صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12
النتائج 16 إلى 28 من 28

الموضوع: الرسول صلى الله عليه وسلم - سعيد حوّى

  1. افتراضي

    الباب الثالث

    النبُواءت


    إن المستقبل مجهول للإنسان ، وكل ما يستطيع أن يتصوره الإنسان بالنسبة للمستقبل هو من باب التوقعات التي تعتمد على المقدمات المؤدية للنتائج ، وحتى في هذه فمهما أوتي الإنسان من صدق الحدس ، وقوة الإدراك ، فإن كلامه يبقى من باب التوقعات التي يمكن ألا تقع ، أما في حالة عدم وجود المقدمات التي تؤدي إلى النتائج ، فالمسألة تبقى من باب التخرصات أو التبوهمات ، ووقوعها في هذه الحالة من قبيل المصادفات ، وعدم وقوعها هو الأصل ، لقد تنبأ اليهودي الشيوعي الخبيث " ماركس " أن الثورة الشيوعية ستكون في ألمانيا وإنكلترا ، وكان يستبعد أن تقوم في روسيا فكانت في روسيا لملابسات خاصة ولم تكن في ألمانيا أو إنكلترا .

    فإذا ما وجدنا ظاهرة عند إنسان ، هذه الظاهرة هي أنه تحدث عن المستقبل حديثاً ما خرمه المستقبل ، ولا في جزء من أجزائه ، فنحن إذن أمام ظاهرة تحتاج إلى تحليل وتعليل ، وليس كلامنا هنا إلا في حالة التصديق الكامل من الواقع للنبوءة الثابتة ، فليس كلامنا إذن في التوقعات ، وليس كلامنا في التكهنات الكهنية التي يكذب الواقع عشرات منها ، وليس كلامنا في النبوءات المدَّعاة التي يُدَّعى أنها قيلت قبل وقوع مضمونها ، والحقيقة أنها قيلت بعده ، وليس كلامنا في أمر بُيّتَ فتنبأ بوقوعه بعض مَنْ بَيَّته ، وليس كلامنا في إنسان تحققت بعض نبوءاته وكذب الواقع بعضها ، وليس كلامنا في نبوءة كانت عن رؤيا منام أو ما يشبه رؤيا منام ، وليس كلامنا في نبوءة صدرت عن تابع نبي فكانت كرامة له باتباعه لهذا النبي .

    وإنما كلامنا في إخبار عن المستقبل المجهول ، عن رجل يقول عن نفسه أنه رسول ، ويتحقق هذا المستقبل تحققاً تاماً لا يخرم منه شيء ، فتلك إذن نبوة لا شك فيها واتصال بالله عالم الغيب والشهادة لا شك فيه .

    هكذا يذكرون عن التوراة وهكذا ذكر القرآن يقول الله في القرآن : {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} الجن : 26 ، 27 .

    ويذكرون عن التوراة : ( فإن أحببت وقلت في قلبك كيف أستطيع أن أميز الكلام الذي لم يتكلم به الرب فهذه تكون لك آية إن ما قاله لك النبي باسم الرب ولم يحدث فهذا الرب لم يكن تكلم به بل ذلك النبي صورة في تعظيم نفسه ولذلك لا تخشه ) . الباب الثامن عشر من كتاب الاستثناء التثنية 22 .

    وهذه نبوءات تحدث بها السيد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم تجعلك على مثل الشمس وضوحاً ، أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه لا ينطق عن الهوى والذي نعرضه هنا في هذا الفصل قليل من كثير نجتزئ به حتى يأخذ الإنسان صورة واضحة المعالم عن هذا الموضوع ومن أراد التوسع فعليه بالكتب التي استقصت هذه الأبحاث ، وسترى في الأمثلة التي سنذكرها نبوءات عن حوادث معينة لأشخاص معينين ونبوءات وقعت قديماً وأخرى نراها الآن . ونبوءات عن حوادث خاصة أو عامة تقع للأمة الإسلامية أو فيها قريباً من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم أو بعيداً وهذه هي الأمثلة فتأملها :

    1 – روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : صعد النبي صلى الله عليه وسلم أُحداً ومعه أبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فقال : اثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان .

    هذه نبوءة تذكر أن عمر وعثمان يستشهدان . وقد قتل عمَر أبو لؤلؤة ، وقُتل عثمان في الفتنة المعروفة .

    2 – وفي الصحيحين واللفظ لمسلم عن أبي موسى الأشعري : أنه توضأ في بيته ثم خرج فقال : لألزمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأكونن معه يومي هذا ، فجاء المسجد فسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : خروج وجه ههنا ، فخرجت على إثره أسأل عنه حتى دخل بئر ( أريس ) ، فجلست عند الباب وبابها من جريد حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته وتوضأ ، فقمت إليه فإذا هو قد جلس على بئر ( أريس ) وتوسط قفها ( حافة البئر ) وكشف عن ساقيه ودلاهما في البئر فسلمت عليه ثم انصرفت فجلست عند الباب فقلت لأكونن بواب رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم فجاء أبو بكر فدفع الباب فقلت من هذا ؟ فقال : أبو بكر .

    فقلت على رسلك ثم ذهبت فقلت : يا رسول الله هذا أبو بكر يستأذن .

    فقال : ائذن له وبشره بالجنة فأقبلت حتى قلت لأبي بكر :

    ادخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبشرك بالجنة ، فدخل أبو بكر فجلس عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في القف ، ودلى رجليه في البئر كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم وكشف عن ساقيه ، ثم رجعت فجلست وقد تركت أخي يتوضأ ويلحقني فقلت : عن يرد الله بفلان خيراً – يريد أخاه – يأت به فإذا إنسان يحرك الباب فقلت من هذا ؟

    قال : عمر بن الخطاب .

    فقلت : على رسلك .

    ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه وقلت :

    هذا عمر يستأذن فقال : ائذن له وبشره بالجنة ، فجئت عمر فقلت : أذن ويبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ، فدخل فجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في القف عن يساره ، ودلى رجليه في البئر ، ثم رجعت فجلست فقلت : إن يرد الله بفلان خيراً – يعني أخاه – يأت به فجاء إنسان فحرك الباب فقلت من هذا ، فقال : عثمان بن عفان فقلت : على رسلك ، وجئت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال :

    ائذن له وبشره بالجنة مع بلوى تصيبه ، فجئت فقلت : ادخل ويبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة مع بلوى تصيبك . وفي رواية أخرى فقال : اللهم صبراً فدخل فوجد القف قد ملئ فجلس وجاههم من الشق الآخر .

    فهذه نبوءة في أن عثمان ستصيبه بلوى وقد كانت هذه البلوى هي ما حدث له في الفتنة التي أدت إلى قتله عليه الرضوان , ومما يرشح هذا المعنى ما رواه ابن عبد البر في الاستيعاب عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    " ادعوا لي بعض أصحابي فقلت أبو بكر ؟ قال : لا . فقلت : عمر ؟ قال : لا . فقلت : ابن عمك علي ؟ قال : لا . فقلت : عثمان ؟ قال : نعم . فلما جاء قال لي بيده ، فتنحيت فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يُساره ولون عثمان يتغير فلما كان يوم الدار وحصر قيل له : ألا تقاتل ؟ قال : لا . إن رسول الله عهد إلي عهداً وأنا صابر نفسي عليه .

    3 – روى الشيخان عن أنس بن مالك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخل على أم حرام بنت ملحان – وهي من خالاته من الرضاع – فتطعمه وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت ، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطعمته ، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استيقظ وهو يضحك قالت : ما يضحكك يا رسول الله ؟

    قال : ناس من أمتي عرضوا عليَّ ، غزاة في سبيل الله ، يركبون ثبج هذا البحر ملوكاً على الأسرة .

    قالت : فقلت : يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم ، فدعا لها ثم وضع رأسه فنام ثم استيقظ وهو يضحك .

    قالت : ما يضحكك يا رسول الله ؟

    قال : ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله ، كما قال في المرة الأولى .

    قالت : يا رسول الله : ادع الله أن يجعلني منهم .

    قال : أنت من الأولين .

    وقد غزا معاوية بن أبي سفيان قبرص في سنة ثمان وعشرين هجرية ومعه من كبار الصحابة أبو ذر وأبو الدرداء وعبادة بن الصامت ، وكانت مع عبادة زوجة أم حرام بنت ملحان .

    4 – أخرج الشيخان أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال يوماً : أيكم يحفظ ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة التي تموج كموج البحر فقال حذيفة رضي الله عنه : ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين إن بينك وبينها باباً مغلقاً . قال : أيفتح أم يكسر . قال : يكسر قال : إذن لا يغلق أبداً فقيل لحذيفة : من الباب ؟ قال : هو عمر قيل له : أكان عمر يعلمه ؟ قال نعم كما يعلم دون غد الليلة إني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط .

    وأخرج الطبراني عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تصيبكم فتنة ما دام هذا فيكم يعني عمر . ويروى معناه عن عثمان بن مظعون وخالد بن الوليد . ولكنا يعلم أن الفتنة بين المسلمين وقعت بعد عمر . أما الرد فلم تكن فتنة بين المسلمين ، وإنما كفر بالإسلام حاربه المسلمون وهم يد واحدة .

    5 – وأخرج الشيخان عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال : كان علي تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر وكان رمداً فقال :

    أنا أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج فلحق به فلما كان مساء الليلة التي فتح الله في صباحها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لأعطين الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله يفتح الله عليه ، فإذا نحن بعلي وما نرجوه فقالوا : هذا علي فأعطاه الراية ففتح الله عليه .

    ووردت القصة أيضاً من حديث ابن عمر وابن عباس وسعد وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري ، وعمران بن حصين وجابر وأبي ليلى ، أخرجها كلها أبو نعيم .

    6 – أخرج البخاري عن أبي بكرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للحسن : إن ابني هذا سيد ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين . فهذه نبوءة عن انقسام وفرقة وصلح بواسطة الحسن ، وقد كان الانقسام وجرت الدماء ثم أصلح الله الحال عندما تنازل الحسن لمعاوية عن الخلافة ، وحقن دماء المسلمين .

    7 - وأخرج الشيخان عن سعد بن أبي وقاص قول رسول الله له وقد مرض بمكة حتى أشرف على الموت : " لعلك تخلف – أي تعيش – حتى ينتفع بك أقوام ويستضر بك آخرون " فشفاه الله وفتح الله العراق على يديه وهدى به أناساً أسلموا على يديه وغنموا معه . وأضر الله به ناساً من الكفار جاهدهم وقتل منهم وسبى .

    8 – وأخرج الشيخان عن أبي سعيد ومسلم عن أم سلمة وأبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار : تقتلك الفئة الباغية قال الحافظ السيوطي : هذا الحديث متواتر رواه من الصحابة بضعة عشر .

    ففي الحديث ثلاث نبوءات أن هناك فئة باغية وأن عماراً سيقتل قتلاً ، وأن الفئة الباغية قاتلته وقد كان كل هذا إذ قتلته فئة معاوية ولم يكن بجانبها الحق ، وقد دخل كثير من الصحابة المعركة بجانب علي بعد مقتل عمار لكون الحديث حجة له في كونه على الحق .

    9 - أخرج البخاري عن عدي بن حاتم قال : بينما أنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجل فشكا إليه الفاقة وأتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل فقال : يا عدي بن حاتم إن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلا الله – قلت فيما بيني وبين نفسي فأين ذعار طيء الذين سعروا البلاد – ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى قلت : كسرى بن هرمز .

    قال : كسرى بن هرمز ، ولئن طالت بك الحياة لترين الرجل يخرج ملء كفيه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه فلا يجد قال عدي :

    قد رأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالبيت لا تخاف إلا الله وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى ، ولئن طالت بكم حياة سترون الثالثة .

    قال البيهقي : قد وقعت الثالثة في زمن عمر بن عبد العزيز ثم أخرج عن عمر بن أسيد عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب قال : إنما ولي عمر بن عبد العزيز سنتين ونصفاً ، والله ما مات عمر بن عبد العزيز حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم فيقول :

    اجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء فما يبرح حتى يرجع بماله نتذكر من يضعه فيهم فلا نجد فيرجع بماله ، قد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس .

    10 – أخرج الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : بينا نحن عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسماً إذ أتى ذو الخويصرة فقال يا رسول الله : اعدل قال : ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل ، خبت وخسرت إن لم أكن أعدل . قال عمر : يا رسول الله ائذن لي فيه أضرب عنقه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدردر يخرجون على خير فرقة من الناس . قال أبو سعيد فأشهد أني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأمر بذلك الرجل فالتمس فوجد فأتي به حتى نظرت إليه على نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نعته .

    وأخرج مسلم عن عبيدة قال لما فرغ علي من أصحاب النهر قال : ابتغوا فيهم إن كانوا القوم الذين ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن فيهم رجلاً مخدج اليد ، فابتغيناه ، فوجدناه فدعوناه إليه فجاء حتى قام عليه فقال : الله أكبر ثلاثاً . والله لولا أن تبطروا لحدثتكم بما قضى الله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن قتل هؤلاء ، قلت : أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أي ورب الكعبة . ثلاث مرات .

    11 – أخرج مسلم عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها أنها قالت للحجاج : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن في ثقيف كذاباً ومبيراً . فأما الكذاب فقد رأيناه وأما المبير فلا أخالك إلا إياه " وقد روى ابن سعد والبيهقي عن عمر ما يشير إلى الحجاج ، وكذلك روى الإمام أحمد والبيهقي عن الحسن ما يشير إليه ، وأخرج البيهقي عن علي كذلك ما يشير إليه .

    12 – وأخرج الشيخان عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده , وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده ، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله .

    وأخرج البخاري عن أبي هريرة .

    وأخرج الحارث بن أبي أسامة عن أبي محيريز قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فارس نطحة أو نطحتان ، ثم لا فارس بعد هذا أبداً ، والروم ذوات القرون كلما هلك قرن خلفه قرن .

    ومعروف تاريخياً أنه بسقوط دولة الأكاسرة انتهى أمرهم تماماً ولم يستردوا ملكهم بتاتاً وبقي من يومها الأمر للمسلمين ، وبسقوط دولة القياصرة في القسطنطينية انتهت دولتهم تماماً ولم يستردوها مرة ثانية وبقي من يومها الأمر للمسلمين ، مع ملاحظة أن الدولة الرومانية طال أمرها حتى سقطت بيد المسلمين نهائياً ، على عكس الدولة الفارسية وهذا ما أشار إليه الحديث الثاني .

    13 – وأخرج أبو داود والترمذي عن سفينة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الخلافة بعدي في أمتي ثلاثون سنة ، ثم تصير ملكاً عضوضاً بعد ذلك وهكذا وقع خلافة أبي بكر سنتان وثلاثة أشهر وعشرون يوماً ، وخلافة عمر عشر سنين وستة أشهر وأربعة أيام ، وخلافة عثمان إحدى عشر سنة وإحدى عشر شهراً وثمانية عشر يوماً وخلافة علي أربع سنين وعشرة أشهر أو تسعة ، وخلافة الحسن ستة أشهر فكانت ثلاثين .

    والحديث الذي رواه البزار بسند حسن صحيح يتحدث بشكل واضح عن مراحل الحكم في الأمة الإسلامية ، كما وقعت ونثبت هنا نص الحديث كما ورد في كتاب " الموافقات " و " الإمامة " .

    " إن أول دينكم نبوة ورحمة وتكون فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله جل جلاله ، ثم يكون ملكاً عاضاً فيكون فيكم ما شاء الله أن يكون ، ثم يرفعه الله جل جلاله ثم يكون ملكاً جبرياً فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله جل جلاله ثم تكون خلافة على منهاج النبوة تعمل في الناس بسنة النبي ، ويلقي الإسلام بجرانه في الأرض يرضى عنها ساكن السماء وساكن الأرض لا تدع السماء من قطر إلا صبته مدراراً ، ولا تدع الأرض من نباتها وبركاتها شيئاً إلا أخرجته " .

    وواضح أن الدورين الأولين والثاني انتهيا بزوال الخلافة الراشدة ، وأن الدور الثالث استمر حتى زوال الدولة العثمانية ، وأن الدور الرابع هو الذي نحن فيه وأن الدور الخامس قادم بإذن الله .

    14 – وأخرج مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنكم ستفتحون أرضاً يذكر فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيراً فإن لهم ذمة ورحماً " والمقصود بالرحم أنهم أخوال إبراهيم بن السيد الرسول صلى الله عليه وسلم : إذ المقصود في ذلك أرض مصر والآثار في الأخبار عن فتح مصر كثيرة .

    15 – وأخرج البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " وعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو الهند " . وقد غزوناها .

    16 – روى الستة إلا النسائي عنه عليه الصلاة والسلام :

    " لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوماً نعالهم الشعر ، ولا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوماً صغار الأعين حمر الوجوه ذلف الأنوف كأن وجوههم المجان المطرَقة " وينطبق الوصف تماماً على التتار ، أما أصحاب نعال الشعر فقد ذكر البيهقي : أن قوماً من الخوارج بناحية الري وكانت نعالهم الشعر وقوتلوا .

    17 – أخرج أبو يعلى عن معاوية بن خديج رضي الله عنه قال : كنت عند معاوية فأتاه كتاب عامله أنه أوقعَ بالترك وهَزمهم فغضب معاوية من ذلك ثم كتب له لا تقاتلهم حتى يأتيك امرؤ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لتظهرن الترك على العرب حتى تلحقها بمنابت الشيح والقيصوم " وهما نبتان يوجدان في بلاد العرب وقد حدث أن السلطان خلال أربع مائة عام كان للترك على العرب إلا مناطق الصحراء .

    18 – روى البخاري " لا تقوم الساعة حتى يقتتل فئتان عظيمتان دعواهما واحدة وحتى يبعث دجالون قريب من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله " .

    وفي حديث ابن الزبير .

    " بين يدي الساعة ثلاثون كذاباً " .

    وأخرج أحمد عن حذيفة بسند جيد " سيكون في أمتي كذابون ودجالون سبعة وعشرون ، أربعة نسوة إني خاتم النبيين لا نبي بعدي " .

    وقد ظهر كثير من هؤلاء الكذابين حتى الآن ولعل أبرزهم في عصرنا غلام أحمد القادياني الذي ادعى أنه نبي نسخت به شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ومن هذه السلسلة الخبيثة مسيلمة ، والأسود العنسي وسجاح .

    19 – روا البخاري والحاكم في المستدرك عن أبي هريرة " لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى " . وروى ابن شيبة وأحمد والحاكم صححه عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليت شعري متى تخرج نار من جبل وراق تضيء لها أعناق البخت ببصرى كضوء النهار " ويبدو أن الحديث هنا عن بركان عظيم يخرج من أرض الحجاز من مكان عينه الرسول صلى الله عليه وسلم .

    وقد وقع هذا .

    قال النووي : تواتر العلم بخروج هذه النار عن جميع أهل الشام قال السمهودي : وكانت في زمنه وكان ابتداء الزلزلة بالمدينة مستهل جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة لكنها كانت خفيفة فلم يدركها بعضهم مع تكررها ، واشتدت في يوم الثلاثاء وظهرت ظهوراً عظيماً ثم في ليلة الأربعاء ثالث الشهر في الثلث الأخير من الليل حدثت زلزلة عظيمة جداً أشفق الناس منها واستمرت تزلزل بقية اليوم ثم إلى يوم الجمعة ولها دوي أعظم من الرعد فتموج الأرض وتتحرك الجدران حتى وقع في يوم واحد دون ليلته ثماني عشرة حركة .

    وكانت هذه كلها مقدمات لظهور هذه النار وقد وصف القسطلاني في كتاب أفرده لهذه الحادثة هذه النار :

    " إن ضوءها استولى على ما بطن وما ظهر حتى كأن الحرم والمدينة قد أشرقت بهما الشمس وتأثر من لهيبها النيران ، وصار نور الشمس على الأرض يعتريه صفرة ، ولونها هي يعتريه حمرة والقمر كأنه كسف " .

    وقال القسطلاني كذلك : " أنها لم تزل مارة على سبيلها وهي تسحق ما والاها وتذيب ما لاقاها من الشجر الأخضر والحصى ، وإن طرفها الشرقي آخذ بين الجبال فحالت دونها ثم وقفت ، وإن طرفها الشامي وهو الذي يلي الحرم اتصل بجبل يقابله يقال له وعيرة على قرب من شرقي جبل أحد " .

    وقد ذكر هذه النار السمهودي في تاريخ المدينة ، وذكرها القاضي سنان والقاشاني والعماد بن كثير والمطري وغيرهم ...

    20 - وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم " وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان " .
    21 – روى مسلم عن أبي هريرة قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صنفان من أمتي من أهل النار لم أرهما بعد . قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون الناس ، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت " .

    وروى الإمام أحمد والحاكم عن ابن عمر :

    " يكون في آخر هذه الأمة رجال يركبون على المياثر حتى يأتوا أبواب المساجد . نساؤهم كاسيات عاريات على رؤوسهن كأسنمة البخت العجاف العنوهن فإنهن ملعونات ، لو كانت وراءكم أمة من الأمم لخدَّمهم كما خدمتكم نساء الأمم قبلكم " .

    ولعل أدق وصف لما عليه وضع النساء في زماننا من تبرج وعري تثن وميوعة وفتنة ، هو ما وصفهن به الحديث الشريف ، وهذا لا شك معجزة واضحة . إذ ما كان أحد يستطيع أن يتصور أن تصبح المرأة المسلمة في مثل هذه الحالة التي عليها الآن ، حتى إنك لو كنت في بداية هذا القرن الرابع عشر الهجري لما استطعت أن تتصور بشكل من الأشكال هذا الوضع الحاضر لامرأة أصلها مسلمة .

    22 – أخرج أبو داود والبيهقي عن ثوبان رضي الله عنه قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها فقال قائل : ومن قلة نحن يومئذ ؟

    قال : بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم ، وليقذفن في قلوبكم الوهن . قيل وما الوهن يا رسول الله : قال حب الدنيا وكراهية الموت " .

    والمراقب لوضع المسلمين منذ ظهور ما يسمى بالمسألة الشرقية حتى الآن يجد هذه الظاهرة ظاهرة طمع الأمم في العالم الإسلامي والكيد له والتخطيط لامتصاص خيراته واضحة جداً مع ما وصف به رسول الله المسلمين .

    23 – وهذه جملة أحاديث تراها في عصرنا هذا واقعاً يتحرك أمامك :

    " إن بين يدي الساعة فشو التجارة حتى تعين المرأة زوجها على التجارة – وقطع الأرحام وفشو القلم وظهور الشهادة بالزور وكتمان شهادة الحق " .

    " يأتي على الناس زمان لا يتبع فيه العليم ولا يستحيا فيه من الحليم ، ولا يوقر فيه الكبير ولا يرحم فيه الصغير يقتل بعضهم بعضاً على الدنيا ، قلوبهم قلوب الأعاجم وألسنتهم ألسنة العرب لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً يمسي الصالح فيهم متسخفياً أولئك شرار خلق الله لا ينظر الله إليهم يوم القيامة " .

    " لا تقوم الساعة حتى يجعل كتاب الله عاراً ويكون الإسلام غريباً ، وحتى تبدو الشحناء بين الناس وحتى يقبض العلم ويهرم الزمان وينقص عمر البشر وينقص السنون والثمرات ويؤتمن التهماء ، ويتهم الأمناء ، ويصدق الكاذب ويكذب الصادق ، ويكثر الهرج – وهو القتل – وحتى تبنى الغرف أي القصور فتطاول وحتى تحزن ذوات الأولاد أي لعقوق أولادهن ، وتفرح العواقر ويظهر البغي والحسد والشح ويهلك الناس ويكثر الكذب ويقل الصدق وحتى تختلف الأمور بين الناس ويتبع الهوى ، ويقضى بالظن ويكثر المطر ويقل الثمر ويغيض العلم ( أي علم حقيقة الإسلام ) غيضاً ، ويفيض الجهل فيضاً . ويكون الولد غيظاً والشتاء قيظاً ، ويقوم الخطباء بالكذب فيجعلون حقي لشرار أمتي ، فمن صدقهم بذلك ورضي به لم يرح رائحة الجنة "
    * * *

    وأخيراً نقول :

    إن هذا الباب ألفت فيه كتب كثيرة ونقل فيها الكثير والكثير ، وهو قليل بالنسبة لما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة عن المستقبل ، فقد روى البخاري ومسلم عن حذيفة قال " قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً فما ترك شيئاً يكون من مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدثه ، حفظه من حفظه ونسيه من نسيه ، وقد علمه أصحابي هؤلاء وإن ليكون منه السيء قد نسيته فأراه فأذكر كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه ثم إذا رآه عرفه " .

    وروى مسلم عن عمرو بن أخطب الأنصاري قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر ، فنزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر ، فنزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس ، فأخبرنا بما هو كائن إلى يوم القيامة فأعلمنا أحفظنا " .

    إنها النبوة ولا شيء غير ذلك {فمَنْ شاء فليؤمن ومَنْ شاء فليكفر} .. {مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} الإسراء 15 .

    النبوة التي دلتنا بما أخبرتنا عنه من غيوب أن لصحابها صلة كاملة بالله ، ولولا ذاك ما ظهر في كلام صاحبها آثار علم الله المحيط في الماضي والحاضر ، وكأنما المستقبل أمامه مكشوف يكشف الله له .

    وهذه آثار أخرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحتاج إلى شرح لوضوح انطباقها على وضع أمتنا في هذا العصر ، فكأنما قيلت فيه عنه وهي مسطورة في كتب الإخبار عنه عليه الصلاة والسلام من مئات السنين نقلناها من كتاب مطابقة الاختراعات العصرية للأحاديث النبوية .

    1 – " لا تقوم الساعة حتى تروا أموراً عظاماً لم تكونوا ترونا ولا تحدثون بها أنفسكم " .

    2 – " ولن يكون ذلك ( أي من قضية الدجال ) حتى تروا أموراً يتفاقم شأنها في أنفسكم وتساءلون بينكم هل كان نبيكم ذكر لكم منها ذكراً " .

    3 – " لا تقوم الساعة حتى يخرج الناس من المدينة إلى الشام يبتغون فيها الصحة " .

    والشام تشمل فلسطين ولبنان والأردن وسوريا ، وانظر حال مصايف هذه البلاد تجد كيف أنها مملوءة بالحجازيين وغيرهم ممن يأتون للراحة فقط مما لم يكن موجوداً من قبل .

    4 – " لا تقوم الساعة حتى تمطر مطراً لا تكن منها بيوت المدر ولا تكن منها إلا بيوت الشعر " . ولعل صور الطائرات في الحرب العالمية الثانية وهي تمطر المدن بوابل القنابل فتزعزع كل بناء . تذكرنا بجزء مما ينطبق الحديث عليه . إذ تأثير هذه القنابل على بيوت المدر أكثر من تأثيرها على بيوت الشعر " .

    5 – " إن الله تعالى قال في الحديث القدسي " :

    " أبث العلم في آخر الزمان حتى يعلمه الرجل المرأة والعبد والحر والصغير والكبير فإذا فعلت ذلك بهم أخذتهم بحقي عليهم " .

    ومن رأى تسهيل العلم في زماننا وكثرة أدواته ومعاهده من مدارس وإذاعة وجرائد ومجلات و ... رأى مصداق الحديث .

    6 – ومن حديث علي وله حكم المرفوع .

    " ويحاً للطالقان فإن لله فيه كنوزاً ليست من ذهب ولا فضة " والطالقان من قزوين وتلك ناحية وجود البترول في إيران .

    7 – " تخرج معادن مختلفة معدن منها قريب من الحجاز يأتيه من أشرار الناس " .

    ونحن نعلم أن معدن البلاد القريبة من الحجاز في عصرنا إنما استخرجه أوّل ما خرج الأجانب بوسائلهم الكثيرة وفي الحديث الآخر " ستكون معادن يحضّرها شرار الناس " ولاحظ كلمة يحضّرها المشددة الضاد .

    8 – " ليأتين على الناس زمان لا يبقى منهم أحد إلا أكل الربا فمن لم يأكله أصابه من غباره " .

    ومن رأى في زماننا قيام الحياة الاقتصادية كلها على المصارف والبنوك رأى الواقع الذي أخبر عنه الحديث .

    9 – " ما أنتم إذا مرج الدين وسفك الدماء وظهرت الزينة وشرف البنيان " .

    وفي زماننا حدث هذا كله : اختلط الدين وكثر القتل وظهرت الزينة وكثر البنيان وشرف وتطاول كما في حديث آخر " وحتى يتطاول الناس في البنيان " .

    10 – " لا تقوم الساعة حتى يكون القرآن عاراً ويتقارب الزمان " . وقد أصبح القرآن الآن عند بعض الناس في بعض الأقطار رجعياً وأصحابه يعيرون بالرجعية وتقارب الزمان حتى قطعت المسافة الطويلة بالزمن القصير .

    11 – " كيف بكم أيها الناس إذا طغى نساؤكم وفسق شبابكم قالوا :

    يا رسول الله إن هذا لكائن قال : نعم " . وقد حدث هذا كما يشاهد واقعاً .

    12 – " إذا كثر قراؤكم وقلت علماؤكم وكثرت أمراؤكم وقلت أمناؤكم . والتمست الدنيا بعمل الآخرة وتفقه لغير الله ... " .

    وقد كثر القراء وقل العلماء وكثر الأمراء وأصبحت الدنيا هدفاً ولم تعد معاهد العلم في الغالب تخرج طلاباً لله .

    13 – " إن بين يدي الساعة سنين خداعة يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين وينطق فيها الرويبضة قيل : وما الرويبضة قال : الرجل التافه ينطق في أمر العامة " .

    " والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى يظهر الفحش والبخل ويخون الأمين ويؤتمن الخائن وتهلك الوعول وتظهر التحوت قالوا : يا رسول الله وما الوعول وما التحوت ؟ قال : الوعول وجوه الناس وأشرافهم ، والتحوت الذين كانوا تحت أقدام الناس لا يعلم بهم " .

    " وكان زعيم القوم أرذلهم " .

    ومن رأى واقع السنين التي نعيشها علم مصداق هذه الآثار إذ تسلط على الناس في أكثر من مكان أكثر الناس وضاعة وانحطاطاً وتفاهة ، وضاع أصحاب الحلوم والعقول .

    14 – " سيكون من بعدي سلاطين ، الفتن على أبوابهم كمبارك الإبل لا يعطون أحداً إلا أخذوا من دينه مثله " . ولعل كلمة " كمبارك الإبل " أبلغ وصف للسيارات .

    15 – " يوشك أن يؤمر عليهم الرويجل فيجتمع إليه قوم محلقة أقفيتهم بيض قمصهم فإذا أمرهم بشيء حضروا " .

    فانظر هذا الوصف الدقيق لنوع الحلاقة والقمصان التي يلبسها بعض الموظفين ممن لم يكن نوعيتها معروفة قديماً .

    16 – " والمشي بالأسواق والأفخاذ بادية " . وهذا ينطبق على ما يسمى في زماننا بالفرق الرياضية والكشفية ويرى خاصة أثناء الاستعراضات .

    17 – " قص اللحية " . وقد أصبح الآن هو السائد واللحية مستغربة .

    18 – " لتسلكن سنن من قبلكم حذو النعل بالنعل ، ولتأخذن بمثل أخذهم إن شبراً فشبر وإن ذراعاً فذراع ، وإن باعاً فباع ، حتى لو دخلوا جحر ضب دخلتم فيه " . ومن رأى كثرة التقليد في عصرنا للغربيين في أي مسلك سلكوه شاهد يقيناً وقوع الحديث .

    19 – ومما رواه معاذ في أشراط الساعة :

    " إن الدم يسفك بغير حقه ، والمال يعطى على الكذب " . وترى المال يعطى على الكذب في صورة إعطائه رجلا المباحث السياسية على تقارير ، قسم كبير منها كاذب ، ولكتاب روايات مختلفة ، وإعداد برامج إذاعية مختلفة كاذبة وأشياء كثيرة من هذا القبيل .

    20 - " ويح لهذه الأمة ماذا يلقى فيها من أطاع الله ؟ كيف يكذبونه ويضربنه إنه أطاع الله من أجل أنهم ما أطاعوا الله – قال عمر بن الخطاب : يا رسول الله الناس يومئذ على الإسلام ؟

    قال : نعم يا عمر

    قال عمر : يا رسول الله الناس يومئذ على الإسلام ؟

    قال : نعم يا عمر .

    قال عمر : يا رسول الله ولم يبغضون من أمرهم بطاعة الله ؟

    قال ترك القوم الطريق وتزين الرجل منهم بزينة المرأة لزوجها وتبرج النساء زيهم زي الملوك الجبابرة يسمنون كالنساء فإذا تكلم أولياء الله وأمروهم بطاعة الله قيل له : أنت قرين الشيطان ورأس الضلالة تكذب بالكتب تحرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ، تأولوا كتاب الله على غير تأويله واستذلوا أولياء الله " .

    ومن عرف وضع الأمة الإسلامية اليوم رأى كيف أن الدعاة إلى الله وشريعته يضطهدون في كل مكان من قبل الحكام الظالمين .

    21 – " ستكون فتنة يفارق الرجل فيها أخاه وأباه تطير الفتنة في قلوب الرجال منهم إلى يوم القيامة حتى يعيّر الرجل فيها بصلاته كما تعيّر الزانية بزناها " .

    وما رؤيت هذه الفتنة في العالم الإسلامي إلا هذا العصر الذي فيه يلام الرجل على صلاته ويوبخ ، ويعير مع كثرة دعوات السوء المنتنة ودخول أصحابها فيها . واستمرارهم عليها مع بطلانها .

    22 – " يأتي على الناس زمان يخير الرجل فيه بين العجز والفجور فمن أدرك ذلك الزمان فليختر العجز على الفجور " .

    23 – " سيخرج قوم في آخر الزمان هم دجالون كذابون ببدع من الحديث لم تسمعوا به أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم لا يفتنونكم " .

    24 – " إذا كنت في قوم عشرين رجلاً أو أقل أو أكثر فتصفحت وجوههم فلم تر فيهم رجلاً يهاب الله عز وجل فاعلم أن الأمر قد حضر " .

    25 – " لا تقوم الساعة حتى يفيض المال فيضاً , ويغيض الكرام غيضاً ، ويجترئ الصغير على الكبير واللئيم على الكريم " .

    26 – " سيأتي على الناس زمان تمات فيه الصلوات ، ويشرف فيه البنيان ويكثر فيه الحلف والتلاعن ويفشو فيه الرشا والزنا ، وتباع الآخرة بالدنيا . فإذا رأيت ذلك فالنجا والنجا قيل : وكيف النجا قال : كن حلساً من أحلاس بيتك وكف لسانك ويدك " .

    27 – " ليأتين على الناس زمان يؤمن بالله ولا يشركون به شيئاً ويصومون رمضان ويصلون الخمس وقد سلبوا دينهم لأنهم رأوا الحق فتركوه " .

    28 – " إني لأعلم أهل دينين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار قوم يقولون : إن كنا أولنا ضلالاً ما بال خمس صلوات في اليوم والليلة إنما هما صلاتان : العصر والفجر " .

    والذي يعرف شيئاً عن طائفة الإسماعيليين يدرك صدق الحديث فإنهم يؤمنون أن عليهم صلاتين فقط صباحاً ومساءً .

    29 – " سيظهر شرار أمتي على خيارهم حتى يستخفي فيهم المؤمن كما يستخفي فيكم المنافق اليوم " .

    30 – " ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف " . وهذا واقع الآن بشكل واضح .

    31 – " إنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرف ولا مفصل إلا دخله " .

    32 – " لا يخرج الدجال حتى يذهل الناس عن ذكره وحتى تترك الأئمة ذكره على المنابر " .

    33 – " لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة . فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها وأولهن نقضاً الحكم وآخرهن الصلاة " .

    34 – " يأتي على الناس زمان يصبح الرجل بصيراً ويمسي ما يبصر شعرة " . أي يضل الحق .

    35 – " إن الناس دخلوا في دين الله أفواجاً وسيخرجون منه أفواجاً " .

    36 – " إن بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم فتن كقطع الدخان يموت فيه قلب الرجل كما يموت بدنه ، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً ، يبيع أقوام أخلاقهم ودينهم بعرض من الدنيا " .

    37 – " ليت شعري كيف أمتي بعدي حتى تتبختر رجالهم وتمرح نساؤهم ، ليت شعري كيف هم حين يصيرون صفين صفاً ناصبي نحورهم في سبيل الله . وصفاً عمالاً لغير الله " .

    38 – " إذا ظهر فيكم السكرتان : سكرة الجهل وسكرة حب العيش وجاهدوا في غير سبيل الله يومئذ بكتاب الله سراً وعلانية كالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار " .

    39 – " ذلك أيام الهرج حين لا يأمن الرجل جليسه " .

    40 – " قال أبيض رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى لا تبقى ملة إلا ولها منكم نصيب . قلت يبادرون يخرجون من الإسلام ؟

    قال : يصلون بصلاتكم ويجلسون مجالسكم وهم معكم في سوادكم ، ولكل ملة منهم نصيب . قلت : ( أي الوليد راوي الحديث ) إي والله لكل ملة منهم نصيب إلا الإسلام فلا نصيب له منهم إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم " .

    41 – " من اقتراب الساعة أن ترفع الأشرار وتوضع الأخيار ويفتح القول ويخزن العمل " .

    42 – " من اقتراب الساعة تشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال " .

    وأنت إذا ما تأملت هذه الآثار فإن لا تجد فيها حديثاً إلا وتراه أمامك واقعاً على الأرض الآن ، مما لم يكن موجوداً من قبل . حتى أن رائي العين لا يصف بأبلغ من هذا ، وإنما كان هذا ، لأنه أثر علم الله المحيط الذي أطلع على بعضه محمداً صلى الله عليه وسلم فقال ما قال ووقع كل ما قال . وفي ذلك الشهادة الكاملة على أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله حقاً وصدقاً لا يمتري في ذلك إلا متكبر أو حاسد أو شيطان يرى الحق ولا يتبعه .

    إن النبوآت التي اخترناها كلها نبوءات قد وقعت وهناك نبوآت أخرى لم يحن وقتها بعد ، ومن العجيب أن بعضها مذكور في الكتب الدينية السابقة على رسولنا عليه الصلاة والسلام ، وهذا يؤكد أن مصدر هذه النبوآت السابقة الوحي وأنها من القسم الذي لم يحرف في الكتب الأولى ، وكل تعليم آخر ظاهر الفساد ، فلم تكن مثل هذه القضايا منتشرة ولا معروفة في الجزيرة العربية .

    والرسول عليه الصلاة والسلام أمي لا يحسن القراءة ، ولم تكن هذه الكتب أصلاً مترجمة إلى العربية في ذلك الزمان ، عدا عن كون النسخ محدودة جداً لا توجد إلا عند رؤساء الدين اليهودي بالنسبة لنسخ التوراة . غير أن بعض هذه النبوءات موجودة في كتب العهد الجديد التي لا يؤمن بها اليهود أصلاً . وليست موجودة عندهم ولم تكن هناك أي صلة بين النصارى ورسول الله عدا عن كون الفكر النصراني لم يكن له أي صدى في مكة والمدينة . إلا ما ذكر أن ورقة بن نوفل كان له مثل هذا الاتجاه .

    إلا أن اتصال الرسول بورقة كان محدوداً ومعروفاً ما جرى فيه ، وورقة آمن برسالة محمد من اللحظة الأولى ، فليس هناك من تعليل لوجود هذه النبوآت المشتركة إلا وحدة المصدر وهو الوحي .

    أبرز هذه النبوآت المشتركة ثلاث :

    1 – الإخبار عن يأجوج ومأجوج .

    2 – الإخبار عن المسيح الدجال .

    3 – الإخبار عن نزول عيسى ابن مريم في آخر الزمان وأنه يقتل الدجال .

    فقد أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام عن مجيء ناس ذوي عدد هائل سموا باسم يأجوج ومأجوج إلى منطقة في فلسطين قبيل قيام الساعة ، وأخبر عليه الصلاة والسلام بأحاديث متواترة عن ظهور إنسان سماه المسيح الدجال يدعي الألولهية وهو أكبر ما فتن به البشر ، وأن المسيح عليه السلام يقتله بعد نزوله .

    وقد ذكر في كتاب المشاهدات الباب 19 وفي الباب الثاني من الرسالة الثانية إلى أهل تسالونيق وهما كتابان نصرانيان .

    " إن عيسى – عليه السلام – سيقتل الدجال وعسكره بعد نزوله " .

    وقد نقل عن حزقيال عليه السلام في كتب العهد القديم أنه أخبر عن خروج يأجوج ومأجوج في الزمن المستقبل وإهلاكهم حين وصولهم إلى جبال إسرائيل ثم عقب على ذلك في الكتاب المنسوب إليه في الباب التاسع والثلاثين الفقرة الثامنة .

    " ها هو جاء وصار يقول الرب الإله هذا هو اليوم الذي قلت عنه " إشارة إلى يوم القيامة .

    إن هذا كله يؤكد لنا رسالة محمد عن الله ويجعلنا على اليقين الذي لا شك معه ، أن ما قاله عليه الصلاة والسلام هو الحق الذي لا يمترى فيه .

    ملاحظة : قصة يأجوج ومأجوج واردة كذلك في القرآن ، ولكن التفصيلات التي ذكرناها عن الرسول صلى الله عليه وسلم آنفاً توضح وتبين الآيات القرآنية .
    * * *

  2. افتراضي

    الباب الرابع

    الثَمرات


    إن دعوة الرسل عليه الصلاة والسلام تختلف عن أي دعوة أخرى من دعوات البشر المنبتّة عن هداية الله ، ولذلك كان شيئاً عادياً تماماً أن تكون آثارها وثمارها تختلف عن غيرها ، فإذا كان من ثمار الدعوات الأخرى الإغراق في الشهوات والملذات الحيوانية ، فإن من ثمار دعوة الرسل ضبط النفس إلا عن المتع المعقولة .

    وإذا كان من ثمار الدعوات الأخرى عدم التقيد بالحق والخير والمعروف ، فإنه شيء عادي أن يكون من ثمرات دعوة الرسل الالتزام بهذا ، وإذا كانت دعوات غير الرسل تعتبر الجمال مقدماً على الأخلاق ، فشيء عادي أن يكون من ثمرات دعوة الرسل اعتبار الجمال في الأخلاق الكريمة العالية .
    إن الفطرة تحس بالخير والشر ، وإن فطرة الإنسان تستشعر الثمرة الطيبة للدعوة الطيبة ، كما يستشعر ذوق الإنسان حلاوة الثمرة الطيبة ، وإن فطرة الإنسان تستشعر الثمرة الخبيثة للدعوة الخبيثة ، كما يستشعر ذوق الإنسان مرارة الثمرة الرديئة .

    ولذلك كان عند الفطرة نوع بصيرة تستطيع بها أن تميز ثمرات الرسول الحق من ثمرات مدعي النبوّة الكاذب ، وأن ترى في آثار كلٍ ما يدل على صدق الأول وادعاء الثاني .

    وقد أشارت الكتب السماوية إلى هذا المعنى :

    فقال الله تعالى في القرآن :

    {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً} الأعراف : 58 .

    ويذكرن في إنجيل يوحنا الباب السابع الفقرة الخامسة عشر على لسان المسيح قوله :

    " احذروا من الأنبياء الكَذَبَة الذين يأتونكم بثياب الحملان ولكنهم من داخلٍ ذئاب خاطفة من ثمارهم تعرفونه ، هل يجتَنون من الشوك عنباً أو من الحسك تيناً " .

    يقول الله تعالى :

    {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} الفتح : 29 .

    ويذكرون في الباب الثالث عشر من إنجيل متى على لسان المسيح عليه السلام :

    " قدم لهم مثلاً آخر قائلاً : يشبه ملكوت السماوات حبة خردل أخذها إنسان وزرعها في حقله وهي أصغر جميع البذور ، ولكن متى نمت فهي أكبر البُقول وتصير شجرة حتى أن طيور السماء تأتي وتأوي في أغصانها " .

    يعرف النبي من ثماره ، لذلك كان لا بدَّ من كتابة هذا الباب لتبيان أن ثمار محمد عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن تكون إلا ثمار نبي .

    وسنستعرض في هذا الفصل عشر ثمرات من ثمراته عليه الصلاة والسلام . في كل منها شهادة كاملة على أنها منبثقة من شجرة النبوَّ الطيبة العطرة المتميزة .

    أولاً – التوحيد :

    في الهند اليوم حوالي 200 مليون بقرة ، هذه الأبقار يعتبرها الهنود مقدسة ، وبالتالي فإنه لا يستفيدون منها بتاتاً ، ويحرمون ذبحها ، وأكثر من هذا فإن الشعب الهندي كله مسخر لخدمتها ، وتعيش على حسابه ، فكم يحتاج هذا العدد من الأبقار إلى مراع وطعام ؟

    وكم تعطل طاقات على حساب هذا النوع من الشرك ؟

    وزيادة على ذلك فإن لهذا البقر سلطاناً على كل شيء . تقف البقرة فتوقف وراءها السيارات ولا يزعجها أحد حتى تمضي هي فيمضي غيرها . وتبول في أي مكان ، وتخثي في أي مكان . وتعتدي على مال أي إنسان ، ولا أحد يجرؤ على أن يعترض سبيلها بشيء . وفي الهند هذه السنين مجاعة تهدد عشرات الملايين، ترى لو استفاد الشعب الهندي من البقر ألا تنحل شيء من أزمته ؟

    إن هذه الصورة من صور الشرك جعلت البشر مسخراً لخدمة البقر .

    وفي مصر اليوم أهرامات ضخمة جداً ، وأحجارها ضخمة جداً ، نقلت من أماكن بعيدة جداً ، نقلها آلاف من أبناء الشعب المصري إلى منطقة الأهرامات ، وتعبت في بناء هذه الأهرامات آلاف الأدمغة وآلاف الأيدي من أجل ماذا ؟

    من أجل أن يصنعوا قبراً لفرعون الذي كانوا يعبدونه كإله !! فكم أُنفق من جهد ، وكم أنفق من أموال ؟ بسبب هذه الصورة من صور الشرك ، بصرف النظر عما تمثله هذه الأهرامات من تقدم مدني .

    شعب من البشر مسخر كله لخدمة فرد من البشر .

    وفي العالم اليوم حوالي ثلاثة عشر مليوناً من الطائفة الإسماعيلية ، التي تعبد رجلاً كإله وتقدم له كل عام خُمس أموالها ، تجعله في كفة ميزان ، وتجعل الذهب في كفة أخرى حتى يتساويا ، وتقدمه له كهدية سنوية ، ثلاثة عشر مليوناً من البشر يستغلهم فرد باسم الألوهية . ليجهدوا ويقدموا ، أما هو فيأخذ ويكنز وينفق بلا حساب على أشياء كثيرة وقد يكون المرشح لهذا المنصب داعراً فاسقاً ماجناً ، ينال هذا كله ويصرفه في كل سبيل داعر ، ذلك أثر من آثار الشرك بالله ، أن يستغل فرد من البشر شعباً كاملاً من البشر باسم ألوهية الإنسان وعبودية الإنسان للإنسان .

    وفي العالم اليوم شعوب وثنية ، وقديماً كانت الوثنية منتشرة في العالم كله لم تخل منها أمة من الأمم :

    الرومان واليونان ، والهند والصين واليابان والعرب .. والشعوب الإفريقية من مصر إلى غيرها .. فماذا تعني هذه الوثنية ؟ قبل أن نقول ماذا تعني نضرب أمثلة عن نماذج منها :

    أ – عند العرب :

    1 – روى البخاري عن أبي رجاء العطاردي قال : كنا نعبد الحجر ، فإذا وجدنا حجراً هو خير منه ألقيناه وأخذنا الآخر ، فإذا لم نجد حجراً جمعنا حثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبنا عليه ثم طفنا به .

    2 – وقال الكلبي : كان الرجل إذا سافر فنزل منزلاً أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها فاتخذه رباً ، وجعل ثلاثاً أثافيَّ لقدره وإذا ارتحل تركه .

    3 – وقال صاعد في كتاب ( طبقات الأمم ) : كانت حمير تعبد الشمس ، وكنانة القمر ، وتميم الدبران ، ولخم وجذام المشتري ، وطيء سهيلاً ، وقيس الشَّعرى العبور ، وأسد عطارد .

    4 – وقال الكلبي : كان لأهل كل دار من مكة صنم في دارهم يعبدونه ، فإذا أراد أحدهم السفر كان آخر ما يصنع في منزله أن يتمسح به ، وإذا قدم من سفر كان أول ما يصنع إذا دخل منزله أن يتمسح به أيضاً .

    5 – وكان لكل قبيلة من العرب صنم ولكل ناحية أو مدينة صنم خاص وكان في فناء الكعبة وحدها ثلاث مائة وستون صنماً للعبادة .

    6 – قال سعيد بن جبير في شرح الأزلام : " الأزلام حصى بيض كانوا إذا أرادوا غدواً أو روحاً كتبوا في قدحين في أحدهما : أمرني ربي وفي الآخر نهاني ربي ، ثم يضربون بهما فأيهما خرج عملوا به " .

    ب – عند الهنود :

    يقول أبو الحسن الندوي في كتابه : " ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين " عن حال الوثنية في الهند :

    " بلغت الوثنية أوجها في القرن السادس ، فقد كان عد الآلهة في ويد ثلاثة وثلاثين ، وقد أصبحت في هذا القرن 330 مليوناً ، وقد أصبح كل شيء رائعاً وكل شيء جذاباً ، وكل مرفق من مرافق الحياة إلهاً يعبد ، وهكذا جاوزت الأصنام والتماثيل والآلهة الإلاهات الحصر وأربت على العد ، فمنها أشخاص تاريخية وأبطال تمثل فيهم الله – زعموا – في عهود وحوادث معروفة ومنها جبال تجلى عليها بعض آلهتهم ، ومنها معادن كالذهب والفضة تجلى فيها إله ، ومنها نهر الكنج الذي خرج من رأس " مهاديو " الإله ، ومنها آلات الحرب وآلات الكتابة وآلات التناسل وحيوانات أعظمها البقرة ، والأجرام الفلكية وغير ذلك ، وأصبحت الديانة نسيجاً من خرافات وأساطير وأناشيد وعقائد وعبادات ما أنزل الله بها من سلطان ، ولم يستسغها العقل السليم في زمن من الأزمان " .

    جـ - والفرس :

    كانوا يعبدون ملوكهم ونيرانهم ، واليابانيون يعتبرون ملكهم ابن الشمس المعبودة ، واليونانيون يعبدون إله المطر فلاناً وإلاهة الحب فلانة وإله الحرب فلاناً .. وهكذا ..
    * * *

    فماذا تعني هذه الوثنيات كلها ؟

    تعني أن الإنسان اعتبر نفسه أقل من الحجر ، وأقل من الشمس وأقل من الحيوانات ، وأقل من مظاهر الطبيعة كلها ، بل جعلها في مقام السيد ، وجعل نفسه في مقام العبد الذليل ، وجعلها تتحكم فيه بواسطة وبغير واسطة .

    وقال النصارى : إن المسيح ابن الله وأعطوه حكم الأب – تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً –

    فأصبح المسيح عندهم إلهاً ، كما اعتبر الهنود بوذا من قبل إلهاً ، وهؤلاء وهؤلاء صنعوا التماثيل لهذا وهذا وعبدوها ، فأصبحت كلاً من الديانتين ديانة وثنية شركية من ناحيتين : من ناحية عبادة الأصنام ومن ناحية عبادة الإنسان ، ونتج عن هذا عند النصارى أن اعتبروا خليفة المسيح الممثل في البابا له حكم المسيح من حيث طاعة أوامره ونواهيه ، فأصبح التحليل والتحريم والتضليل والتخريف الذي عليه طابع الديانة المقدسة الصادر من قبل البابا هو كل شيء . فكانت مآسي وفظائع من حَجْرٍ على العقل ، وقتل للأنفس ، وسلب للحريات ، ومقاومة لكل حق وقد ذكر التاريخ من ذلك الكثير .
    * * *

    وألحَد ناس قديماً وألحد ناس في هذا العصر ، فماذا يعني الإلحاد ؟

    يعني الإلحادُ أن الإنسان عبد الكون كله بدلاً من أن يعبد أجزاء منه ، وخلع على الكون كله صفات الألوهية ، فالكون يخلق ويَرزق ، ويُعطي ويمنع ، ويحيي ويميت ، ويتصرف ويعمل ورتب ويبدع ويكوِّن ، واعتبروا أنفسهم أعظم ما في هذا الكون فعبدوا أنفسهم ؛ اعتبروا أن الإنسان مصدر التشريع ، ومصدر الحاكمية ، ومصدر الأمر والنهي . وهو حر أن يفعل وأن يترك وأن يعمل كل شيء فغلبتهم شهواتهم ، وظلموا بعضهم ، وأصبح كل واحد من هؤلاء يعتبر نفسه إلهاً ، وأخيراً اعتبرت الفلسفة الشيوعيّة الشعب كله إلهاً يفعل ما يشاء ، لا رادَّ لحكمه ، وتمثل الشعب بأفراد تصرفوا كآلهة ، فحدث على يدهم من المآسي ما لم يحدث على يد غيرهم ، حتى إنه قتل في زمان ستالين وحده تسعة عشر مليوناً من أبناء الشعوب المسماة بالاتحاد السوفييتي .

    فلم يكن الإلحاد إذن إلا صورة من صور الشرك ، انتقل به الإنسان من الجزئية إلى الكلية ، ومن الشرك الواضح إلى الشرك المقنع ، فأعطى الكون كلّه صفات الألوهية بعدما كان يعطي أجزاء منه ، وعبد نفسه وتعبّد لها بعدما كان يعبد غيره .
    * * *

    ومحمد وحده بوحي من الله ، من يوم بعثته إلى قيام الساعة ، هو الذي وضع الإنسان في محله الصحيح فعلمه :

    1 – أن الكون كله ، قمره وشمسه ونجومه وأرضه وحيواناته من بقر ونمر وأسد وعجل ، ونباتاته كلها ، وأحجاره ومعادنه وكل شيء فيه خلق للإنسان ! فالإنسان سيده والإنسان مكرم ومفضل عليه .

    {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} البقرة : 29 .

    {أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} لقمان : 20 .

    ومن حق الإنسان أن يستفيد من الأرض وخيراتها ، ومن القمر وما فيه ومن المريخ وغيره ، كل الكون مسخر للإنسان والإنسان أكرم ما فيه :

    {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} الإسراء : 70 .

    2 – وأن الله خالق الكون والإنسان ، هو وحده الإله المتصف بكل كمال ، المنزه عن كل نقص ، المستحق وحده للعبادة . والإنسان عبده وحده .

    {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} الذاريات : 56 .

    فالناس كلهم عباد الله . ورسولهم ونبيهم ، وملكهم وخادمهم ، وكبيرهم وصغيرهم ، ولا يجوز أن يعطوا عبوديتهم لأحد سواه .

    { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ } الأنبياء : 25 .

    {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} آل عمران : 79 .

    {قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَـهُكُمْ إِلَـهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا} الكهف : 110 .

    لا إله إلا الله

    لا حجر ولا قمر ولا بشر ولا كون ولا مجلساً نيابياً يحلل ويحرم كما يشاء ، ولا شعب ولا حاكم ولا محكوم ولا البشرية كلها .

    كل الكون للإنسان ، والإنسان لله . مقام الإنسان السيادة على المخلوقات ، لأنها مسخرة له ، والعبودية لله وحده : بنقلة واحدة نقل محمد صلى الله عليه وسلم البشر من أحط الدركات إلى أعلى الدرجات ، وبذلك وجد المسلم ، وهذه أول ثمرة من ثمار محمد صلى الله عليه وسلم وهي أول ثمرة من ثمار كل نبي ولكن الناس انحرفوا :

    مكتوب في نسخ التوراة الموجودة الآن :

    ( لو دعا نبي أو من يدعي الإلهام في المنام إلى عبادة غير الله يقتل هذا الداعي وإن كان ذا معجزات عظيمة ) الباب الثالث عشر من سفر الاستثناء ، وفي الباب السابع عشر منه :

    ( لو ثبت على أحد عبادة غير الله يرجم رجلاً كان أو امرأة )

    ومكتوب في نسخ الإنجيل الحالي :

    ( وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته ) " إنجيل يوحنا الباب السابع عشر – 3 " .

    وفي الباب الثاني عشر من إنجيل مرقص – 28 – ( فجاء واحد من الكتبة وسمعهم يتحاورون فلما رأى أنه أجابهم حسناً سأله : أية وصية هي أول الكل فأجابه يسوع : إن أول كل الوصايا : اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا رب واحد ) .
    * * *

    وبهذه النظرة إلى الكون والإنسان ، فتح المسلم أقفال الكون بالتجربة والمشاهدة ، يدفعه في ذلك عقيدة أن الكون كله للإنسان ، وعليه أن يستفيد منه ، ولئن وصلت الحضارة الغربية اليوم إلى القمة في تسخير الكون ، فذلك بسبب أنها أخذت هذا المعنى عن الحضارة الإسلامية ، ولولا ذاك لما كان في أوروبا حضارة ولا علم وأين يكون ومحاكم التفتيش وسيف الكنيسة مسلطة على رأس كل من يفكر ، يقول بريفولت في كتابه " بناء الإنسانية " :

    " ما من ناحية من نواحي تقدم أوروبا إلا وللحضارة الإسلامية فيها فضل كبير وآثار حاسمة لها تأثير كبير .

    ويقول في موضع آخر :

    لم تكن العلوم الطبيعية التي يرجع فيها الفضل إلى العرب هي التي أعادت أوروبا إلى الحياة ، ولكن الحضارة الإسلامية قد أثرت في حياة أوروبا تأثيرات كبيرة ومتنوعة منذ أرسلت أشعتها الأولى إلى أوروبا " .

    ولكن للأسف فإن أوروبا أخذت جزءاً فقط من هدي محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الموضوع ولو أخذته كله لأفلحت واهتدت .

    إن هذه الثمرة من ثمار محمد صلى الله عليه وسلم التي لا يصلح الإنسان إلا بها ، ولا يأخذ محله الصحيح إلا إذا اعتقدها ، لا يمكن أن تكون على هذا الكمال والتمام في دعوة محمد عليه الصلاة والسلام لولا أنه رسول الله حقاً . أراد الله به أن ترجع الإنسانية عن الانحراف إلى الاستقامة .

    * * *

    ثانياً – التبشير باليوم الآخر وطلب النجاة فيه وجعله محور سلوك الإنسان :

    مكتوب في كتاب أيوب في الباب الثاني والأربعين منه فقرة ( 17 ) : ( ومات أيوب شيخاً معمراً ويبعث مرة أخرى مع الذين يبعثهم الرب ) .

    ومكتوب في إنجيل مرقس الباب الثالث عشر فقرة ( 32 ) : ( وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ، ولا الملائكة الذين في السماء ولا ( الابن ) أي المسيح إلا ( الأب ) أي الله ) ، وتعالى أن يكون أباً أو يكون له ولد ، وإنما ذكرنا العبارة هنا لندلل على ذكر يوم القيامة في كتب العهد القديم والجديد .

    ومكتوب في الباب التاسع عشر من إنجيل متى هكذا (16) : ( وإذا واحد تقدم وقال أيها المعلم الصالح أي صلاح أعمل لتكون لي الحياة الأبدية ) .

    إن الرسل كلهم بعثوا من أجل أن يبشروا بالحياة الأبدية الطيبة للصالحين والعذاب الأبدي للطالحين .

    {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} النساء : 165 .

    إن من ثمار محمد صلى الله عليه وسلم أنه أخرج بإذن الله وأمره جيلاً من البشر لم يعد له همة إلا في أن ينال رضا الله ، وينال سعادة الأبد ، ودل البشرية على الطريق إلى ذلك . فكان أتباعه أعظم نماذج عرفها العالم كطلاب آخرة بعد النبيين ، هذا مع قيام كامل في أمر الدنيا إصلاحاً ورعاية ، ولكن كممر إلى الآخرة ، وهذه أمثلة على هذه النماذج تخرجها تربية محمد صلى الله عليه وسلم في كل جيل وكان فيها القدوة الأولى :

    1 – أخرج الإمام أحمد بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :

    حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال :

    " دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على حصير قال : فجلست فإذا عليه إزاره وليس عليه غيره ، وإذا الحصير قد أثر في جنبه ، وإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع وقرظ ( ورق السلم يدبغ به ) في ناحية من الغرفة ، وإذا إهاب معلق فابتدرت عيناي فقال : ما يبكيك يا ابن الخطاب ؟ فقلت : يا نبي الله وما لي لا أبكي وهذا الحصير قد أثر في جنبك وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى وذاك كسرى وقيصر في الثمار والأنهار وأنت نبي الله وصفوته ، وهذه خزانتك ! قال : يا ابن الخطاب ! أما ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا " ؟

    2 – وأخرج أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت :

    " مات أبو بكر رضي الله عنه فما ترك ديناراً ولا درهماً ، وكان قد أخذ قبل ذلك ماله فألقاه في بيت المال " .

    3 – ومن حديث طويل أخرجه ابن عساكر عن الحسن البصري في عمر بن الخطاب :

    " فقالوا : ما ترون يا معشر المهاجرين والأنصار إلى زهد هذا الرجل وإلى حليته ؟

    لقد تقاصرت إلينا أنفسنا مذ فتح الله على يديه ديار كسرى وقيصر ، وطرفي المشرق والمغرب ، ووفود العرب والعجم يأتونه فيرون عليه هذه الجبة قد رقعها اثنتي عشرة رقعة . فلو سألتم معاشر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وأنتم الكبراء من أهل المواقف والمشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والسابقين من المهاجرين والأنصار يغيّر هذه الجبة بثوب لين يهاب فيه منظره ويغذى عليه بجفنة من الطعام ويراح عليه بجفنة يأكله ومن حضره من المهاجرين والأنصار .

    فقال القوم بأجمعهم : ليس لهذا القول إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه فإنه أجرأ الناس عليه وصهره على ابنته ؛ أو ابنته حفصة – فإنها زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو موجب لها لموضعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم . فكلموا علياً فقال علي :

    لست بفاعل ولكن عليكم بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فإنهن أمهات المؤمنين يجترئن عليه .

    فقال الأحنف بن قيس : فسألوا عائشة وحفصة رضي الله عنهما وكانتا مجتمعتين .

    فقالت عائشة : إن سائلة أمير المؤمنين ذلك .

    وقالت حفصة : ما أراه يفعل وسيبين لك ذلك .

    فدخلتا على أمير المؤمنين فقربهما وأدناهما .

    فقالت عائشة : يا أمير المؤمنين أتأذن أكلمك ؟

    قال : تكلمي يا أم المؤمنين ! قالت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مضى لسبيله إلى جنته ورضوانه لم يرد الدنيا ولم ترده ، وكذلك مضى أبو بكر رضي الله عنه على إثره لسبيله بعد إحياء سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل المكذبين ، وأدحض حجة المبطلين ، بعد عدله في الرعية ، وقسمه بالسوية ، وإرضاء رب البرية ، فقبضه الله إلى رحمته ورضوانه وألحقه بنبيه صلى الله عليه وآله وسلم بالرفيق الأعلى . لم يرد الدنيا ولم ترده ، وقد فتح الله على يديك كنوز كسرى وقيصر وديارهما ، وحمل إليك أموالهما ودانت لك أطراف المشرق والمغرب ، ونرجو من الله المزيد ، وفي الإسلام التأييد ، ورسل العجم يأتونك ، ووفود العرب يردون عليك ، وعليك هذه الجبة ، وقد رقعتها اثنتي عشرة رقعة ، فلو غيرتها بثوب لين يهاب فيه منظرك , ويغذى عليك بجفنة من الطعام ويراح عليك بجفنة تأكل أنت ومن حضرك من المهاجرين والأنصار .

    فبكى عمر عند ذلك بكاءً شديداً ثم قال :

    سألتك بالله هل تعلمين أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شبع من خبز برٍ عشرة أيام أو خمسة أو ثلاثة ، وجمع بين عشاء وغداء حتى لحق بالله ؟!

    فقالت : لا .

    فأقبل على عائشة فقال :

    هل تعلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرب إليه طعام على مائدة في ارتفاع شبر من الأرض . كأن يأمر بالطعام فيوضع على الأرض ويأمر بالمائدة فترفع ؟ قالتا : اللهم نعم . قال لهما : أنتما زوجتا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمهات المؤمنين ، ولكما على المؤمنين حق وعليّ خاصة . ولكن أتيتما ترغباني في الدنيا وإني لأعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبس جبة من الصوف فربما حك جلده من خشونتها ، أتعلمان ذلك ؟

    قالتا : اللهم نعم .

    فقال : هل تعلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرقد على عباءة على طاقة واحدة وكان مسحاً في بيتك يا عائشة تكون بالنهار بساطاً وبالليل فراشاً فندخل عليه فنرى أثر الحصير على جنبه ، ألا يا حفصة أنت حدثتيني أنك ثنيت له ذات ليلة فوجد لينها فرقد فلم يستيقظ إلا بأذان بلال فقال لك يا حفصة ماذا صنعت ؟ أثنيت المهاد ليلتي حتى ذهب بي النوم إلى الصباح ؟ مالي وللدنيا ومالي شغلتموني بلين الفراش !

    يا حفصة ، أما تعلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مغفوراً له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، أمسى جائعاً ورقد ساجداً ، ولم يزل راكعاً وساجداً وباكياً ومتضرعاً في آناء الليل والنهار إلى أن قبضه الله برحمته ورضوانه ! لا أكل عمر طيباً ، ولا لبس ليناً ، فله أُسوة بصاحبيه ، ولا جمع بين أدمتين إلا الملح والزيت ، ولا أكل لحماً إلا في كل شهر ينفض ما انفض من القوم ، فخرجتا فخبرتا بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزل كذلك حتى لحق بالله عز وجل .

    4 - وعن الحسن أنه سئل عن القائلين في المسجد فقال : رأيت عثمان بن عفان رضي الله عنه يقيل في المسجد وهو يومئذ خليفة ، قال :

    ويقوم وأثر الحصير بجنبه ،

    فيقال : هذا أمير المؤمنين ، هذا أمير المؤمنين .

    وعن شرحبيل بن مسلم أن عثمان رضي الله عنه كان يطعم الناس طعام الإمارة ويدخل بيته فيأكل الخل والزيت ( حياة الصحابة ) .

    5 – أخرج أبو نعيم في الحلية ( ج1 ص82 ) عن رجل من ثقيف أن علياً رضي الله عنه استعمله على عكبرا قال :

    ولم يكن السواد يسكنه المصلون – وقال لي : إذا كان عند الظهر فرح إليّ فرجعت إليه فلم أجد عنده حاجباً يحبسني دونه ، فوجدته جالساً وعنده قدح وكوز ماء – فدعا بطينة فقلت في نفسي :

    لقد آمنني حتى يخرج إليّ جوهراً ولا أدري ما فيها ، فإذا عليه خاتم فكسر الخاتم ، فإذا فيهما سويق ، فأخرج منهما فصب في القدح ، فصب عليه ماء فشرب وسقاني ، فلم أصبر فقلت :

    يا أمير المؤمنين ! أتصنع هذا بالعراق وطعام العراق أكثر من ذلك !

    قال : أما والله ما أختم عليه بخلاً عليه ، ولكني أبتاع قدر ما يكفيني فأخاف أن يفنى فيصنع من غيره ، وإنما حفظي لذلك ، وأكره أن أدخل إلا طيباً .

    6 – أخرج أبو نعيم في الحلية ( ج1 ص101 ) عن عروة قال : دخل عمر بن الخطاب على أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه فإذا هو مضطجع على طنفسة رحْلِه ، متوسد الحقيبة فقال له عمر : ألا اتخذت ما اتخذ أصحابك ؟

    فقال : يا أمير المؤمنين ؟ هذا يبلغني المقيل . وقال معمر في حديثه :

    لما قدم عمر الشام تلقاه الناس وعظماء أهل الأرض فقال عمر : أين أخي قالوا : مَن ؟ قال : أبو عبيدة ، قالوا الآن يأتيك ! فلما أتاه نزل فاعتنقه فقال ، ثم دخل عليه بيته فلم ير في بيته إلا سيفه وترسه ورحله .

    7 – وأخرج أبو نعيم في الحلية عن الحسن قال :

    " كان عطاء سلمان رضي الله عنه خمسة آلاف درهم ، وكان أميراً على زهاء ثلاثين ألفاً من المسلمين ، وكان يخطب الناس في عباءة يفترش بعضها ويلبس بعضها ، وإذا خرج عطاؤه أمضاه ( أي تصدق به ) ويأكل من سفيف يده " .

    8 – وروى الإمام أحمد عن محمد بن كعب ناساً نزلوا على أبي الدرداء رضي الله عنه ليلة قرة فأرسل إليهم بطعام سخن ، ولم يرسل إليهم بلحف ، فقال بعضهم : لقد أرسل إلينا بالطعام فما هنأنا مع القر ، لا أنتهي أو أبين له . قال الآخر : دعه ، فأبى .

    فجاء حتى وقف على الباب ، رآه جالساً وامرأته ليس عليها من الثياب إلا ما لا يذكر فرجع الرجل وقال :

    ما أراك بت إلا بنحو ما بتنا به ،

    قال : إن لنا داراً ننتقل إليها قدمنا فرشنا ولحفنا إليها ( أي الدار الآخرة ) ولو ألفيت عندنا منه شيئاً لأرسلنا إليك به وإن بيني أيدينا عقبة كؤوداً ، المُخِف فيها فخير من المثقل أفهمت ما أقول لك ؟

    قال : نعم .

    9 – وأخرج أبو نعيم عن عمر بن حمزة بن عبد الله قال : كنت جالساً مع أبي فمر رجل فقال :

    " أخبرني ما قلت لعبد الله بن بن عمر رضي الله عنه يوم رأيتك تكلمه بالجرف ؟ قال : قلت يا أبا عبد الرحمن ! رقت مضغتك ، وكبر سنك ، وجلساؤك لا يعرفون حقك ولا شرفك ، فلو أمرت أهلك أن يجعلوا لك شيئاً يلطفونك إذا رجعت إليهم، قال : ويحك والله ما شبعت منذ إحدى عشرة سنة ولا ثنتي عشرة سنة ولا ثلاث عشرة سنة ولا أربع عشرة سنة ولا مرة واحدة فكيف لي ؟

    وإنما بقي مني كظمئي الحمار " .

    10 – أخرج عمر بن شية عن أفلح مولى أبي أيوب رضي الله عنه قال : كان عمر رضي الله عنه يأمر بحلل تنسج لأهل بدر يتنوق فيها ( أي يتجود ويبالغ فيه ) ، فبعث إلى معاذ ابن عفراء حلة فقال لي معاذ :

    يا أفلح : بع هذه الحلة فبعتها له بألف وخمس مائة درهم ثم قال : اذهب بابتع لي بها رقاباً ، فاشتريت له خمس رقاب ، ثم قال والله إن امرءاً اختار قشرين يلبسهما على خمس رقاب يعتقها لغبين الرأي ، اذهبوا فأنتم أحرار " ( حياة الصحابة ) .
    * * *

    مما مرّ يتبين أن الجيل الذي رباه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم جيل أصبح همه الأعلى الآخرة ، ولم يعد له في غيرها همة : إلا إذا كان وسيلة إلى الآخرة تقربهم إلى الله ، وتفرع عن هذا الأصل سلوك لا مثيل له في أي جانب من جوانب الحياة ، والحياة والمال هما الميزان الذي يمتحن به إيمان الإنسان بالمبدأ والعقيدة . فعلى قدر تضحيته يكون إيمانه ، والتضحية التي نراها عند الصحابة – الجيل الذي رباه رسول الله – بالنفس والمال ابتغاء وجه الله والدار الآخرة تضحية لا مثيل لها في تاريخ العالم أبداً ، مما يدل على مقدار إيمانهم باليوم الآخر ، حتى أصبح محور وجودهم . وهذه أمثلة على تضحيتهم بالمال والنفس تؤكد لك مقدار استقرار هذا المعنى في أنفسهم :

    أ – تقول زوجة طلحة بن عبيد الله رضي الله عنها :

    دخلت يوماً على طلحة فرأيت منه ثقلاً فقلت له : مالك ؟ لعله رابك منا شيء فنعتبك ؟

    قال : لا ولنعم لحليلة المرء المسلم أنت ! ولكن اجتمع عندي مال ولا أدري كيف أصنع به . قلت :

    وما يغمك منه ! ادع قومك فاقسمه بينهم .

    فقال : يا غلام عليَّ بقومي.

    فسألت الخازن : كم قسم ؟

    قال : أربع مائة ألف .

    " كذا في الترغيب ، ورجاله ثقات " .

    ب – وأخرج أبو نعيم في الحلية عن سعيد بن العزيز قال :

    " كان للزبير بن العوام ألف مملوك يؤدون إليه الخراج ، فكان يقسمه كل ليلة ثم يقوم إلى منزله وليس معه شيء " .

    عن أنس بن مالك : سمعت السيدة عائشة رضي الله عنها يوماً رجة في المدينة فقالت : ما هذا ؟ قالوا : قافلة لعبد الرحمن بن عوف قدمت من الشام تحمل من كل شي ، وكانت سبعمائة بعير فقالت : يدخل عبد الرحمن الجنة حبواً ( أي بسبب غناه ) فلا بلغه ذلك قال :

    إني لأرجو أن أدخلها قائماً ، فجعل القافلة كلها في سبيل الله ، الجمال وما عليها ، ووزعها على الناس .

    جـ - أخرج الطبراني في الكبير عن مالك الدار ( هو مالك بن عياض مولى عمر ذكره الحافظ في الإصابة ) .

    أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذ أربعمائة دينار ، فجعلها في صرة فقال للغلام : اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه ثم تلّه في البيت ساعة حتى تنظر ما يصنع ، فذهب الغلام إليه فقال :

    يقول لك أمير المؤمنين : اجعل هذه في بعض حاجتك .

    فقال : وصله الله ورحمه ثم قال :

    تعالي يا جارية ! اذهبي بهذه السبعة إلى فلان ، وبهذه الخمسة إلى فلان , وبهذه الخمسة إلى فلان ، حتى أنفذها ورجع الغلام إلى عمر فأخبره . فوجده قد أعد مثلها لمعاذ بن جبل رضي الله عنه فقال :

    اذهب بهذا إلى معاذ بن جبل وتَلّه في البيت ساعة حتى تنظر ما يصنع ، فذهب بها إليه فقال :

    يقول لك أمير المؤمنين : اجعل هذه في بعض حاجتك ، فقال : رحمه الله ووصله ، تعالي يا جارية ! اذهبي إلى بيت فلان بكذا . اذهبي إلى بيت فلان بكذا . فاطعلت امرأة معاذ وقالت :

    ونحن والله مساكين فأعطنا فلم يبق في الخرقة إلى ديناران فدحى بهما ( أي رمى ) إليها ، ورجع الغلام إلى عمر فأخبره فسر بذلك فقال : إنهم إخوة بعضهم من بعض .

    د – أخرج ابن سعد عن أم درة قالت : أتيت عائشة بمائة ألف ففرقتها وهي يومئذ صائمة فقلت لها : أما استطعت فيما أنفقت أن تشتري بدرهم لحماً تفطرين عليه ؟

    فقالت : لو كنت أذكرتني لفعلت .

    هـ - وكان عمرو بن الجموح أعرج شديد العرج ، وكان له أربعة بنين شباب يغزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا . فلما توجه إلى أحد أراد أن يتوجه معه ، فقال له بنوه إن الله قد جعل لك رخصة ، فلو قعدت فنحن نكفيك وقد وضع الله عنك الجهاد ، فأتى عمرو بن الجموح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :

    يا رسول الله إن بني هؤلاء يمنعونني أن أخرج معك ، والله إني أرجو أن أستشهد ، فأطأ بعرجتي هذه في الجنة ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد .

    وقال لبنيه : وما عليكم أن تدعوه لعل الله عز وجل أن يرزقه الشهادة فخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل يوم أحد شهيداً .

    و - تقدم أنس بن النضر يوم أحد وانكشف المسلمون فاستقبله سعد بن معاذ فقال :

    يا سعد بن معاذ الجنة ورب الكعبة إني أجد ريحها من دون أحد قال أنس : فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم ، ووجدناه قد قتل ومثل به المشركون فما عرفه إلا أخته ببنانه .

    ز – وأخرج ابن سعد عن جعفر بن عبد الله بن مسلم الهمداني رضي الله عنه قال :

    لما كان يوم اليمامة كان أول الناس جرح أبو عقيل الأنيفي رضي الله عنه رمي بسهم فوقع بين منكبيه وفؤاده فشطب في غير مقتل فأخر السهم ووهن شقه الأيسر – لما كان فيه . وهذا أول النهار وجرّ إلى الرحل ، فلما حمي القتال وانهزم المسلمون وجاوزوا رحالهم وأبو عقيل واهن من جرحه سمع معن بن عدي رضي الله عنه يصيح بالأنصار :

    الله ! الله ! والكرة على عدوكم واعنق معن يقدم القوم وذلك حين صاحت الأنصار :

    أخلصونا ! أخلصونا فأخلصوا رجلاً رجلاً يميزون . قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه فنهض أبو عقيل يريد قومه ، فقلت ما تريد يا أبا عقيل ! ما فيك قتال ؟

    قال : قد نوه المنادي باسمي . قال ابن عمر فقلت إنما يقول ياللأنصار لا يعني الجرحى .

    قال أبو عقيل : أنا رجل من الأنصار وأنا أجيبه ولو حبواً . قال ابن عمر فتحزم أبو عقيل وأخذ السيف بيده مجرداً ثم جعل ينادي ياللأنصار كرة كيوم حنين . فاجتمعوا – رحمهم الله – جميعاً يقدمون المسلمين دربة ( أي جرأة وشجاعة وقفة ) دون عدوهم حتى اقتحموا عدوهم الحديقة فاختلطوا واختلفت السيوف بينهم . قال ابن عمر : فنظرت إلى أبي عقيل وقد قطعت يده المروحة من المنكب فوقعت على الأرض وبه من الجراح أربعة عشر جرحاً كلها قد خلصت إلى مقتل ، وقتل عدو الله مسيلمة ، قال ابن عمر :

    فوقعت على أبي عقيل وهو صريع آخر رمق فقلت :

    يا أبا عقيل :

    فقال : لبيك – بلسان ملتاث – لمن الدبرة ؟ قال قلت : أبشر ، ورفعت صوتي قد قتل عدو الله فرفع إصبعه إلى السماء يحمد الله ومات يرحمه الله . قال ابن عمر : فأخبرت عمر رضي الله عنه بعد أن قدمت خبره كله فقال : رحمه الله ما زال يسأل الشهادة ويطلبها ، وإن كان ما علمت من خيار أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم وقديم إسلام .

    ح – وفي يوم اليرموك قال عكرمة بن أبي جهل :

    " قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواطن ، وأفر منكم اليوم ثم نادى من يبايع على الموت ؟

    فبايعه عمه الحارث بن هشام وضرار بن الأزور رضي الله عنهم في أربع مئة من وجوه المسلمين وفرسانهم فقاتلوا قدام فسطاط خالد رضي الله عنه حتى أثبتوا جميعاً جراحاً وقتل منهم خلق . منهم ؛ صرار بن الأزور ، وأتى خالد رضي الله عنه بعدما أصبحوا بعكرمة جريحاً فوضع رأسه على فخذه ، وبعمرو بن عكرمة فوضع رأسه على ساقه وجعل يمسح عن وجوههما ويقطر في حلوقهما الماء ويقول : كملا زعم ابن الحنتمة أنا لا نستشهد " .

    ط – وروى البخاري عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال : " إني لفي الصف الأول يوم بدر ، إذ التفت فإذا عن يمين ويساري فتيان حديثا السن فكأني لم آمن بمكانهما إذ قال لي أحدهما سراً من صاحبه : يا عم أرني جهل ، فقلت :

    يا ابن أخي ما تصنع به ؟

    قال : عاهدت الله إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه .

    فقال لي الآخر : سراً من صاحبه مثله .

    قال : فما سرني أنني بين رجلين مكانهما فأشرت لهما إليه فشدا عليه مثل الصقرين حتى ضرباه وهما ابنا عفراء " .
    * * *

    فهل وجد جيل في العالم مثل هذا الجيل ، بلغ في التضحية في سبيل الله وابتغاء رضوانه وطمعاً في جنته وخوفاً من ناره كما بلغ هذا الجيل العظيم الذي رباه رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    ولعل في الأمثلة التالية من صبر الصحابة وتحملهم الأذى وثباتهم على دعوة الله حرصاً على السعادة الأبدية ، ما يجعلك على اليقين الذي ما بعده يقين ، إن تربية الرسول صلى الله عليه وسلم كانت أعظم تربية ربانية في تاريخ الإنسان . هدفها رضوان الله دون مطمح آخر :

    أ – أرى خباب بن الأرث عمر بن الخطاب ظهره وفيه آثار تعذيب المشركين له فقال عمر : ما رأيت كاليوم . قال خباب : أوقدوا لي ناراً فما أطفأها إلا ودك ظهري " أي دهنه .

    ب – وقال أبو ذر :

    " قلت : يا رسول الله ، إني أريد أن أظهر ديني . فقال رسول الله : أخاف عليك أن تقتل ، قلت لا بد منه وإن قتلت .

    قال : فسكت عني فجئت وقريش حلقاً يتحدثون في المسجد فقلت : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله .

    فانتفضت الحلق فقاموا فضربوني حتى تركوني كأني نصب أحمر ، وكانوا يرون أنهم قد قتلوني ، فأفقت فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى ما بي من الحال فقال لي : ألم أنهك ؟ ! فقلت : يا رسول الله كانت حاجة في نفسي قضيتها " .

    جـ - عن أبي رافع قال :

    " وجه عمر بن الخطاب رضي الله عنه جيشاً إلى الروم وفيهم رجل يقال له عبد الله بن حذافة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأسره الروم ، فذهبوا به إلى ملكهم فقالوا له : إن هذا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقال له الطاغية :

    هل لك أن تتنصر وأشركك في ملكي وسلطاني ؟

    فقال له عبد الله : لو أعطيتني ما تملك وجميع ما ملكته العرب على أن أرجع عن دين محمد صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما فعلت .

    قال : إذاً أقتلك .

    قال : أنت وذاك فأمر به فصلب .

    وقال للرماة : ارموه قريباً من يديه قريباً من رجليه ، وهو يعرض عليه وهو يأبى ، ثم أمر به فأنزل ، ثم دعا بقدر فصب فيها ماء حتى احترقت ، ثم دعا بأسيرين من المسلمين فأمر بأحدهما فألقي فيها وهو يعرض عليه النصرانية وهو يأبى ، ثم أمر به أن يلقى فيها فلما ذهب به بكى فقيل له : إنه قد بكى فظن أنه جزع فقال :

    ردوه ،. فعرض عليه النصرانية فأبى .

    فقال : ما أبكاك إذن ؟

    فقال : أبكاني أني قلت في نفسي تلقى الساعة في هذا القدر فتذهب ، فكنت أشتهي أن يكون بعدد كل شعرة في جسدي نفس تلقى في الله .

    فقال الطاغية : هل لك أن تقبل رأسي وأخلي عنك ؟

    قال له عبد الله : وعن جميع أسارى المسلمين ؟

    قال : وعن جميع أسارى المسلمين .

    قال عبد الله :فقلت في نفسي عدو من أعداء الله أقبل رأسه يخلي عني وعن أسارى المسلمين لا أبالي ، فدنا منه فقبل رأسه ، فدفع إليه الأسارى ، فقدم بهم على عمر رضي الله عنه فأخبر بخبره فقال عمر :

    حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة ، وأنا أبدأ فقام عمر فقبل رأسه " .

    د – وعن عثمان رضي الله عنه قال :

    بينما أنا أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبطحاء إذا بعمار وأبيه وأمه يعذبون في الشمس ليرتدوا عن الإسلام فقال أبو عمار : يا رسول الله الدهر هكذا ؟ فقال : صبراً يا آل ياسر . اللهم اغفر لآل ياسر وقد فعلت ، وفي رواية : " صبراً يا آل ياسر صبراً فإن موعدكم الجنة " .

    هـ - وعن أبي الأسود قال :

    ... وكان عم الزبير يعلق الزبير في حصير ويدخن عليه بالنار وهو يقول ارجع إلى الكفر فيقول الزبير : لا أكفر أبداً .

    ترى أيمكن أن يكون هذا التفاني في طلب رضوان الله إلا ثمرة من ثمار نبي ؟

    أو يمكن أن يستطيع كذاب على الله أن يجعل أصحابه في هذه الدرجة من الرغبة في نيل رضوان الله ؟ إن من المعروف أن فاقد الشيء لا يعطيه ، إن الرجل الذي يكذب على الله لا يؤمن به ولا يؤمن باليوم الآخر الذي أعده ، فلا يستطيع أن ينقل الناس إلى هذه الحال من الإيمان ، لولا أنه أعلى في هذا الموضوع منهم بكثير . فلقد نقل الرسول صلى الله عليه وسلم الناس إلى حال الرهبة من الله بشكل لا نرى مثله إلا عند نبي .

    فأعطاهم اليوم الآخر حساً رقيقاً مرهفاً . إذا وقع أحدهم في المعصية جاد بنفسه من أجل التخلص من آثارها ، وترفعوا عن الشهوات والدنايا واحتقروا مظاهر الحياة الفانية ، حتى إن أحدهم أصبح ولا تساوي الدنيا عنده شيئاً يذكر ، فأصبحت الفيلة لهم عادة ، والأمانة عندهم محترمة ، وكلمتهم عهداً . وكل ذلك حرصاً على رضوان الله وطلباً لجنته وخوفاً من ناره .

    أ – روى الإمام مسلم :

    " أن ماعز بن مالك الأسلمي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني ظلمت نفسي وزنيت وإني أريد أن تطهرني فردّه . فلما كان من الغد أتاه فقال يا رسول الله : إني زنيت فردّه الثانية . فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه فقال : أتعلمون بعقله بأساً تنكرون منه شيئاً ؟ فقالوا : ما نعلمه إلا وفيّ العقل من صالحينا فيما نرى ، فأتاه الثالثة فأرسل إليهم أيضاً فسأله عنه فأخبروه أنه لا بأس به ولا بعقله فلما كانت الرابعة حفر له حفرة ثم أمر فرجم .

    قال : فجاءت الغامدية فقالت :

    يا رسول الله إني قد زنيت فطهرني .

    وإنه ردها فلما كان الغد قالت : يا رسول الله لمَ تردّني ؟ لعلك أن تردّني كما رددت ماعزاً . فوالله إني لحبلى . قال :

    أما لا فاذهبي حتى تلدي ، قال : فلما ولدته أتته بالصبي في خرقة قالت : هذا قد ولدته .

    قال : فاذهبي فأرضعيه حتى تفطميه ، فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز فقالت : هذا يا نبي الله قد فطمته وقد أكل الطعام ، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ثم أمر فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها فاستقبلها خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فنضح الدم على وجه خالد فسبها فسمع نبي الله سبه إياها فقال :

    مهلاً يا خالد فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مَكْسٍ لغفر له .. ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت " .

    ب – حدث الطبري قال :

    " لما هبط المسلمون المدائن وجمعوا الأقباض ، أقبل رجل بحق معه فدفعه إلى صاحب الأقباض فقال والذين معه : ما رأينا مثل هذا قط ما يعدله ما عندنا ولا يقاربه فقالوا : هل أخذت منه شيئاً ؟ فقال : أما والله لولا الله ما أتيتكم به .

    فعرفوا أن للرجل شأناً فقالوا : من أنت فقال : لا والله لا أخبركم لتحمدوني ولا غيركم ليقرظوني . ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه ، فأتبعوه رجلاً حتى انتهى إلى أصحابه فسأله عنه فإذا هو عامر بن عبد قيس " .

    ج - أرسل سعد قبل القادسية ربعي بن عامر رسولاً إلى رستم قائد الجيوش الفارسية وأميرهم فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق والزرابي الحرير وأظهر اليواقيت واللآليء الثمينة العظيمة ، وعليه تاج وغير ذلك من الأمتعة الثمينة ، وقد جلس على سرير من ذهب .

    ودخل ربعي بثياب صفيقة وترس وفرس قصيرة ، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط ، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد وأقبل عليه سلاحه ودرعه وبيضته على رأسه فقالوا له :

    ضع سلاحكَ ،

    فقال : إني لم آتكم ، وإنما جئتكم حين دعوتموني ، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت .

    فقال رستم : آذنوا له فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فخرق عامتها .

    فقالوا : ما جاء بكم ؟

    فقال : الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام .

    د – " همّ فضالة بن عمير بن الملوح أن يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت فلما دنا منه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفضالة ؟ قال : نعم فضالة يا رسول الله قال : ماذا كنت تحدث به نفسك ؟

    قال : لا شيء . كنت أذكر الله .

    فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال : استغفر الله ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه وكان فضالة يقول :

    والله ما رفع يده عن صدري حتى ما خلق الله شيئاً أحب إلي منه .

    قال فضالة : فرجعت إلى أهلي فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها فقالت هلم إلى الحديث فقلت :

    يأبى الله عليك والإسلام " .

    هـ - عن أبي موسى قال :

    انتهينا إلى النجاشي وهو جالس في مجلسه وعمرو بن العاص عن يمينه وعمارة عن يساره والقسيسون جلوس سماطين وقد قال عمرو وعمارة : إنهم لا يسجدون لك ، فلما انتهينا بدرنا من عنده القسيسين والرهبان : اسجدوا للملك فقال جعفر : لا نسجد إلا لله .
    * * *

    إنه بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبح الضمير يقظاً على اليوم الآخر . لا يغفل عنه ، فاستقام بذلك عمود الحياة كلها . اليوم الآخر الذي دعا إليه كل المرسلين وغفل عنه كل الناس وهو أهم قضايا الإنسان لأنها قضية مصيره ويجعلها الإنسان أبسط قضاياه لغلبة الحس بالدنيا عليه حتى إذا مات الإنسان وانكشف له صدق الرسل فيما أخبروا عنه ندم ولات حين مناص .

    وإحياء الإنسان بهذه الحقيقة وإحياء هذه الحقيقة في قلب الإنسان هي الثمرة الثانية من ثمرات رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنها لثمرة نبوة لا ثمرة كذابين مدعين ، ولا يستطيع العقل أن يتصور إلا هذا .
    * * *

    ثالثاًً – إنسانية واحدة كريمة :

    وجاء محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونظرة الناس بعضهم إلى بعض ما يلي :

    أ – في الهند :

    لم يعرف في تاريخ أمة من الأمم نظام طبقي أشد قسوة ، وأعظم فصلاً بين طبقة وطبقة ، وأشد استهانة بشرف الإنسان من النظام الذي اعترفت به الهند دينياً ومدنياً وخضعت له آلافاً من السنين ولا تزال ، وقد بدت طلائع التفاوت الطبقي في آخر العهد الويدي ، بتأثير الحرف والصنائع وتوارثها ، أو بحكم المحافظة على خصائص السلالة الآرية المحتلة ونجابتها . وقبل ميلاد المسيح بثلاثة قرون ازدهرت في الهند الحضارة البرهمية ، ووضع فيها مرسوم جديد للمجتمع الهندي . وألف فيه قانون مدني وسياسي اتفق عليه في البلاد ، وأصبح قانوناً رسمياً ومرجعاً دينياً في حياة البلاد ومدنيتها وهو المعروف الآن بـ " منوشاستر" .

    يقسم هذا القانون أهل البلاد إلى أربع طبقات متمايزة وهي :

    1 – البراهمة طبقة الكهنة ورجال الدين .

    2 – شترى : رجال الحرب .

    3 – ويش : رجال الزراعة والتجارة .

    4 – شودر : رجال الخدمة .

    ويقول " منو " مؤلف هذا القانون :

    " إن القادر المطلق قد خلق لمصلحة العالم البراهمة من فمه . وشترى من سواعده . وويش من أفخاذه . والشودر من أرجله ، ووزع لهم فرائض وواجبات لصلاح العالم . فعلى البراهمة تعليم ويد ، أو تقديم النذور للآلهة ، وتعاطي الصدقات . وعلى الشترى حراسة الناس ، والتصدق وتقديم النذور ودراسة ويد ، والعزوف عن الشهوات , على ويش رعي السائمة ، والقيام بخدمتها ،وتلاوة ويد والتجارة والزراعة . وليس لشودر إلا خدمة هذه الطبقات الثلاثة .

    وقد منح هذا القانون طبقة البراهمة امتيازات وحقوقاً فقد قال : إن البراهمة هم صفوة الله ، وهم ملوك الخلق ، وإن ما في العالم هو ملك لهم ، فإنهم أفضل الخلائق ، وسادة الأرض ، ولهم أن يأخذوا من مال عبيدهم شودر من غير جريرة ما شاؤوا ، لأن العبد لا يملك شيئاً ، وكل ماله لسيده ، وإن البرهمي الذي يحفظ رك ويد " الكتاب المقدس " هو رجل مغفور له ولو أباد العوالم الثلاثة بذنوبه وأعماله ، ولا يجوز للملك حتى في أشد ساعات الاضطراب والفاقة أن يجبي من البراهمة جباية ، أو يأخذ منهم إتاوة ، ولا يصح لبرهمي في بلاده أن يموت جوعاً ، وإن استحق برهمي القتل لم يجز للحاكم إلا أن يحلق رأسه ، أما غيره فيقتل .

    أما الشتري فإنهم وإن كانوا فوق الطبقتين " ويش وشودر " ولكنهم دون البراهمة بكثير . يقول " منو " : إن البرهمي الذي هو في العاشرة من عمره يفوق الشتري الذي ناهز مائة كما يفوق الوالد ولده .

    أما شودر " المنبوذون " فكانوا في المجتمع الهندي – بنص هذا القانون المدني الديني – أحط من البهائم ، وأذل من الكلاب ، فيصرح القانون بأن من سعادة " شرودر " أن يقوموا بخدمة البراهمة وليس لهم أجر وثواب بغير ذلك ، وليس لهم أن يقتنوا مالاً ، أو يدخروا كنزاً ، فإن ذلك يؤذي البراهمة ، وإذا مد أحد من المنبوذين إلى برهمي يداً أو عصاً ليبطش به ، فطعت يده ، وإذا رفسه في غضب فدعت رجله ، وإذا هم أحد من المنبوذين أن يجالس برهمياً فعلى الملك أن يكوي إسته وينفيه من البلاد ، وأما إذا مسه بيده أو سبه فيقطع لسانه ، وإذا ادعى أن يعلمه سقي زيتاً فائراً ، وكفارة قتل الكلاب والقطة والضفدعة والوزغ والغراب والبومة ورجل من الطبقة المنبوذة سواء " .

    2 – في فارس :

    وكانت الأكاسرة ملوك فارس يدعون أنه يجري في عروقهم دم إلهي ، وكان الفرس ينظرون إليهم كآلهة ، ويعتقدون أن في طبيعتهم شيئاً علوياً مقدساً يدعون أنه يجري في عروقهم ، فكانوا يكفرون لهم وينشدون الأناشيد بألوهيتهم ، ويرونهم فوق القانون ، وفوق الانتقاد ، وفوق البشر ولا يجري اسمهم على لسانهم ، ولا يجلس أحد في مجلسهم ، ويعتقدون أن لهم حقاً على كل إنسان ، وليس لإنسان حق عليهم ، وأن ما يرضخون لأحد من فضول أموالهم وفتات نعيمهم إنما هو صدقة وتكرم من غير استحقاق .

    كما يعتقدون أن طبقة البيوتات الروحية والأشراف فوق العامة في طينتهم ، وفوق مستوى الناس في عقولهم ونفوسهم ، ويعطونهم سلطة لا حدّ لها ، ويخضعون له خضوعاً كاملاً يقول " آرتهرسين " :

    " كان المجتمع الإيراني مؤسساً على اعتبار الحرف والنسب ، وكان بين طبقات المجتمع هوة واسعة لا يقوم عليها جسر ولا تصل بينها صلة ، وكانت الحكومة تحظر على العامة أن يشتري أحد منهم عقاراً لأمير أو كبير ، وكان من قواعد السياسة الساسانية ، أن يقنع كل واحد بمركزه الذي منحه نسبه ، ولا يستشرف لما فوقه . ولم يكن لأحد أن يتخذ حرفة غير الحرفة التي خلقه الله لها ، وكان ملوك إيران لا يولون وضيعاً وظيفة من وظائفهم ، وكان العامة كذلك طبقات متميزة بعضها عن بعض تميزاً واضحاً ، وكان لكل واحد مركز محدد في المجتمع .

    وكان في هذا التفاوت بين طبقات الأمة امتهان للإنسانية . يظهر لك جلياً في مجالس الأمراء والأشراف ، حيث يقوم الناس على رؤوس الأمراء كأنهم جماد لا حراك بهم ، ويجلسون مزجر الكلب .

    ثم يبالغون في تمجيد القومية الفارسية ، ويرون أن لها فضلاً على سائر الأجناس والأمم ، وأن الله قد خصها بمواهب ومنح لم يشرك فيها أحداً ، وكانوا ينظرون إلى الأمم حولهم نظرة ازدراء وامتهان ، ويلقبونها بألقاب فيها الاحتقار والسخرية .

    3 – هذان مثلان يبينان لنا حال العالم في قضية الإنسان حين البعثة وليس هما كل شيء ، فاليونان والرومان كل واحدة منهما كانت ترى غيرها برابرة ، وهي وحدها نموذج الإنسان العالي ، وكنت ترى هذا الشعور بالأفضلية حتى على مستوى القبيلة ، حتى على مستوى الأسرة ، ولم يكن يخطر ببال قضية الإنسانية الواحدة ..

    4 – وما لنا نذهب بعيداً فحتى الآن نرى :

    أن هتلر يعتبر الشعب الجرماني أعظم شعوب الدنيا ، وله حق سيادة العالم .

    والشعب الأمريكي لا يزال في الغالب يعامل السود معاملة احتقار وازدراء وامتهان ، ولا يعترف لأسود بحق لدرجة أن سينما البيض لا يدخلها سود . ومطعم البيض لا يدخله سود ، ومدرسة البيض لا يدخلها سود .

    وفي جنوبي إفريقيا الأسود أحقر عند البيض من الكلب .

    بل أكثر من هذا بقيت الكنيسة النصرانية فترة طويلة في إفريقيا لا ترى أن الرجل الأسود أهل لأن يكون قسيساً ، وعند الشيوعيين تظهر الطبقية بشكل آخر : رأسمالية – بورجوازية – بروليتاريا .
    * * *

    هذا بشكل عام ، فإذا ما نظرنا إلى المسألة من زاوية أخرى ، زاوية أن الإنسانية رجل وامرأة ، وكل منهما إنسان ، فإنك تجد ولا تزال مثل هذه الصور :

    في القرن السادس الميلادي كانت بعض المجامع الكنسية تبحث : هل المرأة إنسان أو حيوان ؟

    وكان العرب يئدون بناتهم حتى قال صعصعة بن ناجية :

    جاء الإسلام وقد فديت ثلاث مائة موءودة .

    وكان الهنود إذا مات الرجل حرموا على زوجته أن تتزوج وأهانوها ، حتى أصبحت عادة عندهم أن تحرق المرأة نفسها إذا مات زوجها لتتخلص مما يصيبها بعد موته ، وقد يحدث عندهم أن يخسر الرجل زوجته في القمار ، وفي كل مكان ليس للمرأة شخصيتها الحقوقية المستقلة .

    وحتى الآن تجد أن القانون الفرنسي لا يسمح للمرأة أن تتصرف بأموالها إلا بإذن زوجها ، والقانون الإنجليزي لا يسمح لها بتغيير اسمها إلا بإذن زوجها ، أما هو فحر ..

    وإذا نظرنا إلى الإنسانية من وجه آخر . وجه الأحرار والعبيد . فإننا نجد صوراً من البشاعة في معاملة الرقيق لا تتصور ، الرقيق ليس له حق حياة ولا كرامة ولا يوجد أصلاً بإنسانية .
    * * *


    هذا كله كان وبعض منه كما رأينا لا يزال :

    فماذا فعل محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر من الله ووحي ؟ :

    لقد أعلن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقق عملياً إنسانية الإنسان ، ووحدة الإنسانية ، وكرامة الإنسان ، الرجل إنسان ، والمرأة إنسان ، والعبد إنسان ، والناس كلهم سواء في هذه الإنسانية ، فلا شعب أعلى من شعب ، ولا جنس أعظم من جنس .

    وفي ذلك يقول صاحب كتاب " هذا الدين " فيه :

    " من العصبية القبلية بل عصبية العشيرة بل عصبية البيت ، التي كانت تسود الجزيرة ، ومن عصبية البلد ، عصبية الوطن ، وعصبية اللون ، وعصبية الجنس ، التي كانت تسود وجه الأرض كله ...

    ومن هذه العصبيات الصغيرة التي لم تكن البشرية تتصور غيرها في ذلك الزمان ، جاء الإسلام ليقول للناس :

    إن هناك إنسانية واحدة ، ترجع إلى أصل واحد ، وتتجه إلى إله واحد . وأن اختلاف الأجناس والألوان ، واختلاف الرقعة والمكان ، واختلاف العشائر والآباء .. كل أولئك لم يكن ليتفرق الناس ويختصموا ، ويتحوصلوا وينعزلوا ، ولكن ليتعارفوا ويتآلفوا ، وتتوزع بينهم وظائف الخلافة في الأرض ، ويرجعوا بعد ذلك إلى الله الذي ذرأهم في الأرض واستخلفهم فيها .

    وقال لهم الله سبحانه في القرآن :

    {ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} الحجرات : 13 .

    {ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} النساء : 1 .

    ولم تكن هذه مبادئ نظرية ولكنها كانت أوضاعاً عملية .

    لقد انساح الإسلام في رقعة من الأرض فسيحة ، تكاد تضم جميع الأجناس وجميع الألوان .. وذابت كلها في النظام الإسلامي . ولم تقف وراثة لون , ولا وراثة جنس ، ولا وراثة طبقة ، ولا وراثة بيت ، دون أن يعيش الجميع إخواناً ، ودون أن يبلغ كل فرد منهم ما تؤهله له استعداداته الشخصية ، وما تكفله له صفة الإنسان .

    واستقر هذا الخط العريض في الأرض ، بعد أن كان غريباً فيها أشد الغرابة ، ومستنكراً فيها كل الاستنكار – وحتى بعد انحسار المد الإسلامي – لم تستطع البشرية أن تتنكر له كل التنكر ، ولم تعد تستغربه كل الاستغراب .

    حقيقة : إنها لم تستطع أن تتمثله كما تمثلته الجماعة المسلمة ، ولم يستقر فيها استقراره في المجتمع الإسلامي .

    وحقيقة : إن عصبيات شتى صغيرة ما تزال تعيش ، عصبيات الأرض والوطن وعصبيات الجنس والقوم وعصبيات اللون واللسان .

    وحقيقة : إن الملونين في أمريكا وجنوب إفريقيا يؤلفون مشكلة حادة بارزة ، كما يؤلفون مشكلة ناعمة مستترة في أوروبا كلها .

    ولكن فكرة الإنسانية الواحدة ما تزال خطاً عريضاً في هتافات البشرية اليوم ، وما يزال هذا الخط الذي خطه الإسلام هو أصل التفكير البشري – من الناحية النظرية – وما تزال تلك العصبيات الصغيرة تبزغ وتختفي ، لأنها ليست أصلية ولا قويمة .

    وجاء الإسلام والكرامة الإنسانية وقْفٌ على طبقات معينة ، وعلى بيوت خاصة ، وعلى مقامات معروفة . أما الغثاء – غثاء الجماهير – فهو غثاء لا وزن له ولا كرامة ! غثاء !!!

    وقال الإسلام كلمته المدوية : إن كرامة الإنسان مستمدة من إنسانيته ذاتها ، لا من أي عرض آخر كالجنس ، أو اللون ، أو الطبقة أو الثروة أو المنصب إلى آخر هذه الأعراض العارضة الزائلة ... والحقوق الأصيلة للإنسان ، مستمدة إذن من تلك الإنسانية التي ترجع إلى أصل واحد كما أسلفنا .

    وقال لهم الله في القرآن الكريم :

    {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} الإسراء : 70 .

    {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} البقرة : 30 .

    {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} البقرة : 34 .

    {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ} الجاثية : 13 .

    وعلم الناس منذئذ :

    أن الإنسان – بنوعه ، كريم على الله . وأن كرامته ذاتية أصيلة . لا تتبع جنسه ، ولا لونه ، ولا بلده ، ولا قومه ولا عشيرته ، ولا بيته . ولا عرضاً من هذه الأعراض الزائلة الرخيصة .

    إنما تتبع كونه إنساناً من هذا النوع الذي أفاض عليه ربه الكريم . ولم تكن هذه المبادئ نظرية ، إنما كانت واقعاً عملياً ، تمثل في حياة الجماعة المسلمة ، وانساحت به في أرجاء الأرض ، فعلمته للناس ، وأقرته في أوضاع حياتهم كذلك ، وعلمت جمهور الناس ... ذلك الغثاء .. أنه كريم ، وأن له حقوقاً ، هي حقوق الإنسان ، وأن له أن يحاسب حكامه وأمراءه ، وأن عليه ألا يقبل الذل والضيم والمهانة . وعلمت الحكام والأمراء ألا تكون لهم حقوق زائدة على حقوق الجماهير من الناس – وأنه ليس لهم أن يهينوا كرامة أحد ممن ليس بحاكم أو أمير .

    وكان هذا ميلاداً جديداً " للإنسان " ميلاداً أعظم من الميلاد الحسي ..

    فأي إنسانية لإنسان إذا لم تكن له حقوق الإنسان ، وكرامة الإنسان , وإذا لم تكن تلك الحقوق متعلقة بوجوده ذاته ، وبحقيقته التي لا تتخلف عنه في حال من الأحوال ؟

    بدأ أبو بكر رضي الله عنه عهده بقوله :

    " لقد وُليت عليكم ولست بخيركم : فإن أحسنت فأعينوني . وإن أسأت فقوموني . أطيعوني ما أطعت الله ورسوله . فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم " .

    وخطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال يعلِّم الناس حقوقهم تجاه الأمراء :

    " يا أيها الناس . إني والله ما أرسل إليكم عمالاً ليضربوا أبشاركم ، ولا ليأخذوا من أموالكم . ولكني أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنتكم . فمن فعل به شيء من ذلك فليرفعه إلي . فوالذي نفس عمر بيده ، لأقصنه منه .. فوثب عمرو بن العاص فقال :

    " يا أمير المؤمنين ، أرأيتك إن كان رجل من أمراء المسلمين على رعيته فأدب بعض رعيته . إنك لتقتص منه ؟ " .

    قال عمر : " أي والذي نفس عمر بيده لأقصنه منه . وكيف لا أقص منه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه . ألا لا تضربوا الناس فتذلوهم ولا تجمروهم فتفتنوهم ، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم " .

    وكتب عثمان رضي الله عنه كتاباً إلى جميع الأمصار قال فيه :

    " إني آخذ عمالي بموافاتي كل موسم قد سلطت الأمة على الأمر بالمعروف ؛ والنهي عن المنكر ، فلا يرفع علي شيء ولا على أحد من عمالي إلا أعطيته . وليس لي ولا لعمالي حق قبل الرعية إلا متروك لهم . وقد رفع إلي أهل المدينة أن أقواماً يشتمون ويضربون . فمن ادعى شيئاً من ذلك فليواف الموسم ، يأخذ حقه حيث كان مني أو من عمالي ، أو تصدقوا ، إن الله يجزي المتصدقين " .

    والمهم – كما أسلفنا – أن هذه لم تكن مجرد مبادئ نظرية أو مجرد كلمات تقال .

    فقد طبقت تطبيقاً واقعياً ، وسرت في أوساط الشعوب حتى اتخذت قاعدة للأوضاع العملية .

    " وحادثة ابن القبطي الذي سابق ابن عمرو بن العاص ، فاتح مصر وواليها ، فسبقه فضربه ابن عمرو ، فشكا أبوه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأقصه منه في موسم الحج وعلى ملأ من الناس ... حادثة معروفة .

    وقد اعتاد الكتاب أن يقفوا فيها عند عدل عمر .. ولكن الحادثة أوسع دلالة على ذلك التيار التحرري الذي أطلقه الإسلام في ضمائر الناس وفي حياتهم .

    فمصر إذ ذاك بلد مفتوح ، وحديث عهد بالفتح الإسلامي . وهذا البقطي لم يزل على دينه فرداً من جماهير البلد المفتوحة . وعمرو بن العاص هو فاتح هذا الإقليم ، وأول أمير عليه من قبل الإسلام .. وحكام هذا الإقليم قِبل الفتح الإسلامي هم الرومان :

    أصحاب السياط التي تجلد ظهور شعوب المستعمرات ، ولعل ذلك القبطي كان ما يزال ظهره يحمل آثار سياط الرومان .

    ولكنّ المدّ التحرري الذي أطلقه الإسلام في أنحاء الأرض ، أنسى ذلك القبطي سياط الرومان وذلها ، وأطلقه إنساناً حراً كريماً ، يغضب لأن يضرب ابن الأمير ابنه بعد اشتراكهما في سباق . وهذه أخرى ، ثم تحمله هذه الغضبة لكرامة ابنه الجريحة على أن يركب من مصر إلى المدينة لا طيارة ولا سيارة ولا باخرة ولا قطاراً ، ولكن جملاً ، يخب به ويضع الأشهر الطوال كل ذلك ليشكو للخليفة .

    الخليفة الذي حرره يوم الفتح تحت راية الإسلام ، والذي علمه الكرامة بعد أن نسيها تحت وقع سياط الرومان .

    وهكذا ينبغي أن نفهم ، وأن ندرك عمق المد الإسلامي التحرري . فليست المسألة فقط أنّ عمر عادل ، وأن عدله لا تتطاول إليه الأعناق في جميع الأزمان .

    ولكن المسألة بعد ذلك أن عدل عمر المستمد من الإسلام ، ومنهجه ونظامه ، انطلق في الأرض تياراً جارفاً ومحرراً مكرماً للإنسان ... بصفته " الإنسان " .

    هذا المستوى الرفيع ، لم ترتفع إليه الإنسانية قط ... هذا صحيح ولكن هذا الخط العريض الذي خطه الإسلام ، في كرامة الإنسان وحريته وحقوقه تجاه حكامه وأمرائه ، قد ترك في حياة البشر آثاراً لا شك فيها . وبعض هذه الآثار هو الذي يدفع بالبشرية اليوم إلى إعلان " حقوق الإنسان " .

    وحقيقة إن هذا الإعلان لم يأخذ طريقه الواقعي في حياة البشرية .

    وحقيقة إن " الإنسان " ما يزال يلقى المهانة والإذلال والتعذيب والحرمان في شتى أنحاء الأرض .

    وحقيقة إن بعض المذاهب تجعل مقام الإنسان دون مقام الآلة ، وتقتل حرية الإنسان وكرامته وخصائصه العليا في سبيل الإنتاج ومضاعفة الدخل ، والتفوق في الأسواق .

    كل هذا صحيح .

    ولكن هذا الخط ما يزال قائماً في مدارك البشرية وتصوراتها ولم يعد غريباً عليها كما كان يوم جاءها الإسلام " .
    * * *

    وهذه نماذج من توجيهات السيد الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الباب نذكرها كأمثلة على هديه في بناء جوانب إنسانية الإنسان .

    أ – عن حذيفة : " كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب لينتهين قوم يفتخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان " .

    ب – وعن عائشة رضي الله عنها " أن فتاة قالت – يعني للنبي صلى الله عليه وسلم - إن أبي زوجني من ابن أخيه ليرفع بي خسيسته وأنا كارهة ، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبيها فجعل الأمر إليها فقالت : يا رسول الله إن أجزت ما صنع أبي ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء " .

    ج – عن معاوية بن سويد بن مقرن قال :

    لطمت مولى لنا فهربت ثم جئت قبيل الظهر فصليت خلف أبي فدعاه ودعاني ثم قال للخادم : امثل منه فعفا ثم قال : كنا بني مقرن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لنا خادم إلا واحدة فطلمها أحدنا فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " اعتقوها فقيل له ليس لهم خادم غيرها فقال فليستخدموها فإذا استغنوا عنها فليخلوا سبيلها " .

    د – وعن المعرور بن سويد قال :

    رأيت أبا ذر وعليه حلة وعلى غلامه مثلها فسألته عن ذلك فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " هم إخوانكم وخولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم من العمل ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه " .

    هـ - وكان عمر رضي الله عنه يقول : " أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا يعني بلالاً" .

    وسنرى إن شاء الله في الرسالة الثالثة " الإسلام " هذه المعاني بالتفصيل .
    * * *

    هذه ثمرة من ثمرات محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي ثمرة ما كانت لتكون لولا أنه رسول الله .

    إن بيئة الجزيرة العربية ما كانت لتنبع منها فكرة وحدة الإنسانية وكرامتها ، بل ما كانت لتخرج إنساناً له رسالة للبشرية عامة . فكل المقدمات ما كانت لتوحي بنتيجة من هذا النوع .

    يقول العقاد :

    ثم يستمع الناس إلى دعوة من أعماق جزيرة العرب تنادي بني الإنسان جميعاً إلى دين واحد وإله واحد وحق واحد :

    {ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} الحجرات : 13 .

    {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ} سبأ : 28 .

    {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} الأنبياء : 107 .

    ويفصل رسول الدعوة آيات الكتاب الذي أُنزل إليه فيقول في تفسير هذه الآيات :

    " لا فضل لعربي على أعجمي ولا لقرشي على حبشي إلا بالتقوى " ولو لم يكن من سعة المسافات بين المقدمات ، وهذه النتيجة غير هذا الذي أجملناه لكان فيه الكفاية . لكن العجب منه يتضاعف ويتعاظم حين تأتي النتيجة من أعماق الجزيرة العربية حيث مشتجر الأنساب والأعراق على نحو لم يعرف له مثيل بين الأمم والعصبيات ، وبقية تبقى بعد ذلك لعجب فوق ذلك العجب المتضاعف المتعاظم فإن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي نادى بهذه المساواة بين الأصول والأمم ، لم يكن دون أحد من أبناء الجزيرة كلها حسباً ونسباً من أبويه الشريفين . بل كان من شرف الأبوة في الذؤابة التي يعترف بها الكافرون ، وهذا الرسول هو الذي يتعلم منه الناس أنهم إذا صلحوا واستقاموا {فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ} ( مطلع النور ) .
    * * *

  3. افتراضي

    رابعاً – المسؤولية الفردية :

    " ذهبت طالبة شابة من جامعة فرانكفورت تقول لمدير الجامعة مستنجدة : إن والديها يهددانها بالطرد ، ولما سألها عن السبب أجابت : لأنها ستضع مولوداً وقالت : إنها لا تعلم اسم أو شخصية والده ، لأنه كان يرتدي قناعاً حيث إنها ارتكبت الفاحشة في أيام الكرنفال أو الناشنج ، وهذه الحادثة ليست إلا قصة صغيرة تقع أمثالها عشارت الألوف كل سنة في بلاد الإباحية التي أحيت تقاليد الدعارة الجماعية تحت ستار التطور والتحرر . فكانت أعياد الكرنفال أو الناشنج التي تستمر ثلاثة أيام وفيها تباح كل الأعراض والحرمات ، بل إنه من المخالف لآداب التقاليد أن تسير فتاة مع صديقها هذه الليلة أو تسهر زوجة بجانب زوجها . وأيام الإباحة الثلاثة تبدأ رسمياً في الدقيقة 11 من الساعة 11 من اليوم 11 من الشهر 11 من كل سنة مع تفاوت بسيط في مواعيدها بين مدينة وأخرى ، وفي أثناء هذه المهرجانات بهذه المناسبة تتعرى النساء من كل شيء تقريباً وهن يختلطن بالرجال حيث تجري الدعارة الجماعية وبدون أن يعرف كل رجل ما اسم هذه التي يرافقها ، وبدون أن تعرفه هي أيضاً ، لأن الجميع يحرصون على ارتداء الأقنعة ، وفلسفة الألمان في هذه الأعياد هي أن من حق البشر أن يخطئوا ، لأنهم إذا لم يخطئوا فسيرتفعون إلى مستوى الآلهة ، وهذا غير معقول وأن خطاياهم ستغفر لهم حتماً لأن المسيح قد دفع الثمن وصلب من أجلهم ، وهم يرددون هذه الفلسفة في صحفهم ومجالسهم وفي كل مكان " .

    هذه ثمرة من ثمرات الفكرة النصرانية التي تقول : إن الإنسان خاطئ منذ ولادته ، لأن أباه آدم قد ارتكب الخطيئة ، وأن المسيح عليه السلام – صلب – حسب زعمهم حتى يكفر عن البشر خطاياهم فهو قد تحمل خطايا البشر .

    وهذه الفكرة معناها أن الإنسان مسؤول عن أعمال غيره ، وغيره مسؤول عن أعماله ، وبين هذا وهذا تضيع المسؤولية الفردية التي يحس بها الإنسان أنه مسؤول عن أعماله فقط . صغيرها وكبيرها ، وليس مسؤولاً عن عمل غيره بتاتاً .

    ويترتب على الفكرة الأولى ناحيتان خطيرتان :

    الأولى : أن الإنسان غير طاهر القلب والنفس منذ نشأته بسبب وراثته الخطيئة وهذا يؤثر تأثيراً سيئاً في نظرته لنفسه من حيث إنه كما ورث الخطيئة ولم يخطئ ، فسيعتمد على غيره في حمل خطاياه عنه .

    الثانية : أنه ما دام غيره مسؤولاً عن ذنوبه ، فإنه لن يبالي بهذه الذنوب وعندئذ تملأ الخطيئة الأرض ، وادرس ما يحدث في كنائس أمريكا وبريطانيا وغيرهما بالذات تجد مقدار اللامبالاة في الخطيئة .

    وهذا أكثر الأديان اتباعاً الآن في العالم .
    * * *

    وتوجد عند البراهمة والبوذيين والجينيين – وهي ديانات لها أتباعها الكثر في العالم – عقيدة شبيهة من حيث سلب مسؤولية الإنسان الفردية بالديانة النصرانية .

    هذه العقيدة هي عقدية تناسخ الأرواح ، وخلاصة هذه العقيدة أن الروح بعدما تفارق جسداً في هذه الدنيا تنتقل إلى جسد آخر في هذه الدنيا نفسها ، ولا يكون هذا الجسد الثاني أو القالب الثاني بكلمة أصح إلا متفقاً مع الحياة التي قد أعدها الإنسان لنفسه بأعماله وأفكاره وميوله وعواطفه في حياته الأولى .

    فإن كانت أعماله وأفكاره وميوله وعواطفه سيئة ولتأثيرها قد حدثت فيه مؤهلات واستعدادات سيئة ، فإن روحه ستنتقل إلى طبقة مبتذلة من طبقات الحيوانات أو النباتات ، وأما إن كانت أعماله وأفكاره وميوله وعواطفه صالحة ولتأثيرها قد حدثت فيه مؤهلات واستعدادات صالحة ، فإن روحه سترتقي إلى طبقة من الطبقات العليا " .

    هذه العقيدة مقتضاها أنني أنا الإنسان الحالي . إنسان بهذا الوضع نتيجة لسلوك غيري ، وحصيلة لسلسلة طويلة من أعمال المخلوقات قبلي ، وهذه المخلوقات السابقة علي ، هي أنا وأنا بأعمالي الحاضرة سأكون بالتالي نباتاً أو حيواناً أو إنساناً .

    فماذا ينتج عن هذه العقيدة ؟

    1 – " سينتج عن هذه العقيدة شعور لدى الإنسان بأن الحيوان والنبات والإنسان سواء في ميزان الوجود ، إذ الحيوان كان إنساناً والنبات كان حيواناً . ويترتب على هذا ألا يجوز إيذاء النبات والحيوان والإنسان ، حتى ولو آذاني الإنسان ، وعندئذ فإن أمة مثل هذه العقيدة ليست صالحة ولذلك فإن أهلها يعيشون مشتتين بين واقعهم الذي يعملون ، وعقيدتهم التي يعتقدون .

    2 – كما ينتج عن هذه العقيدة رهبانية مميتة عملياً ، إذ إن أهل هذه العقيدة يعتقدون أن الشهوة هي أصل كل فساد في الأرض وهي التي تلوث الروح بالذنوب والآثام ، ولأجلها تنتقل الروح من قالب إلى قالب وتذوق وبال أعمالها مرة بعد مرة ، فالإنسان إذا أودى بها ، وقضى عليها ، ولم يشغل نفسه بمشاغل الدنيا وشواغبها ، فلروحه أن تنال الخلاص من دورة التناسخ ويقولون :

    ليست هناك سبل أخرى للخلاص من دورة التناسخ غير هذه ، لأنه من المحال إذا انشغل الإنسان بمشاغل الدنيا وشواغبها وشؤونها الخلابة أن يأمن على نفسه الافتتان بالدنيا والاسترسال وراء شهواتها وملاهيها . والنتيجة اللازمة لذلك – يقولون – إن من أراد لنفسه الخلاص من دورة التناسخ فعليه أن ينعزل عن الدنيا ، ولا يسكن إلا في الغابات ، ورؤوس الجبال وكهوفها ، وإن لم يفعل ذلك فعليه أن ييأس من الخلاص من دورة التناسخ ، ويستعد للانضمام إلى طبقات الحيوانات والنباتات .

    3 – ولما كانت الفكرة الأولى والثانية غير عمليتين ؟

    فالناس نتيجة لذلك إما أن يسلكوا الطريق المرسوم للخلاص من دورة التناسخ بزعمهم فتفنى البشرية كلها لو سلكت هذا الطريق .

    وإما إنسان لن يمشي في هذا الطريق وهو بالتالي لا يبالي لأنه ليس مسؤولاً عن حاضره ولا يهمه مستقبله " .
    * * *

    ويظهر انعدام المسؤولية الفردية عند البشرية بصورة أخرى ؛ كلها غير معقول :

    تظهر بصورة أخذ الثأر من أي قريب للقاتل ، وتظهر بصورة الإيمان بأن الإنسان غير مسؤول أمام أحد عند الملحدين الفوضويين ، وتظهر بصورة أن الإنسان مسؤول أمام القانون فقط فإذا استطاع أن يهرب من عين القانون فعل ما شاء .

    * * *

    وهناك صورة أخرى تنعدم فيها المسؤولية موجودة عند اليهود .

    فاليهود يعتقدون أنهم شعب الله المختار ، الذي غفر له كل شيء ، فمهما فعلوه من جرائم أو مآس ، أو مفاسد ، أو مظالم ، فإن خصوصيتهم هذه تجعلهم بمنجاة من عذاب الله إلا بشكل بسيط جداً جداً .

    هذه صور من فرار الإنسان من المسؤولية كانت يوم بعث محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا زالت وهي كلها صور غير معقولة ، وآثارها خطيرة على الإنسان ، والحياة الإنسانية كلها ، من حيث انعدام مسؤولية الإنسان أو قصورها ، مما يؤدي إلى انحراف فظيع في السلوك .

    فماذا فعل محمد صلى الله عليه وسلم بأمر الله ووحيه ؟ :

    لقد كان الإعلان الذي أعلنه الإسلام هو أن الإنسان لا يتحمل إلا مسؤولية أعماله وحده ، فلا يتحمل مسؤولية ذنب جد ولا مسؤولية ذنب أخ وعم ، إلا إذا كان له علاقة في الموضوع ، وأن الجيل اللاحق لا يتحمل أوزار الجيل السابق ، وإنما الإنسان مسؤول عن أعماله وحده صغيرها وكبيرها أمام الله في الآخرة . وأما شريعة الله في الدنيا فقال القرآن . {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} .

    وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته " .

    وخاطب القرآن الناس

    {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} النساء : 123 .

    فأصبح المسلم يحاسب نفسه على الصغيرة والكبيرة . حتى قال قائل المسلمين : " كنا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة الوقوع في الحرام " وأصبح الذي يقدم الإنسان أو يؤخره هو عمل الإنسان حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا معشر قريش اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئاً ، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئاً ، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً ، ويا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أغني عنك من الله شيئاً ويا فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئاً " رواه البخاري ومسلم .

    وبذلك استقام سلوك الإنسان ، وتحرر ضمير الإنسان من التواكل على الآخرين ، وبذلك لم يعد الإنسان غير مبال في أمر الخطيئة ، وبذلك استقلت شخصية الإنسان استقلالاً تاماً ، وبذلك أصبح الخير مرجواً من الإنسان ، وبذلك قضي على الخرافة ، وقامت الحقيقة محلها .

    هذه الثمرة العظيمة من ثمار دعوة محمد صلى الله عليه وسلم تدل على أن محمدا رسول الله ، لأنها ثمرة ما كانت لتكون لولا الوحي ، وقد صاغ العقاد هذا الموضوع صياغة عالية نأخذ من فقراتها ما يلي :

    " وللديانة الإنسانية مناط واحد ، هو ضمير كل فرد من أفرادها . فما لم يكن لهذا الضمير حساب ، وعليه تبعة ، فلا ديانة لإنسان ، ولا لجملة الناس وفكرة التبعية الفردية والمسؤولية الفردية بسيطة ، سهلة الفهم ، تتجدد الحاجة إلى تطبيقها كل يوم ، في كل بيئة اجتماعية ، فلو كانت الفكرة تروج بمقدار بساطتها ، وسهولة فهمها ، وتجدد الحاجة إلى تطبيقها ، لما خلا المجتمع الإنساني قط من مبدأ المسؤولية الفردية منذ أوائل عهد الإنسان بالاجتماع .

    لكن الواقع أن هذه الفكرة البسيطة قد أهملت ، وظلت مهملة من عهد البداوة إلى عهود الحضارة الأولى ، لأن محاسبة الفرد لم يكن لها مرجع إلى سلطان واحد ، إذ كان الفرد من القبيلة يعتدي على فرد من قبيلة أخرى ويندر أن ترضى قبيلة المعتدي أن تسلمه إلى قبيلة المعتدى عليه . فإن لم تسلمه تضامنت في الدفاع عنه ، ووقعت الحرب بين القبيلتين ، أو تعرض كل فرد من أفراد قبيلة المعتدي لأخذ الثأر منه ، وقد يتوارثون الثأر إلى الأبناء والأعقاب .

    فمضى نظام القبيلة على مسؤولية القبيلة كلها عن جميع أفرادها ، ثم تطورت القبيلة وتألف الشعب من جملة قبائل متعارفة على نظامها القديم فثبتت على عاداتها لصعوبة التغيير في الجماعات التي تقوم على المحافظة ، وعلى رعاية المأثورات السلفية ، وبلغ من ثبات هذه العادات أن رومة التي كانت تسمى أم الشرائع . جعلت الأب مسؤولاً عن الأسرة ، وأباحت له التصرف في أرواحها وأموالها ، وقد ناظرتها في الشرق شريعة حمورابي فجعلت من حق الرجل الذي تقتل بنته أن يتسلم بنت القاتل ليقتلها كأنها لا تحسب عندهم إنساناً مستقلاً بحياته .

    وكانت في الهند حضارات تأخذ بمبدأ المسؤولية الفردية ، ولكنها ترجع إلى حياة سابقة متسلسلة من حياة سابقة على مدى الأزمنة التي لا تعرف لها بداءة منذ أزل الآزال ، فهون مولود بجرائره وآثامه ، وكفارة تلك الجرائم والآثام إلى الأجل المقدور ، وليست تبعاته مرهونة بما يعمله بعد ميلاده . بل هي سابقة للميلاد لاحقة به آماداً بعد آماد " .

    ( كان القول الشائع أن عصيان آدم جريرة لا يسأل عنها وحده بل يسأل عنها كل ولد من ذريته ) .

    أما الدعوة الإسلامية فالمسؤولية الفردية فيها شيء جديد كل الجدة لم يتطور مما تقدمه ولم يكن نتيجة قط لإحدى هذه المقدمات .

    ومعجزة المعجزات فيها أنها قامت بالمسؤولية الفردية حيث يصدها كل عرف قائم ، ويعوقها كل نظام مصطلح عليه في المعاملات والعقوبات .

    قامت بها في أعماق الجزيرة العربية ، ولا قانون فيها غير قانون الثأر ، ولا شريعة لها غير شريعة القبيلة ، وتعلم الناس {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} النجم : 39 أن جيلاً لا يؤخذ بجريرة أسلافه ، ولا يؤخذ خلفاؤه بجريرته .

    {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} البقرة : 141 و {كُلُّ امْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ} الطور : 21 .

    " فمرحلة شاسعة لم يعمل فيها تاريخ البشرية كله ما عمله الإسلام وحده ، مبتدئاً بغير سابقة ، بل مبتدئاً على الرغم من العوائق والموانع والمناقضات . ولم تكن هذه المرحلة الشاسعة نافلة من نوافل الرأي على حواشي العقيدة ، ولكنها هي الفتح الأكبر من فتوح الضمير في جميع مراحل التاريخ . إذ لا قوام للخلق ولا للدين بغير التبعة ، ولا معنى بغير التبعة لتكليف ولا حساب " .

    خامساً – العدل :

    ثمرة خامسة من ثمار محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تشهد أنه رسول الله ، ولولا ذلك ما كانت ، هي العدل الذي ما عرف تاريخ العالم له مثيلاً . وسنختار حوادث من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة الذين رباهم . نرى فيها كيف ارتفعت النفس البشرية بمحمد صلى الله عليه وسلم وبهديه إلى آفاق هي أعلى ما يطمح إليه الطامحون على مدى الأزمان والأجيال . ونرى بذلك كيف أن القرآن كان واقعاً حياً متمثلاً بهذا الجيل الفريد ، وكيف أن القرآن يرفع الإنسان إلى أعلى آفاق الإنسانية وما خالفه يدنيه نحو حضيض الحيوانية .

    * * *

    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءِ للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} النساء : 135 .

    {يَا أَيُّهَآ الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} المائدة : 8 .

    {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} النساء : 58 .
    * * *

    1 – أخرج انب ماجه عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه ديناً كان عليه فاشتد عليه حتى قال : أحرج عليك إلا قضيتني فانتهره أصحابه فقالوا : ويحك تدري من تكلم ؟ قال : إن أطلب حقي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هلا مع صاحب الحق كنتم ؟ ثم أرسل إلى خولة بنت قيس فقال لها : إن كان عندك تمر فاقرضينا حتى يأتينا تمر فنقضيك فقالت : نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله فاقترضه فقضى الأعرابي وأطعمه فقال : أوفيت أوفى الله لك فقال :

    " أولئك خيار الناس إنه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع " .

    أي من غير أن يصيبه أذى يقلقه ويزعجه . والحديث رواه البزار عن عائشة مختصراً والطبراني من حديث ابن مسعود رضي الله عنه بإسناد جيد .

    2 – وأخرج البخاري عن عروة أن امرأة سرقت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح ففزع قومها إلى أسامة بن زيد رضي الله عنه يستشفعونه . قال عروة : فلما كلمه أسامة فيها تلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :

    أتكلمني في حد من حدود الله ؟

    فقال أسامة : استغفر لي يا رسول الله .

    فلما كان العشي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال :

    " أما بعد فإنما أهلك الناس أنهم كانوا إذا سرق فيه الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها " .

    ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك المرأة فقطعت يدها فحسنت توبتها بعد ذلك وتزوجت .
    قالت عائشة رضي الله عنها : كانت تأتي بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    3 – أخرج البيهقي عن عبد الله بن عمرو بن العاص " أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قام يوم جمعة فقال :

    إذا كان بالغداة فأحضروا صدقات الإبل نقسم ولا يدخل علينا أحد إلا بإذن فقالت امرأة لزوجها :

    خذ هذا الخطام لعل الله يرزقنا جملاً ، فأتى الرجل فوجد أبا بكر وعمر قد دخلا إلى الإبل فدخل معهما فالتفت أبو بكر فقال :

    ما أدخلك علينا ؟

    ثم أخذ منه الخطام فضربه ، فلما فرغ أبو بكر من قسم الإبل دعا الرجل فأعطاه الخطام وقال : استقد ( أي اقتص مني كما ضربتك فاضربني ) فقال له عمر : والله لا يستقيد لا تجعلها سنة قال أبو بكر فمن لي من الله يوم القيامة فقال عمر : أرضه . فأمر أبو بكر غلامه أن يأتيه براحلة ورحلها وقطيفة ( أي كساء له خمل ) وخمسة دنانير فأرضاه بها " .

    4 – كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد وكل بتقدير حصة المسلمين في خيبر عبد الله بن رواحة وكان أهلها يهوداً وفي ذلك يروي البيهقي عن ابن عمر رضي الله عنه حديثاً منه :

    كان عبد الله بن رواحة رضي الله عنه يأتيهم كل عام فيخرصها ( أن يخمنها ) عليهم ثم يضمنهم الشطر فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة خرصه وأرادوا أن يرشوه فقال :

    يا أعداء الله تطعموني السحت ( أي الحرام ) والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إلي ولأنتم أبغض إلي من عدتكم من القردة والخنازير ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على أن لا أعدل عليكم فقالوا : بهذا قامت السماوات والأرض " .

    5 – أخرج ابن عساكر وسعيد بن منصور والبيهقي عن الشعبي قال : " كان بين عُمَرَ وبين أبي كعب – رضي الله عنهما – شيء فقال عمر :

    اجعل بيني وبينك رجلاً فجعل بينهما زيد بن ثابت رضي الله عنه فأتياه فقال عمر :

    أتيناك لتحكم بيننا وفي بيته يؤتى الحكم . فلما دخلا عليه وسع له زيد عن صدر فراشه فقال ها هنا يا أمير المؤمنين ، فقال له عمر : هذا أول جور جرت في حكمك ولكن اجلس مع خصمي فجلسا بني يديه فادعى أبي وأنكر عمر فقال زيد لأبي : اعف أمير المؤمنين من اليمين وما كنت لأسألها لأحد غيره فحلف عمر ثم أقسم لا يدرك زيد القضاء حتى يكون عمر ورجل من عرض المسلمين عنده سواء " .

    6 – وأخرج ابن سعد وابن راهويه عن عطاء قال : كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر عماله أن يوافوه بالمواسم فإذا اجتمعوا قال : " يا أيها الناس إني لم أبعث عمالي عليكم ليصيبوا من أبشاركم ولا من أموالكم إنما بعثتهم ليحجزوا بينكم وليقسموا فيئكم بينكم فمن فعل به غير ذلك فليقم " فما قام أحد إلا رجل قام فقال :

    يا أمير المؤمنين إن عاملك فلاناً ضربني مائة سوط قال : فيم ضربته ؟ قم فاقتص منه فقام عمرو بن العاص رضي الله عنه فقال : يا أمير المؤمنين إنك إن فعلت هذا يكثر عليك وتكون سنة يأخذ بها من بعدك . فقال : أنا لا أقيد ؟ وقد رأيت رسول الله يقيد من نفسه قال : فدعنا لنرضيه .

    قال : دونكم فأرضوه فافتدى منه بمائتي دينار كل سوط بدينارين .

    7 – وأخرج ابن عساكر قال :

    كتب عمر بن الخطاب إلى فيروز الديلمي رضي الله عنهما :

    " أما بعد فقد بلغني أنه قد شغلك أكل اللباب بالعسل فإذا أتاك كتابي هذا فاقدم على بركة الله فاغز في سبيل الله " فقدم فيروز فاستأذن على عمر رضي الله عنهما فأذن به فزاحمه فتى من قريش فرفع فيروز يده فلطم أنف القرشي فدخل القرشي على عمر مستدمى فقال له عمر من فعل بك ؟

    قال : فيروز وهو على الباب .

    فأذن لفيروز بالدخول فدخل فقال :

    ما هذا يا فيروز ؟

    قال : يا أمير المؤمنين إنا كنا حديثي عهد بملك ، إنك كتبت إلي ولم تكتب إليه ، وأذنت لي بالدخول ولم تأذن إليه فأراد أن يدخل في إذني قبلي فكان من ما قد أخبرك .

    قال عمر : القصاص .

    قال فيروز : لا بد ؟

    قال : لا بد .

    فجثى فيروز على ركبتيه وقام الفتى ليقتص منه فقال له عمر رضي الله عنه : على رسلك أيها الفتى حتى أخبرك بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة وهو يقول : قتل الليلة الأسود العنسي الكذاب قتله العبد الصالح فيروز الديلمي ، أفَتَراك مقتصاً منه بعد أن سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الفتى : قد عفوت عنه بعد أن أخبرتني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا فقال فيروز لعمر : أفَتَرى هذا مخرجي مما صنعت إقراري له وعفوه غير مستكره ؟ قال : نعم قال فيروز : فأشهدك أن سيفي وفرسي وثلاثين ألفاً من مالي هبة له " .

    8 – وأخرج الطبري عن إياس بن سلمة عن أبيه قال : مر عمر بن الخطاب في السوق ومعه الدرة فخفقني بها خفقة فأصاب طرف ثوبي فقال : أمط عن الطريف لما كان في العام المقبل لقيني فأخذ بيدي فانطلق بي إلى منزله فأعطاني ست مائة درهم وقال : استعن بها على حج واعلم أنها بالخفقة التي خفقتك قلت يا أمير المؤمنين : ما ذكرتها .

    " قال : ما نسيتها " .

    9 – أخرج المحب الطبري في مناقب العشرة قال :

    كان لعثمان بعبد فقال له : إني كنت عركت أذنك فاقتص مني فأخذ بأذنه ثم قال عثمان : أشدد يا حبذا قصاص في الدنيا لا قصاص في الآخرة .

    10 – وأخرج ابن عساكرعن علي بن ربيعة قال : " جاء جعدة بن هبيرة إلى علي رضي الله عنه فقال : يا أمير المؤمنين يأتيك الرجلان أنت أحب إلى أحدهما من نفسه أو قال :

    من أهله وماله والآخر لو يستطيع أن يذبحك لذبحك فتقضي لهذا على هذا قال : فلهزه علي رضي الله عنه وقال : إن هذا لشيء لو كان لي فعلت ولكن إنما ذا شيء لله " .

    11 – وأخرج الترمذي والحاكم عن الشعبي قال : خرج علي بن أبي طالب إلى السوق فإذا هو بنصراني يبيع أدرعاً فعرف علي رضي الله عنه الدرع فقال : هذه درعي بيني وبينك قاضي المسلمين ، وكان قاضي المسلمين شريحاً ، كان علي استقضاه ، فلما رأى شريح أمير المؤمنين قام من مجلس قضائه وأجلس علياً في مجلسه وجلس شريح قدامه إلى جنب النصراني فقال علي :

    اقض بيني وبينه يا شريح فقال شريح :

    ما تقول يا أمير المؤمنين ؟ فقال علي : هذه درعي وقعت مني منذ زمان فقال شريح : ما تقول يا نصراني ؟

    فقال النصراني : ما أكذب أمير المؤمنين الدرع درعي .

    فقال شريح : ما أرى أن تخرج من يده فهل من بينة ؟

    فقال علي : صدق شريح .

    فقال النصراني : أما أنا فأشهد أن هذه أحكام الأنبياء . أمير المؤمنين يجيء إلى قاضيه وقاضيه يقضيه عليَّ ، هي والله يا أمير المؤمنين درعك ، اتبعتك وقد زالت عن جملك الأورق فأخذتها فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله .

    فقال علي :

    أما إذا أسلمت فهي لك وحمله على فرس .

    12 – وأخرج أبو نعيم في الحلية عن الحارث بن سويد قال : كان المقداد بن الأسود رضي الله عنه في سرية فحصروا فعزم الأمير أن لا يجشر أحد دابته ( أي لا يخرجها للمرعى ) فجشر رجل دابته لم تبلغه العزيمة فضربه فرجع الرجل يقول : ما رأيت كما لقيت اليوم قط فمر المقداد فقال : ما شأنك . فذكر له قصده فتقلد السيف وانطلق معه حتى انتهى إلى الأمير فقال : أقد من نفسك فأقاده فعفا الرجل فرجع المقداد وهو يقول : ( لأموتن والإسلام عزيز ) .
    * * *

    إن هذا العدل الذي رأينا بعض نماذجه فيما مضى ، إنما كان وليد دعوة السيد الرسول صلى الله عليه وسلم وإلا فإن العرب قبل كان شعارهم " انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً " وإن الإنسان ليعجب كيف تمثل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا العدل بهذه السرعة ، وبهذا العمق ، بحيث أنهم غلبوا أمماً ، وسيطروا عليها . فساسوها سياسة عادلة لا مثيل لها ، مما أدى بهذه الشعوب أن تدخل في الإسلام أفواجاً بمجرد أن رأوا معاملة هؤلاء الفاتحين الذين لا يغلبون . العادلين الذين لا يجورون .

    وعلى الرغم من تضاؤل جيل الصحابة بالنسبة لرقعة الأرض المفتوحة ، فإن قوة الحياة التي صبتها تربية الرسول صلى الله عليه وسلم في قلوب الأصحاب ، كانت كافية لأن تجعل الأمور تمشي في طريقها المستقيم .

    وحتى بعد ذلك ، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، فإن قضاة الإسلام المتحققين بالإسلام علماً وعملاً . هم الذين يضربون أبداً المثل الأعلى في العدل الرباني العظيم ، الذي يتضاءل بجانبه كل قضاء .

    وأنقل هنا مثلين لقاض من قضاة الدولة العباسية . وهو شريك بن عبد الله قاضي الكوفة في زمن الخليفة المهدي . لنرى فيها نزاهة القضاء الإسلامي وعدله :

    1 – " قال عمر بن الهياج : كنت من صحابة شريك ، فأتيته يوماً وهو في منزله باكراً فخرج إليَّ بفرو ليس تحته قميص عليه كساء ، فقلت له : ألا تقوم إلى مجلس الحكم ؟

    قال : غسلت ثيابي أمس فلم تجف فأنا أنتظر جفوفها اجلس . فجلست فجعلنا نتذاكر باب ( العبد يتزوج بغير إذن مواليه ) فقال : ما تحفظ فيه ؟ ما تقول فيه ؟

    وكانت الخيرزان قد وجهت رجلاً في الطراز إلى الكوفة وجاء الوالي عيسى بن موسى الأمر بألا يتعرض له ، فكان هذا الرجل حر التصرف لا يعصى له أمر ، ولا سلطان للأمير عليه .

    فخرج علينا ذلك اليوم من زقاق يفضي إلى النخع ، ومعه جماعة من أصحابه . عليه جبة خز وطيلسان على برذون فاره ، وإذا رجل بين يديه مكتوف فلما مر ببيت القاضي صاح الرجل :

    واغوثاه أنا بالله ثم بالقاضي ، ففتح شريك الباب وخرج ، فدعا به فإذا ظهره مكشوف وآثار الضرب فيه . فأقعده إلى جنبه وقال له : ما شأنك ؟ قال : أنا رجل أطرز وأعمل الوشي ، هذه صناعتي ، وكراء مثلي مئة في الشهر . وأخذني هذا منذ أربعة أشهر قسراً ، وحبسني وألزمني بالعمل بالقوة ، ولا يعطيني أجراً ولي عيال قد ضاعوا ، فهربت منه فلحقني فضربني وكتفني . فقال شريك للوكيل : قم فاجلس مع خصمك .

    قال : أصلحك الله يا عبد الله هذا من خدم السيدة ، وهذا أمرها فاحبسه حتى يشتغل لها . قال : ويلك قم فاجلس معه كما يقال لك ، فقام فجلس معه . قال :

    ما هذه الآثار التي تظهر بظهر هذا الرجل ؟ من أثرها به ؟ قال : أصلح الله القاضي إنما ضربته أسواطاً بيدي وهو يستحق أكثر من هذا لأنه لم يشتغل للسيدة . احبسه حتى يشتغل ، هذا أمر السيدة .

    فألقى شريك رداءه وقام فدخل داره ، وأخرج سوطاً وضرب بيده إلى مجامع ثوب الوكيل وقال للرجل :

    اذهب إلى أهلك وجعل يضرب الوكيل . فهم أعواني أن يخلصوه فقال : من ها هنا من شباب الحي ؟ فجاءه جماعة فقال :

    من وقف من هؤلاء فاذهبوا به إلى الحبس . فهربوا جميعاً وتركوه ، وما زال يضربه حتى رأى أن ذلك يكفيه . فتركه فانصرف وهو يهدد بانتقام السيدة . فألقى السوط من يده . وعاد إلى ما كنا فيه من المذاكرة كأنه لم يصنع شيئاً وقال لي :

    يا أبا حفص ما تقول في العبد يتزوج بغير إذن مواليه ؟

    وأراد الوكيل أن يركب برذونه فاستعصى عليه . ولم يكن معه من يمسك له الركاب فجعل يضرب البرذون فصاح به شريك :

    ارفق به ويلك ، فإنه أطول لله منك ، فمضى ماشياً . فقال لي شريك : خذ فيما كنت فيه قلت : مالنا ولهذا الآن ؟ قد فعلت والله فعلة ستكون لها عاقبة مكروهة : من ضرب وكيل الخيرزان فكأنه ضربها . ومن ضربها فكأنما ضرب الخليفة . قال : أعز أمر الله يعزك . خذ فيما كنا عليه . فعدنا نتذاكر في مسألة العبد يتزوج بغير إذن مواليه . وذهب الوكيل إلى موسى بن عيسى أمير الكوفة فدخل عليه شاكياً باكياً . وكشف عن ظهره فارتاع الوالي وغضب وقال :

    من فعل بك ذلك ؟

    قال : شريك .

    قال : لا والله ما أتعرض لشريك ، قال : سأشكوك إلى السيدة .

    قال : لا أتعرض لشريك .

    فمضى الوكيل ولم يعد " .

    2 – كان موسى أمير الكوفة من كبار أمراء البيت العباسي . وكان له سلطان الإمارة وسلطان النسب . وكان مع ذلك كله يتجنب أن يكون بينه وبين القاضي خلاف . ويبتعد عن طريقه ولا يعارضه في شيء . ولم ينج مع هذا كله من الخلاف . ولم يختلفا لأن الأمير عرض له في قضائه بين الناس . ولا لأنه دخل مؤيداً لمدع أو مدعى عليه ، بل اختلفا من أجل دعوى أقيمت على الأمير نفسه ، وسبب الدعوى " أن الأمير أراد أن يوسع داره . وكان إلى جنبها بستان نخل لأخوة ورثوه من أبيهم . وكانوا خمسة إخوة وأختاً واحدة . فاشترى منهم جميعاً إلا الأخت . فإنها أبت أن تبيع فزادها في الثمن وضاعفه لها أضعافاً . وهي تصر على الإباء . فغاظه أن يفسد عليه أمره حمق هذه المرأة . وأراد أن يضطرها إلى البيع وكان بينها وبين حصص إخواتها التي باعوها سياج . فبعث غلمانه ليلاً فأزالوه .

    وأصبحت المرأة فرأت نخلها قد اختلط بنخل إخوتها ولم تعد تعرف أرضها من الأرض التي باعوها للأمير . فأقبلت تبكي وتلطم . ولا تدري ماذا تفعل . وذهبت تكلم الأمير فلم يسمع منها وقال لها :

    خذي ثمن الأرض أضعافاً .

    فقال : لا أبيعها وانطلقت تتوسل إليه بوجوه البلد ، فما وجدت منهم مسعفاً ولا معيناً فقال لها واحد من جيرانها :

    أنا أدلك على من يخلص لك حقك . فاستبشرت وابتهجت وقالت : من هو ؟ قال : القاضي . اذهبي إليه فنادي أنا بالله ثم بالقاضي ، وقصي عليه قصتك .

    فذهبت تسأل الناس : أين قصر القاضي فيضحكون منها ويقولون لها : ومتى كان للقاضي قصر ؟ اطلبيه في المسجد أو في داره . ودلوها على داره فرأت داراً صغيرة من اللبن والطين . ما على بابها حرس ، وليس حولها جند . فقالت في نفسها أين هذا من قصر الأمير وهمت بالرجوع ، ثم أحبت أن تجرب فقرعت الباب تسأله عنه ، فقالت له امرأته هو في مجلس الحكم في المسجد . فدخلت إلى المسجد تسأل عنه فدلوها عليه . فصاحت أنا بالله ثم بالقاضي . قال : من ظلمك ؟

    قالت : الأمير موسى بن عيسى .

    قال : فيم وما دعواك ؟ فحكت له قصتها ، فأعطاها ورقة بعد أن ختمها وقال لها : امض بها إلى بابه حتى يحضر معك .

    فلما أرادت الدخول على الأمير صاح بها الحاجب : مكانك يا امرأة ماذا تريدين ؟

    قالت : الأمير .

    فأراد إرجاعها فقالت :

    إن معي هذه ، قال : وما هذه يا امرأة ، قالت : بطاقة القاضي للأمير فوثب وقال : تقولين إنها بطاقة القاضي هاتيها لأراها ، فلما رآها قال ويحك وَلِمَ لم تقولي من أول الأمر إن معك بطاقة القاضي ؟ ادخلي . فلما قرأها الأمير أمر بدعوة صاحب الشرطة فلما جاءه قال :

    امض إلى شريك فقل له يا سبحان الله ما رأيت أعجب من أمرك . امرأة ادعت دعوى لم تصح أعديتها علي ، فحاول صاحب الشرطة أن يعتذر عن هذه المهمة ، فأصر الأمير فأرسل صاحب الشرطة من يأخذ له أغراضه إلى السجن ولما أوصل الرسالة أمر به شريك إلى السجن لأنه يتدخل في شأن القضاء ، فأرسل الأمير الحاجب فسجنه شريك أيضاً ، فأرسل إليه الأمير وجوه الكوفة للوساطة فسجنهم جميعاً . فجاء الأمير ليلاً ففتح باب السجن وأخرجهم جميعاً ، ولما بلغ من الغد الأمر إلى شريك قال لغلامه :

    الحقني بثقلي إلى بغداد ، والله ما طلبنا هذا منهم ، ولكن أكرهونا عليه وقد ضمنوا لنا الإعزاز فيه إذا تقلدناه لهم ، وركب دابته ومضى نحو قنطرة الكوفة في طريقه إلى بغداد ، وأخبر الناس الأمير فلحقه وجعل يمشي معه ويقول له :

    يا أبا عبد الله تثبت أنظر ، دع أعواني ، أفتحبس إخوانك ؟ إخوانك تحبسهم ؟ قال : نعم ، لأنهم مشوا لك في أمر لم يجز لهم المشي فيه ، ولست براجع حتى يردوا جميعاً إلى الحبس ، وإلا مضيت إلى أمير المؤمنين فاستعفيته مما قلدني ، فأمر موسى بردهم جميعاً إلى الحبس وهو واقف مكانه ، حتى جاءه السجان فقال : قد رجعوا إلى الحبس . فقال القاضي لغلامه : خذ بلجامه فقده إلى مجلس الحكم ، ونودي على المرأة فجاءت فأجلسها معه ، فقال الأمير : أنا قد حضرت أفلا تطلق من حبستهم ، قال : أما الآن فنعم ، وأمر بإخراجهم من السجن وقال للأمير :

    ما تقول يا رجل فيما تدعيه هذه المرأة ؟

    قال : صدقت .

    قال : أتعيد سياجها وترد ما أخذته منها ؟

    قال : نعم .

    قال للمرأة : بقي لك شيء تدعينه ؟

    قالت : نعم . بيت حارس البستان ومتاعه .

    قال : ما تقول ؟

    قال : أرد ذلك كله .

    قال : بقي لك شيء .

    قالت : لا وجزاك الله خيراً .

    قال : قومي . ووثب فأخذ بيد موسى وأجلسه في مجلسه وقال له : السلام أيها الأمير أتأمر بشيء ؟ فضحك وقال : بأي شيء آمر ، قال : ذاك حق الشرع وهذا حق الأدب " .

    * * *

    عدل لا مثيل له ، ذلك ثمرة من ثمار محمد صلى الله عليه وسلم تدلُّ على أنها ثمرة نبي ، إذ ليس لها مصدر سواه تنسب إليه في أمة لم تهذبها ثقافة سابقة ، ولا تجربة قضائية مستمرة ، ولا رقابة اجتماعية معترف عليها .

    * * *

    سادساً – الطاعة المبصرة :

    وثمرة سادسة من ثمار سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم تشهد أنها ثمرة نبي ونبوة ، هي الطاعة لمبصرة ، وذلك أن العرب شعب لم يترب على طاعة أحد ، ولم يترب على نظام ولا انضباط ، وليس لديه مفهوم عن الولاء لحكومة ما ، أو الخضوع لها ، وأما غير العرب فالأمر عندهم مختلف ، طاعة عمياء لملوكهم ومرؤوسيهم في كل شيء . إذا أمروا بالشيء كان خيراً ، وإذا نهوا عنه نفسه كان شراً ، لا يقال لهم لا ، ولا يحاسبون ولا يراقبون .

    وحدث ذلك الحدث الضخم ، أن الأمة التي لا تعرف النظام أصبحت منظمة ، والتي لا تعرف الطاعة أصبحت مطيعة ، ولكنها طاعة من نوع جديد فريد ، طاعة بالحق لا بالباطل ، بالعدل لا بالظلم ، لمن يستحق الطاعة لا لمن لا يستحقها ، فكان ذلك فتحاً جديداً في تاريخ الوعي عند الشعوب ، لدرجة أن العربي الذي كان يتعصب لقريبه وينصره وإن كان على الباطل ولا يطيع فيه أحداً أبداً ، صار على ابن عمه إذا كان على الباطل ، ويطيع فيه أبعد الناس نسباً عنه في الحق . والذي كان أبعد الناس عن الانضباط ، صار أكثر الناس انضباطاً ، ومن قرأ تاريخ العرب في الجاهلية ، عرف الفارق الكبير بين ذلك الواقع وواقعهم بعد . وهذه أمثلة من واقعهم بعد تربية الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم .

    أ – روى ابن جرير بسنده عن ابن زيد قال : دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عبد الله ابن أبي أبي قال : ألا ترى ما يقول أبوك ؟ قال : ما يقول بأبي أنت وأمي ؟ يقول : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل . فقال : فقد صدق والله يا رسول الله أنت والله الأعز وهو الأذل . أما والله لقد قدمت المدينة يا رسول الله وإن أهل يثرب ليعلمون ما بها أحد أبر مني ، ولئن كان يرضي الله ورسوله أن آتيهما برأسه لأتيتهما به . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا ، فلما قدموا المدينة قام عبد الله بن عبد الله بن أبي على بابها بالسيف لأبيه ثم قال : أنت القائل لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، أما والله لتعرفن العزة لك أو لرسول الله صلى الله عليه وسلم والله لا يؤيك ظله ولا تأويه أبداً إلا بإذن من الله ورسوله فقال : ياللخزرج ، ابني يمنعني بيتي ! فقال : والله لا يأويه أبداً إلا بإذن منه . فاجتمع إليه رجال فكلمه فقال : والله لا يدخله إلا بإذن من الله ورسوله ، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال : اذهبوا إليه فقولوا له : خله وسكنه ، فأتوه فقال : أما إذا جاء أمر النبي صلى الله عليه وسلم فنعم .

    ب – ومن كلام لسعد بن معاذ يوم بدر يخاطب به رسول الله صلى الله عليه وسلم :

    " إني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم فأظعن حيث شئت ، وصل حبل من شئت ، واقطع حبل من شئت ، وخذ من أموالنا ما شئت ، وأعطنا ما شئت ، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت ، وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك ، فوالله فئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك ، والله لئن استعرضت بنا هذا البحر خضناه معك " .

    جـ - ويروي كعب بن مالك قصته مع الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك فيقول فيها :

    " ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة من بين مَن تخلف عنه قال : فاجتنبنا الناس أو قال : تغيروا لنا حتى تنكرت لي نفس الأرض فما هي الأرض التي أعرف إلى أن قال : حتى إذا طال علي من جفوة المسلمين ، مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة ، وهو ابن عمي وأحب الناس إلي ، فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام فقلت له : يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله ؟ فسكت فعدت فناشدته فسكت ، فعدت فناشدته فقال : الله ورسوله أعلم ، ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار " .

    ويقول : " بينما أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطي من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول : " ما يدلني على كعب بن مالك ؟ فطفق الناس يشيرون له حتى جاءني ، فدفع إلي كتاباً من ملك غسان ، وكنت كاتباً فقرأته فإذا فيه : أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جافاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك . فقلت حين قرأتها : وهذه أيضاً من البلاء فتيممت بها التنور فسجرتها " . حتى نزلت توبته وكان ما كان .

    د – وللعرب ولع بالخمر تتحدث عن معاقرتها والاجتماع على شربها الشعراء ، وشغلت جانباً كبيراً من شعرهم وتاريخهم وأدبهم ، وكثرت أسماؤها وصفاتها في لغتهم ، وكثر فيها التدقيق والتفصيل كثرة تدعو إلى العجب ، وكانت حوانيت الخمارين مفتوحة دائماً يرفرف عليها علم يسمى غاية . وشاعت تجارتها عندهم حتى أصبحت كلمة التجارة مرادفة لكلمة بيع الخمر ، ومع هذا كله فما يكاد تحريم الخمر ينزل حتى انتهت أمر الخمر من أرض العرب . روى أبو بريدة عن أبيه قال :

    بينما نحن قعود على شراب لنا ونحن نشرب الخمر حلة ، إذ قمت حتى آتي رسول الله فأسلم عليه وقد نزل تحريم الخمر {يَـاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} .. إلى قوله : {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} فجئت إلى أصحابي فقرأتها عليهم إلى قوله : {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} .. قال : وبعض القوم شربته في يده شرب بعضاً وبقي بعض في الإناء فقال بالإناء تحت شفته العليا كما يفعل الحجام ثم صبوا في باطيتهم فقالوا : انتهينا ربنا انتهينا .

    هـ - ولقد تأصل فقه الطاعة في المعروف عند العرب وغيرهم من المسلمين حتى وصل إلى عجائز الناس .

    " أخرج مالك عن ابن أبي مليكة قال : إن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – مر بامرأة مجذومة وهي تطوف بالبيت فقال لها : يا أمة الله لاتؤذي الناس لو جلست في بيتك . فجلست . فمر بها رجل بعد ذلك فقال : إن الذي كان نهاك قد مات فارجعي . قالت : ما كنت لأطيعه حياً وأعصيه ميتاً " .

    و – وتأصل فقه الطاعة بالمعروف في أنفسهم ظاهراً وباطناً في الغيبة والحضور في المنشط والمكره :

    لما عزل عمر بن الخطاب خالد بن الوليد غضب ناس . وممن غضب علقمة بن علاثة وهو من أمراء العرب فانظر ماذا كان جوابه في هذه الحادثة اللطيفة :

    " لقي عمر – رضي الله عنه – علقمة بن علاثة جوف الليلة وكان عمر يشبه بخالد بن الوليد – رضي الله عنه - . فقال علقمة : يا خالد عزلك هذا الرجل ، لقد أبى إلا شحّاً ، لقد جئت إليه وابن عم لي نسأله شيئاً ، فأما إذا فعل فلن أسأله شيئاً . فقال له عمر : هيه فما عندك ! فقال : هم قوم لهم علينا حق فنؤدي لهم حقهم وأجرنا على الله . فلما أصبحوا قال عمر لخالد : ماذا قال لك علقمة منذ الليلة ؟ قال : والله ما قال لي شيئاً قال : وتحلف أيضاً فجعل علقمة يقول لخالد : مه يا خالد فقال عمر كلاهما قد صدق وأجاز علقمة وقضى له حاجته " .

    ز – ولكن طاعتهم طاعة ضمن حدود المعروف أما أن تكون على غير ذلك فلا :

    أخرج الشيخان عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – قال : استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأنصار على سرية بعثهم وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا قال : فأغضبوه في شيء فقال : اجمعوا لي حطباً فجمعوا فقال : أوقِدوا ناراً فأوقدوا ثم قال : ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا لي وتطيعوا ؟ قالوا : بلى قال : فادخلوها . قال فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا : إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار . قال : فسكن غضبه وطفئت النار فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له فقال : لو دخلوها ما خرجوا منها إنما الطاعة في المعروف " .

    وكان الصحابة يتذاكرون هذا الأصل ويتواصون به حتى لا ينحرفوا بانحراف سلطان أو حكم :

    لما ولى زياد الحكم بن عمر الغفاري خراسان أرسل عمران بن الحصين رضي الله عنهما يطلبه حتى إذا لقيه قال : أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا طاعة لأحد في معصية الله تبارك وتعالى ؟ قال : نعم . فقال عمران : الحمد لله أو الله أكبر .

    جـ - وأخرج ابن جرير وابن عساكر عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد على سرية ومعه في السرية عمار بن ياسر – رضي الله عنهما – قال : فخرجوا حتى أتوا قريباً من القوم الذين يريدون أن يصبحوهم نزلوا في بعض الليل قال :

    وجاء القوم النذير فهربوا حيث بلغوا ، فأقام رجل كان قد أسلم هو وأهل بيته فأمر أهله فتحمّلوا وقال : قفوا حتى آتيكم ، ثم جاء حتى دخل على عمار – رضي الله عنه – قال :

    يا أبا اليقظان إني قد أسلمت وأهل بيتي فهل ذلك نافعي إن انا أقسمت . فإن قومي قد هربوا حيث سمعوا بكم ، قال فقال له عمار : فأقم فأنت آمن .

    فانصرف الرجل هو وأهله ، قال : فصبح خالد القوم فوجدهم قد ذهبوا فأخذ الرجل وأهله فقال له عمار : إنه لا سبيل لك على الرجل قد أسلم .

    قال : ما أنت وذاك ؟ أتجير عليّ وأنا الأمير ؟ ؟

    قال : نعم أجير عليك وأنت الأمير . إن الرجل قد آمن ولو شاء لذهب كما ذهب أصحابه ، فأمرته بالمقام لإسلامه . فتنازعا في ذلك حتى تشاتما فلما قدما المدينة اجتمعا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر عمار الرجل وما صنع فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أمان عمار ونهى يومئذ أن يجير أحد على الأمير فتشاتما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال خالد :

    يا رسول الله ! أيشتمني هذا العبد عندك أما والله لولاك ما شتمني فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم :

    كف يا خالد عن عمار فإنه من يبغض عماراً يبغضه الله عز وجل من يلعن عماراً يلعنه الله عز وجل . ثم قام عمار واتبعه خالد بن الوليد حتى أخذ بثوبه فلم يزل يترضاه حتى رضي عنه ونزلت هذه الآية :

    { أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ } أمراء السرايا – {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} . فيكون الله ورسوله هو الذي يحكم فيه .

    {ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} ( النساء : 59 ) . أي ( خير عاقبة ) .
    * * *

    والمسألة في هذا الموضوع كما يلي :

    إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم الإنسان أن الله وحده هو الذي يستحق الطاعة وحتى الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يطاع لله وغير رسول الله إنما يطاع بطاعة الله {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} أي من المسلمين ، أما غير المسلم فلا طاعة له ، والمسلم طاعته في حدود كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لذلك ختمت الآية : {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} وعلى هذا فمن أمر بمعصية الله فلا طاعة له ، وبهذا تماسكت شخصية الإنسان تماسكاً لا مثيل له ، فصار المسلم يقول لا ، إذا كان ينبغي أن تقال مهما كان وراءها ، لا يبالي إن كان الناس كلهم عليه في الباطل ، لا يساير الناس ولا يداريهم على حساب الحق . أما في الحق فهو أكثر الناس طاعة وانضباطاً إذ في هذه الحالة جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر الله طاعة الأمير الحق فرضاً ، وفي الباطل معصيته فريضة . قال أبو جعفر المنصور الخليفة لطاووس : ناولني الدواة . فرفض . قال : أخشى أن تكتب فيها معصية فأكون شريكك فيها . فما أبلغ هذا في ثمار النبوة وما أدله عليها .
    * * *
    سابعاً : أجيال خيرة جريئة بالحق :

    وثمرة أخرى من ثمار محمد صلى الله عليه وسلم تشهد أنه رسول الله :

    ما هو الخير وما هو الشر ؟ وما هو المعروف وما هو المنكر ؟ وإذا عرفنا الخير والشر والمعروف والمنكر ، فما هي أجزاء هذا وهذا وأفراد هذا وهذا ؟ وإذا عرفنا الجميع فكيف نقتلع جذور الشر ونقضي عليه ، ونمكن للخير وندعمه ؟ وكيف نوجد بشراً ليس للشر في قلوبهم نصيب ، وقد نذروا للخير أنفسهم ، هممهم الأعلى إقامة بنيانه وإرساء حقائقه ؟ هذه قضايا يعجز عن كل واحد منها الكثير ، ولكنّ محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم عرَّف الإنسان بالخير كله والشر كله وربى جيلاً يعشق الخير ، ويبغض الشر ويتفانى من أجل أن تقوم الحياة البشرية على الخير المشرق المنير . فخرجت نماذج ما عرف العالم بعد الرسل عليهم الصلاة والسلام أقوى منها ، ولا أصلب في هذا الأمر .

    * * *

    اقرأ سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم واقرأ القرآن والسنة فإنك لا تجد خيراً إلا ذكر ، ولا شراً إلا ذكر ، ولا تجد شيئاً قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه خير تستطيع أن تحكم عليه غير ذلك إلا إذا جانبت العقل ولم تخضع لحجة ، ولا تجد شيئاً قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه شر تستطيع أن تحكم عليه غير ذلك ، إلا إذا كنت متبعاً للشهوات ميالاً مع الهوى {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ} ومهما حاولت أن تجد شيئاً من الشر لم ينه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنك لا تجد ، ومهما حاولت أن تجد شيئاً من الخير لم يأمر به فإنك لا تجد ، والشيء المهم بعد ذلك أن هذا الخير تمثل في مجتمع بشري لم يبق فيه للشر ظهور ، وكل ذلك ببركات رسول الله صلى الله عليه وسلم وتربيته وسنضرب هنا أمثلة من حياة المسلمين يتبين فيها حربهم العنيفة للمنكر وحرصهم على المعروف وأمرهم به .

    أ – أخرج الطبراني وأبو يعلى عن أبي فنيل عن معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنهما – أنه صعد المنبر يوم الغمامة فقال عند خطبته :

    إنما المال مالنا والفيء فيئنا فمن شئنا أعطيناه ومن شئنا منعناه ، فلم يجبه أحد ، فلما كان في الجمعة الثانية قال مثل ذلك فلم يجبه أحد ، فلما كان في الجمعة الثالثة قال مثل مقالته فقام إليه رجل ممن حضر المسجد فقال :

    كلا .. إنما المال مالنا والفيء فيئنا فمن حال بيننا وبينه حاكمناه إلى الله بأسيافنا . .

    فنزل معاوية – رضي الله عنه – فأرسل إلى الرجل فأدخله فقال القوم : هلك الرجل ثم دخل الناس فوجدوا الرجل معه على السرير فقال معاوية للناس : إن هذا الرجل أحياني أحياه الله ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :

    " سيكون بعدي أمراء يقولون ولا يرد عليهم ، يتقاحمون في النار كما تتقاحم القردة " .

    وإني تكلمت أول جمعة فلم يردّ علي أحد فخشيت أن أكون منهم ، ثم تكلمت في الجمعة الثانية فلم يرد أحد علي قلت في نفسي إني من القوم ، ثم تكلمت في الجمعة الثالثة فقام هذا الرجل فردّ علي فأحياني أحياه الله .

    ( قال الهيثمي : رواه الطبراني في الكبير والأوسط وأبو يعلى ورجاله ثقات ) .

    ب – أخرج مسلم عن الحسن البصري أن عائد بن عمرو – رضي الله عنه – دخل على عبيد الله بن زياد فقال : أي بني .. إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :

    " إن شر الرعاء الحطمة " فإياك أن تكون منهم ، قال له : اجلس فإنما أنت من نخالة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قال : وهل كانت لهم نخالة ؟ إنما كانت النخالة بعدهم وفي غيرهم .

    جـ - روى الخمسة إلا البخاري عن طارق بن شهاب " أن أول من بدأ بخطبة العيد قبل الصلاة مروان فقام إليه رجل فقال : الصلاة قبل الخطبة " وفي رواية الترمذي " يا مروان خالفت السنة " زاد أبو داود " أخرجت المنبر في يوم عيد ولم يكن يخرج فيه وبدأت بالخطبة قبل الصلاة " قال : قد ترك ما هنالك . قال أبو سعيد الخدري – رضي الله عنه - : أما هذا فقد قضى ما عليه ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :

    " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " وليس عند النسائي إلا الأخير أي المسند .

    د – وفي الإحياء عن الشافعي قال : حدثني محمد بن علي قال : إني لحاضر مجلس أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور وفيه ابن أبي ذؤيب وكان والي المدينة الحسن بن زيد قال : أتى الغفاريون فشكوا إلى أبي جعفر شيئاً من أمر الحسن بن زيد قال الحسن : يا أمير المؤمنين سل عنه ابن أبي ذؤيب . قال : فسأله فقال : ما تقول فيهم يا ابن أبي ذؤيب ؟ قال : أشهد أنهم أهل تحطم في أعراض الناس كثيرو الأذى لهم . قال أبو جعفر : قد سمعتم . فقال الغفاريون : يا أمير المؤمنين سله عن الحسن بن زيد فاستشهده ، قال : أشهد عليه أنه يحكم بغير الحق ، ويتبع هواه ، فقالوا : قد سمعت ما قال فيه ابن أبي ذؤيب وهو الشيخ الصالح ظ قال : يا أمير المؤمنين اسأله عن نفسك فقال : ما تقول فيَّ ؟ فاستعفاه قال : أسألك بالله إلا أخبرتني قال : تسألني بالله كأنك لا تعرف نفسك ؟ قال : والله لتخبرني . قال : أشهد أنك أخذت هذا المال من غير حقه فجعلته في غير أهله ، وأشهد أن الظلم ببابك فاشٍ .

    قال : فجاء أبو جعفر من موضعه حتى وضع يده في قفا ابن أبي ذؤيب فقبض عليه ثم قال له : أما والله لولا أني جالس ههنا لأخذت فارس والروم والديلم والترك بهذا المكان منك ، قال : فقال ابن أبي ذؤيب : يا أمير المؤمنين قد ولي أبو بكر وعمر فأخذا الحق وقسما بالسوية ، وأخذا بأقفاء فارس والروم وأصغرا آنافهم ، قال : فخلى أبو جعفر قفاه وخلى سبيله وقال : والله لولا أنك صادق لقتلتك . فقال ابن أبي ذؤيب : والله يا أمير المؤمنين إني لأنصح لك من ابنك المهدي .

    هـ - وصاح الشيخ عز الدين بن عبد السلام بالملك أيوب : يا أيوب ما حجتك عند الله إن قال لك : ألم أبَوّئ لك ملك مصر ثم تبيح الخمور . قال : وهل جرى ذلك ؟قال : نعم الحانة الفلانية يباع فيها الخمور وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة ، قال : هذا أنا ما عملته ، هذا من زمان أبي . قال : أنت ممن يقولون : { إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ } فأمر الملك برفعها .

    وسأل الشيخ تلميذه الباجي قال : يا سيدي أما خفته ؟ قال الشيخ : يا بني استحضرت هيبة الله فصار قدامي مثل القط .

    و – وللنووي مواقف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ننقل بعضها :

    لما ورد دمشق من مصر السلطان المجاهد العظيم الملك الظاهر بيبرس بعد قتال التتار وإجلائهم عن البلاد زعم له وكيل بيت المال أن كثيراً من بساتين الشام من أملاك الدولة فأمر الملك بالحوطة عليها أي بحجزها وتكليف واضعي اليد على شيء منها إثبات ملكيته وإبراز وثائقه فلجأوا إلى الشيخ النووي في دار الحديث فكتب إلى الملك هذا الكتاب :

    بسم الله الرحمن الرحيم :

    الحمد لله رب العالمين .. قال الله تعالى : {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} وقال تعالى : {وَإِذَ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} وقال تعالى : وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} المائدة : 2 .

    وقد أوجب الله على المكلفين نصيحة السلطان أعز الله أنصاره ، ونصيحة عامة المسلمين ، ففي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الدين النصيحة لله ، وكتابه ، وأئمة المسلمين وعامتهم " .

    ومن نصيحة السلطان – وفقه الله لطاعته وأولاه بكرامته – أن تنهى إليه الأحكام إذا جرت على خلاف قواعد الإسلام . فقد أوجب الله تعالى الشفقة على الرعية ، والاهتمام بالضعفة وإزالة الضرر عنهم .

    قال تعالى : {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} ( الحجر : 88 ) .

    وفي الحديث الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما تنصرون وترزَقون بضعفائكم " .

    قال صلى الله عليه وسلم : " مَن كشف عن مسلم كربة من كرب الدنيا كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة . والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه " .

    وقال صلى الله عليه وسلم : " اللهم من ولي من أمر أُمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به ، ومن شق عليهم فاشقق عليه " .

    وقال صلى الله عليه وسلم : " كلكم راع ، وكلكم مسؤول عن رعيته " .

    وقالصلى الله عليه وسلم : " إن المقسطين على منابر من نور عن يمين الرحمن الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا " .

    وقد أنعم الله علينا وعلى سائر المسلمين بالسلطان ، أعز الله أنصاره ، فقد أقامه لنصرة الدين , والذب عن المسلمين ، وأذل به الأعداء من جميع الطوائف ، وفتح عليه الفتوحات المشهورة ، في المدة اليسيرة ، وأوقع الرعب منه في قلوب أعداء الدين وسائر الماردين . ومهد له البلاد والعباد ، وقمع بسببه أهل الزيغ والفساد ، وأمده بالإعانة واللطف والسعادة ، فلله الحمد على هذه النعم الظاهرة ، والخيرات المتكاثرة ، ونسأل الله الكريم دوامها له وللمسلمين ، وزيادتها في خير وعافية آمين .

    وقد أوجب الله شكر نعمه ووعد الزيادة للشاكرين ، فقال تعالى : {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} ( إبراهيم : 7 ) .

    وقد لحق المسلمون بسبب هذه الحوطة على أملاكهم ، أنواع من الضرر ، ولا يمكن التعبير عنها ، وطلب منهم إثبات ما لا يلزمهم ، فهذه الحوطة لا تحل عند أحد من علماء المسلمين . بل من في يده شيء فهو ملكه ، لا يحل الاعتراض عليه ، ولا يكلف بإثباته . وقد اشتهر من سيرة السلطان أنه يحب العمل بالشرع ويوصي نوابه به ، فهو أولى من عمل به .

    والمسؤول إطلاق الناس من هذه الحوطة ، والإفراج عن جميعهم ، فأطلق أطلقك الله من كل مكروه ، فهم ضعفة ، ومنهم الأيتام والأرامل والمساكين والضعفة ، والصالحون وبهم تنصر وتعان وترزق ، وهم سكان الشام المبارك ، جيران الأنبياء صلاة الله وسلامه عليهم ، وسكان ديارهم ، فلهم حرمات من جهات ، ولو رأى السلطان ما يلحق الناس من شدائد لاشتد حزنه عليهم ، وأطلقهم في الحال ، ولم يؤخرهم ، ولكن لا تنهى إليه الأمور على وجهه ، فالله أغِث المسلمين يغثك الله ، وارفق بهم يرفق الله بك ، وعجل لهم الإفراج قبل وقوع الأمطار ، وتلف غلاتهم فإن أكثرهم ورثوا هذه الأملاك من أسلافهم ، ولا يمكنهم تحصيل كتب شراء ( أي أسناد تمليك ) وقد نهبت كتبهم ، وإذا رفق السلطان بهم حصل له دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن رفق بأمته ، ويظهره على أعدائه . فقد قال الله تعالى : {إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ ... } . وتتوفر له من رعيته الدعوات ، وتظهر في مملكته البركات ، ويبارك له في جميع ما يقصده من الخيرات . وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " مَن سنَّ سنّة حسنة فله أجرها وأجر مَن عَمِل إلى يوم القيامة ، ومن سنَّ سنّة سيئة فعليه وِزْرها ووزر مَن عمل بها إلى يوم القيامة " .

    فنسأل الله الكريم أن يوفق السلطان للسنن الحسنة التي يذكر بها إلى يوم القيامة ، ويحميه من السنن السيئة ، فهذه نصيحتنا الواجبة علينا للسلطان ، ونرجو من فضل الله تعالى أن يلهمه الله فيها القبول والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . والحمد لله رب العالمين وصلواته وسلامه على سيدنا محمد وآله وصحبه .

    فغضب السلطان من هذه الجرأة عليه وخشي إذ لان له أن يعيد معه في الشام سيرة العز بن عبد السلام في مصر ، فأجابه بالرد الشديد ، وأراد أن يعجل عليه بالعقوبة ، فأمر بقطع رواتبه وعزله من مناصبه .

    فقالوا له : إنه ليس للشيخ راتب ، وليس له منصب .

    ولما رأى الشيخ أن الكتاب لم يفد ، وأن هذا اللين منه لم يأت بنفع ، ذهب إليه بنفسه ، وقابله وكلمه كلاماً غليظاً . وأراد السلطان البطش به ، فصرف الله قلبه عن ذلك وحمى الشيخ منه ، وأبطل الأمر بـ ( الحوطة ) وخلص الناس من شرها .

    ثم جاءت قضية أخرى :

    " أراد السلطان أن يجهز جيشاً ، ففرض على الناس ضريبة جديدة ، فعاذوا منه بالشيخ واجتمع إليه علماء دمشق ووكلوه أن يكتب ما يريد وهم يمضون معه الكتاب ، وكانت الوحشة لا تزال قائمة بينه وبين الملك ، لما كان منه في ( قضية الحوطة ) . فلم يكتب إليه رأساً بل كتب إلى الأمير بدر الدين الخازن ليوصل كتابه إليه وكان بدر الدين نائب المملكة وأتابك الجيوش ( أي القائد العام ) وكان موصوفاً بكثرة الموة ومحبة العلماء والصلحاء وحسن السيرة .

    قال تلميذه السخاوي : فلما كتبه وأرسل به ورقة إلى القاهر تتضمن وجوب العدل في الرعية . وإزالة المكوس عنهم ، ووضع العلماء والشيوخ خطوطهم معه .

    فقرأ الأمير الكتاب ورفع الورقة إلى السلطان ، فاشتد غضبه ، واحتج بأنه يريد هذا المال للجهاد وهم يعارضونه وكان عليهم أن يؤيدوه وأنهم ينكرون عليه ، ولم يكونوا ينكرون على الكفار لما كانوا يحكمون البلاد ، قبل أن يخرجهم منها بجهاده الطويل ، ومثابرته عليه . وتوعد العلماء ، فتقاعسوا ، ولكن النووي لم يبال ، وكتب إليه في الجواب هذا الكتاب :

    بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ، من عبد الله يحيى النووي ينهي : إن خدام الشرع ، كانوا كتبوا ما بلغ السلطان أعز الله أنصاره فجاء الجواب بالإنكار والتوبيخ والتهديد ، وفهمنا من أن الجهاد ذكر في الجواب على خلاف حكم الشرع ، وقد أوجب الله إيضاح الأحكام عند الحاجة إليها ، فقال تعالى :

    {وَإِذَ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} .

    {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ( التوبة : 91 ) .

    وذكر في الجواب أن الجهاد ليس مختصاً بالأجناد ، وهذا أمر لم ندعه ولكن الجهاد فرض كفاية ، فإذا قرر السلطان له أجناداً مخصوصين ، ولهم أخباز معلومة من بيت المال كما هو الواقع ، تفرغ باقي الرعية لمصالحهم ومصالح السلطان والأجناد وغيرهم ، من الزراعة والصنائع وغيرها مما يحتاج الناس كلهم إليه ، فجهاد الأجناد مقابل بالأخباز المقررة لهم ، ولا يحل أن يؤخذ من الرعية شيء ما دام في بيت المال شيء ، من نقد أو متاع أو أرض أو ضياع تباع أو غير ذلك .

    وهؤلاء علماء المسلمين في بلاد السلطان أعز الله أنصاره متفقون على هذا وبيت المال بحمد الله معمور ، زاده الله عمارة وسعة وخيراً وبركة ، في حياة السلطان المقرونة بكمال السعادة له والتوفيق والتسديد والظهور على أعداء الدين {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ} وإنما يستعان في الجهاد وغيره بالافتقار إلى الله تعالى ، واتباع آثار النبي صلى الله عليه وسلم وملازمة أحكام الشرع وجميع ماكتبناه ، أولاً وثانياً ، هو النصيحة التي نعتقدها وندين لله بها ، ونسأله الدوام عليها حتى نلقاه ، والسلطان يعلم أنها نصيحة له وللرعية ، وليس فيها ما يلام عليه ، ولم نكتب هذا للسلطان إلا لعلمنا أنه يحب الشرع ومتابعة أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرفق بالرعية ، والشفقة عليهم وإكرامه لآثار النبي صلى الله عليه وسلم . وكل ناصح للسلطان موافق على هذا الذي كتبناه ، وأما ما ذكر في الجواب من كوننا لم ننكر على الكفار حين كانوا في البلاد ، فكيف تقاس ملوك الإسلام وأهل الإيمان والقرآن ، بطغاة الكفار ، وبأي شيء كنا نذكر طغاة الكفار وهم لا يعتقدون شيئاً من ديننا ؟ وأما تهديد الرعية بسبب نصيحتنا ، وتهديد طائفة العلماء ، فليس هو المرجو من عدل السلطان وحلمه ، وأي حيلة لضعفاء المسلمين الناصحين نصيحة للسلطان ولهم ، ولا علم لهم به ، وكيف يؤاخذون به لو كان فيه ما يلام ؟ وأما أنا في نفسي فلا يضرني التهديد ، ولا أكثر منه ، ولا يمنعني ذلك من نصيحة السلطان ، فإني أعتقد أن هذا واجب علي وعلى غيري ، وما ترتب على الواجب فهو خير وزيادة عند الله {إِنَّمَا هَـذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَـرَارِ} {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقول الحق حيثما كنا ، وأن لا نخاف في الله لومة لائم ، نحن نحب للسلطان معالي الأمور وأكمل الأحوال وما ينفعه في آخرته ودنياه ويكون سبباً في دوام الخيرات له ويبقى ذكره له على مَرِّ الأيام يخلد في سنته الحسنة ويجد نفعه {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً} وأما ما ذكر في تمهيد سلطان البلاد وإدامته الجهاد وفتح الحصون وقهر الأعداء ، فهو بحمد الله من الأمور الشائعة التي اشترك في العلم بها الخاصة والعامة ، وسارت في أقطار الأرض ولله الحمد . وثواب ذلك مدخر للسلطان إلى يوم تجد كل نفس ما عملت من خيْر محضراً ، ولا حجة لنا عند الله إذا تركنا النصيحة الواجبة علينا .

    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته " .

    وبعد إذا لم يكن تمييز الخير من الشر والمعروف من المنكر وتبيان كل ، وتربية الناس على محبة الخير والمعروف ، وبغض الشر والمنكر ، إذا لم يكن هذا من ثمار النبوة فما هي ثمار النبوة ؟ .

    لقد بين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس الخير والشر , ودل الناس على أن يفعلوا الخير وحده ، وعلى أن يحاربوا الشر أنى كان . فكانوا مثلاً علياً لا مثيل لها في ذلك ، استحقوا معها أن يكونوا خير أمة أخرجت للناس {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} .

    نعم إنها ثمار النبوة ، ولا يمكن أن يكون غير ذلك ، فلم تكن الجزيرة العربية مرشحة لشيء من هذا ولا غيرها لولا وحي الله .

    * * *

    ثامناً : دولة هداية لا جباية :

    وثمرة ثامنة :

    أخرج ابن سعد عن سفيان بن أبي العوجاء قال : قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الله ما أدري خليفة أنا أم ملك ؟ فإن كنت ملكاً فهذا أمر عظيم . قال قائل : يا أمير المؤمنين إن بينهما فرقاً ؛ فإن الخليفة لا يأخذ إلا حقاً ولا يضعه إلا في حق ، وأنت بحمد الله كذلك ، والملك يعسف الناس فيأخذ من هذا ويعطي هذا فسكت عمر .

    وقال عمر لسلمان : أملك أنا أم خليفة ؟ فقال له سلمان : إن أنت جبيت من أرض المسلمين ( أي أرض الدولة الإسلامية وإن كانت لذمة غير مسلم ) درهماً أو أقل أو أكثر ثم وضعته في غير حق ، فأنت ملك غير خليفة .

    هذه هي الثمرة المقصودة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شرع بأمر من الله للناس في شأن المال شريعة لا يمكن أن يوجد أعدل منها ، فلا يؤخذ من أحد مال إلا بعدل ، ولا يتملك إنسان ملكاً إلا بحق وعدل ، وقبل ذلك لم تكن في الأرض نظرية للتملك صالحة ولا عادلة ، ولا نظرية للجباية صالحة أو عادلة ، وكان شعار الحكومات قبل الإسلام : الجباية ، فأصبح شعار حكومة الإسلام : الهداية .

    يقول الدكتور الفرد ج . ميكر عن الحكم الروماني في مصر :

    " إن حكومة مصر ( الرومية ) لم يكن لها إلا غرض احد وهو أن تبتز الأموال من الرعية لتكون غنيمة للحاكمين ، ولم يساورها أن تجعل قصد الحكم توفير الرفاهية للرعية أو ترقية حال الناس والعلو بهم في الحياة ، أو تهذب نفوسهم ، أو إصلاح أمور أرزاقهم فكان الحكم على ذلك حكم الغرباء لا يعتمد إلا على القوة ولا يحس بشيء من العواطف على الشعب المحكوم .

    ويقول مؤلف إيران في عهد الساسانيين عن الوضع في إيران :

    " كان الجباة لا يتحرزون من الخيانة ، واغتصاب الأموال في تقدير الضرائب وجباية الأموال .

    إن ما قام به كسرى أنو شروان من إصلاح النظام المالي كان في مصلحة مالية المملكة أكثر منه في مصلحة الرعية . فلم تزل العامة يعيشون في الجهل والضنك كما كانوا في السابق .

    كان الفلاحون في شقاء وبؤس عظيم ، وكانوا مرتبطين بأراضيهم ، وكانوا يستخدمون مجاناً ، ويكلفون كل عمل . يقول المؤرخ : أميان مارسيلينوس : إن هؤلاء الفلاحين البؤساء كانوا يسيرون خلف الجيوش مشاة كأنه قد كتب عليهم الرق الدائم ، ولم يكونوا ينالون إعانة أو تشجيعاً من راتب أو أوجرة وكانت علاقة الفلاحين بالملاك أصحاب الأراضي كعلاقة العبيد بالسادة " .

    * * *

    أين هذا مما حدث ببركات رسول الله صلى الله عليه وسلم مما نرى نماذجه هنا :

    أ – أوصى عمر بن الخطاب وصية لمن يلي أمر المسلمين بعده منها :

    " وأوصيه بأهل الأمصار خيراً فإنها ردء الإسلام ، وجباة الأموال ، وغيظ العدو ، وأن لا يؤخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم " . " وأوصيه بذمة الله وبذمة رسوله ، أن يوفي لهم بعهدهم وأن يقاتل من ورائهم ولا يكلفهم إلا طاقتهم " .

    ب – وأخرج ابن زنجويه عن رجل من ثقيف قال : استعملني علي بن أبي طالب –رضي الله عنه – على عكبرا فقال لي وأهل الأرض عندي : " إن أهل السواد قوم خدع فلا يخدعنك فاستوف ما عليهم " ثم قال لي : رح إلي فلما رجعت إليه قال لي : إنما قلت لك الذي قلت لأسمعهم ، لا تضربن رجلاً منهم بسوط في طلب درهم ، ولا تقمه قائماً ، ولا تأخذن منهم شاة ، ولا بقرة إنما أمرنا أن نأخذ منهم العفو أتدري ما العفو ؟ الطاقة .

    وفي رواية البيهقي " ولا تبيعن لهم رزقاً ولا كسوةً شتاءً ولا صيفاً ولا دابة يعتملون عليها ولا تقم رجلاً قائماً في طلب درهم قال :

    قلت : يا أمير المؤمنين إذاً أرجع إليك كما ذهبت من عندك .

    قال : وإن رجعت كما ذهبت ويحك إنما أمرنا أن نأخذ منهم العفو يعني الفضل .

    جـ - وأخرج أبو عبيد عن يزيد بن أبي مالك قال : كان المسلمون بالجابية وفيهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فأتاه رجل من أهل الذمة يخبره أن الناس قد أسرعوا في عنبه فخرج عمر - رضي الله عنه - حتى لقي رجلاً من أصحابه يحمل ترساً عليه عنب فقال عمر : وأنت أيضاً ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ! أصابتنا مجاعة فانصرف عمر - رضي الله عنه - وأمر لصاحب الكرم بقيمة عنبه .

    د – وأخرج الحاكم عن إبراهيم بنعطاء عن أبيه أن زياداً أون ابن زياد بعث عمران بن حصين - رضي الله عنه - ساعياً فجاء ولم يرجع معه درهم فقال له : أين المال ؟ قال : وللمال أرسلتني ؟ أخذناها كما كنا نأخذها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعناها في الموضع الذي كنا نضعها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    هـ - وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عروة بن محمد :

    " أما بعد فإنك كتبت إلي تذكر أنك قدمت اليمن فوجدت على أهلها ضريبة من الخراج مضروبة ثابتة في أعناقهم كالجزية يؤدونها على كل حال إن أخصبوا أو أجدبوا ، أو حيوا أو ماتوا ، فسبحان الله رب العالمين ، ثم سبحان الله رب العالمين ، ثم سبحان الله رب العالمين إذا أتاك كتابي هذا فدع ما تنكره من الباطل إلى ما تعرفه من الحق ثم ائتنف ( أي خذ ) الحق فاعمل به ، بالغاً بي وبك ما بلغ وإن أحاط بمهج أنفسنا ، وإن لم ترفع إلي من جميع اليمن إلا حفنة من كتم فقد علم الله أني بها مسرور ، إذا كانت موافقة للحق والسلام " .

    و – وأخرج ابن عساكر والواقدي عن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي : - رضي الله عنهما – قال : لما قدمنا مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الجابية إذا هو بشيخ من أهل الذمة يستطعم ، فسأل عنه فقال : هذا رجل من أهل الذمة كبر وضعف فوضع عنه عمر - رضي الله عنه - الجزية التي في رقبته وقال : كلفتموه الجزية حتى إذا ضعف تركتموه يستطعم ؟ فأجرى عليه من بيت المال عشرة دراهم وكان له عيال " .

    وفي رواية أبي عبيد وابن زنجويه والعقيلي عن عمر - رضي الله عنه - أنه مر بشيخ من أهل الذمة يسأل على أبواب المساجد فقال : ما أنصفناك كنا أخذنا منك الجزية في شبيبتك ثم ضيعناك في كبرك ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه .

    ز – " وأخرج عبد الرزاق عن سعيد بن المسيب قال : أراد عمر - رضي الله عنه - أن يأخذ دار العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - فيزيدها في المسجد فأبى العباس أن يعطيها إياه فقال عمر : لآخذنها قال : فاجعل بيني وبينك أُبي بن كعب - رضي الله عنه - قال : نعم . فأتيا أبيّاً فذكرا له فقال أُبي : أوحى الله إلى سليمان بن داود – عليهما الصلاة والسلام – أن يبني بيت المقدس وكانت أرضاً لرجل فاشترى منه الأرض فلما أعطاه الثمن قال : الذي أعطيتني خير أم الذي أخذت مني ؟ قال : بل الذي أخذت منك قال : فإني لا أجيز ثم اشتراها منه بشيء أكثر من ذلك فصنع الرجل مثل ذلك مرتين أو ثلاثاً فاشترط عليه سليمان – عليه الصلاة والسلام – أني أبتاعها منك على حكمك فلا تسألني أيهما خير ؟ قال فاشتراها منه بحكمه فاحتكم اثني عشر ألف قنطاراً ذهباً فتعاظم ذلك سليمان أن يعطيه ، فأوحى الله إليه : إن كنت تعطيه من شيء هو لك فأنت أعلم وإن كنت تعطيه من رزقنا فأعطه حتى يرضى ففعل . قال : وأنا أرى أن عباساً أحق بداره حتى يرضى قال العباس : فإذا قضيت لي فإني أجعلها صدقة للمسلمين .

    وفي رواية : فقال أُبي لعمر : ما أرى أن تخرجه من داره حتى ترضيه . فقال له عمر : أرأيت قضاءك هذا في كتاب الله وجدته أم سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال أبي : بل سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر : وما ذاك ؟ فقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن سليمان بن داود صلى الله عليه وسلم لما بنى بيت المقدس جعل كلما بنى حائطاً أصبح منهدماً فأوحى الله إليه أن لا تبني في حق رجل حتى ترضيه فتركه عمر فوسعها العباس رضي الله عنهما – بعد ذلك في المسجد .

    وأخرج ابن جرير الطبري عن زياد بن جزء الزبيدي فقال : افتتحنا الإسكندرية في خلافة عمر - رضي الله عنه - فذكر الحديث وفيه : ثم وقفنا ببلهيب وأقمنا ننظر كتاب عمر حتى جاءنا فقرأه علينا عمرو - رضي الله عنه - وفيه :

    " أما بعد فإنه جاءني كتابك تذكر أن صاحب الإسكندرية عرض أن يعطيك الجزية على أن ترد عليه ما أصيب من سبايا أرضه ولعمري لجزية قائمة تكون لنا ولمن بعدنا من المسلمين أحب إلي من فيء يقسم ثم كأن لم يكن فاعرض على صاحب الإسكندرية أن يعطيك الجزية على أن تخيروا من في أيديكم من سبيهم بين الإسلام وبين دين قومهم ، فمن اختار منهم الإسلام فهو من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم ، ومن اختار دين قومه وضع عليه من الجزية ما يوضع على أهل دينه ، فأما من تفرق من سبيلهم بأرض العرب فبلغ مكة والمدينة واليمن فإنا لا نقدر على ردهم ، ولا نحب أن نصالحه على أمر لا نفي له به .

    قال : فبعث عمرو إلى صاحب الإسكندرية يعلمه الذي كتب به أمير المؤمنين قال : فقال : قد فعلت . قال : فجمعنا ما في أيدينا من السبايا واجتمعت النصارى فجعلنا نأتي بالرجل ممن في أيدينا ثم نخيره بين الإسلام والنصرانية ، فإذا اختار الإسلام كبرنا تكبيرة هي أشد من تكبيرنا حين نفتح القرية قال : ثم نحوزه إلينا وإذا اختار النصارنية نخرت النصارى ثم حازوه إليهم ووضعنا عليهم الجزية وجزعنا من ذلك جزعاً شديداً ، حتى كأنه رجل خرج منا إليهم قال : فكان ذلك الدأب حتى فرغنا منهم وقد أتى فيمن أتينا به بأبي مريم عبد الله بن عبد الرحمن قال القاسم : وقد أدركته وهو عريف بني زبيد قال : فوقفناه فعرضنا عليه الإسلام والنصرانية وأبوه وأمه وإخوته في النصارى فاختار الإسلام فحزناه إلينا ووثب عليه أبوه وأمه يجاذبوننا حتى شققوا عليه ثيابه ثم هو اليوم عريفاً كما ترى فذكر الحديث .

    * * *

    إن نقل الدولة من دولة جباية ظالمة ، إلى دولة هداية كاملة ، مع مبادئ في التملك والحقوق في الملك لا مثيل لها في تاريخ العالم ، ثمرة من ثمار محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسم طريق التملك العادل الذي ليس فيه ظلم ولا حيف ولا حرام ، والحقوق في هذا الملك للفقراء والمساكين والغارمين ... بحيث تقوم قضايا المال على العدل الذي لا باطل معه . ثمرة من ثمار النبوة ؟ إن محمداً رسول الله لا شك في ذلك ولا ريب .

    * * *

    تاسعاً وعاشراً : جهاد وحرية :

    وقال تعالى : {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} البقرة : 256 .

    إذن هي الحرية الدينية لغير المسلمين في ظل دولة الإسلام .

    فقد أعطى الإسلام الحرية للناس في عقائدهم إذا خضعوا لحكم الإسلام ما لم يكن وثنياً من جزيرة العرب ، فهذا لا حرية له ، وما عدا هذا فما عرف الناس مكاناً يأمنون فيه على دينهم غير أرض الإسلام . والدليل على ذلك واضح ، هو أنه حيث فتح المسلمون أرضاً فيها دين وجدت بقايا أهل هذا الدين موجودين ، ولو أن المسلمين كانوا يكرهون رعاياهم على اعتناق دينهم كما فعل غيرهم لما وجدت هذه الظاهرة . إنك لا تجد مثلاً مسلماً واحداً في أسبانيا مع أن المسلمين فيها كانوا ثلاثين مليوناً ، بينما تجد نصارى في بلاد الشام حتى الآن من بقايا النصارى الأولين ، وتجد يهوداً ، ولا يزال غير المسلمين هم الأكثرية في الهند مع أن المسلمين حكموها ثمان مائة سنة ، وهكذا تتكرر الظاهرة في كل مكان .

    لقد حاول مرة السلطان سليم الأول أن يأخذ أولاد النصارى ويربيهم على الإسلام ، فوقف أمامه علماء المسلمين معارضين ، وأعلنوا أن هذا لا يجوز فعدل عن فكرته .

    ومن قرأ معاهدات المسلمين مع غيرهم من أبناء الأرض المفتوحة ، وجد سعد صدر المسلمين وتسامحهم ، وعلم أن دعوة الإسلام لم تسلك طريقها في القلوب إلا عن طريق الإقناع والمعاملة الحسنة ، والإيمان بالقيم العظيمة الموجودة في هذا الدين ، واقرأ نص المعاهدة التي كتبت بين نصارى الشام وبين عمر تجد هذا المعنى واضحاً وهذا نص المعاهدة :

    " بسم الله الرحمن الرحيم . هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان أماناً لأنفسهم وكنائسهم وصلبانهم ، وسقيمها وبرها ، وسائر ملتها أنها لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينقض منها ولا من صلبانهم ولا شيء من أموالهم ، ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم ، ولا يسكن إيلياء أحد من اليهود . وعلى أهل إيلياء أن يعطوا أهل المدائن ، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص فمن خرج منهم فهو آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم ومن أقام منهم فهو آمن وعليه مثل ما على إيلياء من الجزية ، ومن أحب إيلياء من الجزية ، ومن أحب من إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بيعتهم وصليبهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعتهم وعلى صليبهم حتى يبلغوا مأمنهم ، ومن كان فيها من أهل الأرض فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية ، ومن شاء رجع إلى أرضه ، وأنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمته وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية ، شهد على ذلك من الصحابة – رضي الله عنهم – خالد بن الوليد - رضي الله عنه - وعمرو بن العاص - رضي الله عنه - وعبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - ومعاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - " . ومن قرأ شهادة السكان غير المسلمين رأى مصداق ذلك .

    يقول البطريرك ( عيشو يايه ) عام 656 هجرية :

    " إن العرب الذين مكنه الزمن من السيطرة على العالم يعاملوننا بعدالة كما تعرفون " .

    ويقول مكاريوس بطريك إنطاكية : " أدام الله بناء دولة الترك خالدة إلى الأبد . فهم يأخذون ما فرضوه من جزية ولا شأن لهم بالأديان سواء أكان رعاياهم مسيحيين ، أم ناصريين يهوداً أو سامرة " .

    ويقول أرنولد : حتى إيطاليا كان فيها قوم يتطلعون بشوق عظيم إلى التركي لعلهم يحظون كما حظي رعاياهم من قبل بالحرية والتسامح اللذين يئسوا من التمتع بها في ظل أي حكومة مسيحية .

    ويقول : وحدث أن هرب اليهود الأسبانييو المضطهدون في جموع هائلة فلم يلجأوا إلا إلى تركيا في نهاية القرن الخامس عشر .

    ويقول ريتشارد سيبر من أبناء القرن السادس عشر : وعلى الرغم من أن الأتراك بوجه عام شعب من أشرس الشعوب ... سمحوا للمسيحيين جميعاً للإغريق منهم واللاتين أن يعيشوا محافظين على دينهم ، وأن يصرفوا ضمائرهم كيف شاؤوا بأن منحوهم كنائسهم لأداء شعائرهم المقدسة في القسطنطينية وفي أماكن أخرى كثيرة جداً ، على حين أستطيع أن أؤكد بحق بدليل اثنتي عشرة عاماً قضيتها في أسبانيا أننا لا نرغم على مشاهدة حفلاتهم البابوية فحسب بل إننا في خطر على حياتنا وسلفنا " .

    * * *

    وحتى الجزية التي هي من جانب رمز للخضوع لسلطان الإسلام ، هي من جانب آخر رمز على الحرية الدينية ، فالجزية من هذا الجانب تفرض على رعايا الدولة الإسلامية من غير المسلمين ، في مقابل حمايتهم وعدم مشاركتهم في الحروب ، وفي ذلك منتهى العدل إذ القتال في الإسلام قتال عقدي فالمسلم الذي يقاتل إنما يقاتل بوحي من إسلامه وعقيدته ، وفي سبيل ربه ودينه . فلو أننا طالبنا رعايانا من غير المسلمين أن يقاتلوا معنا فكأننا في هذه الحالة نجبرهم على القتال من أجل عقيدة لا يؤمنون بها ، وذلك منتهى الظلم ، وخاصة إذا كان القتال ضد أبناء دينهم أنفسهم . فالجزية إذن من هذا الجانب لصالح هؤلاء الرعايا ، وجزء متمم لحريتهم ، بدليل أنه حدث في التاريخ الإسلامي أن ناساً من غير المسلمين شاركوا في جيوش المسلمين فأسقط عنهم المسلمون الجزية .

    * * *

    وحتى العقوبة الصارمة التي فرضها الإسلام على المرتدين عن الإسلام وهي القتل ، هذه العقوبة لصالح الأقليات غير الإسلامية في الأرض الإسلامية من جانب . إذ غير المسلم عندما يعلم أن الدخول في الإسلام باختياره ، ولكنه وإذا دخل وخرج فجزاؤه القتل ، فذلك يجعله يفكر كثيراً قبل اعتناقه الإسلام فيقدم عليه بعد دراسة طويلة واقتناع كامل .
    * * *

    قارن هذه الحرية المعطاه لغير المسلمين في الأرض الإسلامية ، في عقائدهم ودياناتهم ، بما يفعل الآخرون حديثاً وقديماً من إجبار الإنسان على تغيير عقيدته ، أو قتله أو سجنه ، أو تعذيبه أو اضطهاده ، أو فرض فكر معين عليه يعتنقه ويتبناه ، أو عدم السماح له بدراسة دينه وعقيدته ، أو يحال بينه وبين من يمك أن يلقنه دينه ، وتجد في ذلك مآسي وحوادث تثير شجن الإنسان . لكن لو درست التاريخ الإسلامي . فإنك لا تجد حادثة واحدة شبيهة بهذا وهذه أمثلة على أعمال غير المسلمين :

    يذكر صاحب كتاب كشف الآثار في قصص أنبياء بني إسرائيل وهو كتاب مؤلفه نصراني :

    1 – أمر قسطنطين الأعظم بقطع آذان اليهود وإجلائهم إلى أقاليم مختلفة ، ثم أمر إمبراطور الروم في القرن الخامس أن يخرج اليهود من الإسكندرية التي كانت مأمنهم .. وأمر بهدم كنائسهم . ومنع عبادتهم وعدم قبول شهادتهم ، وعدم نفاذ الوصية إن أوصى أحد منهم لأحد في ماله ، ولما احتجوا على ذلك نهب جميع أموالهم وقتل كثيراً ( صفحة 27 ) .

    2 – إن يهود بلدة أنطيوح لما أسروا بعدما صاروا مغلوبين ، قطع أعضاء البعض وقتل البعض ، وأجلى الباقين كلهم ، وظلم الإمبراطور الروماني اليهود الموجودين في المملكة كلها ، وأجلاهم وهيج الدول الأخرى على هذه المعاملة فتحملوا بذلك الظلم من آسيا إلى أقصى حد في أوربا . ثم بعد مدة كلفوا في أسبانيا أن يقبلوا شرطاً من شروط ثلاثة . أن يقبلوا المسيحية ، فإن أبوا عن قبولها يكونون محبوسين , وإن أبوا عن كليهما يجلون من أوطانهم ومثل ذلك حدث في فرنسا ( ص 29 ) .

    3 – ومن القوانين التي أصدرها الكاثوليكيون . ولا يجوز الأكل مع اليهودي ويجب نزع أولادهم منهم لتربيتهم تربية مسيحية ( ص 29 ) .

    4 – وقد ثبت تاريخياً أن اليهود أجلوا من فرنسا سبع مرات ( ص 30 – 31 ) .

    5 – وحدث لهم في النمسا وأسبانيا وبريطانيا من القتل والطر والإكراه الكثير ، وقد أجلى إدوارد الأول ملك بريطانيا أكثر من خمسة عشر ألفاً من اليهود بعد أن نهب أموالهم ( ص 32 ) .

    * * *

    ويذكر توماس نيوتن في كتابه عن نبوءات الكتب المقدسة أن النصارى عندما فتحوا بيت المقدس في الحروب الصليبية قتلوا أكثر من سبعين ألفاً من المسلمين .

    ونقول : إن المسلمين عندما استردوا المدينة بعد زمن طويل لم يقتلوا إنساناً واحداً بعد الفتح .

    * * *

    وأصدرالملك لويس الحادي عشر سنة 1724 قانوناً يقول فيه : إن الكاثوليكية وحدها مأذون بها وأما أصحاب الديانات الأخرى فجزاؤهم الأشغال المؤبدة ، وكل واعظ يدعو إلى ملة غير الكاثوليكية جزاؤه الموت .

    وقتل في فرنسا في مذبحة واحدة وهي الشهيرة بمذبحة بروتولماوس واحد وثلاثون ألفاً من البروتستانت .

    وقتلت محاكم التفتيش حرقاً بالنار حوالي مائتين وثلاثين ألفاً ، والذين قتلوا بالسيف وبآلات التعذيب خلق كثير هذا من غير المسلمين ، أما المسلمون فقد ذكرنا أنه لم يبق في أسبانيا من الثلاثين مليوناً من المسلمين مسلم واحد ، كلهم غدر بهم فمن قتيل أو طريد أو مكروه على تغيير دينه .

    إن إعطاء الإنسان الحرية الكاملة في أمر اختياره عقيدته وعدم إجباره على تغيير دينه بأي واسطة من وسائط الإكراه ، ثمرة من ثمار محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم . ما كانت لتكون لولا الوحي . إن العرب هذا الشعب القاسي ، كان يمكن أن يمثل في حال النصر الدور الذي مثله التتار من بعد . قتل جماعي ، ومحو للحضارة ، ولكن العرب على العكس من ذلك . مثلوا على مسرح التاريخ أروع أمثلة الرحمة والتسامح مع الشعوب المغلوبة ، وهذا ليس من أخلاقهم في الأصل لولا دعوة الله ودين الله ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
    * * *

    بل إن عملية الجهاد المستمر ، والتضحيات الكثيرة التي بذلت فيه من أجل إخضاع العالم لسلطان الله ، مع إعطاء الفرد الحرية في البقاء على دينه أو الانتقال منه إلى الإسلام دين الله الحق بالاقتناع الكامل دليل على أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله .

    فالذين يتصورون أن مقام النبوة يتنافى مع الحرب العادلة ، تصوراتهم معكوسة تماماً . إن حرب الأنبياء وحدها هي المعقولة في العالم ، إذ إن الحياة البشرية لا تستقيم إلا على قانون الله وشريعته . فما لم يكن العالم خاضعاً لسلطان الله ، فإن العالم تمزقه بمن فيه وقتذاك أهواء البشر ، أما إذا خضع لسلطان الله المتمثل في عباده المستقيمين الصالحين ، وشريعة الله ، فإن في ذلك صلاحه وكما قدمنا فلا يعني إخضاع البشر لسلطان الله إجبارهم على الدخول في دين الله .

    والذين ينكرون على رسول الله الجهاد في سبيل الله إما ملحدون : وهؤلاء أصغر من أن يرد عليهم لأن القتل والخراب الذي يحدث على أيديهم بغير حق يندى له جبين الوحوش . فقد قتلت روسيا من رعاياها من أجل إقامة الحكم الشيوعي تسعة عشر مليوناً . وإما أهل دين : كاليهود والنصارى وهؤلاء يناقضون أنفسهم فإن في التوراة التي يؤمن بها جميعهم نصوصاً كثيرة تدل على أن الأنبياء جاهدوا في سبيل الله ، وفي الإنجيل وكتب العهد الجديد ما يدل على أن الأنبياء يحاربون وهذه شواهد .

    1 – مذكور في كتاب المشاهدات الباب ( 19 ) والرسالة الثانية الباب الثاني لأهل تسالونيق وهما كتابان نصرانيان . أن عيسى عليه السلام سيقتل الدجال وعسكره بعد نزوله . أي قرب قيام الساعة وهذه عقيدة المسلمين أيضاً .

    2 – وفي سفر التثنية( 10 ) وإذا دنوت من قرية لتقاتلهم ادعهم أولاً إلى الصلح فإن قبلت وفتحت لك الأبواب فكل الشعب الذي بها يخلص ويكونون لك عبيداً يعطونك الجزية ، وإن لم ترد تعمل معك عهداً وبدأت بالقتال معك فقاتلها أنت ، وإذا سلمها الرب إلهك بيدك اقتل جميع من بها من جنس الذكر بحد السيف دون النساء والأطفال والدواب وما كان في القرية غيرهم واقسم للمعسكر الغنيمة بأسرها . وكُل من سَلبِ أعدائك الذي يعطيك الرب إلهك . وهكذا فافعل بكل القرى البعيدة منك جداً . فأما القرى التي تعطى أنت إياها فلا تستحي منها نفساً البتة ولكن أهلكهم هلاكاً كلهم بحد السيف . الحيثي والآموري والكنعاني والفرزي والحوابي والبابوسي كما أوصاك الرب إلهك .

    3 – وفي الباب الثاني عشر من سفر صموئيل الثاني هكذا ( 29 ) فجمع داود الشعب وسار إلى راية فحارب أهلها وفتحها وأخذ تاج ملكهم على رأسه .

    والنصوص عندهم في هذا كثيرة تجدها في سفر الخروج الباب الثالث الفقرة ( 43 ) وفي الباب الرابع والثلاثين منه ( 10 ) وفي سفر العدد الباب الثالث والثلاثين وفي سفر صموئيل الأول الباب السابع والعشرون ( 8 ) وفي سفر الملوك الباب الثامن ( 20 ) وغيرها وغيرها كثير يقول بولس المقدس عند النصارى في الرسالة العبرانية الباب الحادي عشر فقرة ( 32 ) : وماذا أقول أيضاً لأنه يعوزني الوقت أن أحدث عن جدعون وباراق وشمشون ويفتاح وداود وصموئيل والأنبياء الذين بالإيمان قهروا ممالك صنعوا براً نالوا مواعيد سدوا أفواه أسود أطفئوا النار ، نجو من حد السيف تقووا من ضعف صاروا أشداء في الحرب هزموا جيوش غرباء .

    * * *

    وأخيراً الجهاد في سبيل الله ثمرة من ثمار النبوة ، وعدم إكراه الناس على الدخول في الإسلام ثمرة أخرى ، وكلتاهما تشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    وهذه الثمار كلها غيض من فيض وإلا فإن ثمار النبوة كثيرة تعجز الإنسان عن الإحصاء . وحيثما نظرت في الإسلام دلّك الإسلام على أنه دين الله رب العالمين ، وأن محمداً رسول هذا الإله العظيم وأنه المبلغ عنه .

    وإلى الباب الخامس لنرى حجة أخرى على رسالة رسولنا عليه الصلاة والسلام .

    * * *

  4. افتراضي

    الباب الخامس

    البشارات


    - 1 -

    إن القرآن ذكر بوضوح وفي أكثر من سورة أن الكتب السماوية قد بشرت بمحمد صلى الله عليه وسلم {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُواْ هَـذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} ( الصف : 6 ) .

    { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } ( الأعراف : 157 ) .

    {وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} ( البقرة : 89 ) .

    إن ظاهرة دينية عامة كنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم للعالمين جميعاً ، يترتب عليها معاني كثيرة من وحدة الإنسانية وتوحيد دينها . تحتاج إلى مقدمات ومبشرات توجد استعداداً عاماً عند الناس لها .

    - 2 -

    والدارس للنصوص التاريخية التي تتحدث عن فترة ما قبل البعثة وأثناءها يلاحظ ملاحظة هامة . هي أن الناس الذين كانت لهم صلة بكتاب سماوي كان واضحاً في أذهانهم أنه سيبعث نبي ، وكانوا يرتقبون ظهوره وإن بعضاً من علمائهم قد أعلن إسلامه بمجرد اجتماعه بهذا النبي صلى الله عليه وسلم .

    فمن ذلك قصة سلمان الفارسي كما تذكرها روايات كثيرة ، وتنقّله من عالم إلى عالم في النصرانية ، حتى دلّه آخرهم أن يترقّب نبياً كاد أن يبعث من أرض العرب ، وذلك سبب مجيئه إلى أرض العرب وسكناه فيها .

    ومن ذلك القصة التي يرويها البخاري عن أبي سفيان عندما استدعاه هرقل في بلاد الشام إذ يقول في آخرها هرقل : " وقد كنت أعلم أنه خارج نبي ولم أكن أظن أنه منكم " .

    ومن ذلك ما ذكرته صفية بنت حيي أم المؤمنين عن أبيها وعمها اليهوديين قالت :

    لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ونزل قباء ، غدا عليه أبي حيي بن أخطب وعمي أبو ياسر مغلسين ، فلم يرجعا حتى كان غروب الشمس ، فأتيا كالّين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينا ، فهششت إليهما فما التفت إليّ أحد منهما مع ما بهما من الهم . فسمعت عمي أبا ياسر يقول لأبي : أهو هو ؟ أي المبشر به في التوراة ، قال : نعم والله ، قال : أتثبته وتعرفه ؟ قال : نعم . قال : فما في نفسك منه ؟ قال : عداوته والله ما بقيت أبداً

    ومن ذلك قصة إسلام عبد الله بن سلام :

    قال ابن هشام في سيرته قال ابن إسحاق وكان من حديثه كما حدثني بعض أهله عنه وعن إسلامه حين أسلم وكان حبراً عالماً قال : لما سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم عرفت صفته واسمه وزمانه الذي كنا نتوكف له فكنت مسراً لذلك صامتاً عليه حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فلما نزل بقباء في بني عمرو بن عوف أقبل رجل حتى أخبر بقدومه وأ،ا في رأس نخلة لي أعمل فيها ، وعمتي خالدة ابنة الحارث تحتي جالسة ، فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم كبرت ، فقالت لي عمتي حين سمعت تكبيري : خيبك الله والله لو كنت سمعت بموسى بن عمران قادماً ما زدت . قال فقلت لها : أي عمة هو والله أخو موسى بن عمران وعلى دينه بعث بما بعث به ، قال فقالت : فذاك إذن قال : ثم خرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت ثم رجعت إلى أهل بيتي فأمرتهم فأسلموا ...

    ومن ذلك قصة النجاشي وموقفه من أصحاب السيد الرسول صلى الله عليه وسلم في هجرتهم إليه وقولهم بعد نقاش وعرض عندما أوفدت قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد لإخراجهم :

    .. أشهد أنه رسول الله وأنه المبشر به عيسى في الإنجيل .

    وقد اشتهر حديث اليهود للأوس والخزرج عن خروج نبي وكان ذلك من جملة العوامل التي جعلت هذا الاستعداد الكبير عند الأوس والخزرج للإيمان :

    فمن ذلك ما جاء عن سلمة بن سلامة - رضي الله عنه - ، وكان من أصحاب بدر قال : كان لنا جار من يهود بني عبد الأشهل ، فذكر القيامة والبعث والحساب والميزان والجنة والنار ، فقالوا له : ويحك يا فلان أو ترى هذا كائناً ؟ أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها نار وجنة يجزون فيها بأعمالهم ، قال : نعم والذي يحلف به ، وليود أي شخص أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطبقونه عليه بأن ينجو من تلك النار غداً . فقالوا له : ويحك وما آية ذلك ؟ قال : نبي يبعث من نحو هذه البلاد ، وأشار بيده إلى مكة واليمن ، قالوا : ومن يراه ؟ فنظر إليّ وأنا أحدثهم سناً فقال : إن يستنفد أي يستكمل هذا الغلام عمره يدركه ، قال سلمة : والله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله محمد صلى الله عليه وسلم وهو أي ذلك اليهودي بين أظهرنا فآمنا به وكفر بغياً وحسداً ، فقلنا له : ويحك يا فلان ألست الذي قال لنا فيه ما قلت ؟ قال : بلى ولكن ليس به .

    - 3 -

    وعلى كل حال فإن وجود الكتب الدينية العالمية الآن أصبح كثيراً ، وانتشارها واسعاً ، ولعل دراسة منصفة تستخرج الكثير مما له علاقة بهذه الحقيقة . هذا مع الاعتقاد بأن هذه الكتب قد حرفت وبدلت ، يشهد على ذلك كل دراسة جيدة لنصوص هذه الكتب ولواقعها التاريخي ، ويكفي كبرهان عملي على تحريف أحدثها وأقربها إلينا ( الإنجيل ) إن الإنجيل الواحد أصبح أربعة بينها تعارض أحياناً وبعضها يزيد على بعض أو ينقص وفي سندها التاريخي انقطاع .

    وقد قام بهذه الدراسة المنصفة الواسعة الواعية علماء كبار ، جمعوا بين معرفة اللغات ، ومعرفة الديانات ، فخرج معهم الشيء العجيب الذي لا يدع مجالاً لإنسان يحترم عقله أن يشك في أن هناك بشارات بمحمد النبي العربي قبل ميلاده بمئات السنين ، ونحن ها ننقل نماذج من هذه الدراسات ، وسيرى أي منصف أن هؤلاء العلماء ما ظلموا وما حرفوا وما اعتسفوا في فهم النصوص ولا حمّلوها فوق ما تحتمل . بل فهم هذه النصوص على غير ما ذكروه ، هو الاعتراف والتحريف ، وتحميل النصوص ما لا تحتمل ، وكتمان الشهاة ونأي عن الحق :

    {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ} ( الأنعام : 2 ) .

    - 4 -

    يقول العقاد :

    " من هذه الدراسات كتاب باللغة الإنجليزية ألفه " مولانا عبد الحق فديارتي " وسماه : " محمد في الأسفار الدينية العالمية " واستفاد في مقارناته ومناقضاته بمعرفته للفارسية والهندية والعبرية والعربية وبعض اللغات الأوروبية ولم يقنع فيه بكتب التوراة والإنجيل بل عمّم البحث في كتب فارس والهند وبابل القديمة ، وكانت له في بعض أقواله توفيقات تضارع أقوى ما ورد من نظائرها في شواهد المتدينين كافة ، ولا نذكر أننا اطعلنا على شواهد أقوى منها في روايات الأقدمين أو المحدثين من أتباع الديانات الأولى أو الديانات الكتابية .

    يقول الأستاذ عبد الحق : إن اسم الرسول العربي " أحمد " مكتوب بلفظه العربي في السامافيدا من كتب البراهمة وقد ورد في الفقرة السادسة والفقرة الثامنة من الجزء الثاني ، ونصها أن أحمد تلقى الشريعة من ربه وهي مملوءة بالحكمة وقد قبست منه النور كما يقبس من الشمس . ولا يخفي المؤرخ وجوه الاعتراض التي قد تأتي من جانب المفسرين البرهميين بل ينقل عن أحدهم " سينا أشاريا " أنه وقف عند كلمة أحمد فالتمس لها معنى هندياً وركب منها ثلاث مقاطع وهي " أهم " و " آت " و " هي " وحاول أن يجعلها تفيد " إنني وحدي تلقيت الحكمة من أبي " قال الأستاذ عبد الحق ما فحواه : إن العبارة منسوبة إلى البرهمي " فاتزاكانفا " من أسرة كانفا ولا يصدق عليه القول بأنه وحده تلقى الحكمة من أبيه .

    وفي مواضع كثيرة يرى المؤلف أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم مذكور بوصفه الذي يعني الحمد الكثير والسمعة البعيدة ومن أسمائه الوصفية اسم سشرافا الذي ورد في كتاب الآثار فافيدا .

    وكذلك صنع بكتب زرادشت التي اشتهرت باسم الكتب المجوسي فاستخرج من كتاب زندافستا نبوءة عن رسول يوصف بأنه رحمة للعالمين " سوشيانت " ويتصدى له عدو يسمى بالفارسية القديمة " أبا لهب " ويدعو إلى إله واحد لم يكن له كفوءاً أحد وليس له أول ولا آخر ولا ضريع ولا قريع ولا صاحب ولا أب ولا أم ولا صاحبة ولا ولد ولا ابن ولا مسكن ولا جسد ولا شكل ولا لون ولا رائحة .

    وهذه هي جملة الصفات التي يوصف بها الله سبحانه في الإسلام : أحد صمد ، ليس كمثله شيء ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوءاً أحد ، ولم يتخذ صاحبة ولا والداً .

    ويشفع ذلك بمقتبسات كثيرة من كتب الزردشتيه ، تنبيء عن دعوة الحق التي يجيء بها النبي الموعود ، وفيها إشارة إلى البادية العربية ، ويترجم نبذة منها إلى اللغة الإنكليزية معناها بغير تصرف " إن أمة زردشت حين ينبذون دينهم يتضعضعون ، وينهض رجل في بلاد العرب يهزم أتباعه فارساً ، ويخضع الفرس المتكبرين ، وبعد عبادة النار في هياكلهم ، يولون وجوههم نحو كعبة إبراهيم التي تطهرت من الأصنام ويومئذ يصبحون وهم أتباع للنبي رحمة للعالمين وسادة لفارس ومديان وطوس وبلخ وهي الأماكن المدقسة للزرادشتيين ومن جاورهم ، وإن نبيهم ليكون فصيحاً يتحدث بالمعجزات " .

    وقد أشار المؤلف بعد الديانات الآسيوية الكبرى إلى فقرات من كتب العهد القديم ، والعهد الجديد ، فقال : إن النبي عليه السلام هو المقصود بما جاء في الإصحاح الثالث والثلاثين من سفر التثنية " جاء الرب من سيناء وأشرق لهم من سعير وتلألأ من جبل فاران وأتى من ربوات القدس ومن يمينه نار شريعة لهم " .

    وجاء بالنص العبري كما يلي : " ويومر يهووه مسيناتي به وزارح مسعير لامو هو فيع مهرباران ببوث قودش حيميفو أيش داف لامو " .

    فترجمه هكذا " إن الرب جاء من سيناء ونهض من سعير لهم وسطع من جبل فاران وجاء مع عشرة آلاف قديس وخرج من يمينه نار شريعة لهم " .

    وقال : إن الشواهد القديمة جميعاً تنبيء عن وجود فاران في مكة وقد قال المؤرخ جيروم واللاهوتي يوسبيوس : إن فاران بلد عند بلاد العرب على مسيرة ثلاثة أيام إلى الشرق من أيلة .

    ونقل عن ترجمة التوراة السامرية التي صدرت في سنة 1851 ( أن إسماعيل سكن برية فاران بالحجاز وأخذت له أمه امرأة من أرض مصر ) ثم قال إن سفر العدد من العهد القديم يفرق بين سيناء وفاران إذ جاء فيه ( أن بني إسرائيل ارتحلوا من برية سيناء ، فحلت السحابة في برية فاران ) ولم يسكن أبناء إسماعيل قط في غرب سيناء فيقال إن جبل فاران واقع إلى غربها . ولم يحدث قط أن نبياً سار بقيادته عشرة آلا قديس غير النبي محمد عليه السلام ، وقوديش ترجم بقديس في رأي المؤلف الذي يناقش ترجمتها بالملائكة في الترجمات الأخيرة .

    كذلك لم يحدث قط أن نبياً غيره جاء بشريعة بعد موسى الكليم فقول موسى الكليم : إن مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم أبناء إبراهيم يصدق على النبي العربي صاحب الشريعة ولا يصدق على نبي من أبناء إبراهيم تقدمه في الزمن . اهـ ( نقل هذا المقطع من كتاب العقاد : مطلع النور – باختصار بعض جمله ) .

    - 5 -

    ومن هذه الكتب التي قام أصحابها بدراسة النصوص الحالية للكتب الدينية اليهودية والنصرانية : كتاب اسمه " إظهار الحق " لـ " رحمة الله بن خليل الهندي " ولعل هذا الكتاب أعظم دراسة نقدية لنصوص الديانتين اليهودية والنصرانية وأدق نقد لاعتراضات أتباع هاتين الديانتين على الديانة الإسلامية ، بحيث يرى أي دارس منصف للكتاب أن يهود اليوم ونصارى اليوم والسابقين لهم إلى فترات طويلة من الزمان ، ليسوا على شيء ، وأن الإسلام وحده هو الذي يصح أن يسمى ديناً ، فهو وحده دين الله الحق في هذا الزمان ومنذ بعث محمد عليه الصلاة والسلام .

    ولأهمية الكتاب نعرض صورة مختصرة له هنا ، ثم نأخذ منه ما له علاقة ببحثنا من نصوص لا زالت موجودة رغم التحريف والتبديل تبشر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم .

    وقارئ الكتاب يحس إحساساً يقيناً أن المؤلف متمكن من كتب العهدين القديم والجديد تمكناً تاماً ، فكأنه قرأهما عشرات المرات واطلع على كل ما كتبه أهلهما من تفاسير أو شروح أو تعليقات عليهما . وكتب كتابه بعد ذلك ، وسبب تأليف الكتاب أن المبشرين النصارى أخذوا يهاجمون الإسلام مهاجمات عنيفة في الهند أثناء الاحتلال البريطاني ، وركزوا هجومهم حول خمس نقاط فتصدى لهم كثير من علماء المسلمين ، وكان من آثار هذا التصدي أن عقدت مناظرة بين أكثر المبشرين سلاطة لسان وبين مؤلف الكتاب حضرها أكبر رجالات الهند . كان من نتائجها أن انسحب القس المبشر بعد أن قامت عليه الحجة ولما يتم النقاش في المسائل المقرر نقاشها .

    والكتاب يناقش المسائل الخمس التي أثارها المبشرون النصارى وهاجموا فيها الإسلام وهي :

    1 – إن دعوى القرآن بأن في التوراة والإنجيل تحريفاً وأن اليهود والنصارى حرفوا الكلم عن مواضعه دعوى باطلة .

    2 – إن بعض آيات القرآن منسوخة وأن النسخ دليل على أن القرآن ليس من عند الله لأن أحكامه بهذا قابلة للتبديل والتعديل .

    3 – إن الله ثلاثة الأب والابن وروح القدس والإسلام يدين بوحدانية الله ومحاولتهم البرهنة على عقيدة التثليث ومن ثم التهجم على عقيدة التوحيد .

    4 – إن القرآن كلام محمد صلى الله عليه وسلم وليس كلام الله المنزل وتشكيكهم في طريقة جمعه وتواتره .

    5 – إنكارهم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأنه خاتم الأنبياء .

    والكتاب ناقش هذه المسائل مناقشة دقيقة مستفيضة كل مسألة في باب ، وزاد باباً سادساً تناول فيه العهدين القديم والجديد ، ومع هذه الأبواب الستة فقد كتب للكتاب مقدمة جامعة ، فتألف الكتاب من مقدمة وستة أبواب بحث في كل منها ما يلي :

    أ – المقدمة : وتشمل ثماني ملاحظات عامة بين يدي الكتاب ، يذكر في بعضها مراجع الكتاب وطبعات المراجع وسنة طبعها وأين طبعت ، ويذكر بعض عادات المبشرين في بعضها ويعتذر في بعضها عن بعض ألفاظ يستعملها ويبين أنهم يستعملون أشد منها ...

    ب – الباب الأول : تناول فيه الكلام على العهدين العتيق والجديد كل باب من أبوابهما ، واستشهد من كلام مؤرخيهم وعلمائهم على تبيان المطعون فيه من الأبواب والآيات ، وبين بالحجج الدامغة أنه لا يوجد لدى علمائهم في كلتا الديانتين سند متصل لأي كتاب من كتب العهدين ثم تناول بعد ذلك ما في كتب العهدين من الاختلاف والأغلاظ ، وبين أن ادعاءهم بأن هذه الكتب الموجودة بين أيديهم إلهامية ، ادعاء باطل ، وساق برهاناً على هذا البطلان سبعة عشر وجهاً لكثرة ما بها من أغلاط وتحريف واختلاقات عجز مفسروهم عن التوفيق بينها ، ثم إن الكاثوليك والبروتستانت يختلفون في الاعتراف ببعض هذه الكتب ، فما يعترف به الكاثوليك ينكره البروتستانت والعكس بالعكس .

    جـ - الباب الثاني : أثبت فيه وجود التحريف في كتب العهدين القديم والجديد مصداقاً لقوله تعالى {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} وأثبت أن بعض هذا التحريف كان عن عمد ، وكان يأتي هذا التحريف أحياناً بالزيادة وأحياناً بالنقصان ، وأحياناً بالتبديل اللفظي ، وساق على التحريف بالزيادة خمسة وأربعين شاهداً ، كما ساق على التبديل اللفظي خمسة وثلاثين شاهداً ، كما أورد عدة مغالطات للمبشرين النصارى فندها ببراهين ساطعة ، ثم نقل على سبيل الاستدلال أقوال النصارى الثقات عندهم من المفسرين والمؤرخين ليزيد حججه نصاعةوقوة ، وبلغت هذه الاستدلالات من أقوالهم الثلاثين قولاً مما يدل على سعة اطلاع وتتبع حريص لإقامة الحجة عليهم من كتبهم وبلسان علمائهم ، وفي ختام هذا الباب أورد أموراً يزول بها استبعاد وقوع التحريف في كتبهم بل ثبت وقوع التحريف .

    د – الباب الثالث : أثبت فيه بالأدلة القاطعة نسخ بعض الأحكام في الشريعتين الموسوية والمسيحية بعد أن بين ماهية النسخ ، ثم برهن على أن الأحكام العملية للتوراة نسختها شريعة عيسى ، وأن لفظ النسخ موجود في كلام قديسيهم ، إلى غير ذلك من الأمور الهامة ، مبيناً أكاذيبهم في اختصاص الشريعة الإسلامية بالنسخ ، مبرهناً على أن النسخ في اصطلاح الشريعة موجود مثله عند اليهود والنصارى .

    هـ - الباب الرابع : في إبطال التثليث . وهذا الباب ينقسم إلى مقدمة وثلاثة فصول :

    1 – المقدمة وهي كمدخل إلى الفصول الثلاثة يذكر فيها اثنتي عشرة قضية ، ككون التوراة مصرحاً فيها بتحريم عبادة غير الله وكتصريح العهد الجديد والقديم بأن الله ليس كمثله شيء ، وأن النصوص المتشابهة محمولة على هذا التنزيه ..

    2 – الفصل الأول في إبطال التثليث بالبراهين العقلية ، ويأتي على ذلك بسبعة براهين كلها دامغة في استحالة التثليث من الناحية العقلية .

    3 – الفصل الثاني في إبطال التثليث بأقوال المسيح ، ويأتي فيه باثني عشر قولاً عن السيد المسيح من الإنجيل الحالي ، كلها تثبت أن المسيح دعا إلى التوحيد الخالص وأنه رسول فقط وكمثال :

    أ – من إنجيل يوحنا إصحاح سابع جملة (3) وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته .

    ب – في الباب التاسع عشر من إنجيل متى هكذا .. (16) وإذا واحد تقدم ، وقال له : أيها المعلم الصالح أي صلاح أعمل لتكون لي الحياة الأبدية ؟ (17) فقال له : لماذا تدعوني صالحاً ؟ ليس أحد صالحاً إلا واحد وهو الله .

    4 – الفصل الثالث في مناقشة النصوص الإنجيلية التي يتمسك بها المثلثون ، وإثبات أن فهمهم لها خاطئ هذا على فرض ثبوتها ، ومن المؤكد تاريخياً بطلان بعضها .

    فمثلاً يعتمدون على إطلاق كلمة ابن الله في الإنجيل على مرادهم مع الإنجيل نفسه يطلقها على كل صالح " طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناءالله يدعون " إنجيل متى باب خامس (44) " وصلوا لأجل الذين يسبونكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات " (45) نفس المصدر " لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني " يوحنا باب 8-42 .

    وهكذا يثبت أن كل نص حملوه على التثليث قد استعمله المسيح على غير ما فهموه في خطاب الناس حتى لا يبقى مجال لمتشكك .

    و – الباب الخامس : أثبت فيه أن القرآن من عند الله باثني عشر وجهاً ، وكل وجه كاف لإقامة الحجة ، وناقش الشبهات التي يذكرها بعض المبشرين ، وتحدث بعد ذلك عن السنة وثبوتها ، وبرهن على وجود الروايات اللسانية عند اليهود والنصارى التي سجلت متأخرة مع ملاحظة جواز الكذب عليهم لأنهم يرون الكذب جائزاً في موضوع النقل إذا كان لصالح الشريعة . أما المسلمون فعلى عكس هذا تماماً ، والدارس لموضوع السنة يرى أن أدق نقد في العالم أو سيعرف هو نقد علماء السنة للوصول إلى الحديث الصحيح .

    ز – الباب السادس : أثبت فيه نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ودفع فيه كل مطعن توهمه هؤلاء القسس الذين هاجموا الإسلام وقسم الباب إلى فصلين :

    الفصل الأول : في إثبات النبوة وسلك فيه ستة سبل ، كل سبيل يؤدي إلى إقامة الحجة بأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله .

    1 – معجزاته .

    2 – أخلاقه .

    3 – كمال شريعته .

    4 – انتصاره .

    5 – حاجة الناس إليه وإلى شريعته .

    6 – تبشير الأنبياء السابقين عليه عن نبوته عليه الصلاة والسلام .

    الفصل الثاني : في دفع المطاعن التي يتوهمها المبشرون منافية لدعوى النبوة وهم يفعلون هذا مدعين أنهم مؤمنون بنصوص العهد القديم والجديد وأنبياء العهدين ، ولما كانوا مؤمنين بنصوص العهدين القديم والجديد فإنه يذكر المطاعن التي وجههوها إلى السيد الرسول صلى الله عليه وسلم . ويثبت أن رسل العهدين قد فعلوا مثلها أو أشد منها ؛ ويثبت أن بيتهم كله من زجاج ، وأن ما يذكرونه في العهدين في حق الرسل لا يليق بالمؤمنين العاديين فضلاً عن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم المبرئين عندنا من كل مذمة .

    ويبدأ الفصل في ذكر تصوراتهم الفاسدة في نصوصهم المحرفة عن الرسل ، وما يتكلمون في حقهم من الكلام القبيح . كنسبة الزنا إليهم والمعاصي ، ويأتي هنا بما لا يستطيع أحد أن يهضمه مما يجعل مقام الرسل وحاشاهم عرضة لسخرية الساخرين ؛ فإذا كان هذا مفهومهم الفاسد عن الرسل فبأي شيء يعترضون على محمد صلى الله عليه وسلم ولم يقع في : أدنى ما ذكروه عن رسلهم كذباً .

    ثم يذكر المطاعن ويرد عليها واحداً واحداً :

    المطعن الأول : في عملية الجهاد الإسلامي وكيف أنهم يرون أن ذلك متناف مع مقام الرسالة ، ويذكر للرد على هذا الطعن خمسة أمور .

    1 – حول استحقاق الكافرين العقاب من الله لهم في الدنيا والآخرة ، ويذكر ذلك عن كتبهم .

    2 – إن الأنبياء السابقين الذين ورد ذكرهم في العهد القديم قاتلوا الكفار وسبوا نساءهم وذراريهم ، ويأتي كدليل على ذلك بعشرات الشواهد من العهد القديم المعترف به عندهم .

    3 – إن الجهاد في الإسلام أرحم بما لا يقاس بما يذكرونه في كتبهم عن عمليات القتال السابقة .

    4 – إن عملية الجهاد عندنا لا تعني الإكراه على الدخول في الإسلام ولكن تاريخهم هم وخاصة النصارى مليء بجرائم الإغارة على عقائد البشر وإكراههم ، ويذكر من ذلك أمثلة تقشعر منها جلود الإنسان . محاكم التفتيش ، مذابحهم الفظيعة ؛ طريقتهم القذرة في الحرب ، وطريقتنا الرحيمة . إن التاريخ كله ضدهم وكله معنا .

    5 – يتحدث عن الجهاد في الشريعة الإسلامية .

    المطعن الثاني : إن محمداً لم تظهر على يده معجزة فلذلك هو ليس نبياً ، ويرد على هذا ، أولاً : يثبت من كتبهم أنه ليس مشروطاً عندهم وجود المعجزة للنبي فحتى على صحة دعواهم فليس هذا مطعنا بالنسبة لعقيدتهم ، ولكن الحقيقة غير ذلك فإن معجزات محمد صلى الله عليه وسلم أكثر من معجزات أي رسول ويثبت هذا .

    المطعن الثالث : موضوع زواجه صلى الله عليه وسلم بكثيرات وخاصة بزينب وتحريم زواج زوجاته بعد وفاته ويرد على هذا الكلام بثمانية مقاطع :

    1 – إن الأنبياء الذين يعترفون على نبوتهم في الكتب المعتبرة عندهم تزوجوا أكثر من عدد زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم بكثير فما أحله الله لرسوله حلال وما حرم حرام .

    2 – إن قصة زواجه بزينب كما يوردونها باطلة لا أساس لها ، وقد ذكرت في القرآن ، والسنة الصحيحة على خلاف ما أوردوه ونقلوه .

    3 – إن التحريم والتحليل بيد الله ، ولذلك نجد شيئاً تقصه كتب العهدين فعله أنبياء سابقون وحرمه أنبياء لاحقون ، وإذ ثبت أن القرآن وحي من الله فما أحله حلال وما حرمه حرام ، ورسول الله لم يفعل ما حرمه الله .

    4 – إن هؤلاء يطعنون بمحمد صلى الله عليه وسلم وما خالف لله أمراً مما ذكر في القرآن وينسون أن كتبهم تذكر عن رسلهم كذباً أنهم خالفوا الوحي الذي نزل عليهم .

    5 – يذكر في هذا المقطع أموراً فظيعة مذكورة في كتبهم تجرح مقام عيسى وحوارييه وحاشاهم من كلام هؤلاء الأتباع المارقين ، وكذلك مما حدث في تاريخ كنائسهم من الإثم والزنى والفجور مما لا يطيق أحد أن يسمعه أفيطعنون بعد ذلك علينا وبماذا ؟ ونحن أطهر أهل أرض ذيلاً .

    6 – خطؤهم في فهم بعض الآيات القرآنية .

    7 – إذا صدر للنبي أمر ولم يفعله يكون عاصياً ، أما إذا فعل شيئاً مباحا ًله في الأصل فلا حرج فإذا ما أطاع الرسول الله فلا مأخذ عليه .

    8 – يذكرون في كتبهم أن هوشع النبي أمره الله أن يتزوج زانية وأن يتعشق بامرأة فاسقة محبوبة لزوجها ( وحاشاه ) وأمثال هذا كثير في كتبهم ويذكر بعضاً منه فكيف ينكرون على محمد صلى الله عليه وسلم زواجه بزينب بعد طلاقها من زوجها وانتهاء عدتها بأمر الله ؛ ويذكر في ذلك أن كتبهم تذكر أن الله خص بعض أنبيائه بأمور خصوا بها عن غيرهم ، تجوز لهم ولا تجوز لغيرهم ، ومحمد رسول الله ، فإذا خص بحكم فأي وجه المطعن عليه مع ملاحظة تفرده بكل كمال مما لا تتطاول إليه أعناق الرجال .

    المطعن الرابع : يدعون فيه أن محمداً أذنب والمذنب لا يكون رسولاً ، ويرد على كلامهم بخمسة مقاطع يثبت فيها عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم عن الذنب وأنه لم يرتكب ذنباً قط .

    وبذلك ينتهي الكتاب . والكتاب في الحقيقة أنفس كتاب – في علمنا – ناقش الديانتين النصرانية واليهودية نقاشاً دقيقاً في النصوص والمضمون معتمداً على كلام علمائهم نفسه ؛ وفي تصورنا أن أي منصف من أتباع الديانتين يطلع على الكتاب كله مضطر لنبذ دينه والدخول في الإسلام .

    نبدأ بنقل الجزء المتعلق بالبشارات من الفصل الأول من الباب السادس لأنه هو المقصود هنا ، مع ملاحظة أننا حذفنا بعض مقاطع من فقراته لم نجد ضرورة لنقلها والمكان الذي تم فيه حذف نشير إليه بثلاث نقاط وكل ما نذكره هنا هو كلامه بنصه :

    قال في المسلك السادس من مسالكه لإثبات نبوة محمد عليه الصلاة والسلام تحت عنوان : إخبار الأنبياء المتقدمين عليه عن نبوته عليه الصلاة والسلام ما يلي :

    ولما كان القسيسون يغلّظون العوام في هذا الباب تغليظاً عظيماً استحسنت أن أقدم على نقل تلك الأخبار أموراً ثمانية تفيد للناظر بصيرة .

    الأمر الأول : إن الأنبياء الإسرائيليين مثل أشعيا وأرميا ودانيال وحزقيال وعيسى عليه السلام ، أخبروا عن الحوادث الآتية كحادثة بختنصر وقورش وإسكندر وخلفائه ، وحوادث أرض آدوم ومصر ونينوى وبابل ، ويبعد كل البعد أن لا يخبر أحد منهم عن خروج محمد الذي كان وقت ظهوره ، كأصغر البقول ، ثم صار شجرة عظيمة تتآوى طيور السماء في أغصانها ، فكسر الجبابرة والأكاسرة ، وبلغ دينه شرقاً وغرباً ، وغلب الأديان وامتد دهراً بحيث مضى على ظهوره مدة ألف ومائتين وثمانين إلى هذا الحين ، ويمتد إن شاء الله إلى آخر بقاء الدنيا ، وظهر في أمته ألوف أولف من العلماء الربانيين ، والحكماء المتقين ، والأولياء ذوي الكرامات والمجاهَدَات والسلاطين العظام ، وهذه الحادثة كانت أعظم الحوادث ، وما كانت أقل من حادثة أرض آدوم ونينوى وغيرهما فكيف يجوّز العقل السليم أنهم أخبروا عن الحوادث الضعيفة وتركوا الإخبار عن الحادثة العظيمة .

    الأمر الثاني : أن النبي المقدم إذا أخبر عن النبي المتأخر لا يشترط في إخباره أن يخبر بالتفصيل التام بأنه يخرج من القبيلة الفلانية في السنة الفلانية في البلد الفلاني ، وتكون صفته كيت وكيت ، بل يكون هذا الإخبار في غالب الأوقات مجملاً عند العوام ، وأما عند الخواص فقد يصير جلياً بواسطة القرائن ، وقد يبقى خفياً عليهم أيضاً لا يعرفون مصداقه إلا بعد ادعاء النبي اللاحق أن النبي المتقدم أخبر عني ، وظهور صدق ادعائه بالمعجزات وعلامات النبوة ، وبعد الادعاء وظهور صدقه يصير جلياً عندهم بلا ريب ، ولذلك يعاتبون ، كما عاتب المسيح عليه السلام علماء اليهود بقوله ( ويل لكم أيها الناموسيون ؛ لأنكم أخذتم مفتاح المعرفة ، ما دخلتم أنتم والداخلون منعتموهم ) كما هو مصرح به في الباب الحادي عشر من إنجيل لوقا .

    الأمر الثالث : ادعاء أن أهل الكتاب ما كانوا ينتظرون نبياً آخر غير المسيح وإيلياء ادعاء باطل لا أصل له ، بل كانوا منتظرين لغيرهما أيضاً لما علمت في الأمر الثاني أن علماء اليهود المعاصرين لعيسى عليه السلام سألوا يحيى – عليه السلام – أولاً : أنت المسيح ؟ ولما أنكر سألوه : أنت إيلياء : ولما أنكر سألوه : أنت النبي ؟ أين النبي المعهود الذي خبر به موسى ، فعلم أن هذا النبي كان منتظراً مثل المسيح وإيلياء وكان مشهوراً بحيث ما كان محتاجاً إلى ذكر الاسم ، بل الإشارة إليه كانت كافية . وفي الباب السابع من إنجيل يوحنا بعد نقل قولعيسى عليه السلام هكذا 40 : فكثيرون من الجمع لما سمعوا هذا الكلام قالوا : هذا بالحقيقة هو النبي 41 ( وآخرون قالوا : هذا هو المسيح ) وظهر من هذا الكلام أيضاً أن النبي المعهود عندهم غير المسيح ولذلك قابلوه بالمسيح .

    الأمر الرابع : ادعاء أن المسيح خاتم الأنبياء ولا نبي بعده باطل لما عرفت في الأمر الثالث أنهم كانوا منتظرين للنبي المعهود الآخر الذي يكون غير المسيح وإيلياء عليهما السلام ولما لم يثبت بالبرهان مجيئه قبل المسيح فهو بعده وقد يتمسكون لإثبات هذا الادعاء بقول المسيح المنقول في الآية الخامسة عشر من الباب السابع من إنجيل متى هكذا ( احترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب الحملان ولكنهم من داخل ذئاب خاطفة ) والتمسك به عجيب لأن المسيح عليه السلام أمر بالاحتراز من الأنبياء الكذبة لا الأنبياء الصدقة أيضاً ولذلك قيد بالكذبة . نعم لو قال احترزوا من كل نبي يجيء بعدي لكان بحسب الظاهر وجه للتمسك .. فمقصود المسيح عليه السلام التحذير من هؤلاء الأنبياء الكذبة والمسحاء الكذبة لا من الأنبياء الصادقين أيضاً ولذلك قال بعد القول المذكور في الباب السابع ( من ثمارهم تعرفونهم هل يجتنون من الشوك عنباً أو من الحسك تيناً ) ومحمد صلى الله عليه وسلم من الأنبياء الصاقين كما تدل عليه ثماره على ما عرفت في المسالك المتقدمة .

    الأمر الخامس : الإخبارات التي نقلها المسيحيون في حق عيسى عليه السلام لا تصدق عليه على تفاسير اليهود وتأويلاتهم ، ولذلك هم ينكرونه أشد الإنكار ، وعلماء المسيحية لا يلتفتون في هذا الباب إلى تفاسيرهم وتأويلاتهم ويفسرونها ويؤولونها بحيث تصدق في زعمهم على عيسى عليه السلام . قال صاحب ميزان الحق في الفصل الثالث من الباب الأول في الصفحة 46 من النسخة الفارسية المطبوعة سنة 1849 ( المعلمون القدماء من الملة المسيحية ادعوا أن هذه الدعوى الصحيحة فقط : إن اليهود أوَّلوا الآيات التي كانت إشارة إلى يسوع المسيح بتأويلات غير صحيحة وغير لائقة وبينوها خلاف الواقع ) انتهى . وقوله ادعوا هذه الدعوة الصحيحة فقط غلط يقيناً ، لأن المعلمين القدماء كما ادعوا هذه الدعوى ادعوا أن اليهود حرفوا الكتب تحريفاً لفظياً كما عرفت في الباب الثاني . لكني أقطع النظر عن هذا وأقول : كما أن تأويلات اليهود في الآيات المذكورة مردودة غير صحيحة وغير لائقة عند المسيحيين ، كذلك تأويلات المسيحيين في الإخبارات التي هي في حق محمد صلى الله عليه وسلم مردودة غير مقبولة عندنا . وسترى أن الإخبارات التي ننقلها في حق محمد صلى الله عليه وسلم أظهر صدقاً من الإخبارات التي نقلها الإنجيليون في حق عيسى عليه السلام . فلا بأس علينا إن لم نلتفت إلى تأويلاتهم الفاسدة . وكما أن اليهود ادعوا في حق بعض الاختبارات التي هي في حق عيسى عليه السلام على زعم المسيحيين أنها في حق مسيحهم المنتظر أو في حق غيره أو ليست في حق أحد ، والمسيحيون يدعون أنها في حق عيسى عليه السلام ولا يبالون بمخالفتهم . فهكذا نحن لا نبالي بمخالفة المسيحيين في حق بعض الإخبارات التي هي في حق محمد صلى الله عليه وسلم ولو قالوا إنها في حق عيسى عليه السلام . فادعاؤنا أحق من ادعائهم ...

    الأمر السادس : أن أهل الكتاب سلفاً وخلفاً عادتهم جارية بأنهم يترجمون غالباً الأسماء في تراجمهم ويوردون بدلها معانيها ، وهذا خبط عظيم ومنشأ للفساد وأنهم يزيدون تارة شيئاً بطريق التفسير في الكلام الذي هو كلام الله في زعمهم ، ولا يشيرون إلى الامتياز ، وهذا الأمران بمنزلة الأمور العادية عندهم ومن تأمل في تراجمهم المتداولة بألسنة مختلفة وجد شواهد تلك الأمور الكثيرة .

    وإذا عرفت هذه الأمور الستة أقول : إن الإخبارات الواقعة في حق محمد صلى الله عليه وسلم توجد كثيرة إلى الآن أيضاً ، مع وقوع التحريفات في هذه الكتب ومن عرف أولاً طريق إخبار النبي المتقدم عن النبي المتأخر على ما عرف في الأمرالثاني جزم بأن الإخبارات المحمدية في غاية القوة . وأنقل في هذا المسلك عن الكتب المعتبرة عند علماء بروتستنت ثماني عشرة بشارة .

    البشارة الأولى :

    ( في الباب الثامن عشر من سفر الاستثناء هكذا : 17 فقال الرب لي نعم جميع ما قالوا 18 . وسوف أقيم لهم نبياً مثلك من بين إخوتهم وأجعل كلامي في فمه ويكلمهم بكل شيء آمره به 19 – ومن لم يطع كلامه الذي يتكلم به باسمي فأنا أكون المنتقم من ذلك 20 – فأما النبي الذي يجترئ بالكبرياء ويتكلم في اسمي ما لم آمره به أن يقوله أم باسم آلهة غيري فليقتل 21 – فإن أحببت وقلت في قلبك كيف أستطيع أن أميز الكلام الذي لم يتكلم به الرب فهذه تكون لك آية : إن ما قاله ذلك النبي في اسم الرب ولم يحدث فالرب ما تكلم به بل ذلك النبي صورة في تعظيم نفسه ولذلك لا تخشاه ) . وهذه البشارة ليست بشارة يوشع عليه السلام كما يزعم الآن أحبار اليهود ولا بشارة عيسى عليه السلام كما زعم علماء بروتستنت بل هي بشارة محمد صلى الله عليه وسلم لعشرة أوجه .

    الوجه الأول : قد عرفت في الأمر الثالث أن اليهود المعاصرين لعيسى عليه السلام كانوا ينتظرون نبياً آخر مبشراً به في هذا الباب ، وكان هذا المبشر به عندهم غير المسيح ، فلا يكون هذا المبشر به يوشع ولا عيسى عليهما السلام .

    الوجه الثاني : أنه وقع في هذه البشارة لفظ مثلك ، ويوشع وعيسى عليهما السلام لا يصح أن يكونا مثل موسى أما أولاً فلأنهما من بني إسرائيل ولا يجوز أن يقوم أحد من بني إسرائيل مثل موسى كما تدل عليه الآية العاشرة من الباب الرابع والثلاثين من سفر الاستثناء وهي هكذا : ( ولم يقم بعد ذلك في بني إسرائيل مثل موسى يوفه الرب وجهاً لوجه ) فإن قام أحد مثل موسى بعده من بني إسرائيل يلزم تكذيب هذا القول ..

    الوجه الثالث : أنه وقع في هذه البشارة لفظ من بين إخوتهم ولا شك أن الأسباط الاثني عشر كانوا موجودين في ذلك الوقت مع موسى عليه السلام حاضرين عنده ، فلو كان المقصود كون النبي المبشر به منهم قال منهم لا من بين إخوتهم ، لأن الاستعمال الحقيقي لهذا اللفظ أن لا يكون المبشر به له علاقة الصلبية والبطنية ببني إسرائيل ؛ كما جاء لفظ الإخوة بهذا الاستعمال الحقيقي في وعد الله هاجر في حق إسماعيل عليه السلام في الآية الثانية عشر من الباب السادس عشر من سفر التكوين وعبارتها في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1844 هكذا ( وقبالة جميع إخوته ينصب المضارب ) وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1811 هكذا ( بحضرة جميع إخوته يسكن ) وجاء بهذا الاستعمال أيضاً في الآية الثامنة عشر من الباب الخامس والعشرين من سفر التكوين في حق إسماعيل في الترجمة العربية المطبوع سنة 1844 هكذا ( منتهى إخوته جميعهم سكن ) وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1811 هكذا ( أقام بحضرة جميع أخوته ) والمراد بالأخوة ههنا بنو عيسو وإسحاق وغيرهم من أبناء إبراهيم عليه السلام . وفي الباب الثاني من سفر الاستثناء هكذا . ( وقال لي الرب 4 ثم أوص الشعب أنكم ستجوزون في تخوم إخوتكم بني عيسو والذين في ساعير وسيخشونكم فلما جزنا إخوتنا بني عيسو الذين يسكنون ساعير إلخ ) والمراد بإخوة بني إسرائيل بنو عيسى ولا شك أن استعمال لفظ إخوة بني إسرائيل في بعض منهم كما جاء في بعض المواضع من التوراة استعمال مجازي ولا تترك الحقيقة ولا يصار إلى المجاز ما لم يمنع عن الحمل على المعنى الحقيقي مانع قوي . ويوشع وعيشى عليهما السلام كانا من بني إسرائيل فلا تصدق هذه البشارة عليهما .

    الوجه الرابع : أنه وقع في هذه البشارة لفظ " سوف أقيم " ويوشع عليه السلام كان حاضراً عند موسى داخلاً في بني إسرائيل نبياً في هذا الوقت فكيف يصدق عليه هذا اللفظ .

    الوجه الخامس : أنه وقع في هذه البشارة لفظ ( أجعل كلامي في فمه ) وهو إشارة إلى أن ذلك النبي ينزل عليه الكتاب ، وإلى أنه يكون أمياً حافظاً للكلام ، وهذا لا يصدق على يوشع عليه السلام لانتفاء كلا الأمرين فيه .

    الوجه السادس : أنه وقع في هذه البشارة ( ومن لم يطع كلامه الذي يتكلم به فأنا أكون المنتقم من ذلك ) فهذا الأمر لما ذكر لتعظيم هذا النبي المبشر به فلا بد أن يمتاز ذلك المبشر بهذا الأمر عن غيره من الأنبياء فلا يجوز أن يراد بالانتقام من المنكر العذاب الأخروي الكائن في جهنم أو المحن والعقوبات الدنيوية التي تلحق المنكرين من الغيب ، لأن هذا الانتقام لا يختص بإنكار نبي دون نبي بل يعم الجميع فحينئذ يراد بالانتقام الانتقام التشريعي ، فظهر منه أن هذا النبي يكون مأموراً من جانب الله بالانتقام من منكره ولا يصدق على عيسى عليه السلام لأن شريعته خالية من أحكام الحدود والقصاص والتعزير والجهاد .

    الوجه السابع : في الباب الثالث من كتاب الأعمال في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1844 هكذا : ( 19 فتوبوا وارجعوا كي تمحى خطاياكم 30 – حتى إذا تأتي أزمنة الراحة من قدام وجه الرب ويرسل المنادي به لكم وهو يسوع المسيح 21 – الذي إياه ينبغي للسماء أن تقبله إلى الزمان الذي يسترد فيه كل شيء تكلم به الله على أفواه أنبيائه القديسين منذ الدهر 22 – أن موسى قال إن الرب إلهكم يقيم لكم نبياً من إخواتكم مثلي له تسمعون في كل ما يكلمكم به – 23 – ويكون كل نفس لا تسمع ذلك النبي تهلك من الشعب ) . فهذه العبارة سيما بحسب التراجم الفارسية تدل على صراحة أن هذا النبي غير المسيح عليه السلام وأن المسيح لا بد أن تقبله السماء إلى زمان ظهور هذا النبي ومن ترك التعصب الباطل من المسيحيين وتأمل في عبارة بطرس ظهر له أن هذا القول من بطرس يكفي لإبطال ادعاء علماء بروتستنت . إن هذه البشارة في حق عيسى عليه السلام وهذه الوجوه السبعة التي ذكرتها تصدق في حق محمد صلى الله عليه وسلم على أكمل وجه لأنه غير المسيح عليه السلام ويماثل موسى عليه السلام في أمور كثيرة 1 – كونه عبد الله ورسوله 2 – كونه ذا الوالدين 3 – كونه ذا نكاح وأولاد 4 – كون شريعته مشتملة على السياسات المدنية 5 – كونه مأموراً بالجهاد 6 – اشتراط الطهارة وقت العبادة في شريعته 7 – وجوب الغسل للجنب والحائض والنفساء في شريعته 8 – اشتراط طهارة الثوب من البول والبراز 9 – حرمة غير المذبوح وقرابينالأوثان 10 – كون شريعته مشتملة على العبادات البدنية والرياضات الجسمانية 11 – أمره بحد الزنا 12 – تعيين الحدود والتعزيرات والقصاص 13 – كونه قادراً على إجرائها 14 – تحريم الربا 15 – أمره بإنكار من يدعو إلى غير الله 16 – أمره بالتوحيد الخالص 17 – أمره الأمة بأن يقولوا له عبد الله ورسوله لا ابن الله أو الله والعياذ بالله 18 – موته على الفراش 19 – كونه مدفوناً كموسى 20 – وعدم كونه ملعوناً لأجل أمته . وهكذا أمور أخر تظهر إذا تؤمل في شريعتهما ولذلك قال الله تعالى في كلامه المجيد : {إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً} ( المزمل : 15 ) وكان من إخوة بني إسرائيل لأنه من بني إسماعيل وأنزل عليه الكتاب وكن أُمياً جعل كلام الله في فمه وكان ينطق بالوحي كما قال الله تعالى : {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} ( النجم 3 ، 4 ) وكان مأموراً بالجهاد وقد انتقم الله لأجله من صناديد قريش والأكاسرة والقياصرة وغيرهم وهر قبل نزول المسيح ...

    الوجه الثامن : أنه صرح في هذه البشارة بأن النبي الذي ينسب إلى الله ما لم يأمره يقتل ، فلو لم يكن محمد صلى الله عليه وسلم نبياً حقاً لكان يقتل ، وقد قال الله في القرآن المجيد أيضاً {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} ( الحاقة 44 – 46 ) . وما قتل بل قال الله في حقه {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} ( المائدة : 67 ) .

    الوجه التاسع : أن الله بين علامة النبي الكاذب أن إخباره عن الغيب المستقبل لا يخرج صادقاً . ومحمد صلى الله عليه وسلم أخبر عن الأمور الكثيرة المستقبلية كما علمت .. وظهر صدقه فيها ، فيكون نبياً صادقاً لا كاذباً .

    الوجه العاشر : أن علماء اليهود سلموا كونه مبشراً به في التوراة ولكن بعضهم أسلم وبعضهم بقي في الكفر ...

    البشارة الثانية :

    الآية الحادية والعشرون من الباب الثاني والثلاثين من سفر الاستثناء هكذا : ( هم أغاروني بغير إله وأغضبوني بمعبوداتهم الباطل وأنا أيضاً أغيرهم بغير شعب ؛ وبشعب جاهل أغضبهم ) . والمراد بشعب جاهل العرب ، لأنهم كانوا في غاية الجهل والضلال وما كان عندهم علم لا من العلوم الشرعية ، ولا من العلوم العقلية ، وما كانوا يعرفون سوى عبادة الأوثان والأصنام ، وكانوا محقرين عند اليهود لكونهم من أولاد هاجر الجارية ، فمقصود الآية أن بني إسرائيل أغاروني بعبادة المعبودات الباطلة ، فأغيرهم باصطفاء الذين هم عندهم محقرون وجاهلون فأوفى بما وعد ، فبعث من العرب النبي صلى الله عليه وسلم فهداهم إلى الصراط المستقيم كما قال الله تعالى في سورة الجمعة : {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} ( الجمعة : 2 ) وليس المراد بالشعب اجاهل اليونانيين كما يفهم من ظاهر كلام مقدسهم بولس في الباب العاشر من الرسالة الرومية لأن اليونانيين قبل ظهور عيسى عليه السلام بأزيد من ثلثمائة سنة كانوا فائقين على أهل العالم كلهم في العلوم والفنون ، وكان جميع الحكماء المشهورين مثل سقراط وبقراط وفيثاغورث وافلاطون وأرسطاطاليس وأرشمديس وبليناس وإقليدس وجالينوس وغيرهم الذين كانوا أئمة الرياضيات والطبيعيات وفروعها قبل عيسى عليه السلام ، وكان اليونانيون في عهده على غاية درجة الكمال في فنونهم وكانا واقفين على أحكام التوراة وقصصها وسائر كتب العهد العتيق أيضاً بواسطة ترجمة سبتوجنت التي ظهرت باللسان اليوناني قبل المسيح بمقدار مائتين وست وثمانين سنة ، لكنهم ما كانوا معتقدين للملة الموسوية وكانوا متفحصين عن الأشياء الحكمية الجديدة ..

    البشارة الثالثة :

    في الباب الثالث والثلاثين من سفر الاستثناء في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1844 هكذا ( وقال جاء الرب من سيناء وأشرق لنا من ساعير واستعلن من جبل فاران ومعه ألوف الأطهار في يمينه سنة من نار ) فمجيئه من سيناء إعطاؤه التوراة لموسى عليه السلام ، وإشراقه من ساعير إعطاؤه الإنجيل لعيسى عليه السلام ، واستعلائه من جبل فاران إنزاله القرآن لأن فاران جبل من جبال مكة ، في الباب الحادي والعشرين من سفر التكوين في حال إسماعيل عليه السلام هكذا 20 – ( وكان الله معه ونما وسكن في البرية وصار شاباً يرمي بالسهام 21 – وسكن برية فاران ) ولا شك أن إسماعيل عليه السلام كان سكونته بمكة ولا يصح أن يراد أن النار لما ظهرت من طور سيناء ظهرت من ساعير ومن فاران أيضاً فانتشرت في هذه المواضع لأن الله لو خلق ناراً في موضع لا يقال جاء الله من ذلك الموضع إلا إذا اتبع تلك الواقعة وحي نزل في ذلك الموضع أو عقوبة أو ما أشبه ذلك وقد اعترفوا أن الوحي اتبع تلك في طور سيناء فكذا لا بد أن يكون في ساعير وفاران .

    البشارة الرابعة :

    في الآية العشرين من الباب السابع عشر من سفر التكوين وعد الله في حق إسماعيل عليه السلام لإبراهيم عليه السلام في الترجمة المطبوعة سنة 1844 هكذا ( وعلى إسماعيل استجيب لك هوذا أباركه وأكبّره وأكثره جداً فسيلد اثني عشر رئيساً وأجعله لشعب كبير ) . وقوله أجعله لشعب كبير يشير إلى محمد صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن في ولد إسماعيل من كان لشعب كبير غيره ؛ وقد قال الله تعالى ناقلاً دعاء إبراهيم وإسماعيل في حقه – عليهم السلام – في كلامه المجيد أيضاً : {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} البقرة : 129 .

    البشارة الخامسة :

    الآية العاشرة من الباب التاسع والأربعين من سفر التكوين هكذا كما في الترجمة العربية سنة 1722 وسنة 1831 وسنة 1844 - .

    ( فلا يزول القضيب من يهوذا والمدبر من تحت فخذه حتى يجيء الذي هو له وإليه تجتمع الشعوب ) .

    " يذكر المؤلف هنا كلاماً طويلاً محتواه أن القضيب هنا لا يفسر إلا بالنبوة ويفند كل تفسير آخر مستشهداً بالتاريخ والوقائع المذكورة في كتب اليهود والنصارى أنفسهم ومقتضى كلامه أن الذي له الكل وإياه تنتظر الأمم لا بد أن يكون محمد عليه الصلاة والسلام ولا يصح أن يفسر به غيره لأنه لو فسرنا أن المقصود بذلك المسيح لكان فهمنا متناقضاً مع النص إذ المسيح من آل إسرائيل ومن ذريته والكلام هنا عن نبوة تخرج عن ذرية إسرائيل تجتمع إليه الشعوب من غيرهم وليس ذلك لغير محمد عليه الصلاة والسلام " .

    البشارة السادسة :

    في الزبور الخامس والأربعين هكذا :
    ( فاض قلبي كلمة صالحة أنا أقول أعمالي للملك (1) لساني قلم كاتب سريع الكتابة (2) بهي في الحسن أفضل من بني البشر (3) انسكبت النعمة على شفتيك لذلك باركك الله إلى الدهر (4) تقلد سيفك على فخذك أيها القوي بحسنك وجمالك (5) إستلّه وانجح واملك من أجل الحق والدعة والصدق وتهديك بالعجب يمينك (6) نبلك مسنونة أيها القوي في قلب أعداء الملك الشعوب تحتك يسقطون (7) كرسيك يا الله إلى دهر الداهرين عصا الاستقامة عصا ملكك (8) أحببت البر وأبغضت الإثم لذلك مسحك الله إلهك بدهن الفرح أفضل من أصحابك (9) المر والميعة والسليخة من ثيابك من منازلك الشريفة العاج التي أبهجتك (10) بنات الملوك في كرامتك قامت الملكة من عن يمينك مشتملة بثوب ذهب موشى (11) اسمعي يا نت وانظري وأنصتي بأذنيك شعبك وبنت أبيك (12) فيشتهي الملك حسنك لأنه هو الرب إلهك وله تسجدين (13) بنات صور يأتينك بالهدايا لوجهك يصلي كل أغنياء البشر (14) كل مجد ابنة الملك من داخل مشتملة بلباس الذهب الموشى (15) يبلغن إلى الملك عذارى في أثرها قريباتها إليك يقدمن (16) يبلغن بفرح وابتهاج يدخلن إلى هيكل الملك (17) ويكون بنوك عوضاً من آبائك وتقيمهم رؤساء على سائر الأرض (18) سأذكر اسمك في كل جيل وجيل من أجل ذلك تعترف لك الشعوب إلى الدهر وإلى الدهر الداهرين ) ا هـ . وهذا الأمر مسلم عند أهل الكتاب أن داود عليه السلام يبشر في هذا الزبور بنبي يكون ظهوره بعد زمانه ولم يظهر إلى هذا الحين عند اليهود نبي يكون موصوفاً بالصفات المذكورة في هذا الزبور ويدعي علماء بروتستنت أن هذا النبي عيسى عليه السلام ويدعي أهل الإسلام سلفاً وخلفاً أن هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم فأقول إنه ذكر في هذا الزبور من صفات النبي المبشر به هذه الصفات 1 – كونه حسناً 2 – كونه أفضل البشر 3 – كون النعمة منسكبة على شفتيه 4 – كونه مباركاً إلى الدهر 5 – كونه متقلداً بالسيف 6 – كونه قوياً 7 – كونه ذا حق ودعة وصدق 8 – كونه هداية يمينه بالعجب 9 – كون نبله مسنونة 10 – سقوط الشعب تحته 11 – كونه محباً للبر ومبغضاً للإثم 12 – خدمة بنات الملوك إياه 13 – إتيان الهدايا إليه 14 – انقياد كل أغنياء الشعب له 15 – كون أبنائه رؤساء الأرض بدل آبائهم 16 – كون اسمه مذكوراً جيلاً بعد جيل 17 – مدح الشعوب إياه إلى دهر الداهرين . وهذه الأوصاف كلها توجد في محمد صلى الله عليه وسلم على أكمل وجه . أما الأول فلأن أبا هريرة رضي الله عنه قال : ( ما رأيت شيئاً أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن الشمس تجري في وجهه ) . وعن أم معبد رضي الله عنها قالت في بعض ما وصفته به : ( أجمل الناس من بعيد وأحلاهم وأحسنهم من قريب ) وأما الثاني فلأن الله تعالى قال في كلامه المحكم {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} البقرة : 253 . وقال أهل التفسير أراد بقوله {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} محمداً صلى الله عليه وسلم أي رفعه على سائر الأنبياء من وجوه متعددة وقد أشبع الكلام في تفسير هذه الآية الإمام الهمام الفخر الرازي في تفسيره الكبير . وقال صلى الله عليه وسلم : " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر " أي لا أقول ذلك فخراً لنفسي بل تحدثاً بنعمة ربي . وأما الثالث فغير محتاج إلى البيان ، حتى أقر بفصاحته الموافق والمخالف ، وقال الرواة في وصف كلامه إنه كان أصدق الناس لهجة فكان من الفصاحة بالمحل الأفضل والموضع الأكمل . وأما الرابع فلأن الله تعالى قال {إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} وألوف ألوف من الناس يصلون عليه في الصلوات الخمس . وأما الخامس فظاهر وقد قال هو بنفسه أنا رسول الله بالسيف . وأما السادس فكانت قوته الجسمانية على الكمال . وأما شجاعته فقد قال ابن عمر رضي الله عنهما ( ما رأيت أشجع ولا أنجد ولا أجود من رسول الله صلى الله عليه وسلم ) وقال علي كرم الله وجهه ( وإنا كنا إذا حمي البأس واحمرت الحدق اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه ولقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدو وكان من أشد الناس يومئذ بأساً ) . وأما السابع فلأن الأمانة والصدق من الصفات الجليلة له صلى الله عليه وسلم كما قال النضر بن الحارث لقريش : ( قد كان محمد فيكم غلاماً حدثاً أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثاً وأعظمكم أمانة حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم قلتم إنه ساحر لا والله ما هو بساحر ) وسأل هرقل عن حال النبي صلى الله عليه وسلم أبا سفيان فقال : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ، قال :لا . وأما الثامن فلأنه رمى يوم بدر وكذا يوم حنين وجوه الكفار بقبضة فلم يبق مشرك إلا شغل بعينيه فانهزموا وتمكن المسلمون منهم قتلاً وأسراً فأمثال هذه من عجيب هداية يمينه . وأما التاسع فلأن كون أولاد إسماعيل أصحاب النبل في سالف الزمان غير محتاج إلى البيان وكان هذا الأمر مرغوباً له وكان يقول : " ستفتح عليكم الروم ويكفيكم الله فلا يعجز أحكم أن يلهو بأسهمه " ويقول : " ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً " ويقول عليه الصلاة والسلام : " من تعلم الرمي ثم تركه فليس منا " . وأما العاشر فلأن الناس دخلوا أفواجاً أفواجاً في دين الله في مدة حياته . وأما الحادي عشر فمشهور يعترف به المعاندون أيضاً كما عرفت في المسلك الثاني . وأما الثاني عشر فقد صارت بنات الملوك والأمراء خادمة للمسلمين في الطبقة الأولى ومنها شهريانو بنت يزدجر كسرى فارس كانت تحت الإمام الهمام الحسين رضي الله عنه . وأما الثالث عشر والرابع عشر فلأن النجاشي ملك الحبشة ومنذر بن ساوى ملك البحرين وملك عمان انقادوا وأسلموا ؛ وهرقل قيصر الروم أرسل إليه بهدية والمقوقوس ملك القبط أرسل إليه ثلاث جواري وغلاماً أسوداً وبغلة شهباء وحماراً أشهب وفرساً وثياباً وغيرها . وأما الخامس عشر فقد وصل من أبناء الإمام الحسن رضي الله عنه إلى الخلافة في أقاليم مختلفة من الحجاز واليمن ومصر والمغرب والشام وفارس والهند وغيرها ...

    أما السادس عشر والسابع عشر فلأنه ينادي ألوف أولف ، جيلاً بعد جيل في الأوقات الخمسة بصوت رفيع في أقاليم مختلفة " أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله " ويصلي عليه في الأوقات المذكورة غير المحصورة من المصلين والقراء يحفظون منشوره والمفسرون يفسرون معاني فرقانه , والوعاظ يبلغون وعظه . والعلماء والسلاطين يصلون إلى خدمته ويسلمون عليه من وراء الباب ( أي باب قبره عليه الصلاة والسلام ) .

    البشارة السابعة :

    وهي موجودة في الزبور المائة والتاسع والأربعين " لأن الرب يسر بشعبه ويشرّف المتواضعين بالخلاص ، تفتخر الأبرار بالمجد ويبتهجون على مضاجعهم ترفيع الله في حلوقهم وسيوف ذات فمين في أياديهم ، ليصنعوا انتقاماً في الأمم ، وتوبيخات في الشعوب ، ليقيدوا ملوكهم بالقيود ، وأشرافهم بأغلال من حديد ، ليضعوا بها حكماً محكتوماً هذا المجد يكون لجميع الأبرار " ... ( لم تتحقق هذه البشارة إلا بالمسلمين الذين فعلوا هذا باسم الله ولله ) وهذه هي :

    البشارة الثامنة :

    في الباب الثاني والأربعين من كتاب أشعيا هكذا :

    9 ( التي كانت أولاها قد أتت وأنا مخبرا أيضاً بأحداث قبل أن تحدث وأسمعكم إياها ) .

    10 ( سبحوا للرب تسبيحة جديدة حمده من أقاصي الأرض راكبين في البحر وملؤه الجزائر وسكانهن ) .

    11 ( يرتفع البرية ومدتها في البيوت نحل قيدار سبحوا يا سكان الكهف من رؤوس الجبال يصيحون ) .

    12 ( يجعلون للرب كرامة ، وحمده يخبرون به في الجزائر ) .

    13 ( الرب كجبار يخرج مثل رجل مقاتل يهوّش الغيرة ويصوت ويصيح على أعدائه يتقوى ) .

    14 ( سكت دائماً صمت صبرت صبراً فأتكلم مثل الطائفة ما بدد وابتلع معاً ) .

    15 ( أخرب الجبال والآكام وكل نباتهن أجفف وأجعل الأنهار جزائر والبحيرات أجففهن ) .

    16 ( وأقيد العمي في طريق لم يعرفوها والسبل لم يعلموا أسيرهم فيها أُصير أمامهم الظلمة نوراً والعقب سهلاً هذا الكلام صنعته لهم ولا أخذلهم ) .

    17 ( اندبورا إلى ورائهم والمتكلمون على المنحوتة القائلون للمسبوكة إنكم آلهتنا ليخزون خزياً ) وظهر من الآية التاسعة أن أشعيا عليه السلام أخبر أولاً عن بعض الأشياء ثم يخبر عن الأخبار الجديدة الآتية في المستقبل فالحال الذي يخبر عنه من هذه الآية إلى آخر الباب غير الحال الذي أخبر عنه قبلها ولذلك قال في الآية الثالثة والعشرين هكذا ( من هو بينكم إن يسمع هذا يصغى ويسمع الآية ) والتسبيحة الجديدة عبارة عن العبادة على النهج الجديد التي هي في الشريعة المحمدية وتعميمها على سكان أقاصي الأرض وأهل الجزائر وأهل المدن والبراري ، إشارة إلى عموم نبوته صلى الله عليه وسلم ولفظ قيدار أقوى إشارة إليه لأن محمدا صلى الله عليه وسلم في أولاد قيدار بن إسماعيل . وقوله من رؤوس الجبال يصيحون إشارة إلى العبادة المخصوصة التي تؤدي في أيام الحج يصيح ألوف ألوف من الناس لبيك اللهم لبيك .وقوله حمده – يخبرون به في الجزائر إشارة إلى الأذان يخبر به ألوف ألوف في أقطار العالم في الأوقات الخمسة بالجهر . وقوله ( الرب كجبار يخرج مثل رجل مقاتل يهوّش الغيرة ) يشير إلى مضمون الجهاد إشارة حسنة بأن جهاده وجهاد تابعيه يكون لله وبأمره خالياً عن حظوظ الهوى النفسانية ولذلك عبّر الله عن خروج هذا النبي وخروج تابعيه بخروجه وبيّن في الآية الرابعة عشر سبب مشروعية الجهاد وأشار في الآية السادسة عشر إلى حال العرب لأنهم كانوا غير واقفين على أحكام الله وكانوا يعبدون الأصنام ، وكانوا مبتلين بأنواع الرسوم القبيحة الجاهلية كما قال الله تعالى في حقهم {وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} وقوله ( لا أخذ لهم ) إشارة إلى كون أمته مرحومة {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضَّآلِّينَ} وإلى تأييد شريعته . وقوله ( والمتوكلون على المنحوتة القائلون للمسبوة إنكم آلهتنا ليخزون خزياً ) وعد بأن عبادي الأصنام والأوثان كمشركي العرب وعابدي الصليب وصور القديسين يحصل لهم الخزي والهزيمة التامة ، ووفى بما وعد فإن مشركي العرب وهرقل عظيم الروم وكسرى فارس ما قصّروا في إطفاء النور الأحمدي لكنهم ما حصل لهم سوى الخزي التام وعاقبة الأمر لم يبق أثر الشرك في إقليم العرب وزالت دولة كسرى مطلقاً وزالت حكومة أهل الصيب من الشام مطلقاً ، وأما في الأقاليم الأخر فمن بعضها انمحى أثره مطلقاً كبخارى وكابل وغيرهما ومن بعضها قل كالهند والسند وغيرهما وانتشر التوحيد شرقاً وغرباً .

    البشارة التاسعة :

    في الباب الرابع والخمسين من كتاب أشعيا هكذا : 1 ( سبحي أيتها العاقر التي لست تلدين ، أنشدي بالحمد ، وهللي التي لم تلدي من أجل أن الكثيرين من بني الوحشة أفضل من بني ذات رجل يقول الرب ) ، 2 ( أوسعي موضع خيمتك وسرادق مضاربك ابسطي شقق مساكنك طولي حباك ثبتي أوتادك ) 3 ( لأنك تنفيذين يمنة ويسرة زرعك يرث الأمم ويعمر المدن الخربة ) 4 ( لا تخافي لأنك لا تخزين ولا تخجلين فإنك لا تستحين من أجل أنك خزي صبائك تنسين وعار ترملك لا تذكرين أيضاً ) 5 ( فإنه يتولى عليك الذي صنعك رب الجنود اسمه وفاديك قدوس إسرائيل إله جميع الأرض يدعى ) 6 ( إنما الرب دعاك مثل الامرأة المطلقة والحزينة الروح وزوجة منذ الصبا مرذولة قال إلهك ) 7 ( لساعة في قليل تركتك وبرحمة عظيمة أجمعك ) 8 ( في ساعة الغضب أخفيت قليلاً وجهي عنك وبالرحمة الأبدية رحمتك قال فاديك الرب ) 9 ( مثلما في أيام نوح لي هذا الذي حلفت له أن لا أصب مياه نوح على الأرض هكذا حلفت أن لا أغضب عليك وأن لا أوبخك ) 10 ( فإن الجبال ترتجف والتلال تزلزل ورحمتي لا تزول عنك وعهد سلامي لا يتحرك قال رحيمك الرب ) 11 ( فقيرة مستأصلة بعاصفة بلا تعزية ها أنذا أبلط بالرتبةحجارتك وأونسك بالسفير .

    12 (وأجعل شُرَفَكِ ياقوتاً ، وأبوابك حارة منقوشة وجميع حدود الأحجار مشتهية ) 13 ( جميع بنيك متعلمين من الرب وكثرة السلام لبنيك ) 14 ( وبالبر تؤسسين فابتعدي من الظلم لأنك لا تخافين ومن الهيبة لأنها لا تقرب منك ) 15 ( ها يأتي الجار الذي لم يكن معي والذي قد كان قريباً يقترب منك ) 16 ( ها أنا ذا خلقت صائغاً الذي ينفخ في النار جمراً ويخرج إناء لعمله وأنا خلقت قتولاً للإهلاك ) 17 ( كل إناء مجبول ضدك لا ينجح وكل لسان يخالفك في القضاء تحكمين عليه هذا هو ميراث عبيد الرب وعدلهم عندي يقول الرب ) اهـ : فأقول : أن المراد بالعاقر في الآية الأولى مكة المعظمة لأنها لم يظهر منها نبي بعد إسماعيل ولم ينزل فيها وحي ، وهي بخلاف أورشليم لأنه ظهر فيها الأنبياء الكثيرون ، وكثر فيها نزول الوحي ، وبنو الوحشة عبارة عن أولاد هاجر لأنها كانت بمنزلة المطلقة المخرجة عن البيت ساكنة في البر ولذلك وقع في حق إسماعيل في وعد الله هاجر ( هذا سيكون إنساناً وحشياً ) كما هو مصرح به في الباب السادس عشر من سفر التكوين ، وبنو ذات رجل عبارة عن أولاد سارة فخاطب مكة الله آمراً لها بالتسبيح والتهليل وإنشاد الشكر لأجل أن كثيرين من أولاد هاجر صاروا أفضل من أولاد سارة فحصلت الفضيلة لها بسبب حصول الفضيلة لأهلها ، ووفى بما وعد بأن بعث محمدا صلى الله عليه وسلم رسولاً أفضل البشر خاتم النبيين من أهلها في أولاد هاجر . وهو المراد بالصائغ الذي ينفخ في النار جمراً ، وهو القتول الذي خلق لإهلاك المشركين ، وحصل لها السعة بواسطة هذا النبي ، وما حصل لغيرها من المعابد في الدنيا إذ لا يوجد في الدنيا معبد مثل الكعبة من ظهور محمد صلى الله عليه وسلم إلى هذا الحين ، والتعظيم الذي يحصل لها من القرابين فيك كل سنة من مدة ألف ومائتين وثمانين لم يحصل لبيت المقدس إلا مرتين في عهد سليمان عليه السلام لما فرغ من بنائه ومرة في السنة الثامنة عشر من سلطنة يوشيا ، ويبقى هذا التعظيم لمكة إلى آخر الدهر إن شاء الله كما وعد الله بقوله ، لا تخافي لأنك لا تخزين ولا تخجلين لأنك لا تستحيين ، وبقوله : برحمات عظيمة أجمعك وبالرحمة الأبدية رحمتك ، وبقوله حلفت أن لا أغضب عليك وأن لا أوبخك ، وبقوله رحمتي لا تزول عنك وعهد سلامي لا يتحرك ، وملك زرعها شرقاً وغرباً ، وورثوا الأمم وعبروا المدن في مدة قليلة لا تتجاوز اثنين وعشرين سنة من الهجرة ، ومثل هذه الغلبة في مثل هذه المدة القليلة لم يسمع من عهد آدم عليه السلام إلى زمان محمد عليه الصلاة والسلام لمن يدعي الدين الجديد ، وهذا مفاد قول الله : وزرعك يرث الأمم ، ويعمر المدن الخربة . سلاطين الإسلام سلفاً وخلفاً اجتهدوا اجتهاداً تاماً في بناء الكعبة والمسجد الحرام وتزيينهما وحفر الآبار والبراك والعيون في مكة ونواحيها والغرباء يحبون مجاورتها من ظهور الإسلام إلى هذا الحين سيّما في هذا الزمان ، وألوف من الناس يصلون إليها في كل سنة من أقاليم مختلفة ، وديار بعيدة ووفى بما وعد بقوله : " كل إناء مجبول بضدك لا ينجح " لأن كل شخص من المخالف قام بضدها أذله الله كما وقع بأصحاب الفيل ...

    البشارة العاشرة :

    في الباب الخامس والستين من كتاب أشعيا هكذا : 1 ( طلبني الذين لم يسألوني قبل ووجدني الذين لم يطلبوني قلت هاأنذا إلى الأمة الذين لم يدعوا باسمي ) 2 ( بسطت يدي طول النهار إلى شعب غير مؤمن الذي يسلك بطريق غير صالح وراء أفكارهم ) 3 ( الشعب الذي يغضبني أمام وجهي دائماً ) . ( الذين يذبحون في البساتين ويذبحون على اللبن ) 4 ( الذين يسكنون في القبور في مساجد الأوثان يرقدون الذين يأكلون لحم الخنزير والمرق المنجس في آنيتهم ) 5 ( الذين يقولون ابعد عني لا تقترب مني لأنك نجس هؤلاء يكونون دخاناً في رجزي ناراً متقدة طوال النهار ) 6 ( ها مكتوب قدامي لا أسكت بل أرد وأكافي جزاء في حضهم ) فالمراد بالذين لم يسألوني والذين لم يطلبوني العرب لأنهم كانوا غير واقفين على ذات الله وصفاته وشرائعه فما كانوا سائلين عن الله وطالبين له كما قال الله تعالى في سورة آل عمران {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} آل عمران : 164 . ولا يجوز أن يراد بهم اليونانيون كما عرفت في البشارة الثانية والوصف المذكور في الآية الثانية والثالثة يصدق على كل واحد من اليهود والنصارى ، والأوصاف المذكورة في الآية الرابعة ألصق بحال النصارى ، كما أن الوصف المذكور في الخامسة ألصق بحال اليهود ، فردّهم الباري واختار الأمة المحمدية .

    البشارة الحادية عشرة :

    في الباب الثاني من كتاب دانيال في حال الرؤيا التي رآها بختنتنصر ملك بابل ونسي ثم بين دانيال عليه السلام بحسب الوحي تلك الرؤيا وتفسيرها 31 ( فكنت أنت الملك ترى وإذ تمثال واحد جسيم وكان التمثال عظيماً ورفيع القامة واقفاً قبالك ومنظره مخوفاً ) 32 ( رأس هذا التمثال هو من ذهب إبريز والصدر والذراعان من فضة والبطن والفخذان من نحاس ) 33 ( والساقان من حديد والقدمان قسم منهما من حديد وقسم منهما من خزف ) 34 ( فكنت ترى هكذا حتى انقطع حجر من الجبل لا بيدين وضرب التمثال في قدميه من حديد ومن خزف فسحقهما ) 35 ( فانسحق حينئذ مع الحديد والخزف والنحاس والفضة والذهب وصارت كغبار البيدر في الصيف فذرتها الرياح ولم يوجد لها مكان والحجر الذي قد ضرب التمثال صار جبلاً عظيماً وملأ الأرض بأسرها ) 36 ( فهذا هو الحلم وتنبئ أيضاً قدامك يا أيها الملك بتفسيره ) 37 ( أنت هو ملك الملوك وإله السماء أعطاك الملك والقوة والسلطان والمجد ) 38 ( وجميع ما يسكن فيه بنو الناس ووحوش الحقل وأعطى بيدك طير السماء أيضاً وجعل جميع الأشياء تحت سلطانك فأنت هو الرأس من الذهب ) 39 ( وبعدك تقوم مملكة أخرى أصغر منك من فضة ومملكة ثالثة أخرى من نحاس وتتسلط على جميع الأرض ) 40 ( والمملكة الرابعة تكون مثل الحديد كما أن الحديد يسحق ويغلب الجميع هكذا هي تسحق وتكسر جميع هذه ) 41 ( أما فيما رأيت قسم القدمين وأصابعهما من الخزف الفاخوري وقسماً من حديد تكون المملكة مفترقة وإن كان يخرج من نصبة الحديد حسبما رأيت الحديد مختلطاً بالخزف من طين ) 42 ( وأصابع القدمين قسم من حديد وقسم من خزف فتكون المملكة بقسم صلبة وبقسم مسحوقة ) 43 ( فيما رأيت الحديد مختلطاً بالخزف من طين إنهم يختلطون بزرع بشري بل لا يتلاصقون مثل ما ليس بممكن أن يمتزج الحديد بالخزف ) 44 ( فأما في أيام تلك الممالك يبعث إله السماء مملكة وهي لن تنقضي قط ملكها لا يعطى لشعب آخر وهي تسحق وتفني جميع هذه الممالك أجمعين وهي تثبت إلى الأبد ) 45 ( وكما رأيت أن من جبل انقطع حجر لا بيدين وسحق الخزف والحديد والنحاس والفضة والذهب فالإله العظيم أظهر للملك ما سيأتي من بعد والحلم هو حقيقي وتفسيره صحيح ) ا هـ . فالمراد بالمملكة الأولى سلطنة بختنصر وبالمملكة الثانية سلطنة المادنين الذين تسلطوا بعد قتل بلشاصر بن بخنتنصر كما هو مصرح به في الباب الخامس من الكتاب المذكور وسلطنتهم كانت ضعيفة بالنسبة إلى سلطنة الكلدانيين والمراد بالمملكة الثالثة سلطنة الكيانيين لأن قورش ملك إيران الذي هو بزعم القسيسين كيخسر وتسلط على بابل قبل ميلاد المسيح بخمسائة وست وثلاثين سنة ولما كان الكيانيون على السلطة القاهرة فكأنهمكانوا متسلطين على جميع الأرض ، والمراد بالمملكة الرابعة سلطنة اسكندر بن فيلفوس الرومي الذي تسلط على ديار فارس قبل ميلاد المسيح بثلاثمائة وثلاثين سنة ، فهذا السلطان كان في القوة بمنزلة الحديد ثم جعل هذا السلطان سلطنة فارس منقسمة على طوائف الملوك فبقيت هذه السلطنة ضعيفة إلى ظهور الساسانيين ثم صارت قوية بعد ظهورهم فكانت ضعيفة تارة وقوية تارة وتولد في عهد أنوشيروان ( محمد بن عبد الله ) صلى الله عليه وسلم وأعطاه الله السطنة الظاهرية والباطنية وقد تسلط متبعوه في مدة قليلة شرقاً وغرباً وعلى جميع ديار فارس التي كانت هذه الرؤيا وتفسيرها متعلقين بها ، فهذه هي السلطنة الأبدية التي لا تنقضي وملكها لا يعطى لشعب آخر ...

    فهذا الحجر الذي انقطع لا بيدين من جبل وسحق الخزف والحديد والنحاس والفضة والذهب وصار جبلاً عظيماً وملأ الأرض بأسرها هو محمد صلى الله عليه وسلم .

    البشارة الثانية عشرة : نقل يهوذا الحواري في رسالته الخبر الذي تكلم به أخنوخ الرسول .. وأنا أنقل عبارته من الترجمة العربية المطبوعة سنة 1844 :

    ( الرب قد جاء في ربواته المقدسة ليدائن الجميع ويبكت جميع المنافقين على كل أعمال نفاقهم التي نافقوا فيها وعلى كل الكلام الصعب الذي تكلم به ضد الله الخطاة المنافقون ) ...

    فجاء محمد في ربواته المقدسة فدان الكفار وبكت المنافقين والخطاة على أعمال النفاق وعلى أقوالهم القبيحة في الله ورسله فبكّت المشركين لعدم تسليم توحيد الله ورسالة رسله مطلقاً وعبادتهم الأصنام والأوثان ، وبكّتَ اليهود على تفريطهم في حق عيسى ومريم عليهما السلام ، وبعض عقائدهم الواهية ، وبكّتَ أهل التثليث مطلقاً على تفريطهم في توحيد الله وإفراطهم في حق عيسى عليه السلام ، وبكت أكثرهم على عبادة الصليب والتماثيل وبعض عقائدهم الواهية .

    البشارات : الثالثة عشرة والرابعة عشرة والخامسة عشرة :

    ( ملاحظة : لقد تصرفنا هنا في كلامه فدمجنا البشارات الثلاث وصغناها صياغة مختصرة مع أنه ذكر كلا على انفراد وشرح كلا ولكنا رأينا أن الموضوع واحد فدمجنا رغبة في الاختصار ) .

    في الباب الثالث عشر من إنجيل متى هكذا :

    31 ( قدم لهم مثلاً آخر قائلاً : يشبه ملكوت السماوات حبة خردل أخذها إنسان وزرعها في حقله ) 32 ( وهي أصغر جميع البذور ولكن متى نمت فهي أكبر البقول وتصير شجرة حتى أن طيور السماء تأتي وتأوي في أغصانها ) ا هـ . وفي الباب العشرين من إنجيل متى هكذا .

    1 ( فإن ملكوت السماوات يشبه رجلاً رب بيت خرج من الصبح ليستأجر فعلة لركمه فاتفق في العملة على دينار في اليوم وأرسلهم إلى كرمه ثم خرج نحو الساعة الثالثة ورأي آخرين قياماً في السوق بطّالين فقال لهم : اذهبوا أنتم أيضاً إلى الكرم فأعطيكم ما يحق لكم فمضوا وخرج أيضاً نحو الساعة السادسة والتاسعة وفعل كذلك ثم نحو الساعة الحادية عشرة خرج ووجد آخرين قياماً بطّالين فقال لهم : لماذا وقفتم هنا كل النهار بطالين قالوا له : لأنه لم يستأجرنا أحد قال لهم : اذهبوا أنتم أيضاً إلى الكرم فتأخذوا ما يحق لكم فلما كان المساء قال صاحب الكرم لوكيله : ادع الفعلة وأعطهم الأجرة مبتدئاً من الآخرين إلى الأولين فجاء أصحاب الساعة الحادية عشر وأخذوا ديناراً فلما جاء الأولون ظنوا أنهم يأخذون أكثر فأخذوا هم أيضاً ديناراً ديناراً وفيما هم يأخذون تذمروا على رب البيت قائلين هؤلاء الآخرون عملوا ساعة واحدة وقد ساويتهم بنا ؛ نحن الذين احتملنا ثقل النهار والحر فأجاب وقال لواحد منهم : يا صاحب ما ظلمتك أما اتفقت معي على دينار فخذ الذ لك واذهب ، فإني أريد أن أعطي هذا الأخير مثلك ، أو ما يحلُ لي أن أفعل ما أريد بمالي أم عينك شريرة لأني أنا صالح ، هكذا يكون الآخرون أولين والأولون آخرين لأن كثيرين يدعون وقليلين ينتخبون ) .

    ( وفي الباب الثالث من إنجيل متى :

    ( يشبه ملكوت السماوات إنساناً زرع زرعاً جيداً في حقله ) .

    ( يشبه ملكوت السماوات حبة خردل أخذها إنسان وزرعها في حقله ) .

    ( يشبه ملكوت السماوات خميرة أخذتها امرأة وخبأتها في ثلاثة أكيال دقيق حتى اختمر الجميع ) .

    وفي الباب الحادي والعشرين من إنجيل متى هكذا :

    ( لذلك أقول لكم إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره ) .

    وفي الباب الثالث من إنجيل متى هكذا :

    11 ( وفي تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان يكرّز في برية اليهودية قائلاً توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات ) .

    وفي الباب الرابع من إنجيل متى هكذا :

    12 ( ولما سمع يسوع أن يوحنا أسلم انصرف إلى الجليل من ذلك الزمان ابتدأ يسوع يكرّز ويقول : ( توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات ) .

    هذه النصوص كلها تشير إلى نبوة محمد عليه الصلاة والسلام .

    فالمة البطّالة التي هي الأخيرة والأولى هي أمته .

    والأمة التي ورثت ملكوت الله وعملت أثماره هي أمته .

    وحبة الخردل التي هي أصغر البذور ثم أصبحت أكبر الشجر هي أمته وهكذا لا يمكن أن تفهم هذه النصوص فهماً مستقيماً إلا إذا طبقناها على محمد رسول الله وأمته .

    البشارة السادسة عشرة : في الباب الحادي والعشرين من إنجيل متى هكذا :

    33 ( اسمعوا مثلاً آخر : كان إنسان رب بيت غرس كرماً وأحاطه بسياج وحفر فيه معصرة وبنى برجاً وسلمه إلى كرامين وسافر ولما قرب وقت الإثمار أرسل عبيده إلى الكرامين وسافر ليأخذ أثماره فأخذ الكرامون عبيده وجلدوا بعضاً وقتلوا بعضاً ورجموا بعضاً ثم أرسل أيضاً عبيد آخرين أكثر من الأولين ففعلوا بهم كذلك ، فأخيراً أرسل إليهم ابنه قائلاً يهابون ابني ، وأما الكرامون فلما رأوا الابن قالوا فيما بينهم هذا هو الوارث هلموا نقتله ونأخذ ميراثه ) ...

    40 ( فمتى جاء صاحب الكرم ماذا يفعل بأولئك الكرامين ) 41 ( قالوا له أولئك الأردياء يهلكهم هلاكاً ردياً ويسلم الكرم إلى كرامين آخرين يعطونه الأثمار في أوقاتها ) 42 ( قال لهم يسوع أما قرأتم قط في الكتب الحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية من قبل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا ) 43 ( لذلك أقول لكم إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره ) 44 ( ومن سقط على هذا الحجر يترضض ومن سقط هو عليه ) 45 ( ولما سمع رؤساء الكهنة والفريسيون أمثاله عرفوا أنه تكلم عليهم ) اهـ.
    أقول إن رب البيت كناية عن الله والكرم كناية عن الشريعة وإحاطته بسياج وحفر المعصرة فيه وبناء البرج كنايات عن بيان المحرمات والمباحات والأوامر والنواهي وإن الكرامين الطاغين كناية عن اليهود ، وكما فهم رؤساء الكهنة والفريسيون أنه تكلم عليهم والعبيد المرسلين كناية عن الأنبياء عليهم السلام ، والابن كناية عن عيسى عليه السلام ، وقد قتله اليهود أيضاً في زعمهم ، والحجر الذي رفضه البناؤون كناية عن محمد ...

    وهذا هو الحجر الذي كل من سقط عليه ترضض وكل من سقط هو عليه سحقه ، وأما ادعاء علماء المسيحية بزعمهم أن هذا الحجر عبارة عن عيسى عليه السلام فغير صحيح لوجوه :

    ( الأول ) : أن داود عليه السلام قال في الزبور المائة والثامن عشر هكذا .

    22 ( الحجر الذي رذله البناؤون هو صار رأساً للزاوية ) 23 ( من قبل الرب كانت هذه وهي عجيبة في أعيننا ) فلو كان هذا الحجر عبارة عن عيسى عليه السلام وهو من اليهود من آل يهوذا من آل داود عليه السلام فأي عجب في أعين اليهود عموماً لكون عيسى رأس الزاوية سيما في عين داود عليه السلام خصوصاً لأن مزعوم المسيحيين أن داود عليه السلام يعظم عيسى عليه السلام في مزاميره تعظيماً بليغاً ويعتقد الألوهية في حقه ، بخلاف آل إسماعيل لأن اليهود كانوا يحقرون أولاد إسماعيل غاية التحقير ، وكان كون أحد منهم رأساً للزاوية عجيباً في أعينهم .

    ( والثاني ) : أنه وقع في وسط هذا الحجر كل من سقط على هذا الحجر ترضيض وكل من سقط هو عليه سحقه ولا يصدق هذا الوصف على عيسى عليه السلام لأنه قال : ( وإن سمع أحد كلامي ولم يؤمن فأنا لا أدينه لأني لم آت لأدين العالم بل لأخلص العالم ) كما هو في الباب الثاني عشر من إنجيل يوحنا ؛ وصدقه على محمد غير محتاج إلى البيان لأنه كان مأموراً بتنبيه الفجار الأشرار فإن سقطوا عليه ترضضوا وإن سقط هو عليهم سحقهم .

    ( والثالث ) : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " مَثَلي ومثل الأنبياء كمثل قصر أحسن بنيانه وترك منه موضع لبنة فطاف به النظار يتعجبون من حسن بنيانه إلا موضع تلك اللبنة ختم بي البنيان وختم بي الرسل " ولما ثبتت نبوته بالأدلة الأخرى كما ذكرت نُبَذاً منها في المسالك السابقة فلا بأس بأن أستدل في هذه البشارة بقوله أيضاً .

    ( والرابع ) : أن المتبادر من كلام المسيح أن هذا الحجر غير الابن .

    البشارة السابعة عشرة : في الباب الثاني من المشاهدات هكذا :

    26 ( ومن يغلب ويحفظ أعمالي إلى النهاية فسأعطيه سلطاناً على الأمم فيرعاهم بقضيب من حديد ، كما تكسر آنية من خزف ، كما أخذت أيضاً من عند أبي وأعطيه كوكب الصبح من له أذنان فليسمع ما يقول الروح بالكنائس ) .

    ( ونصوغ بعض تحليله لهذه البشارة باختصار ) .

    " إن صاحب قضيب الحديد الذي يرعى به الأمم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ اجتمع له سلطان الدين والدنيا ولخلفائه الراشدين ودول المسلمين " .

    " والكنيسة المذكورة بأنها ستعطى له اسمها الأصلي ( ثياثرا ) كما قال القسيسان ويت ووليم اللذان ناظرا صاحب كتاب صولة الضيغم وهذه الكنيسة قريبة من القسطنطينية التي حكمها المسلمون من مئات السنين " .

    البشارة الثامنة عشرة :

    وهذه البشارة واقعة في آخر أبواب إنجيل يوحنا وأنا أنقل عن التراجم العربية المطبوعة سنة 1821 وسنة 1831 وسنة 1844 في بلدة لندن فأقول في الباب الرابع عشرة من إنجيل يوحنا هكذا :

    15 ( إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي وأنا أطلب من الأب فيعطيكم فارقليط آخر ليثبت معكم إلى الأبد روح الحق الذي لن يطيق العالم أن يقبله لأنه ليس يراه ولا يعرفه وأنتم تعرفونه لأنه مقيم عندكم وهو ثابت فيكم ) 26 ( والفارقليط روح القدس الذي يرسله الأب باسمي وهو يعلمكم كل شيء وهو يذكركم كل ما قلته لكم ) 30 ( والآن قد قلت لكم قبل أن يكون حتى إذا كان تؤمنون ) ...

    وفي الباب السادس عشر من إنجيل يوحنا هكذا : 7 ( لكني أقول لكم الحق أنه خير لكم أن أنطلق لأني إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليط فأما إن انطلقت أرسلته إليكم ) 8 ( فإذا جاء ذلك فهو يوبخ العالم على خطية وعلى بر وعلى حكم ) 9 ( أما على الخطية فلأنهم لم يؤمنوا بي ) 10 ( وأما على البر فلأني منطلق إلى الأب ولستم ترونني بعد ) 11 ( وأما على الحكم فإن أركون هذا العالم قد دين ) 12 ( وأن لي كلاماً كثيراً أقوله لكم ولكنكم لستم تطيقون حمله الآن ) 13 ( وإذا جاء روح الحق ذلك فهو يعلمكم جميع الحق لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بكل ما يسمع ويخبركم بما سيأتي ) 14 ( وهو يمجدني لأنه يأخذ مما هو لي ويخبركم ) ..

    وأنا أقدم قبل بيان وجه الاستدلال بهذه العبارات أمرين :

    الأمر الأول : أنك قد عرفت في الأمر السابع أن أهل الكتاب سلفاً وخلفاً عاداتهم أن يترجموا غالباً الأسماء وأن عيسى عليه السلام كان يتكلم باللسان العبراني لا باليوناني ، فإذاً لا يبقى شك في أن الإنجيل الرابع ترجم اسم المبشر به باليوناني بحسب عادتهم ، ثم مترجموا العربية عرّبوا اللفظ اليوناني بفارقليط وقد وصلت إلى رسالة صغيرة في لسان أردو من رسائل القسيسين في سنة ألف ومائتين وثمان وستين من الهجرة وكانت هذه الرسالة طبعت في كلكته وكانت في تحقيق لفظ فارقليط وادعى مؤلفها أن مقصوده أن ينبه المسلمين على سبب وقوعهم في الغلط من لفظ فارقليط وكان ملخص كلامه : إن هذا اللفظ معرب من اللفظ اليوناني فإن قلنا ( إن هذا اللفظ يوناني الأصل باراكلي طوس فيكون بمعنى المعزي والمعين والوكيل ، وإن قلنا إن اللفظ الأصل بيركلوطوس يكون قريباً من معنى محمد وأحمد ، فمن استدل من علماء الإسلام بهذه البشارة فهم أن اللفظ الأصل بيركلوطوس ومعناه قريب من معنى محمد وأحمد فادعى أن عيسى عليه السلام أخبر بمحمد أو أحمد لكن الصحيح أنه باراكلي طوس ، انتهى ملخصاً من كلامه فأقول : إن التفاوت بين اللفظين يسير جداً وإن الحروف اليونانية كانت متشابهة فتبدل بيركلوطوس بـ باركلي طوس في بعض النسخ من الكاتب قريب القياس ثم رجع أهل التثليث المنكرين هذه النسخة على النسخ الآخر ومَن تأمل في الباب الثاني من هذا الكتاب والأمر السابع من هذا المسلك السادس بنظر الإنصاف ، اعتقد يقيناً بأن مثل هذا الأمر من أهل الديانة من أهل التثليث ليس ببعيد بل لا يبعد أن يكون من المستحسنات والأمر الثاني أن البعض ادعوا قبل ظهور محمد صلى الله عليه وسلم أنهم مصاديق لفظ فارقليط مثلاً منتنس المسيحي الذي كان في القرن الثاني من الميلاد ، وكان مرتاضاً شديداً واتقى عهده ، ادعى في قرب سنة 177 من الميلاد في آسيا الصغرى الرسالة وقال إن هو الفارقليط الموعود به الذي وعد بمجيئه عيسى عليه السلام وتبعه أناس كثيرون ، ذلك كما هو مذكور في بعض التواريخ ، وذكر وليم ميور حاله وحال متبعيه في القسم الثاني من الباب الثالث من تاريخه بلسان أردو المطبوع سنة 1848 من الميلاد هكذا :

    ( أن البعض قالوا إنه ادعى أني فارقليط يعني المعزي روح القدس وهو كان أتقى ومرتاضاً شديداً ولأجل ذلك قبله الناس قبولاً زائداً ) . انتهى كلامه .. فعلم أن انتظار فارقليط كان في القرون الأولى المسيحية أيضاً ، ولذلك كان الناس يدعون أنهم مصاديقه وكان المسيحيون يقبلون دعاويهم وقال صاحب لب التواريخ : " إن اليهود والمسيحيين من معاصري محمد صلى الله عليه وسلم كانوا منتظرين لنبي فحصل لمحمد من هذا الأمر نفع عظيم لأنه ادعى أني هو ذاك المنتظر . انتهى ملخص كلامه " .

    فيعلم من كلامه أيضاً أن أهل الكتاب كانوا منتظرين لخروج نبي في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وهو الحق لأن النجاشي ملك الحبشة لما وصل إليه كتاب محمد صلى الله عليه وسلم ( فقال أشهد بالله أنه للنبي الذي ينتظره أهل الكتاب ) وكتب في الجواب ( أشهد أنك رسول الله صادقاً ومصدقاً وقد بايعتك وبايعت ابن عمك ، ( أي جعفر بن أبي طالب ) وأسلمت على يديه لله رب العالمين ) .

    وهذا النجاشي قبل الإسلام كان نصرانياً ، وكتب المقوقس ملك القبط في جواب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم هكذا : ( لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط سلام عليك .

    أما بعد ..

    " فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه وقد علمت نبياً قد بقي وقد كت أظن أنه يخرج بالشام وقد أكرمت رسولك .

    والمقوقس هذا وإن لم يسلم لكنه أقر في كتابه أني قد علمت أن نبياً بقي وكان نصرانياً . فهذان الملكان ما كانا يخافان في ذلك الوقت من محمد صلى الله عليه وسلم لأجل شوكته الدنيوية ؛ وجاء الجارود بن العلاء في قومه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " والله لقد جئتَ بالحق ونطقتَ بالصدق والذي بعثك بالحق نبياً لقد وجدت وصفك في الإنجيل وبشر بك ابن البتول فطول التحية لك والشكر لمن أكرمك لا أثر بعد عين ولا شك بعد يقين ، مد يدك فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك محمد رسول الله ثم آمن قومه " .

    وهذا الجارود كان من علماء النصارى وقد أقر بأنه قد بشّر بك ابن البتول أي عيسى عليه السلام فظهر أن المسيحيين أيضاً كانوا منتظرين لخروج نبي بشّر به عيسى عليه السلام .

    فإذا علمت ذلك فأقول إن اللفظ العبراني الذي قاله عيسى عليه السلام مفقود واللفظ اليوناني الموجود ترجمة لكني أترك البحث عن الأصل ، وأتكلم عن هذا اللفظ اليوناني وأقول : إن كان اللفظ اليوناني الأصل بيركلوطوس فالأمر ظاهر وتكون بشارة المسيح في حق محمد صلى الله عليه وسلم بلفظ قريب من محمد وأحمد وهذا وإن كان قريب القياس بلحاظ عاداتهم لكني أترك هذا الاحتمال لأنه لا يتم عليهم إلزاماً ، وأقول إن كان اللفظ اليوناني الأصل باراكلي طوس كما يدعون فهذا لا ينافي الاستدلال أيضاً لأن معناه المعزي والمعين والوكيل على ما بين صاحب الرسالة أو الشافع كما يوجد في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1816 وهذه املعاني كلها تصدق على محمد صلى الله عليه وسلم وأنا أبيّن الآن أولاً أن المراد بفارقليط النبي المبشر به أعني محمداً صلى الله عليه وسلم لا الروح النازل على تلاميذ عيسى عليه السلام يوم الدار الذي جاء ذكره في الباب الثاني من كتاب الأعمال وأذكر ثانياً شبهات العلماء المسيحية وأجيب عنها فأقول : أما الأول فيدل عليه أمور :

    (1) أن عيسى عليه السلام قال : " أولاً إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي " ، ثم أخبر عن فارقليط ، فمقصوده عليه السلام أن يعتقد السامعون بأن ما يلقى عليهم بعد ضروري واجب الرعاية ، فلو كان فارقليط عبارة عن الروح النازل يوم الدار لما كانت الحاجة إلى هذه الفقرة لأنه ما كان مظنوناً أن يستبعد الحواريون نزول الروح عليهم مرة أخرى لأنهم كانوا مستفيضين به من قبل أيضاً ، بل لا مجال للاستبعاد أيضاً لأنه إذا نزل على قلب أحد وحلّ فيه يظهر أثره لا محالة ظهوراً بيّناً ، فلا يتصور إنكار المتأثر منه وليس ظهوره عندهم في صورة يكون فيه مظنة يكون الاستعباد فهو عبارة عن النبي المبشر به . فحقيقة الأمر أن المسيح عليه السلام لما علم بالتجربة وبنور النبوة أن الكثيرين من أمته ينكرون النبي المبشر به عند ظهوره فأكد أولاً بهذه الفقرة ثم أخبر عن مجيئه .

    (2) أن هذا الروح على زعمهم متحد بالأب مطلقاً وبالابن نظراً إلى لاهوته اتحاداً حقيقياً فلا يصدق في حقه ( فارقليط آخر ) بخلاف النبي المبشر به فإنه يصدق هذا القول في حقه بلا تكلف .

    (3) أن الوكالة والشفاعة من خواص النبوة لا من خواص هذا الروح المتحد بالله ( على زعمهم ) فلا يصدقان على الورح ويصدقان على النبي المبشر به بلا تكلف .

    (4) أن عيسى عليه السلام قال : " هو يذكركم كل ما قلته لكم " ولم يثبت من رسالة من رسائل العهد الجديد أن الحواريين كانوا قد نسوا ما قاله عيسى عليه السلام وهذا الروح النازل يوم الدار ذكّرهم إياه .

    (5) أن عيسى عليه السلام قال : " والآن قد قلت لكم قبل أن يكون حتى إذا كان تؤمنون " . وهذا يدل على أن المراد به ليس الروح لأنك قد عرفت في الأمر الأول أنه ما كان عدم الإيمان مظنوناً بهم وقت نزوله بل لا مجال للاستبعاد أيضاً فلا حاجة إلى هذا القول ، فلو أردنا به النبي المبشر به يكون هذا الكلام في محله وفي غاية الاستحسان لأجل التأكيد مرة ثانية .

    (6) أن عيسى عليه السلام قال : " هو يشهد لأجلي " وهذا الروح ما شهد لأجله بين يدي أحد لأن تلاميذه الذين نزل عليهم ما كانوا محتاجين إلى الشهادة لأنهم كانوا يعرفون المسيح حق المعرفة قبل نزوله أيضاً فلا فائدة للشهادة بين أيديهم والمنكرون الذين كانوا محتاجين للشهادة فهذا الروح ما شهد بين أيديهم ، بخلاف محمد صلى الله عليه وسلم فإنه شهد لأجل المسيح عليه السلام وصدّقه وبرّأه عن ادعاء الألوهية الذي هو أشد أنواع الكفر والضلال وبرأ أمه عن تهمة الزنا وجاء ذكر براءتهما في القرآن في مواضع متعددة وفي الأحاديث في مواضع غير محصورة .

    (7) أن عيسى عليه السلام قال : " وأنتم تشهدون لأنكم معي من الابتداء وهذه الآية في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1816 هكذا ( وتشهدون أنتم أيضاً لأنكم كنتم معي من الابتداء ) وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1860 هكذا : ( وتشهدون أنتم أيضاً لأنكم معي من الابتداء ) . فيوجد في هذه التراجم الثلاث لفظ أيضاً وكذا يوجد في التراجم الفارسية المطبوعة سنة 1816 وسنة 1828 وسنة 1841 وفي ترجمة أردو المطبوعة سنة 1814 ترجمة لفظ أيضاً فلفظ أيضاً سقط من التراجم التي نقلت عنها عبارة يوحنا سهواً وقصداً ، فهذا القول يدل دلالة ظاهرة على أن شهادة الحواريين غير شهادة فارقليط ، فلو كان المراد به الروح النازل يوم الدار فلا توجد مغايرة الشهادتين لأن الروح المذكور لم يشهد شهادة مستقلة غير شهادة الحواريين بل شهادة الحواريين هي شهادته بعينها . فلا يصح هذا القول بخلاف ما إذا كان المراد به النبي المبشر به فإن شهادته غير شهادة الحواريين .

    (8) أن عيسى عليه السلام قال : ( إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليط فأما إن انطلقت أرسلته إليكم ) .

    فعلق مجيئه بذهابه وهذا الروح عندهم نزل على الحواريين في حضوره لما أرسلهم إلى البلاد الإسرائيلية فنزوله ليس بمشروط بذهابه فلا يكون مراداً بفارقليط ، بل المراد به شخص لم يستفض منه أحد من الحواريين قبل زمان صعوده وكان مجيئه موقوفاً على ذهاب عيسى عليه السلام ، ومحمد صلى الله عليه وسلم كان كذلك لأنه جاء بعد ذهاب عيسى عليه السلام وكان مجيئه موقوفاً على ذهاب عيسى عليه السلام لأن وجود رسولين ذوي شريعتين مستقلتين في زمان واحد غير جائز بخلاف ما إذا كان الآخر متبعاً لشريعة الأول أ يكون كل من الرسل متبعاً لشريعة واحدة لأنه يجوز في هذه الصورة وجود اثنين أو أكثر في زمان واحد ومكان واحد كما ثبت وجودهم ما بين زمان موسى عليه السلام وعيسى عليه السلام .

    (9) أن عيسى عليه السلام قال : " يوبخ العالم " فهذا القول بمنزلة النص الجلي لمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه وبخ العالم سيما اليهود على عدم إيمانهم بعيسى عليه السلام توبيخاً لا يشك فيه إلا معاند بحت ، وبخلاف الروح النازل يوم الدار فإن توبيخه لا يصح على أصول أحد ، وما كان التوبيخ منصب الحواريين بعد نزولة أيضاً لأنهم كانوا يدعون إلى الملة بالترغيب والوعظ وما قال رانكين في كتابه المسمى بدافع البهتان الذي هو بلسان أردو في رده على خلاصة صولة الضيغم " إن لفظ التوبيخ لا يوجد في الإنجيل ولا في ترجمة من تراجم الإنجيل ، وهذا المستدل أورد هذا اللفظ ليصدق على محمد صدقاً بيناً لأجل أن محمداً صلى الله عليه وسلم وبخ وهدد كثيراً إلا أن مثل هذا التغليظ ليس من شأن المؤمنين والخائفين من الله " . انته كلامه ؛ فمردود .

    وهذا القسيس إما جاهل غالط أو مغلط ليس له إيمان ولا خوف من الله لأن هذا اللفظ يوجد في التراجم العربية المذكورة التي نقلت عنها عبارة يوحنا ومن الترجمة العربية المطبوعة سنة 1860 هكذا : " ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية إلخ " وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1816 وسنة 1825 وفي التراجم الفارسية المطبوعة سنة 1816 وسنة 1828 و 1841 يوجد لفظ الإلزام ولفظ التبكيت والإلزام أيضاً قريبان من التوبيخ لكن لا شكاية منه لأن مثل هذا الأمر من عادات علماء بروتستنت ولذلك ترى أن مترجمي الفارسية وأردو تركوا لفظ فارقليط لشهرته عند المسلمين في حق محمد صلى الله عليه وسلم ومترجم ترجمة أردو المطبوعة سنة 1839 فإن هؤلاء أسلافه أيضاً حيث أرجع إلى الورح ضمائر المؤنث ليحصل الاشتباه للعوام أن مصداق هذا للفظ مؤنث وليس بمذكر .

    (10) قال عيسى عليه السلام : " أما على الخطية فلأنهم لم يؤمنوا بي " وهذا يدل على أن فارقليط يكون ظاهراً على منكري عيسى عليه السلام موبخاً لهم على عدم الإيمان به ، والروح النازلة يوم الدار ما كان ظاهراً على الناس موبخاً لهم .

    (11) قال عيسى عليه السلام : " إن لي كلاماً كثيراً أقوله لكم ولكنكم لستم تطيقون حمله الآن " وهذا ينافي إرادة الروح النازل يوم الدار لأنه ما زاد حكماً على أحكام عيسى عليه السلام لأنه على زعم أهل التثليث كان أمر الحواريين بعقيدة التثليث وبدعوة أهل العالم كله فأي أمر حصل لهم أزيد من أقواله التي قال لهم زمان صعوده ، نعم بعد نزول هذا الروح أسقطوا جميع أحكام التوراة التي هي ما عدا بعض الأحكام العشرة المذكورة في الباب العشرين من سفر الخروج وحللوا جميع المحرمات وهذا الأمر لا يجوز في حقه أن يقال إنهم ما كانوا يستطيعون حمله لأنهم استطاعوا حمل سقوط حكم تعظيم السبت الذي هو أعظم أحكام التوراة الذي كان اليهود ينكرون كون عيسى عليه السلام مسيحاً موعوداً به لأجل عدم مراعاته هذا الحكم فقبول سقوط جميع الأحكام كان أهون عندهم ، نعم قبول زيادة الأحكام لأجل ضعف الإيمان وضعف القوة إلى زمان صعوده كما يعترف به علماء بروتستنت كان خارجاً عن استطاعتهم فظهر أن المراد بفارقليط نبي تزاد في شريعته أحكام بالنسبة إلى الشريعة العيسوية ويثقل حملها على المكلفين الضعفاء وهو محمد صلى الله عليه وسلم .

    (12) أن عيسى عليه السلام قال : " ليس ينطق من عنده بل يتكلم بكل ما يسمع " وهذا يدل على أن فارقليط يكون بحيث يكذبه بنو إسرائيل فاحتاج عيسى عليه السلام أن يقرر حال صدقه فقال هذاالقول ولا مجال لمظنة التكذيب في حق هذا الروح النازل يوم الدار على أن هذا الروح عندهم عين الله فلا معنى لقوله بل يتكلم بما يسمع فمصداقه محمد صلى الله عليه وسلم فإنه كان في حقه مظنة التكذيب ، وليس هو عين الله وكان يتكلم بما يوحى إليه كما قال الله تعالى : {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} النجم 3 ، 4 . وقال {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} الأحقاف : 9 .

    (13) أن عيسى عليه السلام قال : إنه يأخذ مما هو لي وهذا لا يصدق على الروح لأنه عند أهل التثليث قديم وغير مخلوق وقادر مطلق ليس له كمال منتظر بل كل كمال من كمالاته حاصل له بالفعل ، فلا بد أن يكون الموعود به من الجنس الذي يكون له كمال منتظر ، ولما كان هذا الكلام موهماً أن يكون هذا النبي متبعاً لشريعته دفعه بقوله فيما بعد " جميع ما للأب فهو لي فلأجل هذا قلت مما هو لي يأخذ " يعني أن كل شيء يحصل لفارقليط من الله فكأنه يحصل مني كما اشتهر من كان لله كان الله له ، فلأجل هذا قلت إن مما هو لي يأخذ .

    ( ثم ذكر الشيخ شبهات النصارى وما يمكن أن يقولوه وردّ عليها وختم بذلك البشارات ) .

    - 6 -

    وهناك كتاب ظهر في أوروبا وأحدث ضجّة وأخذاً وردّاً ثم كانت النتيجة أن رفضه العالم النصراني بلا مبرر . هذا الكتاب يسمّى " إنجيل برنابا " والكتاب أعطى قولاً فصلاً في المسائل الثلاث الأساسية وهي رسالة عيسى ورسالة محمد وعدم صلب المسيح .

    فهل هناك مبرر لرفض هذا الكتاب :

    1 – يذكر التاريخ أن الباب جيلاسيوس الأول الذي جلس على الأريكة البابوية سنة 492 ميلادية أي قبل ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم بحوالي قرن أصدر أمراً ينهى فيه عن مطالعة كتب معينة من جملتها كتاب اسمه إنجيل برنابا . إذن من المعروف تاريخياً أن هناك كتاباً اسمه إنجيل برنابا موجود قبل الإسلام .

    2 – وقد عثر لهذا الإنجيل على نسختين : إيطالية وإسبانية أما الإسبانية فقد أقرضها الدكتور ( هلم ) من هدلي بلدة من أعمال همبشير المستشرق سايل ثم تناولها بعد سايل الدكتور منكهوس أحد أعضاء الكلية الملكية في أكسفورد فنقلها إلى الإنكليزية ثم دفع الترجمة مع الأصل سنة 1784 إلى الدكتور هويت أحد مشاهير الأساتذة ثم بعد ذلك طمس خبرها وأمحى أثرها .

    وأما النسخة الإيطالية فموجودة في مكتبة بلاط فيينا وأوّل من عثر عليها كريمر أحد مستشاري ملك بروسيا وكان مقيماً وقتئذ في أمستردام فأخذها سنة 1709 من مكتبة أحد مشاهير وجهاء المدينة المذكورة فأقرضها كريمر طولند ثم أهداها بعد ذلك بأربع سنين إلى البرنس أيوجين سافوي ثم انتقلت النسخة المذكورة سنة 1738 مع سائر مكتبة البرنس إلى مكتبة البلاط الملكي في فيينا حيث لا تزال هنالك . وإذن هذا الكتاب في ورده وصدره أوروبي .

    3 – إنه لم يعرف بتاتاً عند المسلمين أن هناك كتاباً اسمه إنجيل برنابا قبل ظهوره في أوروبا ولو أن للمسلمين يداً في صنع هذا الإنجيل لذكروه وحاولوا نشره وكان مشهوراً .

    4 – يذكر سايل أنه مذكور في النسخة الإسبانية المفقودة أنها مترجمة عن النسخة الإيطالية ، وفيها مقدمة عن الراهب الذي اكتشف النسخة الإيطالية والقصة هي ما يلي : أن الراهب اللاتيني فرامرينو عثر على رسائل لايرينايوس وفي عدادها رسالة يندد فيها بالقديس بولص الرسول وأن أرينايوس أسند تنديده هذا إلى إنجيل القديس برنابا فأصبح من ذلك الحين الراهب فرامرينو المشار إليه شديد الشغف بالعثور على الإنجيل واتفق أنه أصبح حيناً من الدهر مقرباً من البابا سكتس الخامس فحدث يوماً أنهما دخلا معاً مكتبة البابا فأخذت البابا سنة من النوم فأحب فرامرينو أن يقتل الوقت في المطالعة إلى أن يفيق البابا فكان الكتاب الأول الذي وضع يده عليه هو هذا الإنجيل نفسه فكاد أن يطير فرحاً من هذا الاكتشاف فخبأ هذه الذخيرة الثمينة في أحد ودنيه ولبث إلى أن استفاق البابا فاستأذنه بالانصراف حاملاً ذلك الكنز معه فلما خلا بنفسه طالعه بشوق عظيم فاعتنق على أثر ذلك الدين الإسلامي .

    5 – إن الكتاب متماسك يشكل وحدة متكاملة ويدل على علم لا مثيلله في كتب العهد القديم وفيه من براعة الحجة ووضوح المسلك ودقة الخطاب وتوضيح خفايا في حياة المسيح عليه السلام وتشابه كثير بين بعض مقاطعه والأناجيل الأخرى كل ذلك يجعل احتمال نسبته إلى برنابا أكبر من أي احتمال آخر .

    6 – إن الكتاب لا يوجد فيه ما يشير إلى تأثره بالمفاهيم الإسلامية بتاتاً ولا يوجد فيه ما يشم منه أن صاحبه قد قرأ القرآن أو عرف دين النبي محمد صلى الله عليه وسلم مما يؤكد أن الكتاب لم يؤلفه مسلم وأنه كتب قبل الإسلام .

    7 – والدارس للكتاب يرى أن له صولة في تهذيب النفس وترقيتها ويحس صدق العبارة وحرارة الإخلاص فيفتح له الكتاب آفاقاً روحية لا يستطيع الإنسان أن يتصور بعدها أن رجلاً اختلق هذا الكتاب كذباً وزوراً . وبعد هذه المقدمات ننقل فقرات من هذا الكتاب مما له علاقة ببحثنا عن البشارات الصادرة على لسان المسيح في رسالة رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام .

    1 – في الفصل السابع عشر يقول : " ولكن سيأتي بعدي بهاء وكل الأنبياء الأطهار فيشرق نوراً على ظلمات سائر ما قال الأنبياء لأنه رسول الله " أي يبين غامض أقوالهم .

    2 – في الفصل الثالث والأربعين يقول : " الحق أقول لكم إنّ كل نبي متى جاء فإنه إنما يحمل لأمة واحدة فقط علامة رحمة الله ولذلك لم يتجاوز كلامهم الشعب الذي أرسلوا إليه ولكن رسول الله متى جاء يعطيه الله ما هو بمثابة خاتم يده فيحمل خلاصاً ورحمة لأمم الأرض الذين يقبلون تعليمه وسيأتي بقوة على الظالمين ويبيد عبادة الأصنام بحيث يخزي الشيطان لأنه هكذا وعد الله إبراهيم قائلاً انظر فإني بنسلك أبارك كل قبائل الأرض ، وكما حطمت يا إبراهيم الأصنام تحطيماً ، هكذا سيفعل نسلك أبارك كل قبائل الأرض ، وكما حطمت يا إبراهيم الأصنام تحطيماً ، هكذا سيفعل نسلك أجاب يعقوب : يا معلم قل لنا بمن صنع هذا العهد فإن اليهود يقولون بإسحاق والإسماعيليون يقولون بإسماعيل ، أجاب يسوع ابن من كان داود ومن أي ذرية ؟ أجاب يعقوب : من إسحاق لأن إسحاق كان أبا يعقوب ويعقوب كان أبا يهوذا الذي من ذريته داود . فحينئذ قال يسوع : لا تغشوا أنفسكم لن داود يدعوه في الروح رباً قائلاً هكذا قال الله لربي : اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئاً لقدميك يرسل الرب قضيبك الذي سيكون ذا سلطان في وسط أعدائك فإذا كان رسول الله الذي تسمونه ميسا ابن داود فكيف يسميه داو ربا صدقوني لأني أقول لكم الحق إن العهد صنع بإسماعيل لا بإسحاق .. "

    3 – وفي الفصل الرابع والأربعين يقول : " لذلك أقول لكم إن رسول الله بهاء يسر كل ما صنع الله تقريباً لأنه مزدان بروح الفهم والمشورة ، روح الحكمة والقوة ، روح الخوف والمحبة ، روح التبصر والاعتدال ، مزدان بروح المحبة والرحمة ، روح العل والتقوى ، روح اللطف والصبر التي أخذ منها من الله ثلاثة أضعاف ما أعطى لسائر خلقه ، ما أسعد الزمن الذي سيأتي فيه إلى العالم صدقوني أني رأيته وقدمت له الاحترام كما رآه كل نبي لأن الله يعطيهم روحه نبوة ولما رأيته امتلأت عزاء قائلا يا محمد ليكن الله معك وليجعلني أهلاً أن أحل سير حذائك لأني إذا نلت هذا صرت نبياً عظيماً وقدوس الله ... " .

    4 – وفي الفصل الرابع والخمسين يقول : " فمتى مرت هذه العلامات تغشى العالم ظلمة أربعين سنة ليس فيها من حي إلا الله وحده الذي له الإكرام والمجد إلى الأبد ومتى مرت الأربعون سنة يحيي الله رسوله الذي سيطلع أيضاً كالشمس بيد أنه متألق كألف شمس فيجلس ولا يتكلم ... وسيقيم الله أيضاً الملائكة الأربعة المقربين الذين ينشدون رسول الله فمتى وجدوه قاموا على الجوانب الأربعة للمحل حراساً له ثم يحيي الله بعد ذلك سائر الملائكة الذين يأتون كالنحل ويحيطون برسول الله ثم يحيي الله بعد ذلك سائر أنبيائه الذين سيأتون جميعهم تابعين لآدم فيقبلون يد رسول الله واضعين أنفسهم في كنف حمايته ثم يحيي الله بعد ذلك سائر الأصفياء الذين يصرخون اذكرنا يا محمد فتتحرك الرحمة في رسول الله لصراخهم ... ثم قال يسوع أرجو الله ألا أرى هذه الهولة في ذلك اليوم إن رسول الله وحده لا يتهيب هذه المناظر لأنه لا يخاف إلا الله وحده ... عند ذلك يخاف رسول الله لأنه يدرك أن لا أحد أحب الله كما يجب ... لكن إذا خاف رسول الله فماذا يفعل الفجار المملؤون شراً ... " .

    5 – في الفصل الثاني والثمانين يقول : ولكن صدقيني أنه يأتي وقت يعطي الله فيه رحمته في مدينة أخرى ويمكن السجود له في كل مكان بالحق ويقبل الله الصلاة الحقيقية في كل مكان برحمته أجابت المرأة إننا ننتظر مسياً فمتى جاء يعلمنا يسوع أتعلمين أيتها المرأة أن مسياً لا بد أن يأتي أجابت : نعم يا سيد حينئذ تهلل يسوع وقال : ويلوح لي أيتها المرأة إنك مؤمنة فاعلمي أنه بالإيمان بمسيا سيخلص كل مختاريالله إذن وجب أن تعرفي مجيء مسيا قالت المرأة : لعلك أن مسيا أيها السيد . أجاب يسوع : إني حقاً أرسلت إلى بيت إسرائيل نبي خلاص ولكن سيأتي بعدي مسيا المرسل من الله لكل العالم الذي لأجله خلق الله العالم . وحينئذ يسجد لله في كل العالم وتنال الرحمة حتى أن سنة اليوبيل التي تجيء الآن كل مئة سنة سيجعلها مسيا كل سنة في كل مكان " .

    6 – وفي الفصل الثالث والثمانين ( وبعد صلاة نصف الليل اقترب التلاميذ من يسوع فقال لهم ستكون هذه الليلة في زمن مسيا رسول الله اليوبيل السنوي الذي يجيء الآن كل مئة سنة لذلك لا أريد أن ننام بل أن نصلي ) ... ولعله أراد بهذه الليلة ليلة القدر أو ليلة براءة أي ليلة النصف من شعبان وعلى هذا نفهم أن تجلياتها كانت مرة كل مائة سنة من قبل وعلى هذا نفهم الكلمة " إن سنة اليوبيل التي تجيء الآن كل مئة سنة في الفقرةالسابقة " .

    7 – في الفصل السادس والتسعين أجاب يسوع : " لعمر الله الذي تقف بحضرته نفس أني لست مسيا الذي تنتظره كل قبائل الأرض كما وعد الله أبانا إبراهيم قائلاً بنسلك أبارك كل قبائل الأرض ، ولكن عندما يأخذني الله من العالم سيشير الشيطان مرة أخرى هذه الفتنة الملعونة بأن يحمل عادم التقوى على الاعتقاد بأني الله وابن الله فينجس بسبب هذا كلامي وتعليمي حتى لا يكاد يبقى ثلاثون مؤمناً حينئذ يرحم الله العالم ويرسل رسوله الذي خلق كل الأشياء لأجله الذي سيأتي من الجنوب بقوة وسيبيد الأصنام وعبدة الأصنام وسينزع الشيطان سلطته على البشر وسيأتي برحمة الله لخلاص الذين يؤمنون به وسيكون من يؤمن بكلامه مباركاً " .

    8 – في الفصل السابع والتسعين " فقال حينئذ الكاهن : ماذا يسمى وما هي العلامة التي تعلن مجيئه ؟ أجاب يسوع : إن اسم مسياً عجيب لأن الله نفه سماه لما خلق نفسه ووضعها في بهاء سماوي قال الله : اصبر يا محمد لأني لأجلك أريد أن أخلق الجنة والعالم وجاً غفيراً من الخلائق التي أهبها لك حتى أن من يباركك يكون مباركاً ومن يعلنك يكون ملعوناً ومتى أرسلتك إلى العالم أجعلك رسولي للخلاص وتكون كلمتك صادقة حتى إن السماء الأرض تهنان ولكن إيمانك لا يهن إن اسمه المبارك محمد " .

    هذه شذرات مما ورد في هذا الكتاب وإذا ثبت أن الكتاب كان موجوداً قبل الإسلام فقد ثبت عندئذ أن ذلك مما بقي صحيحاً من آثار عيسى والله أعلم .

    - 7 -

    ونختم البحث بنصين كل منهما يدل بما لا يقبل الشك أن النصارى أثناء بعثة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا ينتظرون رسولاً أوصافه هي نفس أوصاف السيد الرسول صلى الله عليه وسلم :

    1 – قصة سلمان الفارسي الذي هرب من الأرض الفارسية باحثاً عن الدين الحق : " يقول سلمان لما قدمت الشام قلت : من أفضل أهل هذا الدين ؟ قالوا : الأسقف في الكنيسة قال فجئته فقلت : إني قد رغبت في هذا الدين وأحببت أن أكون معك أخدمك في كنيستك وأتعلم منك وأصلي معك قال فادخل فدخلت معه ، قال فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها فإذا جمعوا له أشياء اكتنزها لنفسه ولم يعطه المساكين حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق قال : وأبغضته بغضاً شديداً لما رأيته يصنع ثم مات فاجتمعت إليه النصارى ليدفنوه فقلت لهم : إن هذا كان رجل سوء يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ولم يعط المساكين منها شيئاً قالوا : وما علمك بذلك ! قال : قلت أنا أدلكم على كنزه فدلنا عليه قال : فأريتهم موضعه قال فاستخرجوه منه سبع قلال مملوءة ذهباً وورقاً قال فلما رأوها قالوا : والله لا ندفنه أبداً فصلبوه ثم رجموه بالحجار ثم جاؤا برجل آخر فجعلوه مكانه قال : يقول سلمان : فما رأيت رجلاً لا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه وأزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة ولا أدأب ليلاً ونهاراً منه قال : فأحببته حباً لم أحبه من قبل وأقمت معه زماناً ثم حضرته الوفاة فقلت له : يا فلان إني كنت معك وأحببتك حباً لم أحبه من قبلك وقد حضرك ما ترى من أمر الله فإلى من توصي بي وما تأمرني : فقال يا بني والله ما أعلم أحداً اليوم على ما كنت عليه فقد هلك الناس وبدّلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجل بالموصل وهو فلان فهو على ما كنت عليه فالحق به . قال فلما مات وغيّب لحقت بصاحب الموصل فقلت : يا فلان إن فلاناً أوصاني عند موته أن ألحق بك وأخبرني أنك على أمره قال فقال لي : أقم عندي فأقمت فوجدته خير رجل على أمر صاحبه فلم يلبث أن مات فلما حضرته الوفاة قلت له : يا فلان إن فلاناً أوصاني عند موته أن ألحق بك وأخبرني أنك على أمره قال فقال لي : أقم عندي فأقمت عنده فوجدته خير رجل على أمر صاحبه فلم يلبث أن مات فلما حضرته الوفاة قلت له : يا فلان إن فلاناً أوصى بي إليك باللحوق بك وقد حضرك من الله عز وجل ما ترى فإلى من توصي بي وما تأمرني : قال يا بني والله ما أعلم رجلاً على مثل ما كنا عليه إلا رجل بنصيبين وهو فلان فالحق به فلما مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين فجئته فأخبرته بخبري وما أمرني به صاحبي ، قال فأقم عندي فأقمت عنده فوجدته على أمر صاحبيه فأقمت مع خير رجل فوالله ما لبث أن نزل به الموت فلما حضر قلت له : يا فلان إن فلاناً كان أوصى بي إلى فلان ثم أوصى بي فلان إليك فإلى من توص بي وما تأمرني : قال : أي بني والله ما نعلم أحداً بقي على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلاً بعمورية فإنه بمثل ما نحن عليه فإن أحببت فأته قال : فإنه على أمرنا . قال فلما مات وغيّب لحقت بصاحب عمورية وأخبرته خبري فقال أقم عندي فأقمت مع رجل على هدي أصحابه وأمرهم ، قال : واكتسبت حتى كان لي بقرات وغنيمة قال : ثم نزل به أمر الله فلما حضر قلت له يا فلان إني كنت مع فلان فأوصى بي فلان إلى فلان وأوصى بي فلان إلى فلان ثم أوصى بي فلان إليك فإلى من توصي بي وما تأمرني ؟ قال : أي بني والله ما أعلم ، أصبح على ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه ؟ ولكنه قد أظلك زمان نبي هو مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب مهاجراً إلى أرض بين حرتين بينهما نخل به علامات لا تخفى يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة بين كتفيه خاتم النبوة فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل " والرواية متصلة السند رواتها عدول .

    2 – وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : حدثني أبو سفيان بن حرب قال : انطلقت في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشام فبينا أنا بها إذ جيء بكتاب من النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل جاء به دحية الكلبي فدفعه إلى عظيم بصري فدفعه إلى عظيم الروم هرقل فقال هرقل : هل هنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي قالوا : نعم . فدعيت في نفر من قريش فدخلنا عليه فأجلسنا بين يديه فقال : أيكم أقرب نسباً منه فقلت أنا فأجلسني بين يديه وأصحابي خلفي ثم دعا بترجمانه فقال : قل لهؤلاء إني سائل هذا عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي فإن كذبني فكذبوه . قال أبو سفيان وايم الله لولا أن يؤثر عليّ الكذب لكذبته ثم قال لترجمانه سله كيف نسبه فيكم . قلت هو فينا ذو نسب ، قال فهل كان من آبائه من ملك ؟ قلت : لا . قال فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قلت : لا . قال فهل يتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم ؟ قال : بل ضعفاؤهم . قال : أيزيدون أو ينقصون ؟ قلت لا . بل يزيدون قال : هل يرتد أحد عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له قلت : لا . قال : فهل قاتلتموه قلت نعم قال : كيف قتالكم إياه ؟ قلت : تكون الحرب بيننا وبينه سجالاً يصيب منا ونصيب منه . قال : فهل يغدر قلت : لا . ونحن منه في هذه المدة ما ندري ما هو صانع قال أبو سفيان : فوالله ما أمكني من كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه قال فهل قال هذا القول أحد قبله قلت : لا . فقال لترجمانه : قل له إني سألتك عن نسبه فيكم فزعمت أنه فيكم ذو نسب وكذلك الرسل تبعث في أنساب قومها . وسألتك هل كان في آبائه ملك فزعمت أن لا فقلت لو كان في آبائه ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه وسألتك عن أتباعه أضعفاؤهم أم أشرافه فقلت بل ضعفاؤهم وهم أتباع الرسل وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فزعمت أن لا فعرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله تعالى . وسألتك هل يرتدّ أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له فزعمت أن لا فكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب وسألتك هل يزيدون أم ينقصون فزعمت أنهم يزيدون وكذلك أمر الإيمان حتى يتم . وسألتك هل قاتلتموه فزعمت أنكم قاتلتموه فتكون الحرب بينكم سجالاً ينال منكم وتنالون منه وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة . وسألتك هل يغدر فزعمت أنه لا يغدر وكذلك الرسل لا تغدر ، وسألتك هل قال هذا القول أحد قبله فزعمت أن لا ، فقلت لو قال هذا القول أحد قبله قلت رجل ائتم يقول بقول قيل قبله ، ثم قال بم يأمركم قلنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف فقال إن يك ما تقول حقاً فإنه نبي وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظنه منكم . ولو أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه وليبلغن ملكه ما تحت قدمي ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه فإذا فيه ... فلما فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده وكثر اللغط فأمر بنا فأخرجنا فقلت لأصحابي لقد أمر أمْراً ابن أبي كبشة إنه ليخافه ملك بني الأصفر .

    - 8 -

    وأخيراً سأل الشيخ عبد الوهاب النجار مؤلف كتاب قصص الأنبياء الدكتور ( كارلو نلينو ) المستشرق الإيطالي عن كلمة ( بير كليتوس ) الواردة في الأناجيل : فأجابه بقوله : إن القسس يقولون إن هذه الكلمة معناها ( المعزي ) فقال له إني أسأل الدكتور كارلو نلينو الحاصل على الدكتوراة في الآداب اليونانية القديمة ولست أسأل قسيساً فقال : إن معناها الذي له حمد كثير فسأله أيضاً : هل ذلك يوافق أفعل التفضيل من حمد فقال : نعم وهذا ما جاء في القرآن على لسنا المسيح :

    {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} الصف 6 ( قصص الأنبياء للنجار ) .

    عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من قال رضيت بالله تعالى رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً وجبت له الجنة ) أخرجه أبو داود .

    وإذا مر معك في المبحث الأول عن الله ما أثلج ضميرك يقيناً نهيب بك أن ترضى بالله رباً .

    وإذا مر معك في المبحث الثاني عن الرسول ما أثلج صدرك يقينا نهيب بك أن ترضى به رسولاً .

    وها نحن سنبدأ بعرض الإسلام دين الله الذي بلغه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المبحث الثالث ونهيب بك أن ترضاه ديناً .

    لتكون بعد هذا كله أهلاً لنيل رضوان الله وجنته ولتنجو بهذا من سخط الله وعقوبته والله ولي أمرنا وأمرك .

    * * *

  5. افتراضي

    [SIZE=4]السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
    جزاك الله خير الجزاء أخى الكريم و بارك لنا فيك على هذا الكتاب القيم
    و غفر الله لنا و لكاتبه الأستاذ سعيد حوى

    جزاك الله خيرا مرة أخرى
    [/SIZE]

  6. افتراضي

    بسم الله الرحمن الرحيم

    جزى الله خيراً منتدى التوحيد بإدارته التي أتاحت لي هذه الفرصة ، وأشكر كل من شجعني على هذا العمل ، وأرجو أن يكتبه المولى عز وجل في ميزان حسناتنا جميعاً .

    ما أطلبه ممن قرأ من الكتاب شيئاً هو طلبان :

    1. أن يجمع الأخطاء الإملائية التي رآها ، ثم يرسلها دفعةً واحدةً إلى الإدارة . حسب استطاعته .

    2. أن يقف لحظةً قبل إكمال القراءة وأن يدعو لي ولكاتبه سعيد حوّى . وبالخاصة أن يدعو لي بأن يرزقني الله قلباً سليماً .


    بارك الله فيكم . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

  7. #22
    تاريخ التسجيل
    Sep 2004
    المشاركات
    1,955
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    جزى الله الأخ قسورة خير جزاء على هذا العمل الطيب

    اضغط هنا لتحميل الكتاب على صيغة ملف word
    الحق فضيلة واجبة الاتباع والباطل رذيلة موجبة الاقتلاع .

  8. #23
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    سوريــ حلب ـــا
    المشاركات
    207
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    بسم الله الرحمن الرحيم
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    جزى الله أخونا قسورة عنا خير الجزاء
    ما شاء الله جهد كبير واختيار موفق
    ومن جانبي أتقدم إلى أخي وحبيبي وصديقي قسورة بهذه الهدية
    وهي تحويل كتاب الرسول إلى كتاب إلكتروني يسهل التعامل معه
    إليكم رابط التحميل:
    http://www.sendspace.com/file/127wdi

    حجمه: 1.79 ميغا بايت
    أسأل الله أن يجعله في ميزان حسناتكم أخي العزيز
    وتقبل الله منا ومنكم
    تحياتي لكم


    فاعلم أنه لا إله إلا الله

    علی باب قصر العلم ‌مكتوب هذه‌ العبارة:
    الدخول ممنوع على من لا إيمان له‌ بالله‌
    ماکس پلانک(عالم فيزياء ألماني)

  9. افتراضي

    بارك الله فيكم أخي قسورة على هذا الجهد الطيب وجزاكم خيرا
    وبارك في الاخ الفاضل السندباد على هداياه القيمة وتشجيعه لإخوته.
    اللهم فك أسر الشيخ المجاهد حامد العلي و اخوانه من العلماء المجاهدين الذين صدعوا بكلمة الحق عندما خرس الكثير
    موقع الشيخ حامد العلي
    http://h-alali.info/npage/index.php
    منبر التوحيد و الجهاد
    http://www.tawhed.ws/
    حمل موقع الشيخ علي الخضير فك الله اسره و أسر اخوته
    http://www.islammessage.com/books/ali_alkhudair/22.rar
    فلم وثائقي:براءة المجاهدين من تقصد سفك دماء المسلمين
    http://islammessage.com/vb//index.ph...=0&#entry41729

  10. #25
    تاريخ التسجيل
    Sep 2004
    الدولة
    مصر
    المشاركات
    1,886
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

  11. افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة حازم مشاهدة المشاركة
    مثل هذا الكتاب ينبغى ان يظل فى مقدمة هذا القسم
    إذا يرفع الى مقدمة القسم

  12. #27

    افتراضي

    اتمنى رفع الكتاب على غير هذا الموقع لانه بختصار محجوب
    جزاكم الله خير

  13. #28
    تاريخ التسجيل
    Sep 2004
    الدولة
    مصر
    المشاركات
    1,886
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. اين خطب الرسول صلى الله عليه وسلم
    بواسطة مرتد اريد ان اتوب في المنتدى قسم الحوار عن الإسلام
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 12-21-2007, 08:18 PM
  2. بعض خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم
    بواسطة noor في المنتدى قسم الحوار عن الإسلام
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 04-01-2007, 12:29 AM
  3. هل سحر الرسول صلى الله عليه وسلم ؟
    بواسطة مالك مناع في المنتدى قسم الحوار عن الإسلام
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 10-10-2005, 01:27 PM

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء