتى لا تشعر بحاجة إلى الرجال .

    وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مقياس الأخلاق معاملة الرجل لزوجته إذ أنها الضعيفة تحت يده ، الدائمة العشرة لها ، فكان من كلامه " خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي " وما ضرب امرأة قط وكان يؤنب من يضرب .

    " أما يستحي أحدكم أن يضرب امرأته كما يضرب العبد ؟ يضربها أول النهار ثم يجامعها آخره " .

    4- والخط العريض الرابع في معاملته لزوجاته حسن سياستهن وتأديبهن :

    كن يغرن وكان يتحمل هذه الغيرة إلا أن تخرج عن الخط السوي فيؤدب .

    تقول عائشة – رضي الله عنها - : ما رأيت صانعة طعام مثل صفية صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً وهو في بيتي ، فأخذني أفكل – أي قشعريرة – فارتعدت من شدة الغير فكسرت الإناء ثم ندمت فقلت : يا رسول الله ما كفارة ما صنعت ؟ قال إناء مثل إناء وطعام مثل طعام .

    وكان يداري قلوبهن حتى تصفوا . تقول صفية : وما كان أبغض إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل أبي وزوجي فما زال يعتذر إلي وقال : يا صفية : إن أباك ألب علي العرب وفعل وفعل حتى ذهب ذلك من نفسي .

    وكن يأخذن حريتهن في الكلام فيسمع ويرد ويؤدب :

    كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحفظ لخديجة ذكراها بشكل منقطع النظير فهو آية الوفاء في دنيا المروءة وكان من وفائه لها أن يبر كل امرأة كانت لها صلة بخديجة وأنه كان يذكرها بكل خير حتى أن عائشة لم تغر من امرأة كما غارت من خديجة وهي متوفاة قالت له مرة :

    خديجة خديجة لكأنما ليس في الأرض امرأة إلا خديجة . فتركها فترة ثم عاد وأمها أم رومان عندها فقالت له أمها : يا رسول الله مالك ولعائشة : أنها حديثة السن وأنت أحق من يتجاوز عنها فلم يدعها حتى أخذ بشدقها معاتباً وهو يقول لها :

    ألست القائلة كأنما ليس على وجه الأرض امرأة إلا خديجة ؟

    وقالت له مرة : ما تذكر من عجوز حمراء الشدقين قد بدلك الله خيراً منها فأسكتها قائلاً :

    " والله ما أبدلني الله خيراً منها . آمنت بي حين كذبني الناس ، وواستني بمالها حين حرمني الناس ، ورزقت منها الولد وحرمته من غيرها " .

    وقالت : دخل علي يوماً رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : أين كنت منذ اليوم ؟ قال يا حميراء كنت عند أم سلمة . قلت ما تشبع من أم سلمة فتبسم ثم قلت يا رسول الله ألا تخبرني عنك لو أنك نزلت بعدوتين إحداهما لم ترع والأخرى قد رعيت أيهما كنت ترعى ؟ قال : التي لم ترع قلت فأنا ليس كأحد من نسائك ، كل امرأة من نسائك كانت عند رجل غيري فتبسم عليه السلام .

    وكن يمزحن فيشاركهن سرورهن .

    أخرج أبو يعلى عن عائشة – رضي الله عنها – قالت : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بحريرة قد طبختها له فقلت لسودة - رضي الله عنها – والنبي صلى الله عليه وسلم بيني وبينها : كلي فأبت فقلت لتأكلين أو لألطخن وجهك فأبت فوضعت يدي في الحريرة فطليت وجهها فضحك النبي صلى الله عليه وسلم فوضع بيده لها وقال لها : الطخي وجهها فضحك النبي صلى الله عليه وسلم لها .

    وفي رواية فخف لها ركبته لتستقيد مني فتناولت من الصحفة شيئاً فمسحت به وجهي ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك .

    والخط العريض الخامس أنه صلى الله عليه وآله وسلم رفعهن إلى أخلاق النبوة ولم يستطعن أن يحدن به عن طريقه ، وأعظم حادث يصور لنا هذا الوضع هو حادث تخييرهن إذ هن طلبن أن يوسع عليهن في المعيشة والنفقة ، فكانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الإعراض عن الدنيا وطلب الآخرة ، وكانت النتيجة أن خيّرهن بين البقاء عنده ، والرضى عن هذه الحياة الهادفة إلى اليوم الآخر . أو الطلاق ، وأمرهن بيدهن ، وهذا غاية العدل وغاية الحزم .

    وهذه هي القصة كما يرويها بعض الصحابة :

    أخرج أحمد عن جابر – رضي الله عنه – قال :

    أقبل أبو بكر – رضي الله عنه – يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس ببابه جلوس والنبي صلى الله عليه وسلم جالس فلم يؤذن له ثم أقبل عمر – رضي الله عنه – فاستأذن فلم يؤذن له ثم أذن لأبي بكر وعمر فدخلا والنبي صلى الله عليه وسلم جالس وحوله نساؤه وهو صلى الله عليه وسلم ساكت فقال عمر لأكلمن النبي لعله يضحك فقال عمر يا رسول الله لو رأيت ابنة زيد امرأة عمر سألتني النفقة آنفاً فوجأت عنقها ؛ فضحك النبي حتى بدت نواجذه وقال : هن حولي يسألنني النفقة . فقام أبو بكر إلى عائشة ليضربها وقام عمر إلى حفصة كلاهما يقولان :

    تسألان النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده ، فنهاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن ك والله لا نسأل رسول الله بعد هذا المجلس ما ليس عنده ، قال وأنزل الله عز وجل الخيار فبدأ بعائشة فقال : " إني أذكر لك أمراً ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك قالت وما هو ؟ قال فتلا عليها {ياأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} .

    قالت : أفيك أستأمر أبوي ؟ بل أختار الله ورسوله وأسألك أن لا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت فقال صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى لم يبعثني معنفاً ولكني بعثني معلماً ميسراً لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها .

    وروى أحمد من حديث طويل عن ابن عباس عن عمر قال :

    فقلت : الله أكبر لو رأيتنا يا رسول الله وكنا معشر قريش قوماً نغلب النساء فلما قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم فطفقن نساؤنا يتعلمن من نسائهم فتغضبت علي امرأتي يوماً فإذا هي تراجعني فأنكرت أن تراجعني فقالت :

    ما تنكر أن أراجعك فوالله إن أزواج رسول الله ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل . فقلت قد خاب من فعل ذلك مهن وخسر ، أفتأمن إحداهن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله ، فإذا هي هلكت . فتبسم رسول الله فقلت يا رسول الله فدخلت على حفصة فقلت : لا يغرك أن كانت جارتك هي أوسم وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك فتبسم أخرى فقلت : أستأنس يا رسول الله ؟

    قال : نعم .

    فجلست فرفعت رأسي في البيت فوالله ما رأيت فيه شيئاً يرد البصر إلا أهبة ( جلوداً ) ثلاثة فقلت : ادع يا رسول الله أن يوسع على أمتك فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله فاستوى جالساً ثم قال : أفي شك أنت يا ابن الخطاب ؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا .

    فقلت : استغفر لي يا رسول الله .

    وكان أقسم أن لا يدخل عليهن شهراً من شدة موجدته عليهن حتى عاتبه الله عز وجل .

    وفي كل ما نقلناه لك من هذه الخطو تجد الزوج المثالي والقدوة العليا في كل أمر . ولا يفوتنا قبل الانتهاء من هذه الفقرة أن نذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان عنده هذا العدد من النساء ، والذي كان يقوم بواجبه تجاههن . والذي كان يعطيهن من ذاته ما رأينا . هو الذي كان يقوم بالأعباء الضخمة التي لم يتحمل مثلها رجل غيره . من عبادة إلى سياسة إلى قتال إلى تدبير أمر ، ومن عادة الناس أن يشغلهم شيء من هذا عن أهليهم ، ولكنه الكمال عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث تقوم الواجبات كلها ومع الواجبات غيرها ولا يؤثر القيام بإحداها على غيره من دلائل النبوة والرسالة .

    وأخيراً :

    يقول العقاد : قال لنا بعض المستشرقين إن تسع زوجات لدليل على فرط الميول الجنسية .

    قلنا : إنك لا تصف السيد المسيح بأنه قاصر الجنسية لأنه لم يتزوج قط ، فلا ينبغي أن تصف محمداً بأنه مفرط الجنسية لأنه جمع بين تسع نساء .

    ونحن قبل كل شيء لا نرى ضيراً على الرجل العظيم أن يحب امرأة ، ويشعر متعتها : هذا سواء الفطرة لا عيب فيه ، وما من فطرة هي أعمق في طبائع الأحياء عامة من فطرة الجنسين ، والتقاء الذكر والأنثى ، فهي الغريزة التي تلهم الحي في كل طبقة من طبقات الحياة ما لا تلهمه غريزة أخرى .

    أرأيت إلى السمك وهو يعبر الماء الملح في موسمه المعلوم فيطوي ألوفاً من الفراسخ ليصل إلى فرجة نهر عذب يجدد فيها نسله ثم يعود أدراجه ؟ أرأيت إلى العصفور وهو يبني عشه ويعود من هجرته إلى وطنه ؟ أرأيت إلى الزهر وهو يتفتح ليغري الطير والنحل بنقل لقاحه ؟

    أرأيت إلى سنة الحياة في كل طبقة من طبقات الأحياء ؟ ما هي سنتها إن لم تكن هي سنة الألفة بين الجنسين ؟ وأين يكون سواء الفطرة إن لم يكن على هذا السواء ؟

    فحب المرأة لا معابة فيه .

    هذا هو سواء الفطرة لا مراء .

    وإنما المعابة أن يطغى هذا الحب حتى يخرج عن سوائه وحتى يشغل المرء عن غرضه ، وحتى يكلفه شططاً في طلابه . فهو عند ذلك مسخ للفطرة المستقيمة يعاب كما يعاب الجور في جميع الطباع .

    فمن الذي يعلم ما صنع النبي في حياته ، ثم يقع في روعه أن المرأة شغلته عن عمل كبير أو عن عمل صغيرة .؟

    مَن من بناة التاريخ قد بنى في حياته وبعد مماته تاريخاً أعظم من تاريخ الدعوة المحمدية ، والدول الإسلامية ؟ ومن ذا الذي يقول إن هذا عمل رجل مشغول ؟

    عمَّ شغلته المرأة ؟

    ومن ذا تفرغ لعظيم من المسعى فبلغ فيه شأو محمد في مسعاه ؛؟

    فإن كانت عظمة الرجل قد أتاحت له أن يعطي الدعوة حقها ويعطي المرأة حقها فالعظمة رجحان وليست بنقص ، وهذا الاستيفاء السليم كمال وليس بعيب . ورسالة محمد إذن هي الرسالة التي يتلقاها أناس خلقوا للحياة ، ولم يخلقوا نابذين لها ولا منبوذين منها ، فليست شريعة هؤلاء بالشريعة المطلوبة ، فيما يخاطب به عامة الناس في عامة العصور ، وأعجب شيء أن يقال عن النبي أنه استسلم للذات الحس وقد أوشك أن يطلِّق نساءه أو يخيرهن في الطلاق لأنهن طلبن إليه المزيد من النفقة وهو لا يستطيعها .

    * * *

    نساء محمد يشكون قلة النفقة والزينة ، ولو شاء لأغدق عليهن النعمة وأغرقهن في الحرير والذهب وأطايب الملذات .

    أهذا فعل رجل يستسلم للذات حسه ، أما كان عليه يسيراً أن يفرض لنفسه ولأهله من الأنفال والغنائم ما يرضيهن ولا يغضب المسلمين ، وهم موقنون أن إرادة الرسول من إرادة الله ؟

    وماذا كلفه الاحتفاظ بالنساء حتى يقال إنه كان يفرط في ميله إلى النساء ؟ هل كلفه أن يخالف ما يحمد من سننه أو يخالف ما يحمد من سيرته أو يترخص فيما يرضاه أتباعه ولا ينكرونه عليه ؟ لم يكلفه شيئاً من ذلك ، ولم يشغله عن جليل أعماله وصغيرها ، ولم نر هنا رجلاً تغلبه لذات الحس كما يزعم المشهرون . بل رأينا رجلاً يغلب تلك الملذات في طعامه ومعيشته وفي ميله إلى نسائه . فيحفظها بما يملك منها ولا يأذن لها أن تسومه ضريبة مفروضة عليه ، ولو كانت هذه الضريبة بسطة في العيش قد ينالها أصغر المسلمين ، ولا شك في قدرة النبي عليها لو أراد .

    * * *

    وهكذا نبحث عن الرجل الذي توهمه المشهرون من مؤرخي أوربا فلا نرى إلا صورة من أعجب الصور التي تقع في وهم واهم .

    نرى رجلاً كان يستطيع أن يعيش كما يعيش الملوك ويقنع مع هذا بمعيشة الفقراء ثم يقال إنه رجل غلبته لذات حسه ؟ .

    ونرى رجلاً تألبت عليه نساؤه لأنه لا يعطيهن الزينة التي يتحلين بها لعينيه ثم يقال إنه رجل غلبته لذات حسه ؟.

    ونرى رجلاً آثر معيشة الكفاف والقناعة على إرضاء نسائه بالتوسعة التي كانت في وسعه ثم يقال إنه رجل غلبته لذات حسه .

    ذلك كلام لو شاء المشهرون أن يرسلوه كلاماً مضحكاً مستغرباً لأفلحوا فيما قالوه ... أقبح فلاح .

    ويزيد في غرابته أن الرجل الذي توهموه ذلك التوهم لم يكن مجهولاً قبل زواجه ولا بعد زواجه فتخبط فيه الظنون ذلك الخبط الذريع . فمحمد كان معروف الشباب قبل قيامه بالدعوة الدينية كأشهر ما يعرف فتى من قريش وأهل مكة .

    كان معروفاً من صباه إلى كهولته ، فلم يعرف أنه استلم للذات الحس في ريعان صباه ، ولم يسمع عنه أنه لها كما كان يلهو الفتيان حين كانت الجاهلية تبيح ما لا يباح ... بل عرف بالطهر والأمانة واشتهر بالجد والرصانة ... وقام بالدعوة بعدها فلم يقل أحد من شائنيه والناعين عليه والمنقبين وراءه عن أهون الهنات : تعالوا يا قوم فانظروا هذا الفتى الذي كان من شأنه مع النساء كيت وكيت يدعوكم اليوم إلى الطهارة والعفة نبذ الشهوات ... كلا لم يقل أحد هذا قط من شائنيه وهم عديد لا يحصى ولو كان لقوله موضوع لجرى على لسان ألف قائل .

    إلا أن المشهرين المتقوِّلين نسوا كل حقيقة من حقائق هذه الحياة الزوجية التي سجلت لنا بأدق تفصيلاتها ، ولم يذكروا إلا شيئاً واحداً حرفوه عن معناه ودلالته ، ليفتوا على النبي ما طاب لهم أن يفتروه وذاك أنه جمع في وقت واحد بين تسع زوجات .

    نسوا أنه اتسم بالطهر والعفة في شبابه فلم يستبح قط لنفسه ما كان شباب الجاهلية يستبيحونه لأنفسهم من اللهو المطروق لكل طارق في غير مشقة عندهم ولا معابة .

    ونسوا أنه بقي إلى نحو الخامسة والعشرين لم يتصف في طلب الزواج الحلال وهو ميسر له تيسيره لكل فتى وسيم حسيب منظور إليه بين الأسر وبين الفتيات .

    ونسوا أنه لما تزوج في تلك السن كان زواجه بسيدة في نحو الأربعين اكتفي بها إلى أن توفيت وهو يجاوز الخمسين .

    نسوا أنه اختار أحساباً في حاجة إلى التألف أو الرعاية ولم يختر جمالاً مطلوباً للمتاع .

    ونسوا أن الرجل الذي وصفوه بما وصفوا من تغليب لذات الحس لم يكن يشبع في بعض أيامه من خبز الشعير ولم يجاوز حياة القناعة قط لإرضاء نسائه ... ولو شاء لما كلفه إرضاؤهن غير القليل بالقياس إلى ما في يديه .

    نسوا كل هذا وهو ثابت في التاريخ ثبوت عدد النساء اللاتي جمع بينهن عليه الصلاة والسلام فلماذا نسوه ؟

    نسوا لأنهم أرادوا أن يعيبوا وأن يتقولوا وأن ينحرفوا عن الحقيقة وقد كانت رؤية الحقيقة أيسر لهم من الإغضاء عنها ، لو أنهم أرادوها وتعمدوا ذكرها ولم يتعمدوا نسيانها .

    * * *

    وبعد فهل رأيت زوجاً مثل محمد صلى الله عليه وسلم بين الأزواج ؛ إنك لم تر وكذلك لن ترى مثله أباً بين الآباء :

    أخرج مسلم عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال :

    " ما رأيت أحداً كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم :

    قال : كان إبراهيم ( أي ابنه الصغير ) مسترضعاً له في عوالي المدينة فكان ينطلق ونحن معه فيدخل البيت وإنه ( أي البيت ) ليدخن وكان ظئره قينا فيأخذه فيقبله ثم يرجع " .

    وأخرج أبو يعلى عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال : رأيت الحسن والحسين رضي الله عنهما على عاتقي النبي صلى الله عليه وسلم فقلت نعم الفرس تحتكما . فقال النبي صلى الله عليه وسلم ونعم الفارسان هما " .

    وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس – رضي الله عنه – قال : خرج النبي صلى الله عليه وسلم حامل الحسن – رضي الله عنه – على عاتقه فقال له رجل : يا غلام نعم المركب ركبت . فقال النبي ونعم الراكب هو .

    وأخرج الطبراني عن البراء بن عازب قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فجاء الحسن والحسين أو أحدهما فركب على ظهره فكان إذا رفع رأسه قال بيده فأمسكه أو أمسكهما قال : نعم المطية مطيتكما ".

    وأخرج الطبراني عن جابر قال دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يمشى على أربعة وعلى ظهره الحسن والحسين ( رضي الله عنهما ) وهو يقول :

    " نعم الجمل جملكما ونعم العدلان أنتما " .

    وأخرج الطبراني عن جابر – رضي الله عنه – قال : " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعينا إلى طعام فإذا الحسين – رضي الله عنه – يلعب في الطريق مع صبيان فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم أمام القوم ثم بسط يده فجعل حسين يفر ههنا وههنا فيضاحكه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أخذه فجعل إحدى يديه في ذقنه والأخرى بين رأسه وأذنيه ثم اعتنقه وقبله ثم قال : حسين مني وأنا منه أحب الله من أحبه . الحسن والحسين سبطان من الأسباط " .

    أرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في جلاله العظيم كيف يعطي الأولاد حقهم وليس أولاده فقط بل كل الأولاد .

    أخرج الإمام أحمد عن عبد الله بن الحارث – رضي الله عنه – قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصف عبد الله وعبيد الله وكثير بن عباس – رضي الله عنهم – ثم يقول : من سبق إلي فله كذا وكذا قال : فيستبقون إليه فيقعون على ظهره وصدره فيقبلهم ويلتزم " .

    وأخرج ابن عساكر عن عبد الله بن جعفر – رضي الله عنه – قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر تلقى بصبيان أهل بيته وإنه جاء من سفر فسيق بي إليه فحملني بين يديه ثم جيء بأحد ابني فاطمة الحسن أو الحسين – رضي الله عنه – فأردفه خلفه فدخلنا المدينة ثلاثة على دابة .

    وأخرج ابن عساكر أيضاً عن عبد الله بن جعفر قال : مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألعب مع الصبيان وحملني أنا وغلاماً من العباس – رضي الله عنه – على الدابة فكنا ثلاثة .

    وأخرج ابن عساكر أيضاً : عنه قال : لو رأيتني وقثما وعبد الله ابني عباس – رضي الله عنهم – ونحن صبيان نلعب إذ مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على دابة فقال ؛ ارفعوا هذا إلي فجعلني أمامه وقال : ارفعوا هذا إلي فجعله وراءه وكان عبيد الله أحب إلى عباس من قثم فما استحيا من عمه أن حمل قثما وتركه قال : ثم مسح على رأسي ثلاثاً كلما مسح قال : اللهم اخلف جعفراً في ولده " .

    ولا تحسب أن هذا لإكرام للصبيان فقط بل للبنات والصبيان :

    أخرج البخاري عن أبي قتادة قال خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم وأمامه بنت أبي العاص – رضي الله عنها – ( أي بنت بنته ) على عاتقه فصلى فإذا ركع وضع وإذا رفع رفعها " . فهذه سيرته مع الأطفال ذكوراً وإناثاً .

    أخرج الطبراني عن السائب بن يزيد – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل حسناً – رضي الله عنه – فقال له الأقرع بن حابس لقد ولد لي عشر ما قبلت واحداً منهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا يرحم الله من لا يرحم الناس " .

    وأخرج أبو يعلى عن أنس – رضي الله عنه – قال كان رسول الله يسجد فيجيء الحسن أو الحسين فيركب ظهره فيطيل السجود فيقال : يا نبي الله أطلت السجود فيقول : ارتجلني ابن فكرهت أن أعجله " .

    * * *

    والشعب الذي كان يئد البنات ويرى أن موت البنات من المكرمات ، ولا يرى أحدهم البنت شيئاً ، ويستقبل ولادتها هذا الاستقبال السيء الذي وصفه القرآن {وَإِذَا بُشرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} .

    هذا الشعب هو الذي كان منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يعامل بناته بما سنقصه عليك فهل تراها بعد ما تقرؤها أخلاقاً وليدة بيئتها ، أو أنها النبوة والتربية الإلهية لصاحبها ، وحاشا أن تكون إلا الثانية .

    أخرج البخاري عن عائشة – رضي الله عنها – قالت : ما رأيت أحداً من الناس كان أشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم كلاماً ولا حديثاً ولا جلسة من فاطمة – رضي الله عنها – قالت : وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآها وقد أقبلت رحب بها ثم قام إليها فقبلها ثم أخذ بيدها فجاء بها حتى يجلسها في مكانه وكانت إذا أتاها النبي صلى الله عليه وسلم رحبت به ثم قامت إليه فقبلته . وإنها دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي قبض فيه فرحب بها وقبلها وأسر إليها فبكت ثم أسر إليها فضحكت " ولما سألتها عائشة عما أسر لها رفضت أن تجيبها حتى إذا قبض صلى الله عليه وسلم قالت فاطمة " أسر إلي فقال : إني ميت فبكيت ثم أسر إليَّ فقال : إنك أول أهلي بي لحوقاً فسررت بذلك وأعجبني " .

    وماتت فاطمة بعد ستة أشهر من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    وأخرج الترمذي عن جميع بن عمير التيمي قال : " دخلت مع عمتي على عائشة –رضي الله عنها – فسئلت أي النساء كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت فاطمة : فقيل من الرجال ؟ قالت ك زوجها إن كان ما علمت صواماً قواماً " .

    وعن المسور بن مخرمة – رضي الله عنه – قال : " خطب علي بنت أبي جهل وعنده فاطمة فسمعت بذلك فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يزعم قومك أنك لا تغضب لبناتك وهذا علي ناكح ابنة أبي جهل فقام النبي صلى الله عليه وسلم فتشهد وقال أما بعد فإني أنكحت أبي العاص بن الربيع فحدثني وصدقني وإن فاطمة بضعة مني يريبني ما يريبها والله لا تجتمع بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنت عدو الله أبداً قال فترك علي الخطبة .

    وفي رواية أخرى قال : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر : إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني في أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب فلا آذن ثم لا آذن إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم فإنما هي بضعة مني يريبني ما يريبها ويؤذيني ما آذاها " أخرجه الخمسة إلا النسائي " .

    أرأيت براً أبلغ بالبنات من هذا البر وما ذكرناه نموذج وإلا فأي بنت من بناته الأربع كانت تلاقي من العطف والبر ما تلاقيه فاطمة – رضي الله عنه – إنها كمال الأبوة في أكمل نبي .

    * * *

    ولكن الشيء الأدل في هذا الباب على أخلاق النبوة مع هذه المحبة أنه ما كان ليرضى لبنته أن تعيش إلا كما يعيش أكثر الناس فقراً . ذلك طابع الحياة التي يريدها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه ولأهله ، لا تشغلهم الدنيا عن الآخرة ، وحتى تتمحص أنفسهم لله واليوم الآخر . تأمل هذه الأمثلة وتذكر أن أحب الخلق إليه بشهادة عائشة هي فاطمة :

    " أخرج البيهقي في الدلائل عن علي قال :

    خطبت فاطمة إلى رسول الله فقالت مولاة لي : هل علمت أن فاطمة قد خطبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلت : لا . قالت : قد خطبت فما يمنعك أن تأتي رسول الله فيزوجك ؟ فقلت : وعندي شيء أتزوج به ؟ فقالت : إنك إن جئت رسول الله زوجك قال : فوالله ما زالت ترجيني حتى دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أن قعدت بين يديه أفحمت فوالله ما استطعت أن أتكلم جلالة وهيبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء بك ؟ ألك حاجة ؟ فسكت فقال :

    لعلك جئت تخطب فاطمة .

    فقلت : نعم

    فقال : وهل عندك من شيء تستحلها به ؟

    فقلت : لا والله يا رسول الله

    فقال : ما فعلت درع سلحتكها ؟ فوالذي نفس علي بيده إنها لحطمية ما قيمتها أربعة دراهم ، فقلت : عندي فقال : قد زوجتكها فابعث إليها بها فاستحلها بها فإن كانت لصداق فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    وأخرج النسائي عن ثوبان :

    ..... فانتزعت فاطمة سلسلة في عنقها من ذهب فقالت : هذه أهداها إلي أبو حسن فدخل صلى الله عليه وسلم والسلسلة في يدها فقال : يا فاطمة ، أيسرك أن تقول الناس : ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في يدها سلسلة من نار ثم خرج فلم يقعد فأرسلت فاطمة بالسلسلة فباعتها واشترت بثمنها عبداً فأعتقته فحدث رسول الله بذلك فقال : الحمد لله الذي أنجى فاطمة من النار " .

    وأخرج البخاري ومسلم : قال علي لابن أعبد ألا أحدثك عني وعن فاطمة ؟ قلت : بلى قال : إنها جرّت بالرحى حتى أثَّر في يدها واستقت بالقربة حتى أثرت في نحرها وكنست البيت حتى اغبرت ثيابها ( وأوقدت القدر حتى دكنت ثيابها ) فأتى النبي صلى الله عليه وسلم خدم فقلت لو أتيت أباك فسألته خادماً فأتته فوجدت عنده حداثاً فرجعت فأتاها من الغد فقال : ما كان حاجتك ؟ وسكتت فقلت : أنا أحدثك يا رسول الله جرت بالرحى حتى أثرت في يدها وحملت بالقربة حتى أثرت في نحرها فلما أن جاء الخدم أمرتها أن تأتيك فتستخدمك خادماً يقيها حر ما هي فيه فقال : اتقي الله يا فاطمة وأدي فريضة ربك واعملي عمل أهلك وإذا أخذت مضجعك فسبحي ثلاثاً وثلاثين واحمدي ثلاثاً وثلاثين وكبري أربعاً وثلاثين فتلك مائة فهي خير لك من خادم فقالت : رضيت عن الله وعن رسوله ولم يخدمها " .

    إن كمال محمد صلى الله عليه وسلم كزوج وكماله كأب . كماله في عدله وفي رحمته وفي لطفه وفي أنسه ، وفي رعايته وفي حسن سياسته وفي استقامته ، وفي حمل أزواجه وأولاده على طريقه . كل هذا شاهد صدق ودليل حق على أنه المثل الأعلى للإنسان في كل جانب من جوانب حياته ، وإنه القدوة العليا لكل إنسان في أي جزء من أجزاء تصرفاته .
    وإليك الفقرة الثالثة :

  9. افتراضي

    3- المعلم والمربي الأول

    لقد حدد رسول الله صلى الله عليه وسلم مهمته بقوله : " إنما بعثت معلماً " والقرآن الكريم ذكر هذه المهمة الأساسية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بصراحة فقال : {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} فقد أحصت هذه الآية من مهمات الرسول التعليم والتربية . تعليم الكتاب والحكمة وتربية الأنفس عليهما ، وكان الجانب الأعظم من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم مستغرقاً بهذا الجانب ؛ إذ أنه هو الجانب الذي ينبع عنه كل خير ، ولا يستقيم أي جانب من جوانب الحياة سياسياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً أو عسكرياً أو أخلاقياً إلا به ، ولا يؤتى الإنسان ولا تؤتى أمة ولا تؤتى الإنسانية إلا من التفريط في العلم الصحيح ، والانحراف عنه إما إلى الجهل أو إلى ما يضر علمه ولا ينفع .

    فالأمة بلا علم يوضح لها جوانب سلوكها ، وبلا تربية يعرف كل فرد من أفرادها واجبه ، تصبح أمة فوضوية تصرفاتها غير متوقعة وغير منضبطة ، ولكل فرد من أفرادها سلوك يخالف سلوك الآخر وعادات وتصورات تختلف فلا تكاد أمة تفلح بهذا ولا فرد .

    والظاهرة التي نجدها في تاريخ محمد صلى الله عليه وسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم بدأ تشكيل أمة جديدة لها كل مقوماتها الفكرية والسلوكية والأخلاقية والتشريعية والدستورية واللسانية . بحيث ينبتُّ الفرد فيها عن صلته بأي عالم غير عالم هذه الأمة من حيث العقيدة والسلوك ، فصهر أفراد هذه الأمة صهراً تاماً . ثم أطلق هذه الأمة في اتجاه وحيد حدّد فيه لكل فرد مهمته ، وبراه على أدائها ، وحدّد للجميع المهمة الكبرى ، ورسم لهم الطريق ، موضِّحاً لهم كل شيء في كل جانب ، وقادهم في هذا الطريق فترة ثم تركهم ماضياً إلى ربه ، فانطلقوا بعده لا غيّروا ولا بدّلوا فكان ما كان ولا زال . مما نشاهده من آثار المسلم العظيم الذي كلّما تعثر أخذت بيده تعاليم محمد وتربيته فأنقذته وقذفت به إلى الأمام .

    * * *

    وبعد فإننا نقول : إن كمال المربي يظهر :

    1- في مقدار ما يستطيع أن ينقل نفس الإنسان وعقله من حالة دينا إلى حالة أعلى وكلما ترقى بالإنسان أكثر دلّ ذلك على كماله أكثر .
    2- في سعة دائرة البشر الذين استطاع أن ينقلهم إلى كمالهم الإنساني ، فكلما كانت الدائرة أوسع كان أدل على الكمال .
    3- ثم في صلاحية هذه التعاليم والتربية ، وحاجة الناس جميعاً إليها ، واستمرار إيتاء هذه التعاليم آثارها على مدى العصور ؛ بحيث لا يستغني البشر عنها ، وبشهادة العدو والصديق والمؤمن والكافر ما بلغ أحد في تاريخ البشرية ما بلغه محمد صلى الله عليه وسلم في هذه الجوانب كلها حتى قال موير : " لم يكن الإصلاح أعسر ولا أبعد منالاً منه وقت ظهور محمد ولا نعلم نجاحاً وإصلاحاً تم كالذي تركه عند وفاته " . وقالت دائرة المعارف البريطانية : " لقد صادف محمد النجاح الذي لم ينل مثله نبي ولا مصلح ديني في زمن من الأزمنة " . ويقول يوزورث اسمث : " إن محمداً بلا نزاع أعظم المصلحين على الإطلاق " . ويقول هيل : " عن جميع الدعوات الدينية قد تركت أثراً في تاريخ البشر ، وكل رجال الدعوة والأنبياء قد أثروا تأثيراً عميقاً في حضارة عصرهم وأقوامهم ولكنا لا نعرف في تاريخ البشر أن دينا انتشر بهذه السرعة . وغيّر العالم بأثره المباشر ، كما فعل الإسلام ، ولا نعرف في التاريخ دعوة كان صاحبها سيّداً مالكاً لزمانه ولقومه كما كان محمد . لقد خرج أمة إلى الوجود ومكّن لعبادة الله في الأرض وفتحها لرسالة الطهر والفضيلة ، ووضع أسس العدالة والمساواة الاجتماعية بين المؤمنين ، وأصّل النظام والتناسق والطاعة والعزة في أقوام لا تعرف غير الفوضى " .

    هذه شهادة الدارسين ممن لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وقد أعماهم حقد صليبي موروث فشهدوا ولم يؤمنوا . وما أغنانا عن شهادتهم ، وشهادة الواقع أمامنا على كل جانب من هذه الجوانب المذكورة آنفاً وهناك آثار تربيته صلى الله عليه وسلم :

    أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم الذين شرفوا برؤيته والإيمان به عشرات الألوف ، من هذه الألوف من رافقه كل فترة البعثة ، ومنهم من رآه مرة فسمع منه حديثاً . وإذا أنت أجريت مقارنة بين حياة هؤلاء قبل تلمذتهم على محمد صلى الله عليه وسلم وحياتهم بعده ؛ بين واقعهم قبل ذلك وواقعهم بعده ، بين أعمالهم وتصرفاتهم قبل وأعمالهم وتصرفاتهم بعد . بين أهدافهم الأولى وأهدافهم الثانية . وبين تصوراتهم عن الله والكون والإنسان أولاً وتصرفاتهم ثانياً ، إنك تخرج نتيجة المقارنة وأنت ترى النقلة البعيدة الكبيرة الواسعة التي نقل إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء من طور إلى طور ، من حضيض إلى سمو لا يدانيه سمو آخر .

    خذ مثلاً شخصية عمر بن الخطاب في الجاهلية تجده رجلاً قَبَلي الفكر والطبيعة والعاطفة والتصور ، محدود الإدراك ، همه في لحياة : السكر واللهو والبطالة مع أصدقائه . ولولا رسول الله صلى الله عليه وسلم لعاش عمر ومات عمر وما أحس به أحد ولكنه ما إن يشرب كأس الإسلام من يد رسول الله حتى يصبح عمر المشرع العبقري الفذ ، ورجل الدولة العظيم الكبير ، ورمز العدل الذي لا يكون إلا معه مع الحزم والرحمة ، وسعة الأفق وصدق الإدراك وحسن الفراس ...

    عمر الذي أصبح ملء الدنيا سمعها وبصرها . ما كان ليكون شيئاً لولا أنه تربى في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ منه العلم والحكمة والتربية .

    عبد الله بن مسعود راعي الإبل المحتقر المهان في قريش ، الذي ما كان ليعرف إلا سيده ومن يستخدمه ، هذا الرجل النحيل القصير الحَمِش الساقين . ماذا يصبح بعد أن ربته يد النبوة ؟ يصبح الرجل الذي يعتبر مؤسسة أكبر مدرسة في الفقه الإسلامي والتي ينتسب إليها أبو حنيفة النعمان ، يصبح الرجل الذي يقول فيه عمر لأهل الكوفة ؛ لقد آثرتكم بعبد الله على نفسي .

    إنك عندما تدرس شخصية الإنسان قبل اتصالها برسول الله وبعد اتصالها تجد أن كل شيء فيها قد تغير وتجد كل طاقاتها وملكاتها قد انطلقت في الطريق الصحيح . الطاقات الجسمية ، والطاقات العقلية ، والطاقات النفسية ، والطاقات الروحية ، والطاقات الوجدانية ، والمعنوية والأخلاقية . هذه الطاقات كلها انطلقت في إطارها الصحيح وطريقها المستقيم ، بحيث لا يستطيع إنسان أن يقول إن طاقة ما معطلة عند أصحابها أو أنها تعمل عملاً غير صالح .

    طاقة العمل : " إن الله يحب العبد المحترف "

    طاقة المشاركة في العمل العام : " إذا تبايعتم بالعينة ورضيتم بالزرع وتبعتم أذناب البقر وتركتم جهادكم سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى تعودوا إلى دينكم" .

    الطاقة الجنسية : " تزوجوا الولود الودود " .

    الطاقة الجسمية : " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف .. "

    ملكة حسن الهندام : " فأصلحوا رحالكم وأحسنوا لباسكم حتى تكونوا كأنكم شامة في أعين الناس فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش " .

    طاقة الفكر والعلم : " طلب العلم فريضة " "تفكر ساعة خير من قيام ليلة " .

    إنك لا تجد طاقة من طاقات الإنسان إلا وقد أطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريقها الصحيح ، فأصبحت ترى من أصحابه العجب ، في تكامل شخصياتهم عباداً زهاداً شجعاناً محاربين عادلين رحماء إداريين سياسيين حكماء مربين . كل واحد منهم أمة ، وما أسهل عليه أن يقود أمة ، ولا أدل على ذلك أنه ندر واحد منهم لم يصبح أميراً بعد ذلك ولم يفشل واحد منهم في ما ولي من قيادات .

    وإذا أردت أن ترى مقدار ما رفع رسول الله النفس البشرية فاقرأ هذه الأمثلة البسيطة ذات الدلالة الكبيرة :

    أخرج النسائي عن عائشة – رضي الله عنها – أن فتاة قالت – يعني للنبي صلى الله عليه وسلم -: إن أبي زوجني من ابن أخيه ليرفع بي خسيسته وأنا كارهة فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبيها فجاء فجعل الأمر إليها ، فقالت : يا رسول الله ! إني قد أجزت ما صنع أبي ، ولكن أردت أن أعلّم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء " .

    أرأيت كيف ارتفعت نفسية المرأة حتى أصحبت تعرف حقها ، وتريد أن تُعَرِّف الأخريات عليه . وأصبحت تستطيع أن تشكو إذا هضم حقها ، وتجد من يسمع لها ويعطيها إياه ، متى كان ذلك لولا تربية الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة ؟

    وأخرج الخمسة إلا مسلماً قصة الحب العجيبة تلك التي كانت عند العبد مغيث للعبدة بريرة التي أصبحت بعد ذلك حرة وانفصم ما بينهما من نكاح وكانت لا تحبه وكان مولعاً بها يقول ابن عباس :

    إن زوج بريرة كان عبداً يقال له مغيث ، كأني أنظر إليه خلفها يطوف ودموعه تسيل على لحيته ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس : ألا تعجب من حب مغيث بريرة ومن بغض بريرة مغيثاً ؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو راجعته ؟ فقالت : يا رسول الله ! تأمرني ؟ قال : لا إنما أشفع قالت : لا حاجة لي فيه " .

    أهناك أبلغ في التربية من هذا الذي وصلت إليه هذه الأمة لقد أصبح كل فرد فيها يعرف حقه وواجبه ويجادل فيه ويقف عنده .

    أخرج الروياني وابن جرير وابن عساكر عن عوف بن مالك الأشجعي – رضي الله عنه – قال :

    كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال : ألا تبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فرددها ثلاث مرات . فقدمنا فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلنا : يا رسول الله ! قد بايعناك فعلى أي شيء نبايعك ؟

    فقال : على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ، والصلوات الخمس ، وأسر كلمة خفية أن لا تسألوا الناس شيئاً . قال : فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوطه فما يقول لأحد يناوله إياه .

    وأخرج الطبراني في الكبير عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يبايع ؟ فقال ثوبان - رضي الله عنه - مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم : بايعنا يا رسول الله ! قال : على أن لا تسأل أحداً شيئاً . فقال ثوبان : فما له يا رسول الله ؟ قال : الجنة . فبايعه ثوبان .

    قال أبو أمامة : فلقد رأيته بمكة في أجمع ما يكون من الناس يسقط سوطه وهو راكب فربما وقع على عاتق رجل فيأخذه الرجل فيناوله فما يأخذه حتى يكون هو ينزل فيأخذه .

    وأخرج عبد الرزاق عن سعيد بن المسيب قال : أعطى النبي صلى الله عليه وسلم حكيم بن حزام - رضي الله عنه - يوم حنين عطاء فاستقله فزاده فقال : يا رسول الله ! أي عطيتك خير ؟ قال : الأولى . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا حكيم بن حزام ! إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس وحسن أكلة بورك له فيه ، ومن أخذه باستشراف نفس وسوء أكلة لم يبارك له فيه ، وكان كالذي يأكل ولا يشبع ، واليد العليا خير من اليد السفلى ، قال : ومنك يا رسول الله ؟ قال : ومني ! قال : فوالذي بعثك بالحق لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً أبداً .

    قال : فلم يقبل ديواناً ولا عطاء حتى مات .

    قال : وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول : اللهم إني أشهدك على حكيم بن حزام أني أدعوه لحقه من هذا المال وهو يأبى ، فقال : إني والله ما أرزؤك ولا غيرك شيئاً . كذا في الكنز ج3 ص322 .

    أرأيت هذه النقلة العظيمة من حالة إلى حالة أخرى : عزة نفس لا مثيل لها ، وماذا في طياتها من أبلغ ما تصل إليه التربية الاستقلالية التي لا يكون معها معنى من معاني الاتكال على الغير .

    أخرج مالك عن عطاء بن يسار قال : أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس واللحية فأشار إليه صلى الله عليه وسلم كأنه يأمره بإصلاح بشعره ففعل ثم رجع فقال صلى الله عليه وسلم : " أليس هذا خيراً من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان " .

    وأخرج مالك والنسائي عن أبي قتادة قال : قلت يا رسول الله ! إن لي جمة أفأرجلها قال : نعم وأكرمها .

    فكان أبو قتادة ربما دهنها في اليوم مرتين من أجل قوله صلى الله عليه وسلم نعم وأكرمها " .

    أرأيت هذه التربية التي لا تدع جانباً من الجوانب إلا وتستوعبه دق أو كبر مما له علاقة بظاهر الإنسان وباطنه .

    * * *

    قال أبو داود :

    " وغير رسول الله اسم العاصي وعزيز وعتلة وشيطان والحكم وغراب وحباب وشهاب فسماه هشاماً وسمى حرباً سلماً وسمى المضطجع المنبعث وأرضاً تسمى عفرة سماها خضرة وشعب الضلالة سماها شعب الهدى وبني الزنية سماهم بني الرشدة وسمى بني مغوية بني رشد " .

    أرأيت هذه اللفتات الجمالية التي يرى كل شيء في الأمة بها على نسق منسجم مع الدعوة والرسالة ، وهذه التربية التي وصلت إلى الأسماء .

    وروى الطبراني في الكبير عن بكير بن معروف عن علقمة ... عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما بال أقوام لا يفقهون جيرانهم ولا يعلمونهم ولا يعظونهم ولا يأمرونهم ولا ينهونهم ؟ وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ولا يتفقهون ولا يتعظون ؟ والله ليعلمن قوم جيرانهم ويفقهونهم ويعظونهم ويأمرونهم وينهونهم ، وليتعلمن قوم من جيرانهم ويتفقهون ويتعظون أو لأعاجلنهم العقوبة .

    ثم نزل ، فقال قوم : من ترونه عنى بهؤلاء ؟ قال : الأشعريون هم قوم فقهاء ولهم جيران جفاة من أهل المياه والأعراب ، فبلغ ذلك الأشعريين فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : يا رسول الله ! ذكرت قوماً بخير وذكرتنا بشر فما بالنا .

    فقال : يعلِّمنَّ قوم جيرانهم وليعظنَّهم وليأمرنَّهم ولينهونَّهم وليتعلَّمن قوم من جيرانهم ويتعظون ويتفقهون أو لأعاجلنَّهم العقوبة في الدنيا . فقالوا : يا رسول الله ! أنعظنَّ غيرنا ؟ فأعاد قوله عليهم ، فأعادوا قولهم : أنعظنَّ غيرنا ؟ فقال ذلك أيضاً . فقالوا : أمهلنا سنة ، فأمهلهم سنة يفقهوهم ويعلموهم ويعظوهم . ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} .

    أرأيت أبلغ من هذه التربية التي تفترض على المتعلم أن يعلم وعلى الجاهل أن يتعلم حتى تترقى الأمة كلها وهل رأيت نصاً قبل هذا النص في العالم يفرض التعليم ويجعله إلزامياً إجبارياً . ولعلك ستدهش إذا قرأت الكتاب الثالث من هذه السلسلة عندما ترى مزيداً عن النظام التعليمي في الإسلام ، عن كماله واستيعابه لكل حاجات الإنسان الروحية والمادية .

    وأخرج الشيخان عن أنس قال : بينا نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد فقال أصحاب رسول الله : مه مه .. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تزرموه ( أي لا تقطعوا عليه بوله ) دعوه ، فتركوه حتى بال ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له :

    إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر إنما هي لذكر الله تعالى والصلاة وقراءة القرآن وأمر رجلاً من القوم فجاء بدلو من الماء فشنه عليه ( أي صبه ) .

    ضربنا هذا المثال لنعرف مقدار الوعي الحضاري وقت ذاك عند العرب ، إذ ما من إنسان في العالم يبول في معبده ، ولكن العربي فعلها وكان موقف الرسول صلى الله عليه وسلم منها موقف المربي الذي مهمته أن يجبر النقص إلى الكمال ، وكان من آثار ذلك ما عبّر عنه أحد قواد الفرس ؛ إذ رأى المسلمين يصلون صفاً منتظماً فقال :

    أَكَلَ عمر كبدي إذ علّم هؤلاء مكارم الأخلاق . وما كان عمر هو الذي علّمهم مع فضله ولكن الذي علمهم وعلم عمر هو رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    * * *

    ولم تكن دائرة تربية الرسول صلى الله عليه وسلم محدودة بل شملت كل الجزيرة العربية ، بترتيب وسائل هذه التربية ، فكان لا يكتفي من القبيلة بإسلامها حتى يأتيه وفدها ، وكان يبقى الوفد عنده في المدينة أياماً تمتد كثيراً أحياناً . وخلال هذه الإقامة كان يصوغهم صياغة جديدة . سواء بتوجيهاته أو بالاقتداء . أو بأمر أصحابه أن يعلموهم . حتى إذا ما أذن لهم بالرحيل أمّر عليهم رجلاً منهم وأمرهم أن يقوموا بعملية التربية والتعليم نيابة عنه . وكان زيادة على ذلك يرسل أصحابه آحاداً أو جماعات ممن فقهوا وربوا تربية عالية إلى كل مكان ، ليقوموا بدور المربي . فكان من آثار ذلك أنه خلال سنوات معدودة لا تتجاوز عشراً ، أصبحت الجزيرة العربية – وما أوسعها حتى لتكاد تكون قارة – واعية لدين الله ، مرباة مهذبة إلى حد كبير ، تغيرت مفاهيمها إلى أعلى ما يبلغ إنسان من تصورات ، بعد أن كانت في أدنى دركات الانحطاط الفكري حتى ليعبد أحدهم تمرات صباحاً ويأكلهن مساءً .

    وكان القرآن حفظاً وفهماً وتطبيقاً وسلوكاً هو أداة هذه التربية العظيمة . وسترى في بحث المعجزة القرآنية أن هذا القرآن أحاط بكل شيء . وفتح آفاق النفوس والعقول على كل مشهد . فلم يعد به خافياً على أحد ما ينبغي أن يأخذ وأن يدع ، ولم يبق معه سؤال بلا جواب ، ولم تبق حجة لمنحرف إلا وقد دحضت فيه ، ولا شبهة على الإسلام وأهله إلا كشفت به ، ولا جانب من جوانب الحياة إلا وقد عرف الحق فيه منه .

    والرسول صلى الله عليه وسلم كان همه أن يستوعب الناس هذا القرآن حفظاً وفهماً وتطبيقاً ، إذ على قدر ما يستوعبه أفراد الأمة على قدر ما ترتفع أنفسها ، ويسمو تفكيرها ، وتتفتح آفاق الحياة أمامها ، ولذلك جعل مقياس الخيرية القرآن فقال : " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " .

    وكان يختار للإمرة أكثر الناس أخذاً للقرآن حفظاً وفهماً وتطبيقاً . وربى أصحابه على ذلك ، فكانت سياسة الخلفاء بعده منصبة على أن يبلغ الناس بالقرآن غاية الجد فيه ، والحرص عليه ، حتى قال عمر لجيش من جيوشه وقد أرسله : " إنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدويِّ النحل فلا تصدّوهم بالأحاديث فتشغلوهم جَودوا القرآن وأقّلوا الرواية عن رسول الله امضوا وأنا شريككم " .

    ولم تمض فترة إلا وأصبح القرآن على كل لسان ، وأصبح كثير من الناس وقد حفظوه كله ، فارتقت بذلك مدارك المسلمين كلها ارتقاء لا مثيل له سواء في ذلك جوانب العقيدة أو العبادة أو السياسة أو الإدارة أو الأخلاق أو التشريع أو الحرب أو السلم أو العلم أو العمل . فترة بسيطة من الزمان وإذا بالأمة الأمية لا يغلبها غالب فكراً أو حرباً أو حضارة وكل ذلك أثر من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يمكن أن ينسب لسواه ، وحدث بذلك مرة واحدة في تاريخ البشر أن الإنسانية رأت أمة : الحق عندها يحكم القوة ، والزهد عندها ترافقه الشجاعة ، والعبادة عندها ترافقها الحكمة ، أمة ما رأت مثلها الدنيا لذلك فإنها ما كادت تتعرف عليها حتى دخلت في دينها .

    أوليس عجيباً أن البلاد التي فتحها هؤلاء الذين رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دخل أهلها في الإسلام طوعاً لا كرها ً وأخلصوا للدين الجديد حتى فدوه بالأرواح والأموال والأولاد مع أن الإسلام أعطاهم حرية البقاء على دينهم الأول كل ذلك إنما كان كأثر من الإعجاب برجال لهم دين ليس مثله بين الأديان ولا يوجد مثلهم بين الرجال .

    * * *

    وسنروي الآن حادثات ثلاثاً عرف بها مقدار النضج الفكري الذي وصل إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جابهوا كل الثقافات الأخرى غالبين ، وهو جانب من جوانب التربية المحمدية لهذه الأمة . أول هذه الحوادث مقطع من مناقشة حاطب بن أبي بلتعة – رسول الله إلى المقوقس – مع المقوقس وثانيها خطاب العلاء الحضرمي للمنذر بن ساوى أمير البحرين التي كانت تشمل في الماضي الكويت الحالية والبحرين والأحساء وبأسمائها الجديدة وثالثها مناقشة المغير بن شعبة لكسرى ورستم وهذه هي مرتّبة :

    أ- قال المقوقس لحاطب : ما منعه إن كان نبياً أن يدعو على من خالفه وأخرجه من بلده ؟ فقال حاطب : ما منع عيسى وقد أخذه قومه ليقتلوه أن يدعو الله عليهم فيهلكهم ؟ فقال المقوقس : أحسنت أنت حكيم جاء من عند حكيم .

    ب- وقال العلاء الحضرمي لأمير البحرين :
    " يا منذر إنك عظيم العقل في الدنيا فلا تصغرن عن الآخرة . إن هذه المجوسية شر دين ، ليس فيها تكرم العرب ، ولا علم أهل الكتاب ، ينكحون ما يستحيا من نكاحه ، ويأكلون ما يتنزه عن أكله ، ويعبدون في الدنيا ناراً تأكلهم يوم القيامة ... ولست بعديم عقل ولا رأي فانظر :

    هل ينبغي لمن لا يكذب في الدنيا ألا تصدقه ، ولمن لا يخون ألا تأمنه ، ولمن لا يخلف ألاَّ تثق به ، هذا هو النبي الأمي الذي لا يستطيع ذو عقل أن يقول : ليت ما أمر به نهى عنه ، أو ما نهى عنه أمر به ، أو ليته زاد في عفوه أو نقص من عقابه . إذ كل ذلك منه على أمنية أهل العقل ، وفكر أهل النظر" ذكره الشيخ الغزالي في كتابه فقه السيرة ص390 .

    وقد أسلم المنذر .

    جـ- ولما أرسل سعد بن أبي وقاص إلى كسرى وفداً يدعونه إلى الإسلام كان من قصتهم :

    أنهم استأذنوا على كسرى فأذن لهم وخرج أهل البلد ينظرون إلى أشكالهم وأرديتهم على عواتقهم ، وسياطهم بأيديهم ، والنعال في أرجلهم وخيولهم الضعيفة وخبطها الأرض بأرجلها ، وجعلوا يتعجبون منها غاية العجب ، كيف مثل هؤلاء يقهرون جيوشهم مع كثرة عددها وعددها ، ولما استأذنوا على الملك يزدجر أذن لهم وأجلسهم بين يديه ، وكان متكبراً قليل الأدب – ثم جعل يسألهم عن ملابسهم هذه ما اسمها وعن الأردية والنعال والسياط .

    ثم كلما قالوا شيئاً من ذلك تفاءل فرد الله فأله على رأسه . ثم قال لهم : ما الذي أقدمكم هذه البلاد ؟ أظننتم أنا لما تشاغلنا بأنفسنا اجترأتم علينا ؟ فقال له النعمان بن مقرن - رضي الله عنه - :

    إن الله رحمنا فأرسل إلينا رسولاً يدلنا على الخير ويأمرنا به ، ويعرفنا الشر وينهانا عنه ، ووعدنا على إجابته خير الدنيا والآخرة . فلم يدع إلى ذلك قبيلة إلا صاروا فرقتين فرقة تقاربه وفرقة تباعده ، ولا يدخل معه في دينه إلا الخواص ، فمكث ذلك ما شاء الله أن يمكث . ثم أمر أن ينهد إلى من خالفه من العرب ويبدأ بهم ففعل فدخلوا معه جميعأً على وجهين مكره عليه فاغتبط ، وطائع إياه فازداد ، فعرفنا جميعاً فضل ما جاء به على الذي كنا عليه من العداوة والضيق ، وأمرنا أن نبدأ بمن يلينا من الأمم فندعوهم إلى الإنصاف فنحن ندعوكم إلى ديننا وهو دين الإسلام . حسّن القبيح وقبح القبيح كله . فإن أبيتم فأمر من الشر هو أهون من آخر شر منه الجزاء فإن أبيتم فالمناجزة ( المقاتلة ) وإن أجبتم إلى ديننا خلفنا فيكم كتاب الله وأقمناكم عليه على أن تحكموا بأحكامه ونرجع عنكم وشأنكم وبلادكم . وإن أتيتمونا بالجزي قبلنا ومنعناكم وإلا قاتلناكم .

    قال فتكلم يزدجر فقال :

    إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عدداً ولا أسوأ ذات بين منكم ، قد كنا نوكل بكم قرى الضواحي ليكفوناكم ولا تغزوكم فارس ولا تطمعون أن تقوموا لهم ، فإن كان عددهم كثر فلا يغرنكم منا ، وإن كان الجهد دعاكم فرضنا لكم قوتاً إلى خصبكم وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم ، وملكنا عليكم ملكاً يرفق بكم فأسكت القوم .

    فقام المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - فقال :

    أيها الملك ، إن هؤلاء رؤوس العرب ووجوههم ، وهم أشراف يستحيون من الأشراف ، وإنما يكرم الأشراف الأشراف ، ويعظم حقوق الأشراف الأشراف ، وليس كل ما أرسلوا له جمعوه لك ، ولا كل ما تكلمت به أجابوك عليه ، وقد أحسنوا ولا يحسن بمثلهم إلا ذلك . فجاوبني ، فأكون أنا الذي أبلغك ويشهدون على ذلك ، إنك قد وصفتنا صفة لم تكن بها عالماً ، فأما ما ذكرت من سوء الحال فما كان أسوأ حالاً منا ، وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع ، كنا نأكل الخنافس والجعلان والعقارب والحيات ونرى ذلك طعامنا ، وأما المنال فإنما هي ظهر الأرض ، ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم . ديننا أن يقتل بعضنا بعضاً ، وأن يبغي بعضنا على بعض ، وإن كان أحدنا ليدفن ابنته وهي حية كراهية أن تأكل من طعامه ، وكانت حالنا قبل اليوم على ما ذكرت لك . فبعث الله رجلاً معروفاً نعرف نسبه ونعرف وجهه ومولده ، فأرضه خير أرضنا ، وحسبه خير أحسابنا ، وبيته خير بيوتنا ، وقبيلته خير قبائلنا ، وهو نفسه كان خيرنا في الحال التي كان فيها أصدقنا وأحلمنا ، فدعانا إلى أمر فلم يجبه أحد ، إلا ترب كان له هو الخليفة من بعده ، فقال وقلنا ، وصدق وكذبنا ، وزاد ونقصنا فلم يقل شيئاً إلا كان فقذف الله في قلوبنا التصديق له واتباعه ، فصار فيما بيننا وبين رب العالمين ، فما قال لنا فهو قول الله ، وما أمرنا فهو أمر الله . فقال لنا : إن ربكم يقول : أنا الله وحدي لا شريك لي كنت إذ لم يكن شيء ، وكل شيء هالك إلا وجهي ، وأنا خلقت كل شيء وإليَّ يصير كل شيء ، وإن رحمتي أدركتكم ، فبعثت إليكم هذا الرجل لأدلكم على السبيل التي أنجيكم بها بعد الموت من عذابي ، ولأحلكم داري دار السلام . فنشهد عليه أنه جاء بالحق من عند الحق . وقال من تابعكم على هذا فله ما لكم وعليه ما عليكم ، ومن أبى فاعرضوا عليه الجزية ثم امنعوه مما تمنعون منه أنفسكم ومن أبى فقاتلوه ، فأنا الحكم بينكم ، فمن قتل منكم أدخلته جنتي ومن بقي منكم أعقبته النصر على من ناوأه ، فاختر إن شئت الجزية وأنت صاغر ، وإن شئت فالسيف أو تسلم فتنجو بنفسك . فقال يزدجر : أتستقبلني بمثل هذا ؟ فقال : ما استقبلت إلا من كلمني . ولو كلمني غيرك لم أستقبلك به .

    * * *

    عرضنا هنا جانباً من جوانب تربية الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة ، وسيمر معك جانب آخر في فصل الثمرات ، وسيأتيك في الكتاب الثالث ( عن الإسلام ) الجوانب التفصيلية لمنهاج التربية والتعليم الذي شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم للإنسانية ، وسترى أنه ما ترك شاردة ولا واردة مما يحتاجه البشر في أمر دين أو دنيا إلا وقد أحاط به ذلك المنهاج العظيم ، الذي جعل الأمة الإسلامية عندما كانت واعية له أرفع أمة في ميزان الحضارة ، وأخذت به أمم الغرب فكان من آثاره ما هم عليه الآن ، وتخلت عنه الأمة الإسلامية فوصلت إلى ما هي عليه الآن .

    ونظن أنّ فيما ذكرناه حتى الآن كفاية للإقناع بأن العالم ما شهد ولن يشهد مربياً كمحمد صلى الله عليه وسلم . فعل ما فعل بإمكانياته المحدودة مادياً ، وبشعب أمي عملياً ، وخذ التاريخ كله وسله هل استطاع مرب أو زعيم أن ينقل أمة بهذه الفترة المحدودة ؛ وعلى قلة الإمكانات من الناحية النفسية والأخلاقية والفكرية والحضارية والعسكرية والسياسية ، وإلى معشار معشار ما نقل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته في سنوات معدودات ؟ اللهم لا .

    * * *

    ونريد أخيراً أن نقرر حقيقة هي : لئن شارك غير محمد صلى الله عليه وسلم محمداً صلى الله عليه وسلم في بعض جوانب ربى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم البشر . فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده هو الذي وضع النفس البشرية على الطريق الصحيح ، أما غيره فلئن أصلح جانباً فعلى حساب جوانب ويبقى ما أصلحه من النفس البشرية كلها حتى أعماق أعماقها ولهذا نقول :

    إنه في الأصل لا يوجد مرب غير محمد صلى الله عليه وسلم . فقولنا إنه المربي الأول وقدوة المربين لا يعني أننا أعطينا لغير من سلك طريقه صفة التربية ، حاشا ، وإنما هو لتقريب الأمور كي تتضح الحقائق وهذا بيان ما قلناه :

    إن النفس البشرية كثيرة التعقيد كثيرة الشهوات فهي تحب المال والتملك وتود الحصول عليه من أقرب الطرق ، وتحب المتعة من تمتعها بالجمال إلى الخمرة إلى ما يلذ . وقد تصل الأمور ببعض الناس أنهم يتمتعون بمرأى الدماء . وما يمتع هذه النفس تود الوصول إليه مهما كان نوعه ، وبأي طريق ، والنفس تحب السيطرة وتحب التحكم بالآخرين ، والترأس عليهم والارتفاع عن غيرها ، وليس عند النفس مانع من استغلال الآخرين وبخسهم حقهم .

    والنفس لا تألف النظام بل الفوضى ، والانفلات من كل تكليف ومن كل قيد .

    والنفس حريصة على الحياة ، وتكره الموت حتى ولو كان الموت شيئاً ضرورياً ، ككونه لحرب لعادلة ، والنفس بشكل عام تود أن يؤدى لها حقها وتود أن تتهرب من واجبها .

    وهذا الذي أجملناه بعض ما في النفس :

    وأن تُعطى أنفس البشر كلها شهواتها فذلك مستحيل . إذ كل إنسان يحب الرئاسة فهل يمكن أن يكون الناس رؤساء ؟ وأجمل امرأة في العالم يتمناها زوجة كل إنسان فهل يمكن أن تكون زوجة لكل البشر ؟ .

    لذلك فالبشر كلهم مجمعون على أنه لا بد من وضع حدود وقيود للنفس البشرية . تتمثل هذه الحدود والقيود بالآداب والأخلاق والعادات والقوانين ، وتربية الناس على ذلك .

    والذي نراه أن بعض المربين ينجحون في جانب ، ويفشلون في جوانب ، نجد زعيماً نجح في تربية قومه على التضحية ، ونجد آخر نجح في تربية قومه على النظام ، ونجد آخر نجح في تربية قومه على العمل ، ولكنك في المقابل تجد أنه نسي بقية جوانب النفس البشرية ، فلم يفعل لها شيئاً . هذه ناحية ، وناحية أخرى إن هؤلاء وإنْ نجحوا في هذا الجزء ، ولكن قد يكون هذا الشيء الذي نجحوا فيه غير موضوع في محله ، فالذي نجح في تعويد شعبه على الطاعة قد تكون طاعته فيما لا ينبغي ، والذي نجح في حمل قومه على التضحية فد يجعلهم يضحون فيما لا يستحق التضحية ، ولكن الظاهرة التي نراها في تربية رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه ربى كل جوانب النفس البشرية وهذبها وجعلها على الصراط الصحيح . فما ترى جانباً مضيّعاً ، وما ترى تهذيباً في غير محله ، ولا ترى بعد ذلك للنفس المسلمة تصرفاً كان ينبغي ألا يكون .

    رباها على التضحية في محلها ، وعلى الفداء في محله ، وعلى النظام حيث يحسن النظام . وعلى الطاعة حيث تجمل الطاعة ، وعلى تحقيق المتعة حيث تكرم المتعة ، وعلى التملك حيث يعدل التملك ، وعلى العبادة لله ، وحسن المعاملة للناس ، كل ذلك وأمثاله وأمثاله دون أن يطغى جانب على جانب ، أو ينسى جانب على حساب جانب ، أو تستعمل النفس فيما يقبح أن تكون فيه ، أو تنتقد عليه . وفي الكتاب الثالث / الإسلام / بيان هذا بما لا لبس فيه .

    فمحمد صلى الله عليه وسلم وحده هو مربي النفس البشرية ، وغيره لا يجوز أن يعطى هذه الصفة إلا بالقدر الذي يتأسى فيه برسول الله صلى الله عليه وسلم .


    * * *
    التعديل الأخير تم 02-13-2006 الساعة 07:09 PM

  10. افتراضي

    4- رجل الدولة الأول : سياسياً وعسكرياً


    دمجنا العمل السياسي والعسكري في هذه الفقرة على اعتبار أن العمل العسكري أثر عن العمل السياسي ومرتبط به ارتباطاً كاملاً لا ينفصل عنه ، وقد يكون ذروته في بعض الحالات التي تكون فيها الحرب لا بد منها ، ثم إن الإمكانيات السياسية ، في إدارة الحروب لا تنفصل عن الإمكانيات العسكرية في الإدارة السياسية ، والرسول عليه الصلاة والسلام ، كان قائد المسلمين سياسياً وعسكرياً ، وهو الذي سار بهم من نصر إلى نصر . حتى جعل مفاتيح العالم في أيديهم مرات عديدة ولا زال باستطاعة المسلمين أن يسترجعوها إذا تتلمذوا مرة أخرى تلمذة كاملة على يديه عليه الصلاة والسلام .

    على أنه وإن ارتبط العمل السياسي بالعمل العسكري . فإن لكل مجال كلام ينفرد به . لذلك فإننا سنقسم الكلام في هذه الفقرة إلى قسمين . الأول في الكلام عن الرسول عليه الصلاة واللام سياسياً . والثاني عسكرياً ، لنرى كيف أن الرسول عليه الصلاة والسلام في كُلٍّ كان في القمة التي لا يرقى إليها احد ، وهو الأمي الذي لا يعرف قراءة ولا كتابة ، مما يدل على أن المسألة هنا ربانية المبدأ والطريق والنهاية .

    أ : الرسول عليه الصلاة والسلام

    القِيَادة السياسية العليَا


    إن نجاح القيادة السياسية يتوقف على ما يلي :

    1 ) على استيعاب هذه القيادة لدعوتها ، وثقتها بها وبأحقيتها ، وثقتها بانتصارها . وعدم تناقض سلوك هذه القيادة مع ما تدعو إليه ، لتكون مواقفهما منسجمة مع هذه الدعوة ، فتكون هذه المواقف كلها لصالح الدعوة ، ولا تكون بيد أعداء الدعوة سلاحاً فعالاً بسبب التناقض ضد الدعوة نفسها .

    2 ) وعلى قدرة القيادة على الاستمرار بالدعوة تبليغاً وإقناعاً .

    3 ) وعلى قدرة القيادة في استيعاب المستجيبين للدعوة تربية وتنظيماً وتيسيراً .

    4 ) وعلى وجود الثقة الكاملة بين القيادة وأتباعها .

    5 ) وعلى قدرة القيادة أن تعرف إمكانية الأتباع ، وأن تستطيع الاستفادة من كل إمكاناتهم العقلية والجسمية أثناء الحركة . بحيث يأخذ كل منهم محله الصحيح .

    6 ) وعلى قدرة القيادة على أن تحل المشاكل الطارئة بأقل قدر ممكن من الجهد .

    7 ) وعلى أن تكون هذه القيادة بعيدة النظر مستوعبة للواقع . فتضرب ضرباتها السيَاسية بشكل محكم .

    8 ) وعلى قدرة هذه القيادة أن تصل إلى النصر والاستفادة منه ، وتطبيق مبادئ دعوتها تطبيقاً صحيحاً .

    9 ) وعلى قدرة هذه القيادة أن تحكم أمر بناء دولتها إحكاماً بجعلها قادرة على الصمود والنمو على المدى البعيد .

    وما عرف التاريخ إنساناً كمل في هذه الجوانب كلها إلى أعلى درجات الكمال غير محمد صلى الله عليه وسلم . مع ملاحظة أن كمالاته هنا جانب من جوانب كمالاته المتعددة التي لا يحيط بها غير خالقها ، وأن كمالاته ونجاحه واستقامة خطواته وانتصاراته وتوفيق الله إياه كل ذلك دليل على أنه رسول الله الذي رباه فأحسن تربيته وأحاطه برعايته .

    ولنبدأ باستعراض هذه الجوانب التسع في سيرة رسول الله العملية لنرى برهان كُلٍّ وكماله فيه مع ملاحظة أن خطتنا في هذه الأبحاث الاختصار والإشارة لا التفصيل .

    * * *

    1 – استيعابه صلى الله عليه وسلم لدعوته نظرياً وعملياً وثقته بها وبانتصارها :

    إذا كان هناك إنسان استوعب جوانب دعوته كل الاستيعاب ، ووثق بها وبمصيرها كل الثقة ، وعرف مضمونها كل المعرفة وعرف بداياتها ونهاياتها وأولها وآخرها ومقدماتها ونتائجها ، ولم يتزحزح عن جزء منها ، بل الخطوة الثانية تأتي مكملة للخطوة الأولى وممهدة للخطوة التالية ، فذلك هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم . فالرسول عليه الصلاة والسلام كان واضحاً تماماً لديه أن منطلق دعوته هو أن الحاكم الحقيقي للبشر لا يجوز أن يكون غير الله ، وأن خضوع البشر لغير سلطان الله وحاكميته شرك ، وأن التغيير الأساسي الذي ينبغي أن يتم في العالم هو نقل البشر من خضوع بعضهم لحاكمية بعض ، إلى خضوع الكل لله الواحد الأحد ، وأن الأمة التي تحمل هذه القضية بكل متطلباتها هي التي سيكون بيدها مفاتيح الحياة البشرية ولها قيادها . ومن هذه البداية وانسجاماً معها ، يقوم كل شيء في حياة البشرية ثانياً ، وحياة الأمة التي تحمله أولاً ، ولنر وضوح هذه الجوانب عنده صلى الله عليه وسلم في بداية الأمر ونهايته .

    روى ابن إسحاق عن ابن عباس قال : " لما مشوا إلى أبي طالب وكلموه – وهم أشراف قومه عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف وأبو سفيان بن حرب في رجال من أشرافهم – فقالوا : يا أبا طالب إنك منا حيث قد علمت . وقد حضرك ما ترى ، وتخوفنا عليك , وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك فادعه فخذ لنا منه وخذ له من ؛ ليكف عنا ولنكف عنه وليدعنا وديننا ولندعه ودينه . فبعث إليه أبو طالب فجاءه فقال : يا ابن أخي ! هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليعطوك وليأخذوا منك قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كلمة واحدة تعطونيها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم . فقال أبو جهل : نعم وأبيك وعشر كلمات . قال : تقولون لا إله إلا الله وتخلعون ما تعبدون من دونه فصفقوا بأيديهم " .

    وروى ابن إسحاق عن الزهري في قصة عرض الرسول صلى الله عليه وسلم دعوته على بني عامر بن صعصعة ما يلي : " ثم قال له ( أي بحيرة بن فراس ) : أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من يخالفك أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ قال ( أي رسول الله ) : الأمر لله يضعه حيث يشاء . فقال له : أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا ما أظهرك الله كان الأمر لغيرنا لا حاجة لنا بأمرك فأبوا عليه " .

    قال عدي بن حاتم : " بينما أنا عند رسول الله إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة .. ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل ، فقال : يا عدي هل رأيت الحيرة ؟ قلت : لم أرها وقد أنبئت عنها . فقال : إن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلا الله ... ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى . قلت : كسرى بن هرمز ؟ قال : كسرى بن هرمز ، قال عدي : فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالبيت لا تخاف إلا الله ، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز ... "

    وقد طالب المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة أن يطرد المستضعفين من المسلمين حتى يجلسوا إليه ، وفي كل مرة كان يتنزل قرآن ويكون موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم الرفض ، ومن هذه ما أخرجه أبو نعيم عن ابن مسعود قال : مر الملأ ( أي السادة ) من قريش على رسول الله وعنده صهيب وبلال وخباب وعمار – رضي الله عنهم – ونحوهم وناس من ضعفاء المسلمين فقالوا ( أي الملأ مخاطبين رسول الله ) : أرضيت بهؤلاء من قومك ؟ أفنحن نكون تبعاً لهؤلاء ؟ أهؤلاء الذي منَّ الله عليهم ؟ اطردهم عنك فلعلك إن طردتهم اتبعناك قال : فأنزل الله عز وجل :

    {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبهِمْ لَيْسَ لَهُمْ من دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم من شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ من شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} .. وأخرجه أحمد والطبراني .

    من هذه الأمثلة ترى بشكل واضح استيعاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لدعوته وثقته بها وبانتصارها ، وانسجام مواقفه معها ، ووضوح طريقه أمامه ، ومعرفته بنهايات ما يريد منها . فلم تضطرب بدايات مواقفه أبداً مع نهاياتها ، بل كل خطوة تأتي تكون مكملة لما قبلها ، وكل تشريع جديد يأتي متمماً لما قبله ، حتى كملت شريعة الله ، وتم دينه وهذا كله ما كان ليتم لولا أن محمداً رسول الله .

    وهذا أول ما يلزم العمل السياسي العام ، تجده كأكمل ما يكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    ويكفيك لتعرف معنى هذا الذي قدمناه ، أن تعلم أن الناس يعتبرون العمل السياسي الإسلامي عملاً مثالياً لا يستطيعه أي إنسان ، فإذا ما عرفنا بعد ذلك أن الرسول عليه الصلاة والسلام استطاع أن يقود الناس بهذا الإسلام . فلا نجد موقفاً من مواقفه تناقض مع نصوص ومبادئ دعوته ، وعلمت أنه ما من زعيم سياسي ، إلا ويضطر للتناقض ، إما لاحقاً مع سابق ، أو دعوى مع عمل ، أو داخلياًّ مع خارجي ، أدركت مدى الكمال في القيادة المحمدية ، وخاصة إذا عرفت أنه لم يستطع أن يرتفع من حكام الأمة الإسلامية إلى القيادة بالإسلام الكامل بحق إلا أفراد منهم الخلفاء الراشدون الأربعة ، والثالث ثير عليه وقتل ظلماً ، والرابع خُرِجَ عليه وانتصر بعد ذلك خصمه السياسي . أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ساس الناس بالإسلام ولم ينزل بالإسلام إلى مستوى الناس بل رفع الناس إلى مستواه . على وتيرة واحدة ونسق واحد ، في الفكر والعمل ، من بداية الدعوة حتى انتقاله صلى الله عليه وسلم على العالم الآخر .

    * * *

    2 – استطاعته صلى الله عليه وسلم الاستمرار بدعوته تبليغاً وإقناعاً :

    إن هناك شيئين أساسيين في العادة . يجب أن يتفطن لهما قادة الحركات السياسية الفكرية الجديدة .

    أ – الحرص على استمرار عملية التبليغ والإقناع .

    ب- البصر الحكيم بالموقف الذي يتخذ من الخصم .

    إن أي دعوة من الدعوات إذا لم تستطع تأمين عملية استمرار التبليغ والإقناع تجمد ، ثم تنحصر ثم تموت ، وأي دعوة من الدعوات لا تتخذ الموقف المناسب من الخصم ، تضرب ضربة ساحقة ثم تزول ، ولنضرب هذا مثالاً : إن الهنود عندما أرادوا تحرير بلادهم من الإنكليز ، اختاروا لنفسهم طريق اللاعنف في العمل . ومعناه عندهم أن لا يجابه الإنسان القوة الظالمة بالعنف بل يتحمل ظلمها بصبر حتى تتغير هي عواطفها ، وترتدع عن غيها ، وفائدة هذا الطريق أنه يكسب صاحبه عطف الناس وعطف الرأي العام خاصة عندما يكون على حق ، وقد نجح الهنود أخيراً في تحرير بلادهم ولم يكلفهم هذا الطريق ضحايا كثيرة . ولو أنهم سلكوا غير هذا الطريق لما استطاعوا وقتذاك أن يصمدوا أمام قوة بريطانيا فيكونوا قد خسروا كثيراً وفشلوا أخيراً .

    وأنت عندما تدرس هذين الجانبين في العمل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نجح فيهما نجاحاً منقطع النظير ، فرغم تألب الجزيرة العربية كلها عليه كما رأينا في الفصل السابق ، ورغم العداء العنيف الذي ووجه به ، ورغم كل شيء فإن عملية التبليغ لم تنقطع لحظة من اللحظات ، ولعل أهم نقطة تلمحها بعد التوحيد أثناء عرض الرسول صلى الله عليه وسلم دعوته على القبائل ، هو إلحاحه على حماية الدعوة ، واستمرارها وتأديتها ، ولقد تجاوز الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر عاماً من المجابهة للمشركين ، دون انقطاع عن العمل ، مما يدل على مقدار نجاحه في هذا الموضوع .

    وأما بالنسبة للأمر الثاني فأنت تلاحظ حكمة مواقفه تجاه العدو ، فهو في مكة ، يصبر ويأمر أتباعه بالصبر ، ولو فعل غير هذا لخسر أتباعه قتلاً ، ولشغل بذلك في قضايا الثأر ، ولما أمكنه أن يتابع عملية التبليغ ، وكسب بهذه الخطة كثيراً من القلوب .

    فإذا ما انتقل إلى المدينة رأيت تجدد مواقفه على حسب الظروف الجديدة من معاهدة ، إلى سلام ، إلى حرب ، إلى ضربة هنا ووثبة هناك ، ولكن هذا كله لم يؤثر بتاتاً على عملية تبليغ الحق وإقناع الناس به ، على كل مستوى وبكل وسيلة ملائمة .

    وإذا أردت أن تقدر مقدار النجاح المحرز في هذا الطريق فانظر هذه المقارنة :

    إن الحركة الشيوعية رغم وسائل القرن التاسع عشر في الدعاية وتفرغ أتباعها فإنها لم تستطع أن تحقق نصراً وتعمم إلا بعد سبعين عاماً من أول بيان أصدره زعيماها .

    ولكن الذي حدث بالنسبة للدعوة الإسلامية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عممها خلال ثلاث وعشرين عاماً التعميم الذي يرافقه الإقناع . ولهذا فإننا نقول مطمئنين : إنه لم توجد حركة سياسية تقوم على أساس عقدي ، نجحت كما نجحت دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي فترة قصيرة . وهذا كذلك يدلنا على أن الأمر أكبر من أن يكون – لولا التوفيق الإلهي – لهذا الرسول الأعظم الفذ على مدى التاريخ بين التاريخ .

    * * *

    3 – قدرته على استيعاب أتباعه تربية وتنظيماً وتسييراً ورعاية :

    إن الدعوة العقدية السياسية تصاب من قبل أتباعها بسبب قيادتها من نواح ثلاث :

    1 – ألا تقدر هذه الدعوة على أن تربي أتباعها تربية نموذجية ، بحيث يعطى أتابعها صورة حسنة عنها ، مما يؤدي إلى نفور الناس منها كأثر عن نفورهم من أصحابها . فيكون التابع حجة على الدعوة بدلاً من أن يكون حجة لها . وهذا يؤلب الرأي العام ضدها تأليباً خطيراً ويعطي الرأي العام حجة تلو الحجة عليها . وعلى العكس من ذلك إذا ما ربي أفرادها تربية نموذجية حية فإن الناس يؤمنون بهم قبل إيمانهم بدعوتهم ، ويحبونهم قبل أن يعرفوا ما يدينون به ، وكم رجال ضربوا دعوتهم بسلوكهم مع أنهم يحملون دعوة عظيمة .

    2 – أن يدخل الدعوة ناس ولا تستطيع هذه الدعوة أن تسخر طاقاتهم في سبيلها . فأمثال هؤلاء يكونون في وضع مشلول ، فلا هم ضد الدعوة ولا هم يقدمون شيئاً لها ، وفي هذه الحالة تكون قيادة الدعوة وحدها متحملة كل مسؤولياتها ، والدعوة إذا كانت على امتداد دائم فإن هذه القيادة ستصبح في وضع لا يسمح لها أن تقوم بكل واجباتها ، وتكون المسألة هكذا ؛ داعية واحد ، ومدعوون كثيرون ، أما في الحالة الأخرى فإنك تجد العكس ، وذلك إذا استطاعت قيادة الدعوة أن تسخر طاقات الأتباع لصالح الدعوة ، لأن المسؤولية وقتذاك يتحملها مجموع الأفراد ، فيكون كل فرد لينوب مناب القائد ، وكل فرد يؤدي دوره . وفي النهاية فمهما توسعت دائرة الدعوة تبقى القيادة على قوة في تحملها .

    3 – وعندما لا يحس الأتباع بالرعاية الدائمة ، والملاحظة التامة ، وعندما لا يوضعون فيما يحسن وضعهم به ، أو عندما يحسون بأنهم منسيون ، أو عندما لا يعرف الإنسان محله ومهمته المكلف بها كل هذا يؤثر على نفسية الأتباع ويولد عندهم فتوراً عن الدعوة .

    هذه النواحي الثلاث لا بد من تلافيها لأي دعوة تقوم على أساس مبدأ معين وعدم تلافيها يعطل سير الدعوة ويقتلها .

    وأنت عندما تدرس حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وقيادته لأتباعه تجد تجنبه لهذه الجوانب ، ووجود ما يقابلها بشكل لا مثيل له . بحيث تستغرب بعد كيف انتصرت هذه الدعوة ، وهذه الجماعة ، وكيف توسعت على مر الأيام .

    ففي الجانب الأول رأيت البحث السابق عن تربية الرسول صلى الله عليه وسلم وكيف أن الأمة ألإسلامية كل قد وُسعت تربيةً ، وكيف ارتفع الأفراد من طور إلى طور بحيث أصبحوا نماذج يقتدى بها .

    وفي الجانب الثاني ترى الحركية الدائمة التي كان يجعل أصحابه دائماً يعيشونها . فإذا أسلم رجل رباه التربية الإسلامية ثم كلفهُ أن يقوم بأعباء الدعوة في جهة من جهاتها ، أو يقوم بجزء من أعبائها ، وفي الجانب الثالث ترى دقة الرسول صلى الله عليه وسلم في الرعاية والعناية والسهر على شؤون الأتباع بشكل عجيب ، ولعل هذا الجانب هو الأحق بالتمثيل هنا لأن الجانبين الآخرين ممثل لهما في هذا المقام !!.

    أخرج ابن إسحاق عن أم سلمة أنها قالت : لما ضاقت مكة ، وأوذي أصحاب رسول الله وفتنوا ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم ، وأن رسول الله لا يستطيع دفع ذلك عنهم ، وكان رسول الله في منعة من قومه ومن عمه ، لا يصل إليه شيء مما يكره ، ومما ينال أصحابه . فقال لهم رسول الله : " إن بأرض الحبشة ملكاً لا يظلم أحد عنده فالحقوا ببلاده ، حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه " وقد وجههم مرتين إلى الحبشة . مرة في السنة الخامسة . ومرة في السنة السابعة ، حيث كان المسلمون مقدمين على أعظم مراحل الاضطهاد ، مرحلة المقاطعة الشاملة .

    وعندما قرر الرسول صلى الله عليه وسلم الهجرة إلى المدينة ، وجه أتباعه كلهم قبله ، وبقي في مكة حتى إذا لم يبق إلا من له عذر خرج مهاجراً . وأخرج أحمد عن شداد بن عبد الله قال : قال أبو أمامة : يا عمرو بن عبسة بأي شيء تدعي أنك ربع الإسلام ؟ قال : إني كنت في الجاهلية أرى الناس على ضلالة ولا أرى الأوثان شيئاً ، ثم سمعت عن رجل يخبر أخباراً بمكة ويحدث أحاديث ، فركبت راحلتي حتى قدمت مكة ، فإذا أنا برسول الله مستخف وإذا قومه عليه جراء فتلطفت له فدخلت عليه فقلت : ما أنت ؟ قال : أنا نبي الله ، فقلت : وما نبي الله ؟ قال : رسول الله . قال : قلت الله أرسلك ؟ قال : نعم . قلت : بأي شيء أرسلك ؟ قال : بأن يوحد الله ولا يشرك به شيء وكسر الأوثان وصلة الرّحم . فقلت : من معك على هذا ؟ قال : حر وعبد / أو عبد وحر / وإذا معه أبو بكر بن أبي قحافة وبلال مولى أبي بكر . قلت : إني متبعك . قال : إنك لا تستطيع يومك هذا ، ولكن ارجع إلى أهلك . فإذا سمعت بي قد ظهرت فالحق بي . قال : فرجعت إلى أهلي وقد أسلمت . فخرج رسول الله مهاجراً إلى المدينة ، فجعلت أتخبر الأخبار حتى جاء ركبه من يثرب . فقلت ما هذا المكي الذي أتاكم ؟ قالوا : أراد قومه قتله فلم يستطيعوا ذلك ، وحيل بينهم وبينه ، وتركنا الناس سراعاً . قال عمرو بن عبسة : فركبت راحلتي حتى قدمت عليه المدينة فدخلت عليه فقلت : يا رسول الله أتعرفني ؟ قال : نعم . ألست أنت الذي أتيتني بمكة ؟ قال : قلت بلى .

    هذه ثلاثة أمثلة تدلك على مبلغ دقة الرسول صلى الله عليه وسلم في توجيه أصحابه بالشكل الذي يحمون فيه ويأمنون ، وكيف أنه لا ينسى أحداً منهم ، بل يستوعبهم جميعاً برعايته ، وكيف يعدّهم للحظة المناسبة ، وكيف يسيّر كل واحد منهم بحكمة تناسب وضعه .

    ولا ننتقل بك من هذا البحث حتى نضرب لك أمثلة أخرى على سهره صلى الله عليه وسلم على حاجات أتباعه الشخصية وتأمينها لهم .

    أخرج أحمد والبخاري عن مجاهد أن أبا هريرة كان يقول : والله إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع ، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع ، ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه ، فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليستتبعني فلم يفعل ، فمر عمر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليستتبعني فلم يفعل ، فمر أبو القاسم فعرف ما في وجهي وما في نفسي فقال : أبا هريرة ، قلت له : لبيك يا رسول الله . فقال : الْحقْ واستأذنت فأذن لي فوجدت لبناً في قدح قال : من أين لكم هذا اللبن فقالوا : أهداه لنا فلان – أو آل فلان – قال : أبا هر ! قلت : لبيك يا رسول الله . قال : انطلق إلى أهل الصفة فادعهم لي . قال : وأهل الصفة أضياف الإسلام لم يأووا إلى أهل ولا مال إذا جاءت رسول الله هدية أصاب منها وبعث إليهم منها ، وإذا جاءته الصدقة أرسل بها إليهم ولم يصب منها ، قال : وأحزنني ذلك وكنت أرجو أن أصيب من اللبن شربة أتقوى به بقية يومي وليلتي ، وقلت : أنا الرسول ، فإذا جاء القوم كنت أنا الذي أعطيهم ، وقلت : ما يبقى لي من هذا اللبن ، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بد ، فانطلقت فدعوتهم فأقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم فأخذوا مجالسهم من البيت ثم قال : أبا هر ! خذ فأعطهم . فأخذت القدح فجعلت أعطيهم فيأخذ الرجل القدح فيشرب حتى يروى ثم يرد القدح حتى أتيت على آخرهم ، ودفعت إلى رسول الله فأخذ القدح فوضعه في يده وبقي فيه فضلة ثم رفع رأسه ونظر إليّ وتبسم وقال : أبا هر قلت : لبيك يا رسول الله . قال : بقيت أنا وأنت . فقلت : صدقت يا رسول الله . قال : فاقعد فاشرب . قال : فقعدت فشربت ثم قال لي : اشرب فشربت ، فما زال يقول لي اشرب فأشرب حتى قلت : لا والذي بعثك بالحق ما أجد له فيّ مسلكاً ، قال : ناولني القدح فرددت إليه القدح فشرب من الفضلة .

    وأخرج أحمد عن ربيعة الأسلمي قال :

    كنت أخدم النبي فقال لي : يا ربيعة ألا تزوج ؟ قلت : لا والله يا رسول الله ما أريد أن أتزوج وما عندي ما يقيم المرأة وما أحب أن يشغلني عنك شيء فأعرض عني ، ثم قال لي الثانية : يا ربيعة ألا تزوج ؟ فقلت : ما أريد أن أتزوج ما عندي ما يقيم المرأة وما أحب أن يشغلني عنك شيء فأعرض عني ، ثم رجعت إلى نفسي فقلت : والله لرسول الله أعلم مني بما يصلحني في الدنيا والآخرة ، والله لئن قال لي ألا تزوج ، لأقولن : نعم يا رسول الله . مرني بما شئت . فقال لي : يا ربيعة ألا تزوج ؟ فقلت : بلى مرني بما شئت . قال : انطلق إلى آل فلان حي من ألأنصار كان فيهم تراخ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل لهم : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إليكم يأمرني أن تزوجوني فلانة لامرأة منهم ، فذهبت إليهم فقلت لهم : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إليكم يأمركم أن تزوجوني ، فقالوا : مرحباً برسول الله وبرسول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله لا يرجع رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بحاجته . فزوجوني وألطفوني وما سألوني البينة . فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حزيناً . فقلت : يا رسول الله ! أتيت قوماً كراماً فزوجوني وألطفوني وما سألوني البينة وليس عندي صداق .

    فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا بريدة الأسلمي اجمعوا له وزن نواة من ذهب . قال : فجمعوا لي وزن نواة من ذهب ، فأخذت ما جمعوا لي فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم قال اذهب بهذا إليهم فقل لهم : هذا صداقها . فأتيتهم فقلت : هذا صداقها ، فقبلوه ورضوه وقالوا : كثير طيب ، قال : ثم رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حزيناً فقال : يا ربيعة ما لك حزيناً ؟ فقلت : يا رسول الله ما رأيت قوماً أكرم منهم ورضوا بما آتيتهم وأحسنوا وقالوا : كثير طيب ، وليس عندي ما أولم . فقال : يا بريدة اجمعوا له شاة . قال : فجمعوا له كبشاً عظيماً سميناً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اذهب إلى عائشة – رضي الله عنها – فقل لها : فلتبعث بالمكتل الذي فيه الطعام . قال : فأتيتها فقلت لها ما أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت هذا المكتل في سبع آصع شعير ، لا والله لا والله : إن أصبح لنا طعام غيره فخذه . قال : فأخذته فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته بما قالت عائشة ، قال : اذهب بهذا إليهم فقل لهم ليصبح هذا عندكم خبزاً وهذا طبيخاً ، فقالوا : أما الخبز فسنكفيكموه وأما الكبش فاكفونا أنتم ، فأخذنا الكبش أنا وأناس من أسلم فذبحناه وسلخناه وطبخناه فأصبح عندنا خبز ولحم فأولمت ودعوت النبي صلى الله عليه وسلم .

    وأخرج أحمد عن أبي برزة الأسلمي – رضي الله عنه – أن جليبيباً كان امرأً يدخل على النساء يمر بهن ويلاعبهن فقلت لامرأتي :

    لا تدخلن عليكم جليبيباً ، إن دخل عليكم لأفعلن ولأفعلن .

    قال : وكانت الأنصار إذا كان لأحدهم أيّم لم يزوجها حتى يعلم هل للنبي صلى الله عليه وسلم فيها حاجة أم لا . فقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل من الأنصار : زوجني ابنتك ! قال : نعم وكرامة يا رسول الله ونعمة عين ! قال : إني لست أريدها لنفسي ، قال فلمن يا رسول الله ؟ قال : لجليبيب ، قال : أشاور أمها ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ابنتك ، قالت : نعم ونعمة عين ، قال : إنه ليس يخطبها لنفسه إنما يخطبها لجليبيب ، قالت : لجليبيب ، أنيه لجليبيب أنيه ، لا لعمر الله لا نزوجه ! فلما أن أراد ليقوم ليأتي النبي صلى الله عليه وسلم ليخبره بما قالت أمها قالت الجارية : من خطبني إليكم ؟ فأخبرتها أمها . فقالت : أتردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره ! ادفعوني إليه فإنه لن يضيعني ! فانطلق أبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال : شأنك بها ، فزوجها جليبيباً ، قال : فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة له ، قال : فلما أفاء الله الله عز وجل عليه قال : هل تفقدون من أحد ؟ قالوا : لا . قال : لكني أفقد جليبيباً ، قال : فاطلبوه . فوجدوه إلى جنب سبعة قتلهم ثم قتلوه فقالوا : يا رسول الله ها هو ذا إلى جنب سبعة قتلهم ثم قتلوه ، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : قتل سبعة ثم قتلوه . هذا مني وأنا منه – مرتين أو ثلاثاً . ثم وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ساعديه وحفر له ، ما له سرير إلا ساعد النبي صلى الله عليه وسلم ثم وضعه في قبره ، لم يذكر أنه غسله ، قال ثابت فما كان في الأنصار أيم أنفق منها " .

    ولعل في هذه الأمثلة كفاية على إبراز مقدار رعايته صلى الله عليه وسلم لأتباعه واستيعابهم في كل الجوانب .

    * * *

    4 – الثقة التي كان يتمتع بها صلى الله عليه وسلم عند أتباعه :

    للثقة بين الناس وقائدهم أهمية عظيمة جداً عند أصحاب الفكر السياسي ؛ لذلك ترى في أنظمة الحكم الديمقراطية أن الحكومة تبقى حاكمة ما دامت متمتعة بثقة شعبها التي تعرفها ببعض الوسائل ، وقديماً قال كونفوشيوس حكيم الصين : إن الحكومة ينبغي أن توفر لشعبها الثقة بها والحماية له بتوفير أسباب القوة والطعام والشراب وما يلزم . قالوا : فإن لم تستطع أن تؤمن هذه الأشياء الثلاثة قال : تتخلى عن تأمين الطعام والشراب ، قالوا : فإن لم تستطع تأمين الاثنتين الأخريتين قال : تتخلى عن تأمين القوة والحماية ولا تفرط في الثقة " .

    وهذا شيء معقول إذ ما ادام الناس واثقين بحكومتهم ومتعاونين معها ، فإنهم يستطيعون بالتالي أن يسدوا النواقص ، أما إذا فقدت الثقة ، فقد تلاشى كل شيء ، وفقدت الأمة قوتها وحمايتها وهذا شيء مجرب ، إن فقدان الثقة يشل العمل السياسي ويميت حركة الأمة ويضعف روحها المعنوية ، ويضرب اقتصادها وبالتالي يهوي بها .

    لذلك كان من أهم عوامل نجاح القائد السياسي للأمة ثقة الأمة به ومحبتها له ، فإن هذا إذا وجد يعوض كل النواقص وكل الفراغات ، فإذا ما وضح هذا بشكل عام نقول :

    إن تاريخ العالم كله لا يعرف مثلاً واحداً يشبه ما كانت عليه ثقة أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم به .

    إن ثقة الناس بالقائد الرسول ، كانت ثقة غير متناهية ، يكفي لإدراكها أن ترى بعضاً من مواقف الصحابة في أدق وأصعب وأحرج الأحوال :

    في يوم العقبة حيث تم اللقاء بين الرسول صلى الله عليه وسلم والوفد الثاني للأنصار كان من أمرهم ما ذكره ابن هاشم :

    قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري : يا معشر الخزرج ! هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل ؟ قالوا : نعم . قال : إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس . فإن كنتم ترون أنكم إذا أنهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلاً أسلمتموه ؟ فمن الآن فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة ، وإن كنتم ترون أنكم وافوه بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه فهو والله خير الدنيا والآخرة . قالوا : فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف ... "

    وقال أبو الهيثم بن التيهان : يا رسول الله وإن بيننا وبين الناس حبالاً ( أي أحلافاً وعهوداً ) فلعلنا نقطعها ثم ترجع إلى قومك وقد قطعنا الحبال وحاربنا الناس . فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله وقال : الدم الدم ، الهدم الهدم ، وفي رواية : بل الدم الدم والهدم الهدم . أنا منكم وأنتم مني ، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم .

    ثم أقبل أبو الهيثم على قومه فقال يا قوم هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أشهد أنه لصادق وأنه اليوم في حرم الله وأمنه وبين ظهري قومه وعشيرته ، فاعلموا أنه إن تخرجوه رمتكم العرب عن قوس واحدة ، فإن كانت طابت أنفسكم بالقتال في سبيل الله وذهاب الأموال والأولاد فادعوه إلى أرضكم فإنه رسول الله حقاً ، وإن خفتم خذلاناً فمن الآن . فقالوا عند ذلك : قبلنا عن الله وعن رسوله ما أعطيانا ، وقد أعطينا من أنفسنا الذي سألتنا يا رسول الله ، فخل بيننا يا أبا الهيثم وبين رسول الله فلنبايعه ، فقال أبو الهيثم : أنا أول من بايع .

    وأخرج أحمد من حديث بيعة العقبة :

    فقلنا ( أي الأنصار ) : يا رسول الله علام نبايعك ؟ قال : تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل ، والنفقة في العسر واليسر ، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأن تقولوا في الله لا تخافوا في الله لومة لائم ، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة . فقمنا إليه وأخذ بيده أسعد بن زرارة – رضي الله عنه – وهو أصغرهم فقال : رويداً يا أهل يثرب فإنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله ، وإن إخراجه اليوم مناوأة للعرب كافة وقتل خياركم وتعضكم السيوف ، فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك فخذوه وأجركم على الله ، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه ، فبينوا ذلك فهو أعذر لكم عند الله قالوا : أمط عنا يا سعد فوالله لا ندع هذه البيعة ولا نسلبها أبداً " .

    من هذه النصوص يشعر الإنسان بمقدار الثقة التي كانت تملأ قلوب هذا الرعيل الأول مع معرفتهم بما سيترتب على هذه البيعة من آثار مخيفة .

    ومن مواقف مقدمات معركة بدر كما أخرجها ابن إسحاق في سيرة ابن هشام .

    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مخاطباً أصحابه : ما ترون في قتال القوم ؟ فقام المقداد بن عمرو فقال : إذاً لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى – عليه السلام – اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون .

    تكلم آخرون ثم قال سعد بن عبادة : إيانا يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحار لأخضناها ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى بر الغماد لفعلنا .

    وقال سعد بن معاذ : والله لكأنك تريدنا يا رسول الله

    قال : أجل

    قال : قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك ، فوالذي بعثك بالحق لو استرضعت بنا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً إن لصبر في الحرب صدق في اللقاء لعل الله يريك ما تقر به عينك فسر على بركة الله .

    هذه المواقف ، وكل حياة الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه مواقف من هذا النوع تدلك على مقدار الثقة التي كانت لرسول الله في قلوب أصحابه .

    والحقيقة أن شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم كانت من الأسر والقوة والنفوذ ، بحيث لا يملك من يخالطها إلا أن يذوب فيها ، إلا إذا كانت شخصيته معقدة ، ولعل في قصة مولاه زيد بن حارثة ما يؤكد هذا المعنى . إذ يأتي أبو زيد وأعمامه ليشتروه ويرجعوا به إلى أهله حراً ولكن زيداً يختار صحبة محمد مع العبودية والغربة . على فراقه مع الحرية ولقاء الأهل ، وهذه ظاهرة عجيبة أن يصارح زيد أهله بهذا . وهو ليس صغير السن بل كان وقتذاك ناضج الفكر ، فكافأه محمد صلى الله عليه وسلم ( كان ذلك قبل النبوة ) أن حرره وتبناه .

    ويكفينا ما ذكرناه في هذا الباب . فالسيرة وحياة الصحابة كلها شواهد على أن الثقة التي تمتع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أتباعه لم يعرف العالم لها مثيلاً .

    * * *

    5 – استطاعة القائد الاستفادة من كل إمكانيات الأتباع العقلية والجسمية أثناء الحركة ، مع المعرفة الدقيقة بإمكانية كل منهم ووضعه في محله :

    إن عبقرية القيادة لا تظهر في شيء ظهورها في معرفة الرجال ، ووضع كل في محله ، واستخراج طاقات العقول بالشورى ، واستخلاص الرأي الصحيح ، وفي كل من هذين كان الرسول صلى الله عليه وسلم الأسوة العليا للبشر .

    إن الشورى في فن السياسة عملية تستجمع فيها طاقات العقول كلها لاستخلاص الرأي الصالح ، ويتحمل فيها كل فرد مسؤولية القرار النهائي ، ويقتنع فيها كل فرد بالنتيجة . فيندفع نحو المراد بقوة ، وترتفع بها ملكات الفرد وروح الجماعة . ويبقى الإنسان فيها على صلة بمشاكل أمته وجماعته ، ولذلك جعل الله أمر المسلمين شورى بين المسلمين ، حتى يتحمل كل فرد من المسلمين المسؤولية كاملة ولا يبقى مسلم مهملاً .

    والظاهرة التي نراها في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كقائد . حبه للشورى ، وحرصه عليها ، ومحاولته توسيع دائرتها ، واستخلاصه الرأي الأخير في النهاية :

    قبيل غزوة بدر استشار الناس فأشار المهاجرون ، فلم يكتف ، ثم استشار الناس فأشار الخزرج والأوس ثم اتخذ قراره الأخير في الحرب حتى يمحو أي تردد عن أي نفس .

    ولما عسكر المسلمون يوم بدر في أدنى ماء جاء الحباب بن منذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أرأيت هذا المنزل أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟

    قال : بل هو الرأي والحرب والمكيدة .

    قال : يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل ، فانهض بالناس حتى نأتي ماء من القوم فنعسكر فيه ثم نغوّر ما رواءه من الآبار ثم نبني عليه حوضاً فنملأه ماء ثم نقاتل القوم فنشر ولا يشربون . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد أشرت بالرأي . ونفذ صلى الله عليه وسلم ما أشار به .

    وقبيل يوم احد استشار الناس وأخذ برأي الأكثرية . ويوم الأحزاب أخذ برأي سلمان الفارسي . ويوم الحديبية أشارت عليه أم سلمة زوجته فأخذ برأيها .

    إنها القيادة التي لا تستكبر أن تنزل على رأي مسلم كائناً من كان ، ما دام الرأي سليماً صحيحاً ، والقيادة الصالحة هي التي تعمم الشورى حتى لا يبقى أحد عنده رأي إلا قاله ، وخاصة فيما يكون فيه غرم .

    بعد غزوة حنين جاءت هوازن مسلمة وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم سبيهم وثروتهم فقال لهم : إن معي من ترون وإن أحب الحديث إلي أصدقه فأبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم ؟ قالوا : ما كنا نعدل بالأحساب شيئاً . فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين فأثنى على الله ما هو أهله ثم قال : أما بعد فإن إخوانكم هؤلاء قد جاءوا تائبين وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم فمن أحب أن يطيب ذلك فليفعل ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول مال يفيء الله علينا فليفعل فقال الناس : قد طيبنا ذلك يا رسول الله ، فقال لهم : إنا لا ندري من أذن منكم ممن لم يأذن فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم ، فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم ثم عادوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرونه أنهم قد طيبوا وأذنوا .

    إنها الشورى التي يأخذ فيها كل إنسان حقه . ولقد علم المسلمون من نبيه هذا فأحسنوا القيام به ، حتى إن كان عمر بن الخطاب ليستشير المرأة فربما أبصر في قولها الشيء يستحسنه فيأخذ به .

    * * *

    وأما معرفة الرجال ووضع كل في محله المناسب له وتكليفه بالمهمة التي يصلح لها فكذلك لا يلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم أحد فيها .

    إن أبا بكر وعمر كانا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقبهما الصحابة بالوزيرين له ، وكان يسمر معهما في قضايا المسلمين ، ولما مرض صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر أن يصلي بالناس وهذا الذي جعل المسلمين يختارونه بعده خليفة ، ثم كان عمر الخليفة الثاني ، والناس يعرفون ماذا فعل أبو بكر وعمر يوم حكما الناس ، فهل يشك أحد أن تركيز الرسول صلى الله عليه وسلم على هاتين الشخصيتين كان في محله ، وأنهما من الكفاءة في المحل الأعلى وأن رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما في محله . وهذان مثلان فقط وإلا فما اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً إلا ورأيت الحكمة في هذا الاختيار .

    يقول عمرو بن العاص في قصة إسلامه وخالد بن الوليد : فوالله ما عدل بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبخالد بن الوليد أحداً من أصحابه في أمر حزبه منذ أسلمنا .

    وما أحد إلا ويعرف كفاءة هذين الرجلين من آثارهما بعد .

    وعندما أتى وفد بني تميم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : يا محمد جئناك نفاخرك فأذن لشاعرنا وخطيبنا .

    قال : قد أذنت لخطيبكم فليقل . فقام عطارد بن حاجب فقال ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس الخزرجي أن يرد عليه فرد ، ثم قال شاعر بني تميم فقال ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت أن يرد ، فغلب خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبهم وشاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم شاعرهم .

    لكل مقام رجال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر الخلق فراسة في اختيار الرجل المناسب للمقام المناسب .

    ولعل في قصة نعيم بن مسعود بالغ الدلالة على ما قلناه :

    " كان نعيم بن مسعود حسن الصلة بكل القبائل المعايدة للمسلمين يوم الأحزاب سواء في ذلك يهود بني قريظة أو قومه أو قريش ... وفي أحلك اللحظات أيام الأحزاب أسلم نعيم وقد أصبح المسلمون بين بني قريظة في الداخل والمشركين بعد الخندق ، وإذا أُتي المسلمون من قِبل قريظة لم يعد يصلح خط دفاع المسلمين واضطروا للدخول في معركة مفتوحة ليست متكافئة ولذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم وقد أسلم نعيم يكلفه ألا يعلن إسلامه وأن يقوم بعملية تخلخل صف العدو .

    يقول عليه الصلاة والسلام لنعيم : إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت فإن الحرب خدعة .

    ورجع نعيم وكان من أمره ما سنقصه عليك مما يشهد أن اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم كان موفقاً غاية التوفيق .

    خرج نعيم حتى أتى بني قريظة وكان لهم نديما ًفي الجاهلية فقال : يا بني قريظة قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم .

    قالوا : صدقت لست عندما بمتهم .

    فقال لهم : إن قريشاً وغطفان ليسوا كأنتم . البلد بلدكم ، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم ، لا تقدرون على أن تحوّلوا منه إلى غيره . وإن قريشاً وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه ، وقد ظاهرتموهم عليه ، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره ، فليسوا كأنتم ، فإن رأوا نهزة أصابوها ، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم ، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم ، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمداً حتى تناجزوه . فقالوا له : لقد أشرت بالرأي .

    ثم خرج حتى أتى قريشاً ، فقال لأبي سفيان ومن معه : قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمداً ، وإنه قد بلغني أمر رأيت عليّ حقاً أن أبلغكموه نصحاً لكم فاكتموا عني . فقالوا : نفعل . قال : تعلموا أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد . وقد أرسلوا إليه : إنا قد ندمنا على ما فعلنا ، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم فنعطيكهم ، فتضرب أعناقهم ؟ ثم تكون لك على من بقي منهم حتى نستأصلهم . فأرسل إليهم أن نعم . فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهناً من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلاً واحداً .

    ثم خرج حتى أتى غطفان فقال : يا معشر غطفان إنكم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إلي . ولا أراكم تتهموني . قالوا : صدقت ، ما أنت عندنا بمتهم . قال : فاكتموا عني ، قالوا : نفعل . ثم قال لهم مثل ما قال لقريش وحذّرهم ما حذّرهم ..

    فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس وكان من صنع الله لرسوله أن أرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان فقالوا لهم : إنا لسنا بدار مقام فقد هلك الخف والحافر . فاغدوا للقتال حتى نناجز محمداً ونفرغ مما بيننا وبينه . فأرسلوا إليهم أن اليوم يوم السبت ، وهو يوم لا نعمل فيه شيئاً ، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثاً فأصابه ما لم يخف عليكم . ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل محمداً معكم حتى تعطونا رهناً من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا . حتى نناجز محمداً . فإنا نخشى إن ضرّستكم الحرب واشتدّ عليكم القتال أن تنشمروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلدنا . ولا طاقة لنا بذلك منه .

    فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة ، قالت قريش وغطفان : والله إن الذي حدثكم نعيم بن مسعود لحق ، فأرسلوا إلى بني قريظة : إنا والله لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا . فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا وقاتلوا . فقالت بنو قريظة حين انتهت إليهم بهذا : إن الذي ذكر لكم نعيم لحق ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا . فإن رأوا فرصة انتهزوها وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم . وهكذا أفلح المسلمون في فصم عرى التحالف بين الأحزاب المجتمعة عليهم .

    * * *

    6 – قدرته الكاملة صلى الله عليه وسلم على حل المشاكل الطارئة :

    إن الدعوات والتنظيمات السياسية التي تقوم على أساسها ، كثيراً ما تضرب بسبب مشكلة طارئة لا تستطيع القيادة أن تحلها حلاً موفقاً ، مما يؤدي إلى انقسام أصحابها أو ضربها والقضاء عليها ، وكلما كانت القيادة أقدر على حل المشاكل كان ذلك أضمن لنجاح الدعوة .

    وقد يحدث أن بعض القيادات تحل المشاكل حلاً غير مشروع فتستعمل القوة مع أتباعها ، فتبيد المعارضين أو تسجنهم .. كما نرى كثيراً من هذا في عصرنا الحاضر . إلا أن الظاهرة التي لا مثيل لها في تاريخ القيادات أنك تجد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قدرة لا مثيل لها على حل المشاكل بكل بساطة ، هذا مع سلوك الطريق الألطف مع الأتباع . والذي عرف العرب عن كثب يدرك أي قيادة هذه القيادة التي استطاعت أن تشق الطريق بأقل قدر ممكن من المتاعب .

    إنه لا توجد أمة في العالم أكثر مشكلات من الأمة العربية ، إذ العوامل النفسية التي تثير المشاكل كثيرة جداً ، فكلمة قد تثير حرباً ، وجرح كرامة قد يؤدي إلى ويلات ، ونظام للثارات ، وشعور بالولاء ، وعواطف متأججة ، وعصبية عارمة ، وجرأة نادرة ، وقوة ، وصلابة ، وعدم انضباط ... وكل واحدة من هذه تحتاج إلى قيادة تتمتع بكفاءة منقطعة النظير ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم القائد الفذ الذي استطاع أن يدير أمر هذا الشعب القوي المراس ويحل كل مشاكله بكل بساطة . وهذه أمثلة على حلوله السريعة للمشاكل :

    حله صلى الله عليه وسلم لمشكلة وضع الحجر الأسود قبل النبوة حين هدمت قريش الكعبة وأعادت بناءها . وهذه رواية ابن إسحاق للحادث . قال :

    ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها ، كل قبيلة تجمع على حدة ، ثم بنوها حتى بلغ البناء موضع الركن ، فاختصموا فيه ، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى حتى تحاوزوا وتحالفوا وأعدوا للقتال ، فربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دماً ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة ، فسموا لعقة الدم . فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمساً ، ثم إنهم اجتمعوا في المسجد وتشاوروا وتناصفوا . فزعم ( إذ يروى أن المشير على قريش مشهم بن المغيرة ، ويكنى أبا حذيفة ) بعض أهل الرواية : أن أبا أمية بن المغيرة عبد الله بن عمر بن مخزوم ، وكان عامئذ أسن قريش كلها ، قال : يا معشر قريش ، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه ، ففعلوا .

    فكان أول داخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوه قالوا : هذا الأمينُ ، رضينا . هذا محمد . فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر ، قال صلى الله عليه وسلم هلمّ إليّ ثوباً ، فأتي به ، فأخذ الركن فوضعه فيه بيده ، ثم قال : لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثّوب ، ثم ارفعوا جميعاً ، ففعلوا . حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو بيده ، ثم بنى عليه .

    * * *

    نموذج من حلوله صلى الله عليه وسلم السريعة لمشاكل المنافقين :

    نزل المسلمون مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غزو بني المصطلق على ماء فحدثت حادثة أراد عبد الله بن أبي أن يستغلها ليهدم وحدة صف المسلمين ، وهو قديماً رأس قومه ، فلنر ماهية الحادثة وكيف حلها رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    يقول ابن هشام : فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك الماء وردت واردة الناس ، ومع عمر ابن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له : جهجاه بن مسعود يقود فرسه ، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهني على الماء فاقتتلا ، فصرخ الجهني يا معشر الأنصار ، وصرخ جهجاه : يا معشر المهاجرين . فغضب عبد الله بن أبي بن سلول – وعنده رهط من قومه – فيهم زيد بن أرقم غلام حدث – فقال : أوَ فعلوها ، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا ، والله ما أعدنا وجلابيب قريش إلا كما قال الأول : سمن كلبك يأكلك ! أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، ثم أقبل على من حضره من قومه فقال لهم : هذا ما فعلتم بأنفسكم ، أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم ، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم .

    ( جلابيب قريش : كان المشركون يلقبون به من أسلم من المهاجرين ) .

    فسمع ذلك زيد بن أرقم فمشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك عند فراغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدوه ، فأخبره الخبر وعنده عمر بن الخطاب ، فقال : مر به عباد بن بشر فليقتله .

    فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ، لا ولكن أذّن بالرحيل . وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها ، فارتحل الناس .

    وقد مشى عبد الله بن أبي بن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن زيد بن أرقم قد بلغه ما سمعه ، فحلف بالله : ما قلت ولا تكلمت به ، وكان في قومه شريفاً عظيماً .

    فقال من حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار من أصحابه : يا رسول الله عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه ما قال الرجل ، حَدَباً على ابن أبي بن سلول ودفعاً منه .

    فلما استقل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار ، لقيه أسيد بن حضير ، فحياه بتحية النبوة وسلم عليه ثم قال : يا نبي الله ، والله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أو ما بلغك ما قال صاحبكم . قال : وأي صاحب يا رسول الله ؟ قال : عبد الله بن أبي بن سلول . قال : وما قال ؟ قال : زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل . قال : فأنت يا رسول الله والله تخرجه منها إن شئت . هو والله الذليل وأنت العزيز . ثم قال : يا رسول الله ارفق به ، فوالله لقد جاءنا الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه فإنه يرى أنك استلبته ملكاً .

    ثم مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى ، وليلتهم حتى أصبح ، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس ، ثم نزل بالناس فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياماً ، وإنما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس ، من حديث عبد الله بن أبي .

    ثم راح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس وسلك الحجاز حتى نزل على ماء بالحجاز فويق النقيع يقال له بقعاء ...

    ونزلت السورة التي ذكر الله فيها المنافقين في ابن أبي ومن كان مثل أمره ، فلما نزلت أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذن زيد بن أرقم ثم قال : هذا الذي أوفى الله بأذنه ، وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أُبيّ الذي كان من أمر أبيه فقال : يا رسول الله ، إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه ، فإن كنت لا بد فاعلاً فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه ، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني ، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله ، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس ، فأقتله ، فأقتل رجلاً مؤمناً بكافر فأدخل النار ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل نترفق به ونحن صحبته ما بقي معنا .

    وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنفونه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك من شأنهم : كيف ترى يا عمر ؟ أما والله لو قتلته يوم قلت لي لأرعدت له آنف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته . قال عمر : قد والله علمت لأمر رسول الله أعظم بركة من أمري .

    * * *

    حله صلى الله عليه وسلم لمشاكل الهجرة :

    ولما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة كانت هناك مشاكل تحتاج إلى حل سريع :

    أ- قضية اسنجام الناس بعضهم مع بعض وهم من قبائل شتى .

    ب- إيجاد صيغة ملائمة يتعايش فيها الناس في المدينة وليسوا كلهم مسلمين فمنهم اليهود ومنهم المنافقون ومنهم المسلمون .

    جـ- حل المشكلة الاقتصادية إذ المهاجرون تركوا أولادهم ومساكنهم ، ومشكلة المهاجرين دائماً مشكلة صعبة حتى بالنسبة للدول الحديثة ، ثم كان اليهود هم المسيطرين على السوق التجارية ، إذ السوق الوحيدة فيها لهم . ولنرى كيف حلت هذه المشاكل كلها بسهولة .

    وقد حلت المشكلة الأولى والثالثة مع بعضهما على الشكل التالي :

    ما كادت الأمور تستقر بالمدينة حتى أنشأ الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين سوقاً ليستغنوا عن سوق اليهود ، وشرع بأمر الله سنة الإخاء فكل مهاجري جعل له أخاً أنصارياً ، وجعل هذه الأخوة أعمق من أخوة النسب فكانوا يتوارثون بها ، وحض الناس على الكرم والسخاء والإيثار ، وصادق ذلك نفوساً ما عرف التاريخ أشرف منها ، ولا أرقى بعد الرسل ، فكان من آثار ذلك الشيء العجيب .

    روى البيهقي عن عبد الرحمن بن عوف قال :

    كانت أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة أن قام فيهم فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال :

    أما بعد : أيها الناس ! فقدموا لأنفسكم . تعلمن والله ليصعقن أحدكم ثم ليدعن غنمه ليس لها راع ، ثم ليقولن له ربه – ليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه – ألم يأتك رسولي فبلغك وآتيتك مالاً وأفضلت عليك ؟ فما قدمت لنفسك ؟ فينظر يميناً وشمالاً فلا يرى شيئاً ، ثم ينظر قدامه فلا يرى غير جهنم ، فمن استطاع أن يقي نفسه من النار ولو بشق تمرة فليفعل ، ومن لم يجد فبكلمة طيبة ، فإن بها تجزى الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، والسلام عليكم وعلى رسول الله .

    وروى البخاري أنهم لما قدموا المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع فقال سعد لعبد الرحمن : إني أكثر الأنصار مالاً فأقسم مالي نصفني ، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمها لي أطلقها فإذا انقضت عدتها فتزوجها . قال عبد الرحمن : بارك الله لك في أهلك ومالك أين سوقكم فدلوه على سوق بني قينقاع فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن ..

    ومن خبر الأنصار يوم هاجر إليهم الناس أنهم كانوا يختصمون على المهاجر كلهم يريد أن يضمه إلى نفسه ، حتى إنه لم ينزل مهاجري على أنصاري إلا بقرعة .

    بهذه الروح التي بثها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أتباعه حلت مشكلة من أكبر المشاكل استعصاء على الحل .

    أما المشكلة الثانية وهي إيجاد صيغة ملائمة يتعايش بها الناس ؛ إذ المجتمع المدني كان مؤلفاً من الأوس والخزرج وبينهما عداء قديم ، واليهود كانوا منقسمين على بعضهم ، بعضهم مع الأوس وبعضهم مع الخزرج ، وهم حريصون على أن يبقى النزاع بين الأوس والخزرج . ثم أتى المهاجرون وهم كذلك من عشائر كثيرة فكان من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كتب أول وثيقة سياسية في الإسلام بين هذه الأطراف كلها تمثل الدستور الذي يتعايش به هؤلاء جميعاً وقد رضوا جميعاً به .

    قال ابن إسحاق : وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً بين المهاجرين والأنصار ، وادَعَ فيه يهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم وشرط لهم واشترط عليهم :

    بسم الله الرحمن الرحيم

    هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم ، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم . إنهم أمة واحدة من دون الناس ، المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون ( الربعة : الحالة التي جاء الإسلام وهم عليها ) بينهم . وهم يفدون عانيهم ( العاني : الأسير ) بالمعروف والقسط بين المؤمنين ، وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلتهم الأولى ( المعاقل : الديات ، الواحدة : معقلة ) كل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين ، وبنو الحارث على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين ، وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين . وبنو عمرو ابن عروف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين ، وبنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين ، وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بني المؤمنين . وأن المؤمنين لا يتركون مفرحاً بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل ، وأن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه ، وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ( عظيمة ) ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين ، وأن أيديهم عليه جميعا ً ، ولو كان ولد أحدهم ، ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر ، ولا نصر كافراً على مؤمن ، وأن ذمة الله واحدة ، يجير عليهم أدناهم ، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس ، وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة ، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم وأن سلم المؤمنين واحدة ، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله ، إلا على سواء وعدل بينهم , وأن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضاً ، وأن المؤمنين يبيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله ، وأن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه ، وأنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً ، ولا يحول دونه على مؤمن ، وأنه من اعتبط ( أي قتله بلا جناية منه توجب القتل ) مؤمناً قتلاً عن بينة ، فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول ، وأن المؤمنين عليه كافة ، ولا يحل لهم إلا قيام عليه ، وأنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر ، أن ينضر محدثاً ولا يؤويه ، وأنه من نصره أو آواه ، فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل ، وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء ، فإن مرده إلى الله عز وجل ، وإلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين ، وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين ، لليهود دينهم , وللمسلمين دينهم ، مواليهم وأنفسهم ، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوقع إلا نفسه ( أي يهلك نفسه ) وأهل بيته .

    وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف ، وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف ، وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف ، إن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف ، وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف . وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف ، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوقع إلا نفسه وأهل بيته ، وأن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم ، وإن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف ، وإن البرَّ دون الإثم ، وإن موالي ثعلبة كأنفسهم .

    وإن بطانة يهود كأنفسهم وأنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنه لا ينحجز على ثأر جرح ، وأنه من فتك فبنفسه فتك وأهل بيته ، إلا من ظلم وأن الله على أبر هذا ، وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة وأن بينهم النصح والنصيحة ، والبر دون الإثم ، وأنه لم يأثم امرؤ بحليفه ، وأن النصر للمظلوم ، وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين ، وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة ، وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم ، وأنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها ، وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد صلى الله عليه وسلم وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره ، وأنه لا تجار قريش ولا من نصرها وأن بينهم النصر على من دعهم يثرب ، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه ، فإنهم يصالحونه ويلبسونه ، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإن لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين ، على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم ، وأن يهود الأوس ، مواليهم وأنفسهم ، على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة " .

    قال ابن إسحاق : وإن البر دون الإثم ، لا يكسب كاسب إلا على نفسه ، وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره ، وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم ، وأنه من خرج آمن ، ومن قعد آمن بالمدينة ، إلا من ظلم أو أثم ، وإن الله جار لمن بر واتقى ، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    * * *

    حله لمشكلة دفاع الأوس عن قريظة يوم قريظة :

    أثناء غزوة الأحزاب أعلن بنو قريظة نقضهم للعهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرروا الحرب وكان قصة ذلك كما يلي :

    كان من جملة الرجال الذين ألبوا العرب حتى تجمعوا لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الغزو حيي بن أخطب اليهودي فلما اجتمعت العرب عامة وحاصرت المدينة أتى حيي بن أخطب كعب بن أسد سيد قريظة ليقنعه بإنهاء عهده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشاركة في الحرب ضده ، وكان كعب حتى تلك اللحظة مغلقاً أبوابه وحصونه وملتزماً الوفاء بعهده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    ولما طرق حيي بن أخطب باب كعب قال له كعب رافضاً أن يفتح له الباب : إنك امرؤ مشؤوم وإني قد عاهدت محمداً فلست بناقض ما بيني وبينه ولم أر منه إلا وفاءً وصدقاً . وبعد أخذ ورد سمح له كعب بالدخول فقال حيي :

    ويحك يا كعب جئت بعز الدهر وبحر طام .

    قال : وما ذاك ؟

    قال : جئتك بقريش على سادتها وقادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من رومه وبغطفان على سادتها وقادتها حتى أنزلتهم إلى جانب أحد وقد عاقدوني وعاهدوني على ألا يبرحوا حتى يستأصلوا محمداً ومن معه .

    قال كعب : جئتني والله بذل الدهر وبجهام قد هراق ماءه يرعد ويبرق وليس فيه شيء . دعني وما أنا عليه فإني لم أر محمداً إلا وفاءً وصدقاً .

    ولكنه لم يزل به وببني قريظة حتى أقنعهم بنقض العهد فأحضرت قريظة الصحيفة التي كتب بها الميثاق فمزقتها وبعث النبي صلى الله عليه وسلم من يستكشف له الأمر كسعد بن معاذ حليف بني قريظة في الجاهلية فقالوا له : من رسول الله ؟ لا عهد بيننا وبين محمد وسبوا سعداً فقالوا له وهو سيد الأوس بكل وقاحة : أكلت أير أبيك ..

    وكانت خيانة داخلية في أحرج المواقف ، وغدراً لو أعطى ثمراته الخبيثة لاستؤصل الإسلام والمسلمون ، إذ به لا تعود للخندق فائدة ، ويتحطم خط دفاع المسلمين ، وتكون الكارثة ، إنها خيانة جزاؤها بشكل طبيعي الإعدام .

    وانتهت غزوة الأحزاب بانسحاب المشركين ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين للتوجه إلى بني قريظة لمعاقبتهم وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه وكانوا يعرفون أن الحكم فيهم سيكون القتل والصحابة كلهم يعرفون أن جزاءهم سيكون كذلك . وهذا هو الحكم الحق والعدل والذي نصت عليه توراة اليهود نفسها .

    وقبل أن يصدر الرسول صلى الله عليه وسلم حكمه تواثبت الأوس وطلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم العفو كما عفا عن بني النضير ، إذ بنو قريظة كانوا حلفاء الأوس في الجاهلية ، وبنو النضير كانوا حلفاء الخزرج ، والأوس والخزرج كانتا تتنافسان في كل شيء ، وإذاً فرسول الله صلى الله عليه وسلم أمام معارضة من قسم كبير من أصحابه في قضية حساسة هي قضية تنفيذ عقوبة يستحقها مجرمون ، فكان من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم ما هذه قصته كما يرويها انب هشام حيث حكّم سيد الأوس فيهم ، وسيد الأوس هو الذي عانى ما عانى من بني قريظة يوم غدروا ، وسيد الأوس ما كان يحكم إلا بما استحق هؤلاء فرضيت الأوس بتحكيم سيدها وحكم بالعدل في أمرهم وهو القتل جزاء خيانتهم ورضيت الأوس :

    يقول ابن هشام :

    فلما أصبحوا ( أي بني قريظة ) نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتواثبت الأوس فقالوا : يا رسول الله ، إنهم موالينا دون الخزرج ، وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت – وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بني قريظة قد حاصر بني قينقاع ، وكانوا حلفاء الخزرج ، فنزلوا على حكمه . فسأله إياهم عبد الله بن أبي بن سلول فوهبهم له – فلما كلمته الأوس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تضرون يا معشر الأوس أن يحكم فيكم رجل منكم ؟ قالوا بلى . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذاك إلى سعد بن معاذ .

    وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعل سعد بن معاذ في خيمة لامرأة من أسلم ، يقال لها رفيدة في مسجده . وكانت تداوري الجرحى وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال لقومه حين أصابهم السهم بالخندق : اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب . فلما حكمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني قريظة أتاه قومه فحملوه على حمار قد وطئوا له بوسادة من أدم ، وكان رجلاً جسيماً جميلاً ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون : يا أبا عمرو أحسن في مواليك ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم ، فلما أكثروا عليه قال : لقد أنى ( آن ) لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم . فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني عبد الأشهل فنعى لهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد ، عن كلمته التي سمع منه .

    فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قوموا إلى سيدكم – فأما المهاجرون من قريش فيقولون : إنما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار .

    وأما الأنصار فيقولون : قد عم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاموا إليه فقالوا : يا أبا عمرو ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم . فقال سعد بن معاذ : عليكم بذلك عهد الله وميثاقه ، أن الحكم فيهم لما حكمت ؟ قالوا : نعم – قال : وعلى من ها هنا ؟_ في الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم : وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالاً له – فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم ، قال سعد : فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء .

    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد : " لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة " .

    ثم نفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم .

    حله صلى الله عليه وسلم لمشكلة هزيمة أحد :

    يوم أحد خسر المسلمون المعركة بسبب عدم تنفيذ مخطط الرسول صلى الله عليه وسلم للمعركة كاملاً وهذا الفشل سيكون من آثاره ما يلي :

    1 – ضعف الروح المعنوية عند المسلمين .
    2 – طمع القبائل العربية كلها بالمسلمين .
    3 – سقوط هيبة المسلمين العسكرية .
    4 – توجه قلوب الناس كلها للقضاء على المسلمين .
    5 – تنفس المنافقين واليهود وتربصهم الشر بالمسلمين .
    6 – وهناك احتمال بعد أحد أن يفكر المشركون وقد انتصروا ورجعوا أن يعودوا لاستئصال المسلمين من جديد وقد سنحت لهم الفرصة . وفعلاً قد فكروا في ذلك . فكيف فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لتلافي هذه النتائج كلها .

    إنه ما كاد يصل إلى المدينة حتى أمر المسلمين الذين دخلوا المعركة أن يستعدوا مباشرة للحرب رغم إعيائهم ثم خرج بهم تبعاً آثار المشركين ، ولم يكد المشركون يسمعون بأنباء هذا الهجوم والطرد وراءهم إلا وأعلنوا الرحيل الذي يشبه الهرب مع أنهم كانوا يفكرون أثناءها في الرجوع إلى المدينة لاستئصال المسلمين فيها ، ولم يقع يومها حرب ولكن هذه العملية الجرئية غسلت آثار أحد كلها وبشكل سريع . إذ كانت معركة أحد يوم السبت وكان خروج الجيش هذا يوم الأحد ، وبقي معسكراً في حمراء الأسد طيلة ثلاث ليال ونزل القرآن بعد ذلك فربى المسلمين ووعظهم وغسل كل الآثار النفسية للهزيمة ..

    * * *

    هذه أمثلة خمسة ضربناها لنرى كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحل المشكلات اليومية بسرعة عجيبة فلا يبقى لها أثر ، هذه الإمكانية العجيبة في حل المشكلات . جعلت رجلاً كبرناردشو الأديب الإنكليزي المشهور يقول : ما أحوج العالم إلى رجل كمحمد يحل مشاكله وهو يشرب فنجاناً من القهوة ( أي ببساطة ) وهذه الأمثلة التي ضربناها ، نماذج . وإلا فمن قرأت كتب الحديث ككتاب البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وموطأ مالك ومسند أحمد وكتب حياة الصحابة وكتب السيرة ، رأى كثرة المشكلات اليومية الفردية والجماعية التي كانت تعترض حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسوس شعباً من أعصى شعوب العالم انقياداً وطاعة وسياسة ، ومع هذا فما عرف أن مشكلة مرت عليه إلا وحلها بسهولة كاملة واستقامة مع منهج الحق الذي يدعو إليه ، والذي يمثل أرقى صور الواقعية والمثالية بآن واحد ، وما كان ذلك ليكون لولا توفيق الله ورعايته .

    * * *

    7 – بعد نظره صلى الله عليه وسلم وضرباته السياسية الموفقة :

    إن الدارس لتصرفات رسول الله يجد أنه لا يوجد تصرف من تصرفاته عليه الصلاة والسلام ، إلا وفيه غاية الحكمة ، وبعد النظر ، فمثلاً يرسل كسرى إلى عامله على اليمن / باذان / أن يهيج رسول الله ، وأن يقبض على رسول الله ليرسله إلى كسرى ، فيرسل باذان رجلين ليقبضا على رسول الله ويأتيا به إلى كسرى ويأمر باذان أحد الرجلين أن يدرس أحوال رسول الله ، فلما وصل الرجلان أبقاهم الرسول عنده خمسة عشر يوماً دون رد عليهم وقُتِلَ كسرى في اليوم الخامس عشر فأنبأهم عليه السلام بقتل كسرى يوم مقتله وأهدى أحد الرجلين منطقة فيها ذهب وفضة وأرسل إلى باذان رسالة مضمونها أنه إن أسلم أعطاه ما تحت يده وكان من آثار هذا كله أن خلع باذان ولاءه لكسرى وأسلم معلناً ولاءه لمحمد صلى الله عليه وسلم .

    ويوم أراد المنافقون أن يستغلوا شعائر الإسلام ، ليوجدوا عملاً منسقاً فيما بينهم ضد الإسلام . بأن يبنوا مسجداً يكون مركزاً لتآمرهم ودسهم وتجمعاتهم المشبوهة . أمهلهم عليه السلام حتى عاد من غزوة تبوك ، ثم حرق المسجد وهدمه وفضح الله أمرهم ، والأمثلة من هذا النوع كثيرة كلها تدل على حنكته عليه السلام وحكمته وبعد نظره السياسي ، وإن كان العمل السياسي عنده عليه الصلاة والسلام غير منفصل عن غيره ، فتجده يخاطب كل قوم بأسلوب ينسجم مع نفسيتهم ، ويعامل كل إنسان بطريقة ترضي هذا الإنسان بالحق وهكذا ، انظر إلى خطابة إلى وفد بني الحارث بن كعب تجده يختلف عن أي خطاب آخر خاطب به وفداً من الوفود لأن هذه القبيلة لها وضع خاص .

    قال ابن هشام :

    " فأقبل خالد إلى رسول الله وأقبل معه وفد بني الحارث بن كعب منهم قيس بن الحصين ذي الغصة ويزيد بن عبد المدان ويزيد بن المحجل وعبد الله بن قراد الزيادي وشداد بن عبد الله القناني وعمر بن عبد الله الضبابي فلما قدموا على رسول الله فرآهم قال : من هؤلاء القوم الذين كأنهم رجال الهند ؟ قيل : يا رسول الله ! هؤلاء رجال بني الحارث ابن كعب . فلما وقفوا على رسول الله سلموا عليه وقالوا : نشهد إنك رسول الله وأنه لا إله إلا الله . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، ثم قال رسول الله : أنتم الذين إذا زجروا استقدموا ، فسكتوا ، فلم يراجعه منهم أحد ثم أعادها الثانية فلم يراجعه منهم أحد ثم أعادها الثالثة فلم يراجعه منهم أحد ثم أعادها الرابعة فقال يزيد بن عبد المدان : نعم يا رسول الله نحن الذي إذا زجروا استقدموا قالها أربع مرار فقال رسول الله : لو أن خالداً لم يكتب لي أنكم أسلمتم ولم تقاتلوا لألقيت رؤوسكم تحت أقدامكم فقال يزيد بن عبد المدان : أما والله ما حمدناك ولا حمدنا خالداً قال : فمن حمدتم قالوا : حمدنا الله عز وجل الذي هدانا بك يا رسول الله قال : صدقتم ، ثم قال رسول الله : بم كنتم تغلبون من قاتلكم ، في الجاهلية ؟ قالوا : لم نكن نغلب أحداً قال : بلى ، قد كنتم تغلبون من قاتلكم قالوا : كنا نغلب من قاتلنا يا رسول الله إنا كنا نجتمع ولا نفترق ولا نبدأ أحداً بظلم " .

    ولما كانت خطتنا في هذا البحث الاختصار فسنكتفي بتحليل موقف من أبرز مواقفه السياسية عليه الصلاة والسلام ، تتضح به حنكته وحكمته بشكل كامل . هذا الموقف هو الموقف الذي تمخض عنه صلح الحديبية ، وما لهذا الصلح من آثار رائعة وهذه هي القصة كما يرويها ابن هشام نذكرها ثم نعقب عليها :

    قال ابن هشام :

    واستنفر العرب ومن حوله ومن أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه وهو يخشى من قريش الذي صنعوا : أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت فأبطأ عليه كثير من الأعراب ، فخرج صلى الله عليه وسلم بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق به من العرب ، وساق معه الهدي وأحرم بالعمرة ، ليأمن الناس من حربه ، وليعلم الناس أنه إنما خرج زائراً لهذا البيت ومعظماً له .

    وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي فقال : يا رسول الله ! هذه قريش قد سمعت بمسيرك ، فخرجوا معهم العوذ المطافيل وقد نزلوا بذي طوى يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبداً ، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموها إلى قراع الغميم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب ، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب ؟ فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ، فما تظن قريش ؟ فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة ( أي صفحة العنق ) .

    ثم قال : من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها ؟ وإن رجلاً من بني أسلم قال : أنا يا رسول الله ، فسلك بهم طريقاً وعراً أجرل ( كثير الحجارة ) بين شعاب ، فلما خرجوا منه وقد شق ذلك على المسلمين وأفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي قال صلى الله عليه وسلم للناس : قولوا نستغفر الله ونتوب إليه . فقالوا ذلك . فقال : والله إنها للحطة التي عرضت على بني إسرائيل فلم يقولوها فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال : اسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمش ، في طريق تخرجهم على ثنية المرار ، مهبط الحديبية من أسفل مكة .

    فسلك الجيش ذلك الطريق . فلما رأت خيل قريش قترة الجيش ( غبار الجيش ) قد خالفوا عن طريقهم . رجعوا راكدين إلى قريش . وخرج صلى الله عليه وسلم حتى إذا سلك في ثنية المرار بركت ناقته . فقالت الناس : خلأت الناقة ( بركت ولم تنهض ) . قال : ما خلأت وما هو لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة . لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها ، ثم قال للناس : انزلوا . قيل له يا رسول الله ما بالوادي ماء ننزل عليه . فأخرج سهماً من كنانته فأعطاه رجلاً من أصحابه فنزل به في قليب من تلك القلب ( القليب : بئر ) فغرزه في جوفه فجاش بالرواء حتى ضرب الناس عنه بعطن ( مبرك الإبل حول الماء ) .

    فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه بديل بن ورقاء الخزاعي في رجال من خزاعة فكلموه وسألوه : ما الذي جاء به ؟ فأخبرهم أنه لم يأت ليريد حرباً وإنما جاء زائراً للبيت ، ومعظماً لحرمته ، ثم قال لهم نحواً مما قال لبشر بن سفيان ، فرجعوا إلى قريش فقالوا : يا معشر قريش ! إنكم تعجلون على محمد ، إن محمداً لم يأت للقتال وإنما جاء زائراً هذا البيت ، فاتهموهم وجبهوهم وقالوا : وإن كان جاء ولا يريد قتالاً ، فوالله لا يدخلها علينا عنوة أبداً ، ولا تحدث بذلك عنا العرب .

    وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مسلمها ومشركها ، لا يخفون عنه شيئاً كان بمكة .

    ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص بن الأخيف ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً قال : هذا رجل غادر ، فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم نحواً مما قال لبديل وأصحابه ، فرجع إلى قريش فأخبرهم بما قاله له رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة – أو ابن زبان – وكان يومئذ سيد الأحابيش فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن هذا من قوم يتألهون فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه ، فلما رأى الهدي يسير عليه في عرض الوادي في قلائده وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محله رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظاماً لما رأى .

    فقال لهم ذلك . فقالوا : اجلس فإنما أنت أعرابي لا علم لك . فغضب عند ذلك وقال : يا معشر قريش ، والله ما على هذا حالفناكم ، وعلى هذا عاقدناكم ، أيصد عن بيت الله من جاء معظماً له ، والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد . فقالوا له : مه كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به .

    ثم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عروة بن مسعود الثقفي ، وخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس بين يديه ثم قال :

    يا محمد ، أجمعت أوشاب الناس ( الأوشاب ، الأخلاط ) ثم جئت بهم إلى بيضتك ( القبيلة والعشيرة ) لتفضها بهم . إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل . قد لبسوا جلود النمور ، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبداً .

    وايم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غداً ، وأبو بكر الصديق خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد ، فقال : امصص بظر اللات ، أنَحْنُ ننكشف عنه ؟ قال : من هذا يا محمد ؟

    قال : هذا ابن أبي قحافة .

    قالوا : أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها ، ولكن هذه بها .

    ثم جعل يتناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يكلمه . والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديد . وجعل يقرع يده إذا تناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول : اكفف يدك عن وجه رسول الله قبل أن لا تصل إليك .

    يقول عروة : ويحك ما أفظك وأغلظك .

    فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له عروة : من هذا يا محمد ؟ قال : هذا ابن أخيك المغيرة ابن شعبة . قال : أي غدر ، وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس . فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو مما كلم به أصحابه ، وأخبره أنه لم يأت يريد حرباً .

    فقام من عند رسول الله وقد رأى ما يصنع به أصحابه ، لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه ، ولا يبصق بصاقاً إلا ابتدروه ، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه . فرجع إلى قريش فقال : يا معشر قريش ، إني قد جئت كسرى في ملكه وقيصر في ملكه ، والنجاشي في ملكه ، وإني والله ما رأيت ملكاً في قوم قط مثل محمد في أصحابه ، ولقد رأيت قوماً لا يسلمونه لشيء أبداً . فروا رأيكم .

    وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا خراش بن أمية الخزاعي ، فبعثه إلى قريش بمكة وحمله على بعير له يقال له " الثعلب " ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له ، فعقروا به جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرادوا قتله ، فمنعته الأحابيش فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    ثم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له فقال : يا رسول الله إني أخاف قريشاً على نفسي وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها ولكني أدلك على رجل أعز بها مني عثمان بن عفان فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب وأنه إنما جاء زائراً لهذا البيت ومعظماً لحرمته . فخرج عثمان إلى مكة فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة أو قبل أن يدخلا فحمله بين يديه ثم أجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش فبلغهم عن رسول الله ما أرسله به فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم : إن شئت أن تطوف بالبيت فطف فقال : ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم . واحتبسته قريش عندها فبلغ رسول الله والمسلمين أن عثمان بن عفان قد قتل . قال ابن إسحاق فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين بلغه أن عثمان قد قتل : لا نبرح حتى نناجز القوم . فدعا رسول الله الناس إلى البيعة فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة فكان الناس يقولون : بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت . وكان جابر بن عبد الله يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبايعنا على الموت ولكن بايعنا على ألا نفر فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها إلا الجد بن قيس أخو بني سلمة فكان جابر بن عبد الله يقول : والله لكأني أنظر إليه لاصقاً إبط ناقته قد ضبأ إليها يستتر بها من الناس . ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي ذكر من أمر عثمان بن عفان باطل .

    ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو أخا بني عامر بن لؤي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا له : إئت محمداً فصالحه ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا فوالله لا تحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبداً . فأتاه سهيل بن عمرو فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً فقال : قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل فلما انتهى سهيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم فأطال الكلام وتراجع ثم جرى بينهما الصلح .

    فلما التأم الأمر ولم يبق إلا الكتاب وثب عمر بن الخطاب فأتى أبا بكر فقال : يا أبا بكر ! أليس برسول الله ؟ قال : بلى قال : أولسنا بالمسلمين قال : بلى قال : أليسوا بالمشركين ؟ قال : بلى . قال فعلام نعطى الدنية في ديننا ؟ قال أبو بكر : يا عمر : الزم غرزه ، فإني أشهد أنه رسول الله ، قال عمر : وأنا أشهد أنه رسول الله . ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ؟ ألست برسول الله .

    قال : بلى .

    قال : أولسنا بالمسلمين ،

    قال : بلى .

    قال : أو ليسوا مشركين ؟

    قال : بلى .

    قال : فعلام نعطى الدنية في ديننا ؟

    قال : أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ، ولن يضيعني .

    فكان عمر يقول : ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به ، حتى رجوت أن يكون خيراً .

    ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب – رضوان الله عليه – فقال : اكتب " بسم الله الرحمن الرحيم " فقال سهيل لا أعرف هذا ولكن اكتب " باسمك اللهم " فكتبها ثم قال : اكتب : " هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو " فقال سهيل : لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

    " هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بني عمرو . اصطلحا على وضع الحرب على الناس عشر سنين ، يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض على أنه من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليه رده عليهم . ومن جاء قريشاً ممن مع محمد لم يردوه عليه . وأن بيننا عيبة مكفوفة وأنه لا أسلال ولا أغلال وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه ..

    فتواثبت خزاعة فقالوا : نحن في عقد محمد وعهده . وتواثبت بنو بكر فقالوا : نحن في عقد قريش وعهدهم ، وأنك ترجع عامك هذا فلا تدخل علينا مكة وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثاً معك سلاح الراكب ، السيوف في القرب ، لا تدخلها بغيرها .

    فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو إذ جاء أبو جندل بن سهيل ابن عمرو يرسف في الحديد ، قد انفلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا وهم لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع ، وما تحمل عليه رسول الله في نفسه ، دخل على الناس من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون .

    ولما رأى سهيل أبا جندل قام إليه بضرب وجهه وأخذ بتلبيبه ، ثم قال : يا محمد لقد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا . قال: صدقت . فجعل ينثره بتلبيبه ويجره ليرده على قريش ، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته : يا معشر المسلمين أأرد إلى المشركين يفتنوني في ديني ؟ فزاد ذلك الناس إلى ما بهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا جندل ، اصبر واحتسب ، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً ، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً ، وأعطيناه على ذلك وأعطونا عهد الله ، وإنا لا نغدر بهم .

    فوثب عمر بن الخطاب مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول : اصبر يا أبا جندل ، فإنهم المشركون ، وإنما دم أحدهم دم كلب ، ويدني عمر قائم السيف منه ، يقول عمر :

    رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه فضنَّ الرجل بأبيه ونفذت القضية فلما فرغ من الكتاب أشهد على الصلح رجالاً من المسلمين ورجالاً من المشركين : أبو بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعبد الله بن سهيل بن عمرو ، وسعد بن أبي وقاص ، ومحمود بن مسلمة ومكرز بن حفص وهو يومئذ مشرك وعلي بن أبي طالب ، وكان هو كاتب الصحيفة " . اهـ .

    هذه قصة الحديبيبة فلنر آثرها وقيمة هذا العمل من الناحية السياسية الحركية :
    يقول الزهري ، فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه إنما كان القتال حيث التقى الناس فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب وأمن الناس بعضهم بعضاً والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئاً إلا دخل فيه . ولقد دخل في تينك السنين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك .

    قال ابن هشام :

    والدليل على قول الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحديبية في ألف وأربع مائة في قول جابر بن عبد الله ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك في بسنتين في عشرة آلا " وحسبك أن تعلم أن خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة زعماء قريش أسلموا في هذه المرحلة .

    ومن آثار هذه العملية :

    أن تهدمت حجة قريش الأساسية في جمعها العرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أن قريشاً أخذت زعامتها من كونها مجاورة للكعبة بيت الله ولهذا الجوار ولتعظيمها هذا البيت كانت العرب تعظمهم وتدين لهم فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم معلنا عمرته وتعظيمه للبيت الحرام تهدم أمام الرأي العام كثير من الحجب .

    ومن آثار هذه العملية أن فرغ الرسول صلى الله عليه وسلم من العرب الذين يسيرون في فلك قريش لغيرهم ، وتفرغ لليهود فأنهاهم من جزيرة العرب سياسياً وعسكرياً واقتصادياً ، ومن آثار هذه العملية أن اقتنعت كثير من القبائل العربية بتعنت قريش حتى أن الأحابيش كادوا يدخلون المعركة بجانب محمد صلى الله عليه وسلم يومها وهم حلفاء قريش المشركة .

    ومن آثار هذه العملية أن أعطيت القبائل العربية حرية التحالف مع محمد صلى الله عليه وسلم وهذا شيء ما كان ليكون من قبل ، فدخل من شاء من هذه القبائل في حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    ومن آثار هذه العملية كثرة إقبال الناس على الإسلام بعدها ، أن انقطع أمل الناس من غير المسلمين بنصرة أو عزة أو غلبة أو منعة إلا بالإسلام ، فضلاً عن انقطاع أملهم بإنهاء الإسلام والمسلمين .

    ومن آثار هذه العملية أن تفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتح آفاق أمته على العالم . وتفهيمهم مهمتهم العالمية ، بإرسال رسله وكتبه إلى الدول الكبرى يومذاك . كسرى وهرقل والمقوقس والنجاشي ...

    ومن آثار هذه العملية أن خدمت فتن المنافقين الذين كانوا يشدون أزرهم . وتتقوى ظهورهم بقريش ، وتبعثرت القبائل العربية الوثنية ، وهمدت حدة قريش وعصبيتها ، واسترخت وأخذت تقوى تجارتها , وركنت إلى السلام ، ولما كانت الهدنة مديدة المدة لم تفكر في البحث عن أحلاف لها بينما كان المسلمون يتوسعون يومياً .

    ومن آثار هذه العملية فتح مكة . إذ عندما نقضت قريش عهدها واعتدت على حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني خزاعة ، وعمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فاتحاً . لولا صلح الحديبية وما أحاط به لرأيت عرب الجزيرة العربية كلهم وقد رمت أنوفهم وأقبلوا للدفاع عن مكة وكعبتها وأصنامها وقريشها ، ولكن صلح الحديبية والآثار التي ترتبت عليه لم يبق بقية من الحمية لا عند قريش ولا عند غيرها لها ، فكان أن فتحت مكة صلحاً بل لقد فتحت مكة من يوم دخلها المسلمون في العام التالي للصلح بأعدادهم الضخمة وروحهم العالية المرتفعة ومظاهرتهم التي أرهبت من رآها .

    لقد كنت ضربة سياسية لا يستطيعها غير محمد صلى الله عليه وسلم . إذ ضربها وأصحابه غير راضين ، وأعداؤه لا يعرفون كيف يتصرفون . وإنك عندما تعلم أن عمر وكبار الصحابة كانوا كارهين لما حدث ، وترى بعد ذلك هذه الآثار ، تدرك أن الأفق الذي ينظر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم أفق فريد في تاريخ الزعامات كلها .

    ولا يفوتنا قبل الانتهاء من هذا البحث أن نتعرض لمصير أقسى الشروط التي فرضتها قريش في المعاهدة والذي أثار المسلمين ، وهو أن قريشاً لا ترد من جاءها من المسلمين مرتداً وأن المسلمين يردون من جاءهم من مكة مسلماً بدون إذن ، لقد كانت نهاية هذا الشرط أن طلبت قريش نفسها إلغاء هذا الشرط من المعاهدة وقصة ذلك ما يلي :

    لما فر أبو بصير عبيد بن أسيد وهاجر إلى المدينة بعد صلح الحديبية أرسلت قريش وراءه رجلين وقالوا :

    العهد الذي جعل لنا فدفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم فقال أبو بصير لأحد الرجلين والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيداً فاستله الآخر فقال أجل والله لقد جربت به ثم جربت فقال أبو بصير : أرني أنظر إليه فأمكنه منه فضربه به حتى برد وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو فقال صلى الله عليه وسلم حين رآه : لقد رأى هذا ذعراً فلما انتهى إلى النبي قال : قتل والله صاحبي وإني لمقتول فجاء أبو بصير فقال : يا نبي الله قد وفى الله ذمتك ، قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم فقال صلى الله عليه وسلم : ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد . فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سيف البحر . قال : وتلفت منهم أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت عنده عصابة ، فوالله ما يسمعون بعير لقريش خرجت إلى الشام إلا وتعرضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم ، فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله تعالى والرحم ما أرسل إليهم فمن أتاه منهم فهو آمن فأرسل إليهم " .

    وهكذا ألغت قريش بنفسها أشد البنود قسوة كما ظنها المسلمون .

    إذا عرفت آثار الحديبية وعرفت أن الصحابة كلهم كانوا غضاباً لهذا الصلح . حتى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمرهم بعد كتابة الصلح أن يقوموا فينحروا هديهم ويحلقوا متحللين من إحرامهم لم يقم منهم رجل واحد ، مما داخلهم من الغم مع تكرار رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر ثلاثاً . ولم يفعلوا إلا بعد أن حلق عليه الصلاة والسلام ونحر هديه ، هنالك أفاقوا ونفذوا ما أمرهم به ، إذا عرفت هذا تدرك الأفق العالي الذي كان ينظر منه عليه السلام ، وتدرك أن قيادته جزء من صلته بالله المحيط علماً بكل شيء فكان مسدَّداً راشداً مهدياً .

    * * *
    التعديل الأخير تم 02-13-2006 الساعة 07:29 PM

  11. افتراضي

    8 و 9 – الوصول إلى النصر وتطبيق ما كان العمل من أجله بعد النصر ، وإحكام البناء بحيث يكون قادراً على الصمود في المستقبل ، ووضع أسس النمو الدائب المتطور بحيث تحتفظ الدعوة بإمكانية السير عبر العصور :

    لقد مضى على بدء الإسلام أربعة عشر قرناً ولا زال الإسلام في انتشار ولا زال يتوسع ، ورغم كل ما تبذله الدعايات الكافرة من أعدائه . سواء كانوا أصحاب دين أو غير أصحاب دين ، بطرق منظمة وغير منظمة ، فلا زال الإسلام هو الإسلام ولا زال قادراً على أكثر من الحركة ، ورغم الملابسات التاريخية التي أوقعت العالم الإسلامي في قبضة أعدائه ، ورغم سيطرة هؤلاء الأعداء ، فالإسلام باق . ورغم أن الكافرين استطاعوا أن يهيؤا لأعداء الإسلام وسائل الانتصار داخل العالم الإسلام ، فالإسلام شامخ يتحدى ويقهر .

    وخلال هذا التاريخ الطويل دخل الإسلام في صراع مع ثقافات فغلبها ، ومع أديان فغلبها ، ومع قوى عظيمة فصهرها .

    وخلال هذا التاريخ الطويل سقطت دول تحكم باسم الإسلام ، وقامت دول تحمل الإسلام واستوعب الإسلام الجميع .

    وفي كل مرة كان الإسلام محمولاً حق الحمل ، كان أصحابه هم الغالبين وحضارته أرقى الحضارات وما أتي المسلمون إلا من تقصيرهم وتفريطهم وجهلهم بالإسلام .

    القرون الوسطى عند الأوروبيين قمة التأخر ، والقرون الوسطى عندنا قمة التقدم ، وكانوا يومها متمسكين بدينهم وكنا لا زلنا متمسكين بديننا ومن هنا مفرق الطريق ، حيث كان الإسلام حمل أتباعه على التقدم . وحيث كان غير الإسلام ديناً كان تأخر .

    والإسلام الآن يصارع على كل مستوى شرقاً وغرباً فكراً وسلوكاً وهو في كل حال أبداً غالب وإن اضطهد المسلمون فذلك لقوة فكرهم لا لشيء آخر .

    وما أحد يجهل أن روح الجهاد في قلوب المسلمين هي التي حررت العالم الإسلامي من قبضة مستعمريه في عصرنا هذا ، وإن كان جهاد المسلمين ضرب بيد ناس منهم وليسوا منهم ، ففرضوا على المسلمين بعد التحرير مذاهب أخرى . هذا الإسلام الذي كان هكذا عبر العصور يحمله جيل إلى جيل وهو الآن يستعد ليكون له المستقبل كله .

    هذا الإسلام استطاع أن يفعل هذا لأن الأساس الذي بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم له خلال ثلاثة وعشرين عاماً ، كان من القوة بحيث يحمل كل العصور ، ويسع كل العصور .

    * * *

    ونحن اليوم نرى دعوات فكرية وسياسية كثيرة ، لا تحمل في جوهرها إمكانية تطبيقها ، أو لا تستطيع قيادتها أن تحققها في عالم الواقع مع أن بيدها كل السلطات وبيدها كل الوسائل ، ولكنها تقف عاجزة عن تحقيق الفكرة ، وأحياناً تتراجع من نصف الطريق ، ولكن الظاهرة التي نراها في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خلال عشر سنوات فقط كان كل جزء من أجزاء دعوته قائماً يمشي على الأرض ، على أكمل ما يكون التطبيق ، وكل جزء من أجزاء دعوته قابلاً للتطبيق خلال كل عصر وما مر عصر وإلا ورأيت الإسلام مطبقاً بشكل من الأشكال ، فإذا ما علمت بأن دعوة سياسية فكرية تحتاج إلى عشرات السنين حتى تنتشر وتنتصر وقد تطبق وقد لا تطبق ، أدركت أن العملية هنا ليست عملية عادية وإنما هي شيء خارق للعادة تحس وراءه يد الله . وتحس بالتالي أن الدين دين الله . وأن محمداً عبده ورسوله ...

    وقد آثرنا هنا الاختصار لأن الرسالة الثالثة ( الإسلام ) كلها برهان عملي على أن شريعة الإسلام وأحكامه تعلو في كل عنصر وعلى كل فكر .

    وننتقل هنا نقلة أخرى لاستعراض جوانب الشخصية القيادية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أمور الحرب كما وعدنا .

    * * *

    ( ب ) الرسول عليه الصلاة والسلام

    الشخصيّة القيَادِية العَسْكريّة المثلى

    قبل الكلام عن شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم العسكرية ، نحب أن نذكر بعضاً من مواقفه العسكرية كنماذج تكون بمثابة مقدمة للحديث في هذا الموضوع :

    أ – قال ابن هشام يروي قصة فتح حصون خيبر عن أنس بن مالك :

    " واستقبلنا عمال خيبر غادين قد خرجوا بمساحيهم ومكاتلهم فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والجيش قالوا : محمد والخميس ، فأدبروا هراباً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله أكبر خربت خيبر إنا نزلتنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين .

    قال ابن إسحاق :

    وكان رسول الله حين خرج من المدينة إلى خيبر سلك على عصر ( جبل بين المدينة ووادي الفرع ) فبنى له فيها مسجد ثم على الصهباء ( موضع بينه وبين خيبر روحة ) ثم أقبل رسول الله بجيشه حتى نزل بواد يقال له الرجيع ، فنزل بينهم وبين غطفان ، ليحول بينهم وبين أن يمدوا أهل خيبر ، وكانوا لهم مظاهرين على رسول الله ، فبلغني أن غطفان لما سمعت بمنزل رسول الله من خيبر جمعوا له ثم خرجوا ليظاهروا يهود عليه ، حتى إذا ساروا منقلة سمعوا خلفهم في أموالهم وأهليهم حساً . ظنوا أن القوم قد خالفوا إليهم فرجعوا على أعقابهم فأقاموا في أهاليهم وأموالهم وخلوا بين رسول الله وبين خيبر ... يفتحها حصناً حصناً ... " .

    تأمل : عنصري المفاجأة والمداهمة ، حيث لم يستطع يهود حصون خيبر أن يجمعوا قوتهم ، وتأمل حيلولة رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم وبين المدد ، وتأمل الاحتياطات المتخذة لإبقاء غطفان في مواقعها .

    * * * * *

    ب – بعد فتح مكة سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قبائل هوازن وثقيف ونصر وجشم وسعد بن بكر وناس من بني هلال ، قد جمعوا جموعهم لحربه ، فبعث إليهم عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي وأمره أن يدخل في الناس فيقيم فيهم حتى يعلم علمهم ، ثم يأتيه بخبرهم فانطلق ابن حدرد فدخل فيهم فأقام فيهم حتى سمع وعلم ما قد أجمعوا له من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسمع عن مالك وأمر هوازن ما هم عليه ، ثم أقبل حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر .

    يقول ابن هشام : فلما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم السير إلى هوازن ليلقاهم ذكر له أن عند صفوان ابن أمية أدراعاً له وسلاحاً فأرسل إليه وهو يومئذ مشرك فقال : يا أبا أمية أعرنا سلاحك هذا نلحق فيه عدونا فقال : أغَصْباً يا محمد ؟ قال : بل عارية مضمونة حتى نؤديها لك قال : ليس بهذا بأس فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلاح .

    وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بجيش عدته اثنا عشر ألفاً منهم ألفان من أهل مكة .

    وجعل أمير مقدمته خالد بن الوليد . وطبعا المفروض أن تكون مهمتهما استطلاعية .

    يقول جابر بن عبد الله فيما يرويه عنه ابن هشام :

    " لما استقبلنا وادي حنين انحدرنا في واد من أودية تهامة أجوف حطوط إنما ننحدر فيه انحداراً وفي عماية الصبح ( أي ظلامه قبل أن يتبين ) وكان القوم قد سبقونا إلى الوادي فكمنوا لنا في شعابه وأحنائه ومضايقه وقد أجمعوا وتهيئوا وأعدوا " .

    وهنا تجد أن خالداً رجل الحرب العظيم ، قد فشل في مهمته الاستطلاعية الضاربة ، إذ أصبح في الكمين هو ومقدمته . وكانت صدمة فرت منها المقدمة وثبت خالد ، إلا أن الجيش لما رأى المقدمة فارة دون معرفة السبب ، والجيش فيه من أهل مكة الكثير وهم بعد ليسوا في حالة نفسية جيدة . ففروا وأخذ الناس هول المفاجأة وبدقائق معدودات فر الجيش كله ، ولم يبق حول رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد .

    أخرج البخاري عن أنس – رضي الله عنه – قال : لما كان يوم حنين أقبلت هوازن وغطفان وغيرهم بنعمهم وذراريهم ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف والطلقاء فأدبروا عنه حتى بقي وحده فنادى يومئذ نداءين لم يخلط بينهما التفت عن يمينه فقال : يا معشر الأنصار ! قالوا : لبيك يا رسول الله ، أبشر نحن معك ثم التفت عن يساره فقال : يا معشر الأنصار ! فقالوا : لبيك يا رسول الله أبشر نحن معك ، وهو على بغلة بيضاء فنزل فقال : أنا عبد الله ورسوله .

    وروى ابن هشام عن العباس بن عبد المطلب قال :

    إني أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذاً بحكمة بغلته ( أي لجامها ) البيضاء قد شجرتها بها وكنت امرءاً جسيماً شديد الصوت ورسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى ما رأى من الناس : أين أيها الناس ؟ فلم أر الناس يلوون على شيء فقال : يا عباس ! اصرخ يا معشر الأنصار يا معشر أصحاب السمرة ! فقال : فأجابوه لبيك لبيك ، فيذهب الرجل ليثني بعيره فلا يقدر على ذلك فيأخذ درعه فيقذفها في عنقه ويأخذ سيفه وترسه ويقتحم عن بعيره ويخلي سبيله فيؤم الصوت حتى ينتهي إلى رسول الله ، حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة استقبلوا الناس فاقتتلوا وكانت الدعوى أول ما كانت : ياللأنصار ثم خلصت أخيراً ياللخزرج وكانوا صبراً عند الحرب ..

    عن جابر بن عبد الله قال : بينا ذلك الرجل من هوازن صاحب الراية على جمله يصنع ما يصنع ، إذ هوى له علي بن أبي طالب ورجل من الأنصار يريدانه فيأتيه علي بن أبي طالب من خلفه فضرب عرقوبه الجمل فوقع على عجزه ، ووثب الأنصار على الرجل فضربه ضربة أطن قدمه بنصف ساقه فانجف عن رحله واجتلد الناس فوالله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسارى مكتفين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    تأمل هذه المقتطفات عن غزوة حنين : إرسال العيون للاستطلاع ، اختياره خالداً . استعارته الأدراع والسلاح ، تلافيه الهزيمة . إدارته المعركة بنفسه . معرفته برجاله الذين يعتمد عليهم في ساعة المحنة .

    وقبل الانتقال عن هذا المقام ، نحب أن نذكر هنا موقفاً يجمع بين أعلى ما في العبقرية العسكرية والسياسية :

    بعد الانتهاء من معركة حنين قرر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يفتح الطائف ، فذهب إليها وحاصرها ، وكان أهلها عندهم خبرة في فن الدفاع العسكري ، والبلدة محصنة وخيراتها كثيرة ورأى الرسول صلى الله عليه وسلم أن الحصار سيطول فاستشار نوفل بن معاوية فقال :

    يا نوفل ! ما ترى في المقام عليهم ؟ فقال : يا رسول الله ثعلب في جحر إن أقمت عليه أخذته ، وإن تركته لم يضرك ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب أن يؤذن في الناس بالرحيل .

    والآن تصور منطقة الطائف وحولها قبائل موتورة منذ قريب لا زالت مستقلة فهي لا شك إذا تفرغت لنفسها ولم تشغل قد تسبب مشكلة خطيرة في قلب الدولة الإسلامية . إذ قد تكون مجمعاً لكل موتور حاقد .

    فانظر كيف هيأ لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يشغلها ويضايقها حتى أسلمت :

    كان قائد القبائل المحاربة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين مالك بن عوف . وقد فر بعد المعركة ولجأ إلى ثقيف فلما جاء وفد هوازن يفاوض الرسول صلى الله عليه وسلم سألهم عن مالك بن عوف ما فعل ؟ فقالوا : هو بالطائف مع ثقيف . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أخبروا مالكاً أنه إن أتاني مسلماً رددت عليه أهله وماله وأعطيته مائة من الإبل ، فأتي مالك بذلك فخرج من الطائف ، وقد كان مالك خاف ثقيفاً على نفسه أن يعلموا أن رسول الله قال ما قال فيحبسوه فأمر براحلته فهيئت له ، وأمر بفرس له فأتي به إلى الطائف فخرج ليلاً فجلس على فرسه فركض حتى أتى راحلته حيث أمر بها أن تحبس ، فركبها فلحق برسول الله فأدركه بالجعرانة أو بمكة فرد عليه أهله وماله وأعطاه مائة الإبل وأسلم فحسن إسلامه ... فاستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على من أسلم من قومه وتلك القبائل : ثمالة وسلمة وفهم ، فكان يقاتل بهم ثقيفاً لا يخرج لهم سرح إلا أغار عليه حتى ضيق عليهم فقال أبو محجن الثقفي : هابت الأعداء جانبنا ثم تغزونا بنو سلمة . وأتانا مالك بهم ناقضاً للعهد والحرمة . وأتونا في منازلنا ولقد كنا أولي نقمة .

    فانظر كيف استطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشغل ثقيفاً ويضايقها فيقضي على الأخطار والمشكلات المتوقعة بهذه البساطة الكبيرة .

    * * * * *

    لعلك بهذين المثالين من مواقفه العسكرية عليه الصلاة والسلام أخذت صورة على أن محمداً صلى الله عليه وسلم في القيادة العسركية كهو في كل شيء ، يمثل دائماً القمة التي لا يرقى إليها آخرون ، وقد حلا لعباس محمود العقاد أن يعقد مقارنة بين محمد صلى الله عليه وسلم والقائد العسكري الإفرنسي النابغة في فن الحرب نابليون بونابرت ، فأرانا في هذه المقارنة أنه ما من قضية مهمة في أمر الحرب فطن لها نابليون وطبقها إلا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سباقاً لها . هذا مع أن نابليون كان متفرغاً مختصاً بفن الحرب . ثم إنه صادف في حياته العسكرية من الفشل ما لم يَحدث قط لرسول الله صلى الله عليه وسلم عسكرياً ، ولا لمن رباهم ودخلوا المعارك الكبرى بعده ، هذا مع ملاحظة الإمكانيات المحدودة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والإمكانيات الكثيرة الموجودة بيد غيره من أمثال نابليون ، وقد استطرد العقاد استطرادات مفيدة في هذا الموضوع نحب أن ننقلها مع شيء من الحذف لبعض الجمل لفائدتها ولكن قبل ذلك نحب أن نقرر هذه الحقيقة وهي :

    أن الرسول صلى الله عليه وسلم بدأ حياة دولته العسكرية بجيش مقداره ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً . محاط بقبائل الجزيرة العربية كلها . مشركيها ويهودها ونصاراها وكلها معادية له ، وفي الجزيرة العربية وعلى أطرافها سلطان لفارس والروم ، وقد استهدفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحربه وبهذه القوة الصغيرة وبدعوته الكبيرة شق رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقه دعوة وسياسة وحرباً . فأخضع الجزيرة العربية كلها ، ولم يتوقف إلا وقد هيأ المسلمين لحرب الفرس والروم بآن واحد . فأتم خلفاؤه ما بدأه عسكرياً . فسقطت الدولة الفارسية وتقلصت الدولة الرومانية عن آسيا وأفريقيا تقريباً . كل ذلك في أقل من عشر سنوات وما حدث بعده من فتوحات لا يمكن أن ينسب إلا إليه فإنه من آثار تربيته صلى الله عليه وسلم وتأسيسه وتخطيطه .

    وهذا شيء يتحدى التاريخ سابقاً ولاحقاً أن يكون قد حدث مثله ولو مرة في تاريخ العالم . فنحن إذا ما نقلنا هذه المقارنة لا نعني التساوي . حاشا ، وإنما نريد أن نبرهن على أن كل عظمة يرجح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الاختصاصيين المتفرغين لها ، وهو في كماله بها كماله في كل شيء غيرها ، يرجح الناس كلهم بكمالاتهم كلها .

    * * * * *

    يقول " العقاد " : ونختار أبرع القادة المحدثين وهو نابليون بونابرت على أسلوب حرب الحركة الذي كان هو الأسلوب الغالب في العصور الماضية ، والذي ظهر في الحرب العالمية الحضارة أنه لا يزال الخطوة الأخيرة في جميع الحروب ، على الرغم من الحصون والسدود . لأن اختيار نابليون بونابرت يبين لنا السبق في خطط النبي العسكرية ، بالمضاهاة بينها وبين خطط هذا القائد العظيم .

    1 – " فنابليون " يوجه همه الأول إلى القضاء على قوة العدو العسكرية بأسرع ما يستطيع فلم يكن يعنيه ضرب المدن ولا اقتحام المواقع .. وإنما كانت عنايته الكبرى منصرفة إلى مبادرة الجيش الذي يعتمد عليه العدو بهجمة سريعة يفاجئه بها أكثر الأحيان وهو على يقين أن الفوز في هذه الهجمة يغنيه عن المحاولات التي يلجأ إليها جلة القواد .

    وعنده أنه يستفيد بخطته تلك من ثلاثة أمور ..

    أن يختار الموقع الملائم ،
    وأن يختار الفرصة ،
    وأن يعاجل العدو قبل تمام استعداده .

    وكان النبي صلى الله عليه وسلم سابقاً إلى تلك الخطط في جميع تفصيلاتها ... فكان كما قدمنا لا يبدأ أحداً بالعدوان ، ولكنه إذا علم بعزم الأعداء على قتاله لم يمهلهم حتى يهاجموا جهد ما تواتيه الأحول ، بل ربما وصل إليه الخبر كما حدث في غزوة تبوك والناس مجدبون والقيظ ملتهب والشدة بالغة ... فلا يثنيه ذلك عن الخطة التي تعودها ، ولا يكف عن التأهب السريع وعن حض المسلمين على جميع الأموال وجمع الرجال ولا يبالي ما أرجف به المنافقون الذين توقعوا الهزيمة للجيش المحمدي ، فلم يحدث ما توقعوه .

    وكان عليه الصلاة والسلام يعمد إلى القوة العسكرية حيث أصابها ، فيقضي على عزائم أعدائه بالقضاء عليها ... ولا يضيع الوقت في انتظار ما يختاره أولئك الأعداء وإضعاف أنصاره بتركه زمام الحركة في أيدي المهاجمين ، إلا أن يكون الهجوم وبالاً على المقدمين عليه ، كما حدث في غزوة الخندق .

    2 – وكان نابليون يقول إن نسبة القوة المعنوية إلى الكثرة العددية كنسبة ثلاثة إلى واحد .

    والنبي عليه الصلاة والسلام كان عظيم الاعتماد على هذه القوة المعنوية التي هي في الحقيقة قوة الإيمان . وربما بلغت نسبة هذه القوة إلى الكثرة العددية كنسبة خمسة إلى واحد في بعض المعارك مع رجحان الفئة الكثيرة في السلاح والركاب إلى جانب رجحانهم في عدد الجنود ..

    ومعجزة الإيمان هنا أعظم جداً من أكبر مزية بلغها نابليون بفضل ما أودع نفوس رجاله من صبر وعزيمة ، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يحارب عرباً بعرب ، وقرشيين بقرشيين ، وقبائل من السلالة العربية بقبائل من صميم تلك السلالة ... فلا يقال هنا أن الفضل لقوم على قوم في المزايا الجسدية أو المزايا النفسية كما يمكن أن يقال هذا في جيوش نابليون . وكل فضل هنا فهو فضل العقيدة والإيمان .

    3 – وقد كان نابليون مع اهتمامه بالقضاء على القوة العسكرية لا يغفل القضاء على القوة المالية أو التجارية التي يتناولها اقتداره ، فكان يحارب الإنجليز بمنع تجارتها وسفنهم أن تصل إلى القارة الأوربية وتحويل العملات عن طريق إنجلترا إلى طريق فرنسا .

    وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحارب قريشاً في تجارتها ، ويبعث السرايا في إثر القوافل كلما سمع بقافلة منها .

    وأنكر بعض المتعصبين من كتاب أوربة هذه السرايا وسموها " قطعاً للطريق " وهي سنة المصادرة بعينها التي أقرها " القانون الدولي " وعمل قادة الجيوش في جميع العصور ، ورأينا تطبيقها في الحرب الحاضرة والحرب الماضية ، رشيداً تارة وغالياً في الحمق والشطط تارة أخرى .

    4 – وقد أسلفنا أن نابليون كان يوجه همه إلى الجيش ، ولا يقتحم المدن أو يشغل باله بمحاصرتها لغير ضرورة عاجلة .

    ونرجع إلى غزوات النبي عليه الصلاة والسلام فلا نرى أنه حاصر محله ، إلا أن يكون الحصار هو الوسيلة الوحيدة العاجلة لمبادرة القوة التي عسى أن تخرج منها قبل استعدادها ، أو قبل نجاحها في الغدر والوقيعة ، كما حدث في حصار بني قريظة وبني قينقاع ، فكان الحصار هنا كمبادرة الجيش بالهجوم في الميدان المختار بغير كبير اختلاف .

    5 – وقد كان نابليون معتداً برأيه في الفنون العسكرية ، ولا سيما الخطط الحربية ، ولكنه مع هذا الاعتداد الشديد لا يستغني عن مشاورة صحبه في مجلس الحرب الأعلى قبل ابتداء الزحف أو قبل العزم على القتال .

    ومحمد عليه الصلاة والسلام كان على رجاحة رأيه يستشير صحبه في خطط القتال وحيل الدفاع ويقبل مشورتهم أحسن قبول ، ومن ذلك ما صنعه ببدر ، وألمحنا إليه آنفاً – حين أشار عليه الحباب بن المنذر بالانتقال إلى مكان غير الذي نزلوا فيه أول الأمر ، ثم بتغوير الآبار وبناء حوض للشرب لا يصل إليه الأعداء . وقيل في روايات كثيرة إنه عمل بمشورة سلمان الفارسي في حفر الخندق عند المنفذ الذي خيف أن يهجم منه المشركون على المدينة . فحفر الخندق وعمل النبي بيديه في حفره .

    وقبول النبي مشورة سلمان عمل من أعمال القيادة الرشيدة وسنة من سنن القواد الكبار ، غير أننا نعتقد أنه عليه الصلاة والسلام كان خليقاً أن يشير بحفر الخندق لو لم يكن سلمان الفارسي بين أهل المدينة في إبان الهجمة عليها ، لأنه عليه الصلاة والسلام كان شديد الالتفات إلى سد الثغور وحماية الظهور في جميع وقعاته . وفي وقعة أحد جعل الجبل إلى ظهره وأقام على الشعب الذي يخشى منه النفاذ والالتفاف خمسين رامياً مشدداً عليهم في التزام موقفهم قائلاً لهم : احموا ظهورنا فإنا نخاف أن يجيئوا من ورائنا والزموا أماكنكم لا تبرحوا منه . وإن رأيتمونا ننهزم حتى ندخل عسكرهم فلا تفارقوا مكانكم ، وإن رأيتمونا نقتل فلا تعينونا ولا تدفعوا عنا ، وإنما عليكم أن ترشقوا خيلهم بالنبل فإن الخيل لا تقدم على النبل . والذي يفعل هذا في شعب جبل لا يفوته أن يفعل مثله في ثغرة مدينة ، ولكن المشاورة هنا هي المقصودة بالمضاهاة بين ما سبق إليه النبي وما تبع فيه نابليون ، فهذه خصلة معهودة في كبار القواد لا تقدح فيما عرفوا به من قدرة على وضع الخطط وابتكار الأساليب .

    6 – وَلم يعرف عن قائد حديث أنه كان يعنى بالاستطلاع والاستدلال عناية نابليون .

    وكانت فراسة النبي في ذلك مضرب الأمثال ، فلما رأى أصحابه يضربون العبدين المستقيين من ماء بدر لأنهما يذكران قريشاً ولا يذكران أبا سفيان ، علم بفطنته الصادقة أنهما يقولان الحق ولا يقصدان المراء . وسأل عن عدد القوم فلما لم يعرفا العدد سأل عن عدد الجزور التي ينحرونها كل يوم فعرف قوة الجيش بمعرفة مقدار الطعام الذي يحتاج إليه .
    وكان صلوات الله عليه إنما يعول في استطلاع أخبار كل مكان على أهله وأقرب الناس إلى العلم بفجاجه ودوربه ويعقد ما يسمى اليوم مجلس الحرب قبل أن يبدأ بالقتال فيسمع من كل فيما هو خبير ه من فنون أو دلائل استطلاع .

    7 – واشتهر عن نابليون أنه كان شديد الحذر من الألسنة والأقلام وكان يقول : إنه يخشى من أربعة أقلام ، ما ليس يخشاه من عشرة آلاف حسام .

    والنبي عليه الصلاة والسلام كان أعرف الناس بفعل الدعوة في كسب المعارك وتغليب المقاصد ، فكان يبلغه عن بعض أفراد أنهم يخفرون الذمة التي عاهدوا عليها ويشهرون به وبالإسلام ، أو يثيرون العشائر لقتاله ويقذعون في هجوه وهجو دينه ، فينفذ إليهم من يحاربهم في حصونهم أو يتكفل له بالخلاص منهم .

    وعاب هذا بعض المغرضين من الكتاب الأوروبيين وشبهوه بما عيب على نابليون من اختطاف الدوق دانجان وما قيل عن محاولته أن يختطف الشاعر الإنجليزي كولردج الذي كان يخوض في ذمه ويستهوي الأسماع بسحر حديثه .

    إلا أن الفارق عظيم بين الحالتين ، لأن حروب الإسلام إنما هي حروب دعوة أو حروب عقيدة ، وإنما هي في مصدرها وغايتها كفاح بين التوحيد والشرك أو بين الإلهية والوثنية . وليس وقوف الجيش أمام الجيش إلا سبيلاً من سبل الصراع في هذا الميدان . فليس في حالة سلم مع النبي إذن من يحاربه في صميم الدعوة الدينية ويقصده بالطعن في لباب رسالته الإسلامية . وإن لم ينفر مع الناس لقتاله ولم يحرضهم على النكث بعهده وإنما هو مقاتل في الميدان الأصيل ينتظر من أعدائه ما ينتظره المقاتل من المقاتلين ، ولا سيما إذا كانت الحرب قائمة دائمة لا تنقطع فترة إلا ريثما تعود .

    أما نابليون فالحرب بينه وبين أعدائه حرب جيوش وسلاح ، فلا يجوز له أن يقتل أحداً لا يحمل السلاح في وجهه أو لا يدينه القانون بما يستوجب إزهاق حياته . وما نهض نابليون لنشر دين أو تفنيد دين ، ولو كان للرسول الإسلامي من غرض لجاز له أن يقل المسالمة ممن يحاربونه في دينه وإن لم يشهروا السيف في وجهه . فإن الضرب بالسيف لأهون من المقتل الذي يضربون فيه .

    تلك مقابلة مجملة بين الخطط والعادات التي سبق إليها محمد وجرى عليها نابليون بعد مئات السنين ، ومن الواجب أن نحكم على قيمة القيادة بقيمة الفكرة أو الخطة قبل أن نحكم عليها بضخامة الجيوش وأنواع السلاح ، ولم يتخذ محمد الحرب صناعة .. فإذا كان مع هذا لم يتقن منها ما يتولاه مدفوعاً إليه فله فضل السبق على جبار الحروب الحديثة الذي تعلمها وعاش لها ولم ينقطع عنها منذ ترعرع إلى أن سكن في منفاه ، ولم يبلغ من نتائجه بعض ما بلغ القائد الأمي بين رمال الصحراء .

    ولقد كانت خبرة النبي ببعوث الاستطلاع كخبرته ببعوث القتال فكانت طريقته في اختيار القائد وتزويده بالوصايا والأتباع مثلاً يحتذى في جميع العصور ، ولا سيما العصر الحديث الذي كثرت فيه ذرائع التخبئة والمراوغة وذرائع الكشف والدعوة فكثرت فيه – من ثم – حاجة المقاتلين إلى استقصاء أحوال العدو .

    ففي الحروب الحديثة يتردد ذكر الأوامر المختومة التي تصدر إلى قواد السرايا والسفن ليفتحوها عند مدينة معلومة أو بعد مسيرة ساعات أو في عرض البحر على درجة معينة من درجات الطول والعرض . إلى أمثال ذلك من العلامات التي تعين بها الجهات .

    ويتفق في أمثال هذه البعوث أن يكون القائد وحده مطلعاً على سر البعث ورجاله جميعاً يجهلونه ولا يعرفون أهم خارجون في غزوة أم في مناورة استطلاع ، إلى ما قبل الحركة المقصودة بساعات معدودات وهناك تصدر الأوامر التي لا بد من صدورها للتهيؤ والتنفيذ ولا خوف من كشفها في تلك الساعات لصعوبة الاستعداد الذي يقابلها به العدو إذا انكشفت له قبل تنفيذها بفترة وجيزة . ولا سيما إذا كانت الحركة من حركات البحار .

    هذه الأوامر المختومة ليست بحديثة . وقد عرفت في المأثورات النبوية على أتم أصولها التي تلاحظ في أمثالها ، ومن ذلك أنه عليه الصلاة والسلام بعث عبد الله بن جحش ومعه كتاب أمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين ، وفحواه أن " سر حتى تأتي بطن نخلة على اسم الله وبركاته ، لا تكرهن أحداً من أصحابك على المسير معك وامض فيمن تبعك حتى تأتي بطن نخلة فترصد بها عير قريش وتعلم لنا من أخبارهم " .

    وهذا نموذج من الأوامر المختومة جامع لكل ما يلاحظ فيها حديثاً وقديماً وعند بداءة الدعوات على التخصيص .

    فأولها كتمان لخبر عمن يحيطون بالنبي عليه الصلاة والسلام ، فلا يبعد أن يكون منهم من هو مدخول النية عليه وعلى أصحابه من قبل قريش ، ولا يبعد أن يكون منهم من يبوح بالخبر ولا يريد به السوء أو يدرك ما في البوح به من الخطر المحظور ، ولا يبعد أن يكون منهم الضعفاء والمخالفون , وأن الاستعانة على قضاء الحاجات بالكتمان لسنة حكيمة من سنن النبي عليه الصلاة والسلام في جميع المطالب وهي في حروب الدعوات على التخصيص أقمن بالاتباع ، ولهذا كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها على النحو الذي يتبعه قادة الحروب إلى الآن .

    ومما لوحظ في كتاب النبي لعبد الله بن جحش كتمان الخبر عن أصحابه ثم وصاته ألا يكره أحداً منهم على المسير معه بعد معرفته بوجهته ، وهذا هو أهم الملاحظات في هذا المقام .

    فقد يحارب الرجل وهو مكره مهدد بالموت الذي يتقيه إذ يفر من القتال ، ولكنه لا يستطلع وهو مكره ثم يفيد استطلاعه من أرسلوه ، بل لعله ينقلب إلى النقيض فيحرف الأخبار عمداً أو يتلقاها على غير اكتراث ، أو يطلع الأعداء على أسرار أصحابه وهم غافلون عنه .

    ولهذا تعاني الدول أكبر العناء في مراقبة الجواسيس بالجواسيس وفي امتحان كل خبر بالمراجعة بعد المراجعة والمناقضة بعد المناقضة حتى تطمئن إلى صحته قبل الاعتماد عليه .

    وفي الحروب الحاضرة تجربة جديدة من المستطلعين أو الرواد المتقدمين فقد عرف أن هتلر يعتمد على أفراد من جنده يهبطون إلى الطيارات وراء الصفوف ، فيتسللون إلى مراكز المواصلات ويعبثون بين القرى المعزولة ، فيشيعون فيها الرعب والحيرة ويوهمون من يراهم أن الجيش المغير كله على مقربة منهم فلا جدوى لهم من الاستغاثة أو المقاومة ، ويحمل معظم هؤلاء الرواد المتقدمين أجهزة للمخاطبة يستعينون بها على الاتصال برؤسائهم من بعيد .

    قيل في الإعجاب بهذه الخطة الهتلرية كثير ، وقيل في انتقادها والتنبيه إلى خطرها كثير .

    فمن دواعي الإعجاب بها أنها أفادت في قطع المواصلات وإشاعة الذعر وتضليل المدافعين وأنها شيء جديد في شكله وإن لم يكن جديداً في غايته ومرماه .

    ومن أسباب انتقادها أن كل فائدة فيها تتوقف على العقيدة وحسن النية . فهي تستلزم أن يكون الرائد غيوراً على عمله متحمساً لإنجازه رقيباً على نفسه وهو بمعزل عن رقبائه فليس أيسر له إذ هو انفرد وأعوزته الرغبة في إنجاز عمله من أن يستأسر في أول مكان يصل إليه من بلاد الأعداء طلباً للسلامة . ولا عقاب عليه إلى نهاية القتال . ثم يتعلل بما شاء من المعاذير إن وجد بعد ذلك من يحاسبه ويعاقبه . وهيهات أن تستجمع الأدلة عليه في أمثال هذه الفوضى بين معسكرين أو عدة معسكرات .

    فالخطة الهتلرية فاشلة لا محالة إن لم ينفذها مريدون متعصبون غير مكرهين ولا متشككين فيما هو موكول إليهم ، وهي لهذا أحرى أن تحسب من وحي إخوان الطريق وإلهام العقائد لا من النظام الذي يدرب عليه كل جيش ويصلح لجميع الجنود ، فلولا أن النازيين قضوا قبل الحرب الحاضرة زهاء عشر سنين ينفخون في نفوس الناشئة جذوة البغضاء ، ويلهبونهم بحماسة العقيدة ويخلقون فيهم اللدد الذي يغني عن الرقابة ساعة التنفيذ ، لحبطت الخطة كل الحبوط وانقلبت على النازيين شر انقلاب .

    وها هنا تتجلى حكمة النبي عليه الصلاة والسلام في اشتراط الرغبة والطواعية واجتناب القسر والإكراه . فهذه " أولاً " بعثة منفردة لا سبيل إلى الإكراه الفعال بين رجالها إذا أريد . وهي " ثانياً " بعثة استطلاع لا يغني فيها عمل الكاره المقسور ، وألزم ما يلزم العامل فيها إيمانه وصدق نيته وحسن مودته لمن أرسلوه ، فإن أعوزته هذه الصفة فقد أعوزه كل شيء .

    أما غرض البعثة كلها وهو الاستطلاع ، فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام عليماً بمزاياه . معنياً به غاية العناية ، فالعدو المجهول كالعدو المستتر بأسوار الحصون ، في حمى من الجهل به قد يحول دون الاستعداد له بالعدة الضرورية في الوقت الضروري ، ويحول من ثم دون الانتصار عليه .

    ونحن نكتب هذه الفصول والحرب الروسية تذكرنا كيف أصيب نابليون في هذا الميدان حيث أصيب في وسائل الاستطلاع ، ثم تذكرنا كيف تكررت هذه الغلطة بعينها على نوع من المشابهة بين غزوة نابليون في روسيا أمس وغزوة هتلر لتلك البلاد اليوم .

    فمن أسباب هزيمة نابليون إهماله النصائح التي سمعها في مجلس الحرب من بعض الثقات قبل التوغل في الحرب الروسية ، لاعتقاده خطأ أن القيصر سيطلب صلحه بعد أسابيع .

    ومن أسباب تلك الهزيمة أن الروس كانوا يتراجعون أمامه تحت جنح الظلام ، ويخلون المدن والطرقات حتى لا يرى فيها دياراً يسأله عن مكان الجيش المتراجع . أو يلتقط من خلال أجوبته ما يعينه على الاستطلاع الذي كان شديد التعويل عليه .

    أما " هتلر " فقد أتى من قبل هذين النقصين كما أتى من قبله من هو أعظم منه وأولى بالتحرز والأناة .

    فقد اشتهر أنه كان في مجلس الحرب على خلاف مع قواده الثقات الذين علموا من شأن الروس ما ليس له به علم . واشتهر أنه أخطأ في استطلاع القوم إذ خيل إليه أن الشعب الروسي يتحفز للثورة ويترقب الإغارة عليه لنصرته كائناً من كان ولو جاءت الغارة من عنصر معاد للعنصر السلافي وهو عنصر الجرمان .

    ومحمد عليه الصلاة والسلام لم يتعلم ما تعلمه هتلر ونابليون ، ولكنه لم يخطئ قط مثل هذا الخطأ في جميع غزواته وكشوفه ، ولعلنا نفهم – كما درسنا زمانه الحافل بالعبر والأمثلة الباقية – أن دراسته ضرب من دراسة العصر الحديث والقادة المحدثين .

    * * * * *

    عندما تنعقد المقارنة بين المعارك القديمة والمعارك العصرية . ينبغي أن ننظر إلى فكرة القائد قبل أن ننظر إلى ظواهر المعارك أو أشكالها أو أحجامها ، لأننا إذا نظرنا إلى الظواهر فلا معنى إذن للمقارنة على الإطلاق ، إذ من المقطوع به أن عشرة ملايين يجتمعون في ميدان واحد أضخم من عشرة آلاف ، وأن حرباً تدار بالمذياع والتليفون أعجب من حرب تدار بالفم والإشارة ، وأن نقل الجنود بالطائرات والدبابات أبرع من نقلهم على ظهور الخيل والإبل ، وأن المدفع أمضى من السيف والرصاصة أمضى من السهم ، فلا معنى إذن لمقارنة بالظواهر تنتهي إلى نتيجة واحدة وهي استضخام الحرب الحديثة والنظر إلى القيادة الغابرة كأنها شيء صغير إلى جانب القيادة التوي توجه هذه الضخامة .

    لكننا إذا نظرنا إلى فكرة القائد ، أمكننا أن نعرف كيف أن توجيه ألف رجل قد تدل على براعة في القيادة لا نراها في توجيه مليون بينهم الراجل والراكب ، ومنهم من يركبون كل ما يركب من مخلوقات حية وآلات مخترعة .

    وهذه الفكرة هي التي ترينا محمداً عليه الصلاة والسلام قائداً حربياً بين أهل زمانه بغير نظير في رأيه وفي الانتفاع بمشورة صحبه ، وتبرز لنا قدرته النادرة بين قادة العصور المختلفة في توجيه كل ما يتوجه على يدي قائد من قوى الرأي والسلاح والكلام . وهذه القدرة هي شهادة كبرى للرسول تأتي من طريق الشهادة للقائد الخبير بفنون القتال .

    * * * * *

    ويزيد هذه الشهادة عظماً ، أن الرجل الذي يجتنب القتال في غير ضرورة رجل شجاع غير هياب ، شجاع وليس كبعض الهداة المصلحين الذين تجور فيهم فضيلة الطيبة على فضيلة الشجاعة ، فيحجمون عن القتال لأنهم ليسوا بأهل قتال .

    فمحمد كان في طليعة رجاله حين تحتدم نار الحرب ويهاب شواظها من لا يهاب ، وكان علي فارس الفرسان يقول : " كنا إذا حمى البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد أقرب منه إلى العدو " .

    ولولا ثباته في وقعه حنين ، وقد ولت جمهرة الجيش وأوشك أن ينفرد وحده في وجه الرماة والطاعنين ، للحقت الهزيمة بالمسلمين ، وخروجه والليل لما يسفر عن صبحه ليطوف بالمدينة مستطلعاً ، وقد هددها الأعداء بالغارة والحصار أمر لو لم تدعه إليه الشجاعة الكريمة لم يدعه إليه شيء ؛ لأن المدينة كانت يومئذ حافلة بمن يؤدون عنه مهمة الاستطلاع وهو قرير في داره ، ولكنه أراد أن يرى بنفسه فلم يثنه خوف ولم يعهد بهذا الواجب إلى غيره .

    ومشاركته في الوقعات الأخرى هي مشاركة القائد الذي لا يعفي نفسه وقد أعفته القيادة من مشاركة الجند عامة فيما يستهدفون له ، فهي شجاعة لا تؤثر أن تتوارى حيث يتاح لها أن تتوارى وعندها العذر المقبول بل العذر المحمود .

    وإذا كان القائد خبيراً بالحرب قديراً عليها غير هياب لمخاوفها ، ثم اكتفى منها بالضروري الذي لا محيص عنه ، فذلك هو الرسول تأتيه الشهادة بالرسالة من طريق القيادة العسكرية وتأتي جميع صفاته الحسنى تبعاً لصفات الرسول . اهـ " عبقرية محمد "

    نقلنا كلام العقاد الآنف لما فيه من فوائد ، إلا أننا لا نعتقد أنه أحاط بمزايا رسول الله صلى الله عليه وسلم العسكرية . ولا نعتقد أنه أراد ذلك ، وإنما لمس بعض هذه المزايا لمساً خفيفاً ، ولا نعتقد كذلك أننا نستطيع استجلاء هذه المزايا كلها لقصورنا أولاً وللإيجاز الذي نقصده ثانياً في هذه الكتابات ، غير أن هناك ميزة تربو على كل ما ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم من ميزات في قضية الحرب لم يتعرض لها حتى الآن هي تأمينه صلى الله عليه وسلم لجيشه ولدولته دائماً ( الهيبة العسكرية ) التي تجعل الآخرين دائماً في حالة رعب وقد عبر هو نفسه صلى الله عليه وسلم عن هذه الحقيقة بقوله " ونصرت بالرعب مسيرة شهر " وأن من جملة عوامل النصر المهمة دائماً في حرب المسلمين هذه الناحية التي وطد رسول الله صلى الله عليه وسلم أركانها في حياته ، وحافظ عليها أصحابه بعده ، وهي التي كانت تفعل في قلوب أعدائه المقاتلين الأفاعيل . ولو درسنا حياة الرسول صلى الله عليه وسلم العسكرية لرأينا أن هدفاً كبيراً دائماً من أهداف عملياته العسكرية كان إبقاء هذه الهيبة وزيادتها وتأكيدها وتوسيع دائرتها حتى وصل المسلمون إلى حالة في النهاية كان الناس كلهم يهابونهم ولا يهابون هم أحداً ، لا دولة كبرى ولا صغرى ولا قبيلة ولا جيشاً ولا سلاحاً ولا عدداً ولا عدة فترى الجيش الصغير ( 3000 ) يهجم على الجيش الكبير ( 200.000 ) يوم مؤتة ولا يبالي بالنتائج ، وإليك عرضاً موجزاً لأعمال الرسول صلى الله عليه وسلم العسكرية خلال سنة من أول سني المدينة لتعرف كيف أوجد هذه الهيبة العسكرية وأمنها .

    ما كاد يستقر بالمدينة حتى يرسل في رمضان من السنة الأولى للهجرة حمزة بن عبد المطلب في ثلاثين من المسلمين ، فيلتقي بأبي جهل يقود قافلة لقريش ومعه ثلاث مائة راكب فيحجز بين الفريقين مجدي بن عمرو الجهني فلا يقع قتال .

    وفي شوال من نفس السنة يرسل عبيدة بن الحارث في ستين راكباً إلى وادي رابغ فيلتقي بأبي سفيان ومعه مائة مشرك فيترامى الفريقان بالنبل ولا يقع قتال .

    وفي ذي القعدة يرسل سعد بن أبي وقاص في نحو عشرين رجلاً يعترض عيراً لقريش ولكنها تفوته ، وفي صفر يخرج الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه بعد أن يستخلف سعد بن عبادة على المدينة فيسير حتى يبلغ ودّان يريد قريشاً وبني ضمرة فلم يلق قريشاً وعقد حلفاً مع بني ضمرة .

    وفي ربيع الأول خرج الرسول صلى الله عليه وسلم على رأس مائتين من المهاجرين والأنصار إلى بواط معترضين عيراً لقريش يقودها أمية بن خلف ومعه مائة من المشركين ففاتته .

    وفي جمادى خرج إلى العشيرة من بطن ينبع وأقام بها شهراً صالح فيه بني مدلج .

    ثم أغار كرز بن جابر الفهري على المدينة واستاق سرحها فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في طلبه حتى بلغ وادي سفوان قريباً من بدر فهرب كرز ولم يدركه رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    وعند مقفله من هذه الغزوة أرسل عبد الله بن جحش بسرية فيها ثمانية من المهاجرين .

    وفي رمضان كانت موقعة بدر الكبرى التي كانت أول صدام عنيف مسلح بين المسلمين وغيرهم سقط فيه قتلى أعنى المشركين ، فانظر من رمضان إلى رمضان كم سرية وكم غزوة حركها رسول الله ومن حكم هذه السرايا :

    1 - إنها تدريب عملي وإعداد نفسي للمسلمين يجعلهم دائماً في حالة تعبئة عامة وحذر دائم واستعداد يقظ وحركة قتالية سريعة .

    2 – إشعار الأعداء بالقوة التي تهاجم ولا تنتظر حتى تهاجم ، وإلقاء الرعب في قلوب من يفكر بغدر وشر .

    3 – الإشعار بالانتقال من مرحلة الصبر إلى مرحلة الرد بالمثل على الظلم وإيقاف المشركين في غير حدهم .

    وكانت معركة بد الضربة الساحقة التي حققت هذه الأغراض جميعاً ، وكان ما قبلها مقدمة لها ، وخلال عشر سنوات قضاها الرسول في المدينة ، تجد أن أعماله العسكرية من غزوات إلى سرايا بلغت عشرات وكلها كانت محكمة وسريعة وناجحة ، من غزوة ضد قريش إلى عملية ضد اليهود ، إلى تحرك نحو القبائل العربية على الحدود الرومانية والفارسية . إلى مناوشة مع الدولة الرومانية ، ولم يقبض عليه الصلاة والسلام حتى فتح للمسلمين طريق العمل العسكري الذي انطلقوا منه إلى العالم . فلم يوقفهم شيء إلا ضعف جذوة الإسلام في أنفسهم لأمد .

    والأهم من الناحية العسكرية مما قدمناه هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ بأتباعه من الانضباط العسكري مبلغاً ما بلغه قائد عسكري آخر ، ونحن نعلم أن الانضباط العسكري هو كل شيء في المعركة ولا يمكن أن تظهر عبقرية قائد عسكرياً إلا إذا كان الانضباط موجوداً ولذلك فإن ثمانين بالمئة من عبقرية القيادة العسكرية تظهر في انضباط جندها معها في اللحظة الحاسمة ، فإذا بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا قمته وفي أمة العرب الشعب المارد المتمرد الذي لا يعرف انضباطاً ولا طاعة فتلك معجزة المعجزات .

    وكمثال على مدى الروح الانضباطية التي تمتع بها المسلمون في آخر حياته عليه الصلاة والسلام ما حدث يوم غزو تبوك . إذ تخلف بعض الأتباع عن الذهاب معه صلى الله عليه وسلم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بمقاطعتهم ( وهم ثلاثة ) فلم يكلمهم أحد حتى تاب الله عليهم وستمر معك القصة في / مبحث الثمرات / .

    إن عبقرية هذه القيادة لا مثيل لها في كل تصرف من تصرفاتها الصغيرة والكبيرة ، نجدها حيث يبقى أبا سفيان يوم فتح مكة على الطريق تمر به كتائب المسلمين كلها ، حتى ينقطع آخر أمل له في المقاومة وحتى يتلاشى آخر تردد عنده في الاستسلام ، والتي نجدها حيث يغزو الروم يوم تبوك ويعقد المعاهدات مع أطراف دولتهم ، ممهداً بذلك لاستقبال الجيوش الإسلامية في المستقبل .

    وإذا كانت نتائج العمل العسكري ميزاناً توزن به قيمة هذا العمل العسكري فإنه لا يوجد في ميزان العالم أثقل من العمل العسكري الذي قام به رسول الله إذ ما من معركة حدثت للأمة الإسلامية بعد إلا وكانت قبساً من شمس رسول الله ، وما من ظفر حققه المسلمون إلا ووراءه الروح التي بثها رسول الله في موات القلوب ، ولئن مرت ظروف انتصرت فيها الأمة الإسلامية في عصرنا . فاستغل انتصارها أعداؤها ، فإن تعاليم رسول الله صلى الله عليه وسلم ستجعل هذه الأمة في وضع آخر مرة أخرى بإذن الله .

    وبعد : إن الرسالة الثالثة من هذه السلسلة وهي عن الإسلام ، ستوضح تعاليم رسول الله بشكل مفصل . وهذا الذي جعلنا نقصر هذا البحث فقط على صفات الرسول دون ذكر التعاليم التي تنبع عنها هذه التصرفات ، وإنما أردنا إبراز الكمال الذي يتمتع به رسول الله في كل شيء بحيث استجمع أعلى قمم السلوك البشري في كل شيء فكان الإنسان الوحيد الذي يصح أن يكون قدوة البشر العليا في كل شيء وبعد أن تقرأ الرسالة الثالثة سترى بوضوح أن البشرية لن يستقيم أمرها إلا بأخذها بتعاليم محمد والاقتداء به ، وأن الحدود التي حدها رسول الله في حياته السلوكية والعملية في كل الجوانب هي أرفع وأعدل ما ترتقي إليه آمال البشر مع الواقعية التي لا تخرج هذه التعاليم إلى مثل معطلة ، وإن أي انحراف عن التأسي برسول الله واتباع تعاليمه إنما هو في الواقع ارتكاس وانتكاس مهما حاول أهل الباطل أن يفيضوا عليه من الألقاب والنعوت والتسميات . فالرسول عليه الصلاة والسلام قد أعطى البشر بوحي من الله الصيغة الوحيدة للحق ، فمهما ابتغت البشرية الهدى في غير هذه الصيغة فإنها إلى ضلالٍ تسير .

    لقد رأيت في هذا الباب :

    أن رسول الله صادق ودلّكَ هذا على أنه رسول الله .

    وأن رسول الله أمين في تنفيذ ما دعا إليه ودلك هذا على أنه رسول الله .

    وأن رسول الله قد بلغ دعوة الله حقاً ودلك هذا على أنه رسول الله .

    وأن رسول الله أعقل البشر وأعظمهم فطانة فدلك هذا على أنه رسول الله حقاً .

    وأن رسول الله أعظم الناس في باب التربية والتعليم ودلك هذا على أنه رسول الله حقاً .

    وأن رسول الله أكمل الخلق أباً وزوجاً وأخلاقاً وقيادة وكل ذلك دلك على أنه رسول الله حقاً .

    ورسول تدلك صفاته على رسالته إلى أين تفارقه متبعاً أصنام الهوى وأباطيل الهوس ومجانين الضلال ، إن هؤلاء لا يسيرون بك إلا إلى الهاوية .

    ولكن رسول الله لا يدلك عليه فقط صفاته بل قامت الأدلة على رسالته حتى إنه لم يزغ عن الرؤية إلا أعمى .

    فإلى الباب الثاني لترى الدليل الكامل الآخر على أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله .

  12. افتراضي

    الباب الثاني

    المعجزات



    سنكتب في هذا الباب فقرتين وتعقيباً :

    الفقرة الأولى :

    حول المعجزة القرآنية نتحدث فيها عن خمسة جوانب من جوانب المعجزة القرآنية ، كل منها يشهد أن هذا القرآن لا يمكن أن يكون إلا من عند الله .

    الفقرة الثانية :

    معجزات أخرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم غير القرآن نتحدث عن تسعة أنواع منها ، كل واحدة منها تشهد أن محمداً رسول الله .

    التعقيب :

    ونتحدث فيه عن الفارق بين المعجزة وغيرها من الأمور التي يراها الناس خارقة للعادة ، ونرجو ألا ينتهي هذا الباب إلا وقد انشرح القلب ببرد اليقين أن محمداً رسول الله وأنه ليس أمام الإنسان إلا طريق محمد صلى الله عليه وسلم وحده . فذلك الذي يصح للإنسان أن يسلكه {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ} .

    فإلى الفقرة الأولى من هذا الباب .

    * * *

    الفقرة الأولى

    المعجزة القرآنية


    - 1 -

    يقول عليه الصلاة والسلام : " ما من نبي إلا وأوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحي إليَّ فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة " .
    إن النبيين عليهم الصلاة والسلام كانت معجزاتهم شاهدة على صدق الوحي الذي أُنزل إليهم وبلغوه . أما الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فمعجزته الرئيسية كانت في نفس الوحي . فالوحي نفسه فيه دليل على أنه من عند الله عز وجل إذ هو ذاته المعجزة ، ولذلك عندما كان المشركون يطلبون آية كانوا يلفتون إلى أن الآية بين أيديهم :

    {وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ من رَّبهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} العنكبوت : 50 ، 51 .

    وإذا كان القرآن باقياً بحفظ الله {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الحجر 9 .

    فالمعجزة إذن باقية محسوسة يستطيع كل إنسان إن صدق أن يعرفها ويتيقنها بعلم يقين .

    {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ الظَّالِمُونَ} العنكبوت : 49 .

    وهذا القرآن من أين أخذته دلّك على ذاته ، على شرط أن تأخذه بعلم ، وتطلب الحق فيه بصدق ، فالعالم بأي علم له علاقة بالقرآن يستطيع أن يرى في القرآن الحق الذي يعلو أن يكون مصدره بشراً .

    {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} سبأ : 9 .

    فالعالم باللغة ، الدراك لأسرارها ، البصير فيها ، يرى أن لغة القرآن ليست ببيان بشر . والعالم بأساليب التعبير ومجال البيان ولفتات البلاغة ، يرى أن ما في القرآن من أسلوب وبيان وبلاغة جلّ عن طوق بشر .

    والعالم المحيط بالتاريخ المتثبت بما كان ، سواء قبل نزول القرآن أو بعده . يرى أن الخبر الذي في القرآن ليس مصدره البشر .

    والعالم بالكون قوانين وواقعاً يرى أن القرآن ليس من عند بشر إذ ما فيه من علم لم يكن ساعة نزوله معروفاً ، شيء ضخم فيه دليله .

    والعالم بالنفس غرائزها وما يصلحها ويفسدها ، وما يرتفع بها ويهبط ، يستطيع إدراك ربانية القرآن .

    والعالم بالتشريع الاجتماعي والجنائي والاقتصادي ، وغير ذلك من أنواع التشريع يمكنه معرفة ربانية القرآن .

    والعالم بالأخلاق والتربية والسلوك ، يستطيع أن يرى الله في قرآنه .

    والعالم بالأمم حضاراتها وعمرانها ، والعوامل التي تبنيها وتهدمها يستطيع أن يرى القرآن في مصدره الرباني .

    والعالم بالكتب السماوية كالتوراة والإنجيل والزبور ، يدرك أن كتاباً يحكم في أدق قضايا الخلاف بين أتباع الديانات ، ليس مصدره محمداً الذي لم يسمع كتاباً ولم يقرأ .

    إن العالم يرى ، وطالب الحق يرى ، أما المتكبر ، أما الحاسد ، أما طالب الدنيا ، أما الظالم ، أما أعمى القلب المظلم البصيرة ، أما هؤلاء فلن يروا ، لأنهم ليسوا أهلاً للرؤية .

    {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} ( الأعراف : 149 ).

    {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} (الإسراء : 45 ، 46 ).

    {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ الظَّالِمُونَ} العنكبوت : 49 .

    إن مثل هذا النوع من البشر الذي يجحد ، وقلبه مستيقن يمنعه من الإقرار الكبر والبطر ، ليس لك إلى مناقشته سبيل ، إذ الحجة وعدمها معه سواء .

    {وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} النمل : 14 .

    إذ ليس سبب إنكاره عدم الحجة ، بل السبب في ذاته هو ، وإن الذين عانى منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل رسول هم من هذه الطبقة العاتية ، وليسوا من أولئك الذين يبحثون عن الحق حتى إذا وجوده عرفوه وقبلوه واعتنقوه .

    {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَـكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} الأنعام : 33 .

    وإليك هذه القصة التي ذكرها ابن إسحاق : أتى الأخنس بن شريق أبا جهل فدخل عليه بيته فقال : يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ فقال : ماذا سمعت ؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء ، فمتى ندرك هذه ؟ والله لا نسمع به أبداً ولا نصدقه . فقام عنه الأخنس بن شريق .

    هذا هو نمط الناس الذين لم يؤمنوا بالقرآن ، ليس لهم عذر ولا مستمسك وأنى يكون لهم عذر وتحدي المعجزة يقرع آذانهم وهم صامتون .

    {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} هود 13 .

    اكذبوا وهاتوا مثل سوره ولكنهم لم يفعلوا وحتى الذي ادعى النبوة والوحي كمسيلمة . لم يتكلم ليعارض القرآن بل كان يعترف أن القرآن وحي سماوي ، ولكنه تكلم ليقال : وها أنا يوحى إليَّ ولكنه لم يتحد بوحيه .

    {وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ} البقرة 23 ، 24 .

    لقد تحداهم أن يفعلوا وقال لهم : لن تفعلوا ولم يفعلوا أليس في ذلك عجب ؟

    عجب لأن من عاداتهم المساجلة والمعارضة . فلم يساجلوا هنا ولم يعارضوا .

    وعجب لأنهم أمة البيان وبهتوا أمام البيان .

    وعجب لأنهم فعلوا كل شيء من أجل القضاء على الدعوة الجديدة وسكتوا عن أبسط الأشياء وهو الكلام .

    وعجب أن وارث الكلام من شعرائهم وأئمة البيان عندهم . أصبحوا مسلمين كحسان والخنساء وبجير وكعب والحطيئة ولبيد . وهم الأعلم باللغة والأبصر فيها ولبعضهم لسان أشد من السيف ، ومع ذلك كان موقفهم السكوت ثم التسليم .

    " أليس عجباً أن تجد الخنساء الشاعرة وهي التي قالت لحسان بن ثابت في سوق عكاظ حين أنشدها .

    لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
    ولدنا بني العنقاء وابن محرق فأكرم بنا خالاً وأكرم بنا أينما

    ضعفت افتخارك وأبرزته في ثمانية مواضع قال : وكيف ؟ قالت : قلت لنا الجفنات ، والجفنات ما دون العشر . ولو قلت : الجفان لكان أكثر . وقلت : الغر . والغرة البياض في الجبهة . ولو قلت : البيض لكان أكثر اتساعاً . وقلت : يلمعن ، واللمع شيء يأتي بعد الشيء ، ولو قلت : يشرقن لكان أكثر لأن الإشراق أدوم من اللمعان ، وقلت : بالضحى ، ولو قلت : بالعشي لكان أبلغ في المديح ؛ لأن الضيف في الليل أكثر طروقاً ، وقلت : أسيافنا ، والأسياف دون العشر ، ولو قلت : سيوفنا كان أكثر ، وقتل : يقطرن ، فدللت على قلة القتل . ولو قلت يجرين لكان أكثر : لانصباب الدم ، وقلت : دماً ، والدماء أكثر من الدم ، وفخرت بمن ولدت ، ولم تفتخر بمن ولدوك " راجع إعجاز القرآن للرافعي .

    هذه نفسها النقادة الشاعرة التي ملأت الدنيا نحيباً على أخيها صخر تفقد أولادها الأربعة في الإسلام في معركة واحدة ، فلم تذرف دمعة بل تحمد الله ، لقد آمنت بالقرآن وغيّر القرآن أعماقها .

    لقد شعر العرب الأقحاح يوم تنزل القرآن أن هذا القرآن الذي يسمعونه لم يخرج من بشر ، كانوا يحسون هذا في أعماقهم سواء في ذلك مؤمنهم وكافرهم .

    وانظر هذين النصين عن مؤمن وكافر :

    أ – روي أن أبا بكر رضي الله عنه – وكان أنسب العرب وأعلمهم بلغاتها وأشعارها وأمثالها – سأل أقواماً قدموا عليه من بني حنيفة ، عن كلام مسيلمة ، وما كان يدعيه قرآناً فحكوا له ، فقال أبو بكر : سبحان الله ! وحيكم إن هذا الكلام لم يخرج عن إل ( أي عن ربوبية ) فأين كان يذهب بكم ؟ فانظر مفهوم كلامه وشعوره . إن القرآن خارج من الله وليس من بشر .

    ب – " وروي أن الوليد بن المغيرة المخزومي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقرأ عليه القرآن ، فكأنه رق له ، فبلغ ذلك أبا جهل ، فأتاه فقال : يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً ليعطوكه لئلا تأتي محمداً لتعرض لما قاله . فقال الوليد : قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً .

    قال أبو جهل : فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك كاره له .

    قال : وماذا أقول ؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ، ولا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن ، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا ، وواله إن لقوله حلاوة وإن عليه لطلاوة ، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله ، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه ، وإنه ليحطم ما تحته .

    قال : لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه .

    قال : فدعني حتى فكر ، فلما فكر قال : ( هذا سحر يؤثر ) يأثره عن غيره .

    ولما اجتمعت قريش عند حضور الموسم قال لهم الوليد : إن وفود العرب ترد فأجمعوا فيه ( يعني النبي صلى الله عليه وسلم ) رأياً لا يكذب بعضكم بعضاً فقالوا : نقول كاهن .

    قال : والله ما هو بكاهن ولا هو بزمزمته ولا سجعه .

    قالوا : مجنون .

    قال : ما هو بمجنون ولا بخنقه ولا وسوسته .

    قالوا : فنقول شاعر .

    قال : ما هو بشاعر قد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومبسوطه ومقبوضه .

    قالوا : فنقول ساحر ، قال : ما هو بساحر ولا نفثه ولا عقده .

    قالوا : فما نقول ؟

    قال : ما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا وأنا أعرف أنه لا يصدق ، وإن أقرب القول أنه ساحر وأنه سحر يفرق بين المرء وابنه والمرء وأخيه والمرء وزوجته والمرء وعشيرته فتفرقوا وجلسوا على السبل يحذرون الناس " .

    إن هذا الإحساس بربانية المصدر ، والتحدي من المصدر نفسه ، وظهور العجز قديماً وأبداً ما ترك لكافر عذراً ولا حجة .

    والناس إما صافي الفطرة يستجيب لأول بارقة نور ، فيشتغل نور فطرته ، وإما إنسان أصاب فطرته تعقيد وتوهم ، سواء بسبب الوراثة أو الفكر الخاطئ مثل هذا إنما نطالبه بالعلم قبل الحكم ، وبالبحث بعد العلم ، وسيرى الآية واضحة والمعجزة قائمة من أي أبواب العلم أتاها .

    أ – فهو لو درس حياة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل النبوة وبعد النبوة قبل القرآن وبعد القرآن يجد جواباً قاطعاً ، إنه الوحي والنبوة وليس غيرهما رجل أمي جاوز الأربعين لم يعرف عنه خلالها أنه تكلم بشيء له علاقة بدين ، ولا درس ولا كتب فلم يتلق علماً ولم يقرأ كتاباً دينياً أو غير ديني ، ثم البيئة بيئة أمية ولكنها ذكية لا تعلم عن النبوءات والرسالات شيئاً ، فليست هناك مقدمة تشير إلى نتيجة ومع ذلك وإذا بقرآن يتلى ، ودين يقوم ، ومفاهيم تغير بسر هذا القرآن الذي يتحدى فيسكت المتحدون ، وهذا ما أشار القرآن إليه كدليل عل النبوة لا يبقى معه ريب .

    {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} العنكبوت : 48 .
    {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} النحل : 103 .
    {وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} الأنعام : 105 .

    إن دارس القرآن العظيم لا يمكن أن يتصور أن ما فيه صادر عن جهل ، بل يرى أنه لا بد صادر عن علم محيط ، وهناك سر المعجزة . ولذلك قال الكافرون : تعلم محمد ودرس . وإذ يثبت التاريخ أن محمداً لم يدرس ولم يتعلم ، والقرآن كله حكمة وعلم فليس هناك مصدر إلا الوحي ولا بد هنا من التأكيد على ناحيتين :

    الأولى : أن الكافرين مقرون بأن هذا القرآن لا يمكن أن يكون على هذه الحالة إلا إذا كان محمد قد تعلم أعظم ما يكون العلم ، وتصورهم حدوث تعلمه هو الذي يجعلهم يستبعدون معنى الوحي . فإذا ما ثبت أنه لم يتعلم ولم يتلق علماً من أحد ، شيء مشهور ، فإن مكة لم يكن بها أهل كتاب إلا ورقة بن نوفل وحداد ، والحداد أعجمي . وكم يمكن أن تكون ثقافته العامة والدينية في زمن ما كانت الكتب الدينية فيه إلا عند رؤساء الديانات ولم تكن مترجمة ، ثم جلوس الرسول عنده للأخذ منه شيء مبتوت من عدم وجوده . وكذلك ورقة وليس هناك أي نص تاريخي يشير إلى غير هذا بل كل النصوص على أن المعلم الوحيد للرسول صلى الله عليه وسلم هو الوحي .

    الثانية : أن النبوة قائمة على الصدق والذين اتبعوا النبي اتبعوه لأنه صادق . ولو رأوا وهم الذين يخالطونه ليلة نهار ذرة شبهة لأنكروا وبينوا . وهم من هم ، فإذا ما ذكر القرآن كما ورد في الآيات أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتلق علماً من أحد وكان الذين حول الرسول صلى الله عليه وسلم وهم أعرف الناس به صبياً وشاباً وكهلاً يعرفونه غير هذا لرأوا في ذلك مدخلاً يشكون فيه بالصدق ، ولو كان القرآن من عند محمد وكان قد تعلم عن غيره من الناس ، لما نفي مثل هذا النفي الذي يمكِن افتضاحه بسهولة لو كان .

    فإذا ما تأكدت الناحية الأولى والثانية . شهادة التاريخ ، وشهادة واقع الحال ، وانتفى إمكانية التعلم البشري ، لم يبق إلا الوحي مصدراً لأعظم أثر في تاريخ البشرية .

    ب – وكذلك لو درس الإنسان ظاهرة الوحي نفسها بإمعان وتبصرة وأحاط بها إحاطة ما وحكّم العلم والعقل . لوجد أن المسألة وحي وليست غير ذلك ، وأنها النبوة ليس إلا . ادرس مثلاً هذه الآثار التي هي بعض مما حدث الصحابة عن هذه الظاهرة .

    عن عمر رضي الله عنه قال :

    كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل فأنزل عليه يوماً فمكث ساعة ثم سري عنه فقرأ {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} إلى عشر آيات منها من أولها وقال : من أقام هذه العشر آيات دخل الجنة ثم استقبل القبلة ورفع يديه وقال : ( اللهم زدنا ولا تنقصنا وأكرمنا ولا تهنا وأعطنا ولا تحرمنا وآثرنا ولا تؤثر علينا اللهم وأرضنا وارض عنا ... ) الترمذي .

    وفي مسلم عن أبي هريرة قال :

    كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي لم يستطع أحد منا يرفع طرفه إليه ، حتى ينقضي الوحي . وفي لفظ كان إذا نزل عليه الوحي استقبلته الرعدة . وفي رواية كرب لذلك ، وتربد وجهه ، وغمض عينيه ، وربما غط كغطيط البكر .

    وعن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه قال :

    كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم السورة الشديدة أخذه من الكرب والشدة على قدر شدة السورة ، وإذا نزل عليه السورة اللينة أصابه من ذلك على قدر لينها .

    وفي رواية البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها :

    فيفصم عنه وإن جبينه ليتصبب من العرق في اليوم الشديد البرد . إن هذه الحالة التي ترافق ظهور النص القرآني ليست حالة عادية كما أنها ليست حالة مرضية .

    فالحالة المرضية لا يرافقها تصبب عرق ، ولا يرافقها ظهور نص كالنص القرآني وقد يكون سورة طويلة . كسورة الأنعام ، أو يكون نصاً تشريعياً من أدق النصوص التشريعية في تاريخ العالم كنصوص المواريث .

    إن هذه الظاهرة تدل على أن مصدر القرآن الخارجي عن ذات محمد صلى الله عليه وسلم : {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} النجم : 4 .

    ج – وكذلك لو درس الإنسان النص القرآني بإمعان فإنه سيصل إلى نتيجة واحدة ، هي أن هذا النص لا يمكن أن يكون من عند بشر ، بل لا بد أن يكون من عند الله والنص القرآني بين أيدينا . فتعال نستعرض بعض خصائصه وبعضاً من معانيه فإننا سنجده أدل على ذاته ، وأكثر إقناعاً للراغب في الحق الطالب له ، ونوثر أن نسلك في هذا الاستعراض الطريق التالي :

    إن الأعلم بالقرآن هو صاحب القرآن ، وهو أولى من يتحدث عن خصائصه وأولى من يصف مناحي دلالاته وإعجازه ، ونحن نجد أثناء دراستنا لهذا القرآن آيات كثيرة تحدثت عن صفات هذا القرآن وخصائصه . فلو أننا تتبعنا هذه الآيات وفهمناها نكون قد أدركنا خصائص القرآن بشكل أجود ، وأكثر إحاطة ، وأقرب إلى السهولة ، مع ملاحظة أننا سنذكر إن شاء الله مع كل خاصية دليلها والبرهان عليها ليطمئن قلب الشاك ، ويرتاح قلب المؤمن بالعلم الذي لا يدحض {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} الحج : 54 .

    - 1 -

    يتصور بعض الناس الذين يقرأون القرآن من أهله ومن غير أهله ، أن السورة القرآنية لا تشكل وحدة متناسقة مترابطة ، وأنه لا صلة بين الآيات وإن كانت هناك صلة بين بعض آيات السورة ، فإن السورة ككل فاقدة هذا التماسك ، وكما يتصورون هذا التصور في السورة الواحدة يتصورونه بشكل أكبر بالنسبة للقرآن كله ، ولسورة كلها فلا رابطة بني السورة والسورة ولا رابطة بين سور القرآن عامة .

    وهذا التصور أقل ما يقال فيه ، إنه تصور فاسد يقوم على جهل كبير ، وعلى بساطة في الفكر وضحالة في النظر . فما كان القرآن ليكون كذلك ، وقد رتب الله آياته في السورة الواحدة ورتب الله سوره على الشكل الذي نراه . فإن السيد الرسول صلى الله عليه وسلم كان يؤمر بأن يضع الآية في مكانها من السورة ، والسورة في مكانها من القرآن ، فترتيب الآيات في السورة الواحدة بوحي ، وترتيب السور في القرآن بوحي ، والله عز وجل حكيم علي ، وقد وصف كتابه بأنه علي وحكيم ، {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} الزخرف : 4 .

    فلا يكون كلام غير الله أكثر ترتيباً ، وأكثر انسجاماً من كتاب الله . وسنذكر هنا نموذجين من الأمثلة . نموذجاً نتبين فيه ترابط السورة القرآنية وتناسقها ، ونموذجاً نبين فيه الصلاة بين سور القرآن عامة ، وإن في كتابنا " الأساس في التفسير " لمزيد بيان .

    النموذج الأول

    افتح المصحف على سورة ( ق ) وتأمل :

    تبدأ السورة هكذا :

    {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُواْ أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ منْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَـذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضَ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} .

    تبدأ السورة بمقدمة هي الآية الأولى ثم يأتي حرف " بل " ثم حديث عن الكافرين وتعجبهم من بعثة منذر ينذرهم بالبعث بعد الموت . واستبعادهم لهذه المسألة ، ثم يأتي الرد عليهم أنه وإن أصبحوا تراباً فإن الله يعلم ما أخذته الأرض منهم . وإذا كان علم الله كذلك فلا استبعاد لخلقهم مرة ثانية . إذن بإيجاز مقنع ذكر هذا المقطع من السورة إشكالاً للكافرين وردّ عليه فانتهى بذلك المقطع من السورة ليبدأ مقطع جديد والملاحظ في المقطع الجديد أنه كذلك مبدوء بكلمة " بل " كما بدأ المقطع الأولى بكلمة " بل " وفيه حديث عن تصورات للكافرين وردّ عليهم فشأنه شان الأول يقول :

    {بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ} ق : 5 .

    هذا موقف الكافرين من الوحي الذي أنذرهم به الرسول ، فيما له علاقة باليوم الآخر ويأتي الرد : {أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ * رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ }. ق : 6 – 11 .

    هذا الجزء الأول من الرد ، وفيه لفت نظرهم القرآن إلى الكون ليتعرفوا فيه على الله وقدرته ، حتى أوصلهم إلى رؤية إحياء البلد الميت بالمطر ، والنبات يكون ميتاً ينزل عليه المطر فيحيا و ... كذلك الخروج ، بهاتين الكلمتين اللتين تأتيان بعد لفت النظر هذا ؛ يأتي الرد المفحم لهؤلاء الذين استبعدوا بعث الإنسان وكذبوا رسول الله .

    ولا زلنا حتى الآن في المقطع الثاني :

    {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُّبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ * أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ} ق : 12 ، 15 .

    رأينا في بداية هذا المقطع {بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ} ورأينا الرد الأول ، تتمة الرد يذكر القرآن مشيراً : كما كذب هؤلاء فقد كذب غيرهم .. وبعد أن يعرض علينا هوية المكذبين . يجعلنا نتعجب ونستنكر تكذيبهم ويقيم الحجة عليهم بكلمة { أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ} إذا كان الله خالق الإنسان أول مرة ولم يعجزه ولم يتعبه أفيعجز أن يخلقكم مرة ثانية ؟ .

    وبذلك ينتهي المقطع الثاني ليبدأ المقطع الثالث ويلاحظ كذلك أنه مبدوء بكلمة " بل " كما بدأ المقطعان الأول والثاني ، وفيه حديث عن نفس المضمون يقول :

    { بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } ق : 15 . الكافرون شاكون في خلقهم مرة ثانية ويأتي الرد على مرحلتين كل مرحلة مبدوءة بكلمة " ولقد " كما كان الجواب في المقطع الأول مبدوءاً بكلمة " قد " عند قوله {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضَ مِنْهُمْ} .

    يقول :

    {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشمَالِ قَعِيدٌ * مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَق ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمَ الْوَعِيدِ * وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ * لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ منْ هَـذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ * وَقَالَ قَرِينُهُ هَـذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَّنَّاعٍ للْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَـهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ لشَّدِيدِ * قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ وَلَـكِن كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ * قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ للْعَبِيدِ * يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَـذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُل أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَـنَ بِالْغَيْبِ وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ ذَلِكَ يَوْمُ الُخُلُودِ * لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ * وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُواْ فِي الْبِلاَدِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } ق : 16 – 37 .

    وبهذا تنتهي المرحلة الأولى من الرد على شكهم ، وهي مرحلة تذكر بخلق الإنسان . وعلم الله بكل ما يجول بخاطره . ورقابة الملائكة على الإنسان ، وتذكير الإنسان بالموت ، وبالمصير الفظيع الذي أعد للكافر ، وبالمصير المشرق المعد للمؤمن التقي . وإن هذا وعد من الله للمؤمن . وتختم هذه المرحلة بالإعلان أن الإنسان ذا القلب وأن الإنسان الذي يصغي بتدبر ، يكفيه هذا البيان ليتذكر . وتبدأ المرحلة الثانية من الرد وتستمر حتى نهاية السورة .

    { وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ * وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ * إِنَّا نَحْنُ نُحْيِـي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ * نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ } ق : 38 – 45 .

    تذكر هذه الفقرة بأن الله خالق السماوات والأرض وما فيهما في مدة قصيرة بلا تعب ، وفي هذا الكلام ردّ مقنع على الشك ، هذا الإله لا يعجز عن إعادة الإنسان مرة ثانية .

    وهل شك الإنسان في محله ؟

    وفي الفقرة أمرة للرسول صلى الله عليه وسلم بالصبر على أقوالهم – الآنفة الذكر – التي رأيناها في المقطع الأول {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ} وفي المقطع الثاني : {بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ} وفي المقطع الثالث : {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} والعبادة لله ويؤكد أن يوم القيامة آت وأنهم محشورون وأن الله يعلم أقوالهم وأنم مهمته أن يذكرهم . فخاتمة السورة إذن تخاطب النبي وتعلمه كيف ينبغي أن يكون موقفه .

    وكما ترى من استعراض هذه السورة . فإن التناسق والترتيب والوحدة والتكامل كل هذه موجودة بشكل واضح في السورة . فإذا ما أتى إنسان مغرض أو معرض . وقال : إنه لا رابط بين الآيات في السورة الواحدة ، فإنه لا شك يدلل على فساد ذوقه ، وعمى بصيرته ، وليس ذلك بضار القرآن شيئاً .

    ولعل هذا المرور الخاطف على هذه السورة وضح لنا تناسق السور القرآنية ووحدتها وانسجامها وترابطها ، وهذا الذي رأيناه هنا نستطيع أن نراه في كل سورة قرآنية من الفاتحة إلى سورة الناس بما في ذلك السور الكبيرة كالبقرة وآل عمران .. ونتيجة لهذا القول نقول : إن الترتيب في كل سورة من سور القرآن كائن بشكل معجز فهو مع كماله في بابه لا يستطيع أن يدركه إلا إنسان بلغ الذروة في نضح التأمل . فهل يمكن أن يكون هذا وليد بيئة أمية ؟ .

    النموذج الثاني

    والآن ننتقل لإثبات الأمر الآخر :

    إن القرآن كله مترابط فيما بينه ، يشكل وحدة منتظمة مترابطة .

    أول سورة من سور القرآن هي الفاتحة ويلاحظ أنها أوجزت معاني القرآن كله . فمعاني القرآن كلها تدور حول العقائد ، والعبادات ، ومناهج الحياة ، والسورة بدأت بالعقيدة {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ * مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وثنت بالعبادات {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وثلثت بمناهج الحياة { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } وبينت أخيراً أن منهاج المسلمين متميز {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضَّآلِّينَ} ويلاحظ أن آخر فقرة فيها مبدوءة بكلمة { اهْدِنَا } ويأتي في أول سورة البقرة {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } فالرابطة إذن بين سورة الفاتحة والبقرة والقرآن كله واضحة .

    ننتقل الآن إلى سورة البقرة والسورة التي تليها إلى سورة يونس وهي المسماة بالسبع الطِوَل : البقرة ، وآل عمران , والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال ، والتوبة ، لنرى هل هناك رابطة بين هذه السور :

    نظرة على سورة البقرة نلقيها ترينا :

    1 - أن السورة مبدوءة بأحرف {الم} ويأتي بعدها عشرون آية تتحدث عن أقسام الناس في المصطلح القرآني . متقين ، وكافرين ، ومنافقين ، وتصف كلاً من هؤلاء .

    2 – تأتي بعد ذلك خمس آيات مبدوءة بكلمة {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} وفيها دعوة إلى الناس جميعاً أن يكونوا من الفئة الأولى " المتقين " وإن طريق التقوى هو عبادة الله ، وتصف الآيات مظاهر قدرة الله ، وكون القرآن لا شك فيه ، ومصير الذين لا يسلكون هذا السبيل ومصير الذين يسلكونه .

    3 – تأتي بعد ذلك ثلاث آيات تتحدث عن الله عز وجل والقرآن ، وموقف المهتدين منه ، وضلال الضالين به وصفاتهم {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} ومناقشة من يكفر بالله عز وجل .

    4 – تأتي بعد ذلك آية مبدوءة بكلمة { هُوَ } تتحدث عن الله أنه خلق كل شيء في الأرض للبشر .

    5 – تأتي بعد ذلك عشر آيات تتحدث عن قصة آدم عليه السلام ، ونزوله إلى الأرض وتختم بالقاعدة التي تحاسب عليها البشرية { فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .

    6 - {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} ثم تأتي آية مبدوءة بكلمة {يَسْأَلُونَكَ} الآية فيها استفتاء من الصحابة عن قضية لها علاقة بالقتال ثم تفصيلات في أمور كثيرة . حتى تختم السورة . ومن السهل جداً على دارس السورة أن يجد وحدتها ، وليس هذا ما نريده الآن بل نريد إثبات الصلة بين هذه السورة والسور الست التي تليها .

    ولعلك تدهش إذا قلنا لك إن السور الست الطٍوَل التي تأتي بعدها إنما تشرح وتفصل هذه المقامات التي ذكرناها لك بشكل واضح لا يلتبس على المتأمل . وهي تشرح هذه المقامات بالتسلسل الموجود في سورة البقرة وكأن هذه المقامات تحتاج إلى زيادة إيضاح فجاءت كل سورة تشرح كل واحدة منها مقاماً وهاك الدليل :

    1 – سورة البقرة مبدوءة بأحرف {الم} وسورة آل عمران مبدوءة بنفس الأحرف . سورة البقرة مبدوءة بآية { ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ } . سورة آل عمران مبدوءة بهاتين الآيتين { اللَّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } .

    العشرون آية الأولى في البقرة تتحدث عن المتقين والكافرين والمنافقين . سورة آل عمران كلها توضح ملامح هذه الفئات الثلاث ، والحدود التي ينبغي أن تقف عليها الجماعة المسلمة في علاقتها مع الفئتين الأخريين .

    2 – بعد العشرين آية من سورة البقرة تأتي الآية المبدوءة بـ {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} والتي تبين للإنسان طريق التقوى وأن التقوى هدف { اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .

    وتأتي سورة النساء بعد سورة آل عمران مبدوءة بآية :

    {ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } . نفس النداء . نفس المعاني . وكأنك عندما تدرس سورة النساء إنما تدرس التقوى طريقاً وسلوكاً .

    3 – وبعد هذه الآيات تأتي الآيات التي تتحدث عن نقض العهد . وتأتي بعد سورة النساء سورة المائدة وهي مبدوءة بالأمر بالوفاء بالعقود {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} وفي السورة أكثر من آية تذكر العهود .

    {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} وكأن السورة تذكر المعاني الأساسية للعهود الأساسية التي من تمسك بها اهتدى بهدي القرآن وإلا ضلّ .

    4 – وبعد آيات سورة البقرة هذه تأتي الآية {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} وتأتي بعد سورة المائدة سورة الأنعام التي تتردد فيها كلمة { هُوَ } { هُوَ } مرات كثيرة . الآية الثانية {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ} والآية ( 19 ) {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} والآية ( 61 ) {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ} و ...

    وهكذا مرات ، وآخر آية في السورة تكاد تكون معنى حرفياً لآية سورة البقرة {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} فكأن سورة الأنعام كها تفصيل لمجمل الآية في سورة البقرة .

    5 – وتأتي بعد ذلك في سورة البقرة قصة آدم ، وتنتهي بالقاعدة التي ذكرناها {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ .. } وتأتي بعد سورة الأنعام سورة الأعراف والآية الثانية فيها {اتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ} والآية الأولى فيها تقول {المص * كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } .

    وتأتي بعد ذلك قصص عن أمم وكيف كان موقفهم من الهدى المنزل عليهم فكأن السورة كلها عرض عملي وتاريخي ومناقشة في جو القاعدة التي انتهت بها قصة آدم في سورة البقرة .

    6 – وكما أنه بعد آية القتال في سورة البقرة تأتي كلمة {يَسْأَلُونَك} وفيها استفتاء عما له علاقة بالقتال ، فإن سورة الأنفال بعد الأعراف مبدوءة بكلمة {يَسْأَلُونَك} .

    والسورة كلها والسورة التي بعدها وهي سورة " التوبة " تتحدثان عن القتال وأدب الحرب ، ويلاحظ أن السورتين في القرآن مكتوبتان بلا فاصل " البسملة " فكأن السورتين شرح وتوضيح للفريضة التي ذكرها الله في سورة البقرة .

    ونظن أن قد وضحت الرابطة التي تربط هذه السور فيما بينها .

    ولكنك سترى أعجب إن شاء الله تعالى إذا درست تفسيرنا " الأساس في التفسير " .

    ونستطيع ههنا أن نضع أسس نظرية في موضوع الوحدة القرآنية فنقول :

    إن كل مجموعة سور من القرآن تشكل كلاً متكاملاً ، وهذه المجموعات كلها إنما تفصل المعاني التي ذكرتها سورة البقرة على الترتيب مع تبيان وتوضيح وتفصيل ، وقد رأينا مثالاً على ذلك ، ويلاحظ أن كل مجموعة من السور قد عرض الأسس النظرية والعملية للإسلام ، بحيث إن من يقرأ أي مجموعة من هذه المجموعات ، يتذكر بكل الحقائق الأولية في الإسلام . كما يلاحظ أن كل مجموعة من هذه المجموعات قد عرضت هذه الحقائق بلغة وطريقة عرض ونغمة جرس تختلف عن الأخرى ، مما يبهر الإنسان ولا يستطيعه مخلوق : أن تعرض قضيةً واحدة على عشرات الأوجه وبطرق كثيرة من العرض . المعاني في البقرة مرتبة ترتيباً معيناً ، ثم كل مجموعة سور تشكل وحدة تعرض المعاني القرآنية على ترتيب عرضها في سورة البقرة ، هذه المجموعات تتدرج في الغالب من الطول إلى القصر ، كل وحدة تذكر الإنسان بالمعاني الأساسية بطريقة عرض تختلف عما قبلها . ولو تأملت سورة العصر فما بعدها لرأيت نفس ترتيب العرض في سورة البقرة مع فارق القصر ، فهل يمكن أن يكون هذا من عند بشر !

    ولعلنا استطعنا بفضل الله بعد ما تقدم توضيح هذه الآيات التي وصف الله بها كتابه :

    1 – {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} هود : 1 .

    2 – { كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ } . الزمر : 23 .

    3 – {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ} {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} فبسبب ما رأيناه كان القرآن مفصلاً ، وكان متشابهاً ، وكان مثاني ، وكان مذكراً ؛ لأن كل جزء منه يذكر بما ينبغي أن يتذكره الإنسان . وبمثل هذا وبمثل ما يأتي بعدُ كان هذا الكتاب على غاية الحكمة ولا يعلوه كتاب أبداً عرفه البشر .

    - 2 -

    ومن خصائص هذا القرآن التي تشير إلى ربانية مصدره ، ما أشار إليه القرآن بقوله :

    {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} . {لَّـكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} .

    لقد أخبر الله في الآية الأخير أنه سيكشف للناس خفايا هذا الوجود ، ودقائق هذا الإنسان وأن الكشف فيه دليل صادق على أن القرآن حق ، إذ ما سيعرفه الإنسان سيطابق ما في القرآن وهذا لا يكون إلا إذا كان منزل القرآن هو الله العالم بأسرار السماوات والأرض ولئن كانت الآية الأخيرة نبوءة كاملة في حد ذاتها ، تحققت بما كشف الإنسان حتى الآن فإن ما سنذكره من أمثلة سيكون برهاناً كاملاً على نسبة القرآن لله جل جلاله :

    لقد تحدث القرآن بلغة واضحة عن كثير من القضايا الكونية ، مما لم يكن معروفاً قطعاً قبل أربعة عشر قرناً في أي مكان من العالم ، فضلاً عن أن يكون معروفاً وفي جزيرة العرب حيث الأمة الأمية ، التي كانت معارفها عن الكون محدودة وسطحية ، فكان حديث المحيط بسر كل شيء . ولكما تقادم الزمان أكثر ظهرت دقة القرآن أكثر . فيصبح الإنسان أمام الحقيقة التي لا شك فيها أن خالق الكون ومنزل القرآن واحد ، الله رب العالمين ، وهذه أمثلة وفي القرآن المزيد لمستزيد :

    أ – قال الله تعالى :

    {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ} النحل 66 .

    يقول العلم اليوم إن الحليب قبل أن يصبح في الثدي ، يمر على عمليتي تصفية . الأولى تصفيته من الفضلات وذلك بعد الهضم ونزول السائل الحليبي إلى الأمعاء ، إذ تقوم الزغيبات المعوية بامتصاص المواد الغذائية طارحة إياها في الدم ومبقية الفضلات في المعدة حيث تطرح خارج الجسم . وأما المواد الممتصة التي طرحت في الدم فإن قسماً منها يغذي جسم الكائن الحي ، وقسماً آخر تصفيه الغدد اللبنية من الدم وترسله إلى الضرع حليباً خالصاً سائغاً للشاربين .

    إذن قال العلم هذا الحليب يصفى أولاً من الفضلات ثم من الدم .

    وقال القرآن { مِن بَيْنِ فَرْثٍ } والفرث هو الفضلات { وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً ... } .

    وهذه الحقيقة العلمية التي يذكرها القرآن هنا عن خروج اللبن من بين فرث ودم لم تكن معروفة لبشر وما كان بشر في ذلك العهد ليتصورها فضلاً عن أن يقررها بهذه الدقة العلمية الكاملة ، وما يملك إنسان يحترم عقله أن يماري في هذا أو يجادل ، ووجود حقيقة واحدة من نوع هذه الحقيقة ، يكفي وحده لإثبات الوحي من الله بهذا القرآن .

    ب - قال تعالى :

    {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَآءِ} الأنعام 125 .

    " منذ اكتشاف الطبقات العليا من الجو بفضل الطيران والبالونات ، استطعنا أن ندرك ظاهرة كونية تنتج عن نقص أوكسجين الهواء في طبقات الجو العليا ، إذ يشعر الصاعد في هذا العلو ببعض الصعوبة في التنفس ويحس بالضيق ، والآية القرآنية صرحت بأن من يرتفع في السماء يشعر بعوارض الضيق ، ولذلك يستعمل الطيارون الذي يصعدون إلى الارتفاعات العالية أجهزة التنفس الصناعية حتى يتفادوا هذه الحالة ولقد لفتت هذا الظاهرة نظرة هواة التسلق حتى قبل ارتياد الطبقات الجوية العليا . ويلاحظ أن الآية لم تعبر عن لفظ الصعود في الجبال بل عبرت عن الصعود في السماء . كما أن بلاد العرب ذات سطح منبسط وصحارى ممتدة وليس فيها جبال عالية بحيث يأخذ الساكن فيها فكرة عن تسلق الجبال وما يشعر المتسلق فيها من ضيق " .

    ج – قال تعالى :

    {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} الذاريات : 49 .

    وقال : {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَق الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} يس : 36 .

    القاعدة في اللغة العربية أن ( كل ) إذا أضيفت إلى معرفة عممت أجزاءها وإذا أضيفت إلى نكرة عمت أفرادها ، وفي الآية الأولى أضيفت ( كل ) إلى نكرة لذلك تعمم جميع الأشياء .

    يقول صاحب ظلال القرآن " وهذه حقيقة عجيبة تكشف عن قاعدة الخلق في هذه الأرض وربما في هذا الكون ، إذ إن التعبير لا يخصص الأرض قاعدة الزوجية في الخلق وهي ظاهرة في الأحياء ولكن كلمة شيء تشمل غير الأحياء أيضاً ، والتعبير يقرر أن الأشياء كالأحياء مخلوقة على أساس الزوجية ، وحين تتذكر أن هذا النص عرفه البشر منذ أربعة عشر قرناً وأن فكرة عموم الزوجية حتى في الأحياء لم تكن معروفة حينذاك فضلاً على عموم الزوجية في كل شيء حين نتذكر هذا نجدنا أمام أمر عجيب عظيم وهو يُطلعنا على الحقائق الكونية في هذه الصورة العجيبة المبكرة كل التبكير .

    كما أن هذا النص يجعلنا نرجح أن البحوث العلمية سائرة في طريق الوصول وهي لا تكاد ...

    إن بناء الكون كله يرجع إلى الذرة وأن الذرة مؤلفة من زوج من الكهرباء موجب وسالب .

    د – قال تعالى :

    {ياأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ} الحج : 5 .

    وقال : {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} المرسلات : 20 ، 23 .

    وقال : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } المؤمنون : 12 – 14 . وقال : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} العلق : 22 .

    " يتم الإخصاب بين الحيوان المنوي للرجل وبويضة المرأة في أعلى القناة الواصلة بين المبيض والرحم ، فيبدأ الجنين خلية واحدة ولكن الإنسان كله بكل عناصره وخصائصه يكون مختَصراً في تلك الخلية الواحدة ، ثم تنحدر في اتجاه الرحم مستغرقة في رحلتها ما يقارب الأسبوع ، تكون خلاله قد تكاثرت حتى أصبحت كتلة من الخلايا تلتصق هذه الكتلة بجدار الرحم فتنهشه ربما بواسطة أنزيمات معينة حتى تعلق به كنقطة صغيرة تتغذى على دم الأم ، وليس أدق من كلمة العلق في وصف شكل ونشاط الجنين في هذه المرحلة ثم تأخذ هذه العلقة في النمو ، وتأخذ خلاياها في التنوع ، ويكون شكلها مستديراً بغير انتظام ، وتبقى كذلك بضعة أسابيع يكون الدم فيها في ( برك ) صغيرة لا في شرايين محددة ، إن شكلها لا يختلف عن شكل قطعة من اللحم الممضوغ وإن كان طولها لا يتعدى بضعة مليمترات .

    ثم ينشأ طراز من العظم أكثر شفافية وأقل صلابة وأشد رخاوة من العظم العادي هو الغضروف الذي تترسب حوله مادة العظم فيما بعد ، وتنشط الخلايا في كافة أجزاء المضغة مكونة الأنسجة والأجهزة التي تكسو العظام المتكونة لحماً " .

    وهنا يقف الإنسان مدهوشاً أمام ما كشف عنه القرآن من حقيقة في تكوين الجنين لم تعرف على وجه الدقة إلا أخيراً بعد تقدم علم الأجنة التشريحي . وذلك أن خلايا العظام هي التي تتكون أولاً في الجنين ، ولا تشاهد خلية واحدة من خلايا اللحم إلا بعد ظهور خلايا العظم ، وتمام الهيكل العظمي الغضروفي للجنين . وهي الحقيقة التي يسجلها النص القرآني { مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً} فسبحان العليم الخبير .

    في كل المراحل السابقة لا توجد فروق بين جنين الإنسان وجنين الحيوان ولكن ما أن يوشك الشهر الثاني للحمل على الانتهاء حتى تتضح الخصائص الإنسانية لهذا الجنين فإذا به خلق آخر ...

    إن الجنين الإنساني مزود بخصائص معينة هي التي تسلك به طريقه الإنساني فيما بعد ، وهو ينشأ { خَلْقاً آخَرَ } في آخر أطواره الجينية بينما يقف الجنين الحيواني عند التطور الحيواني لأنه غير مزود بتلك الخصائص . ومن ثم فإنه لا يمكن أن يتجاوز الحيوان مرتبة الحيوانية فيتطور إلى مرتبة الإنسان تطوراً آلياً كما تقول النظريات المادية ، فهما نوعان مختلفان اختلفا بتلك النفخة الإلهية التي بها صارت سلالَةٌ من الطين إنساناً . واختلفا بعد ذلك بتلك الخصائص المعينة الناشئة من تلك النفخة التي ينشأ بها الجنين الإنساني خلقاً آخر ، إن الإنسان والحيوان يتشابهان في التكوين الحيواني ، ثم يبقى الحيوان حيواناً في مكانه لا يتعداه ، ويتحول الإنسان خلقاً آخر قابلاً لما هو مهيأ له من الكمال بواسطة خصائص مميزة وهبها له الله عن تدبير مقصود لا عن طريق تطور آلي من نوع الحيوان إلى نوع الإنسان {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ }.

    وإن الناس ليقفون دهشة أمام ما يسمونه " معجزات العلم " حين يصنع الإنسان جهازاً يتبع طريقاً خاصاً في تحريكه دون تدخل مباشر من الإنسان . فأين هذا من سير لجنين في مراحله تلك وأطواره وتحولاته ، وبين كل مرحلة ومرحلة فوارق هائلة في طبيعتها وتحولات كاملة في ماهيتها ؟

    غير أن البشر يمرون على هذه الخوارق مغمضي العيون مغلقي القلوب . لأن طول الألفة أنساهم أمرها الخارق العجيب ، وأن مجرد التفكير في أن الإنسان هذا الكائن المعقد كله ملخص وكامن بجميع خصائصه وسماته وشياته في تلك النقطة الصغيرة التي لا تراها العين المجردة ، وإن تلك الخصائص والسمات والشيات كلها تنمو وتتفتح وتتحرك في مراحل التطور الجنينية حتى تبرز واضحة عندما ينشأ خلقاً آخر . فإذا هي ناطقة بارزة في الطفل مرة أخرى . وإذا كان الطفل يحمل وراثاته الخاصة فوق الوراثات البشرية العامة . هذه الوارثات وتلك التي كانت كامنة في تلك النقطة ..

    إن مجرد التفكر في هذه الحقيقة التي تتكرر كل لحظة لكافٍ وحده أن يفتح مغاليق القلوب على ذلك التدبير العجيب الغريب .

    كل هذا يتم في القرار المكين الذي هو الرحم وأن من يدرس تشريح الرحم وموضعه المكين الأمين في أسفل بطن المرأة ويرى ذلك الوعاء ذا الجدار العريض السميك ، ثم يرى هذه الأربطة العريضة ، والأربطة المستديرة ، وهذه الأجزاء من البريتون التي تشده إلى المثانة والمستقيم ، وكلها تحفظ توازن الرحم وتشد أزره وتحميه من الميل أو السقوط . تطول معه إذا ارتفع عند تقدم الحمل ، وتقصر إلى طولها الطبيعي تدريجياً بعد الولادة . إن من يدرس كل ذلك يعرف تكوين الحوض وعظامه يعرف جيداً صدق قوله تعالى :

    { ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ} المؤمنون : 13 .

    هـ - {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} الحجر : 22 .

    {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} النور : 43 .

    " إن العوامل المسببة للأمطار محورها الكهربائية الجوية وقد أشير إليها إشارات واضحة كما سنرى في هاتين الآيتين ، كما ضمت الآيتان معاني أخرى .

    لقد كان الناس قبل يحملون وصف الرياح " باللواقح " على أنها لواقح للزرع والشجر وهذا منهم إغفال للنصف الثاني من الآية . إذ لو كان ما ذهبوا إليه هو المراد لترتب عليه إزكاء الزرع وإخراج الثمر للناس يأكلونه لا إنزال الماء من السماء يشربونه ، أما وقد رتب الله على إرسال الرياح لواقح إنزال الماء من السماء يسقاه الناس فقد تحتم أن يكون "" للواقح " معنى آخر غير معنى تلقيح الزرع ويكون مع ذلك – من ناحية – شبيهاً بلقاح الأحياء من زروع وحيوان ، ومن ناحية أخرى يكون بينه وبين نزول الماء ما بين العلة والمعلول ، أو السبب والمسبب ، وما عليك الآن إلا أن تتذكر بعض الحقائق العلمية حتى ترى سر الإعجاز في الآية :

    إن تكاثف السحاب مطراً أثر عن الكهربائية ، إذ من السحاب ما كهربائيته سالبة ، ومنه ما كهربائيته موجبة ، والرياح هي أداة اتحاد أنواع السحب حتى يتكون المطر . وهذا هو المراد كما هو ظاهر في الآية من وصف الرياح بأنها لواقح .

    فالملاقحة هنا بين قطيرات أو بين سحاب وسحاب والشبه تام بين التلقيح الكهربائي والتلقيح النباتي ، فكما تتحد الخليتان في حالة التلقيح النباتي لتنشأ بعد ذلك خلية واحدة لها غير خواص الخليتين الأصليتين فكذلك في حالة اتحاد سحاب وسحاب إذ ينشأ عنها برق ورعد ومطر ، إذ ينزل المطر كأثر عنه التفريغ الكهربائي السحابي .

    فآية الحجر تلك هي مظهر من مظاهر الإعجاز المتجدد للقرآن لأن تلاقح السحاب وأثره في نزول المطر أمر كان يجهله الإنسان حتى كشف عنه العلم الحديث .

    ثم زادت آية النور الإعجاز {سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} فإن التأليف بين السحاب ما هو إلا إشارة واضحة بل وصف دقيق للتقريب بين السحاب المختلف الكهربائية حتى يتجاذب ويتعبأ في الجو تعبئة تتفق مع ما سيخلق من برق وصواعق ومن مطر أو برد .

    فإذا كان السحاب المتجاذب بعضه فوق بعض نشأ السحاب الركام عظيماً ، فإذا حدث التفريغ داخل السحاب بين بعض تلك الطبقات وبعض – كما هو الغالب – نزل المطر الناشيء عن التفريغ من خلال الطبقات الدنيا ، وتكبر قطراته أثناء نزولها بما تستلحقه من القطيرات وهو الودق ، فإذا بلغت الحالة الجوية الكهربائية في ذلك السحاب الركام من القوة والاضطراب ما يسمح بوقوع تلك الظاهرة الغريبة ظاهرة تردد بلورات الماء بين منطقتين ثلجية علوية ومطرية سفلية تكون البرد ونما حتى يصير أثقل من أن يظل في أسر تلك القوى فيسقط على الأرض والإنسان لا يعرف كثيراً عن الظروف التي يتكون فيها البرد ولكنه يعرف أنها ظروف يسودها اضطراب جوي عظيم . هذا الاضطراب قد أشارت إليه الآية وإلى طبيعته إشارتين :

    الأولى : حين شبهت السحاب الركام الذي يتكون البرد داخله بالجبال . ومشهد السحاب كالجبال لا يبدو كما يبدو لراكب الطائرة وهي تعلو فوق السحب أو تسير بينها ، فإذا المشهد مشهد الجبال حقاً بضخامتها ومساقطها وارتفاعاتها وانخفاضاتها وأنه لتعبير مصور للحقيقة التي لم يرها الناس إلا بعد ما ركبوا الطائرات .

    والثانية : حين أشارت إلى عظم القوى الكهربائية المشتركة في تكوينه بنصها على عظم برقه وشدته وبلوغه من الحرارة درجة الابيضاض أو ما فوق ذلك {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} النور : 43 .

    و - {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً} الفرقان : 45 ، 46 .

    نحن نعلم أن الجو هو تراكب طبقات متتابعة ، تقل فيها بينها كثافة الهواء ابتداء من الأرض ، وفي وسط كهذا يجب أن يكون مسلك الشعاع الضوئي منحنياً طبقاً للقانون الثاني للعالمين ( الهيثم – ديكارت ) وهو قانون الانكسار ... إن قانون ( الهيثم – ديكارت ) يقول بأن الشعاع الضوئي الذي ينتشر في مجال ذي كثافة متغيرة باستمرار يخط في مسيره خطأ منحنياً ذا تجويف متجه نحو النقط الأكثر كثافة وفي هذا المجال يقبض الظل " قبضاً يسيراً " بالنسبة لما قد يكون عليه في الفراغ الذي لا يوجد فيه انكسار . ذلك توافق عظيم بين ما كشفه الإنسان مما لم يكن معروفاً زمن تنزل القرآن وبين القرآن .

    ز - {وَالسَّمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} الذاريات : 47. وهكذا يبدو الكون من خلال الآية – بسبب استعمال اسم الفاعل " موسع " الذي يفيد الاستمرار في هذه الحالة – وكأنه في حالة توسع مستمر وكأنه يزداد على الدوام ، هذه المسألة أصبحت الآن من مسلمات العلوم وهي التي هالت (انشتين) عندما اكتشف عالم الطبيعة (هابل) أن الكواكب السديمية تبتعد عن (سديمنا) واستنبط عالم الرياضة البلجيكي (لسومتر) من ذلك نظرية امتداد الكون ، أو ليس عجيباً مذهلاً أن يضع الوحي دائماً معالمه المضيئة أمام الفكر العلمي حتى كأنها تصف له الطريق وهل يستطيع أحد أن يقول بأن معالم كهذه قد انبثقت من عقل أمي .

    ح - {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} النمل 88 .

    {يُغْشِي الْلَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} الأعراف 54 .

    إن في هاتين الآيتين إشارتين واضحتين إلى موضوع دوران الأرض ، الآية الأولى تلفت النظر إلى أن الإنسان لأول وهلة يرى الجبال ثابتة ، ولكنها في واقع الأمر تسير تبعاً لسير الكرة الأرضية ذاتها ويذهب بعض المفسرين إلى أن الآية في حديث الآخرة ولكن نهايتها : {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} تدل على أنها في عالمنا هذا .

    والآية الثانية تشير إلى نفس المعنى وإن كانت الإشارة أبعد وذلك :

    لنفرض أن الشمس والأرض ثابتتان إذن يكون قسم من الأرض نهاراً دائماً وآخر ليلاً دائماً ، فإذا ما فرضنا أن الشمس هي التي تدور حول الأرض فإنه في هذه الحالة يكون المنبع الضوئي هو المتحرك وإذن فالنهار هو السائر والليل تابع .

    وعلى عكس ذلك في حالة دوران الأرض فالمنبع الضوئي ثابت نسبياً أي بالنسبة للأرض – وإن كان هو في حد ذاته متحركاً ، وفي حالة ثبات المنبع الضوئي يكون الليل هو السائر وحركة النهار تابعة وهذا الذي ذكرته الآية إذ قالت : {يُغْشِي الْلَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} فالليل هو الذي يطلب النهار ولا يكون هذا إلا إذا كانت الأرض هي التي تدور حول نفسها ، ولزيادة التوضيح نقول : إذا عمل الفعل – في اللغة العربية – بمفعولين ليس أصلهما مبتدأ وخبر . فالأول منهما يكون فاعلاً في المعنى والثاني مفعولاً ، ولا يصح تقديم ما هو مفعول في المعنى على ما هو فاعل بالمعنى في حالة وجود اللبس وآية : {يُغْشِي الْلَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} عمل فيها الفعل يغشي بمفعولين كل منهما يصلح أن يكون فاعلاً ومفعولاً . فلا بد إذن أن الفاعل في المعنى يكون هو المقدم فلما قال الله عز وجل {يُغْشِي الْلَّيْلَ النَّهَارَ} دل على أن الليل هو الفاعل في المعنى وهو الفاعل فيقوله عز وجل : {يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} يقول ابن مالك :

    والأصل سبق فاعل معنى كمن من ألبسن من زاركم نسج اليمن
    ويلزم الأصل لموجب عرى وترى ذاك الأصل حتما قد يرى

    ط – والآيات القرآنية في هذا المعنى كثيرة لمن أراد أن يتتبّع وكلها تشير إلى شيء واحد : إن هذا القرآن لا يمكن أن يكون من عند بشر فإنك إذ تجد في كلمتين حقيقة علمية ما عرفها الناس إلا في زمن متأخر تصبح أمام شيء خارق جداً جداً .

    فعندما يقول : {وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً} تجد نفسك أمام أدق النظريات الجيولوجية التي تقول بأن للجبال جذوراً وتدية في الأرض يعدل امتدادها ضعفي ارتفاع الجبل عن الأرض .

    وعندما يقول {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} تجد نفسك أمام أدق النظريات الجيولوجية التي تعب العلم حتى وصل إليها وهي أن الاضطرابات تسبق البركان وإن باطن الأرض أثقل من قشرها وإن كانت الآية لم تأت لبيان هذا ولكنها مع هذا لم تتناقض مع النظريات العلمية .

    وعندما يقول في قراءة صحيحة :

    {وَجَعَلَ فِيهَا سُِرُجاً} عن السماء تجد نفسك أمام حقيقة عملية غير متوقعة فالسراج في اصطلاح القرآن الشمس وفي الماضي لم تكن تعرف إلا شمس واحدة وإذا بالعلم اليوم يقول هذه النجوم كلها شموس .

    وعندما يقول :

    {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَـا} تجد نفسك أمام أدق الحقائق عن الشمس التي تبين أخيراً أنها تشارك مجرتها في دورتها وتدور حول نفسها وهي مع هذا تسير في اتجاه عامودي نحو كوكبة الجاثي ويتوقع العلم حدوث حالة ما لها في يوم من الأيام .

    وعندما يقول :

    {يُكَوِّرُ اللَّيْـلَ عَلَى النَّهَـارِ وَيُكَوِّرُ النَّـهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} الزمر . تجد نفسك أمام مسألة كروية الأرض إذ التكوير إنما يكون للشيء الدائري ، كما تجد نفس المعنى في قوله : {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} فالأدحية والأدْحُوَة بيض النعام .

    وعندما يقول :

    {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} النحل : 15 . تجد نفسك أمام الحقيقة العلمية التي تقول : إنه لولا الجبال لكانت قشرة الأرض في حالة تشقق دائم ، وبالتالي في حالة ميدان واضطراب شديدين .

    وعندما يقول :

    {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا} الأنبياء : 30 .

    تجد نفسك أمام ما كشفه العلم بعد زمن في كلا تفسيري الآية سواء فسرنا " رتقاً " بأنهما كانتا شيئاً واحداً وهذا ينسجم مع أدق النظريات العلمية خاصة السديمية أو فرسنا " رتقاً " بأن الأرض كانت لا تنبت والسماء لا تمطر وهذا ينسجم مع النظريات التي تقول إن الأرض كانت في الأصل كتلة نارية كالشمس فلم يكن وقتذاك شيء حي أو ماء ، وكلا التفسيرين أشار إليه ابن كثير .

    هذا وأمثاله كثير ولو أنصف العقل عرف أن هذا القرآن أنزله خالق السماوات والأرض العليم بهما {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} الملك : 14 .

  13. افتراضي

    - 3 -

    ومن خصائص هذا القرآن التي تشير إلى ربانية مصدره ما أشار إليه القرآن بقوله : {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} فصلت : 41 ، 42 .

    لقد تكلم القرآن عن الماضي وتكلم عن المستقبل وفي كلامه عن الماضي أو المستقبل تنزّه عن الخطأ وجل عن الباطل ، وهو في كلا الأمرين يقدم الدليل الكامل على أنه من عند الله .

    وقد حاول أناس أن يطعنوا في بعض أخباره عن الماضي متصورين أن بعد الزمان يجعل كلامهم مقبولاً عند غير المؤمنين ، وهم يدعون في ذلك النقد العلمي والنزاهة التاريخية ، ولكن العلم أثبت بالكشوف المحسوسة تخريفهم وصدق القرآن . قال العقاد في كتابه ( مطلع النور ) :

    " فمن أقطاب هؤلاء المخرفين من أنكر عاداً وثموداً ، وأنكر الكوارث التي أصابتهم بغير حجة ، إلا أنه يحسب أن المنكر لا يطالب بحجة ولا يعاب على النفي الجزاف . فما لبثوا طويلاً حتى تبين لهم أن عادا ( Oadita ) وثمود ( Thamudida ) مذكورتان في تاريخ بطليمسوس وأن اسم عاد مقرون باسم إرم في كتب اليونان فهم يكتبونها ( ادراميت ) ويؤيدون تسمية القرآن لها بعاد إرم ذات العماد وعثر المنقب ( موزيل التشيكي ) صاحب كتاب الحجاز الشمالي على آثار هيكل عند مدين منقوش عليه كلام بالنبطية واليونانية وفيه إشارة إلى قبائل ثمود .

    ومن أقطاب هؤلاء المخرفين من أنكر أبرهة ، وكنبة جيشه ، واهتمامه بتعطيل الكعبة ، وبناءه القليس في صنعاء لصرف العرب عن الكعبة إليها ثم تنكشف النقوش عن اسمه على خرائب سد مأرب ملقباً بالأمير الحبشي من قبل " ملك الحبشة وسبأ وريدان وحضرموت واليمامة وعرب الوعر والسهل " .

    ويروي الرحالة ( بروس ) الذي زار بلاد الحبشة في القرن الثامن عشر أن الأحباش يذكرون في تواريخهم أن أبرهة قصد مكة ثم ارتد عنها لما أصاب جيشه من المرض الذي يصفونه بصفة الجدري ، ولا يقل عن هذه الأسانيد جميعاً سند التاريخ بعام الفيل قبل البعثة المحمدية بجيل واحد بل أقل من جيل " .

    إنه ما من شيء تحدث عنه القرآن في الماضي إلا وكانت وقائع التاريخ القديم ونصوصه وحفرياته تؤديه من أدق التفصيلات – حيث يحدثنا القرآن عن شك بعض النصارى أنفسهم في صلب المسيح ، فتكون فرقة كبيرة من فرقهم قديماً لا تؤمن بصلب المسيح – إلى أكبر الوقائع حيث يحدثنا القرآن عن الطوفان العظيم الذي تذكره مصادر التاريخ القديم كلها ، سواء المصادر المصرية ، أو اليونانية ، أو البابلية ، ويأتي التنقيب لحديث ليرى طميه ويحدد مكانه .

    وعندما نعلم أن قسماً من أخبار القرآن كان معروفاً عند العرب ، وقسماً كان مجولاً لا يعرف شيء عنه ، كقصة الطوفان . إذ يقول القرآن عنها {تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـذَا} هود : 49 . ولم يكن هناك مصدر آخر غير الوحي كما هو ثابت تاريخياً يأخذ عنه محمد صلى الله عليه وسلم . يتبين كنتيجة لهذا كيف أن هذا القرآن لا يمكن أن يكن مصدره غير الله عز وجل .

    { لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ } فصلت 42 .

    وأما حديثه عن المستقبل ، وتصديق المستقبل حديثه . فذلك أدل في بابه على أنه من عند الله . فما من كلمة قالها القرآن قديماً ونقضتها الوقائع على مر الأيام ، حتى هذا الزمان وإلى آخر الزمان . سواء في ذلك ما في القرآن من تشريع أو إخبار أو بيان ، ولتشريع القرآن محل آخر ندرسه فيه .

    وقد رأينا مثلاً في الخاصية السابقة على أن بيانه عن الكون كان موافقاً – ولا يمكن ألا يكون – لما اكتشفه الإنسان من حقائق . ونريد هنا أن نتحدث عن شيء مما أخبر به عن المستقبل ووقع ، وقبل أن نبدأ بضرب الأمثلة نحب أن نذكر كيف أن في هذه الخاصية دليلاً لا يدحض على أن القرآن من عند الله وذلك :

    إن علم الإنسان محدود بالزمان الحاضر والماضي ، أما المستقبل فهو غيب مستور مجهول ، والإنسان يستطيع أن يوازن ويقايس ليصل إلى احتمال في أمر هذا المستقبل ، قد يقع وقد لا يقع وهو أبداً لا يستطيع أن يجزم ، فعندما يحدثنا كتاب عن بعض ما سيأتي حديثاً جازماً ، ثم يقع هذا المخبر عنه تماماً وقوعاً مطابقاً مرات دون أن يخرم ذلك مرة ، إننا في هذه الحالة لا بد واجدون غير علم الإنسان وإحاطته ، إنه لا بد أن يكون ذلك أثراً من علم محيط منكشف أمامه المستقبل كالحاضر والماضي إنه علم الله عز وجل . وهذه أمثلة مما في القرآن :

    أ – { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } المائدة 67 .

    روى الإمام أحمد عن عائشة – رضي الله عنها – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سهر ذات ليلة وهي إلى جنبه قالت : فقلت : ما شأنك يا رسول الله ؟ قال : " ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة " قالت : فينا أنا على ذلك إذ سمعت صوت السلاح فقال : من هذا ؟ فقال : أنا سعد بن مالك ، فقال : ما جاء بك ؟ قال : جئت لأحرسك يا رسول الله : قالت : سمعت غطيط رسول الله في نومه " .

    وروى الترمذي والحاكم عن عائشة وروى الطبراني عن أبي سعيد الخدري قال :

    كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحرس بالليل فلما نزلت هذه الآية ترك الحرس وقال : " يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله " .

    من هذين الأثرين يتبين لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يُحرس وكان يحب أن يحتاط في أمر حماية نفسه ، وقد حرسه الصحابة حتى نزول هذه الآية التي تجزم أن الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم من الناس

    لن تستطيع يد قاتل أن تمتد إليه ، وهذا إخبار عن غيب إذ من الذي يستطيع أن يجزم أنه لن يقتل قتلاً مع توافر دواعي التعرض للقتل خاصة لرجل كمحمد صلى الله عليه وسلم ! عاداه الناس جميعاً وصار للعداء مظهر الدم في أمة تأصل فيها معنى الثأر . إن مثل هذا لا يجزم به إنسان متماسك عقلياً ، إن لم يكن مصدر ذلك العلم المحيط .

    وتذكر لنا السيرة محاولات كثيرة أعدها اليهود لاغتياله ، ومحاولات كثيرة أعدها المشركون كلها لم تبلغ شيئاً في الوقت الذي لم يكن أي مانع بشري يحول دون تنفيذ الجريمة إلا عناية الله . وعدا عن محاولات الاغتيال فقد كانت معارك الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرة وكانت خطرة وكان الرسول صلى الله عليه وسلم هو هدف العدو فيها ، وما حدث أبداً أن ولى الرسول صلى الله عليه وسلم العدو ظهره وكان أقرب أصحابه إلى العدو ساعة المعركة وكانوا يلوذون به إذا حمي الوطيس كما يذكر ذلك صناديدهم ، ومع هذا وذاك فالآية تجز أن هذا الإنسان معصوم لن يقتل وقد كان

    لقد انتقل الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى بيد القدرة الإلهية لا بتسليط إنسان .. ونذكر هنا أثرين يوضحان حماية الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في أشد ساعات الخطر ؛ تحقيقاً لوعده .

    - روى ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة وروى مسلم في صحيحه عن جابر قال :

    كنا إذا أتينا في سفرنا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كنا بذات الرقاع نزل نبي الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة وعلق سيفه فيها فجاء رجل من المشركين فأخذ السيف فاخترطه وقال للنبي صلى الله عليه وسلم أتخافني ؟ قال : لا . قال : فمن يمنعك مني ؟ قال : الله يمنعني منك ضع السيف فوضعه .

    - وروى الشيخان : في غزوة حنين انكشف المسلمون وولوا مدبرين فطفق الرسول صلى الله عليه وسلم يركض جهة العدو راكباً بغلته وعمه العباس آخذ بلجامها يكفها عن الإسراع فأقبل المشركون إليه فلما غشوه لم يفر ولم ينكص بل نزل عن بغلته كأنما يمكنهم من نفسه وجعل يقول : أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب . كأنما يتحداهم ويدلهم على مكانه فوالله ما نالوا منه نيلاً بل أيده الله بجنده وكف عنه أيديهم بيده .

    إن نبوءة تقول لإنسان وهو معرض كل يوم لخطر القتل : لن تقتل . لا يمكن أن يجزم بها رجل يحترم نفسه أن يكذبه الناس ما لم يكن ذلك وحياً من الله الذي يعلم الغيب وبيده الموت والحياة .

    ب – {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} القمر 45 ، 46 .

    نزلت هذه الآية في مكة كما روى البخاري عن عائشة : ( نزل على محمد بمكة وإني لجارية ألعب ) : { بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} والمسلمون وقتذاك مستضعفون في مكة قليلون رمتهم العرب عن قوس واحدة ولم تكن هناك أية فكرة قتال ، ولو كان قتال فلم يكن متوقعاً في ميزان القوة أن يغلب المسلمون ، ومع ذلك تنزل هذه الآية المنبئة فلا يفهم المسلمون المراد منها حتى عمر . روى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال :

    لما نزلت : {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} قال : عمر : أي جمع يهزم ؟ أي جمع يغلب ؟ قال عمر : فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع وهو يقول : {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} فعرفت تأويلها يومئذ . وقد وقعت الواقعة بعد فترة طويلة تميز بها معسكر الكافرين عن معسكر المؤمنين وأصبح للمسلمين دار ، وللمشركين دار ، واصطدم الجمعان ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عارفاً يومها أنه اليوم الموعود . روى البخاري عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو في قبة له يوم بدر : أنشدك عهدك ووعدك اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم في الأرض . فأخذ أبو بكر رضي الله عنه بيده وقال : حسبك يا رسول الله لقد ألححت على ربك . فخرج وهو يثب في الدرع وهو يقول : {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} وقد انتصر جمع الإيمان ، وهزم جمع الكافرين وصدق القرآن العظيم , وآمن المؤمنون أن هذا إنما هو علم الله الذي لا يخطئ .

    ج - {الـم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ} .

    - كان المشركون يجادلون المسلمين في مكة قبل الهجرة ، يقولون لهم إن الروم أهل كتاب وقد غلبتهم المجوس ، وأنتم تزعمون أنكم ستغلبوننا بالكتاب الذي أُنزل عليكم ، فسنغلبكم كما غلبت فارس الروم فنزلت الآية ..

    ولقد كان الإخبار بهذا النصر وبأنه كائن في وقت معين إخباراً بأمرين كل منهما خارج عن متناول الظنون . ذلك أن دولة الروم كانت قد بلغت من الضعف حداً يكفي من دلائله أنها غزيت في عقر دارها ، وهزمت في بلادها ، فلم يكن أحد يظن أنها تقوم لها بعد ذلك – إلى أمد طويل – قائمة فضلاً عن أن يحدد الوقت الذي سيكون لها فيه النصر ، ولذلك كذب به المشركون وتراهنوا على تكذيبه ، على أن القرآن لم يكتف بهذين الوعدين بل عززهما بثالث حيث يقول {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ} الروم : 3 ، 4 .

    إشارة إلى أن اليوم الذي يكون فيه النصر هناك للروم على الفرس . سيقع فيه هاهنا نصر للمسلمين على المشركين ، وإذا كان كل واحد من النصرين في حد ذاته مستبعداً عند الناس أشد الاستبعاد ، فكيف الظن بوقوعهما في يوم ؟

    لذلك أكد القرآن أعظم التأكيد بقوله {وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} الروم . ولقد صدق الله وعده فتمت للروم الغلبة على الفرس بإجماع المؤخرين في أقل من تسع سنين ، وكان يوم نصرها هو اليوم الذي وقع فيه النصر للمسلمين على المشركين في غزوة بدر الكبرى . كما رواه الترمذي عن أبي سعيد ورواه الطبري عن ابن عباس وغيره . فكانت نبوءة ثالثة في الآية تحققت .

    د – {ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَـذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَـذَآ إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} المدثر 21 – 26 .

    {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَآ أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} .

    النص الأول :

    في الوليد بن المغيرة كما هو معروف من أسباب النزول .

    ولكن النص الثاني في عم النبي صلى الله عليه وسلم وزوجة عمه ، والنصان يخبران في حياة الثلاثة أنهم سيدخلون النار وهذا يعني أنهم سيموتون على الكفر ولن يدخلوا في الإسلام وواضح في ذلك الإخبار عن الغيب . فكم من مشرك كان مثلهم ضلالاً وكفراً وعتواً وكيداً بالمسلمين ، ثم كان بعد من المسلمين كأبي سفيان وخالد وعمرو بن العاص .. وظواهر الأمور لم تكن تدل على أن الوليد مثلاً أبعد من أبي سفيان عن الإسلام . فللوليد تلك الشهادة العظيمة التي رأيناا سابقاً في القرآن كما أن الآخر عم النبي صلى الله عليه وسلم ولكنها النبوءة التي لا تتخلف إذ تقول فيكون ما قالت ، ولم يحدث أن القرآن ذكر إنساناً بأنه من أهل النار ثم أسلم .

    هـ - {لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} الفتح 27 .

    مُنع المسلمون من دخول مكة عام الحديبية واشترطت عليهم قريش إذا جاؤها في العام المقبل أن يدخلوا عزلاً من كل سلاح إلا السيوف في القرب .

    فهل كان للمسلمين أن يثقوا بوفاء المشركين بعقدهم وقد بلوا منهم نكث العهود ، وقطع الأرحام ، وانتهاك شعائر الله ؟ أليسوا اليوم يحسبون هديهم أن يبلغ محله ؟ فماذا هم صانعون غداً ؟

    على أنهم لو صدقوا في تمكين المسلمين من الدخول فكيف يأمن المسلمون جانبهم إذا دخلوا عليهم دارهم مجردين من دروعها وقوتهم ؟ ألا يمكن أن تكون هذه مكيدة يراد منها استدراجهم إلى فخ ؟ وآية ذلك : اشتراط تجردهم من السلاح إلا السيف في القراب وهو سلاح قد يطمئن به المؤمن إلى أنهم لن ينالوا بأيديهم ورماحهم ولكن لا يأمنون معه أن ينالوا بسهامهم وبنبالهم .

    في هذه الظروف المربية يجيئهم الوعد الجازم بالأمور الثالثة مجتمعة : الدخول والأمن وقضاء الشعيرة . فدخلوها في عمرة القضاء آمنين ، ولبثوا فيها ثلاثة أيام حتى أتموا عمرتهم ، وقضوا مناسكهم كما أخرج ذلك الشيخان . وكان من بعد ذلك الفتح القريب .

    و – كان القرآن بمكة يقص على المسلمين ما يثبت به فؤادهم ، ويعدهم الأمن والنصر الذي كان لمن قبلهم {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} الصافات : 171 – 173 .

    {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} غافر : 51 .

    كان هذا يوم كانوا في مكة حيث كانوا ينامون على خوف ، ويستيقظون على خوف . ثم هاجروا إلى المدينة فكيف كان الحال ؟

    روى الحاكم وصححه ( لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة وآوتهم الأنصار ، رمتهم العرب عن قوس واحدة وكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح ولا يصبحون إلا فيه فقالوا : أترون أنا نعيش آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله فنزلت الآية : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} النور : 55 .

    وروى ابن أبي حاتم عن البراء قال :

    " نزلت هذه الآية ونحن في خوف شديد " فانظر بعد ذلك ماذا كان من نصر وماذا كان من أمن ، وماذا كان من استخلاف بلدة عدد سكانها مئات تقوم بها دولة كل من حولها يعاديها ، وإذا بها في سنوات تضرب كل جزيرة العرب وتنتصر عليها ، وتضرب أكبر دولتين في العالم الفرس والروم فتنتصر عليهما ، ثم تنساح في الأرض فلا يستعصي على سيوف أهلها شعب ولا بلد .

    ز - {وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} الشورى : 31 . {وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَآءِ} العنكبوت : 22 .

    إن الكلام عن الشيء فرع تصوره هذا بالنسبة للإنسان . أما بالنسبة للذات الإلهية ، فإن الكلام عن شيء أثر العلم به . وأنت ترى في هاتين الآيتين خطاباً للإنسان أنه لن يعجز الله ، ولكن يلاحظ في الآية الأولى أنه خاطب الإنسان على الأرض فقط ، وفي الآية الثانية خاطبه على الأرض وفي السماء . فزيادة " في السماء " إذن في الآية الثانية زيادة ذات دلالة كبيرة ، هذه الزيادة فيها معنى النبوءة التي تبشر بإمكانية صعود الإنسان إلى السماء وتخاطبه في كل أحواله بأنه خاضع لقهر المشيئة غير خارج عما تريد هذه الذات .

    يا إنسان لن تعجزني على الأرض ، وإذا صعدت إلى السماء فلن تعجزني ، ولم يصعد الإنسان إلى السماء إلا في عصرنا هذا ، فكأن الخطاب إذن لإنساننا الحالي وذلك من أسرار الإعجاز .

    وفي كل حال يظهر لك أن الزمان يظهر ما في القرآن من حق ، وكيف أن هذا القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .

    ح - {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} النحل : 8 .

    {وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} يس : 41 ، 42 .

    الآية الأولى ذكرت أصنافاً مما يركبه الإنسان وله فيه زينة ، وبعد أن عد هذه الأصناف ذكر أنه سيخلق ما لم يعلمه الصحابة المخاطبون الأول بهذه الآية ، ومن جو الآية نفهم أن هذا الشيء سيخلقه الله عز وجل هو مما يركب وفيه زينة في نفس الوقت غير الخيل والبغال والحمير .

    والآية الثانية تحدد نوع تحديد بعض صفات هذه المركوبات وتقول : {وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} .

    ترى ما هذا الذي هو من جنس الفلك ويركبه الإنسان ؟

    لقد كان يومها في مستقبل الغيب السفينة الفضائية والطائرة والسيارة والقطار وكل هذه المركوبات التي رأيناها حديثاً وهذا كله يدخل في كلمة { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} يس : 42 .

    وإذن فنحن أمام آيتين تبشران بمركوبات جديدة للإنسان ، وقد كان ما بشر به القرآن ، يبقى معنى لا بد من الإشارة إليه وهو أننا نلاحظ تطور المركوبات يوماً بعد يوم كل يوم يأتي بجديد لا يعلمه الإنسان قبل وجوده وهذا الشيء نفسه نفهمه من آخر الآية الأولى { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} النحل : 8 .

    فالقرآن في الحقيقة يخاطب الإنسان أبداً في كل زمان ومكان . فعندما أسمع الخطاب اليوم { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أفهم أن في غد شيئاً جديداً ، ويكون إذن ما تراه من تطور كل يوم في عالم المركوبات داخل ضمناً في الآية .

    وأخيراً نقول : إن بعض الصحابة منذ تنزل القرآن فهم أن الله سيخلق للإنسان ما يركبه غير ما يعهده الناس قديماً يسير في البر كما تسير السفن في البحر .

    ط - {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً} الأعراف 168 .
    { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} الأعراف : 167 .

    {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ} آل عمران : 112 .

    هذه الآيات في اليهود وإن واقع التاريخ ، ومستقبل الزمان بالنسبة لعصر تنزل القرآن ، هو الذي يفسرها ، فكان ما حدث تفسير القدرة الإلهية للعم الإلهي ، إذ كان اليهود مشردين طوال هذا الزمان ، كما أخبر الله {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً} ومع هذا التقطيع كان العذاب المتواصل من لدن عصر القرآن إلى هذا الزمان .

    والتاريخ يقص علينا قصة هذه الحقبة من تاريخ اليهود ، وأنها اضطهاد دائم ، وذلة دائمة ، من ملاحقة الأسبان لهم ، إلى مطاردة الكنيسة في كل مكان ، إلى ما وقع لهم في روسيا ، وآخر أنباء هذا العذاب ما سامهم إياها النازيون مما يعرفه أهل الأرض جميعاً . هذه صورة مما وقع لهم في الغرب ، والصورة الأخرى التي وقعت لهم في الشرق والغرب أنهم أبداً محكومون من غيرهم ، وأنهم أبداً يعانون حياة الذلة ، وفي هذا وذلك عذاب { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} الأعراف 167 .
    ثم حدث أن عطفت عليهم الشعوب والحكومات . أمريكا ، وإنكلترا ، وروسيا ، وفرنسا ... والناس فكان لهم ما يسمى دولة فارجع بعد ما ذكرناه إلى الآية الثالثة ترى كيف قامت المعجزة {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ} آل عمران : 112 .

    عذاب متواصل وذل دائمة إلا بحبل من الله وحبل من الناس ، فلما كان هذان الحبلان . صار لهم دولة ، ولكن الآية الأولى تذكر أن العذاب لن ينقطع عنهم إلى يوم القيامة . لذلك فهم على موعد معنا نحن المسلمين {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَآءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ} الصافات : 177 . وفي التوراة الحالية المحرفة هذا القول " سأجمعك يا إسرائيل في أرض الميعاد ثم أذبحك ذبحاً " وسيعلمون ماذا سيفعل بهم جند الله بعد أن تنتهي هذه الردة عن الإسلام إن شاء الله .

    ي – والذي يريد أن يتتبع هذا النوع مما في القرآن يجد الكثير . ففي آية {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الحجر : 9 . غيب تحقق وفي آية {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ} البقرة : 24 . غيب تحقق وفي آية {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ} غيب تحقق مظهره ما كشف الإنسان من علم وما يكشف ، وفي آية {إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً} غيب تحقق وفي آية {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ} القصص 85 . أي إلى مكة ففيها غيب تحقق .

    والشيء الذي نريد أن نخرج به هو أن القرآن إذا قال فذلك العلم الذي لا يخطئ لأنه علم الله المحيط .

    غير أن فهمنا للقرآن قد يخطئ وهذا هو البلاء الكبير عندما نفهم القرآن فهماً خاطئاً ، ونعطيه للناس ، بل نلزمهم به أو يلتزمون . وهذا خطر كبير . لذلك ينبغي أن نكون على حذر عندما نقرأ تفاسير القرآن : وكل مفسر فهم القرآن على ضوء ثقافة عصره فقدم لنا فهمه للقرآن وتفسيراً للقرآن وشتان بين الفهم الخاطئ للقرآن وحقيقة القرآن .

    - 4 -

    شيء آخر يدلك على أن هذا القرآن مصدره الله عز وجل ، وأنه ما كان ليكون هكذا لولا أنه منزل من عند الله الذي أحاط علمه بكل شيء . هذا الوجه الذي نريد أن نتحدث عنه هو الذي أشارت إليه الآيات القرآنية التالية :

    {إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} النمل : 76 .

    {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} المائدة : 15 .

    {وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} النحل : 64 .

    {مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} يوسف : 111 .
    * * *

    إن الدراسات النقدية للتوراة لم تعترف بالصحة إلا لسفر واحد من أسفارها . هو سفر " أرمياء " كما يذكر ( مونتيه ) في تاريخ الكتاب المقدس ، وليس الإنجيل بأسعد حالاً . فقد ألغى مجمع أساقفة ( نيقيه ) كثيراً من أخباره مما زرع الشك حول ما تبقى منه وهو الأناجيل . وهذه الأخيرة بدورها لا تعتبر الآن من الصحاح . لأن النقد أثبت أنها قد وضعت بعد المسيح بأكثر من قرن أي بعد عصر الحواريين الذي تنسب إليهم التعاليم المسيحية وعلى هذا فإن شكوكاً كثيرة تحوم الآن حول القيمة التاريخية للوثائق اليهودية والمسيحية . ( انظر كتاب الظاهرة القرآنية ) .

    إن إنجيلاً واحداً نطق به عيسى على أنه كلمة الله ، فلِمَ يكون الإنجيل أربعة ولم كان بينها اختلاف وتعارض وزيادة ونقص ، ولقد لعن أرمياء في سفره المذكور ( أقلام النساخ الكاذبة ) .

    ومن هنا كان للقرآن فيما يتعلق بهذه الكتب مواقف كل منها يشير إلى ربانية مصدره ، حيث إن هذه المواقف كلها تدل على علم مطلق لا يأتيه الشك ، حتى يتحدى في بعض المواقف أن يأتوا بالتوراة ليثبتوا ما يدعون مما يذكر القرآن خلافه {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} آل عمران : 93 .

    - أول هذه المواقف أن التوراة والزبور والإنجيل ، هذه الموجودة حالياً ليست هي بالضبط الكتب السماوية الأصلية بل داخلها تحريف وتبديل ، ونُسي قسم منها وقد رأينا موقف النقد العلمي العقلي النصراني من هذا الموضوع وكلمة أرمياء التي تتفق مع ما ألح القرآن عليه :

    {وَمِنْهُمْ أُميُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ * فَوَيْلٌ للَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ ممَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ ممَّا يَكْسِبُونَ } البقرة : 78 – 79 .

    {مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} النساء : 46 . {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظَّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} المائدة : 41 .

    - الموقف الثاني :

    ذكر القرآن الكريم كثيراً مما كان في التوراة والإنجيل من معان ووحي ، وعندما نستعرض هذه النصوص وتقرأ التوراة والإنجيل فإننا نجد هذه النصوص قد طابقت ما في التوراة والإنجيل ، مما يدل على أن قسماً من التوراة والإنجيل لم يحرف ، وعلى أن الله العليم بما أنزل هو منزل القرآن ، إذ لا شك تاريخياً كما مر أن محمداً ليس له أي اطلاع على كتب دينية أو غير دينية :

    وهذه أمثلة :

    أ – يقول القرآن :

    {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} . {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُميَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبي وَرَبَّكُمْ} المائدة : 116 .

    ويقول إنجيل يوحنا الفقرة الثالثة الباب السابع عشر ( وهذه الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته ) .

    ويوقل إنجيل مرقس الباب الثاني عشر ( 28 ) ( فجاء واحد من الكتبة وسمعهم يتحاورون فلما رأى أنه أجابهم حسناً سأله أية وصية هي أول الكل فأجابه يسوع أن أول كل الوصايا اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا رب واحد وتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكركَ ومن كل قدرتك هذه هي الوصية الأولى ) .

    ويقول إنجيل متى الباب التاسع عشر (16) ( وإذا واحد تقدم وقال أيها المعلم الصالح أي صلاح أعمل لتكون لي الحياة الأبدية فقال له لماذا تدعوني صالحاً ليس أحد صالحاً إلا واحد وهو الله ) .

    هذه نصوص صريحة في الأناجيل الحالية تثبت أن دعوة عيسى كانت للتوحيد وأنه رسول الله ثم كان الانحراف وأتى القرآن ليصحح الانحراف .

    ب – يقول القرآن على لسان عيسى {وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ... } ويقول {وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} المائدة : 46 . ويقول مخاطباً لنا : {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ} الشورى ك 13 .

    ويذكر إنجيل متى إصحاح (5) على لسان عيسى : لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء ما جئت لأنقض بل لأكمل فإن الحق أقول لكم إلى أن تزول السماوات والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى وعلم الناس هكذا يدعى أصغر في ملكوت السماوات وأما من عمل وعلم فهذا يدعى عظيماً في ملكوت السماوات فإني أقول لكم : إن لم يزد بركم على الكتبة والقديسين لن تدخلوا ملكوت السماوات " .

    ج – يقول القرآن :

    {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} المائدة : 45 . وفي الإصحاح ( 21 ) من سفر الخروج .

    وهذه هي الأحكام التي تضع أمامهم ( من ضرب إنساناً فمات يقتل قتلاً ومن ضرب أباه أو أمه يقتل قتلاً وإن حصلت أذية تعطي نفساً بنفس وعيناً بعين وسناً بسن ويداً بيد ورجلاً برجل وكياً بكي وجرحاً بجرح وضّاً برض ) .

    د – يقول القرآن :

    {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} . {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} . {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} .

    وتقول التوراة في الإصحاح الأول من سفر التكوين بعد ذكر قصة الخلق . ( وقال الله نعمل الإنسان فخلق الإنسان ذكراً وأنثى وباركهم اله وقال لهم أثمروا واملأوا الأرض وأخضعوها وتسلطوا وكان .. يوماً سادساً ) . وفي الإصحاح الثاني من سفر التكوين :

    - ( فأكملت السماوات والأرض وكل جندها ) .

    - ( هذه مبادئ السماوات والأرض حين خلقت يوم عمل الرب الإله الأرض والسماوات ) .

    - ( وجعل الرب الإله آدم تراباً من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار آدم نفساً حية ) .

    ( فأوقع الرب الإله سباتاً على آدم فنام فأخذ واحدة من أضلاعه وملأ مكانها لحماً وبنى الرب الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأة وأحضرها إليه ) .

    هـ - يقول القرآن :

    {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} الكهف ويقول {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ} ويقول {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَاداً * وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً * وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً * وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً * وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجَّاجاً * لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً } النبأ : 6 – 16 .

    وفي سفر أيوب إصحاح ( 38 ) أجاب الرب أيوب وقال : ( شد الآن حقويك كرجل – أي قف باستعداد – فإني أسألك فتعلمني : أين كنت حين أسست الأرض ؟ أخبر إن كان عندك فهم من وضع قياسها وعلى أي شيء قرت قواعدها أو من وضع حجر زاويتها عندما ترنمت كواكب الصبح معاً وهتف جميع بني الله .من حجز البحر بمصاريع حين اندفق من فم الرحم هل تربط أنت عقد الثريا أو تفك ربط الجبار أتخرج المنازل من أوقاتها وتهدي الشمس مع ... من يهيء للغراب صيده إذا نعب فراخه إلى الله فأجاب أيوب : الرب وقال : ها أنذا حقير فماذا أجاوبك وضعت يدي على فمي " .

    و – يقول القرآن :

    {ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُل شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُل شَيْءٍ وَكِيلٌ * لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } ويقول {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ويقول {للَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} .

    وتقول التوراة سفر الخروج :

    "الرب يملك إلى الدهر إلى الأبد " ( ص ح 15 وفي الإصحاح ( 37 ) " عند الله جلال مرهب القدير لا ندركه عظيم القوة والحق وكثير البر " وفي الإصحاح ( 33 ) " هو ذا الله يتعالى بقدرته من مثله " " هو ذا الله عظيم ولا نعرفه وعدد سنيه لا يفحص " .

    ز – يقول القرآن :

    {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} البقرة : 51 .

    ويقول {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ} الأعراف : 150 ويقول {وَانظُرْ إِلَى إِلَـهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ} طه : 97 .

    ( وفي الإصحاح ( 32 ) من سفر الخروج ( فانصرف موسى ونزل من الجبل .. ) وكان عندما اقترب إلى المحلة أنه أبصر العجل والرقص فحمي غضب موسى وطرح اللوحين من يديه ...

    ثم أخذ العجل الذي صنعوه وأحرقه بالنار حتى صار ناعماً وذراه على وجه الماء ) .

    ح – يقول القرآن متحدثاً عن موسى :

    {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي} الأعراف : 143 .

    وفي ألإصحاح ( 33 ) من سفر الخروج ( فقال موسى : أرني مجدك ... ( 18 ) . قال لا تقدر أن ترى وجهي لأن الإنسان لا يراني ويعيش ) ( 20 ) .

    ط – يقول القرآن :

    {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً} البقرة : 83 .

    وفي الإصحاح العشرين من سفر الخروج : ( أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية لا يكن لك آلهة أخرى أمامي لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً ولا صورة مما في السماء ... لا تسجد لهن ولا تعبدهن لأني أنا الرب إلهك غيور وأصنع ‘إحساناً إلى ألوف من محبيَّ وحافظي وصاياي .. ) .

    ي – يقول القرآن في سورة يوسف عن يوسف عليه السلام :

    {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ ياأَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} ويقول سفر التكوين الفصل ( 37 ) ( قال رأيت حلماً أيضاً كأن الشمس والقمر وأحد عشر كوكباً ساجدة له ) .

    ويقول القرآن على لسان إخوة يوسف :

    { اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ * قَالَ قَآئِلٌ منْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُب يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ } يوسف : 10 .

    وفي سفر التكوين :

    ( والآن تعالوا نقتله ونطرح في بعض الآبار ونقول : إن وحشاً ضارياً افترسه ونرى ما يكون من أحلامه ، وقال لهم رأوبين لا تسفكوا دماً اطرحوه في هذا البئر التي في البرية ) .

    ويقول القرآن :

    {قَالُواْ يَأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ... } .

    {وَجَآءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} يوسف .

    وفي سفر التكوين :

    ( فأخذوا قميس يوسف وذبحوا تيساً من المعز وغمسوا القميص في الدم .. وحش ضار أكله افترس يوسف افتراساً ) .

    ويقول القرآن :

    {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} يوسف 23 .

    وفي سفر التكوين :

    ( وكان بعد هذه الأمور أن امرأة مولاه طمحت عينها إلى يوسف وقالت ضاجعني فأبى وقال لامرأة مولاه هو ذا مولاي لا يعرف معي شيئاً مما في البيت وجميع ما هو له جعله في يدي ... فاتفق في بعض الأيام أنه دخل البيت ليتعاطى أمره ولم يكن في البيت احد من أهله فأمسكت بثوبه وقالت ضاجعني ) .

    ويقول القرآن :

    {وَقَالَ الْمَلِكُ إِني أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ياأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ * قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ} يوسف .

    ويقول سفر التكوين :

    ( إن فرعون رأى حلماً كأنه واقف على شاطئ النهر فإذا بسبع بقرات صاعدة منه وهي حسان المنظر وسمان الأبدان فرتعت في المرج وكأن سبع بقرات أخرى صاعدة وراءها من النهر وهي قباح المنظر وعجاف الأبدان فوقفت بجانب تلك على شاطئ النهر فأكلت البقرات القباح المنظر العجاف الأبدان السبع بقرات الحسان المنظر السمان ...

    ثم نام فحلم ثانية فرأى كأن سبع سنابل قد نبقت في ساق واحدة وهي سمان جياد وكأن سبع سنابل دقاقاً قد لفحتها الريح الشرقية نبتت وراءها فابتلعت السنابل الدقاق السبع السنابل السمينة الممتلئة واستيقظ فرعون فإذا هو حلم فلما كانت الغداة انزعجت نفسه فبعث ودعا جميع سحرة مصر وجميع حكمائها فقص عليهم فرعون حلمه فلم يكن من يعبره لفرعون ) .

    * * *

    من هذه النقول نعرف معنى الآية القرآنية التي ختمت بها سورة يوسف {مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} ونعرف كذلك وحدة الوحي ووجوده إذ رأينا أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم لم يتلق أي تعليم سابق مما يوهم أن مثل هذا التلاقي وليد دراسة ، كما أن البيئة العربية لم تكن منتشرة فيها هذه المعاني أبداً . ولم تكن تعرفها ، بدليل الآية التي ذكرت في سورة يوسف عقب القصة {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} يوسف : 102 .

    فعندما يتم التلاقي بين معنى ذكره الإنجيل أو التوراة أو الزبور مع معنى موجود في القرآن ، مع ملاحظة ما ذكرناه آنفاً فذلك دليل لا يدحض على أن هذا القرآن من عند الله {لَّـكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} النساء : 166 .

    - الموقف الثالث :

    رأينا فيما مضى أن التوراة والإنجيل والزبور في الأصل من عند الله ، ورأينا كذلك أنها داخلها تحريف وتبديل وتغيير ونسيان وضياع ، والشيء العادي إذن بعد هذا ، أن تحدث انحرافات ضخمة نتيجة لهذا ، ومفاهيم خاطئة ، وتصورات فاسدة ، واختلافات كثيرة ، ويأتي القرآن ليصحح لهم هذه المفاهيم كلها ، وهذه الأخطاء كلها ، وهذه الانحرافات كلها . فيبين ويوضح ويوبخ ويعاتب ويدعو وينذر ، ويعلل ويوضح ، ويطالب ويأمر ، وينهي بجزم وحزم وتعليم وإرشاد وأستاذية مطلقة ، وسيادة بينة . فردَّ اليهود والنصارى معاً إلى القصد وإلى الطريق المستقيم {إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} النمل : 76 {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مَّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} المائدة : 19 .

    وهذه أمثلة :

    أ – أعطى قسم من الكتابيين العصمة لبعض البشر ممن ليسوا بأنبياء ، فأطاعوهم وعطلوا نصوص الكتب السماوية ، كما هو مشاهد الآن عند النصارى مع البابا . فقال لهم {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} التوبة : 31 .

    وقال :

    {قُلْ يَـاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ} المائدة : 77 .

    ب – ووصف بعض الكتابيين الله بصفات خلقه . فقالوا عنه إنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استراح في اليوم السابع فقال لهم ولغيرهم .

    {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} ق : 38 .

    جـ - ووقف اليهود من عيسى ابن مريم وأمه موقفاً منكراً فقال عنهم :

    {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً * وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبهَ لَهُمْ} النساء : 155 – 167 .

    د – وأله بعض النصارى عيسى ابن مريم فقال :

    {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ} المائدة : 72 .

    هـ - وقال بعض النصارى بالتثليث فرد عليهم :

    {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ} ووضع عيسى وأمه في المحل الصحيح {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ} المائدة : 75 .

    و – تصور بعض الكتابيين أن إثمهم يحمله غيرهم وأن الإنسان آثم بالأصل فقالوا بالخطيئة الأزلية ورفعها بالمسيح {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} النساء : 123 .

    وقال :

    {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} الأنعام : 164 .

    والأمثلة كثيرة جداً على هذا في القرآن ، كثرة تلفت النظر لدرجة أن الإنسان لا يشك بتاتاً إذا طالع هذه الكتب كلها . إن القرآن قد استوعب معانيها وأصلح ما أفسدوه فيها ، وأقام الناس على الحق الذي لا شبهة فيه ، ويخرج أخيراً بهذه النتيجة .

    إن الحديث عن الكتب السماوية وأهلها في القرآن يدل على علم محيط كامل بهذه الكتب وأهلها ، ويدل على علم محيط كامل في مواطن الخلاف التي لم يكن منها شيء معروف في جزيرة العرب ، ويدل على علم محيط كامل في مواطن الانحراف ، وكذلك بالتناقض بين النصوص ، كأثر عن هذا الانحراف واستعمال دقيق كامل للمصطلحات الكتابية . هذا مع أمية الرسول صلى الله عليه وسلم ووجود هذه الكتب في غير اللغة العربية ، وعدم انتشارها ، وجهل البيئة العربية بمضامينها ، وثبوت أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتلق تعليماً من أحد .

    إن هذا كله لا شك يثبت أن هذا القرآن وحي من عند الله .

    - 5 -

    وآخر ما نريد ذكره في فصل المعجزة القرآنية . هذه الخطوط العامة حول لغة القرآن ، وأسلوب القرآن ، وفي ذلك برهان أي برهان على كون هذا القرآن من عند الله .

    إن المبتدئ في طريق ليس له فيها تجربة سابقة ولا لأحد قبله زيادة فيه ، يختلف وضعه عن المجرب الخبير ، أو من صاحب المجربين واستفاد من خبرتهم ، كما يقال هذا في الحل والترحال ، يقال مثله عن عالم الأدب ، لم كان حسان بن ثابت في الجاهلية أقوى شاعرية منه في الإسلام ؟

    لأن المعاني التي كان يتحدث عنها في الجاهلية معان مطروقة من شعراء قبله . قالوا فيها كثيراً ، وفتحوا فيها آفاقاً واسعة استفاد منها . فقال وأجاد .

    أما في الإسلام فالوضع يختلف . فقد أتى الإسلام بمفاهيم جديدة وقيم ومثل عليا تختلف عما في الحياة الجاهلية ، وأقام نظاماً للحياة على أسس معاكسة تماماً لما كان عليه الناس ، والمعركة بين جديد وقديم . فكان إذن هو يتحدث عن هذا الشيء الجديد كله رائداً غير مسبوق ، فشيء عادي إذن أن يكون شعره الإسلامي أضعف من شعره الجاهلي . إن زهير ابن أبي سلمى لم يكن شعره بهذه الجودة لو لم يستفد من تجربة حجر الشعرية ، ولولا شعر زهير ما كان الحطيئة جيد الشعر ومعاني هؤلاء واحدة .

    هذه قضية ينبغي أن تكون على ذكر منا ، ونحن نتحدث عن لغة القرآن وأسلوب القرآن .

    وجرت عادة الناس أن لغة الأدب غير لغة القانون , ولغة المخاطبة غير لغة الشعر ، وطريقة التعبير عن القضايا العلمية ، تختلف عن طريقة التعبير في قضايا الخيال والتصور أو العاطفة ، وفي الأدب عادة يشطح الخيال فيقرب البعيد يبعد القريب فيكون كذب وشطط وإسفاف ومجانة ..

    وهذه قضية ثانية ينبغي أن تكون على ذكر منا كذلك .

    والأديب عادة ينتزع الصورة من بيئته ، ومن محيطه مما يشاهده أو يسمعه فيحلل ويركب ويغوص ويحلق ويدقق ، ولكنه لا يخرج عن بيئته ومحيطه :

    من زهير إذ يقول :

    ترى العين والآرام في عرصاتها وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم

    إلى علي بن الجهم إذ يقول للخليفة :

    أنت كالكلب في الحفاظ على الود وكالتيس في قراع الخطوب

    وهذه قضية ثالثة كذلك ينبغي أن نتذكرها أثناء الحديث عن لغة القرآن وأسلوب القرآن .

    وأي شاعر تكلم ، وأي أديب قال أو كتب ، لو عرض عليه ما قال بعد مدة من قوله أو كتابته ، لغيّر أو بدّل أو قدّم أو أخّر ، وأي قول قيل يمكن أن ينتقده الناقدون . فيرون كلمة أجود من كلمة ، وحرفاً أجمل من حرف ، وجرساً ألطف من جرس ، أو أكثر مناسبة ، وقد تجد القصيدة الجيدة فتجد فيها كلمة غير مناسبة لما قبلها ، أو جرساً غير منسجم مع معنى ، إلى آخر ما هو معروف عند نقاد الكلام ، ولا تخلو قصيدة قيلت من أن توجد كلمة فيها يوجد غيرها أفصح منها أو أدق تعبيراً أو أوجد معنى .

    وفيما رأيناه من نقد الخنساء لحسان في أوائل هذا البحث مثال كاف ، فإذا ما اتضحت هذه القضايا كلها نقول : إن إنساناً يعقل لا يستطيع أبداً أن يتصور أن هذا القرآن من عند محمد أو سواه من البشر ، بل لا بد أن يكون مصدر هذا القرآن الذات العليا ذات الله عز وجل :

    أ – فالقرآن لا يمكن أن يكون وليد البيئة العربية . فما فيه من صور وما فيه من أمثال جل عن طوق الفكر وبعد عن قدرة البشر . خذ مثالين على ذلك :

    أولاً - {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ من فَوْقِهِ مَوْجٌ من فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } النور : 39 ، 40 .

    إن هذا النص وخاصة المثل الثاني منه لا يمكن أن يكون وليد البيئة العربية ولا وليد العصر الذي وجد فيه ولتعرف لماذا ؟ اقرأ هذا التعليق : ( في هذه الآية إشارة إلى الأمواج الداخلية والسطحية فأضخم أمواج المحيط وأشدها رعباً هي أمواج غير منظورة تتحرك في خطوط سيرها الغامضة بعيداً في أعماق البحار ، وقد كان من المعروف منذ سنين كثيرة أن سفن البعثان إلى القطب الشمالي كانت تشق طريقها بكل صعوبة فيما كان يسمى بالماء الميت ، والذي عرف الآن بأنه أمواج داخلية . وفي عام 1900 م لفت الأنظار كثير من مساحي البحاري الإسكندنافيين إلى وجود أمواج تحت سطح الماء ، والآن بالرغم من أن الغموض لا يزال يكتنف أسباب تكوين هذه الأمواج العظيمة التي ترتفع وتهبط بعيداً أسفل السطح فإن حدوثها على نطاق واسع في المحيط قد أصبح أمراً معروفاً جيداً ، فهي تقذف بالغواصات في المياه العميقة كما تعمل شقيقاتها السطحية على قذف السفن . ويظهر أن هذه الأمواج تتكسر عند التقائها بتيار الخليج ، وبتيارات أخرى قوية في بحر عميق ، فالآية القرآنية تقول : { فِي بَحْرٍ لُّجيٍّ} إذن الكلام عن بحر عميق { يَغْشَاهُ مَوْجٌ من فَوْقِهِ مَوْجٌ } إذن أمواج داخلية وأمواج سطحية { من فَوْقِهِ سَحَابٌ } إذن الكلام عن مكان يكثر فيه الضباب والصورة إنما تنطبق على الإنسان إذا كان تحت الأعماق أي تحت الأمواج الداخلية " مثل هذا التصوير معجز لا يتصور من رجل الجزيرة العربية قبل أربعة عشر قرناً .

    ثانياً - {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} لقمان 27 . {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} مثل هذه الصورة مما لا يخطر على قلب بشر في التعبير عن سعة علم الله بالكلمات التي تعبر عن هذا العلم الذي لا يتناهى بهذا التصوير البالغ الروعة الموجز الواضح السهل . أن تنقلب الأشجار كلها أقلاماً والبحار كلها حبراً وفوق البحر أبحر وتبدأ الأقلام بالكتابة وينفد ماء البحر وتبقى بعد ذلك الكلمات لا تتناهى ، إن الأمة التي كان تصورها عن الإله أن تصنع صنم التمر ثم تعبده ثم تأكله ، ليس بالإمكان أن يصدر عن فرد من أبنائها مثل هذا التعبير والتصور ولكنه كلام الله .

    ب – والقرآن الكريم نزل منجماً خلال ثلاثة وعشرين عاماً وكتاب تم جمعه خلال هذه الفترات الطويلة لا بد – إلا إذا كانت المسألة غير عادية – أن يكون هناك اختلاف في أسلوبه قوة وضعفاً ما بين بدايته إلى نهايته ولا بد أن يكون هناك اختلاف في المضامين . وهذا شيء يلاحظ عند كل من تعاطى صناعة الكلام ، وصناعة الأفكار ، وصناعة الإصلاح وصناعة الأمم . التجربة تغير الرأي ، والتجربة تقوي الأسلوب ، وليست آراء الإنسان بعد عشرين عاماً من العمل الإصلاحي هي نفسها قبل العشرين , ولكنك في القرآن تجد ظاهرة الوحدة في الأسلوب سواء في ذلك ما نزل أولاً أو ما نزل أخيراً وسواء في ذلك النص التشريعي ، أو النص الوعظي أو النص الوصفي أو النص القصصي ، وظاهرة الوحدة في المعاني فلا تجد معنى متأخراً ينقص معنى متقدماً ، بل يتممه وكل ذلك يتم بلا تدبير أو ترتيب أو تفكير يخرج النص الموحى به من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأخذ محله في القرآن ، ويبقى كما هو بلا تغيير ولا تبديل ، ويبقى هذا الأسلوب متميزاً متفرداً ما عرف له مثيل من قبل ومن بعد مختلفاً عن أسلوب محمد صلى الله عليه وسلم نفسه في الكلام مع بقاء معاني القرآن أعظم وأحكم وأروع ما سمعته أذن الإنسان . فالمسألة بإنصاف ليست بشرية وهذه أمثلة على وحدة الأسلوب ووحدة المعاني .

    من النصوص التشريعية في القرآن :
    {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} النساء : 11 .

    ومن النصوص القصصية :

    {وَقِيلَ ياأَرْضُ ابْلَعِي مَآءَكِ وَياسَمَآءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَآءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} هود : 44 .

    {وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} القصص : 7 .

    ومن النصوص الوعظية :

    { ياأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ * كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ * إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} الانفطار : 6 – 14 .

    ومن النصوص الوصفية :

    {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَاداً * وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً * وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً * وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً * وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجَّاجاً * لنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً } النبأ : 6 – 15 .

    هذه النصوص كما ترى بعضها نزل سابقاً وبعضها نزل لاحقاً ، وكلٌ يتحدث عن معنى ولكن هل تجد اختلافاً في الأسلوب ؟

    إن إنساناً ذا عقل لا يستطيع أن يحكم على هذه الظاهرة إلا أنها خارقة للعادة .

    أول آية نزلت في الخمر قوله تعالى :

    {وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} النحل : 67 .

    فتعبير السكر والرزق الحسن دل على أن السكر غير الرزق الحسن ، فكانت أول آية غمزت من الخمر . ثم تأتي الآية الأخرى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} البقرة : 219 .

    ثم تأتي الآية الأخرى :

    { لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } النساء : 43 .

    ثم تنزل الآية الأخيرة :

    {يَـاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} المائدة : 90 . فهل تجد تناقضاً بين أول آية ذكرت الخمر وآخر آية . وعلى هذا فقس . فالقرآن تكامل خلال ثلاثة وعشرين عاماً . ما نقض معنى متأخرة معنى متقدم بل أكمله وأوضحه وتممه . وصدق الله العظيم {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} النساء : 82 .

    ح – والقرآن الكريم طرق معاني ما طرقها أحد من قبل في أمة العرب .

    فالمفروض لو كان الأمر بشرياً ، أن يرى آثار ذلك من ضعف صياغة ، وركة كلمات , وتلعثم وتكلف إلى غير ذلك ، إلا أن الواقع غير ذلك فقد تحدث القرآن عن الجنة والنار والملائكة والإنسان والجن والأخلاق والسياسة والكفر والإيمان ، وتحدث عن الذات الإلهية ، وناقش المعارضين ، وأفحم المجادلين ، وهو في ذلك كله في أعلى طبقات البلاغة ، وفي أعظمها ، وكل من أتى بعد وتحدث عن أي معنى طرقه القرآن ، كان فيما قال أقل فصاحة وبياناً غير واضح المعنى إذا ما قيس ما قيل إلى لغة القرآن . لدرجة أنك لا تستطيع أن تجد في اللغة العربية كلها كلمة تحل محل الكلمة القرآنية بجمالها وجرسها ، وما تعطيه من معنى ، ومناسبتها لما قبلها وبعدها . هذه البلاغة العظيمة كلها لم يرافقها شطحة فكر ، ولا كذبة خاطر ، ولا لفتة غير واقعية . بل الحق الذي لا يناقش فيه واحد .

    ونرى ذلك بشكل مضطرد من أول القرآن لآخره . كتاب ضخم لا يتخلف فيه حرف عما قلناه ، وزيادة على ذلك فإن الكلمة القرآنية ، والآية القرآنية تكاد تعطيك معناها وإن لم تعرفه ، وتكشف لك عما فيها وإن لم تفهم ، فجرس الحرف ، ومحل الكلمة في الآية ، ومحل الآية في السورة ، كل ذلك عجيب ، مظهر عجبه أن هذا الكتاب على كونه أعلى طبقة في طبقات البلاغة عرفه الإنسان ، فإنه سهل لدرجة أنه يفهمه كل إنسان ، ولكن كل إنسان يأخذ منه على قدر طاقته العقلية والروحية والقلبية . وكلما ارتقى أكثر كان في القرآن أكثر ، وكلما أتى جيل وجد في القرآن جديداً تفهمه الأجيال كلها . ولا تحيط بما فيه الأجيال كلها وصدق الله {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} القمر 17 .

    يقرؤه عالم الاقتصاد المختص ، فيستخرج منه أرقى ما تترقى به الحياة الاقتصادية للإنسان ، ويكتب في ذلك كتاباً ضخماً وفي القرآن مزيد لمستزيد .

    يقرؤه عالم الجيولوجيا فيجد فيه أعجب ما اكتشف علم الجيولوجيا في القرن العشرين ، فيؤلف في ذلك كتاباً ضخماً وفي القرآن مزيد لمستزيد .

    ويقرؤه عالم الفلك فيجد فيه أعجب ما عرف الإنسان في الفلك وفي القرآن مزيد ...

    ويقرؤه عالم الاجتماع فيرى أن الحياة الاجتماعية إذا خرجت عن سنن القرآن كان في ذلك دمارها .

    ويقرؤه ويقرؤه أصحاب كل اختصاص فيرون أنهم لا يسعهم أن يكونوا إلا تلاميذ صغاراً ولا يحيطون بأسراره علماً .

    ويقرؤه الرجل العادي فيفهمه فيتذكر ويبكي ويتعظ . إنه كتاب كل إنسان وإن كان بيانه أرقى من كل بيان ، وكلمته أفصح من كل كلمة ، حتى أنك لو فتشت في كل قواميس اللغة عن كلمة تحل محل الكلمة القرآنية فتكون أجمل منها أو أحكم أو أفصح أو حاولت أن تقدم كلمة منه عن محلها أو تحذفها أو تؤخرها بحيث يكون ما فعلت أحسن مما كان فإنك لا تستطيع مهما بذلت من جهد . بل تنقطع ويبقى القرآن هو القرآن . وزيادة على ذلك فإنك لا تجد الكلمة التي تعطيك المعنى المقصود بأبعاده كلها كالكلمة القرآنية . وهذه أمثلة توضح هذا الذي قدمناه هنا .

    {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} البقرة : 179 .

    قارن هذا التعبير بأي كلمة قالتها العرب في معناها أو يمكن أن تقولها فإنك ستجد الفارق الكبير بين التعبير القرآني وأي تعبير آخر . فمثلاً قال العرب في معنى الآية ما يلي : ( قتل البعض إحياء للجميع ) وقالوا ( أكثروا القتل ليقتل القتل ) وقالوا ( القتل أنفى للقتل ) ولعل آخرها أجودها فلنقارنه بالآية لنجد أن التعبير القرآني أفصح وأبلغ وأحكم في ستة أوجه وبعضهم أوصلها إلى أكثر من عشرة :

    أولاً – إن التعبير القرآني أخصر لأن المقارنة ما بين كلمتي ( القصاص حياة ) و ( القتل أنفى للقتل ) .

    ثانياً – إن قولهم ( القتل أنفى للقتل ) فيه التباس إذ ظاهره أن القتل سبب لانتفاء نفسه بخلاف لفظ القرآن فإنه واضح فيه أن نوعاً من القتل وهو القصاص سبب لنوع من أنواع الحياة .

    ثالثاً – في قولهم (القتل أنفى للقتل ) كررت كلمة القتل مرتين أما التعبير القرآني فذكرت فيه كلمتا قصاص وحياة .

    رابعاً – في قولهم ( القتل أنفى للقتل ) لم يشمل إلا نوعاً مما ينبغي القصاص فيه . أما التعبير القرآني فيشمل القتل وغير القتل ، من ما القصاص فيه سبب من أسباب الحياة السعيدة الآمنة .

    خامساً – إن القصد من القصاص حفظ الحياة الإنسانية ولذلك كان تعبير القرآن أجود ، إذ أوضح المقصود مباشرة ، من تعبيرهم الآخر إذ ذكر المقصود تبعاً .

    سادساً – وأخيراً فإن تعبيره قاصر وموهم وخاطئ : إذ قد يكون القتل سبباً لكثرة القتل كالقتل ظلماً ، فتعبيرهم عمم مع أنه ما كل قتل نافياً للقتل على خلاف التعبير القرآني . فإنه صحيح شامل غير موهم ، صادق ظاهراً وباطناً . كيف قلبته أعطاك معنى صحيحاً .

    وفي تعريف كلمة القصاص وتنكير كلمة الحياة في التعبير القرآني ، معاني عظيمة كبيرة أما هنا فليس في تعريف ولا إخبار أي ميزة .

    {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} الأنفال : 60 .

    هذا طلب أمرت به الأمة الإسلامية بالاستعداد ، وهو أمر لها في كل زمان ومكان . وشمل كل ما يلزم من أمر الإعداد والاستعداد ولنحاول أن نفهم النص :

    من : في اللغة العربية تأتي للجنس أحياناً وهذا معناها هنا ، والقوة فسرها الرسول صلى الله عليه وسلم بالرمي فلما قال الله {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ} صار المعنى وأعدوا لهم ما تستطيعون إعداده مما يرمى به ، أي من جنس ما يرمى به ، فشمل ذلك السهم والصاروخ والمدفع والقنبلة الذرية ، وكل ما يمكن أن يخترعه الإنسان من أدوات الرمي ، ولما قال {وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} أي وجنس رباط الخيل ، فشمل ذلك كل ما يركب للمعركة أي شمل التعبير كل الآليات .

    أرأيت الإعجاز الواضح إذ يسع النص القرآني الزمان كله ، والمكان كله ، ولو أنك حاولت أن تغير كلمة أو حرفاً من هذا لتعبير لبدا القصور ، فإنك ستجعل النص لزمان دون زمان أو قاصراً على جزء مما ينبغي إعداده .

    { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } البقرة 187 .

    هذا التعبير القصير الذي عبر عن المرأة بأنها لباس للرجل ، وكذلك الرجل بالنسبة للمرأة كم فيه من معان ؟

    أولاً – يشترط في اللباس أن يكون خاصاً بصاحبه ، وملكاً له وحده ، وكذلك ينبغي أن تكون كلها لزوجها لا لغيره . لا خدها ولا عينها ولا جسمها ولا ...

    ثانياً – ويشترط في اللباس أن يكون ساتراً لعورة الرجل ، وكذلك لعورة المرأة ، وكذلك المرأة بالنسبة للرجل أو العكس ، زوجتي ينبغي أن تكون ساترة لعيوبي لا تفضحني أما إذا كانت أداة فضيحة فهذا شيء لا يحتمل .

    ثالثاً – ويشترط في اللباس أن يكون طاهراً ونظيفاً وكذلك المرأة أو الرجل .

    رابعاً – ويشترط في اللباس أن يكون مناسباً لمكانة الإنسان الاجتماعية وكذلك الرجل مع المرأة .

    فهل تجد في اللغة العربية كلها كلمة تحل محل هذه الكلمة بحيث يبقى الجمال والكمال والجرس والانسجام مع السابق واللاحق وتعطي هذه المعاني كلها .

    {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} البقرة 223 .

    الحرث هي الأرض التي تفلح ليلقى فيها البذر ويلقى البذر من أجل الثمر ، فالرجل مهمته إلقاء البذار والمرأة مهمتها حضانة البذر . الأرض يعتني بها حتى تقطف الثمرة ، وتختار صالحة للزراعة ، ولا يلقي الإنسان بذاره في الأرض ويتركها ، ولا يبذر في غير أرضه وقد تختلف طريقة البذار ويبقى محل البذار واحداً .

    هل تجد كلمة في اللغة العربية تحل محل كلمة حرث ، لو قلت " أرض " لما أعطت المعنى المراد ولو قلت ولو قلت فلن تجد أجمل وأكمل وأكثر معاني وأجود وأصدق منها في محلها .

    { فَأَوْقِدْ لِي ياهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً } القصص 38 .

    الطين المشوي يسمى آجراً أو قرميداً بعد عملية صنعه ترى هل تحل واحدة من الكلمتين في محل هذا التعبير الجميل المصاغ هذه الصياغة العظيمة . ثم التعبير القرآني يدل على أن الآجر من ساعة الطلب غير موجود وفي ذلك لفتة تدلنا على حماقة فرعون وبطره إذ لم يقدر الزمان الكافي لعمل يحتاج إلى زمن طويل وهل يحل محل كلمة الصرح كلمة أخرى .

    {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ} الأعراف 133 .

    ترى لو تقدمت كلمة متأخرة على أخرى متقدمة ، فهل يبقى الجمال والتناسق واللطافة والوزن والنغم والخفة على الأذن كما هي موجودة في هذه الصياغة ؟ حتماً لا ...

    {كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ} العلق : 15 .

    لو سألك سائل ماذا تعني كلمة سفع في اللغة العربية فإنك لا تعرف إلا إذا رجعت إلى قاموس ، ولكنك إذا رجعت إلى الآية وتلوتها فإن قلبك يكاد يحس بمعناها وإن لم تعرف معناها وذلك سر من أسرار القرآن يحسه كل من له صلة بهذا القرآن .

    وبعد القرآن لا يمكن أن يكون وليد بيئة ولا يمكن أن يكون الكمال فيه والتناسق فيه والترتيب فيه والجمال فيه والوحدة فيه إلا من عند الله العظيم العليم .
    * * *

    والذي ذكرناه في هذه الفقرة الخامسة هو من خصائص القرآن المذكورة في الآيات :

    {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} القمر 17 {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} النساء 82 {قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} الزمر : 28 . {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} الزمر : 23 .
    * * *

    وبهذا نختم الحديث عن المعجزة القرآنية ، ولم نذكر إلا الطرف الأقل عنها . وإلا ففي القرآن مناحي لو بحثت لكان هنا محلها ككون القرآن فيه تبيان كل شيء {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} النحل : 89 .

    وككون القرآن يهدي دائماً وفي كل شيء لأقوم الطرق .

    {إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} الإسراء 9 .

    وغيرها وغيرها مما وصف الله به كتابه ، وتجد مصداقه فيه .

    ولعل فيما كتب في هذه الفقرة كفاية لطالب الحق ليؤمن أن هذا القرآن من عند الله ، وأن محمداً رسول الله ، وإذا بقي في قلبه شك ، فليجرب أن يؤلف مثل سورة مهما كانت قصيرة من سور القرآن ، فإن عجز فليجرب أن يتعاون مع الآخرين ممن هم أبلغ ، فإن عجزوا فقد قامت عليهم الحجة ولم يبق إلا الضلال والحماقة وعمى القلب وموت الضمير .

    {وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ ممَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ من مثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَآءَكُم من دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } البقرة : 23 ، 24 .

    {لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} الإسراء 88 .

    {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} فصلت 52 .
    * * *

    وإلى الفقرة الثانية من هذا الفصل .

  14. افتراضي

    الفقرة الثانية

    معجزات أُخرَى

    إن قدرة الإنسان محدودة بما حدها الله عز وجل به من عالم القوانين والأسباب ، فما كان ضمن هذه الدائرة استطاعه الإنسان وإلا فلا . فالإنسان مثلاً يستطيع إذا توفر لديه أوكسجين وهيدروجين والأدوات اللازمة لإحداث تفاعل بينهما أن يصنع منهما ماء فهذا داخل ضمن قوانين الكون واستطاعة الإنسان ، ولكن الإنسان لا يستطيع أن يوجد ماء من عدم مطلق ، ويستطيع الإنسان أن يتحكم بالكترونات وبروتونات النحاس فيصبح النحاس ذهباً إذا توفرت لذلك شروط وأدوات معينة . ولكن الإنسان لا يستطيع أن يوجد ذهباً من لا شيء ، والبخار الموجود في الجو ينعقد مطراً إذا وجدت شروط معينة من برودة وكثافة وغيرها ، ويستطيع الإنسان ببعض الوسائط أن يوفر هذه الشروط في الجو فينزل مطراً صناعياً كما يقولون . ولكن لا يستطيع الإنسان بمجرد الكلام أن ينزل مطراً .

    إذن رغم ما أعطى الله الإنسان من إمكانات يستطيع بها تسخير هذا الكون لصالحه ، فإن قدرة الإنسان محدودة ضمن قوانين هذا الكون .

    ويبقى الله وحده ذا السلطان المطلق ، والقدرة المطلقة التي يخلق بها ما شاء من الممكنات .

    بعد هذا نقول : إن مما يعرف به الإنسان أنه رسول الله هو أن تظهر معه آثار قدرة الله . فتظهر على يديه خوارق لعادات هذا الكون وقوانينه وأسبابه هذا الكون مما لا يمكن أن يكون للجهد البشري فيه تعلق ، فيعرف الناس بذلك أن هذا الإنسان رسول الله . بدليل أنها ظهرت معه آثار قدرة الله . وتقوم بذلك حجة الله على خلقه بأنه أرسل رسولاً ، وتقوم بذلك حجة الرسول على الخلق بأنه صادق في دعوى الرسالة ، ولا يكون لأحد عذر في عدم متابعة الرسول بعد ذلك .

    وكما تقوم الحجة على من عاصر الرسول صلى الله عليه وسلم تقوم على مَن بعدهم بثبوت معجزاته تاريخياً إذ الثابت تاريخياً كالثابت مشاهدة في إقامة الحجة .
    * * *

    ولم يوجد رسول أبداً في تاريخ العالم كانت له معجزات كثيرة ثابتة ثبوتاً تاريخياً يتحدى أدق معايير النقد التاريخي مثل ما كان لخاتم رسل الله محمد صلى الله عليه وسلم . فإن معايير النقد التي وضعها علماء المسلمين لاستخلاص الوقائع الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلمما وصل إليها العالم قط ولا يرقى إلى نتائجها شك .

    والدارس لهذه المعجزات الثابتة تاريخياً يرى بوضوح لا مزيد عليه ، آثار قدرة الله المباشرة مؤيدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأشكال وصور ومظاهر تحيط بكل الأوضاع . مما لا يبقي ريباً لمرتاب . إلا إذا مات إنصافه مع قلبه فعمي بذلك عقله .

    وهذه نماذج من هذه الواقعات التي لا تفسر إلا بالقدرة الإلهية المؤيدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع ملاحظة أن المعجزة الأساسية لرسول الله والتي بها قامت الحجة على خلق الله في كل العصور هي القرآن ، الذي رأينا بعض ما فيه في الفقرة السابقة مما يشهد أنه كتاب الله ومع ملاحظة أننا لم نرد الاستقصاءَ هنا وإنما أردنا ضرب الأمثلة فقط ، وإلا فمعجزات الرسول عليه الصلاة والسلام كثيرة جداً .

    - 1 -

    أخرج مسلم والبيهقي وأبو نعيم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما : قال : سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا جابر ناد بوضوء . فقلت ألا وضوء ؟ ألا وضوء ؟ قلت يا رسول الله ما وجدت في الركب من قطرة ، وكان رجل من الأنصار يبرد لرسول الله صلى الله عليه وسلم الماء فقال لي : انطلق إلى فلان الأنصاري فانظر في أشجابه من شي ، فانطلقت إليه فنظرت فيها فلم أجد فيها إلا قَطْرةً في غزْلاء شَجْبٍ يابسةٍ مما لو أني أفرغه لشربه واحد فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته قال :

    اذهب فأتني به ، فأتيته به فأخذه بيده فجعل يتكلم بشيء لا أدري ما هو ويغمزه بيده ثم أعطانيه فقال :

    " يا جابر ناد بجَفْنةِ الركب فقلت " .

    يا جفنة الركب ، فأتيت بها تحمل فوضعت بين يديه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده هكذا فبسطها في الجفنة وفرق بين أصابعه ثم وضعها في قعر الجفنة وقال : خذ يا جابر فصب علي وقل بسم الله ، فرأيت الماء يفور من بين أصابعه ففارت الجفنة وفارت حتى امتلأت فقال يا جابر ناد من كانت له حاجة بماء ، فأتى الناس فاستقوا حتى رووا ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الجفنة وهي ملأى .

    وأخرج الشيخان من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس رضي الله عنه قال : " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحانت صلاة العصر والتمس الناس الوضوء فلم يجدوه فأتي بوضوء فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده في ذلك الإناء وأمر الناس أن يتوضأ منه فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه فتوضأ الناس حتى توضأوا من عند آخرهم " .

    وأخرج الشيخان من طريق ثابت رضي الله عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بماء فأتي بقدح رحراح فيه شيء من ماء فوضع أصابعه فيه فجعلت أنظر إلى الماء ينبع من بين أصابعه فجعل القوم يتوضؤون فحزرت من توضأ منه ما بين السبعين إلى الثمانين " .

    وأخرج الشيخان عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا بالزرواء فدعا بقدح فيه ماء فوضع كفه فيه فجعل الماء ينبع من بين أصابعه وأطراف أصابعه فتوضأ أصحابه به جميعاً . قلت لأنس كم كانوا قال : زهاء ثلاث مائة " .

    وأخرج أحمد والبيهقي والبزار والطبراني وأبو نعيم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وليس في العسكر ماء فقال رجل : يا رسول الله ليس في العسكر ماء . قال هل عندكم شيء ؟ قال : نعم . فأتي بإناء فيه شيء من ماء فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه في فم الإناء وفتح أصابعه قال : فرأيت العيون تنبع من بين أصابعه فأمر بلالاً أن ينادي في الناس الوضوء المبارك " .

    وأخرج البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : " إنكم تعدون الآيات عذاباً وكنا نعدها بركة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كنا نأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نسمع تسبيح الطعام وأتي النبي صلى الله عليه وسلم بإناء فجعل الماء ينبع من بين أصابعه فقال النبي صلى الله عليه وسلم حي على الطهور المبارك والبركة من الله حتى توضأنا كلنا " .

    وأخرج البخاري عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بالحديبية على ثمد قليل الماء يتربضه الناس تربضاً فلم يلبث الناس حتى نزحوه وشكي لرسول الله صلى الله عليه وسلم العطش فانتزع سهماً من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه فوالله ما زال يجيش لهم الري حتى صدروا عنه وكانوا بضع عشرة مائة من أصحابه " .

    وأخرج البخاري عن البراء رضي الله عنه قال : تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحاً ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة والحديبية بئر فنزحناها فلم نترك فيها قطرة فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاها فجلس على شفيرها ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ ثم تمضمض ودعا ثم صبه فيها فتركناها غير بعيد ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركابنا .

    وأخرج مسلم عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال : " قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديبية ونحن أربع عشرة مائة معها خمسون شاة ما ترويها فقد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جباها يعني الركية فإما دعا وإما بزق فيها فجاشت فسقينا وأسقينا " .

    وأخرج مسلم عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنهم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك فقال : " إنكم ستأتون غداً إن شاء الله عين تبوك وإنكم لن تأتوها حتى يضحى النهار فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئاً فأتاها والعين مثل الشراك تبض بشيء من ماء فغرف من العين قليلاً قليلاً حتى اجتمع في شيء ثم غسل وجهه ويديه ثم أعاده فيها فجرت العين بماء كثير فاستقى الناس ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما ههنا قد ملئ جناناً " .

    وأخرج الشيخان عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال : " كنا في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكا إليه الناس العطش فدعا علياً ورجلاً آخر فقال : اذهبا فابغياني الماء فانطلقا فلقيا امرأة بين مزادتين أو سطيحين من ماء على بعيرها فقال لها أين الماء قالت عهدي بالماء أمس هذه الساعة ( أي يبعد مسيرة يوم كامل ) فانطلقا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بإناء فأفرغ فيه من أفواه المزادتين فمضمض في الماء وأعاده في أفواه المزادتين وأوكأ أفواههما وأطلق العزالي ( أي مصب الماء من القربة) ونودي في الناس أن اسقوا واستقوا فسقى من شاء واستقى من استقى وهي قائمة تنظر ما يفعل بمائها وايم الله لقد أقلعوا عنهما وإنه ليخيل إلينا أنها أشد ملاءً منها حين ابتدؤا فيها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :اجمعوا لها فجمعوا لها من بين عجوة ودقيقة وسويقة حتى جمعوا لها طعاماً كثيراً فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : تعلمين والله ما رزئنا من مائك شيئاً ولن الله عز وجل هو سقانا . قال : فأتت أهلها وقد احتبست عنهم فقالوا : ما حسبك يا فلانة ، قالت : العجب لقيني رجلان وذهبا بي إلى هذا الذي يقال له : الصابئ ففعل بمائي كذا وكذا الذي قد كان فوالله لإنه أسحر من بين هذه وهذه وقالت بأصبعها الوسطى والسبابة فرفعتهما إلى السماء تعني السماء والأرض أو أنه لرسول الله حقاً .

    قال : فكان المسلمون بعد يغيرون على ما حولها من المشركين ولا يصيبون الصرم الذي هي فيه فقالت يوماً لقومها ما أرى إلا أن هؤلاء القوم يدعونكم عمداً فهل لكم في الإسلام فأطاعوها فدخلوا في الإسلام " .

    وأخرج مسلم عن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فأسرى ثم نام فما استيقظ إلا والشمس في ظهره فدعا بميضأة كانت معي فيها شيء من ماء فتوضأ منها ثم قال احفظ علينا ميضأتك فسيكون لها نبأ فسار حتى امتد النهار فقال الناس هلكنا وعطشنا فقال : لا هلك عليكم .

    ثم قال انطلقوا إلى غمري ( يعني القدم الصغير ) فدعا بالميضأة فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصب وأبو قتادة يسقيهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم أحسنوا الملء كلكم سيروى حتى ما بقي أحد .

    - 2 -

    أخرج البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب إلى جذع فلما اتخذ المنبر تحول إليه فحن الجذع فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسحه فسكن .

    وأخرج أحمد وابن سعد والدارمي وابن ماجه وأبو نعيم والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب إلى جذع قبل أن يتخذ المنبر فلما اتخذ المنبر وتحول إليه حن الجذع فأتاه فاحتضنه فسكن فقال صلى الله عليه وسلم : " لو لم أحتضنه لحن إلى يوم القيامة " .

    وأخرج الدارمي والترمذي وأبو يعلى والبيهقي وأبو نعيم عن أنس رضي الله عنه قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم إلى جذع فلما اتخذ المنبر وقعد عليه خار الجذع كخوار الثور حتى ارتج المسجد بخواره فنزل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فالتزمه فسكت فقال : والذي نفسي بيده لو لم ألتزمه لما زال هكذا إلى يوم القيامة حزناً على رسول الله صلى الله عليه وسلم " .

    وأخرج ابن سعد وابن راهويه في مسنده والبيهقي عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم إلى خشبة فلما اتخذ المنبر حنت الخشبة فأقبل الناس عليها فرقوا من حنينها حتى كثر بكاؤهم فنزل صلى الله عليه وسلم فأتاها فوضع يده عليها فسكنت " .

    وأخرج الدارمي وابن ماجه وابن سعد وأبو يعلى وأبو نعيم والبيهقي عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع فصنع المنبر فلما جاوز ذلك الجذع إليه خار حتى تصدع وانشق فنزل صلى الله عليه وسلم فمسحه بيده حتى سكن " .

    وأخرج البيهقي وأبو نعيم عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : " كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم خشبة يستند إليها إذا خطب فصنع له منبر فلما فقدته خارت خوار الثور حتى سمعها أهل المسجد فأتاها صلى الله عليه وسلم فاحتضنها فسكنت " .

    وأخرج ابن أبي شيبة والدارمي وأبو نعيم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع فصنع له منبر فلما قام عليه حن الجذع حنين الناقة إلى ولدها فنزل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فضمه إليه فسكن " .

    وأخرج ابن أبي شيبة والدارمي وأبو نعيم عن أبي سعيد الخدري قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع فصنع له منبر فلما قام عليه حن الجذع حنين الناقة إلى ولدها فنزل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فضمه إليه فسكن " .

    وأخرج البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : " كان جذع يقوم إليه النبي صلى الله عليه وسلم فلما وضع له المنبر سمعنا للجذع صوتاً مثل أصوات العشار .. ( النياق ) .. حتى نزل النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليه فسكت " .

    قال التاج السبكي : حنين الجذع متواتر لأنه ورد عن جماعة من الصحابة إلى نحوالعشرين من طرق صحيحة تفيد القطع بوقوعه ، وقال القاضي عياش في ( الشفاء ) : إنه متواتر . وقال البيهقي : قصة حنينه من الأمور الظاهرة التي نقلها الخلف عن السلف .

    - 3 -

    أخرج البخاري عن أنس رضي الله عنه قال : أصابت الناس سنة ( جدب ) على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يوم الجمعة يخطب أتاه أعرابي فقال : يا رسول الله هلك المال وجاع العيال فادع الله لنا . فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وما نرى في السماء قزعة ، فوالذي نفسي بيده ما وضعهما حتى ثار سحاب كأمثال الجبال ثم لم ينزل عن المنبر حتى رأيت الماء يتحادر على لحيته فمطرنا يومنا ذلك ومن الغد وبعد الغد والذي يليه حتى الجمعة الأخرى فقام ذلك الأعرابي فقال : يا رسول الله تهدم البناء فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وقال : اللهم حوالينا ولا علينا فما يشير بيده إلى ناحية من السحاب إلا انفرج حتى صارت المدينة مثل الجوبة وسال الوادي قناة شهراً ولم يجئ أحد من ناحية إلا حدّث بالجود " وأخرج مسلم مثله .

    وأخرج البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يستسقي فما ينزل حتى يجيش كل ميزاب :

    وأبيض يستقى الغَمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل

    وأخرج أبو نعيم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ناساً من مضر أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه أن يدعو الله أن يسقيهم فقال : اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً هنيئاً مريئاً مريعاً غدقاً طبقاً نافعاً غير ضار عاجلاً غير رائث فأطبقت عليهم حتى مطروا سبعاً .

    - 4 -

    وأخرج الدارمي وأبو يعلى والطبراني والبزار وابن حبان والبيهقي وأبو نعيم بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال :

    كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأقبل أعرابي فلما دنا قال له النبي صلى الله عليه وسلم أين تريد قال إلى أهلي قال هل لك في خير قال : وما هو قال : تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله قال : من شاهد على ما تقول ؟ قال : هذه الشجرة ، فدعاها رسول الله وهو بشاطئ الوادي فأقبلت تخدّ الأرض خداً حتى جاءت بين يديه فاستشهدها ثلاثاً فشهدت أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رجعت إلى منبتها ورجع الأعرابي إلى قومه فقال إن يتبعوني آتك بهم وإلا رجعت إليك فكنت معك .

    وروى البخاري في تاريخه والبيهقي والدارمي بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : بم أعرف أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : إن دعوت هذا العذق من هذه النخلة أتؤمن بي ؟ قال : نعم . فدعاه فجعل ينقز ( أي يثب ) حتى أتاه فقال : ارجع فعاد إلى مكانه فأسلم الأعرابي .

    وفي رواية : فجعل ينزل من النخلة شيئاً فشيئاً حتى سقط على الأرض فأقبل وهو يسجد ويرفع حتى انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال له : ارجع فعاد فأسلم الأعرابي وقال : أشهد أنك رسول الله .

    وروى الإمام أحمد والطبراني والبيهقي عن يعلى بن مرة الثقفي رضي الله عنه قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في مسير فذكر الحديث إلى أن قال : ثم سرنا حتى نزلنا منزلاً فنام النبي صلى الله عليه وسلم فجاءت شجرة تشق الأرض حتى غشيته ، وفي رواية : طافت به ثم رجعت إلى مكانها فلما استيقظ صلى الله عليه وسلم ذكرت له ذلك فقال : " هي شجرة استأذنت ربها في أن تسلم عليَّ فأذن لها " .

    وأخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما – قال : آذنت ( أي أعلمت ) النبي صلى الله عليه وسلم بالجن ليلة استمعوا له شجرة وأن الجن قالوا : مَن يشهد لك ( أي بأنك رسول الله ) فقال صلى الله عليه وسلم : " هذه الشجرة " ثم دعاها للشهادة فجاءت تجر عروقها لها قعاقع .

    وأخرج الإمام أحمد والبيهقي والطبراني بسند صحيح عن يعلى بن سبابة رضي الله عنه قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأمر وَدِيَّتَينِ ( أي نخلتين صغيرتين ) فانضمتا .

    وأخرج البزار عن بريدة بن الخصيب رضي الله عنه قال :

    سأل أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم آية ( أي علامة ) تدل على أنه رسول الله فقال له : قل لتلك الشجرة : رسول الله يدعوك . فدعاها فمالت الشجرة عن يمينها وشمالها وبين يديها وخلفها فتقطعت عروقها ثم جاءت تخد الأرض تجر عروقها مغبرة حتى وقفت بين يدي رسول الله فقالت : السلام عليك يا رسول الله . قال الأعرابي : مرها فلترجع إلى منبتها فرجعت فدلت عروقها فاستوت فقال الأعرابي : ائذن لي أسجد لك ، أي بعد أن آمن به صلى الله عليه وسلم كما صرح به في رواية فقال له صلى الله عليه وسلم : " لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها " . فقال الأعرابي : فأذن لي أقبل يديك ورجليك فأذن له.

    قال الشيخ أحمد الدحلان في السيرة النبوية : وأحاديث كلام الشجر له صلى الله عليه وسلم كثيرة شهيرة رواها أهل السنن عن كثير من الصحابة منهم عمر بن الخطاب . وعلي بن أبي طالب . وعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله ، وأسامة بن زيد ، وأنس بن مالك ويعلى بن مرة وغيرهم رواها عنهم أضعافهم من التابعين .

    وقال القاضي عياض في الشفاء عنها : فصارت في انتشارها من القوة حيث هي ، قال الشهاب الخفاجي : يعني أنها نقلت عن كثير من الصحابة والتابعين حتى بلغت التواتر المعنوي وصارت في مرتبة قوية لا يشك فيها أحد من العقلاء .

    - 5 -

    يقول الله تعالى :

    {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُواْ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَآءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ} القمر 1 – 3 .

    وروى البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : انشق القمر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين فرقة فوق الجبل وفرقة دونه فقال عليه الصلاة والسلام :

    " اشهدوا "

    وروى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه : " أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما " .

    وروى الترمذي من حديث ابن عمر في قوله تعالى : {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ} قال : قد كان ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم انشق فلقتين دون الجبل وفلقة فوق الجبل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اشهدوا " .

    وروى الإمام أحمد عن جبير بن مطعم قال : " انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين : فرقة على هذا الجبل وفرقة على هذا الجبل فقالوا سَحَرَنا محمد فقالوا إن كان سحَرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس " .

    وروى أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال :

    " اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم الوليد بن المغيرة وأبو جهل والعاص بن وائل والأسود بن المطلب والنضر بن الحارث ونظراؤهم فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن كنت صادقاً فشق لنا القمر فلقتين ، فسأل ربه فانشق " .

    ونقل الخطيب في تفسيره عن حذيفة وقد خطب في المدائن قوله : " ألا إنَّ الساعة قد اقتربت وأن القمر قد انشق على عهد نبيكم " .

    وكفى ذكره في القرآن الكريم حتى يحكم بتواتره إذ الآيات وضاحة فيه ولا يمكن أن تفسر بغيره ولذلك أجمع المفسرون وأهل السنة على وقوعه كما قال القاضي عياض والسبكي وغيرهم .

    ونقل صاحب كتا إظهار الحق عن المقالة الحادية عشر من تاريخ فرشنة ، أن أهل مليبار من إقليم الهند رأوه أيضاً " أي حادث انشقاق القمر " .

    وذكر الحافظ المزي عن ابن تيمية أن بعض المسافرين ذكر أنه وجد في بلاد الهند بناءً قديماً مكتوباً عليه بني ليلة انشق القمر .

    وقد أثار بعض مبشري النصارى شبهات حول هذا الموضوع ، من ناحية أن هذا الحدث كان ينبغي أن يذكر في كل التآريخ العالمية لو كان صحيحاً متناسين أن الخسوف مثلاً قد يقع في منطقة من العالم ، ويبقى ساعات ولا يراه إلا أهلها . وقد ناقش مقالتهم صاحب الكتاب المذكور آنفاً . وننقل جزءاً من مناشقته للأمر قال :

    1 - إن انشقاق القمر كان في الليل ، وهو وقت الغفلة والنوم والسكون عن المشي ، والتردد في الطرق ، سيما في موسم البرد ، فإن الناس يكونون مستريحين في داخل البيوت وزواياها ، مغلقين أبوابها ، فلا يكاد يعرف من أمور السماء شيئاً إلا مَن انتظره واعتنى به , ألا ترى إلى خسوف القمر فإنه يكون كثيراً وأكثر الناس لا يحصل لهم العلم به حتى يخبرهم أحد به في السحر .

    2 – إن هذه الحادثة ما كانت ممتدة إلى زمان كثير فما كان للناظر أن يذهب إلى الغير الذي هو بعيد عنه وينبهه أو يوقظ النائم ويريه .

    3 – إنها لم تكن متوقعة الحصول لأهل العلم ينظرونها في وقتها ، ويرونها كما أنهم يرون هلال رمضان , والعيدين والكسوف والخسوف في أوقاتها غالباً لأجل كونها متوقعة الحصول ، ولا يكون نظر كل واحد إلى السماء في كل جزء من أجزاء النهار أيضاً فضلاً عن الليل ، فلذلك رأى الذين كانوا طالبين لهذه المعجزة ، وكذلك من وقع نظره في هذا الوقت إلى السماء ، كما جاء في الأحاديث الصحيحة أن الكفار لما رأوها قالوا : سَحَركُم ابن أبي كبشة فقال أبو جهل : هذا سحر فابعثوا إلى أهل الآفاق حتى تنظروا رأوا ذلك أم لا . فأخبر أهل آفاق مكة أنهم رأوه منشقاً وذلك لأن العرب يسافرون في الليل غالباً ويقيمون في النهار ، فقالوا هذا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ... ثم نقل ما ذكرناه قبل هذا النقل .

    4 – إنه قد يحول في بعض الأمكنة وفي بعض الأوقات في الديار التي ينزل فيها المطر كثيراً فإنه يكون في بعض الأمكنة سحاب غليظ ونزول المطر بحيث لا يرى الناظر في النهار الشمس ولا هذا اللون الأزرق إلى ساعات متعددة ، وكذا لا يرى في الليل القمر والكواكب ولا اللون المذكور في بعض أمكنة أخرى . لا أثر للسحاب ولا للمطر ، وتكون المسافة بين تلك الأمكنة والأمكنة الأولى قليلة ، وأهل البلاد الشمالية كالروم في موسم نزول الثلج والمطر لا يرون الشمس إلى أيام فضلاً عن القمر .

    5 – إن القمر لاختلاف مطالعه ليس في حد واحد لجميع أهل الأرض فقد يطلع على قوم قبل أن يطلع على آخرين فيظهر في بعض الآفاق وبعض المنازل على أهل بعض ابلاد دون بعض ...

    - 6 -

    أخرج البخاري عن البراء رضي الله عنه : أن عبد الله بن عتيك لما قتل أبا رافع ونزل من درجة بيته سقط إلى الأرض فانكسر ساقه قال فحدثت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ابسط رجلك فبسطتها فمسحها فكأنما لم أشكُها قط .

    وأخرج الشيخان ( البخاري ومسلم ) عن سهل بن سعد رضي الله عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر : لأعطين هذه الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه فلما أصبح قال : أين علي بن أبي طالب قالوا : يشتكي عينيه قال : فأرسلوا إليه فأتى به فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع " .

    وأخرج البخاري عن يزيد بن أبي عبيد قال :

    " رأيت أثر ضربة في ساق سلمة بن الأكوع فقلت : ما هذه الضربة ، قال : ضربة أصابتني يوم خيبر فقال الناس : أصيب سلمة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فنفث فيها ثلاث نفثات فما اشتكيت منها حتى الساعة " .

    وأخرج النسائي والترمذي والحاكم والبيهقي وصححوه وأخرجه البرهان الحلبي من طرق متعددة حتى قال الشهاب الخفاجي في شرح الشفاء : فلم يبق فيه شبهة .

    عن عثمان بن حنيف رضي الله عنه أن رجلاً أعمى قال :

    " يا رسول الله ادع الله لي أن يكشف عن بصري فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : انطلق فتوضأ ثم صل ركعتين ثم قل : اللهم إن أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك أن يكشف عن بصري اللهم شفعه فيّ ، فما قام القوم من مجالسهم إلاّ ورجع الرجل وقد أبصر ، وكان عثمان بن حنيف وبنوه يعلّمونه للناس فيدعون به عند تعسر قضاء الحاجات فتقضى " .

    وأخرج ابن عدي وأبو يعلى والبيهقي من طريق عاصم بن عمر بن قتادة عن جده قتادة ابن النعمان : " أنه أصيبت عينه يوم بدر فسالت حدقته على وجنته فأرادوا أن يقطعوها فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : لا فدعا به فغمز حدقته براحته فكان لا يدري أي عينيه أصيبت " .

    وأخرج البيهقي من وجه آخر عن قتادة مثله وزاد بعد قوله " براحته " وقال : " اللهم اكسه جمالاً " .

    وأخرج ابن سعد عن زيد بن أسلم رضي الله عنه " أن عين قتادة بن النعمان أصيبت فسالت على خده فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت أصح عينيه " .

    وأخرج البيهقي وأبو نعيم والطبراني من طرق أن عين قتادة أصيبت يوم أحد فوقعت على وجنته فردها صلى الله عليه وسلم فكانت أحسن عينيه .

    ولفظ رواية الطبراني وأبي نعيم عن قتادة قال : كنت يوم أحد أتقي السهام بوجهي دون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان آخرها سهماً ندرت منه حدقتي فأخذتها بيدي وسعيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآها في كفي دمعت عيناه فقال : اللهم قِ عين قتادة كما وقى وجه نبيك بوجهه فاجعلها أحسن عينيه وأحدّهما نظراً فصارت كذلك .

    والظاهر أن إحدى عينيه أصيب في بدر والأخرى في أحد .

    وأخرج الإمام أحمد والطبراني عن الوازع قال : قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم والأشج في ركب ومعنا رجل مصاب فقلت : يا رسول الله إن معي خالاً مصاباً فادع الله له قال : ائتني به ، فأتيت به فأخذ طائفة من ردائه فرفعها حتى رأيت بياض إبطيه ثم ضرب ظهره وقال : اخرج عدو الله فأقبل ينظر نظر الصحيح ليس بنظره الأول ثم أقعده بين يديه فدعا له ، ومسج وجهه فلم يكن في الوفد أحد بعد دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم يفضل عليه .

    وأخرج أبو يعلى والبيهقي بسند حسنه ابن حجر في المطالب العالية عن أسامة بن زيد قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحجة التي حجها حتى إذا كنا ببطن الروحاء نظر إلى امرأة تؤمه فحبس راحلته ، فلما دنت منه قالت : يا رسول الله : هذا ابني ما أفاق من يوم ولدته إلى يومي هذا فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم منها ووضعه بني صدره وواسطه الرحل ثم تفل في فيه وقال : اخرج يا عدو الله فإني رسول الله ثم ناولها إياه وقال خذيه فلا بأس عليه قال أسامة : فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حجه انصرف حتى إذا نزل ببطن الروحاء أتته تلك المرأة بشاة قد شوتها ...

    وأخرج أحمد وابن أبي شيبة والبيهقي والطبراني وأبو نعيم من طريق سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أمه أم جندب قالت :

    رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند جمرة العقبة فرمى ورمى الناس ثم انصرف فجاءت امرأة ومعها ابن لها به مس ( أي جنون ) قالت : يا رسول الله ابني هذا به بلاء لا يتكلم فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم فجاءت بتور ( إناء من حجارة فيه ماء ) فأخذه صلى الله عليه وسلم بيده فمج فيه ودعا فيه وأعاده فيه ثم أمرها فقال : اسقيه واغسليه فيه قالت : فتبعتها فقلت : هبي لي من هذا الماء قالت : خذي منه فأخذت منه حفنة فسقيتها ابني عبد الله فعاش فكان من يره ما شاء الله أن يكون قالت : ولقيت المرأة فزعمت أن ابنها برأ وأنه غلام لا غلام خير منه " ولفظ أبي نعيم : براً وعقل عقلاً ليس كعقول الناس " .

    وأخرج أحمد والدارمي والطبراني والبيهقي وأبو نعيم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة جاءت بابن لها فقالت : يا رسول الله إن بابني هذا جنوناً وإنه يأخذ عنده غداءنا وعشاءنا فيفسد علينا ، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره ودعا له فثع ثعة فخرج من جوفه مثل الجرو الأسود فشفي .

    وأخرج الحاكم عن أبي بن كعب قال :

    كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء أعرابي فقال : يا نبي الله إن لي أخاً به وجع قال : وما وجعه قال : به لمم ( أي جنون ) قال : فائتني به فأتاه به فوضعه بين يديه فعوذه النبي صلى الله عليه وسلم بفاتحة الكتاب وأربع آيات من أول سورة البقرة وهاتين الآيتين :

    {وَإِلَـهُكُمْ إِلَـهٌ وَاحِدٌ} .. وآية الكرسي وثلاث آيات من آخر سورة البقرة وآية من آل عمران : {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ} وآية من الأعراف : {إِنَّ رَبَّكُمُ ...} وآخر سورة المؤمنون : {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ..} وآية من سورة الجن {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا ..} وعشر آيات من أول الصافات وثلاث آيات من آخر سورة الحشر و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والمعوذتين فقام الرجل كأنه لم يشك شيئاً قط .

    ورواه عبد الله بن الإمام أحمد في الزوائد بسند حسن .

    ومعجزة أخرى متواترة النقل تقدم لها بما يلي :

    لقد صعد الإنسان إلى ارتفاعات كبيرة في هذا القرن ، ولكن رغم هذا فإنه باق ضمن إطار معين محدود في السرعة والزمان والمكان . فهو ما جاوز بعد دائرة الأرض ومجاوزته دائرة المجموعة الشمسية مستحيل وأقرب نجم إلى مجموعتنا الشمسية على ما يقال يبعد حوالي أربع سنين ضوئية أي لو سار الإنسان بسرعة 300000 كم في الثانية فإنه يصل بعد أربع سنوات وهذا مستحيل المستحيلات .

    وهنا يظهر الفارق بين المعجزة والعادة ، المعجزة تتعلق بقدرة الله المباشرة أما العادة فهي خاضعة للأسباب التي جعل الله عز وجل هذا العالم يسير عليها .

    فقد أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى القدس وعرج به إلى ما فوق السماء السابعة ورجع في مدة قصيرة لجداً لم تتجاوز دقائق أو سويعات قليلة فكان في ذلك معجزة دلت على قدرة الله وعلى أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    وقد يقول قائل : إن المعجزة حتى تقوم بها الحجة على الناس ينبغي أن تكون مشاهدة يراها الناس ، والإسراء والمعراج لم يرهما أحد وإنما أخبر عنهما محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه والإخبار بالمعجزة وحده من صاحبها لا تقوم به الحجة على الناس .

    والجواب أن الحجة قامت بسبب أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر عن قضايا ما كان ليستطيع الإخبار عنها لولا أنه أسري به وعرج وبهذا قامت الحجة على الناس . إذ أن الناس عندما أخبرهم بما حدث له سألوه دليلاً فقدم لهم جواباً عن كل ما سألوه وهذه أمثلة :

    أ – أخرج ابن أبي حاتم عن يزيد بن أبي مالك عن أنس ... فلما سمع المشركون قوله أتوا أبا بكر فقالوا يا أبا بكر هل لك في صاحبك يخبر أنه أتى في ليلته هذه مسيرة شهر ثم رجع مسيرة شهر ثم رجع في ليلة فقال أبو بكر : إن كان قاله فقد صدق . وإنا لنصدقه فيما هو أبعد من هذا ، نصدقه على خبر السماء . فقال المشركون لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما علامة ما تقول : قال : مررت بعير لقريش وهي في مكان كذا وكذا فنفرت الإبل منا واستدارات وفيها بعير عليه غرارتان غرارة سوداء وغرارة بيضاء فصرع فانكسر فلما قدمت العير سألوهم فأخبروهم الخبر على مثل ما حدثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    ب – أخرج الشيخان عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما كذبتني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس قمت في الحجر فجلى الله لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه .

    ج – أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي وصححه والبزار والطبراني وابن مردويه عن شداد بن أوس : " ... فأتاني أبو بكر فقال : يا رسول الله أين كنت الليلة فقد التمستك في مظانك فقلت : علمت أني أتيت بيت المقدس الليلة فقال : يا رسول الله إنه مسيرة شهر فصفه لي قال ففتح لي صراط كأني أنظر إليه لا يسألني عن شيء إلا أنبأته عنه قال أبو بكر : أشهد أنك رسول الله فقال المشركون : انظروا إلى ابن أبي كبشة يزعم أنه أتى بيت المقدس الليلة فقال : إن من آية ما أقول لكم أنني مررت بعير لكم بمكان كذا وكذا قد أضلوا بعيراً لهم فجمعه فلان وأن مسيرهم ينزلون بكذا ثم كذا ويأتونكم يوم كذا وكذا يقدمهم جمل آدم عليه مسح أسود وغرارتان سوداوان فلما كان ذلك اليوم أشرف الناس ينتظرون حتى كان قريباً من نصف النهار أقبلت العير يقدمهم ذلك الجمل الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم " .

    وليس في هذا النص والنص الأول تناقض فالنص الأول يتحدث عن جمل عليه غرارة بيضاء وأخرى سوداء انكسرت رجله أما هذا فيتحدث عن الجمل الأول في القافلة وعليه غرارتان سوداوان .

    د – أخرج أحمد وابن أبي شيبة والنسائي البزار والطبراني وأبو نعيم بسند صحيح من طريق زرارة بن أوفى عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما كان ليلة أسري بي فأصبحت بمكة قطعت وعرفت أن الناس مكذبي فقعد معتزلاً حزيناً فمر به عدو الله أبو جهل فجاء حتى جلس إليه فقال له كالمستهزئ :

    هل كان من شيء ؟ قال : نعم قال : وما هو ؟ قال : إني أسريَ بي الليلة ، قال : إلى أين – قال : إلى بيت المقدس قال : ثم أصبحت بين ظهرانينا ؟ قال : نعم فلم ير أن يكذبه مخافة أن يجحده الحديث إن دعا قومه إليه قال :

    أرأيت إن دعوت قومك أتحدثهم ما حدثتني ؟ قال : نعم قال : هيا معشر بني كعب بن لؤي فانفضت إليه المجالس وجاءوا حتى جلسوا إليهما قال : حدث قومك بما حدثتني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

    إني أسري بي الليلة قالوا : إلى أين ؟ قال : إلى بيت المقدس قالوا : ثم أصبحت بين ظهرانينا ؟ قال : نعم قال : فمن بين مصفق ومن بين واضع يده على رأسه متعجباً قالوا : وتستطيع أن تنعت المسجد وفي القوم من سافر إليه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فذهبت أنعت فما زلت أنعت حتى التبس علي بعض النعت فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه حتى وضع دون دار عقيل أو عقال فنعته وأنا أنظر إليه فقال القوم : أما النعت فوالله لقد أصاب .

    هـ - أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي وابن عساكر من طريق أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حدث عن ليلة أسرى به ... ثم أصبح بمكة يخبرهم العجائب : إني أتيت البارحة بيت المقدس وعرج بي إلى السماء ثم رأيت كذا وكذا فقال أبو جهل : ألا تعجبون مما يقول محمد قال : فأخبرهم بعير قريش قال : لما كانت في مصعدي رأيتها في مكان كذا وكذا وإنها نفرت فلما رجعت رأيتها عند العقبة وأخبرهم بكل رجل وبعيره كذا ومتاعه كذا فقال رجل : أنا أعلم الناس ببيت المقدس كيف بناؤه وكيف هيئته وكيف قربه من الجبل ؟ فرفع لرسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المقدس فنظر إليه فقال : بناؤه كذا وهيئته كذا وقربه من الجبل كذا فقال : صدقت .

    و – وأخرج أبو نعيم عن محمد بن كعب القرظي قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم دحية الكلبي إلى قيصر الروم وذكر قصة اجتماع أبي سفيان بهرقل وأسئلة هرقل لأبي سفيان إلى أن يذكر ما يلي على لسان أبي سفيان .

    قلت : أيها الملك ألا أخبرك عنه خبراً تعرف أنه قد كذب . قال : وما هو ؟ قلت : إنه يزعم لنا أنه خرج من أرضنا أرض الحرم في ليلة فجاء مسجدكم هذا مسجد إيلياء ورجع إلينا في تلك الليلة قبل الصباح قال : وبطريق إيلياء عند رأس قيصر قال البطريق : قد علمت تلك الليلة قال فنظر إليه القيصر وقال : ما علمك بها ، قال : إني كنت لا أبيت ليلة حتى أغلق أبواب المسجد فلما كانت تلك الليلة غلقت الأبواب كلها غير باب واحد غلبني فاستعنت عليه بعمالي ومن يحضرني كلهم فعالجناه فلم نستطع أن نحركه وكأنما نزاول به جبلاً فدعوت النجاجرة فنظروا إليه فقالوا : هذا باب سقط عليه النحات والبنيان فلا نستطيع أن نحركه حتى نصبح فننظر من أين أتى فرجعت وتركته مفتوحاً فلما أصبحت غدوت فإذا الحجر الذي من زاوية الباب منقوب وإذا فيه أثر مربط الدابة فقلت لأصحابي : ما حبس هذا الباب الليلة إلا على نبي وقد صلى الليلة في مسجدنا ، فقال قيصر : يا معشر الروم أليس تعلمون أن بين عيسى وبين الساعة نبياً بشّركم به عيسى وهذا هو النبي الذي بشر به عيسى فأجيبوه إلى ما دعا إليه فلما رأى نفورهم قال : يا معشر الروم دعاكم ملككم يختبركم كيف صلابتكم في دينكم فشتمتموه وسببتموه وهو بين أظهركم فخروا له سجداً .

    ز – وأخرج مسلم من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد رأيتني من الحجر وقريش تسألني عن مسراي فسألوني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها فكربت كرباً ما كربت مثله قط فرفعه الله لي أنظر إليه ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به .

    * * *

    وهناك سؤال آخر يسأله بعض الناس وهو أين هي السماء التي عرج إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟

    والجواب أن القرآن قد ذكر السماء في كثير من آياته وأراد بها المعنى اللغوي لها . وذكر أحياناً السماء وأراد بها معنى اصطلاحياً له ارتباط بالمعنى اللغوي ، ففي اللغة كل ما علاك فهو سماء : قال الله تعالى {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً} فهنا أراد المعنى اللغوي فقط وأما في قوله تعالى {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} فالمراد هنا السماء بالمعنى الاصطلاحي كما في قوله عليه الصلاة والسلام :

    " إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطت السماء وحق لها أن تئط ليس فيها موضع أربع أصابع إلا ... " فالمقصود بالسماوات هذه سكن الملائكة ، والتي فيها الجنة في السماء السابعة ، وسقفها عرش الرحمن ، فهذه السماوات هي التي عرج إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سنرى في الأحاديث بعد قليل . أما أين هي فالله أعلم بذلك . إذ هي من المغيبات عنا في فهمي أما ما يتصوره بعض الناس بأن هذه الزرقة هي السماوات فهذا خطأ ووهم ، إذ هذه الزرقة ترى من الأرض فقط فإذا ما ارتفع الإنسان في الفضاء غابت فهي انعكاسات أضواء وأنوار وأجواء .

    وإذن فنحن نؤمن أن هناك سماوات سبعاً ، وعرشاً فوقها ، أثبتناها بإثبات الله إياها ، وإخبار رسول الله عنها ، ولا نجزم بمكانها وإن كنا نجزم أنها في جهة فوق بالنسبة لسكان الأرض ، ولا نعرف عنها إلا ما أخبرنا الله ورسوله ، هذه السماوات هي التي كان إليها العروج وهي التي تصعد إليها أرواح البشر ، وتنزل الملائكة والروح منها .

    * * *

    ويتساءل آخرون : ما الحكمة في الإسراء والمعراج ؟

    والحكمة – والله أعلم – تكمن في ناحيتين :

    الأولى: أن الله أرى رسوله ما دعا إليه فقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو إلى الإيمان بالجنة ورأى الجنة ، وأن يدعو إلى الإيمان بالرسل ورأى الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ، وإلى الإيمان بالملائكة ورأى الملائكة ، وإلى الإيمان بالله ورأى أثار قدرة الله وملكوته وقد ذكر الله في القرآن حكمة الإسراء بقوله {حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ ... } .

    الثانية : أن اله يُعِدُّ رسوله لمرحلة جديدة من مراحل الدعوة الإسلامية . هذه المرحلة تشبه المرحلة التي رأى فيها موسى آيات الله الكبرى وهي مرحلة مجابهة فرعون فقد قال الله عن موسى : {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} إن موسى الذي سيقابل فرعون الطاغية هد هيء بهذه الرؤية لاحتقار كل القوى الأرضية ما دامت معه قوة الله : وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مأموراً بالصبر طوال المرحلة المكية ، وبعد الهجرة أمر بالمجابهة وكان الإسراء والمعراج قبل الهجرة بقليل . فكانت رؤية آيات الله الكبرى تمهيداً لهذه المرحلة التي سيقف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقلة من أصحابه في وجه الدنيا كلها . قال الله تعالى في أوائل سورة النجم بعد الحديث عن المعراج : {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} ومن قبل كما ذكرنا أرى موسى من آيات الله الكبرى قبل مرحلة المجابهة .

    وأخيراً بعد هذه المقدمات عن هذه المعجزة نبدأ بذكر طرف عنها . قال الحافظ السيوطي :

    اعلم أن الإسراء ورد مطولاً ومختصراً من حديث أنس وأبي بن كعب وبريدة وجابر بن عبد الله وحذيفة بن اليمان وسمرة ن جندب وسهل بن سعد وشداد بن أوس وصهيب وابن عباس وابن عمر وابن عمرو وابن مسعود وعبد الله بن أسعد بن زرارة وعبد الرحمن بن فرط وعلي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب ومالك بن صعصعة وأبي أمامة وأبي أيوب وأبي حية وأبي الحمراء وأبي ذر وأبي سعيد الخدري وأبي سفيان بن حرب وأبي ليلى الأنصاري وأبي هريرة وعائشة وأسماء بنتي أبي بكر وأم هانئ وأم سلمة .

    وعد الإمام القسطلاني في المواهب اللدنية ستة وعشرين صحابيا ًوصحابية رووا حديث الإسراء والمعراج فهو إذن حديث متواتر مع نص القرآن عليه في سورتي الإسراء والنجم وهذه بعض روايات الحديث :

    أ – أخرج مسلم من طريق ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أتيت بالبراق وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه فركبته حتى أتيت بيت المقدس فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبريل : اخترت الفطرة ثم عرج بنا إلى السماء الدنيا فاستفتح جبريل فقيل من أنت قال جبريل قيل : ومن معك قال : محمد قيل : وقد بعث إليه قال : قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بآدم فرحب بي ودعا لي بخير ، ثم عرج بي إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل فقيل : من أنت قال : جبريل قيل : ومن معك قال : محمد قيل وقد بعث إليه قال : قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بابني الخالة عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا فحربا بي ودعوا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة فاستفتح جبريل فقيل : من أنت قال : جبريل قيل : ومن معك قال : محمد قيل : وقد بعث إليه قال : قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بيوسف وإذا هو قد أعطي شطر الحسن فرحب بي ودعا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة فاستفتح جبريل قيل : من هذا قال : جبريل قيل : ومن معك قال : محمد قيل : وقد بعث إليه قال : قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإدريس فرحب بي ودعا لي بخير ، ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة فاستفتح جبريل قيل : من هذا قال : جبريل قيل : ومن معك قال : محمد قيل : وقد بعث إليه قال : قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بهارون فرحب بي ودعا لي بخير ، ثم عرج بنا إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل قيل : من هذا قال : جبريل قيل : ومن معك قال : محمد قيل : وقد بعث إليه قال : قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بموسى فرحب بي ودعا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء فاستفتح جبريل قيل : من هذا قال : جبريل قيل : ومن معك قال : محمد قيل : وقد بعث إليه قال : بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم مسند ظهره إلى البيت المعمور وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى فإذا ورقها كآذان الفيلة وإذا ثمارها كالقلال فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها فأوحى إلي ما أوحى ففرض علي خمسين صلاة في كل يوم وليلة فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فقال : ما فرض ربك على أمتك قلت : خمسين صلاة قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك فإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم فرجعت إلى ربي فقلت : يا ربي خفف عن أمتي فحط عني خمساً فرجعت إلى موسى فقلت : حط عني خمساً قال : إن أمتك لا يطيقون ذلك فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف قال فلم أزل أرجع بين ربي وبين موسى حتى قال يا محمد إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة لكل صلاة عشر فذلك خمسون صلاة ومن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشراً ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئاً فإن عملها كتبت سيئة واحدة فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته فقال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فقلت : قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه .

    ب – وأخر مسلم عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مررت ليلة اسري بي على موسى قائماً يصلي في قبره .

    ج - وأخرج أحمد وابن أبي شيبة والترمذي والحاكم وصححاه والنسائي وابن جرير وابن مردويه والبيهقي عن حذيفة أنه حدّث عن ليلة أسري بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال : " ما زايل البراق حتى فتحت له أبواب السماوات فرأى الجنة والنار ووعد الآخرة أجمع ثم عاد " ولفظ ابن مردويه فأري ما في السماوات وأري ما في الأرض .

    د – أخرج مسلم من طريق مرة الهمداني عن ابن مسعود قال لما أُسري برسول الله صلى الله عليه وسلم فانتهى إلى سدرة المنتهى ما يصعد به – وفي لفظ ما يعرج – به من الأرواح حتى يقبض منه وإليها ما ينتهي ما يهبط به من فوقها حتى يقبض . إذ يغشى السدرة ما يغشى قال غشيها فراش من ذهب وأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس وخواتيم سورة البقرة وغفر لمن لا يشرك بالله من أمته شيئاً المقحمات .

    - 8 -

    وعندما يدعو رسول الله لإنسان فإنك تجد ما دعا له قد تحقق كما دعا ، وكثرة الحوادث في هذا الموضوع تجعل الإنسان على اليقين الكامل أن محمداً رسول الله وأن الله عز وجل يؤيد رسوله ويسدده ويستجيب دعاءه حتى لا يشك معه قيمة الكلمة التي تخرج من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    وقد قال القاضي عياض في الشفاء : إجابة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لجماعة دعا لهم أو عليهم متواترة معلومة ضرورة . وأخرج الإمام أحمد عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعا للرجل أدركت ولده وولد ولده " .

    وهذه أمثلة منتقاة من عشرات الحوادث بل مئاتها وفي كل منها دليل ما قلناه :

    أ – أخرج الحاكم وصححه والبيهقي عن علي رضي الله عنه قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقلت : يا رسول الله تبعثني وأنا شاب أقضي بينهم ولا أدري ما القضاء فضرب بيده في صدري وقال : اللهم اهد قلبه وثبت لسانه فوالذي فلق الحبة ما شككت في قضاء بين اثنين .

    ب – أخرج البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن : " بارك الله لك " وأخرجه ابن سعد والبيهقي من وجه آخر وزاد : قال عبد الرحمن : لقد رأيتني ولو رفعت حجراً لرجوت أن أصيب تحته ذهباً أو فضة .

    ج - أخرج الترمذي والحاكم وصححه عن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : اللهم استجب لسعد إذا دعاك فكان لا يدعو إلا استجيب .

    د – أخرج الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال دعا لي النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " اللهم فقهه في الدين " وأخرجه الحاكم والبيهقي وأبو نعيم من وجه آخر عنه بزيادة : " وعلمه التأويل " فصار حبر هذه الأمة ولا سيما في علم التفسير .

    وأخرج الإمام أحمد وأبو نعيم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسي ودعا لي بالحكمة فلم تخطئني دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    هـ - أخرج الشيخان عن أنس رضي الله عنه قال :

    اشتكى ابن لأبي طلحة فمات وأبو طلحة خارج فلما رأت امرأته أنه قد مات هيأت شيئاً ونحته في جانب البيت فلما جاء أبو طلحة قال : كيف الغلام قالت : هدأت نفسه وأرجو أن يكون قد استراح وظن أبو طلحة أنها صادقة فبات فلما أصبح اغتسل فلما أراد أن يخرج أعلمته أنه قد مات فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم أخبر صلى الله عليه وسلم بما كان منهما فقال صلى الله عليه وسلم لعل الله يبارك لكما في ليلتكما قال سفيان : قال رجل من الأنصار : فرأيت لهما سبعة أولاد كلهم قد قرأ القرآن .

    و – أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ما على وجه الأرض مؤمن ولا مؤمنه إلا وهو يحبني قلت : وما علمك بذلك قال : إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى فقلت : يا رسول الله ادع الله أن يهدي أم أبي هريرة إلى الإسلام فدعا لها ، فرجعتُ فلما دخلت البيت قالت : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي من الفرح كما كنت أبكي من الحزن وقلت : يا رسول الله قد استجاب الله دعوتك وهدى أمَّ أبي هريرة إلى الإسلام فادع الله أن يحببني وأمي إلى عباده المؤمنين وأن يحببهم إلينا فقال صلى الله عليه وسلم : اللهم حبب هذا وأمه إلى عبادك المؤمنين وحببهم إليهما فما أعلم مؤمناً ولا مؤمنة إلا وهو يحبني وأحبه .

    ح – أخرج الشيخان عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فسرنا ليلاً فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع : ألا تسمعنا من هنيهاتك – وكان عامر رجلاً شاعراً – فنزل يحدو القوم بقوله :

    اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
    فاغفر فداء لك ما اقتنينا وثبت الأقدام إن لاقينا

    فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من هذا السائق قالوا : عامر قال : يرحمه الله قال رجل من القوم : وجبت يا رسول الله هلا أمتعتنا به فلما تصافّ القوم تناول عامر سيفه ليضرب به ساق يهودي فرجع ذباب سيفه فأصاب ركبته فمات منه . وأخرجه مسلم من وجه آخر وفيه فقال : من هذا القائل قالوا : عامر قال : غفر لك ربنا قال : وما خص رسول الله صلى الله عليه وسلم قط أحداً به إلا استشهد فقال عمر : لولا متعتنا بعامر أي ما ستغفر لإنسان يخصه قط إلا استشهد .

    ط – أخرج البخاري عن أبي عقيل أنه كان يخرج به جده عبد الله بن هشام إلى السوق ليشتري الطعام فيتلقاه ابن الزبير وابن عمر فيقولان أشركنا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعا لك بالبركة فيشركهم فربما أصاب الراحلة كما هي فيبعث بها إلى المنزل .

    ي – أخرج الشيخان عن أبي بكر رضي الله عنه قال : طَلَبَنَا القوم فلم يدركنا منهم غير سراقة بن مالك على فرس له فقلت : يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا قال : لا تحزن إن الله معنا فلما كان بيننا وبينه قدر قيد رمحين أو ثلاثة دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اللهم اكفناه بما شئت فساخت به فرسه في الأرض إلى بطنها فقال : يا محمد قد علمت أن هذا عملك فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه فوالله لأعمين على من ورائي من الطلب فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق راجعاً .

    ك – أخرج البخاري في الأدب والنسائي عن أم قيس أنها قالت توفي ابني فجزعت فقلت للذي يغسله ، لا تغسل ابني بالماء البارد فيقتله فانطلق عكاشة بن محصن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بقولها فتبسم ثم قال طال عمرها فلا يعلم امرأة عُمّرت ما عُمّرت .

    ل – أخرج البيهقي وأبو نعيم من طريق يعلى بن الأشدق قال : سمعت النابغة نابغة بني جعدة يقول : أنشدت رسول الله صلى الله عليه وسلم شعراً فأعجبه فقال : جدت لا يَفْضُض الله فاك قال يعلى : فلقد رأيته ولقد أتى عليه نيف ومائة سنة وما ذهب له سن .

    م – أخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه إلى كسرى فلما قرأه كسرى مزقه فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمزقوا كل ممزق فمزقوا .

    ن – وروى البيهقي بإسناد صحيح أنه صلى الله عليه وسلم دعا على الحكم بن أبي العاص وكان يختلج بوجهه أي يحرك وجهه وحاجبيه وشفتيه استهزاءً بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال كن كذلك فلم يزل يختلج إلى أن مات .

    س – وأخرج مسلم عن الأكوع رضي الله عنه أن رجلاً أكل عند النبي صلى الله عليه وسلم بشماله فقال : كل بيمينك قال : لا أستطيع قال : لا استطعت ، ما منعه إلا الكبر . قال فما رفعها إلى فيه بعد .

    - 9 -

    عندما تدرس حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم تجدك دائماً أمام حادث تشعر فيه أنك أمام قدرة الله المباشرة التي لا دخل لعالم الأسباب فيها ، ولا تستطيع أبداً أن تجد تعليلاً لما تراه ، أو نقل إليك نقلاً صحيحاً ، إلا أن الله جلت حكمته يجري على يد هذا الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم ما تقوم به الحجة على الكافر ، ويزداد به المؤمن يقيناً ويخرج به الشاك عن شكه .

    ولا يفوتنا هنا ونحن ننقل نوعاً آخر من أنواع معجزاته صلى الله عليه وسلم أن نشير مرة ثانية إلى أن هذه النقول هي أدق نقول تاريخية في العالم . لأن معايير النقد التي وضعت لاستخراج صحيحها لا مثيل له أبداً . مع ملاحظة أنها منقولة في النهاية عن الصحابة الذين كانوا يعتقدون أن الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أكبر الكبائر ، وقد رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدق ، وما كان أحدهم يسكت على باطل رآه . فلو حدث أن صحابياً أخطأ في النقل فإنهم جميعاً كانوا يردون عليه إذا بلغهم خطؤه ، وإذن فنحن إذ ننقل هذه النقول ننقلها باطمئنان الواثق إلى ما بين يديه ، ولئن كان في الأخبار المروية عن الرسول صلى الله عليه وسلم ما هو ضعيف فالعلة تكمن في أجيال ما بعد الصحابة وعلماء النقد عند المسلمين ما تركوا أمثال هذه تمر . بعد هذا نبدأ بنقل مجموعة من الآثار لها صلة بالمعجزات وما ننقله غيض من فيض ، وكثير مما نقلناه مروي بعدة روايات عن عدة صحابة ، ومخرج في عدة كتب ، ولكنا اخترنا رواية من مجموع روايات الحادثة الواحدة وهاك هذه المختارات .

    أ – روى البخاري ومسلم وغيرهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في قصة حفر الخندق قال : رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم خمصاً شديداً ، وهو ضمير البطن من الجوع فأخرجت جراباً فيه صاع من شعير ولنا بهيمة – وهي الصغيرة من أولاد المعز – وفي رواية عن جابر رضي الله عنه : أنا يوم الخندق تحفر فعرضت لنا كدية شديدة فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : هذه كدية عرضت في الخندق قال : أنا نازل ، ثم أقام وبطنه معصوب بحجر ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقاً فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم فضرب فعادت كثيباً أهيل فقلت : يا رسول الله ائذن لي إلى البيت فأذن فقلت لامرأتي : رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ما كان لي في ذلك صبر فعندك شيء ؟ قالت : عندي شعير وعناق فذبحت العناق وطبخت الشعير حتى جعلنا اللحم في البرمة ثم جئت النبي صلى الله عليه وسلم والعجين قد اختمر والبرمة بين الأثافي – أي الأحجار التي توضع عليها القدر – كادت أن تنضج وقالت امرأتي : لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم وبمن معه فجئته فساررته فقلت : يا رسول الله ذبحنا بهيمة لنا وطبخنا صاعاً من شعير فتعال أنت ونفر معك يعني دون العشرة وفي رواية فقلت طعيم لنا صنعته فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان وكنت أريد أن ينصرف وحده قال : كم هو ذكرت له فقال : كثير طيب قل لها لا تنزل البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتي فصاح النبي صلى الله عليه وسلم يا أهل الخندق إن جابراً صنع سؤراً فحيهلا بكم – أي هلموا مسرعين – والسؤر الطعام الذي يدعى إليه .

    وفي رواية فقال : قوموا فقام المهاجرون والأنصار فلما دخل على امرأته قال : وحيك جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالأنصار والمهاجرين ومن معهم قالت : هل سألك قلت : نعم . وفي رواية قال : لقيت من الحياء ما لا يعلمه إلا الله تعالى وقلت : جاء الخلق على صاع من شعير وعناق فدخلت على امرأتي أقول : افتضحت جاءك رسول الله بالجند أجمعين فقالت : هل كان سألك كم طعام فقلت : نعم فقالت : الله ورسوله أعلم نحن أخبرناه بما عندنا وفي رواية أنها خاصمته في أول الأمر وقالت : بك بك فلما أعلمها أنه أعلم النبي صلى الله عليه وسلم سكن ما عندها وقالت : الله ورسوله أعلم لعلمها بإمكان خرق العادة ودل ذلك على وفور عقلها وكما فضلها رضي الله عنها .

    فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تنزل برمتكم ولا يخبزن عجينكم حتى أجيء . وفي رواية قال جابر فجئت وجاء النبي صلى الله عليه وسلم يقدم الناس فأخرجت المرأة له عجيناً فبصق فيه وبارك ثم عمد إلى برمتنا وبصق فيها وبارك أي دعا بالبركة ثم قال لجابر : ادع خابزة لتخبز مع زوجتك ثم قال لها : اقدحي من برمتكم ولا تنزلوها وهم – أي القوم الذين جاءوا معه – ألف وأقعدهم عشرة عشرة يأكلون فأقسم بالله لقد أكلوا حتى تركوه وانحرفوا – أي مالوا عن الطعام – وإن برمتنا لتغط أي لتغلي وتفور كما هي وإن عجيننا ليخبز كما هو. وفي رواية فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه ادخلوا ولا تضاغطوا فجعل يكسر الخبز ويغرف حتى شبعوا أجمعين والتنور والقدر أملأ مما كانا فقال : كلي واهدي فلم نزل نأكل ونهدي يومنا أجمع . وفي رواية فأكلنا وأهدينا لجيراننا فلما خرج صلى الله عليه وسلم ذهب ذلك .

    ب – وأخرج مسلم عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فأصابنا جهد حتى هممنا أن ننحر بعض ظهرنا فأمر نبي الله صلى الله عليه وسلم فجمعنا مزاودنا فبسطنا له نطعاً فاجتمع زاد القوم على النطع فطاولت لأحزر كم هو فحزرته كربضة لعنز ونحن أربع عشرة مائة فأكلنا حتى شبعنا جميعأً ثم حشونا جرباننا ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل من وضوء فجاء رجل بإداوة فيها نطفة ماء فأفرغها في قدح فتوضأنا كلنا ندغفقه دغفقة أربع عشرة مائة ( نصبه صباً كثيراً واسعاً ) .

    جـ - وأخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال لما كان يوم غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة فقالوا يا رسول الله لو أذنت لنا ننحر نواضحنا فأكلنا وادَّهنا ؟ فقال عمر : يا رسول الله إن فعلت قل الظهر ولكن ادعهم بفضل أزوادهم وادع الله لهم فيها بالبركة لعل الله أن يجعل في ذلك الخير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم فدعا بنطع فبسطه ثم دعا بفضل أزوادهم فجعل الرجل يأتي بكف ذرة ويجيء الآخر بكف تمر ويجيء الآخر بكسرة حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة ثم قال لهم خذوا في أوعيتكم فأخذوا حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملؤوه فأكلوا حتى شبعوا وفضلت فضلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى بهما عبد غير شاك فيحجب عن الجنة . وأخرجه بنحوه ابن سعد والحاكم وصححه البيهقي وأبو نعيم عن أبي عمرة الأنصارية رضي الله عنه وأخرجه ابن راهويه وأبو يعلى وأبو نعيم وابن عساكر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، عنه بلفظ :

    خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فأصابنا جوع شديد فقلت : يا رسول الله خرج إلينا اروم وهم شباع ونحن جياع وأرادت الأنصار أن ينحروا نواضحهم ، فنادى في الناس من كان عنده فل من زاد فليأتنا فحرزنا جميع ما جاءوا به فوجدوه سبعة وعشرين صاعاً ، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه فدعا فيه بالبركة ثم قال : أيها الناس خذوا ولا تنتبهوا فأخذوه في الجرب والغرائر حتى جعل الرجل يعقد قميصه فيأخذ فيه حتى صدروا وإنه نحو ما كان يحرزون فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يأتي بهما عبد بحق إلا وقاه الله حرّ النار .

    د – وأخرج الشيخان عن أنس رضي الله عنه قال : قال أبو طلحة لأم سليم : لقد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفاً أعرف فيه الجوع فهل عندك من شيء فقالت : نعم فأخرجت أقراصاً من شعير ثم ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أرسلك أبو طلحة قلت : نعم قال : لمن معه قوموا فجئت أبا طلحة فأخبرته فقال أبو طلحة : يا أم سليم قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليس عندنا ما نطعمهم قالت : الله ورسوله أعلم فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : هلمي ما عندك يا أم سليم فأتت بذلك الخبز فأمرت به ففت وعصرت عليه عكة لها فأدمته ثم قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء أن يقول ثم قال ائذن لعشرة فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ثم قال : ائذن لعشرة فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم قال ائذن لعشرة حتى أكل القوم كلهم وشبعوا والقوم سبعون رجلاً أو ثمانون . وأخرجه مسلم من عدة طرق وفي بعضها ثم أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل البيت وأفضلوا ما بلغ جيرانهم ، وفي بعضها قال : بسم الله اللهم أعظم فيها البركة .

    هـ - وأخرج الدارمي وابن أبي شيبة والترمذي الحاكم والبيهقي وصححوه وأبو نعيم عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بقصعة فيها طعام فتعاقبوها إلى الظهر منذ غدوة يقوم قوم ويقعد آخرون ، فقال رجل لسمرة هل كانت تمد ؟ قال : ما كانت تمد إلا من ههنا وأشار إلى السماء .

    و – وأخرج البخاري عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثين ومائة فقال : هل مع أحد منكم طعام ؟ فإذا مع رجل صاع من طعام أو نحوه فعجن ثم جاء رجل بغنم يسوقها فاشترى منه شاة ، فأمر بها فصنعت ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بسواد البطن أن يشوى ، قال : وايم الله ما من الثلاثين ومائة إلا وقد حزّ له رسول الله صلى الله عليه وسلم من سواد بطنها إن كان شاهداً أعطاه وإن كان غائباً خبأ له ، قال : وجعل منها قصعتين فأكلنا منها أجمعون وشبعنا وفضل من القصعتين فحملنا على البعير .

    ز – وأخرج الطبراني في الأوسط بسند حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : دعاني النبي صلى الله عليه وسلم فقال : انطلق إلى المنزل فقل : هلموا الطعام الذي عندكم فأعطوني صحيفة فيها عصيدة بتمر فأتيته بها فقال لي : ادع أهل المسجد فقلت في نفسي : الويل لي مما أرى من قلة الطعام والويل لي من المعصية فدعوتهم فاجتمعوا فوضع النبي صلى الله عليه وسلم أصابعه فيها وغمز نواحيها وقال كلوا بسم الله فأكلوا حتى شبعوا وأكلت حتى شبعت ورفعتها فإذا هي كهيئتها حين وضعتها إلا أن فيها آثار أصابع النبي صلى الله عليه وسلم .

    ح – وأخرج أبو يعلى والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي وأبو نعيم عن قيس بن النعمان رضي الله عنه قال لما انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر مستخفين مرا بعبد يرعى غنماً فاستقياه اللبن فقال : ما عندي شاة تحلب غير أن ههنا عناقاً حملت أول الشتاء وقد أخرجت وما بقي لها لبن فقال صلى الله عليه وسلم : ادع بها فدعا بها فاعتقلها النبي صلى الله عليه وسلم ومسح ضرعها ودعا وجاء أبو بكر بمجن فحلب صلى الله عليه وسلم وسقى أبا بكر ثم حلب فسقى الراعي ثم حلب فشرب هو صلى الله عليه وسلم فقال الراعي : من أنت فوالله ما رأيت مثلك قط قال : محمد رسول الله قال : أنت الذي تزعم قريش أنه صاب ؟ قال : إنهم ليقولون ذلك قال : فأشهد أنك نبي وإن ما جئت به حق وأنه لا يفعل ما فعلت إلا نبي .

    ط – وأخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : والله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد على كبدي على الأرض من الجوع وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع ولقد قعدت يوماً على الطريق فمر بي أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليستتبعني فمر ولم يفعل ثم مر بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي ثم قال : يا أبا هريرة قلت : لبيك يا رسول الله .

    قال : إلحق ومضى فاتبعته فدخل واستأذنت فأذن لي فدخلت فوجد صلى الله عليه وسلم لبناً في قدح فقال : من أين هذا اللبن ؟ قالوا : أهداه لك فلان أو فلانة قال صلى الله عليه وسلم : " أبا هريرة " .

    قلت : لبيك يا رسول الله .

    قال : الحق بأهل الصفة فادعهم وادعهم لي قال : وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون إلى أهل ولا مال ، إذا أتته صلى الله عليه وسلم صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئاً فإذا أتته هدية أرسل إليهم فأصاب منهم وأشركهم فيها فساءني ذلك وقلت : وما هذا اللبن في أهل الصفة كنت أرجو أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها وإني لرسول فإذا جاءوا أمرني صلى الله عليه وسلم أن أعطيهم ، ما عسى أن يبلغني من هذا اللبن ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بد ، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا وأخذوا مجالسهم من البيت فقال : أبا هريرة قلت : لبيك يا رسول الله قال خذ : فأعطهم فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى ثم يرد عليَّ القدح أعطيه لآخر فيشرب حتى يروى ثم يرد علي القدح حتى انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد روي القوم كلهم فأخذ القدح فوضعه على يده ونظر إلي وتبسم وقال : يا أبا هريرة قلت : لبيك يا رسول الله قال : بقيت أنا وأنت قلت : صدقت يا رسول الله قال اقعد فاشرب فشربت فقال اشرب فشربت فما زال يقول اشرب فأشرب حتى قلت لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكاً فأعطيته القدح فحمد الله وسمى وشرب الفضلة صلى الله عليه وسلم .
    * * *

    وبعد هذا ننتقل إلى خاتمة هذا الباب :

    تعقيب

    إن المعجزة حجة على صحة الدعوة . غير أن بعض الناس يحاول أن يتهرب من حجيتها بذكر أشياء خارقة للعادة تظهر على يد غير الرسل ، يراها الناس ثم يعتبر ذلك دليلاً على أنه لم تقل عليه الحجة بالمعجزة ، والحقيقة أن هناك أشياء كثيرة يراها الناس خارقة للعادة وليست كذلك . والمعجزة تختلف عن كل هذه الأشياء وبهذا تقوم الحجة على الناس ولنضرب أمثلة :

    نسمع كثيراً عن أخبار سحرة يأتون بأشياء عجيبة ، ونسمع كثيراً عن أشياء عجيبة تظهر على يد فقراء الهنود ، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن خوارق تظهر على يد الدجال في آخر الزمان ويروي لنا الثقات أن هناك ناساً من صلحاء المسلمين تظهر على أيديهم خوارق للعادة . فمثلاً يذكر ابن تيمية أن الشيخ عبد القادر الجيلاني منقولة كراماته تواتراً .

    فما مقام المعجزة التي تقوم بها الحجة بين هذه الأشياء ؟

    كنا ذكرنا في مقدمة هذه الفصول أن المعجزة تكون بخلق الله المباشر دون أن يكون للأسباب الكونية فيها أي تعلق . على خلاف السحر فإنه علم له قوانينه من أتقنها ظهر على يده منه ، وعلى خلاف الأعاجيب التي تظهر نتيجة الرياضات الروحية فإن ذلك أثر عن أسباب وقوانين كونية تخضع لها عوالم الروح .

    ومن هنا كانت هذه الأشياء في الحقيقة نتائج عادية لمقدمات خاصة ، أما معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم فتختلف عن هذا كله لأنها ليست وليدة علم أو قانون كوني وسبب ، أما الخارقة للعادة التي تظهر على يد رجل صالح ، فهي مثل المعجزة من حيث كونها خارجة عن الأسباب ، ومن حيث كونها بقدرة الله المباشرة .

    ولكنها في العادة لا تكون إلا على يد إنسان متمسك بحبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي أثر من آثار اتباع الرسول . فهي كرامة لمن ظهرت على يده معجزة للرسول . لأنه لولا اتباعه للرسول ما أظهر على يديه مثل هذه الخوارق ، فالكرامة والمعجزة من مشكاة واحدة ، ولكن المعجزة تظهر مع دعوى الرسالة ، والكرامة تظهر تأييداً لصاحب الرسالة على يد إنسان متبع للرسول .

    ولا نحكم على الخارقة أنها كرامة إلا بعد التأكد من استقامة صاحبها على أمر الله وسنة رسوله .

    إن سنة الله جرت ألا يظهر خارقة للعادة بكل شروطها على يد إنسان كذاب في دعوى الرسالة عنه ، وهنا سر الفرق الحقيقي بين المعجزة وكل خارقة أخرى .

    فصاحب الكرامة لا يدعي الرسالة ، ولذا فإن ظهورها على يده لا يجعل في الأمر التباساً ، خاصة وهو متبع لرسول الله متمسك بشريعته .

    وأما المسيح الدجال فليس يدعي الرسالة وتظهر معه الخوارق تأييداً لها حاشا ، ولكنه إنسان جعله الله عز وجل أعظم فتنة للبشر إذ يدعي الألوهية ويظهر معه شيء من آثار قدرة الله ليبقى العقل البشري مسؤولاً ، إذ العقل يعرف الله بصفات الكمال وهذا الإنسان لا يمكن أن يكون هو الله . فما يظهره الله على يده فتنة يختبر بها العباد ، ولا يلتبس ما يظهر على يده بالمعجزة التي تقوم بها الحجة ، لأنه لا يدعي الرسالة أصلاً ، ولو كان يدعي الرسالة ما ظهرت على يده مثل هذه الخوارق .

    وإذن بعض ما يظهر للناس أنه خوارق للعادة ليس هو في الحقيقة من هذا النوع .

    وبعضها لا يظهر مع دعوى الرسالة فلا يلتبس بالمعجزة .

    وتبقى المعجزة شاهدة على صحة دعوى الرسالة ، والكرامة إذا خرجت من أهلها دليل على صدق التابع والمتبوع ، فلا التباس بين المعجزة وغيرها والحجة قائمة على البشر بها .

    ولا عذر لأحد لا يتبع صاحبها .

    وأخيراً وقد انتهى هذا الباب .

    نقول :

    إن إنساناً يرى معجزة المعجزات بين يديه ( القرآن ) ثم لا يؤمن بأن محمداً رسول الله ، فهو أعمى القلب والعقل .

    وإن إنساناً تؤكد له أصدق الوثائق التاريخية كثرة معجزات محمد عليه الصلاة والسلام ثم لا يؤمن به ، مظلم الوجدان والضمير .

    وإن إنساناً مثل هذا ليقولن في يوم :

    {وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السَّعِيرِ} الملك 10 ، 11 .
    * * *

    وإلى الباب الثالث لنرى برهاناً على أن محمداً رسول الله .
    التعديل الأخير تم 02-18-2006 الساعة 09:16 AM

  15. افتراضي

    بسم الله الرحمن الرحيم و الحمد لله رب العالمين ..

    السلام عليكم و رحمة الله وبركاته ..

    بوركت أخي الحبيب القسوره .. أكمل بارك الله سبحانه و تعالى فيك .. سلمت يمينك أخي ..

    أسأل الله سبحانه و تعالى أن يجزيك بكل حرفٍ حسنة .. اللهم آمين ..

    و السلام عليكم و رحمة الله وبركاته ..
    [frame="13 70"]
    [grade="00BFFF 4169E1 0000FF"]إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
    وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ
    وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [/grade]
    [/frame]

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. اين خطب الرسول صلى الله عليه وسلم
    بواسطة مرتد اريد ان اتوب في المنتدى قسم الحوار عن الإسلام
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 12-21-2007, 08:18 PM
  2. بعض خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم
    بواسطة noor في المنتدى قسم الحوار عن الإسلام
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 04-01-2007, 12:29 AM
  3. هل سحر الرسول صلى الله عليه وسلم ؟
    بواسطة مالك مناع في المنتدى قسم الحوار عن الإسلام
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 10-10-2005, 01:27 PM

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء