الأسباب الحقيقية وراء الفرقة بين أهل السنة المعاصرين

بقلم الشيخ : مختار الطيباوي حفظه الله

الحمد لله وحده، و الصلاة و السلام على من لا نبيّ بعده، وبعد....

احتار كثير من العقلاء في أحوال أهل السنة المعاصرين، كيف وصل بهم الحال إلى التفرق و التشتت و التناحر، الذي بلغ درجة تدخل الشك في النفوس، فقد فاقوا الطوائف المخالفة تفرقا و تناحرا.

وليس هذا من خصائص، ولا من مميزات أهل السنة عبر العصور،بل قد انحط بعضهم حتى لم يبق فيه من السنة إلا الاسم بلا معنى، فلا هو من الدعاة إلى التوحيد و إقامة الدين، ولم يشارك بأي مجهود في ذلك.

ولا هو من المدافعين عن التوحيد،ولا هو من الدعاة إلى الله بالوعظ و الإرشاد، ولا هو ترك الدعاة إلى الله يعملون لله.

بل إننا عندما نتفحص منهج هؤلاء نجده منهجا قد جمع شواذا من الكلمات، وهفوات علمية، وفلتات لسانية، يزعم أنها منهج أهل السنة و الجماعة!

وقد لا يشعر المتسببون في هذه الحالة المزرية بهذا الأمر لأنهم يعتقدون اعتقادا جازما أنهم على الحق فيما يفعلون، وغيرهم هو الضال المنحرف !

لكن كيف يكونون على الحق و غيرهم على ضلال، وهو يشاركهم في المصادر و المرجعيات و الأصول و القواعد و العلماء، ولم يقدروا على أن يقيموا عليه حجة صحيحة ،فلزم أن جزمهم باعتقادهم جزم هوى و ليس جزم علم؟!

وحتى نفهم هذه الحالة بصورة علمية تأصيلية مستمدة من الكتاب و السنة نفهم بها سبب هذا الذي يحدث ،و ما هو علاجه أقول:

ينشأ الاختلاف بين العلماء لأسباب كثيرة ، لعل من أهمها أن مسائل الدين منها الجليّ الذي يجب اتباعه، و منها الخفي الذي يجوز الاجتهاد فيه،وعندما يقع الخلاف فيه فلا يعتبره أهل العلم المعتبرين تفرقا، بله أن يعتبروه بدعا و ضلالات.

وهنا يقع إشكالان بالنسبة لبعض الناس :

الإشكال الأول:

عدم تمييز واضح لمسائل الاتفاق عن مسائل الاختلاف ،فيجعلون موارد الاجتهاد من قسم المتفق عليه أو مما يجب التسليم لهم فيها، فتراهم يدخلون مسائل من مصطلح الحديث كـ : "تعارض الجرح و التعديل"، و "الجرح المفسر مع الجرح المجمل"، ومسائل من أصول الفقه كـ : "حمل المجمل على المفصل" ـ وهي لا تختلف عن مسألة حمل المطلق على المقيد أو تقييد العموم بالخصوص ـ في قسم المتفق عليه، ثم يرجحون فيها رأيا هو في غالب الأحيان رأي شاذ أو ضعيف ليس له من المرجحات العلمية إلا أنه يوافق نفوسهم ومنهجهم، ثم يبدعون و يضللون من يخالفه، وهذه بدعة ضخمة.

ومن أمثلة اختلاط المسائل عليهم وعدم تمييزهم بينها: خلطهم الفاحش بين رد خبر الثقة ورد رأي الثقة ـ إذا سلمنا أنه ثقة يستجمع صفة العدالة و الضبط ـ فجعلوا رد رأي الثقة ـ المختلف فيه ـ في الجرح و التعديل من رد خبر الثقة!

و معلوم أن المقصود من خبر الثقة: الحديث النبوي لا رأي تقديري لعالم من العلماء، لأن جميع آراء العلماء العدول في جميع فنون العلم هي رأي ثقة، الإشكال هنا ليس في ثقتهم ولكن في الصواب و الخطأ لأنها آراء و اجتهادات وترجيحات، و ليست أخبارا مسندة استجمعت شروط التحمل و الأداء.

فمن يخلط هذا الخلط يجعل الكلام على الكفار كالكلام على المبتدعين، و يجعل البدع الغليظة كالبدع الخفيفة، وهذا منهج الخوارج لا منهج أهل السنة و الجماعة.

الإشكال الثاني:

أن كثيرا منهم ليسوا أهلا للخوض في هذه المسائل، فإذا نص بعض العلماء أن الأصوليين ليسوا من أهل الإجماع فكيف يؤخذ برأي من يجهل أصول الفقه في أصول الفقه؟!

فهل يسمح لهم مجرد النقل عن العلماء الخوض في هذه المسائل، و تحرير النزاع فيها، ثم ترجيح الرأي الأقوى؟!

هذا يشبه ترجيح قول الأخباري ـ في معاني النصوص ـ على قول الفقهاء.

إن الاجتهاد في هذا القسم الثاني لا يكون إلا من العلماء العدول،أي من جمع صفة العلم و العدالة ، فلا يصح اجتهاد إلا بعلم وقصد حسن،و لما اجتهد في الدين من لم يكمل عدة العلم ،أو فاته منه ما يحتاجه للإحاطة بمقاصد الشريعة.

وكذلك اجتهد فيه من لم يملك قصدا حسنا، بل كان قصده تقرير موروث ضعيف أو مذهب مرجوح، أو تأصيل باطل لنفسه أو لجهة من الجهات، اشتد تفرق الأمة حتى تفرق من ينتسبون للسنة، وظهر بينهم ما كان في غيرهم.

فمن كان عالما في الحديث حقيقة أو تجوزا، عاميا في علم الكلام و أصول الفقه كيف يجتهد في هذه المسائل الخارجة عن إدراكه، ويؤخذ برأيه فيها؟!

ولأن ميزة هذه الأمة التي فارقت بها غيرها من الأمم :الإسناد ، و لذلك كان الأصل عند أهل السنة إسناد المنقولات بخلاف المخالفين لهم، فإن منقولاتهم لا إسناد لها صحيح،فهم إما يتكلفون تحصيل ماهيات المطالب، و ترتيب الحدود لها اعتمادا على منطق الإغريق ومباحث اللغة المحدثة دفعا في نحر المنقولات الصحيحة.

وهؤلاء الذين نحن بصدد الحديث عنهم منقولاتهم ليست نصوصا بل مجرد أقوال لبعض العلماء، إما قيدوها في سياق حديثهم بشروط وعلل يستعملها هؤلاء في غير مواردها لمجرد الاشتراك اللفظي و اتساع العبارات لها، كمن يؤخذ قول ابن عمر رضي الله عنهما في غلاة القدرية المكذبين بالقدر، الذين حدثوا في زمانه: (( فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني )) رواه مسلم.

و ينزلها على جماعة التبليغ، دون اعتبار أن ابن عمر كان يتكلم عن طائفة من القدرية كافرة، تنكر علم الله السابق، قد نص الأئمة كمالك والشافعي وأحمد على تكفير منكر علم الله السابق، فيأتي هؤلاء و ينزلون كلامه على أصحاب البدع العملية سواء المتفق على أنها بدع أو المختلف فيها،وهذا اضطراب شديد.

وعندما ينقل البربهاري قول سفيان الثوري : (( البدعة أحب إلى إبليس من المعصية ، المعصية يتاب منها ، والبدعة لا يتاب منها )) يشرح هذا القول، و يبيّن الجهة التي قصدها سفيان الثوري، لأن البدعة ليست أحب لإبليس من المعصية من كل الجهات، بل من جهة الشعور بالحاجة إلى التوبة من عدمه.

وهناك جهات أخرى في القضية تكون فيها المعصية أحب إلى إبليس من البدعة، فإن ما يؤاخذ عليه الله تعالى يوم القيامة أحب إلى إبليس مما يعفو عنه،و غرض إبليس إهلاك بني آدم بإدخالهم النار، و قد علمنا أن بعض المبتدعة يكون معذورا لأنه مجتهد قصد موافقة الحق، في حين أن بعض العصاة يجاهرون بمعصيتهم لله تعالى، فكيف نسوي بين من يقصد طاعة الله و أخطأ، و بين من اتبع شهوته وواجه الله تعالى بذنوبه؟!

فالبربهاري ـ رحمه الله ـ قال عقب كلمة سفيان الثوري :

(( واتفق علماء السلف من أهل السنة على النهي عن الجدال والخصومات في الصفات ، وعلى الزجر عن الخوض في علم الكلام وتعلمه ))

فيأتي من يستشهد بهذه الكلمة فينزلها على بدع عملية، و أحيانا كثيرة على مسائل ليست من البدع إلا في فهمه، أو هي مسائل فقهية اختلف فيها أئمة السنة، فجعلها بعضهم بدعة مثل: استعمال السبحة فإن القول بأنها بدعة قول ضعيف جدا، لأن من أجازها من العلماء أكثر بكثير ممن منعها، و أجل منهم علما وقدرا.

ومن أجازها معه نصان، ومن منعها ليس معه إلا عدم فعل النبي صلى الله عليه و سلم مع أن إقراره التسبيح بالحصى و النوى ثابت عنه.

وكذلك مسألة القبض بعد الرفع من الركوع ، و الأخذ من اللحية كما يقوله الشيخ مقبل أو الإعفاء عنها كما يقوله الألباني ـ رحمهما الله ـ.

و العجيب أن بعضهم يرى قول الحسن البصري و عطاء ومالك و الطبري و القاضي عياض وغيرهم خطئا و مذهبا مرجوحا، لكنه لا يجرؤ على تبديعهم و تضليلهم و جرحهم به، ولكن من يقلدهم من العوام أو يعتبر بتعليلهم من العلماء يبدع و يضلل ويجرح، فأين العلم، و أين العلماء، و أين المنهج؟!

و عليه، وجب علينا عندما ننظر في الكلام العلماء التمييز بين استدلالهم وبين أحكامهم و آرائهم المجردة، فعندما يقول أحد المشهورين في مسألة إسبال الثوب : (( و لكن الشيطان يفتح لبعض الناس المتشابه من نصوص الكتاب و السنة ليبرر لهم ما كانوا يعملون)) فهذه كلمة منفلتة يجب إهدارها، لأننا لو تركناها على عمومها عادت عليه بالذم، فإن من قيّد الإسبال بالخيلاء علماء أجمعت الأمة على إمامتهم و تقواهم كـ :أحمد بن حنبل، و البخاري، وابن عبد البر، و الباجي، و النووي، و ابن تيمية، و الذهبي، و العراقي، وابن حجر، والشوكاني، و غيرهم كثير.

فلا شك أن الشيخ كان يقصد الشباب المتوسع في التأويل، أو الذي لم يقدر على صياغة حجته بشكل علمي مرتب، لكن الواجب علينا التمييز بين استدلال الشيخ و بين كلامه الآخر.

و لأن هؤلاء الذين نحن بصدد الحديث عنهم لا يميزون بين هذه المسائل، وجل خطئهم مبناه الاشتباه نقول:

شرط الاجتهاد: العلم و العدالة، أو العلم و القصد الحسن، فإنا نقصد بالعلم هنا العلم المبني على علم الرواية و الإسناد ،الذي هو شرط و سلم إلى علم الدراية و تفقه المعاني،فلا يجوز الاجتهاد لمن أخل بعلم السنة، كما لا يجوز لمن أخل بعلم المعاني و التفقه فيها على حد سواء.

ولست أتحدث عن شروط الاجتهاد المطلق فهذا كالإحالة و التناقض، و تعطيل العلم وسد باب التعليم، ولكني أتحدث عن شروط فهم النصوص، ومعرفة صحيحها، ومعرفة لغة العلماء و مقاصدهم، مما يحتاج إليه ليحكم بأن قوله هو مرادهم.

فما كان من اجتهاد في الخفي أو المختلف فيه بعلم وقصد حسن لا يسمى تفرقا،إذا اجتنبنا الغلو، و التعصب، و إكراه الغير عليه، قال الله تعالى:{ وَمَا تَفَرَّقُوا إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ }.

فإذا سبب التفرق الحاصل هو البغي، و ليس الاختلاف في موارد الاجتهاد،فإن الإسلام تكفل بهذا الاختلاف وقرر ضوابطه.

و البغي إما تضييع لحق كترك واجب، و إما تعد لحد كفعل محرم.

و أسباب الاجتماع و الألفة هو جمع الدين، و العمل به كله، و عبادة الله باطنا و ظاهرا.

ومتى تركنا حظا مما أمرنا به أي ضيعنا حقا بترك واجب، أو تعدينا حدا بفعل محرم ظهرت فينا الفرقة، قال تعالى:{ وَمِنْ الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيمَةِ }.

فما أسباب هذه العداوة و البغضاء بين أهل السنة ؟

هل هي اتباع القرآن، و إعمال النصوص النبوية أم تضييع الحقوق و الواجبات و تجاوز الحدود الشرعية؟

فلنذكرما هي الحقوق الشرعية على المسلمين لنتبيّن منها الواجبات الضائعة و الحدود المنتهكة.

أسباب التفرق:

من أسباب الأخذ بالدين كله إقامة الحقوق كلها، وهي قسمان:

1 ـ حق الله وهو أن نعبده بإخلاص، ولا نشرك بها شيئا ،وهذا يلزم منه بيانه للأمة، و تحصينها من كل ما يعارضه من دعوات شركية ليست القبورية وحدها فإن شركية هذا العصر هي العلمانية، لأنها تدعو الإنسان إلى عبادة شهواته، فهي أخطر دعوى في هذا العصر، خاصة العلمانية التي لا تريد إلغاء الدين، و لكن إبعاده عن حياة الناس،وحصره في المساجد حتى يصير طقوسا و مراسيم احتفالية مثل ما عند النصاري يكفي لدخول الجنة دعوى حب المسيح، ولك أن ترتكب ما تشاء من الذنوب ، فهذه العلمانية لا تسمح للمسلمين إلا بنوع إيمان عقلي .

2 ـ حق العباد، وهو قسمان : خاص و عام.

فحق العباد الخاص: كـ :بر الوالدين، وحق الزوجة، وحق الجار،وحق المسلم من عدم هجره [ لا أقصد المبتدع الداعية عندما تتوفر كل الشروط ،وهي غير متوفرة الآن في كثير من الأحيان} فوق ثلاث، و الحرص على ما ينفعه، و تجنيبه ما يضره.

وحق العباد العام قسمان:

1 ـ حق الرعية، وهو لزوم جماعة المسلمين،بالصلاة معهم، و مشاركتهم في فعل الخيرات،وحمل همومهم ، و التعاون معهم على البر، لا هجرهم، و تبديعهم و تضليلهم دون تمييز بين زنادقة قصدوا إفساد الدين، و صالحين تشابهت عليهم الأمور، فضلا عن عوام لا ذنب لهم إلا أنهم ليسوا علماء.

2 ـ حق الرعاة، وهو مناصحتهم في كل شيء، و في كل الميادين، ومعلوم أن من قصر في العلم، و في التجاوب المعرفي مع ثقافة العصر و متطلباته لا يمكنه أن ينصحهم وهم أدرى منه بكثير من المجالات.

وهذا معنى قوله صلى الله عليه و سلم : (( ثَلَاثٌ لَا يَغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ : إخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ )).

و كذلك قوله صلى الله عليه و سلم: (( إنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا : أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَأَنْ تَنَاصَحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ )).

فالاجتماع والإتلاف اللذين في هذين الحديثين الصحيحين لا يتم إلا بالمعنى الذي وصى به النبي صلى الله عليه و سلم في حديث عبد الله بن عمر وهو قوله : (( وَلْيَأْتِ إلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إلَيْهِ )).

فالإنسان يحب أن يغفر له،ويحب أن يرحم،و يحب أن يخاطب بلطف، و يحب أن لا يؤاخذ بالخطأ الواحد،و يحب أن يعذر،و يحب أن يعطى الوقت،ويحب أن يحسن إليه،فمن أعطى المسلمين ما يعطيه لنفسه، ويحب لهم ما يحبه لنفسه فهذا قد لزم جماعتهم.

والخلاصة:

1 ـ لا يجوز التبديع و التضليل و الاستهجان في الخلاف في مسائل الاجتهاد.

2 ـ لا يجب تضييع الحقوق بتضييع الواجبات كالقيام ببعضها و إهمال بعضها الآخر، فالدين ليس فقط دعوة للتوحيد العملي، و مناصحة ولاة الأمر في تعيين الأئمة،بل دعوة إلى الله تعالى بطاعته باطنا و ظاهرا ،أي محاربة الفسق و الفجور و القيام بسائر الواجبات.

وكذلك الدعوة إلى التوحيد العلمي فإنه به نواجه حملات التنصير و هجمات العلمانية على القرآن،فأكثر الدراسات الألسنية و السيمائية في الجامعات تفور بهذا الداء ،وبعضنا يظن أن الصراع الفكري في المساجد، و نسي الجامعات ووسائل الإعلام، فكيف نفسر أن كتب هؤلاء تباع بأضعاف ثمن الكتب الدينية من نفس الحجم ؟!

دعوة التوحيد المعاصرة

إن الصورة الموجودة حاليا لدعوة التوحيد عند هذه الفئة صورة ناقصة تشكل تصور هؤلاء للتوحيد وفق ما وصلهم منه وفهموه من كتب الأئمة.

وعليه،فما وصلهم من عناصر دعوة التوحيد ينعكس اليوم في الكيفية التي يدعون بها إلى التوحيد وفي موضوعاته .

لا أريد من خلال هذا الكلام عن فهم هؤلاء لدعوة التوحيد أن أنتقص مردودهم وقيمته الفعلية ، بل المراد بيان أن استيراد ظروف نشأة تصورهم هو ما يلفها بلباس سلبي هي في غنى عنه .

إنني في الحقيقة أحبذ استثمار نتائج هذه الدعوة أي الاقتصار على التوحيد العملي عند هؤلاء لإتمام البناء و الانطلاق نحو الدين كما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم الحنفية السمحة الخالية من الطائفية و التعصب و العداوة بين المسلمين، لأننا بغير ذلك نكون قد حكمنا على مفهوم هؤلاء للتوحيد بالكمال، في حين هو ناقص من بعض الجوانب ،فإن هؤلاء و مهما اقتبسوا من شيخ الإسلام يبقى هذا الاقتباس مختزلا ومخلا أحيانا بجوانب أخرى لا تقل أهمية عن التوحيد العملي الذي اقتبسوه عن شيخ الإسلام، و المقصود هنا بالاقتباس اقتباس الأهمية و الدعوة إليه .

فنحن نعلم أن العقيدة الإسلامية شطران: عقيدة نصية مجملة ثم هذه العقيدة بأدلتها الجدلية ولوازمها في النفي و الإثبات.

كما نعلم أن التوحيد منه علمي خبري، ومنه عملي إرادي، و الأول بأدلته الجدلية إثبات للعقيدة النصية المجملة، ونفي لما يعارضها.

كذلك التوحيد العملي لا يمكن فصله عن علم السلوك،فإن جميع أعمال القلوب هي أهم مباحث توحيد الإلهية أو التوحيد العملي الإرادي، وهنا تتجلى نقاط الاختلاف بين مفهوم هؤلاء لدعوة التوحيد و فكر ابن تيمية ،ففي حين نجد عند هذا الأخير اهتماما شديدا بعلم السلوك تقريرا لأصوله، و نفيا للشوائب المحدثة فيه، نجد أن دعوة التوحيد المعاصرة عند هؤلاء إما تعادي علم السلوك ضمن معاداتها للصوفية دون أن تفرق بين أنواع الصوفية كما فعل ابن تيمية.

و إما لا تظهر معاداته، ولكننا لا نجد له أي وجود عملي في منهجيتها العلمية و الدعوية.

كذلك يقال عن التوحيد العلمي و امتداداته العقلية، فإن دعوة التوحيد المعاصرة عند هؤلاء، ولوجود حساسية مفرطة عندها من علم الكلام و الفلسفة أو قل التحليل العقلي عموما اكتفت بالاهتمام بالتوحيد العملي دون العلمي ، و لذلك لم تكن دعوة التوحيد عند هؤلاء تتجاوز الكلام عن الشرك العملي كتعظيم القبور و الاستغاثة و التوسل، في حين أن الشرك العقلي الشرك المركب في مختلف تجلياته لم يلق منها أية مقاومة أو مجابهة إلا الإهمال.

فلو أن هؤلاء لم يقفوا عند مفهومهم للتوحيد كأنها نهاية المطاف،و انطلقوا يخترقون القرون و العصور ليقفوا عند أفضل هذه العصور استيعابا للاختلاف الإسلامي في مجال العقائد ثم بنوا عليه الجديد ،لكان لهم شأن آخر، ولما وصل الخلاف إلى هذه الحالة المزرية التي نتحدث عنها.

نجد هؤلاء في أحسن أحوالهم يقفون عند ما حققته دعوة التوحيد في زمن الشيخ محمد عبد الوهاب رحمه الله معتنين بها دراسة لما كتبته و نشرا و تعليما لمبادئها، في حين لو أننا قسنا هذه الدعوة مع دعوة ابن تيمية من حيث خصوبة الفكر، و سعة الأفق، و الإحاطة بتناول الثقافات السابقة و الموجودة في عصره لعلمنا أن هذه الدعوة تشكل جزء من تصور ابن تيمية لدعوة التوحيد في مستوى العلم و الإحاطة و الإدراك.

ولذلك عندما يحاول هؤلاء نقد بعض المقالات العقدية يتناولوها من خلال الرد على الأئمة الذين تناولهم ابن تيمية بالنقد العلمي.

أما من جاء بعده فلا يعتنون بنقدهم إما لعجزهم عن نقدهم أو تصور مخالفتهم لعقيدة التوحيد، فلما لم يهضموا تراث ابن تيمية في مجاله العقلي ، وجل عملهم هو الاقتباس منه دون وعي بمسالكه العقلية المختلفة، ودون أن يضعوه في إطاره المعرفي الشامل.

وعليه، يمكن أن نقول: إنها و إن كان مفهومهم للتوحيد في ظروف نشأتهم شيئا إيجابيا ورائعا نظرا للوضع الذي انبثق فيه في الأمة إلا أنه مقارنة بما وصلت إليه دعوة التوحيد في عصر ابن تيمية من اهتمام بالفلسفة و المنطق و المعارف العقلية دراسة ونقدا و تمحيصا يعد جمودهم على الخطوة الأولى في دعوة التوحيد انتكاسة لهذا الفكر السني الشمولي، وعودة للأيام التي كان فيها هذا الفكر عاجزا عن مقارعة خصومه بمعارفهم و أصولهم ولغتهم.

ويتجلى هذا في هذا العصر في عجزها عن مقارعة الفكر المعاصر بمختلف مدارسه وتوجهاته، فجل صراعها مع من تسميهم "القبوريين"، أما صراعها مع الفكر المعاصر المعادي أو المعاند لدعوة التوحيد فلا يتجاوز آحاد المسائل البسيطة أما أمهات المسائل فلا خوض فيها أصلا.

إن العلم ليس فقط اقتباسات مشوهة من علم الجرح و التعديل، بل معرفة منزلة العلماء و مراتبهم، و تقدير إسهاماتهم، و عذرهم فيما لم يقدروا على اجتنابه من أخطاء بسبب اجتهاد ناقص أو ظروف قاهرة.

و العبادة ليست فقط الصلاة و الصوم و الزكاة و الحج، فالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و مناصرة المظلوم، و معاونة الفقير و الضعيف، وعدم ترك الساحات للباطل هي كذلك عبادة.

3 ـ كما لا يجب أن نتعدى الحدود بفعل المحرم من هجر من لا يجوز هجرانه من المسلمين عامتهم و خاصتهم، فيجب علينا لزوم جماعة المسلمين، وهذا لا يكون بتضليلها و تبديعها و مفاصلتها و التميز عنها بغير العمل الصالح و القول الطيب.

ومن الأسباب الباطلة لهذا التفرق المذموم:
1 ـ تقييد عموم النصوص بآراء بعض الرجال،كتقييد النصوص التي تحث على الألفة و لزوم جماعة المسلمين أي السواد الأعظم و التعاون بين المسلمين على البر و التقوى بآراء بعض العلماء التي هي من قبيل الاحتياط المشروط بظروفه و أحواله، فجعلوا المختلف فيه سببا لعدم التعاون على المتفق عليه ،فربطوا بين الإنكار في المختلف فيه الذي هو بمعنى الاحتجاج و الرد العلمي وبين ترك التعاون على البر و الخير،بل في أحيان كثيرة تركوا الإنكار في المختلف فيه لظنهم الخاطئ أن معنى الإنكار الذم و التبديع و الهجر و ليس بسط الأدلة و بيان ضعف قول المخالف ،ولا ميزوا بين غارق في البدعة تأصيلا، و بين سني تأصيلا وقع في بدعة أو فيما يخيّل إليهم أنه بدعة.

2 ـ قصور الخطاب معرفيا إلى حد العجز، وتوجهه لفئة معينة هم الأتباع، فأنظر في خطاب أكثر هؤلاء تجده مكتوبا بلغة لا يفهمها إلا أتباعهم، و معتمدا على مقدمات لا يسلم بها إلا أتباعهم، فيستشهدون على المخالف لهم بأقوال شيوخهم بدلا من الأدلة المشتركة، و شيوخهم غير معتبرين عند مخالفهم، ليس لقصور في علمهم، ولكن كل فئة لا تعتد إلا بشيوخها، فمخاطبة الغير بما لا يسلم به من قواعد ومقدمات ثم الحكم عليه سلبا هو كمخاطبة الصيني بالعربية التي لا يفهمها ثم الحكم عليه بأنه خالف الخطاب.

فلو أنهم يخاطبون الناس بما خاطبهم القرآن، و بما خاطبهم به رسول الله صلى الله عليه و سلم، و طالبوهم بما طالبهم به، مع الأخذ بعين الاعتبار الاختلاف في حصر مراد الشارع ، و العمل الجاد على درء ما يعارضه لكانت دعوتهم صحيحة ومقبولة، و لكنهم قابلوا من جعل المراد خلاف الظاهر فجعلوا هم الظاهر هو المراد دائما و أبدا.

3ـ عدم مجاراة العصر و الإحاطة بثقافته، و صياغة المعرفة الشرعية في لغة يفهما أهل هذا العصر، وهذا قصور معرفي سببه أنهم لا يخاطبون المسلمين بل جماعتهم فقط، ولا يبحثون عن إقناع المسلمين بل إقناع جماعتهم فقط، و هذا يتنافى مع أمره صلى الله عليه و سلم بلزوم جماعة المسلمين،لأنه كيف تلزم جماعة المسلمين و لغتك العلمية و الفكرية غير لغتهم، و مصطلحاتك غير مصطلحاتهم،و لا تفرق بين خطاب الخاصة و خطاب العامة ؟!

فقه الواقع:

لقد أشار القرآن الكريم إلى دور العلماء، وحدد مجال تدخلهم، و أهمية دورهم في المجتمع؛ و أول ما يجب أن يتصف به العالم هو الفقه في الدين، فمن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، والفقه في الدين ليس هو علم الأحكام وحدها كما قد يظنه بعضهم، ولكن معرفة الله كما عرف نفسه لأنبيائه وعباده، في كتابه و في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، المعرفة التي يشهدها القلب ويعبر عنها السلوك اليومي الاجتماعي و العلمي، ثم بعد ذلك معرفة أمره و نهيه أي شريعته.

ومع ذلك فليس هذا كافيا للداعية حتى يكون فقيها لدين الله في فهم طبيعة النفس البشرية، وطبيعة البشر و عاداتهم و شبهاتهم و شهواتهم، فقيها بأحوالهم وواقعهم، يسوسهم بلطف ورفق بحسب حاجاتهم، و بحسب ما يقدرون عليه،مراعيا مراتب الأعمال الشرعية ومراتب الناس.

فالفقه في الدين هو الفقه لأسباب الهدى و أسباب الضلال، هو معرفة ثقافة الناس وما عندهم من العلم و تقييمه ثم تمحيصه، فيستعمل الصحيح الجيد منه للتدليل على دين الله و شرعه.

وهنا تفرض مسألة فقه الواقع نفسها و إن تجاذبتها الأهواء، ولكن للنظر فيها عند فقهاء الإسلام ككليات و أصول عامة مختزلة، إلى حين يمكننا الله سبحانه و تعالى بمنته وفضله من تفصيلها تفصيلا مرضيا فهذا بعض ما بان لي منها:

كون بعض المنتسبين للعلم لم يدركوا بعد طبيعة العصر الذي يعيشون فيه و حقيقته الاجتماعية و السياسية، ولا أدركوا الفوارق الجوهرية بين الواقع التاريخي والواقع العصري،و سبل الاستفادة من التاريخ في بناء المستقبل، فينزلون أحكاما لا تنطبق على الواقع المعاصر، فكون هؤلاء لا يزالون يعانون من تعمية و تضليل تمارسه عليهم جهات مختلفة، بحكم تقصيرهم في طلب أسباب الإحاطة بواقع العالم وواقع أمتهم، و الذي هو في الحقيقة تقصير في الإحاطة بالمقاصد الشرعية أكثر منه تقصير في الإحاطة بواقع لم تعد الثقافة الفقهية التقليدية في الأحكام و المعاملات قادرة على الإحاطة به، و بالتالي ضرورة العودة أو إعادة بعث الفقه السياسي و الاعتناء به، وهو بحمد الله متوفر في الكتاب و السنة و مواقف علماء المسلمين، و خاصة في التاريخ الإسلامي الذي لم يعد مادة أصيلة يستلهم منها العلماء أحكامهم و قياساتهم، و أبعاد نظرهم السياسي و التدافعي مع أعداء الأمة .

فلقد أصبح خطاب هؤلاء خاليا من أي تحليل تاريخي، أو اعتبار لمجريات التاريخ الإسلامي والوقائع المشابهة، وكيف تعامل معها أهل العلم في زمنهم كما سنضرب عليه مثالا لاحقا.

الفقه بالواقع الاجتماعي و السياسي و الاقتصادي و العالمي:

من المعلوم أن الواقع يفرض نفسه على الأمة، فيفرض نفسه على الشعوب و الحكام و العلماء على حد سواء، ودور العلماء هو إيجاد الحل الذي يخدم مصلحة الأمة، و في الوقت نفسه لا يخالف الشرع.

و عندما يفرض الواقع على الحكام تداعيات معينة كنمو ديموغرافي غير منسجم مع نمو اقتصادي،أو اضطرابات اجتماعية، أو مطالب سياسية أو ثقافية كبيرة، لا يقدر العلماء على امتصاص أثارها السلبية، يضطر الحكام إلى تجاوزهم للامتصاص هذه الآثار السلبية ،وفي غالب الأحيان يتصرفون بما يخالف الشرع أو يكون له أثار سلبية في المستقبل.

قال ابن القيم في ( بدائع الفوائد){637/3}: ((هذا موضع مزلة أقدام وهو مقام ضنك و معترك صعب، فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود و ضيعوا الحقوق وجرؤوا أهل الفجور على الفساد و جعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بها مصالح العباد وسدوا على أنفسهم طرقا عديدة من طرق معرفة الحق من الباطل بل عطلوها مع علمهم قطعا و علم غيرهم بأنها أدلة حق ظنا منهم منافاتها لقواعد الشرع، والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة الشريعة فلما رأى ولاة الأمر ذلك و أن الناس لا يستقيم أمرهم إلا بشيء زائد على ما فهمه هؤلاء من الشريعة أحدثوا لهم قوانين سياسية ينتظم بها أمر العالم فتولد من تقصير أولئك في الشريعة و إحداث ما أحدثوه من أوضاع سياستهم شر طويل و فساد عريض و تفاقم الأمر و تعذر استدراكه .))

يبين لنا ابن القيم في هذه الفقرة أن الحكام يجدون حاجات متجددة يفرضها عليهم المجتمع


انتهى