الفقرة الثانية
معجزات أُخرَى
إن قدرة الإنسان محدودة بما حدها الله عز وجل به من عالم القوانين والأسباب ، فما كان ضمن هذه الدائرة استطاعه الإنسان وإلا فلا . فالإنسان مثلاً يستطيع إذا توفر لديه أوكسجين وهيدروجين والأدوات اللازمة لإحداث تفاعل بينهما أن يصنع منهما ماء فهذا داخل ضمن قوانين الكون واستطاعة الإنسان ، ولكن الإنسان لا يستطيع أن يوجد ماء من عدم مطلق ، ويستطيع الإنسان أن يتحكم بالكترونات وبروتونات النحاس فيصبح النحاس ذهباً إذا توفرت لذلك شروط وأدوات معينة . ولكن الإنسان لا يستطيع أن يوجد ذهباً من لا شيء ، والبخار الموجود في الجو ينعقد مطراً إذا وجدت شروط معينة من برودة وكثافة وغيرها ، ويستطيع الإنسان ببعض الوسائط أن يوفر هذه الشروط في الجو فينزل مطراً صناعياً كما يقولون . ولكن لا يستطيع الإنسان بمجرد الكلام أن ينزل مطراً .
إذن رغم ما أعطى الله الإنسان من إمكانات يستطيع بها تسخير هذا الكون لصالحه ، فإن قدرة الإنسان محدودة ضمن قوانين هذا الكون .
ويبقى الله وحده ذا السلطان المطلق ، والقدرة المطلقة التي يخلق بها ما شاء من الممكنات .
بعد هذا نقول : إن مما يعرف به الإنسان أنه رسول الله هو أن تظهر معه آثار قدرة الله . فتظهر على يديه خوارق لعادات هذا الكون وقوانينه وأسبابه هذا الكون مما لا يمكن أن يكون للجهد البشري فيه تعلق ، فيعرف الناس بذلك أن هذا الإنسان رسول الله . بدليل أنها ظهرت معه آثار قدرة الله . وتقوم بذلك حجة الله على خلقه بأنه أرسل رسولاً ، وتقوم بذلك حجة الرسول على الخلق بأنه صادق في دعوى الرسالة ، ولا يكون لأحد عذر في عدم متابعة الرسول بعد ذلك .
وكما تقوم الحجة على من عاصر الرسول صلى الله عليه وسلم تقوم على مَن بعدهم بثبوت معجزاته تاريخياً إذ الثابت تاريخياً كالثابت مشاهدة في إقامة الحجة .
ولم يوجد رسول أبداً في تاريخ العالم كانت له معجزات كثيرة ثابتة ثبوتاً تاريخياً يتحدى أدق معايير النقد التاريخي مثل ما كان لخاتم رسل الله محمد صلى الله عليه وسلم . فإن معايير النقد التي وضعها علماء المسلمين لاستخلاص الوقائع الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلمما وصل إليها العالم قط ولا يرقى إلى نتائجها شك .
والدارس لهذه المعجزات الثابتة تاريخياً يرى بوضوح لا مزيد عليه ، آثار قدرة الله المباشرة مؤيدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأشكال وصور ومظاهر تحيط بكل الأوضاع . مما لا يبقي ريباً لمرتاب . إلا إذا مات إنصافه مع قلبه فعمي بذلك عقله .
وهذه نماذج من هذه الواقعات التي لا تفسر إلا بالقدرة الإلهية المؤيدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع ملاحظة أن المعجزة الأساسية لرسول الله والتي بها قامت الحجة على خلق الله في كل العصور هي القرآن ، الذي رأينا بعض ما فيه في الفقرة السابقة مما يشهد أنه كتاب الله ومع ملاحظة أننا لم نرد الاستقصاءَ هنا وإنما أردنا ضرب الأمثلة فقط ، وإلا فمعجزات الرسول عليه الصلاة والسلام كثيرة جداً .
- 1 -
أخرج مسلم والبيهقي وأبو نعيم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما : قال : سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا جابر ناد بوضوء . فقلت ألا وضوء ؟ ألا وضوء ؟ قلت يا رسول الله ما وجدت في الركب من قطرة ، وكان رجل من الأنصار يبرد لرسول الله صلى الله عليه وسلم الماء فقال لي : انطلق إلى فلان الأنصاري فانظر في أشجابه من شي ، فانطلقت إليه فنظرت فيها فلم أجد فيها إلا قَطْرةً في غزْلاء شَجْبٍ يابسةٍ مما لو أني أفرغه لشربه واحد فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته قال :
اذهب فأتني به ، فأتيته به فأخذه بيده فجعل يتكلم بشيء لا أدري ما هو ويغمزه بيده ثم أعطانيه فقال :
" يا جابر ناد بجَفْنةِ الركب فقلت " .
يا جفنة الركب ، فأتيت بها تحمل فوضعت بين يديه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده هكذا فبسطها في الجفنة وفرق بين أصابعه ثم وضعها في قعر الجفنة وقال : خذ يا جابر فصب علي وقل بسم الله ، فرأيت الماء يفور من بين أصابعه ففارت الجفنة وفارت حتى امتلأت فقال يا جابر ناد من كانت له حاجة بماء ، فأتى الناس فاستقوا حتى رووا ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الجفنة وهي ملأى .
وأخرج الشيخان من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس رضي الله عنه قال : " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحانت صلاة العصر والتمس الناس الوضوء فلم يجدوه فأتي بوضوء فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده في ذلك الإناء وأمر الناس أن يتوضأ منه فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه فتوضأ الناس حتى توضأوا من عند آخرهم " .
وأخرج الشيخان من طريق ثابت رضي الله عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بماء فأتي بقدح رحراح فيه شيء من ماء فوضع أصابعه فيه فجعلت أنظر إلى الماء ينبع من بين أصابعه فجعل القوم يتوضؤون فحزرت من توضأ منه ما بين السبعين إلى الثمانين " .
وأخرج الشيخان عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا بالزرواء فدعا بقدح فيه ماء فوضع كفه فيه فجعل الماء ينبع من بين أصابعه وأطراف أصابعه فتوضأ أصحابه به جميعاً . قلت لأنس كم كانوا قال : زهاء ثلاث مائة " .
وأخرج أحمد والبيهقي والبزار والطبراني وأبو نعيم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وليس في العسكر ماء فقال رجل : يا رسول الله ليس في العسكر ماء . قال هل عندكم شيء ؟ قال : نعم . فأتي بإناء فيه شيء من ماء فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه في فم الإناء وفتح أصابعه قال : فرأيت العيون تنبع من بين أصابعه فأمر بلالاً أن ينادي في الناس الوضوء المبارك " .
وأخرج البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : " إنكم تعدون الآيات عذاباً وكنا نعدها بركة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كنا نأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نسمع تسبيح الطعام وأتي النبي صلى الله عليه وسلم بإناء فجعل الماء ينبع من بين أصابعه فقال النبي صلى الله عليه وسلم حي على الطهور المبارك والبركة من الله حتى توضأنا كلنا " .
وأخرج البخاري عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بالحديبية على ثمد قليل الماء يتربضه الناس تربضاً فلم يلبث الناس حتى نزحوه وشكي لرسول الله صلى الله عليه وسلم العطش فانتزع سهماً من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه فوالله ما زال يجيش لهم الري حتى صدروا عنه وكانوا بضع عشرة مائة من أصحابه " .
وأخرج البخاري عن البراء رضي الله عنه قال : تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحاً ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة والحديبية بئر فنزحناها فلم نترك فيها قطرة فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاها فجلس على شفيرها ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ ثم تمضمض ودعا ثم صبه فيها فتركناها غير بعيد ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركابنا .
وأخرج مسلم عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال : " قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديبية ونحن أربع عشرة مائة معها خمسون شاة ما ترويها فقد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جباها يعني الركية فإما دعا وإما بزق فيها فجاشت فسقينا وأسقينا " .
وأخرج مسلم عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنهم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك فقال : " إنكم ستأتون غداً إن شاء الله عين تبوك وإنكم لن تأتوها حتى يضحى النهار فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئاً فأتاها والعين مثل الشراك تبض بشيء من ماء فغرف من العين قليلاً قليلاً حتى اجتمع في شيء ثم غسل وجهه ويديه ثم أعاده فيها فجرت العين بماء كثير فاستقى الناس ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما ههنا قد ملئ جناناً " .
وأخرج الشيخان عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال : " كنا في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكا إليه الناس العطش فدعا علياً ورجلاً آخر فقال : اذهبا فابغياني الماء فانطلقا فلقيا امرأة بين مزادتين أو سطيحين من ماء على بعيرها فقال لها أين الماء قالت عهدي بالماء أمس هذه الساعة ( أي يبعد مسيرة يوم كامل ) فانطلقا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بإناء فأفرغ فيه من أفواه المزادتين فمضمض في الماء وأعاده في أفواه المزادتين وأوكأ أفواههما وأطلق العزالي ( أي مصب الماء من القربة) ونودي في الناس أن اسقوا واستقوا فسقى من شاء واستقى من استقى وهي قائمة تنظر ما يفعل بمائها وايم الله لقد أقلعوا عنهما وإنه ليخيل إلينا أنها أشد ملاءً منها حين ابتدؤا فيها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :اجمعوا لها فجمعوا لها من بين عجوة ودقيقة وسويقة حتى جمعوا لها طعاماً كثيراً فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : تعلمين والله ما رزئنا من مائك شيئاً ولن الله عز وجل هو سقانا . قال : فأتت أهلها وقد احتبست عنهم فقالوا : ما حسبك يا فلانة ، قالت : العجب لقيني رجلان وذهبا بي إلى هذا الذي يقال له : الصابئ ففعل بمائي كذا وكذا الذي قد كان فوالله لإنه أسحر من بين هذه وهذه وقالت بأصبعها الوسطى والسبابة فرفعتهما إلى السماء تعني السماء والأرض أو أنه لرسول الله حقاً .
قال : فكان المسلمون بعد يغيرون على ما حولها من المشركين ولا يصيبون الصرم الذي هي فيه فقالت يوماً لقومها ما أرى إلا أن هؤلاء القوم يدعونكم عمداً فهل لكم في الإسلام فأطاعوها فدخلوا في الإسلام " .
وأخرج مسلم عن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فأسرى ثم نام فما استيقظ إلا والشمس في ظهره فدعا بميضأة كانت معي فيها شيء من ماء فتوضأ منها ثم قال احفظ علينا ميضأتك فسيكون لها نبأ فسار حتى امتد النهار فقال الناس هلكنا وعطشنا فقال : لا هلك عليكم .
ثم قال انطلقوا إلى غمري ( يعني القدم الصغير ) فدعا بالميضأة فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصب وأبو قتادة يسقيهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم أحسنوا الملء كلكم سيروى حتى ما بقي أحد .
- 2 -
أخرج البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب إلى جذع فلما اتخذ المنبر تحول إليه فحن الجذع فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسحه فسكن .
وأخرج أحمد وابن سعد والدارمي وابن ماجه وأبو نعيم والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب إلى جذع قبل أن يتخذ المنبر فلما اتخذ المنبر وتحول إليه حن الجذع فأتاه فاحتضنه فسكن فقال صلى الله عليه وسلم : " لو لم أحتضنه لحن إلى يوم القيامة " .
وأخرج الدارمي والترمذي وأبو يعلى والبيهقي وأبو نعيم عن أنس رضي الله عنه قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم إلى جذع فلما اتخذ المنبر وقعد عليه خار الجذع كخوار الثور حتى ارتج المسجد بخواره فنزل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فالتزمه فسكت فقال : والذي نفسي بيده لو لم ألتزمه لما زال هكذا إلى يوم القيامة حزناً على رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
وأخرج ابن سعد وابن راهويه في مسنده والبيهقي عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم إلى خشبة فلما اتخذ المنبر حنت الخشبة فأقبل الناس عليها فرقوا من حنينها حتى كثر بكاؤهم فنزل صلى الله عليه وسلم فأتاها فوضع يده عليها فسكنت " .
وأخرج الدارمي وابن ماجه وابن سعد وأبو يعلى وأبو نعيم والبيهقي عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع فصنع المنبر فلما جاوز ذلك الجذع إليه خار حتى تصدع وانشق فنزل صلى الله عليه وسلم فمسحه بيده حتى سكن " .
وأخرج البيهقي وأبو نعيم عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : " كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم خشبة يستند إليها إذا خطب فصنع له منبر فلما فقدته خارت خوار الثور حتى سمعها أهل المسجد فأتاها صلى الله عليه وسلم فاحتضنها فسكنت " .
وأخرج ابن أبي شيبة والدارمي وأبو نعيم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع فصنع له منبر فلما قام عليه حن الجذع حنين الناقة إلى ولدها فنزل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فضمه إليه فسكن " .
وأخرج ابن أبي شيبة والدارمي وأبو نعيم عن أبي سعيد الخدري قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع فصنع له منبر فلما قام عليه حن الجذع حنين الناقة إلى ولدها فنزل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فضمه إليه فسكن " .
وأخرج البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : " كان جذع يقوم إليه النبي صلى الله عليه وسلم فلما وضع له المنبر سمعنا للجذع صوتاً مثل أصوات العشار .. ( النياق ) .. حتى نزل النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليه فسكت " .
قال التاج السبكي : حنين الجذع متواتر لأنه ورد عن جماعة من الصحابة إلى نحوالعشرين من طرق صحيحة تفيد القطع بوقوعه ، وقال القاضي عياش في ( الشفاء ) : إنه متواتر . وقال البيهقي : قصة حنينه من الأمور الظاهرة التي نقلها الخلف عن السلف .
- 3 -
أخرج البخاري عن أنس رضي الله عنه قال : أصابت الناس سنة ( جدب ) على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يوم الجمعة يخطب أتاه أعرابي فقال : يا رسول الله هلك المال وجاع العيال فادع الله لنا . فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وما نرى في السماء قزعة ، فوالذي نفسي بيده ما وضعهما حتى ثار سحاب كأمثال الجبال ثم لم ينزل عن المنبر حتى رأيت الماء يتحادر على لحيته فمطرنا يومنا ذلك ومن الغد وبعد الغد والذي يليه حتى الجمعة الأخرى فقام ذلك الأعرابي فقال : يا رسول الله تهدم البناء فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وقال : اللهم حوالينا ولا علينا فما يشير بيده إلى ناحية من السحاب إلا انفرج حتى صارت المدينة مثل الجوبة وسال الوادي قناة شهراً ولم يجئ أحد من ناحية إلا حدّث بالجود " وأخرج مسلم مثله .
وأخرج البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يستسقي فما ينزل حتى يجيش كل ميزاب :
وأبيض يستقى الغَمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
وأخرج أبو نعيم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ناساً من مضر أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه أن يدعو الله أن يسقيهم فقال : اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً هنيئاً مريئاً مريعاً غدقاً طبقاً نافعاً غير ضار عاجلاً غير رائث فأطبقت عليهم حتى مطروا سبعاً .
- 4 -
وأخرج الدارمي وأبو يعلى والطبراني والبزار وابن حبان والبيهقي وأبو نعيم بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال :
كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأقبل أعرابي فلما دنا قال له النبي صلى الله عليه وسلم أين تريد قال إلى أهلي قال هل لك في خير قال : وما هو قال : تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله قال : من شاهد على ما تقول ؟ قال : هذه الشجرة ، فدعاها رسول الله وهو بشاطئ الوادي فأقبلت تخدّ الأرض خداً حتى جاءت بين يديه فاستشهدها ثلاثاً فشهدت أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رجعت إلى منبتها ورجع الأعرابي إلى قومه فقال إن يتبعوني آتك بهم وإلا رجعت إليك فكنت معك .
وروى البخاري في تاريخه والبيهقي والدارمي بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : بم أعرف أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : إن دعوت هذا العذق من هذه النخلة أتؤمن بي ؟ قال : نعم . فدعاه فجعل ينقز ( أي يثب ) حتى أتاه فقال : ارجع فعاد إلى مكانه فأسلم الأعرابي .
وفي رواية : فجعل ينزل من النخلة شيئاً فشيئاً حتى سقط على الأرض فأقبل وهو يسجد ويرفع حتى انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال له : ارجع فعاد فأسلم الأعرابي وقال : أشهد أنك رسول الله .
وروى الإمام أحمد والطبراني والبيهقي عن يعلى بن مرة الثقفي رضي الله عنه قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في مسير فذكر الحديث إلى أن قال : ثم سرنا حتى نزلنا منزلاً فنام النبي صلى الله عليه وسلم فجاءت شجرة تشق الأرض حتى غشيته ، وفي رواية : طافت به ثم رجعت إلى مكانها فلما استيقظ صلى الله عليه وسلم ذكرت له ذلك فقال : " هي شجرة استأذنت ربها في أن تسلم عليَّ فأذن لها " .
وأخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما – قال : آذنت ( أي أعلمت ) النبي صلى الله عليه وسلم بالجن ليلة استمعوا له شجرة وأن الجن قالوا : مَن يشهد لك ( أي بأنك رسول الله ) فقال صلى الله عليه وسلم : " هذه الشجرة " ثم دعاها للشهادة فجاءت تجر عروقها لها قعاقع .
وأخرج الإمام أحمد والبيهقي والطبراني بسند صحيح عن يعلى بن سبابة رضي الله عنه قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأمر وَدِيَّتَينِ ( أي نخلتين صغيرتين ) فانضمتا .
وأخرج البزار عن بريدة بن الخصيب رضي الله عنه قال :
سأل أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم آية ( أي علامة ) تدل على أنه رسول الله فقال له : قل لتلك الشجرة : رسول الله يدعوك . فدعاها فمالت الشجرة عن يمينها وشمالها وبين يديها وخلفها فتقطعت عروقها ثم جاءت تخد الأرض تجر عروقها مغبرة حتى وقفت بين يدي رسول الله فقالت : السلام عليك يا رسول الله . قال الأعرابي : مرها فلترجع إلى منبتها فرجعت فدلت عروقها فاستوت فقال الأعرابي : ائذن لي أسجد لك ، أي بعد أن آمن به صلى الله عليه وسلم كما صرح به في رواية فقال له صلى الله عليه وسلم : " لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها " . فقال الأعرابي : فأذن لي أقبل يديك ورجليك فأذن له.
قال الشيخ أحمد الدحلان في السيرة النبوية : وأحاديث كلام الشجر له صلى الله عليه وسلم كثيرة شهيرة رواها أهل السنن عن كثير من الصحابة منهم عمر بن الخطاب . وعلي بن أبي طالب . وعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله ، وأسامة بن زيد ، وأنس بن مالك ويعلى بن مرة وغيرهم رواها عنهم أضعافهم من التابعين .
وقال القاضي عياض في الشفاء عنها : فصارت في انتشارها من القوة حيث هي ، قال الشهاب الخفاجي : يعني أنها نقلت عن كثير من الصحابة والتابعين حتى بلغت التواتر المعنوي وصارت في مرتبة قوية لا يشك فيها أحد من العقلاء .
- 5 -
يقول الله تعالى :
{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُواْ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَآءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ} القمر 1 – 3 .
وروى البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : انشق القمر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين فرقة فوق الجبل وفرقة دونه فقال عليه الصلاة والسلام :
" اشهدوا "
وروى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه : " أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما " .
وروى الترمذي من حديث ابن عمر في قوله تعالى : {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ} قال : قد كان ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم انشق فلقتين دون الجبل وفلقة فوق الجبل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اشهدوا " .
وروى الإمام أحمد عن جبير بن مطعم قال : " انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين : فرقة على هذا الجبل وفرقة على هذا الجبل فقالوا سَحَرَنا محمد فقالوا إن كان سحَرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس " .
وروى أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال :
" اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم الوليد بن المغيرة وأبو جهل والعاص بن وائل والأسود بن المطلب والنضر بن الحارث ونظراؤهم فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن كنت صادقاً فشق لنا القمر فلقتين ، فسأل ربه فانشق " .
ونقل الخطيب في تفسيره عن حذيفة وقد خطب في المدائن قوله : " ألا إنَّ الساعة قد اقتربت وأن القمر قد انشق على عهد نبيكم " .
وكفى ذكره في القرآن الكريم حتى يحكم بتواتره إذ الآيات وضاحة فيه ولا يمكن أن تفسر بغيره ولذلك أجمع المفسرون وأهل السنة على وقوعه كما قال القاضي عياض والسبكي وغيرهم .
ونقل صاحب كتا إظهار الحق عن المقالة الحادية عشر من تاريخ فرشنة ، أن أهل مليبار من إقليم الهند رأوه أيضاً " أي حادث انشقاق القمر " .
وذكر الحافظ المزي عن ابن تيمية أن بعض المسافرين ذكر أنه وجد في بلاد الهند بناءً قديماً مكتوباً عليه بني ليلة انشق القمر .
وقد أثار بعض مبشري النصارى شبهات حول هذا الموضوع ، من ناحية أن هذا الحدث كان ينبغي أن يذكر في كل التآريخ العالمية لو كان صحيحاً متناسين أن الخسوف مثلاً قد يقع في منطقة من العالم ، ويبقى ساعات ولا يراه إلا أهلها . وقد ناقش مقالتهم صاحب الكتاب المذكور آنفاً . وننقل جزءاً من مناشقته للأمر قال :
1 - إن انشقاق القمر كان في الليل ، وهو وقت الغفلة والنوم والسكون عن المشي ، والتردد في الطرق ، سيما في موسم البرد ، فإن الناس يكونون مستريحين في داخل البيوت وزواياها ، مغلقين أبوابها ، فلا يكاد يعرف من أمور السماء شيئاً إلا مَن انتظره واعتنى به , ألا ترى إلى خسوف القمر فإنه يكون كثيراً وأكثر الناس لا يحصل لهم العلم به حتى يخبرهم أحد به في السحر .
2 – إن هذه الحادثة ما كانت ممتدة إلى زمان كثير فما كان للناظر أن يذهب إلى الغير الذي هو بعيد عنه وينبهه أو يوقظ النائم ويريه .
3 – إنها لم تكن متوقعة الحصول لأهل العلم ينظرونها في وقتها ، ويرونها كما أنهم يرون هلال رمضان , والعيدين والكسوف والخسوف في أوقاتها غالباً لأجل كونها متوقعة الحصول ، ولا يكون نظر كل واحد إلى السماء في كل جزء من أجزاء النهار أيضاً فضلاً عن الليل ، فلذلك رأى الذين كانوا طالبين لهذه المعجزة ، وكذلك من وقع نظره في هذا الوقت إلى السماء ، كما جاء في الأحاديث الصحيحة أن الكفار لما رأوها قالوا : سَحَركُم ابن أبي كبشة فقال أبو جهل : هذا سحر فابعثوا إلى أهل الآفاق حتى تنظروا رأوا ذلك أم لا . فأخبر أهل آفاق مكة أنهم رأوه منشقاً وذلك لأن العرب يسافرون في الليل غالباً ويقيمون في النهار ، فقالوا هذا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ... ثم نقل ما ذكرناه قبل هذا النقل .
4 – إنه قد يحول في بعض الأمكنة وفي بعض الأوقات في الديار التي ينزل فيها المطر كثيراً فإنه يكون في بعض الأمكنة سحاب غليظ ونزول المطر بحيث لا يرى الناظر في النهار الشمس ولا هذا اللون الأزرق إلى ساعات متعددة ، وكذا لا يرى في الليل القمر والكواكب ولا اللون المذكور في بعض أمكنة أخرى . لا أثر للسحاب ولا للمطر ، وتكون المسافة بين تلك الأمكنة والأمكنة الأولى قليلة ، وأهل البلاد الشمالية كالروم في موسم نزول الثلج والمطر لا يرون الشمس إلى أيام فضلاً عن القمر .
5 – إن القمر لاختلاف مطالعه ليس في حد واحد لجميع أهل الأرض فقد يطلع على قوم قبل أن يطلع على آخرين فيظهر في بعض الآفاق وبعض المنازل على أهل بعض ابلاد دون بعض ...
- 6 -
أخرج البخاري عن البراء رضي الله عنه : أن عبد الله بن عتيك لما قتل أبا رافع ونزل من درجة بيته سقط إلى الأرض فانكسر ساقه قال فحدثت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ابسط رجلك فبسطتها فمسحها فكأنما لم أشكُها قط .
وأخرج الشيخان ( البخاري ومسلم ) عن سهل بن سعد رضي الله عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر : لأعطين هذه الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه فلما أصبح قال : أين علي بن أبي طالب قالوا : يشتكي عينيه قال : فأرسلوا إليه فأتى به فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع " .
وأخرج البخاري عن يزيد بن أبي عبيد قال :
" رأيت أثر ضربة في ساق سلمة بن الأكوع فقلت : ما هذه الضربة ، قال : ضربة أصابتني يوم خيبر فقال الناس : أصيب سلمة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فنفث فيها ثلاث نفثات فما اشتكيت منها حتى الساعة " .
وأخرج النسائي والترمذي والحاكم والبيهقي وصححوه وأخرجه البرهان الحلبي من طرق متعددة حتى قال الشهاب الخفاجي في شرح الشفاء : فلم يبق فيه شبهة .
عن عثمان بن حنيف رضي الله عنه أن رجلاً أعمى قال :
" يا رسول الله ادع الله لي أن يكشف عن بصري فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : انطلق فتوضأ ثم صل ركعتين ثم قل : اللهم إن أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك أن يكشف عن بصري اللهم شفعه فيّ ، فما قام القوم من مجالسهم إلاّ ورجع الرجل وقد أبصر ، وكان عثمان بن حنيف وبنوه يعلّمونه للناس فيدعون به عند تعسر قضاء الحاجات فتقضى " .
وأخرج ابن عدي وأبو يعلى والبيهقي من طريق عاصم بن عمر بن قتادة عن جده قتادة ابن النعمان : " أنه أصيبت عينه يوم بدر فسالت حدقته على وجنته فأرادوا أن يقطعوها فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : لا فدعا به فغمز حدقته براحته فكان لا يدري أي عينيه أصيبت " .
وأخرج البيهقي من وجه آخر عن قتادة مثله وزاد بعد قوله " براحته " وقال : " اللهم اكسه جمالاً " .
وأخرج ابن سعد عن زيد بن أسلم رضي الله عنه " أن عين قتادة بن النعمان أصيبت فسالت على خده فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت أصح عينيه " .
وأخرج البيهقي وأبو نعيم والطبراني من طرق أن عين قتادة أصيبت يوم أحد فوقعت على وجنته فردها صلى الله عليه وسلم فكانت أحسن عينيه .
ولفظ رواية الطبراني وأبي نعيم عن قتادة قال : كنت يوم أحد أتقي السهام بوجهي دون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان آخرها سهماً ندرت منه حدقتي فأخذتها بيدي وسعيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآها في كفي دمعت عيناه فقال : اللهم قِ عين قتادة كما وقى وجه نبيك بوجهه فاجعلها أحسن عينيه وأحدّهما نظراً فصارت كذلك .
والظاهر أن إحدى عينيه أصيب في بدر والأخرى في أحد .
وأخرج الإمام أحمد والطبراني عن الوازع قال : قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم والأشج في ركب ومعنا رجل مصاب فقلت : يا رسول الله إن معي خالاً مصاباً فادع الله له قال : ائتني به ، فأتيت به فأخذ طائفة من ردائه فرفعها حتى رأيت بياض إبطيه ثم ضرب ظهره وقال : اخرج عدو الله فأقبل ينظر نظر الصحيح ليس بنظره الأول ثم أقعده بين يديه فدعا له ، ومسج وجهه فلم يكن في الوفد أحد بعد دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم يفضل عليه .
وأخرج أبو يعلى والبيهقي بسند حسنه ابن حجر في المطالب العالية عن أسامة بن زيد قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحجة التي حجها حتى إذا كنا ببطن الروحاء نظر إلى امرأة تؤمه فحبس راحلته ، فلما دنت منه قالت : يا رسول الله : هذا ابني ما أفاق من يوم ولدته إلى يومي هذا فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم منها ووضعه بني صدره وواسطه الرحل ثم تفل في فيه وقال : اخرج يا عدو الله فإني رسول الله ثم ناولها إياه وقال خذيه فلا بأس عليه قال أسامة : فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حجه انصرف حتى إذا نزل ببطن الروحاء أتته تلك المرأة بشاة قد شوتها ...
وأخرج أحمد وابن أبي شيبة والبيهقي والطبراني وأبو نعيم من طريق سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أمه أم جندب قالت :
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند جمرة العقبة فرمى ورمى الناس ثم انصرف فجاءت امرأة ومعها ابن لها به مس ( أي جنون ) قالت : يا رسول الله ابني هذا به بلاء لا يتكلم فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم فجاءت بتور ( إناء من حجارة فيه ماء ) فأخذه صلى الله عليه وسلم بيده فمج فيه ودعا فيه وأعاده فيه ثم أمرها فقال : اسقيه واغسليه فيه قالت : فتبعتها فقلت : هبي لي من هذا الماء قالت : خذي منه فأخذت منه حفنة فسقيتها ابني عبد الله فعاش فكان من يره ما شاء الله أن يكون قالت : ولقيت المرأة فزعمت أن ابنها برأ وأنه غلام لا غلام خير منه " ولفظ أبي نعيم : براً وعقل عقلاً ليس كعقول الناس " .
وأخرج أحمد والدارمي والطبراني والبيهقي وأبو نعيم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة جاءت بابن لها فقالت : يا رسول الله إن بابني هذا جنوناً وإنه يأخذ عنده غداءنا وعشاءنا فيفسد علينا ، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره ودعا له فثع ثعة فخرج من جوفه مثل الجرو الأسود فشفي .
وأخرج الحاكم عن أبي بن كعب قال :
كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء أعرابي فقال : يا نبي الله إن لي أخاً به وجع قال : وما وجعه قال : به لمم ( أي جنون ) قال : فائتني به فأتاه به فوضعه بين يديه فعوذه النبي صلى الله عليه وسلم بفاتحة الكتاب وأربع آيات من أول سورة البقرة وهاتين الآيتين :
{وَإِلَـهُكُمْ إِلَـهٌ وَاحِدٌ} .. وآية الكرسي وثلاث آيات من آخر سورة البقرة وآية من آل عمران : {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ} وآية من الأعراف : {إِنَّ رَبَّكُمُ ...} وآخر سورة المؤمنون : {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ..} وآية من سورة الجن {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا ..} وعشر آيات من أول الصافات وثلاث آيات من آخر سورة الحشر و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والمعوذتين فقام الرجل كأنه لم يشك شيئاً قط .
ورواه عبد الله بن الإمام أحمد في الزوائد بسند حسن .
ومعجزة أخرى متواترة النقل تقدم لها بما يلي :
لقد صعد الإنسان إلى ارتفاعات كبيرة في هذا القرن ، ولكن رغم هذا فإنه باق ضمن إطار معين محدود في السرعة والزمان والمكان . فهو ما جاوز بعد دائرة الأرض ومجاوزته دائرة المجموعة الشمسية مستحيل وأقرب نجم إلى مجموعتنا الشمسية على ما يقال يبعد حوالي أربع سنين ضوئية أي لو سار الإنسان بسرعة 300000 كم في الثانية فإنه يصل بعد أربع سنوات وهذا مستحيل المستحيلات .
وهنا يظهر الفارق بين المعجزة والعادة ، المعجزة تتعلق بقدرة الله المباشرة أما العادة فهي خاضعة للأسباب التي جعل الله عز وجل هذا العالم يسير عليها .
فقد أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى القدس وعرج به إلى ما فوق السماء السابعة ورجع في مدة قصيرة لجداً لم تتجاوز دقائق أو سويعات قليلة فكان في ذلك معجزة دلت على قدرة الله وعلى أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد يقول قائل : إن المعجزة حتى تقوم بها الحجة على الناس ينبغي أن تكون مشاهدة يراها الناس ، والإسراء والمعراج لم يرهما أحد وإنما أخبر عنهما محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه والإخبار بالمعجزة وحده من صاحبها لا تقوم به الحجة على الناس .
والجواب أن الحجة قامت بسبب أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر عن قضايا ما كان ليستطيع الإخبار عنها لولا أنه أسري به وعرج وبهذا قامت الحجة على الناس . إذ أن الناس عندما أخبرهم بما حدث له سألوه دليلاً فقدم لهم جواباً عن كل ما سألوه وهذه أمثلة :
أ – أخرج ابن أبي حاتم عن يزيد بن أبي مالك عن أنس ... فلما سمع المشركون قوله أتوا أبا بكر فقالوا يا أبا بكر هل لك في صاحبك يخبر أنه أتى في ليلته هذه مسيرة شهر ثم رجع مسيرة شهر ثم رجع في ليلة فقال أبو بكر : إن كان قاله فقد صدق . وإنا لنصدقه فيما هو أبعد من هذا ، نصدقه على خبر السماء . فقال المشركون لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما علامة ما تقول : قال : مررت بعير لقريش وهي في مكان كذا وكذا فنفرت الإبل منا واستدارات وفيها بعير عليه غرارتان غرارة سوداء وغرارة بيضاء فصرع فانكسر فلما قدمت العير سألوهم فأخبروهم الخبر على مثل ما حدثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ب – أخرج الشيخان عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما كذبتني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس قمت في الحجر فجلى الله لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه .
ج – أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي وصححه والبزار والطبراني وابن مردويه عن شداد بن أوس : " ... فأتاني أبو بكر فقال : يا رسول الله أين كنت الليلة فقد التمستك في مظانك فقلت : علمت أني أتيت بيت المقدس الليلة فقال : يا رسول الله إنه مسيرة شهر فصفه لي قال ففتح لي صراط كأني أنظر إليه لا يسألني عن شيء إلا أنبأته عنه قال أبو بكر : أشهد أنك رسول الله فقال المشركون : انظروا إلى ابن أبي كبشة يزعم أنه أتى بيت المقدس الليلة فقال : إن من آية ما أقول لكم أنني مررت بعير لكم بمكان كذا وكذا قد أضلوا بعيراً لهم فجمعه فلان وأن مسيرهم ينزلون بكذا ثم كذا ويأتونكم يوم كذا وكذا يقدمهم جمل آدم عليه مسح أسود وغرارتان سوداوان فلما كان ذلك اليوم أشرف الناس ينتظرون حتى كان قريباً من نصف النهار أقبلت العير يقدمهم ذلك الجمل الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
وليس في هذا النص والنص الأول تناقض فالنص الأول يتحدث عن جمل عليه غرارة بيضاء وأخرى سوداء انكسرت رجله أما هذا فيتحدث عن الجمل الأول في القافلة وعليه غرارتان سوداوان .
د – أخرج أحمد وابن أبي شيبة والنسائي البزار والطبراني وأبو نعيم بسند صحيح من طريق زرارة بن أوفى عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما كان ليلة أسري بي فأصبحت بمكة قطعت وعرفت أن الناس مكذبي فقعد معتزلاً حزيناً فمر به عدو الله أبو جهل فجاء حتى جلس إليه فقال له كالمستهزئ :
هل كان من شيء ؟ قال : نعم قال : وما هو ؟ قال : إني أسريَ بي الليلة ، قال : إلى أين – قال : إلى بيت المقدس قال : ثم أصبحت بين ظهرانينا ؟ قال : نعم فلم ير أن يكذبه مخافة أن يجحده الحديث إن دعا قومه إليه قال :
أرأيت إن دعوت قومك أتحدثهم ما حدثتني ؟ قال : نعم قال : هيا معشر بني كعب بن لؤي فانفضت إليه المجالس وجاءوا حتى جلسوا إليهما قال : حدث قومك بما حدثتني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
إني أسري بي الليلة قالوا : إلى أين ؟ قال : إلى بيت المقدس قالوا : ثم أصبحت بين ظهرانينا ؟ قال : نعم قال : فمن بين مصفق ومن بين واضع يده على رأسه متعجباً قالوا : وتستطيع أن تنعت المسجد وفي القوم من سافر إليه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فذهبت أنعت فما زلت أنعت حتى التبس علي بعض النعت فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه حتى وضع دون دار عقيل أو عقال فنعته وأنا أنظر إليه فقال القوم : أما النعت فوالله لقد أصاب .
هـ - أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي وابن عساكر من طريق أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حدث عن ليلة أسرى به ... ثم أصبح بمكة يخبرهم العجائب : إني أتيت البارحة بيت المقدس وعرج بي إلى السماء ثم رأيت كذا وكذا فقال أبو جهل : ألا تعجبون مما يقول محمد قال : فأخبرهم بعير قريش قال : لما كانت في مصعدي رأيتها في مكان كذا وكذا وإنها نفرت فلما رجعت رأيتها عند العقبة وأخبرهم بكل رجل وبعيره كذا ومتاعه كذا فقال رجل : أنا أعلم الناس ببيت المقدس كيف بناؤه وكيف هيئته وكيف قربه من الجبل ؟ فرفع لرسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المقدس فنظر إليه فقال : بناؤه كذا وهيئته كذا وقربه من الجبل كذا فقال : صدقت .
و – وأخرج أبو نعيم عن محمد بن كعب القرظي قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم دحية الكلبي إلى قيصر الروم وذكر قصة اجتماع أبي سفيان بهرقل وأسئلة هرقل لأبي سفيان إلى أن يذكر ما يلي على لسان أبي سفيان .
قلت : أيها الملك ألا أخبرك عنه خبراً تعرف أنه قد كذب . قال : وما هو ؟ قلت : إنه يزعم لنا أنه خرج من أرضنا أرض الحرم في ليلة فجاء مسجدكم هذا مسجد إيلياء ورجع إلينا في تلك الليلة قبل الصباح قال : وبطريق إيلياء عند رأس قيصر قال البطريق : قد علمت تلك الليلة قال فنظر إليه القيصر وقال : ما علمك بها ، قال : إني كنت لا أبيت ليلة حتى أغلق أبواب المسجد فلما كانت تلك الليلة غلقت الأبواب كلها غير باب واحد غلبني فاستعنت عليه بعمالي ومن يحضرني كلهم فعالجناه فلم نستطع أن نحركه وكأنما نزاول به جبلاً فدعوت النجاجرة فنظروا إليه فقالوا : هذا باب سقط عليه النحات والبنيان فلا نستطيع أن نحركه حتى نصبح فننظر من أين أتى فرجعت وتركته مفتوحاً فلما أصبحت غدوت فإذا الحجر الذي من زاوية الباب منقوب وإذا فيه أثر مربط الدابة فقلت لأصحابي : ما حبس هذا الباب الليلة إلا على نبي وقد صلى الليلة في مسجدنا ، فقال قيصر : يا معشر الروم أليس تعلمون أن بين عيسى وبين الساعة نبياً بشّركم به عيسى وهذا هو النبي الذي بشر به عيسى فأجيبوه إلى ما دعا إليه فلما رأى نفورهم قال : يا معشر الروم دعاكم ملككم يختبركم كيف صلابتكم في دينكم فشتمتموه وسببتموه وهو بين أظهركم فخروا له سجداً .
ز – وأخرج مسلم من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد رأيتني من الحجر وقريش تسألني عن مسراي فسألوني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها فكربت كرباً ما كربت مثله قط فرفعه الله لي أنظر إليه ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به .
* * *
وهناك سؤال آخر يسأله بعض الناس وهو أين هي السماء التي عرج إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
والجواب أن القرآن قد ذكر السماء في كثير من آياته وأراد بها المعنى اللغوي لها . وذكر أحياناً السماء وأراد بها معنى اصطلاحياً له ارتباط بالمعنى اللغوي ، ففي اللغة كل ما علاك فهو سماء : قال الله تعالى {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً} فهنا أراد المعنى اللغوي فقط وأما في قوله تعالى {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} فالمراد هنا السماء بالمعنى الاصطلاحي كما في قوله عليه الصلاة والسلام :
" إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطت السماء وحق لها أن تئط ليس فيها موضع أربع أصابع إلا ... " فالمقصود بالسماوات هذه سكن الملائكة ، والتي فيها الجنة في السماء السابعة ، وسقفها عرش الرحمن ، فهذه السماوات هي التي عرج إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سنرى في الأحاديث بعد قليل . أما أين هي فالله أعلم بذلك . إذ هي من المغيبات عنا في فهمي أما ما يتصوره بعض الناس بأن هذه الزرقة هي السماوات فهذا خطأ ووهم ، إذ هذه الزرقة ترى من الأرض فقط فإذا ما ارتفع الإنسان في الفضاء غابت فهي انعكاسات أضواء وأنوار وأجواء .
وإذن فنحن نؤمن أن هناك سماوات سبعاً ، وعرشاً فوقها ، أثبتناها بإثبات الله إياها ، وإخبار رسول الله عنها ، ولا نجزم بمكانها وإن كنا نجزم أنها في جهة فوق بالنسبة لسكان الأرض ، ولا نعرف عنها إلا ما أخبرنا الله ورسوله ، هذه السماوات هي التي كان إليها العروج وهي التي تصعد إليها أرواح البشر ، وتنزل الملائكة والروح منها .
* * *
ويتساءل آخرون : ما الحكمة في الإسراء والمعراج ؟
والحكمة – والله أعلم – تكمن في ناحيتين :
الأولى: أن الله أرى رسوله ما دعا إليه فقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو إلى الإيمان بالجنة ورأى الجنة ، وأن يدعو إلى الإيمان بالرسل ورأى الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ، وإلى الإيمان بالملائكة ورأى الملائكة ، وإلى الإيمان بالله ورأى أثار قدرة الله وملكوته وقد ذكر الله في القرآن حكمة الإسراء بقوله {حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ ... } .
الثانية : أن اله يُعِدُّ رسوله لمرحلة جديدة من مراحل الدعوة الإسلامية . هذه المرحلة تشبه المرحلة التي رأى فيها موسى آيات الله الكبرى وهي مرحلة مجابهة فرعون فقد قال الله عن موسى : {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} إن موسى الذي سيقابل فرعون الطاغية هد هيء بهذه الرؤية لاحتقار كل القوى الأرضية ما دامت معه قوة الله : وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مأموراً بالصبر طوال المرحلة المكية ، وبعد الهجرة أمر بالمجابهة وكان الإسراء والمعراج قبل الهجرة بقليل . فكانت رؤية آيات الله الكبرى تمهيداً لهذه المرحلة التي سيقف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقلة من أصحابه في وجه الدنيا كلها . قال الله تعالى في أوائل سورة النجم بعد الحديث عن المعراج : {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} ومن قبل كما ذكرنا أرى موسى من آيات الله الكبرى قبل مرحلة المجابهة .
وأخيراً بعد هذه المقدمات عن هذه المعجزة نبدأ بذكر طرف عنها . قال الحافظ السيوطي :
اعلم أن الإسراء ورد مطولاً ومختصراً من حديث أنس وأبي بن كعب وبريدة وجابر بن عبد الله وحذيفة بن اليمان وسمرة ن جندب وسهل بن سعد وشداد بن أوس وصهيب وابن عباس وابن عمر وابن عمرو وابن مسعود وعبد الله بن أسعد بن زرارة وعبد الرحمن بن فرط وعلي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب ومالك بن صعصعة وأبي أمامة وأبي أيوب وأبي حية وأبي الحمراء وأبي ذر وأبي سعيد الخدري وأبي سفيان بن حرب وأبي ليلى الأنصاري وأبي هريرة وعائشة وأسماء بنتي أبي بكر وأم هانئ وأم سلمة .
وعد الإمام القسطلاني في المواهب اللدنية ستة وعشرين صحابيا ًوصحابية رووا حديث الإسراء والمعراج فهو إذن حديث متواتر مع نص القرآن عليه في سورتي الإسراء والنجم وهذه بعض روايات الحديث :
أ – أخرج مسلم من طريق ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أتيت بالبراق وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه فركبته حتى أتيت بيت المقدس فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبريل : اخترت الفطرة ثم عرج بنا إلى السماء الدنيا فاستفتح جبريل فقيل من أنت قال جبريل قيل : ومن معك قال : محمد قيل : وقد بعث إليه قال : قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بآدم فرحب بي ودعا لي بخير ، ثم عرج بي إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل فقيل : من أنت قال : جبريل قيل : ومن معك قال : محمد قيل وقد بعث إليه قال : قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بابني الخالة عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا فحربا بي ودعوا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة فاستفتح جبريل فقيل : من أنت قال : جبريل قيل : ومن معك قال : محمد قيل : وقد بعث إليه قال : قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بيوسف وإذا هو قد أعطي شطر الحسن فرحب بي ودعا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة فاستفتح جبريل قيل : من هذا قال : جبريل قيل : ومن معك قال : محمد قيل : وقد بعث إليه قال : قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإدريس فرحب بي ودعا لي بخير ، ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة فاستفتح جبريل قيل : من هذا قال : جبريل قيل : ومن معك قال : محمد قيل : وقد بعث إليه قال : قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بهارون فرحب بي ودعا لي بخير ، ثم عرج بنا إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل قيل : من هذا قال : جبريل قيل : ومن معك قال : محمد قيل : وقد بعث إليه قال : قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بموسى فرحب بي ودعا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء فاستفتح جبريل قيل : من هذا قال : جبريل قيل : ومن معك قال : محمد قيل : وقد بعث إليه قال : بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم مسند ظهره إلى البيت المعمور وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى فإذا ورقها كآذان الفيلة وإذا ثمارها كالقلال فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها فأوحى إلي ما أوحى ففرض علي خمسين صلاة في كل يوم وليلة فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فقال : ما فرض ربك على أمتك قلت : خمسين صلاة قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك فإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم فرجعت إلى ربي فقلت : يا ربي خفف عن أمتي فحط عني خمساً فرجعت إلى موسى فقلت : حط عني خمساً قال : إن أمتك لا يطيقون ذلك فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف قال فلم أزل أرجع بين ربي وبين موسى حتى قال يا محمد إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة لكل صلاة عشر فذلك خمسون صلاة ومن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشراً ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئاً فإن عملها كتبت سيئة واحدة فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته فقال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فقلت : قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه .
ب – وأخر مسلم عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مررت ليلة اسري بي على موسى قائماً يصلي في قبره .
ج - وأخرج أحمد وابن أبي شيبة والترمذي والحاكم وصححاه والنسائي وابن جرير وابن مردويه والبيهقي عن حذيفة أنه حدّث عن ليلة أسري بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال : " ما زايل البراق حتى فتحت له أبواب السماوات فرأى الجنة والنار ووعد الآخرة أجمع ثم عاد " ولفظ ابن مردويه فأري ما في السماوات وأري ما في الأرض .
د – أخرج مسلم من طريق مرة الهمداني عن ابن مسعود قال لما أُسري برسول الله صلى الله عليه وسلم فانتهى إلى سدرة المنتهى ما يصعد به – وفي لفظ ما يعرج – به من الأرواح حتى يقبض منه وإليها ما ينتهي ما يهبط به من فوقها حتى يقبض . إذ يغشى السدرة ما يغشى قال غشيها فراش من ذهب وأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس وخواتيم سورة البقرة وغفر لمن لا يشرك بالله من أمته شيئاً المقحمات .
- 8 -
وعندما يدعو رسول الله لإنسان فإنك تجد ما دعا له قد تحقق كما دعا ، وكثرة الحوادث في هذا الموضوع تجعل الإنسان على اليقين الكامل أن محمداً رسول الله وأن الله عز وجل يؤيد رسوله ويسدده ويستجيب دعاءه حتى لا يشك معه قيمة الكلمة التي تخرج من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد قال القاضي عياض في الشفاء : إجابة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لجماعة دعا لهم أو عليهم متواترة معلومة ضرورة . وأخرج الإمام أحمد عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعا للرجل أدركت ولده وولد ولده " .
وهذه أمثلة منتقاة من عشرات الحوادث بل مئاتها وفي كل منها دليل ما قلناه :
أ – أخرج الحاكم وصححه والبيهقي عن علي رضي الله عنه قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقلت : يا رسول الله تبعثني وأنا شاب أقضي بينهم ولا أدري ما القضاء فضرب بيده في صدري وقال : اللهم اهد قلبه وثبت لسانه فوالذي فلق الحبة ما شككت في قضاء بين اثنين .
ب – أخرج البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن : " بارك الله لك " وأخرجه ابن سعد والبيهقي من وجه آخر وزاد : قال عبد الرحمن : لقد رأيتني ولو رفعت حجراً لرجوت أن أصيب تحته ذهباً أو فضة .
ج - أخرج الترمذي والحاكم وصححه عن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : اللهم استجب لسعد إذا دعاك فكان لا يدعو إلا استجيب .
د – أخرج الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال دعا لي النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " اللهم فقهه في الدين " وأخرجه الحاكم والبيهقي وأبو نعيم من وجه آخر عنه بزيادة : " وعلمه التأويل " فصار حبر هذه الأمة ولا سيما في علم التفسير .
وأخرج الإمام أحمد وأبو نعيم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسي ودعا لي بالحكمة فلم تخطئني دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
هـ - أخرج الشيخان عن أنس رضي الله عنه قال :
اشتكى ابن لأبي طلحة فمات وأبو طلحة خارج فلما رأت امرأته أنه قد مات هيأت شيئاً ونحته في جانب البيت فلما جاء أبو طلحة قال : كيف الغلام قالت : هدأت نفسه وأرجو أن يكون قد استراح وظن أبو طلحة أنها صادقة فبات فلما أصبح اغتسل فلما أراد أن يخرج أعلمته أنه قد مات فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم أخبر صلى الله عليه وسلم بما كان منهما فقال صلى الله عليه وسلم لعل الله يبارك لكما في ليلتكما قال سفيان : قال رجل من الأنصار : فرأيت لهما سبعة أولاد كلهم قد قرأ القرآن .
و – أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ما على وجه الأرض مؤمن ولا مؤمنه إلا وهو يحبني قلت : وما علمك بذلك قال : إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى فقلت : يا رسول الله ادع الله أن يهدي أم أبي هريرة إلى الإسلام فدعا لها ، فرجعتُ فلما دخلت البيت قالت : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي من الفرح كما كنت أبكي من الحزن وقلت : يا رسول الله قد استجاب الله دعوتك وهدى أمَّ أبي هريرة إلى الإسلام فادع الله أن يحببني وأمي إلى عباده المؤمنين وأن يحببهم إلينا فقال صلى الله عليه وسلم : اللهم حبب هذا وأمه إلى عبادك المؤمنين وحببهم إليهما فما أعلم مؤمناً ولا مؤمنة إلا وهو يحبني وأحبه .
ح – أخرج الشيخان عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فسرنا ليلاً فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع : ألا تسمعنا من هنيهاتك – وكان عامر رجلاً شاعراً – فنزل يحدو القوم بقوله :
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فاغفر فداء لك ما اقتنينا وثبت الأقدام إن لاقينا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من هذا السائق قالوا : عامر قال : يرحمه الله قال رجل من القوم : وجبت يا رسول الله هلا أمتعتنا به فلما تصافّ القوم تناول عامر سيفه ليضرب به ساق يهودي فرجع ذباب سيفه فأصاب ركبته فمات منه . وأخرجه مسلم من وجه آخر وفيه فقال : من هذا القائل قالوا : عامر قال : غفر لك ربنا قال : وما خص رسول الله صلى الله عليه وسلم قط أحداً به إلا استشهد فقال عمر : لولا متعتنا بعامر أي ما ستغفر لإنسان يخصه قط إلا استشهد .
ط – أخرج البخاري عن أبي عقيل أنه كان يخرج به جده عبد الله بن هشام إلى السوق ليشتري الطعام فيتلقاه ابن الزبير وابن عمر فيقولان أشركنا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعا لك بالبركة فيشركهم فربما أصاب الراحلة كما هي فيبعث بها إلى المنزل .
ي – أخرج الشيخان عن أبي بكر رضي الله عنه قال : طَلَبَنَا القوم فلم يدركنا منهم غير سراقة بن مالك على فرس له فقلت : يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا قال : لا تحزن إن الله معنا فلما كان بيننا وبينه قدر قيد رمحين أو ثلاثة دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اللهم اكفناه بما شئت فساخت به فرسه في الأرض إلى بطنها فقال : يا محمد قد علمت أن هذا عملك فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه فوالله لأعمين على من ورائي من الطلب فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق راجعاً .
ك – أخرج البخاري في الأدب والنسائي عن أم قيس أنها قالت توفي ابني فجزعت فقلت للذي يغسله ، لا تغسل ابني بالماء البارد فيقتله فانطلق عكاشة بن محصن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بقولها فتبسم ثم قال طال عمرها فلا يعلم امرأة عُمّرت ما عُمّرت .
ل – أخرج البيهقي وأبو نعيم من طريق يعلى بن الأشدق قال : سمعت النابغة نابغة بني جعدة يقول : أنشدت رسول الله صلى الله عليه وسلم شعراً فأعجبه فقال : جدت لا يَفْضُض الله فاك قال يعلى : فلقد رأيته ولقد أتى عليه نيف ومائة سنة وما ذهب له سن .
م – أخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه إلى كسرى فلما قرأه كسرى مزقه فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمزقوا كل ممزق فمزقوا .
ن – وروى البيهقي بإسناد صحيح أنه صلى الله عليه وسلم دعا على الحكم بن أبي العاص وكان يختلج بوجهه أي يحرك وجهه وحاجبيه وشفتيه استهزاءً بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال كن كذلك فلم يزل يختلج إلى أن مات .
س – وأخرج مسلم عن الأكوع رضي الله عنه أن رجلاً أكل عند النبي صلى الله عليه وسلم بشماله فقال : كل بيمينك قال : لا أستطيع قال : لا استطعت ، ما منعه إلا الكبر . قال فما رفعها إلى فيه بعد .
- 9 -
عندما تدرس حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم تجدك دائماً أمام حادث تشعر فيه أنك أمام قدرة الله المباشرة التي لا دخل لعالم الأسباب فيها ، ولا تستطيع أبداً أن تجد تعليلاً لما تراه ، أو نقل إليك نقلاً صحيحاً ، إلا أن الله جلت حكمته يجري على يد هذا الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم ما تقوم به الحجة على الكافر ، ويزداد به المؤمن يقيناً ويخرج به الشاك عن شكه .
ولا يفوتنا هنا ونحن ننقل نوعاً آخر من أنواع معجزاته صلى الله عليه وسلم أن نشير مرة ثانية إلى أن هذه النقول هي أدق نقول تاريخية في العالم . لأن معايير النقد التي وضعت لاستخراج صحيحها لا مثيل له أبداً . مع ملاحظة أنها منقولة في النهاية عن الصحابة الذين كانوا يعتقدون أن الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أكبر الكبائر ، وقد رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدق ، وما كان أحدهم يسكت على باطل رآه . فلو حدث أن صحابياً أخطأ في النقل فإنهم جميعاً كانوا يردون عليه إذا بلغهم خطؤه ، وإذن فنحن إذ ننقل هذه النقول ننقلها باطمئنان الواثق إلى ما بين يديه ، ولئن كان في الأخبار المروية عن الرسول صلى الله عليه وسلم ما هو ضعيف فالعلة تكمن في أجيال ما بعد الصحابة وعلماء النقد عند المسلمين ما تركوا أمثال هذه تمر . بعد هذا نبدأ بنقل مجموعة من الآثار لها صلة بالمعجزات وما ننقله غيض من فيض ، وكثير مما نقلناه مروي بعدة روايات عن عدة صحابة ، ومخرج في عدة كتب ، ولكنا اخترنا رواية من مجموع روايات الحادثة الواحدة وهاك هذه المختارات .
أ – روى البخاري ومسلم وغيرهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في قصة حفر الخندق قال : رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم خمصاً شديداً ، وهو ضمير البطن من الجوع فأخرجت جراباً فيه صاع من شعير ولنا بهيمة – وهي الصغيرة من أولاد المعز – وفي رواية عن جابر رضي الله عنه : أنا يوم الخندق تحفر فعرضت لنا كدية شديدة فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : هذه كدية عرضت في الخندق قال : أنا نازل ، ثم أقام وبطنه معصوب بحجر ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقاً فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم فضرب فعادت كثيباً أهيل فقلت : يا رسول الله ائذن لي إلى البيت فأذن فقلت لامرأتي : رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ما كان لي في ذلك صبر فعندك شيء ؟ قالت : عندي شعير وعناق فذبحت العناق وطبخت الشعير حتى جعلنا اللحم في البرمة ثم جئت النبي صلى الله عليه وسلم والعجين قد اختمر والبرمة بين الأثافي – أي الأحجار التي توضع عليها القدر – كادت أن تنضج وقالت امرأتي : لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم وبمن معه فجئته فساررته فقلت : يا رسول الله ذبحنا بهيمة لنا وطبخنا صاعاً من شعير فتعال أنت ونفر معك يعني دون العشرة وفي رواية فقلت طعيم لنا صنعته فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان وكنت أريد أن ينصرف وحده قال : كم هو ذكرت له فقال : كثير طيب قل لها لا تنزل البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتي فصاح النبي صلى الله عليه وسلم يا أهل الخندق إن جابراً صنع سؤراً فحيهلا بكم – أي هلموا مسرعين – والسؤر الطعام الذي يدعى إليه .
وفي رواية فقال : قوموا فقام المهاجرون والأنصار فلما دخل على امرأته قال : وحيك جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالأنصار والمهاجرين ومن معهم قالت : هل سألك قلت : نعم . وفي رواية قال : لقيت من الحياء ما لا يعلمه إلا الله تعالى وقلت : جاء الخلق على صاع من شعير وعناق فدخلت على امرأتي أقول : افتضحت جاءك رسول الله بالجند أجمعين فقالت : هل كان سألك كم طعام فقلت : نعم فقالت : الله ورسوله أعلم نحن أخبرناه بما عندنا وفي رواية أنها خاصمته في أول الأمر وقالت : بك بك فلما أعلمها أنه أعلم النبي صلى الله عليه وسلم سكن ما عندها وقالت : الله ورسوله أعلم لعلمها بإمكان خرق العادة ودل ذلك على وفور عقلها وكما فضلها رضي الله عنها .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تنزل برمتكم ولا يخبزن عجينكم حتى أجيء . وفي رواية قال جابر فجئت وجاء النبي صلى الله عليه وسلم يقدم الناس فأخرجت المرأة له عجيناً فبصق فيه وبارك ثم عمد إلى برمتنا وبصق فيها وبارك أي دعا بالبركة ثم قال لجابر : ادع خابزة لتخبز مع زوجتك ثم قال لها : اقدحي من برمتكم ولا تنزلوها وهم – أي القوم الذين جاءوا معه – ألف وأقعدهم عشرة عشرة يأكلون فأقسم بالله لقد أكلوا حتى تركوه وانحرفوا – أي مالوا عن الطعام – وإن برمتنا لتغط أي لتغلي وتفور كما هي وإن عجيننا ليخبز كما هو. وفي رواية فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه ادخلوا ولا تضاغطوا فجعل يكسر الخبز ويغرف حتى شبعوا أجمعين والتنور والقدر أملأ مما كانا فقال : كلي واهدي فلم نزل نأكل ونهدي يومنا أجمع . وفي رواية فأكلنا وأهدينا لجيراننا فلما خرج صلى الله عليه وسلم ذهب ذلك .
ب – وأخرج مسلم عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فأصابنا جهد حتى هممنا أن ننحر بعض ظهرنا فأمر نبي الله صلى الله عليه وسلم فجمعنا مزاودنا فبسطنا له نطعاً فاجتمع زاد القوم على النطع فطاولت لأحزر كم هو فحزرته كربضة لعنز ونحن أربع عشرة مائة فأكلنا حتى شبعنا جميعأً ثم حشونا جرباننا ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل من وضوء فجاء رجل بإداوة فيها نطفة ماء فأفرغها في قدح فتوضأنا كلنا ندغفقه دغفقة أربع عشرة مائة ( نصبه صباً كثيراً واسعاً ) .
جـ - وأخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال لما كان يوم غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة فقالوا يا رسول الله لو أذنت لنا ننحر نواضحنا فأكلنا وادَّهنا ؟ فقال عمر : يا رسول الله إن فعلت قل الظهر ولكن ادعهم بفضل أزوادهم وادع الله لهم فيها بالبركة لعل الله أن يجعل في ذلك الخير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم فدعا بنطع فبسطه ثم دعا بفضل أزوادهم فجعل الرجل يأتي بكف ذرة ويجيء الآخر بكف تمر ويجيء الآخر بكسرة حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة ثم قال لهم خذوا في أوعيتكم فأخذوا حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملؤوه فأكلوا حتى شبعوا وفضلت فضلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى بهما عبد غير شاك فيحجب عن الجنة . وأخرجه بنحوه ابن سعد والحاكم وصححه البيهقي وأبو نعيم عن أبي عمرة الأنصارية رضي الله عنه وأخرجه ابن راهويه وأبو يعلى وأبو نعيم وابن عساكر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، عنه بلفظ :
خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فأصابنا جوع شديد فقلت : يا رسول الله خرج إلينا اروم وهم شباع ونحن جياع وأرادت الأنصار أن ينحروا نواضحهم ، فنادى في الناس من كان عنده فل من زاد فليأتنا فحرزنا جميع ما جاءوا به فوجدوه سبعة وعشرين صاعاً ، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه فدعا فيه بالبركة ثم قال : أيها الناس خذوا ولا تنتبهوا فأخذوه في الجرب والغرائر حتى جعل الرجل يعقد قميصه فيأخذ فيه حتى صدروا وإنه نحو ما كان يحرزون فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يأتي بهما عبد بحق إلا وقاه الله حرّ النار .
د – وأخرج الشيخان عن أنس رضي الله عنه قال : قال أبو طلحة لأم سليم : لقد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفاً أعرف فيه الجوع فهل عندك من شيء فقالت : نعم فأخرجت أقراصاً من شعير ثم ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أرسلك أبو طلحة قلت : نعم قال : لمن معه قوموا فجئت أبا طلحة فأخبرته فقال أبو طلحة : يا أم سليم قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليس عندنا ما نطعمهم قالت : الله ورسوله أعلم فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : هلمي ما عندك يا أم سليم فأتت بذلك الخبز فأمرت به ففت وعصرت عليه عكة لها فأدمته ثم قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء أن يقول ثم قال ائذن لعشرة فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ثم قال : ائذن لعشرة فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم قال ائذن لعشرة حتى أكل القوم كلهم وشبعوا والقوم سبعون رجلاً أو ثمانون . وأخرجه مسلم من عدة طرق وفي بعضها ثم أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل البيت وأفضلوا ما بلغ جيرانهم ، وفي بعضها قال : بسم الله اللهم أعظم فيها البركة .
هـ - وأخرج الدارمي وابن أبي شيبة والترمذي الحاكم والبيهقي وصححوه وأبو نعيم عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بقصعة فيها طعام فتعاقبوها إلى الظهر منذ غدوة يقوم قوم ويقعد آخرون ، فقال رجل لسمرة هل كانت تمد ؟ قال : ما كانت تمد إلا من ههنا وأشار إلى السماء .
و – وأخرج البخاري عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثين ومائة فقال : هل مع أحد منكم طعام ؟ فإذا مع رجل صاع من طعام أو نحوه فعجن ثم جاء رجل بغنم يسوقها فاشترى منه شاة ، فأمر بها فصنعت ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بسواد البطن أن يشوى ، قال : وايم الله ما من الثلاثين ومائة إلا وقد حزّ له رسول الله صلى الله عليه وسلم من سواد بطنها إن كان شاهداً أعطاه وإن كان غائباً خبأ له ، قال : وجعل منها قصعتين فأكلنا منها أجمعون وشبعنا وفضل من القصعتين فحملنا على البعير .
ز – وأخرج الطبراني في الأوسط بسند حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : دعاني النبي صلى الله عليه وسلم فقال : انطلق إلى المنزل فقل : هلموا الطعام الذي عندكم فأعطوني صحيفة فيها عصيدة بتمر فأتيته بها فقال لي : ادع أهل المسجد فقلت في نفسي : الويل لي مما أرى من قلة الطعام والويل لي من المعصية فدعوتهم فاجتمعوا فوضع النبي صلى الله عليه وسلم أصابعه فيها وغمز نواحيها وقال كلوا بسم الله فأكلوا حتى شبعوا وأكلت حتى شبعت ورفعتها فإذا هي كهيئتها حين وضعتها إلا أن فيها آثار أصابع النبي صلى الله عليه وسلم .
ح – وأخرج أبو يعلى والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي وأبو نعيم عن قيس بن النعمان رضي الله عنه قال لما انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر مستخفين مرا بعبد يرعى غنماً فاستقياه اللبن فقال : ما عندي شاة تحلب غير أن ههنا عناقاً حملت أول الشتاء وقد أخرجت وما بقي لها لبن فقال صلى الله عليه وسلم : ادع بها فدعا بها فاعتقلها النبي صلى الله عليه وسلم ومسح ضرعها ودعا وجاء أبو بكر بمجن فحلب صلى الله عليه وسلم وسقى أبا بكر ثم حلب فسقى الراعي ثم حلب فشرب هو صلى الله عليه وسلم فقال الراعي : من أنت فوالله ما رأيت مثلك قط قال : محمد رسول الله قال : أنت الذي تزعم قريش أنه صاب ؟ قال : إنهم ليقولون ذلك قال : فأشهد أنك نبي وإن ما جئت به حق وأنه لا يفعل ما فعلت إلا نبي .
ط – وأخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : والله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد على كبدي على الأرض من الجوع وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع ولقد قعدت يوماً على الطريق فمر بي أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليستتبعني فمر ولم يفعل ثم مر بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي ثم قال : يا أبا هريرة قلت : لبيك يا رسول الله .
قال : إلحق ومضى فاتبعته فدخل واستأذنت فأذن لي فدخلت فوجد صلى الله عليه وسلم لبناً في قدح فقال : من أين هذا اللبن ؟ قالوا : أهداه لك فلان أو فلانة قال صلى الله عليه وسلم : " أبا هريرة " .
قلت : لبيك يا رسول الله .
قال : الحق بأهل الصفة فادعهم وادعهم لي قال : وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون إلى أهل ولا مال ، إذا أتته صلى الله عليه وسلم صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئاً فإذا أتته هدية أرسل إليهم فأصاب منهم وأشركهم فيها فساءني ذلك وقلت : وما هذا اللبن في أهل الصفة كنت أرجو أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها وإني لرسول فإذا جاءوا أمرني صلى الله عليه وسلم أن أعطيهم ، ما عسى أن يبلغني من هذا اللبن ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بد ، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا وأخذوا مجالسهم من البيت فقال : أبا هريرة قلت : لبيك يا رسول الله قال خذ : فأعطهم فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى ثم يرد عليَّ القدح أعطيه لآخر فيشرب حتى يروى ثم يرد علي القدح حتى انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد روي القوم كلهم فأخذ القدح فوضعه على يده ونظر إلي وتبسم وقال : يا أبا هريرة قلت : لبيك يا رسول الله قال : بقيت أنا وأنت قلت : صدقت يا رسول الله قال اقعد فاشرب فشربت فقال اشرب فشربت فما زال يقول اشرب فأشرب حتى قلت لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكاً فأعطيته القدح فحمد الله وسمى وشرب الفضلة صلى الله عليه وسلم .
* * *
وبعد هذا ننتقل إلى خاتمة هذا الباب :
تعقيب
إن المعجزة حجة على صحة الدعوة . غير أن بعض الناس يحاول أن يتهرب من حجيتها بذكر أشياء خارقة للعادة تظهر على يد غير الرسل ، يراها الناس ثم يعتبر ذلك دليلاً على أنه لم تقل عليه الحجة بالمعجزة ، والحقيقة أن هناك أشياء كثيرة يراها الناس خارقة للعادة وليست كذلك . والمعجزة تختلف عن كل هذه الأشياء وبهذا تقوم الحجة على الناس ولنضرب أمثلة :
نسمع كثيراً عن أخبار سحرة يأتون بأشياء عجيبة ، ونسمع كثيراً عن أشياء عجيبة تظهر على يد فقراء الهنود ، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن خوارق تظهر على يد الدجال في آخر الزمان ويروي لنا الثقات أن هناك ناساً من صلحاء المسلمين تظهر على أيديهم خوارق للعادة . فمثلاً يذكر ابن تيمية أن الشيخ عبد القادر الجيلاني منقولة كراماته تواتراً .
فما مقام المعجزة التي تقوم بها الحجة بين هذه الأشياء ؟
كنا ذكرنا في مقدمة هذه الفصول أن المعجزة تكون بخلق الله المباشر دون أن يكون للأسباب الكونية فيها أي تعلق . على خلاف السحر فإنه علم له قوانينه من أتقنها ظهر على يده منه ، وعلى خلاف الأعاجيب التي تظهر نتيجة الرياضات الروحية فإن ذلك أثر عن أسباب وقوانين كونية تخضع لها عوالم الروح .
ومن هنا كانت هذه الأشياء في الحقيقة نتائج عادية لمقدمات خاصة ، أما معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم فتختلف عن هذا كله لأنها ليست وليدة علم أو قانون كوني وسبب ، أما الخارقة للعادة التي تظهر على يد رجل صالح ، فهي مثل المعجزة من حيث كونها خارجة عن الأسباب ، ومن حيث كونها بقدرة الله المباشرة .
ولكنها في العادة لا تكون إلا على يد إنسان متمسك بحبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي أثر من آثار اتباع الرسول . فهي كرامة لمن ظهرت على يده معجزة للرسول . لأنه لولا اتباعه للرسول ما أظهر على يديه مثل هذه الخوارق ، فالكرامة والمعجزة من مشكاة واحدة ، ولكن المعجزة تظهر مع دعوى الرسالة ، والكرامة تظهر تأييداً لصاحب الرسالة على يد إنسان متبع للرسول .
ولا نحكم على الخارقة أنها كرامة إلا بعد التأكد من استقامة صاحبها على أمر الله وسنة رسوله .
إن سنة الله جرت ألا يظهر خارقة للعادة بكل شروطها على يد إنسان كذاب في دعوى الرسالة عنه ، وهنا سر الفرق الحقيقي بين المعجزة وكل خارقة أخرى .
فصاحب الكرامة لا يدعي الرسالة ، ولذا فإن ظهورها على يده لا يجعل في الأمر التباساً ، خاصة وهو متبع لرسول الله متمسك بشريعته .
وأما المسيح الدجال فليس يدعي الرسالة وتظهر معه الخوارق تأييداً لها حاشا ، ولكنه إنسان جعله الله عز وجل أعظم فتنة للبشر إذ يدعي الألوهية ويظهر معه شيء من آثار قدرة الله ليبقى العقل البشري مسؤولاً ، إذ العقل يعرف الله بصفات الكمال وهذا الإنسان لا يمكن أن يكون هو الله . فما يظهره الله على يده فتنة يختبر بها العباد ، ولا يلتبس ما يظهر على يده بالمعجزة التي تقوم بها الحجة ، لأنه لا يدعي الرسالة أصلاً ، ولو كان يدعي الرسالة ما ظهرت على يده مثل هذه الخوارق .
وإذن بعض ما يظهر للناس أنه خوارق للعادة ليس هو في الحقيقة من هذا النوع .
وبعضها لا يظهر مع دعوى الرسالة فلا يلتبس بالمعجزة .
وتبقى المعجزة شاهدة على صحة دعوى الرسالة ، والكرامة إذا خرجت من أهلها دليل على صدق التابع والمتبوع ، فلا التباس بين المعجزة وغيرها والحجة قائمة على البشر بها .
ولا عذر لأحد لا يتبع صاحبها .
وأخيراً وقد انتهى هذا الباب .
نقول :
إن إنساناً يرى معجزة المعجزات بين يديه ( القرآن ) ثم لا يؤمن بأن محمداً رسول الله ، فهو أعمى القلب والعقل .
وإن إنساناً تؤكد له أصدق الوثائق التاريخية كثرة معجزات محمد عليه الصلاة والسلام ثم لا يؤمن به ، مظلم الوجدان والضمير .
وإن إنساناً مثل هذا ليقولن في يوم :
{وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السَّعِيرِ} الملك 10 ، 11 .
* * *
وإلى الباب الثالث لنرى برهاناً على أن محمداً رسول الله .
Bookmarks