المشاركة الأصلية كتبت بواسطة الفرصة الأخيرة
والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ينطق إلا بوحي في كل ما ينطق به.. قرآنًا وسنةً.. قولاً وعملاً.. ولذا نرى في «تفسير القرطبي 17: 85» : «ما يخرج نطقه عن رأيه. إنما هو بوحي من الله عز وجل. لأن بعده: (إن هو إلا وحي يوحى)».
بل قال القرطبي: «قد يحتج بهذه الآية مَن لا يُجَوِّز لرسول الله صلى الله عليه وسلم الاجتهاد في الحوادث.
وفيها أيضا دلالة على أن السنة كالوحي المنزل في العمل».
وستأتي إن شاء الله مناقشة مسألة الاجتهاد في الحوادث المذكورة في كلام القرطبي رحمه الله.
يتبع...
وهذا الأمر مبنيٌّ على مسألة: اجتهادات النبي صلى الله عليه وسلم هل هي وحي كلها أم لا؟
وتفصيل ذلك:
أن الاجتهادات التي في مجال الشريعة والدين:
فهذه كلها وحي من الله عز وجل.. وهي على أقسام..
ـ فمنها ما نزل به القرآن الكريم.
ـ ومنها ما سُئِل عنه صلى الله عليه وسلم فنزل الوحي بالجواب مباشرة:
ومن ذلك حديث: صَفْوَانِ بْنِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّ يَعْلَى كَانَ يَقُولُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَيْتَنِي أَرَى نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ فَلَمَّا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجِعْرَانَةِ وَعَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَوْبٌ قَدْ أُظِلَّ بِهِ عَلَيْهِ مَعَهُ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فِيهِمْ عُمَرُ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ عَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فِي جُبَّةٍ بَعْدَ مَا تَضَمَّخَ بِطِيبٍ
فَنَظَرَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاعَةً ثُمَّ سَكَتَ فَجَاءَهُ الْوَحْيُ فَأَشَارَ عُمَرُ بِيَدِهِ إِلَى يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ تَعَالَ فَجَاءَ يَعْلَى فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ فَإِذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْمَرُّ الْوَجْهِ يَغِطُّ سَاعَةً ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَقَالَ أَيْنَ الَّذِي سَأَلَنِي عَنْ الْعُمْرَةِ آنِفًا فَالْتُمِسَ الرَّجُلُ فَجِيءَ بِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا الطِّيبُ الَّذِي بِكَ فَاغْسِلْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَأَمَّا الْجُبَّةُ فَانْزِعْهَا ثُمَّ اصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ مَا تَصْنَعُ فِي حَجِّكَ
رواه البخاري ومسلم
ـ ومنها ما أجاب فيه النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول الوحي عليه.. فأقرَّه الوحي... أو نزل بتغيير حكمه.. كما في قصة أسرى بدر وغيرها.
فالحكم الأخير هنا بعد الإقرار أو التصحيح إنما هو للوحي.. فهذا أيضًا من الوحي.
ومن هنا لا إشكال أبدًا في فهم تحريم النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه شيئًا ثم نزول الوحي بالتصحيح كما في قصته مع أزواجه.. وكذلك لا إشكال في حكمه في أسارى بدر ثم تصحيح الوحي له.. لأن حكمه الأول لم يكن وحيًا.. حتى يقال: أخطأ الوحي كما قاله بعضهم.. بل الوحي هو آخر الأمرين.
فالحكم الأول كان اجتهادًا من النبي صلى الله عليه وسلم .. في واقعةٍ لم يسبق فيها الوحي.. ثم نزل الوحي بالتصحيح.. فالحكم الأول لم يكن وحيًا.. كما أن الحكم الأخير هو حكم الوحي .. لأنه هو الذي نزل به.. وهو الذي صحَّحَهُ.
فدلَّ هذا كله على أن الأفعال والاجتهادات التي صدرت من النبي صلى الله عليه وسلم في مجال الشريعة وحيٌ من الله عز وجل.
ـ بخلاف أفعاله وأقواله في مجال الدنيا فهو فيها كغيره من البشر.. وهذه لم يُنْقَل لنا منها إلا أقل من النادر جدًا.. ولا أعرف مما نُقِل من أفعاله وأقواله صلى الله عليه وسلم في مجال الدنيا سوى واقعة تأبير النخل.. حيثُ أرشدهم إلى ترك تأبيره فلم يُنْتِج فقال لهم: أنتم أعلم بأمور دنياكم.
والحديث واضح في هذا الأمر ونصه:
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ فَقَالَ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ قَالَ فَخَرَجَ شِيصًا فَمَرَّ بِهِمْ فَقَالَ مَا لِنَخْلِكُمْ قَالُوا قُلْتَ كَذَا وَكَذَا قَالَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ
رواه مسلم.
وفي رواية ابن ماجة لهذا الحديث قال لهم صلى الله عليه وسلم في هذه القصة:
(إِنْ كَانَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَشَأْنُكُمْ بِهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أُمُورِ دِينِكُمْ فَإِلَيَّ).
وهذا لفظ واضح وصريح جدًا في التفريق بين أمور الشريعة وأمور الدنيا.. وأنه في أمور الدنيا كغيره صلى الله عليه وسلم.. بخلاف أمور الشريعة فلا ينطق فيها إلا بوحي.. إن هو إلا وحي يوحى.. سواء نزل الوحي أول الأمر فعمل به.. أو قال برأيه ثم أقَرَّهُ الوحي أو نزل بتغيير حكمه.. فهذا كله وحي.
يتبع....
Bookmarks