ثانياً – عناصر الغموض
1. عناصر الغموض عند عبدالقاهر الجرجاني.
لقد بين عبد القاهر الجرجاني أهمية الغموض وعناصره، وفرق بين الغموض والتعقيد السلبي الناشئ عن الضعف والركاكة وسوء الفهم، كما أبرز الفرق بين الغموض والوضوح، إذ إن سمة الغموض ركيزة أساسية للعمل الابداعي.
ولذا فقد عد الجرجاني سوء النظم والتأليف وانغلاق الكلام سبباً من أسباب التناهي في الغموض إلى درجة التعقيد، يقول: "واعلم أن لم تضق العبارة ولم يقصر اللفظ ولم ينغلق الكلام في هذا الباب إلا لأنه قد تناهى في الغموض والخفاء إلى أقصى الغايات"(20).
ويكشف هذا الموقف للجرجاني عن إدراكه لأهمية الغموض في بنية النص الابداعي، فهو جوهره وأساسه. فالغموض هو الذي يثير الدهشة والاستفزاز للمتلقي، ويجعل من النص الابداعي نصاً ابداعياً. ومن هنا، فإن الجرجاني لا يعارض الوضوح والقرب في المعاني الأدبية شريطة أن لا يصل هذا الوضوح إلى حد السطحية والركاكة والضعف مما يبعد النص الابداعي عن جوهره وإثارته للمتلقي. فالنص الذي تتعدد وجوه التأويل فيه، ويستفز القارئ إلى بذل الجهد في المتابعة والتفكير هو النص الابداعي الأصيل. كما أن وضوح النص في ظاهره، وفي قراءة القارئ الأولية له لا يعني الوضوح السطحي، فقد يبدو القول التالي: (كالبدر أفرط في العلو) سهلاً وبسيطاً، بيد أن المتفحص لهذا التشبيه يخرج إلى معاني أخرى إضافية تحتاج إلى التفكير والدقة. يقول الجرجاني: "هذا- وليس إذا كان الكلام في غاية البيان وعلى أبلغ ما يكون من الوضوح أغناك ذاك عن الفكرة إذا كان المعنى لطيفاً، فإن المعاني الشريفة اللطيفة لا بد فيها من بناء ثان على أول، ورد تال إلى سابق. أفلست تحتاج في الوقوف على الغرض من قوله: "كالبدر أفرط منه ووجه المجاز في كونه دانياً شاسعاً وترقم ذلك في قلبك ثم تعود إلى ما يعرض البيت الثاني عليك من حال البدر ثم تقابل إحدى الصورتين بالأخرى وترد البصر من هذه إلى تلك وتنظر إليه كيف شرط في العلو الإفراط ليشاكل قوله "شاسع" لأن الشسوع هو الشديد من البعد ثم قابله بما لا يشاكله من مراعاة التناهي في القرب فقال "جد قريب". فهذا هو الذي أردت بالحاجة إلى الفكر، وبأن المعنى لا يحصل لك إلا بعد انبعاث منك في طلبه واجتهاد في نيله"(21).
فمجال الغموض إذن عند عبدالقاهر الجرجاني يكمن في المستوى الفني للعمل الابداعي المتمثل في ضروب البلاغة المختلفة مثل الكناية والمجاز والاستعارة والتشبيه ثم في الصورة والصياغة. يقول "قد أجمع الجميع على أن الكناية أبلغ من الإفصاح والتعريض أوقع من التصريح. وأن للاستعارة مزية وفضلاً. وأن المجاز أبداً أبلغ من الحقيقة"(22). وهذا الفهم هو ما عبر عنه الجرجاني في موقع آخر من كتابه دلائل الإعجاز ليسميه بمعنى المعنى وهو المستوى الفني الذي يقع فيه الغموض. يقول: "وإذ قد عرفت هذه الجملة فها هنا عبارة مختصرة وهي أن نقول المعنى ومعنى المعنى تعني بالمعنى المفهوم من ظاهر اللفظ والذي تصل إليه بغير واسطة وبمعنى المعنى أن تعقل من اللفظ معنى ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر"(23).
وقد استخدم الجرجاني ألفاظاً تعبر عن المستوى الفني للعمل الابداعي، وهي أقل سلبية في ظاهرها الخارجي من لفظة الغموض التي تعكس معنى سلبياً للوهلة الأولى. وهذا يشكل حرص عبدالقادر الجرجاني، وإدراكه لأهمية الغموض بمرادفاته المختلفة في العمل الابداعي، ولا سيما في النصوص الشعرية.
ولذا فقد استعمل الجرجاني مصطلح الغرابة ليشير إلى الغموض الفني في العمل الابداعي. يقول: "والمعنى الجامع في سبب الغرابة أن يكون الشبه المقصود من الشيء مما لا ينزع إليه الخاطر، ولا يقع في الوهم عند بديهة النظر إلى نظيره الذي يشبه بل بعد تثبت وتذكر وفكر للنفس في الصور التي تعرفها وتحريك الوهم في استعراض ذلك واستحضار ما غاب منه"(24).
كما أشار الجرجاني إلى مرادفات أخرى للغموض مثل التعقيد غير المقصود، والتعمية، وهذا ما يكسب العمل الابداعي قوة وخصوصية فنية، وأما إذا كان التعقيد والتعمية مقصودان لذاتهما فإن ذلك يفقد العمل الفني خصوصيته، ويبعده عن جوهره. يقول: "وأشباه ذلك مما ينال بعد مكابدة الحاجة إليه، وتقدم المطالبة من النفس به، فإن قلت فيجب على هذا أن يكون التعقيد والتعمية وتعمد ما يكسب المعنى غموضاً مشرفاً له وزائداً في فضله، وهذا خلاف ما عليه الناس. ألا تراهم قالوا: إن خير الكلام ما كان معناه إلى قلبك أسبق من لفظه إلى سمعك، فالجواب إني لم أرد هذا الحد من الفكر والتعب، وإنما أردت القدر الذي يحتاج إليه في نحو قوله: فإن المسك بعض دم الغزال"(25).
وقد جسد الجرجاني في مواقع أخرى من كتابيه دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة جوهر الغموض المتمثل في الإشارة والكناية والرمز والصياغة والصورة، حيث تبرز هذه الأشكال والموضوعات البلاغية أهمية الغموض المتمثل في المستوى الفني الذي يجسد جوهر العمل الابداعي وأساسه. يقول: "ثم إن التوق إلى أن تقر الأمور قرارها، وتوضع الأشياء مواضعها، والنزاع إلى بيان ما يشكل، وحل ما يتعقد، والكشف عما يخفى، وتلخيص الصفة حتى يزداد السامع ثقة بالحجة، واستظهاراً على الشبهة، واستبانة للدليل، وتبييناً للسبيل شيء في سوس العقل، وفي طباع النفس إذا كانت نفساً ولم أزل منذ خدمت العلم أنظر فيما قاله العلماء في معنى الفصاحة والبلاغة، والبيان والبراعة، وفي بيان المغزى من هذه العبارات وتفسير المراد بها، فأجد بعض ذلك كالرمز والإيماء والإشارة في خفاء، وبعضه كالتنبيه على مكان الخبيء ليطلب، وموضع الدفين ليبحث عنه فيخرج، وكما يفتح لك الطريق إلى المطلوب لتسلكه، وتوضع لك القاعدة لتبني عليها، ووجدت المعول على أن ههنا نظماً وترتيباً، وتأليفاً وتركيباً، وصياغة وتصويراً، ونسجاً وتحبيراً، وأن سبيل هذه المعاني في الكلام الذي هي مجاز فيه سبيلها في الأشياء التي هي حقيقة فيها. وأنه كما يفضل هناك النظم النظم والتأليف التأليف، والنسج النسج والصياغة الصياغة. ثم يعظم الفضل. وتكثر المزية، حتى يفوق الشيء نظيره، والمجانس له درجات كثيرة، وحتى تتفاوت القيم التفاوت الشديد، كذلك يفضل بعض الكلام بعضاً. ويتقدم منه الشيء الشيء، ثم يزداد من فضله ذلك ويترقى منزلة فوق منزلة، ويعلو مرقباً بعد مرقب، ويستأنف له غاية بعد غاية، حتى ينتهي إلى حيث تنقطع الأطماع، وتحسر الظنون، وتسقط القوى، وتستوي الأقدام في العجز"(26).
فمجال الغموض في النص الابداعي هو الصياغة والتأليف والإشارة والرمز، فضلاً عن الكناية والتلويح والتعريض. وهذه المصطلحات تجسد معنى الغموض، وتبتعد عن سلبية المعنى الظاهري لكلمة الغموض. كما أنها تشكل جوهر العمل الابداعي الذي يتميز بخصوصيته الفنية التي تميزه عن الكلام العادي أو الكلام غير الابداعي. ولهذا فالنص الابداعي يستمد طاقته المتجددة من ضروب البلاغة التي تجعل النص الابداعي نصاً إبداعياً يحتاج متلقيه إلى طول التدبر والتفكير لكي يصل إلى فهمه ومعرفة ظلاله وإيحاءاته. يقول: "واعلم أن ذلك الأول وهو المشترك العامي، والظاهر الجلي والذي قلت أن التفاضل لا يدخله، والتفاوت لا يصح فيه، إنما يكون كذلك منه ما كان صريحاً ظاهراً لم تلحقه صنعة وساذجاً لم يعمل فيه نقش، فأما إذا ركب عليه معنى، ووصل به لطيفة، ودخل إليه من باب الكناية، والتعريض، والرمز، والتلويح، فقد صار بما غير من طريقته، واستؤنف من صورته، واستجد له من المعرض، وكسى من ذلك التعرض، داخلاً في قبيل الخاص الذي يملك بالفكرة والتعمل، ويتوصل إليه بالتدبر والتأمل. كقوله :
إن السحاب لتستحيي إذا نظرت :::: إلى نداك فقاسته بما فيها"(27).
إضافة إلى ما جاء من عناصر الغموض عند الجرجاني، فقد تبين أن قيمة المجاز والاستعارة والتمثيل تكمن في الغموض الذي يمنح النص حياة وقوة ويجعله نصاً ابداعياً متجدداً عند متلقيه. ويكمن هذا التجدد من انزياح الكلام في النص عن ظاهر اللفظ، وهذا ما يستفز المتلقي إلى إمعان النظر في النص، وإدراك أسراره وصوره وإيحاءاته، فالانزياح في النص الابداعي هو مجال الغموض، ويتمثل هذا الغموض والانزياح في المجاز وضروبه البلاغية، يقول: "اعلم أن الكلام الفصيح ينقسم قسمين قسم تعزى المزية والحسن فيه إلى اللفظة، وقسم يعزى ذلك فيه إلى النظم. فالقسم الأول الكناية والاستعارة والتمثيل الكائن على حد الاستعارة وكل ما كان فيه على الجملة مجاز واتساع وعدول باللفظ عن الظاهر، فما من ضروب من هذه الضروب إلا وهو إذا وقع على الصواب وعلى ما ينبغي أوجب الفضل والمزية"(28).
كما يشكل التشبيه ضرباً من الغموض عند الجرجاني، ولا يمكن للقارئ أن يتوصل إلى خبايا الصورة التشبيهية إلا من خلال التأويل والتفكير. يقول: "ومثال الثاني وهو الشبه الذي يحصل بضرب من التأويل كقولك هذه حجة كالشمس في الظهور وقد شبهت الحجة بالشمس من جهة ظهورها كما شبهت فيما مضى الشيء بالشيء، من جهة ما أردت من لون أو صورة أو غيرهما إلا أنك تعلم أن هذا التشبيه لا يتم لك إلا بتأويل. وذلك أن تقول حقيقة ظهور الشمس وغيرها من الأجسام أن لا يكون دونها حجاب ونحوه مما يحول بين العين وبين رؤيتها، ولذلك يظهر الشيء لك ولا يظهر لك إذا كنت من وراء حجاب أو لم يكن بينك وبينه ذلك الحجاب"(29).
كما حاول الجرجاني التركيز على مصطلح الغموض نفسه، مبيناً، أهمية العقل في إدراك الفكرة التي يعبر عنها النص الابداعي من خلال ضروب البلاغة، والصياغة والتأليف. فالجرجاني هو ذلك الناقد العقلاني الفذ الذي يرفع من قيمة الفكرة، ويرى الوصول إليها من أهم أنواع اللذة النفسية في تتبع صور الجمال، فالمجاز والاستعارة والتشبيه والتمثيل ضروب تحرك القارئ إلى معرفة الفكرة وإدراكها التي يعبر عنها النص الابداعي، وبهذا يستطيع المبدع من خلال النص الإبداع أن ينقل القارئ من منطقة العقل وتتبع الفكرة إلى منطقة الحس والشعور بالنشوة واللذة النفسية العارمة، وهذه غاية أساسية للعمل الابداعي تجاه المتلقي، يقول الجرجاني: "ومن المركوز في الطبع أن الشيء إذا نيل بعد الطلب له أو الاشتياق إليه، ومعاناة الحنين نحوه، كان نيله أحلى، وبالميزة أولى، فكان موقعه من النفس أجل وألطف، وكانت به أضن وأشغف، وكذلك ضرب المثل لكل ما لطف موقعه ببرد الماء على الظمأ كما قال:
وهنّ ينبذن مــن قــول يصبن بــه :::: مواقع الماء من ذي الغلة الصادي
وأشباه ذلك مما ينال بعد مكابدة الحاجة إليه، وتقدم المطالبة من النفس به، فإن قلت فيجب على هذا أن يكون التعقيد والتعمية وتعمد ما يكسب المعنى غموضاً مشرفاً له وزائداً في فضله"(30).
وعد الجرجاني التباين والتنافر في أطراف التشبيه أكثر قدرة على شد المتلقي وإثارته واستفزازه لما في هذا التنافر من غموض يحرك العقل والحس معاً. يقول: "كلما كان مكان الشبه بين الشيئين أخفى وأغمض وأبعد من العرف كان الإتيان بكلمة التشبيه أبين وأحسن وأكثر في الاستعمال"(31).
ولعل استخدام كلمة الغموض والإصرار عليها إلى جانب المرادفات الأخرى لها مثل التعقيد والتعمية والغرابة والإشارة والتلويح والرمز والتعريض، فضلاً عن المجاز والكناية والاستعارة والتشبيه يعود لما لهذا الموضوع من قدرة على إضفاء الخصوصية الفنية على العمل الابداعي، ذلك العمل الذي يثير القارئ عقلاً وحساً، مما يجعل النص في دائرة التأويل والتفسير وتعدد الاحتمالات، وهذا ما يجعل النص الابداعي نصاً إبداعياً. فالغموض هو الذي يمنح النص خصوصيته الجمالية والإبداعية، يقول الجرجاني: "ثم إن ما طريقه التأول يتفاوت تفاوتاً شديداً. فمنه ما يقرب مأخذه ويسهل الوصول إليه ويعطي المقادة طوعاً، حتى أنه يكاد يداخل الضرب الأول الذي ليس من التأول في شيء، وهو ما ذكرته لك. ومنه ما يحتاج في استخراجه إلى فضل رؤية ولطف وفكرة"(32).
وبهذا يكون الجرجاني قد استطاع إبراز أهمية الغموض في بنية النص الابداعي، وأن ضروب الغموض تشتمل على الصياغة والتركيب، فضلاً عن ضروب البيان والمعاني والبديع، إضافة إلى ذلك فقد ربط عبدالقاهر الجرجاني الغموض باللذة العقلية والحسية عند القارئ. ولذلك فالغموض بأشكاله المختلفة من تعمية وتعقيد وغرابة يدفع القارئ إلى دائرة التأويل وإدراك الفكرة التي تضمنها النص الابداعي، وهذا ما يثير لذة نفسية وعقلية عند القارئ.
فالجرجاني قد أدرك أهمية الغموض بأنماطه المختلفة في تشكيل بنية النص الابداعي، ومنحه الخصوصية الفنية والجمالية، حيث النص الابداعي البعيد عن الغموض الفني نصاً سطحياً لا يرقى إلى العمل الابداعي الحقيقي الذي يجعل القارئ جزءاً من العملية الإبداعية، ومشاركاً فيها من خلال وقوعه في دائرة التأويل والتفسير، وتعدد المعاني والاحتمالات.
Bookmarks