النتائج 1 إلى 7 من 7

الموضوع: سيد قطب: أمريكا التي رأيت

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    May 2010
    المشاركات
    2,867
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    19

    افتراضي سيد قطب: أمريكا التي رأيت



    أمريكا التى رأيت
    سيد قطب


    1ـ أمريكا الدنيا الجديدة
    أمريكا …
    الدنيا الجديدة … ذلك العالم المترامى الأطراف , الذى يشغل من أذهان الناس وتصوراتهم ، أكثر مما تشغل من الأرض رقعته الفسيحة ، وترف عليه أخيلتهم وأحلامهم , بالأوهام والأعاجيب ، وتهوى إليه الأفئدة , من كل فج ، شتى الأجناس والألوان ، شتى المسالك والغايات ، شتى المذاهب والأهواء .
    أمريكا …
    تلك المساحات الشاسعة من الأرض بين الأطلنطى والباسيفيكى .
    تلك الموارد التى لا تنضب من المواد والخامات ، ومن القوى والرجال .
    تلك المصانع الضخمة التى لم تعرف لها الحضارة نظيرًا .
    ذلك النتاج الهائل الذى يعيا به العد والإحصاء .
    تلك المعاهد والمعامل والمتاحف المبثوثة فى كل مكان .
    عبقرية الإدارة والتنظيم التى تثير العجب والإعجاب .
    وذلك الرخاء السابغ كأحلام الجنة الموعودة .
    ذلك الجمال الساحر فى الطبيعة والوجود والأجسام .
    تلك اللذائذ الحرة الطلقة من كل قيد أو عرف .
    تلك الأحلام المجسمة فى حيز من الزمان والمكان ….
    أمريكا هذه كلها ..
    ما الذى تساوية فى ميزان القيم الإنسانية ؟
    وما الذى أضافته إلى رصيد البشرية من هذه القيم ، أو يبدو أنها ستضيفه إليه فى نهاية المطاف ؟ .


    أخشى ألا يكون هناك تناسب بين عظمة الحضارة المادية في أمريكا ، وعظمة ( الإنسان ) الذي ينشئ هذه الحضارة , وأخشى أن تمضى عجلة الحياة ، ويطوى سجل الزمن ، وأمريكا لم تضف شيئًا ـ أو لم تضف إلا اليسير الزهيد ـ إلى رصيد الإنسانية من تلك القيم ، التى تميز بين الإنسان والشيء ، ثم بين الإنسان والحيوان .

    إن كل حضارة من الحضارات التى مرت بها البشرية ، لم تكن كل قيمتها , فيما ابتدعه الإنسان من آلات ، ولا فيما سخره من قوى ، ولا فيما أخرجت يداه من نتاج .

    إنما كان معظم قيمتها , فيما اهتدى إليه الإنسان من حقائق عن الكون ، ومن صور وقيم للحياة ، وما تركه هذا الاهتداء فى شعوره من ارتقاء , وفى ضميره من تهذيب ، وفى تصوره لقيم الحياة من عمق ، والحياة الإنسانية بوجه خاص ، مما يزيد المسافة بعداً فى حسابه وحساب الواقع ، بينه وبين مدراج الحيوانية الأولى ، فى الشعور والسلوك ، فى تقويم الحياة وتقويم الأشياء ( 1 ) .

    فأما ابتداع الآلات ، أو تسخير القوى ، أو صنع الأشياء ، فليس له فى ذاته وزن فى ميزان القيم الإنسانية ، إنما هو مجرد رمز لقيمة أساسية أخرى : هى مدى ارتقاء العنصر الإنسانى فى الإنسان ، ومدى ما أضاف إلى رصيده الإنسانى من ثراء فى فكرته عن الحياة ، وفى شعوره بهذه الحياة .
    هذه القيمة الأساسية هى موضع المفاضلة والموازنة بين حضارة وحضارة ، وبين فلسفة وفلسفة ، كما أنها هى الرصيد الباقى وراء كل حضارة ، المؤثر فى الحضارات التالية ، حين تتحطم الآلات وتفنى الأشياء ، أو حين تنسخها آلات أجدّ وأشياء أجود ، مما يقع بين لحظة وأخرى ، فى مشارق الأرض ومغاربها .
    وإنه ليبدو أن العبقرية الأمريكية كلها قد تجمعت وتبلورت , فى حقل العمل والإنتاج ، بحيث لم يبق فيها بقية تنتج شيئًا , فى حقل القيم الإنسانية الأخرى .
    ولقد بلغت فى ذلك الحقل ما لم تبلغه أمة ، وجاءت فيه بالمعجزات التى أحالت الحياة الواقعية إلى مستوى فوق التصور ووراء التصديق , لمن لم يشهدها عياناً .

    ولكن ( الإنسان ) لم يحفظ توازنه أمام الآلة ، حتى ليكاد هو ذاته يستحيل آلة ، ولم يستطع أن يحمل عبء العمل , وعبء ( الإنسان ) ! .
    وإن الباحث فى حياة الشعب الأمريكى , ليقف فى أول الأمر حائرًا أمام ظاهرة عجيبة ، قد لا يراها فى شعب من شعوب الأرض جميعًا :
    شعب يبلغ فى عالم العلم والعمل ، قمة النمو والارتقاء ، بينما هو فى عالم
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــ
    ( 1 ) فى الظلال ( 2: 1091 ) : تعرض سيد قطب لتفسير قوله تعالى : ** فلما نسوا ما ذُكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء ، حتى إذا فرحوا بما أتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون } الأنعام : 44 ، يقول : لقد كنت فى أثنائ وجودى فى الولايات المتحدة الأمريكية أرى رأى العين مصداق قول الله تعالى ** فلما نسوا ما ذُكروا به فتحنا عليهم أبوا ب كل شيء } فإن المشهد الذى ترسمه هذه الآية مشهد تدفق كل شيء من الخيرات والأرزاق بلا حساب , وكنت أرى غرور القوم بهذا الرخاء وفى صلف , على أهل الأرض كلهم .. كنت أرى هذا كله فأذكر هذه الآية , وأتوقع سنة الله … وأكاد أرى خطواتها وهى تدب إلى الغافلين .

    الشعور والسلوك بدائى , لم يفارق مدراج البشرية الأولى ، بل أقل من بدائي ( 1 ) فى بعض نواحى الشعور والسلوك ! .
    ولكن هذه الحيرة تزول , بعد النظرة الفاحصة , فى ماضى هذا الشعب وحاضره ، وفى الأسباب التى جمعت فيه , بين قمة الحضارة وسفح البدائية :
    فى العالم القديم آمن الإنسان بقوى الطبيعة المجهولة ، وصاغ حولها الخرافات والأساطير ، وآمن بالدين ، وغمرت روحه أضواؤه ورؤاه ، وآمن بالفن وتجسمت أشواقه ألواناً وألحاناً وأوزاناً ..

    ثم آمن بالعلم أخيرًا ، بعد ما انقسمت نفسه لأنماط من الإيمان ، وألوان من المشاعر ، وأشكال من صور الحياة , وتهاويل الخيال ، بعد ما تهذبت روحه بالدين ، وتهذب حسه بالفن ، وتهذب سلوكه بالاجتماع ، بعد ما صيغت مثله ومبادئه من واقعية التاريخ ، ومن أشواقه الطليقة .
    وسواء تحققت هذه المباديء أم لم تتحقق فى الحياة اليومية ، فقد بقيت على الأقل هواتف فى الضمير ، وحقائق فى الشعور ، مرجوة التحقق فى يوم من الأيام ، قرب أم بعد ، لأن وجودها حتى فى عالم المثال وحده ، خطوة واسعة من خطوات البشرية فى مدارج الإنسانية ، وشعاع مضيء من الرجاء فى تحقيقها يومًا من الأيام .

    أما فى أمريكا فقد وُلد الإنسان على مولد العلم ، فآمن به وحده ، بل آمن بنوع منه خاص ، هو العلم التطبيقى ، لأنه وهو يواجه الحياة الجديدة فى القارة الجديدة ، وهو يتسلم الطبيعة هنالك بكراً جامحة عتيدة ، وهو يهم أن ينشيء ذلك الوطن الجديد الذى أنشأه بيده ، ولم يكن له من قبل وجود ، وهو يصارع ويناضل لبناء هذا الوطن الضخم .. كان العلم التطبيقى هو خير عون له فى ذلك الجهد العنيف , لأنه يسعفه بالأداة العملية الفعالة , فى مجال البناء والخلق والتنظيم والإنتاج .

    ولم يفرغ الأمريكى بعد من مرحلة البناء ، فما تزال هناك مساحات شاسعة لا تكاد تحد من الأراضى البكر التى لم تمسسها يد ، ومن الغابات البكر التى لم تطأها قدم ، ومن المناجم البكر التى لم تُفتح ولم تُستغل ، وما يزال ماضياً فى عملية البناء الأولى ، على الرغم من وصوله إلى القمة فى التنظيم والإنتاج .
    ويحسن ألا ننسى الحالة النفسية التى وفدها بها الأمريكى إلى هذه الأرض
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــ
    ( 1 ) ولزيادة الإيضاح يقول سيد قطب فى مجلة الكاتب بتاريخ 10 / 12/ 1949 ، والحب ! الحب الذى يطلق الطاقات الإنسانية جميعًا .. إنه هنا فى أمريكا جسد يشتهى جسدًا ، وحيوان يشتهى حيووانًا . ولا وقت للأشواق الروحية .

    فوجاً بعد فوج ، وجيلاً بعد جيل ، فهى مزيج من السخط على الحياة فى العالم القديم ، والرغبة فى التحرر من قيوده وتقاليده .
    ومن هذه القيود والتقاليد الثقيل الفاسد ، والضرورى السليم ، ومن الرغبة الملحة فى الثراء بأى جهد وبأى وسيلة ، والحصول على أكبر قسط من المتاع تعويضاً عما يبذله من الجهد فى الثراء .

    ويحسن ألا ننسى كذلك الحياة الاجتماعية والفكرية لغالبية هذه الأفواج الأولى , التى تألفت منها نواة هذا الشعب الجديد .
    فهذه الأفواج هى مجموعات من المغامرين ، ومجموعات من المجرمين ، فالمغامرون جاءوا طلاب ثراء ومتاع ومغامرات ، والمجرمون جيء بهم من بلاد الإمبراطورية الإنجليزية لتشغيلهم فى البناء والإنتاج .

    ذلك المزيج من الملابسات ، هذا المزيج من الأفواج من شأنه أن يستنهض وينمى الصفات البدائية فى ذلك الشعب الجديد ، ويقيم أو يقاوم الصفات الراقية فى نفسه أفراداً وجماعات ، فتنشط الدوافع الحيوية الأولية ، كأنما يستعيد الإنسان خطواته الأولى ، بفارق واحد أنه هنا مسلح بالعلم ، الذى وُلد على مولده ، وخطا على خطواته .

    والعلم فى ذاته ـ وبخاصة العلم التطبيقى ـ لا عمل له فى حقل القيم الإنسانية ، وفى عالم النفس والشعور .
    وبذلك ضاقت آفاقه ، وضمرت نفسه ، وتحددت مشاعره ، وضؤل مكانه على المائدة العالمية الزاخرة , بالأنماط والألوان ( 1 ) .
    وقد يدهش الإنسان وهو يقرأ قصص الجماعات الأولى التى هاجرت إلى أمريكا فى أيامها الأولى ، ويتصور كفاحها الطويل العجيب ، مع الطبيعة الجامحة فى تلك الأصقاع المترامية ، ومن قبل مع أنواء المحيط الرعيبة ، وأمواجه الجبارة ، فى تلك القوارب الصغار الخفاف ؛ حتى إذا رست على الصخور محطمة أو ناجية لقيت النازحين ، مجاهل الغابات ، ومتاهات الجبال ، وحقول الجليد ، وزعازع الأعاصير ، ووحوش الغابات وأفاعيها وهوامها .. و لقد يدهش الإنسان كيف لم يترك هذا كله ظلاله على الروح الأمريكية إيمانا بعظمة الطبيعة وما وراء الطبيعة ، ليفتح لها منافذ أوسع من المادة وعالم المادة .
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــ
    ( 1 ) يقول سيد قطب فى مقاله ( الضمير الأمريكانى وقضية فلسطين ) : ( فها هى ذى أمريكا تتكشف للجميع ، إنهم جميعا يصدرون عن مصدر واحد ، هو تلك الحضارة المادية التى لا قلب لها ولا ضمير ، تلك الحضارة التى لا تسمع إلا صوت الآلات ، وتتحدث إلا بلسان التجارة ، ولا ينظر إلا بعين المرابى ، والتى تقيس الإنسانية كلها بهذه المقاييس ) الرسالة عدد 694 .

    ولكن هذه الدهشة تزول حين يتذكر ذلك المزيج من الملابسات ، وذلك المزيج من الأفواج .
    لقد قابلوا الطبيعة بسلاح العلم وقوة العضل ، فلم تثر فيهم إلاقوة الذهن الجاف ، وقوة الحس العارم ، ولم تفتح لهم منافذ الروح والقلب والشعور ، كما فتحتها فى روح البشرية الأولى ، التى احتفظت بالكثير منها فى عصر العلم ، وأضافت به إلى رصيدها من القيم الإنسانية الباقية على الزمان .
    وحين تغلق البشرية على نفسها منافذ الإيمان بالدين ، والإيمان بالفن ، والإيمان بالقيم الروحية جميعًا , لا يبقى هنالك متصرف لنشاطها إلا فى العلم التطبيقى والعمل ، وإلا فى لذة الحس والمتاع .
    وهذا هو الذى انتهت إليه أمريكا بعد أربعمائة عام .

    يتبع
    {‏ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} إبراهيم: 41

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    May 2010
    المشاركات
    2,867
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    19

    افتراضي


    أمريكا التي رأيت 2
    الأمريكي البدائي

    2 ـ الأمريكى البدائى

    يبدو الأمريكى على الرغم من : العلم المتقدم , والعمل المتقن ـ بدائيًا ـ فى نظريته إلى الحياة ، ومقوماتها الإنسانية الأخرى , بشكل يدعو إلى الدهشة :
    ولعل لهذا التناقض الواضح أثره فى ظهور الأمريكان بمظهر الشعب الغريب الأطوار فى نظر الأجانب ، الذين يراقبون حياة الشعب من بعيد ، ويعجزهم التوفيق بين هذه الحضارة الصناعية الفائقة ، وذلك النظام الدقيق فى إدارة الأعمال ، وإدارة الحياة …

    وبين هذه البدائية فى الشعور والسلوك ( 1 ) ، تلك البدائية التى تذكر بعهود الغابات والكهوف !.
    ويبدو الأمريكى بدائيًا فى الإعجاب بالقوى العضلية ، والقوى المادية بوجه عام :
    بقدر ما يستهين بالمثل والمباديء والأخلاق ، فى حياته الفردية ، وفى حياته العائلية ، وفى حياته الاجتماعية , فيما عدا دائرة العمل بأنواعه ، وعلاقات الاقتصاد والمال .

    ومنظر الجماهير وهى تتبع مباريات كرة القدم ، على الطريقة الأمريكية الخشنة التى ليس لها من اسمها ( كرة القدم ) أى نصيب ، إذ أن ( القدم ) لا تشترك فى اللعب ، إنما يحاول كل لاعب أن يخطف الكرة بين يديه ، ويجرى بها ليقذف بها إلى الهدف ، بينما يحاول لاعبو الفريق الآخر أن يعوقوه بكل وسيلة ، بكل عنف وكل شراسة ..

    منظر الجماهير وهى تتبع هذه اللعبة ، أو تشاهد حفلات الملاكمة والمصارعة الوحشية الدامية .. منظرها فى هياجها الحيوانى ، المنبعث من إعجابها بالعنف القاسى ، وعدم التفاتها إلى قواعد اللعب وأصوله ، بقدر ما هى مأخوذة بالدم السائل والأوصال المهشمة ، وضراخها هاتفة :
    كل يشجع فريقه : ( حطم رأسه ) ( دق عنقه ) (هشم أضلاعه ) ( أعجنه عجينا ) .. هذا المنظر لا يدع مجالا للشك فى بدائية الشعور , التى تفتن بالقوة العضلية وتهواها .

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ـ
    (1 ) كتب سيد قطب فى رسالة إلى توفيق الحكيم ( نشرت بالرسالة عدد 827 ) ، يقول : ( إن شيئا واحدًا ينقص هؤلاء الأمريكيين ـ على حين تذخر أمريكا بكل شيء ـ شيء واحد لا قيمة له عندهم .. الروح ! ) إلى أن يقول : ما أحوجنى هنا لمن أبادله حديثا بحديث ، فى غير موضوع الدولارات , ونجوم السينما , وماركات السيارات .. حديثا فى شؤون الإنسان والفكر والروح .

    وبمثل هذه الروح يتابع الجمهور الأمريكى صراع الجماعات والطوائف ، وصراع الأمم والشعوب , ولست أدرى كيف راجت فى العالم ـ وبخاصة
    فى الشرق ـ تلك الخرافة العجبية ؟ خرافة أن الشعب الأمريكى شعب محب للسلام ( 1 ) .
    إن الأمريكى بفطرته محارب محب للصراع :
    وفكرة الحرب والصراع قوية فى دمه ، بارزة فى سلوكه ؛ وهذا هو الذى يتفق مع تاريخه كذلك , فقد خرجت الأفواج الأولى من أوطانها , قاصدة إلى أمريكا بفكرة الاستعمار والمنافسة والصراع .

    وهناك قاتل بعضهم بعضاً وهم جماعات وأفواج , ثم قاتلوا جميعاً سكان البلاد الأصليين ( الهنود الحمر ) , وما يزالون يحاربونهم حرب إفناء حتى اللحظة الحاضرة .

    ثم قاتل العنصر الأنجلو سكسونى العنصر اللاتينى هناك ، وطرده إلى الجنوب فى أمريكا الوسطى والجنوبية ، ثم حارب المتأمركون أمهم الأولى إنجلترا فى حرب التحرير بقيادة ( جورج واشنطن ) , حتى نالوا استقلالهم عن التاج البريطانى .

    ثم حارب الشمال الجنوب بقيادة ( إبراهام لنكولن ) تلك الحرب التى اتسمت بسمة ( تحرير العبيد ) , وإن كانت دوافعها الحقيقية هى المنافسة الاقتصادية .
    ذلك أن العبيد المستجلبين من أواسط أفريقية ليعملوا فى الأرض رقيقاً ، لم يستطيعوا مقاومة الطقس البارد فى الشمال ، فنزحوا إلى الجنوب , وكان معنى هذا أن يجد المستعمرون فى الولايات الجنوبية الأيدى العاملة الرخيصة ، على حين لا يجدها الشماليون ، فيتم لهم التفوق الاقتصادى ؛ لذلك أعلن الشماليون الحرب لتحرير العبيد .

    وانقضت فترة العزلة ، وانتهت سياستها ، عندما دخلت أمريكا الحرب العالمية الأولى ، ثم اضطلعت بالحرب العالمية الثانية .
    ثم ها هى ذى تنهض بالحرب فى كوريا , والحرب العالمية الثالثة ليست

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــ
    ( 1 ) يقول سيد قطب فى كتاب ( معركة الإسلام والرأسمالية ) ص 32 ـ 33 : ( فأما أمريكا فالذين لم يعيشوا فيها ولم يروها ، قد لا يذكرون لها إلا خيانتها لنا فى قضيتنا بمجلس الأمن ، وفى حرب فلسطين ، ولكن الذين عاشوا فيها ، ورأوا كيف ولغت صحافتها ومحطات إذاعتها وشركات أفلامها فى كرامتنا وفى سمعتنا ، وكيف نشرت ذلك بعداء واضح واحتقار مقصود ، أو أحسوا ذلك العداء العنيف لكل ما هو إسلامى ) ..
    بالبعيدة ! , ولست أدرى إذن كيف راجت تلك الخرافة العجيبة عن شعب
    هذا تاريخه فى الحرب ؟ ( 1 ) .

    إن الحيوية المادية عند الأمريكى مقدسة ، والضعف ـ أيا كانت أسبابه ـ جريمة , جريمة لا يغتفرها شيء :
    ولا تستحق عطفا ولا عونا , وحكاية المباديء والحقوق خرافة فى ضمير الأمريكى لا يتذوق لها طعما ( 2 ) .
    كن قوياً ولك كل شيء , أو كن ضعيفاً فلا يسعفك مبدأ ، ولا يكون لك مكان فى مجال الحياة الفسيح , أما الذى يموت فيرتكب بالطبع جريمة الموت ! .
    كنت فى مستشفى ( جورج واشنطن ) فى واشنطن العاصمة ، وكان الوقت مساء حينما غمرت جوه موجة من الاضطراب غير معهود ، وبدت فيه حركة غير عادية تستلفت النظر .

    وأخذ المرضى القادرون على الحركة يغادرون أسرتهم وحجراتهم إلى المماشى والأبهاء يستطيعون ؛ ثم جعلوا يتحلقون متسائلين عن سر تلك الظاهرة فى حياة المستشفى الهادئة .
    وعرفت بعد فترة أن أحد موظفى المستشفى , قد أصيب فى حادث مصعد وأنه فى حالة خطيرة , بل فى دور الاحتضار .
    وذهب أحد المرضى الأمريكان ليرى بنفسه ، ثم عاد يقص على المتحلقين فى المبنى ما رأى ..
    وحين يخيم شبح الموت على مكان ، لا تكون رهبة ، ولا يكون للموت خشوعه , كما يكون ذلك مستشفى ولكن هذا الأمريكانى أخذ يضحك ويقهقه
    ، وهو يمثل هيئة المصاب المحتضر ، وقد دق المصعد عنقه وهشم رأسه

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــ
    ( 1 ) كتب سيد قطب فى ( دراسات إسلامية ) ص 181 ـ 185 : ( إننا ننسى أن العالم الأوربى والعالم الأمريكى يقفان صفًا واحدًا بإزاء العالم الإسلامى ، والروح الصليبية القديمة هى هى ما تزال .. إننا ننسى هذا ، لأن فينا مغفلين كثيرين ومغرضين كثيرين يضللوننا ، وينشرون دعاية مغرضة عن رغبة أمريكا فى إنصاف الشعوب المستعبدة ومساعدة الشعوب المتأخرة ، مع أننا ذقنا الويل من أمريكا فى فلسطين ، إن جراحات العالم الإسلامى تنبض بالدم فى كل مكان ، وأمريكا واقفة تتفرج ، ومع هذا توجد صحف ويوجد ناس : يتحدثون عن تمثال الحرية فى ميناء نيويورك … ) .

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــ
    ( 2 ) والدليل على ذلك ما ساقه سيد قطب فى الرسالة عدد : 1009 : ( من الذى لا يحتقر أمريكا ويحتقر معها آدمية الأمريكان وهو يجد المعدات الأمريكية والدولارات الأمريكية تشدّ أزر الاستعمار الأوربى فى كل مكان .. لقاء مساومات اقتصادية أو استراتيجية أو عسكرية ) .

    وتدلى لسانه من فمه على جانب وجهه ! .
    وانتظرت أن أسمع أو أرى علامة الامتعاض والاستنكار من المستمعين , ولكن كثرتهم الغالبة جعلت تضحك متفكهة ، بهذا التمثيل البغيض !.
    لذلك لم أعجب , وبعض أصدقائى يقص علىِّ ما رأى وما سمع , حول الموت ووقعه , فى نفوس الأمريكان .

    قال لى زميل : إنه كان حاضر مأتم ، حيثما عرضت جثة رب البيت محنطة فى صندوق زجاجى ـ على العادة الأمريكية ـ كيما يمر أصدقاء الفقيد بجثمانه ، وليودعوه الوداع الأخير ، ويلقون عليه النظرة النهائية ، واحداً بعد الآخر فى صف طويل .
    حتى إذا انتهى المطاف وتجمعوا فى حجرة الاستقبال ، ما راعه إلا أن يأخذ القوم فى دعابات وفكاهات ، حول الفقيد العزيز وحول سواه ، تشترك فيه زوجه وأهله ، وتعقبها الضحكات المجلجلة فى سكون الموت البارد ، وحول الجسد المسجى فى الأكفان ! .

    وكان الأستاذ مدير البعثات المصرية بواشنطن مدعو هو والسيدة حرمه إلى إحدى الحفلات ـ وقبيل الموعد مرضت السيدة حرمه - فأمسك بالتليفون ليعتذر عن الحفلة بسبب هذا الطاريء .
    ولكن الداعين أجابوه بأنه لا ضرورة للاعتذار ، فإنه يملك أن يحضر منفرداً ، وستكون هذه فرصة طيبة ، ذلك أن إحدى المدعوات قد توفى زوجها فجأة قبيل الحفلة ، وستكون وحيدة فيها ، فمن حسن الحظ أن يكون لها رفيق !.

    ودخلت مرة بيت سيدة أمريكية كانت تساعدنى فى اللغة الإنجليزية , فى الفترة الأولى من وجودى فى أمريكا ؛ فوجدت عندها صديقتها ، وكانتا تتحدثان في موضوع لحقت أواخره ، وهذه الصديقة تقول :
    ( لقد كنت حسنة الحظ , فقد كنت مؤمنة على حياته , حتى علاجه لم يكلفنى إلا القليل , لأننى كنت مؤمنة عليه , فى هيئة الصليب الأزرق ) وابتسمت ضاحكة !.

    ثم استأذنت وخرجت ، وبقيت مع ربة البيت , وأنا أحسب أن صديقتها كانت تحدثها عن كلبها ـ وإن كنت قد دهشت لأنها لا تبدى أى تأثر لموته ! ـ ولكن ما راعنى إلا أن تقول لى ـ ولم أسأل ! ـ ( كانت تحدثنى عن زوجها , لقد مات منذ ثلاثة أيام ! ) .
    ولما أبديت دهشتى أن تتحدث صديقتها عن زوجها المتوفى منذ ثلاثة أيام بمثل هذه البساطة ، كان عذرها الذى لا يخالجها الشك فى أنه مقنع ووجيه : ( إنه كان مريضاً ! لقد مرض أكثر من ثلاثة أشهر قبل الوفاة ! ) .

    عادت بى الذاكرة , إلى مشهد عميق الأثر , فى شعورى ، وقد أثار فى خاطرى , فى حينه منذ سنوات … خاطرة لم تكتب , بعنوان : ( مأتم الطيور ) .
    ذلك مشهد جماعة من الفراخ كنا نربيها فى دارنا ، وقد وقفت متحلقة صامتة مبهورة مأخوذة ، حول فرخ منها ذبيح ، لقد كانت مفاجأة شعورية لكل من فى البيت ، مفاجأة غير منتظرة من طير غير متقدم فى سلم الرقى كالدجاج ، بل كانت صدمته لم تجرؤ بعدها منذ ذلك الحين , على ذبح فرخ واحد على مرأى من جماعة الطيور ! .

    ومنظر الغربان حين تموت لها مائت ،منظر مألوف شاهده الكثيرون , وهو منظر يصعب تفسيره بغير شعور ( الحزن ) أو ( عاطفة ) القرابة ! .
    فهذه الجموع من الغربان ، المحلقة الصافة ، الناعقة بشتى الأصوات والأنغام ، الطائرة هنا وهناك ، حتى تحتمل جثمان الميت وتطير .. هذا كله يشي برجفة الموت فى عالم الطيور .. ! .

    وقداسية الموت تكاد تكون شعوراً فطرياً , فليست البدائية الشعورية هى التى تطمسها فى النفس الأمريكية ؛ لكنه جفاف الحياة من التعاطف الوجدانى ( 1 ) ، وقيامها على معادلات حسابية مادية ، وعلى علاقات الجسد ودوافعه ، واستخفافها عمدا بكل ما يشتهر أنه من مقدسات الناس فى العالم القديم ، والرغبة الملحة فى مخالفة ما تواضع عليه الناس ، وإلا فما مزية الدنيا الجديدة على ذلك العالم القديم ؟ ( 2 ) .
    وما يقال عن الشعور بالموت يقال عن الشعور بالدين :
    ليس أكثر من الأمريكان تشييداً للكنائس ،حتى لقد أحصيت فى بلدة واحدة لا يزيد سكانها على عشرة آلاف أكثر من عشرين كنيسة ! وليس أكثر منهم ذهاباً إلى الكنائس فى ليلات الأحد وأيامه ، وفى الأعياد العامة وأعياد
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــ
    ( 1 ) فى مجلة الكاتب الجزء العاشر يقول سيد قطب عن النفس الأمريكية : فى كل مكان ضحكات ، وفى كل محلّة مرح ، وفى كل زاوية أحضان وقبلات ، ولكنك لا تلمح فى وجه واحد معنى الرضا ، ولا تحس فى قلب واحد روح الأطمئنان .
    ( 2 ) ويفسر سيد قطب فى الظلال 1 : 211 هذه الظاهرة : ( والجيل الجديد ينحرف فيدمن على المسكرات والمخدرات ليعوض خواء الروح من الإيمان ، وطمأنينة القلب بالعقيدة ، والأمراض النفسية والعصبية والذوذ بأنواعه تفترس عشرات الآلاف من النفوس والأرواح والأعصاب .. ثم الانتحار ) .

    القديسين المحليين وهم أكثر من ( الأولياء ) عند عوام المسلمين ! …
    وبعد ذلك كله ليس هناك من هو أبعد من الأمريكى عن الشعور بروحية الدين واحترامه وقداسته ، وليس أبعد من الدين عن تفكير الأمريكى وشعوره وسلوكه ! .
    وإذا كانت الكنيسة مكاناً للعبادة فى العالم المسيحى كله ، فإنها فى أمريكا مكان لكل شيء إلا العبادة .
    وإنه ليصعب عليك أن تفرق بينها وبين أى مكان آخر , معد للّهو والتسلية أو ما يسمونه بلغتهم ال Fun , ومعظم قصادها إنما يعدونها تقليداً اجتماعياً ضرورياً ، ومكاناً للقاء والأنس ، ولتمضية وقت طيب ، وليس هذه شعور الجمهور وحده , ولكنه كذلك شعور سدنة الكنيسة ورعاتها …
    ولمعظم الكنائس ناد يتألف من الجنسين ، ويجتهد راعى كل كنيسة أن يلتحق بالكنيسة أكبر عدد ممكن ، وبخاصة أن هناك تنافساً كبيراً بين الكنائس المختلفة المذاهب ، ولهذا تتسابق جميعاً فى الإعلان عن نفسها بالنشرات المكتوبة , وبالأنوار الملونة على الأبواب والجدران , للفت الأنظار ، وبتقديم البرامج اللذيذة , المشوقة لجلب الجماهير ، بنفس الطريقة التى تتبعها المتاجر ودور العرض والتمثيل ، وليس هناك من بأس فى استخدام أجمل فتيات المدينة وأرشقهن ، وأبرعهن فى الغناء والرقص والترويح .

    وهذه مثلا محتويات إعلان عن حفلة كنيسة ، وكانت ملصقة فى قاعة اجتماع الطلبة فى إحدى الكليات :
    ( يوم الأحد أول أكتوبر ـ فى الساعة السادسة مساء ـ عشاء خفيف . ألعاب سحرية . ألغاز . مسابقات . تسلية .. ) .
    كنت ليلة فى إحدى الكنائس , ببلدة جريلى بولاية كولورادوـ فقد كنت عضواً فى ناديها , كما كنت عضواً فى عدة نواد كنسية , فى كل جهة عشت فيها , إذ كانت هذه ناحية هامة , من نواحى المجتمع , تستحق الدراسة عن كثب ومن الداخل ـ وبعد أن انتهت الخدمة الدينية فى الكنيسة ، واشترك فى التراتيل فتية وفتيات من الأعضاء ، وأدى الآخرون الصلاة ، دلفنا من باب جانبى ساحة الرقص ، الملاصقة لقاعة الصلاة ، يصل بينهما الباب ؛ وصعد ( الأب ) إلى مكتبه ، وأخذ كل فتى بيد فتاة ، وبينهم وبينهن أولئك الذين واللواتى ، كانوا وكن ، يقومون بالترتيل ويقمن ! .

    وكانت ساحة الرقص مضاءة بالأنوار الحمراء والصفراء والزرقاء ، وبقليل من المصابيح البيض .. وحمى الرقص على أنغام ( الجراموفون ) وسالت الساحة بالأقدام والسيقان الفاتنة ، والتقت الأذرع بالخصور ، والتقت الشفاه والصدور … وكان الجو كله غراماً حينما هبط ( الأب ) من مكتبه ، وألقى نظرة فاحصة على المكان ومن المكان , وشجع الجالسين والجالسات ممن لم يشتركوا فى الحلبة على أن ينهضوا فيشاركوا .
    وكأنما لحظ أن المصابيح البيض تفسد ذلك الجو ( الرومانتيكى ) الحالم ، فراح فى رشاقة الأمريكانى وخفته يطفئها واحداً واحداً ، وهو يتحاشى أن يعطل حركة الرقص ، أو يصدم زوجاً من الراقصين فى الساحة .
    وبدا المكان بالفعل , أكثر ( رومانتيكية ) وغراماً ، ثم تقدم إلى ( الجراموفون ) ليختار أغنية تناسب ذلك الجو , وتشجع القاعدين والقاعدات على المشاركة فيه .

    واختار … اختار أغنية أمريكية مشهورة اسمها : ( But baby it is cold out side ) ( ولكنها يا صغيرتى باردة فى الخارج ) وهى تتضمن حواراً بين فتى وفتاة عائدين من سهرتهما ، وقد احتجزها الفتى فى داره ، وهى تدعوه أن يطلق سراحها , لتعود إلى دارها , فقد أمسى الوقت ، وأمها تنتظر .. ولكما تذرعت إليه بحجة , أجابها بتلك اللازمة : ( ولكنها يا صغيرتى باردة فى الخارج ) !

    وانتظر الأب حتى رأى خطوات بناته وبنيه ، على موسيقى تلك الأغنية المثيرة ؛ وبدا راضياً مغتبطاً ، وغادر ساحة الرقص إلى داره ، تاركا لهم ولهن إتمام هذه السهرة اللذيذة … البريئة ! ( 1 ) .

    وأب آخر يتحدث إلى صاحب لى عراقى ، قد توثقت بينه وبينه عرى الصداقة ، فيسأله عن ( مارى ) زميلته فى الجامعة ( لم تحضر الآن إلى الكنيسة ؟ ويبدى أنه لا يعنيه أن تغيب الفتيات جميعاً وتحضر مارى ! وحين يسأله الشاب عن سر هذه اللهفة يجيب : إنها جذابة ، وإن معظم الشبان يحضرون وراءها ! ) .
    ويحدثنى شاب من شياطين الشبان العرب الذين يدرسون فى أمريكا ، وكنا نطلق عليه اسم ( أبو العتاهية ) ـ وما أدرى إن كان ذلك يغضب الشاعر القديم أو يرضيه ! ـ فيقول لى عن فتاته ـ ولكل فتى فتاة فى أمريكا ـ إنها كانت تنتزع نفسها من بين أحضانه .
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــ
    ( 1 ) اللذيذة .. البرئية ! , من سخريات سيد قطب حيث أنه يقول فى الظلال 2: 637 : ( انتشرت موجه الإجرام بين المراهقين والمراهقات من شباب أمريكا … وقد قدرت لجنة الأربعة عشر الأمريكية التى تعنى بمراقبة حالة البلاد الخلقية أن 90 % من الشعب الأمريكى مصابون بالأمراض الجنسية السرية الفتاكة ) ثم يواصلون سهراتهم البرئية .

    أحيانا لأنها ذاهبة للترتيل فى الكنيسة ! وكانت إذا تأخرت لم تنج من إشارات ( الأب ) وتلميحاته إلى جريرة ( أبى العتاهية ) فى تأخيرها عن حضور الصلاة ! هذا إذا حضرت وحدها من دونه ، فأما إذا استطاعت أن تجره وراءها ، فلا لوم عليها ولا تثريب ! .
    ويقول لك هؤلاء الآباء : إننا لا نستطيع أن نجتذب هذا الشباب إلا بهذه الوسائل ! .

    ولكن أحداً منهم لا يسأل نفسه وما قيمة اجتذابهم إلى الكنيسة , وهم يخوضون إليها مثل هذا الطريق ، ويقضون ساعاتهم فيه ؟ أهو الذهاب إلى الكنيسة هدف فى ذاته ، أم آثاره التهذيبية فى الشعور والسلوك ؟ .

    من وجهة نظر ( الآباء ) التى وضحتها فيما سلف ، مجرد الذهاب هو الهدف , وهو وضع لمن يعيش فى أمريكا مفهوم ! .
    ولكنى أعود إلى مصر ، فأجد من يتحدث أو يكتب ، عن الكنيسة فى أمريكا ـ وهو لم ير أمريكا لحظة ـ وعن دورها فى الإصلاح الإجتماعى ، ونشاطها فى تطهير القلب ، وتهذيب الروح ( 1 ) …
    ولله فى خلقه شئون ! .
    والأمريكى بدائى فى حياته الجنسية :
    وفى علاقات الزواج والأسرة . ولقد مررت فى أثناء دراساتى للكتاب المقدس بتلك الآية الواردة فى ( العهد القديم ) , حكاية عن خلق الله للبشر أول مرة وهى تقول : ( ذكر وأنثى خلقهم ) .. مررت بهذه الآية كثيراً ، فلم يتمثل لى معناها عارياً واضحاً جاهراً ، كما تمثل لى فى أثناء حياتى بأمريكا .
    إن كل ماتعبت الحياة البشرية الطويلة فى خلقه وصيانته من آداب الجنس ، وكل ما صاغته حول هذه العلاقات من عواطف ومشاعر ، وكل ما جاهدت من غلاظة الحس ، وجهامة الغريزة ، لتطلق إشعاعات مرفرفة ، وهالات مجنحة ، وأشواق طليقة ، وكل الروابط الوثيقة حول تلك العلاقات فى
    شعور الفرد ، وفى حياة الأسرة ، وفى محيط الجماعة …
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــ
    ( 1 ) فى كتابه معركة الإسلام والرأسمالية ص 56 ، 57 يذكر سيد قطب : ( وكثيرًا ما ذهبت إلى هذه الكنائس ، وكثيرا ما استمعت إلى الآباء فى محطات الإذاعة ، دائما يحاول الآباء أن يعقدوا الصلة بين قلب الفرد وبين الله ، ولكن واحدًا متهم لهم أسمعه يقول : كيف يمكن أن تكون مسيحيا فى واقع الحياة اليومية ، ذلك أن المسيحية إنما هى مجرد دعوة للتطهر الروحى ، ولم تتضمن تشريعا للحياة الواقعية بل تركت ذلك لقيصر .. ) .
    إن هذا كله قد تجردت منه الحياة فى أمريكا مرة واحدة ، وتجلت عارية عاطلة من كل تجمل , ( ذكر وأنثى ) ,
    كما خلقهم أول مرة , جسداً لجسد ، وأنثى لذكر ( 1 ) .

    على أساس مطالب الجسد ودوافعه ، تقوم العلاقات وتتحدد الصلات ، ومنها تستمد قواعد السلوك ، وآداب المجتمع ، وروابط الأسر والأفراد .
    بفتنة الجسد وحدها ، عارية من كل ستار ، مجردة من كل حياء ، تلقى الفتاة الفتى ، ومن قوة الجسد وضلاعته يستمد الفتى إعجاب الفتاة ( 2 ) .
    ويستمد الزوج - حقوقه ـ هذه الحقوق التى تسقط جمعيا فى عرف الجميع ، يوم يعجز الرجل عن الوفاء بها لسبب من الأسباب .
    وما من شك أن لهذه الظاهرة دلالتها على حيوية هذا الشعب وقوة حسه , ولو هذبت هذه الطاقة وتسامت لاستحالت فناً يجمل جهامة الحياة ، وأشواقاً تجعل لها فى الحس الإنسانى نكهة ، وتربط بين الجنسين بروابط أعلى وأجمل من روابط الجسد الظاميء والحس الهائج ، والجنس الصارخ فى العيون ، الهاتف فى الجوارح ، المتنزى فى الحركات واللفتات ، ولكن طبيعة الحياة فى أمريكا ، والملابسات التى سلفت فى نشأة هذا الشعب ، لا تساعد على شيء من هذا ، بل تقاومه وتقصيه .

    وهكذا أصبحت كلمة حىّ أو خجول Bashful ) ) من كلمات العيب والتحقير ؛ وانطلقت العلاقات الجنسية من كل قيد على طريقة الغابة ، وأصبح بعضهم يفلسفها فيقول : كما قالت لى إحدى فتيات الجامعة مرة :
    ( إن المسألة الجنسية ليست مسألة أخلاقية بحال , إنها مجرد مسألة بيولوجية : وحين ننظر إليها من هذه الزواية نتبين أن استخدام كلمات الرذيلة والفضيلة , والخير والشر ، إقحام لها فى غير مواضعها ، وهو يبدو لنا نحن الأمريكان غريباً بل مضحكاً … ) .
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــ
    ( 1 ) يقول سيد قطب فى مجلة الكاتب جـ 1 : ( وتطلع عليك الفتاة كأنها الجنية المسحورة أو الحوراء الهاربة ، ولكن ما إن تقرب إليك حتى تحس فيها الغريزة الصارخة وحدها , مجردة من كل إشعاع ، ثم تنتهى إلى لحم ، مجرد لحم ، لحم شهى حقًا ، ولكنه لحم على كل حال … ) .
    ( 2 ) يذكر سيد قطب , ( فى الظلال 2: 637 ) , عما شاهده , من شيوع هذه الظاهرة : ( نعم شاهدت فى البلاد التى ليس فيها قيد واحد على الكشف الجسدى والاختلاط الجنسى بكل صوره وأشكاله ، إن هذا كله لم ينته بتهذيب الدوافع الجنسية وترويضها ، إنما انتهى إلى سعار مجنون لا يرتوى ولا يهدأ إلا ريثما يعود إلى الظمأ والاندفاع ! وشاهدت الأمراض النفسية ، شاهدت بوفرة ومعها الشذوذ الجنسى بكل أنواعه .. ثمرة مباشرة للاختلاط , وللصداقات بين الجنسين ) .

    وبعضهم يبررها ويعتذر عنها كما قال لى طالب يشتغل للدكتوراه :
    ( إننا هنا مشغولون بالعمل ، ولا نريد أن يعوقنا عنه معوق ، ليس لدينا وقت ننفقه فى العواطف ! ثم إن الكبت يتعب أعصابنا ، فنحن نريد أن ننتهى من هذه ( الشغلة ! ) لنفرغ إلى العمل بأعصاب مستريحة ) .

    ولم أرد أن أعلق على هذا الحديث فى وقته ( 1 ) , فقد كان همى أن أعرف كيف يفكرون فى هذه المسألة ، وإلا فكل شيء فى أمريكا لا يدل على أعصاب مستريحة ، بالرغم من كل وسائل الحياة المريحة ، وكل ضماناتها المطمئنة ، وكل يسر وسهولة فى إنفاق الطاقات الفائضة .
    إن التجربة الواقعية التى بلغت فى أمريكا غايتها ، كفيلة بأن تسخر من هذا المنطق الظاهرى البراق ! فلم يؤد الاختلاط إلى تصريف نظيف , إنما أدى إلى بهيمية كاملة تطيع النزوات الجسدية وتلبيها بلا حد ولا قيد ، ولم تؤد التجربة الكاملة والاختلاط المطلق إلى التماسك فى البيوت ، ولا إلى الاستقرار والثبات ، إنما أدى إلى تفكك دائم ، وطلاق متزايد ، وجوع مستمر , وسعار !!

    وبعضهم يسمى هذا تحرراً من الرياء ومواجهة للحقائق , ولكن هناك فارقاً أساسياً بين التحرر من الرياء ، والتحرر من المقومات الإنسانية , التى تفرق بين الإنسان والحيوان .
    والإنسانية فى تاريخها الطويل لم تكن تجهل أن الميول الجنسية ميول طبيعية وحقيقية ، ولكنها ـ عن وعى أو غير وعى ـ كانت تجاهد لتتحكم فيها ، فراراً من العبودية لها ، وبعداً عن مدارجها الأولى : إنها ضرورة نعم ؛ ولكن لماذا تخجل الإنسانية من إبداء ضروراتها ؟ .
    لأنها تحس بالفطرة أن التحكم فى هذه الضرورات , هو شهادة الخلاص من الرق ، وأولى مدراج الإنسانية فى الطريق ، وأن العودة إلى حرية الغابة عبودية مقنعة ، ونكسة إلى مدراج البدائية الأولى .

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــ
    ( 1 ) وجدنا تعليقا طريفًا فى كتابه ( السلام العالمى والإسلام ص 74 ـ 76 ) , يقول سيد قطب : لقد آن أن تراجع البشرية تلك النظريات الخالية الخاوية التى تقول : إن الإختلاط تصريف جزئى ملطف نظيف ، وإن التجربة تقود إلى الاختيار ، وإن الاختيار طريق الاستقرار

    يتبع
    {‏ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} إبراهيم: 41

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Oct 2010
    الدولة
    مصري من مدينة الإسكندرية يعيش في الغرب
    المشاركات
    2,687
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    جزاكم الله خيرا نتابع معكم

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    May 2010
    المشاركات
    2,867
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    19

    افتراضي

    أمريكا التي رأيت 3

    3ـ فى ميزان القيم الإسلامية
    الأمريكى بدائى , فى ذوقه الفنى ، سواء فى ذلك , تذوقه للفن ، أو أعماله الفنية .
    موسيقى ( الجاز ) هى موسيقاه المختارة :
    وهى تلك الموسيقى التى ابتدعها الزنوح لإرضاء ميولهم البدائية ، ورغبتهم فى الضجيج من ناحية ، ولاستثارة النوازع الحيوية من ناحية أخرى . ولا تتم نشوة الأمريكى تمامها بموسيقى ( الجاز ) , حتى يصاحبها غناء مثلها صارخ غليظ .
    وكلما علا ضجيج الآلات والأصوات ، وطن فى الآذان إلى درجة لا تطاق .. زاد هياج الجمهور ، وعلت أصوات الاستحسان ، وارتفعت الأكف بالتصفيق الحاد المتواصل ، الذى يكاد يصم الآذان .

    ولكن الجمهور الأمريكى مع هذا , يقبل على الأوبرا ، ويصغى إلى السيمفونيات ، ويتزاحم على ( الباليه ) , ويشاهد الروايات التمثيلية ( الكلاسيك ) حتى لا تكاد تجد مقعدك خالياً ، ويقع فى بعض الأحيان ألا تجد مكاناً , إذا أنت لم تحجز مقعدك قبلها بأيام ، على غلاء الأسعار فى هذه الحفلات .
    ولقد خدعتنى هذه الظاهرة فى أول الأمر ، بل لقد فرحت بها فى داخل نفسى ، فقد كنت دائم الشعور ( باستخسار ) هذا الشعب الذى يصنع المعجزات فى عالم الصناعة والعلم والبحث ، ألا يكون له رصيد من القيم الإنسانية الأخرى ، وأنا شديد الإشفاق على الإنسانية أن تؤول قيادتها إلى هذا الشعب ، وهو فقير من تلك القيم جميعاً .

    وقد دفعنى الاهتمام بهذه الظاهرة إلى أن أتقصى كل شيء عنها فى أوساط مختلفة ، وفى مدن متعددة ، ولكن تتبعى لسمات الوجوه ، ومحادثتى مع الكثيرين والكثيرات من رواد هذه الأماكن ـ من أعرف ومن لا أعرف ـ قد كشف لى ـ مع الأسف ـ عن أن الشقة ما تزال بعيدة بين روح هذا الفن الإنسانى وروح الأمريكان .
    إن مشاعرهم عنها محجبة إلا فى النادر ( 1 ) , وإنهم إنما ينظرون إلى المسألة من زواية اجتماعية بحته , فالأمريكى المثقف لابد أن يكون شهد
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــ
    ( 1 ) وفى مجلة الكاتب جـ 10 , يقول سيد قطب , مؤكدًا على هذا الكلام : ( لى ستة أشهر لم أشهد مرة واحدة فردًا أو أسرة جالسة تستمتع بذلك الجمال البارع الحالم ، المهم هو تنقية الحديقة وتنظيمها ، بنفس الطريقة التى ينظم بها صاحب المتجر متجره , وصاحب المصنع مصنعه ، لا شيء وراء ذلك من تذوق الجمال ، والاستمتاع بالجمال ) .

    هذه الألوان وذهب إلى تلك الأماكن ، حتى إذا دار الحديث عنها فى مجتمع شارك فى الحديث .
    فالعيب الأكبر فى أمريكا ألا يشارك الإنسان فى الحديث وبخاصة بالنسبة إلى الفتيات ، إذ المطلوب منهن أن يجدن دائماً موضوعات للحديث ، فإذا ارتدن هذه الأماكن فإنهن يضفن موضوعات جديدة إلى الموضوعات الأمريكية الخالدة وهى : مسابقات الكرة , وأسماء الأفلام , والممثلين والممثلات , وحوادث الطلاق والزواج , وماركات وأسعار السيارات .

    وبهذه الروح ذاتها تفد الجموع على المتاحف الفنية , عابرة عبوراً خاطفاً بالقاعات والمعروضات ، بطريقة لا تدل على تذوق أو ألفة الأعمال .
    كما يذهبون أفراداً وجماعات لمشاهدة مناظر الطبيعة خطفاً ، والمرور بأقصى سرعة السيارات بالأماكن والمناظر لجمع مادة للحديث ، ولتلبية الميل الأمريكى الطبيعى إلى الجمع والإحصاء .

    ولقد كنت أسمع فى مبدأ وجودى بأمريكا أن أحدهم زار كذا وكذا من المدن والبلاد والمناظر والمشاهد ، وقطع كذا ميلاً فى رحلاته السياحية ، وهو يعرف كذا عدداً من الأصدقاء ، فأعجب بهذه القدرة على صنع هذا كله ، وأود لو أستطيع منه شيئا ! , ثم عرفت فيما بعد كيف تتم هذه المعجزات … يركب أحدهم سيارته وحده أو مع أسرته أو أصحابه فى رحلة ، فيعدو بها عدواً على آخر سرعتها ، مخترقا بها المدن والمسافات ، عابراً بالمناظر والمشاهد ، وهو يقيد فى مذكرته الأسماء والأميال .. ثم يعود فإذا هو شهد هذا كله وأصبح له الحق فى الحديث عنه ! .

    أما الأصدقاء فيكفى أن يدعى إلى حفلات التعارف ، وهناك يلتقى بالوجوه أول مرة ، والقائم بالدعوة يعرفه بالحاضرين واحداً واحداً وواحدة واحدة ، وهو يستكتب من شاء منهم اسمه وعنوانه وكذلك هم يفعلون معه .

    وعلى الزمن تتضخم مذكراته بالأسماء والعنوانات , فإذا هو صاحب أكبر رقم من الأصدقاء والصديقات , وقد يفوز فى مسابقة تقام لهذا الغرض , وما أكثر وما أغرب المسابقات هناك !.
    وهكذا يقاس علمك وثقافتك , أحياناً بقدر ما قرأت وما شهدت ووما سمعت , كما تحسب ثروتك المادية , بعدد ومقدار ما تملك من مال وعقار سواء بسواء ! .
    وليست هذه عقلية الجماهير وحدها ، ولكنها كثيراً ما تكون عقلية المفكرين والباحثين , فلقد خطر لمفكرين فى أمريكا أنه لا يصح أن تكون دولتهم أغنى دول العالم ، وشعبهم أكثر شعوب الأرض حضارة صناعية ، وحضارة علمية ، ثم لا يكون لهم من الثروة الفنية ما لبعض الشعوب الفقيرة كالطليان والألمان .
    ولديهم المال ـ والمال يصنع المعجزات ـ وإن هى إلا سنوات حتى كان لهم من متاحف الرسم والنحت أفخمها وأضخمها , وجمعت لها القطع الفنية من كل فج ، وعمرت بالنادر والثمين من هذه القطع ، التى لم يبخلوا على شرائها بالمال , وكلها قطع أجنبية إلا القليل ؛ لأن القطع الأمريكية بدائية وساذجة إلى حد مضحك بجوار تلك الذخائر العالمية الرائدة .

    وكذلك كان لهم من الفرق الموسيقية العازفة وفرق ( الباليه ) الراقصة ، أكثرها مهارة وإتقاناً ، ومن مديرى هذه الفرق أعظمهم عبقرية وإبداعاً.. وكلهم من الأجانب إلا القليل .

    ثم خرجت الإحصاءات الدقيقة تعلن عما تملك أمريكا من الثروات الفنية الضخمة ، المشتراه بالمال ، ولكن بقى أمر واحد بسيط : أن يكون للنفس الأمريكية نصيب فى هذه الثروات ؟ بل أن يكون لها مجرد التذوق الفنى لهذا التراث الإنسانى الثمين ! .

    وخطر لى أن أمتحن هذه الأرقام فى متاحف الفن ، كما أمتحنها فى دور الأوبرا وما إليها .

    ذهبت للمرة العاشرة إلى متحف الفن فى سان فرانسيسكو , وجعلت مادة امتحانى إحدى قاعات الصور من الفن الفرنسى ، ووزعت اهتمامى على ما فيها من الصور ، ولكننى ركزته على صورة واحدة بارعة اسمها :
    ( ثعلب فى بيت الدجاج ) , ولا تملك الألفاظ أن تنقل إلى القاريء روعة هذه الصور العبقرية , التى صور فيها الرسام جملة مشاعر عميقة مركبة فى لوحة ليس فيها وجه إنسان يسهل على الرسام أن يصور هذه المشاعر فيه .

    ثعلب فى بيت الدجاج ، والجو داكن خانق وقد هجم الثعلب أول ما هجم على دجاجة أم فرخة ، بدت مكروبة مجهدة ، فى مخالب الوحش المكشر ، وقد فزع صغارها ، وتناثر البيض الباقى تحتها ؛ على حين تناثرت زميلاتها فى فراغ اللوحة ، وقف الديك ـ رجل البيت ـ وقفة المغلوب على أمره ، الحائر الذى لا يجد مخلصاً لزوجه المكروبة وهو حاميها ! .

    أما الأخريات فواحده جازعة مأخوذة ، وأخرى قانطة مشمئزة أن يكون فى الحياة كل هذه الشناعة ، وثالثة حائرة متسائلة : كيف وقع هذا ؟ والجو كله والألوان فى اللوحة العبقرية تصور ما لا تدركه الألفاظ .
    واسترحت إلى مقعد من المقاعد التى جهزت بها القاعات تجهيزاً جميلاً بديعاً ، ليستريح عليها الزائرون عن التعب من المشاهدة والطواف ، ورحت أستعرض الملامح والسمات ، وأنصت إلى الملاحظات والتعليقات .

    وانقضت على في جلستى أربع ساعات كاملة ، مرَّ بى فى خلالها مائة وتسعة ، فرادى وأزواجاً وجماعات ، معظمهم من الفتيات والفتيان الذين يتواعدون على قضاء بعض الوقت فى حديقة المتحف ، ثم فى المتحف ذاته ، لأنه ينبغى للفتاة الاجتماعية أن تشارك فى الحديث ، وأن تجد موضوعات للحديث .
    كم من هؤلاء التسعة والمائة بدا عليه أن يحس شيئاً مما يرى ؟ واحد فقط تلبث أمام الصورة المنتقاه نحو دقيقتين ، وتلبث فى قاعة كلها نحو خمس دقائق … ثم طار .

    وكررت التجربة فى قاعات المتحف الأخرى ، ثم كررته فى متاحف أخرى فى عدة مدن ، ثم انتهيت إلى أن قلة نادرة من هذه الكثرة الكثيرة التى تتضمنها إحصاءات الزائرين تدرك شيئا من هذه الثورة الهائلة ، التى جمعها الدولار من كل بقاع الأرض ، وبقى أن يخلق الحاسة الفنية ، التى يبدو أنها لا تستجيب لسحر الدولار ! .

    الفن الوحيد الذى يتقنه الأمريكان ـ وإن يكن سواهم لا يزال يفوقهم فى الناحية الفنية فيه ـ هو فن السينما :
    وهذا طبيعى ومنطقى مع تلك الظاهرة التى ينفرد بها الأمريكى : ذروة الإتقان الصناعى ، وبدائية الشعور الفنى , وفى السينما تبدو هذه الظاهرة واضحة إلى حد كبير .
    لا يرتفع السينمائى بطبيعته إلى آفاق الفنون العليا : الموسيقى والرسم والنحت والشعر ، ولا إلى فن المسرح كذلك ، وإن كانت إمكانيات الصناعة الفنية وإمكانيات الإخراج فى السينما أوسع بكثير .

    وأقصى ما يصل إليه فن الإخراج فى السينمامن إبداع , هو أقصى ما يبلغه فن التصوير الشمسى , ثم تظل المسافة بينه وبين المسرح مثلا ، كالمسافة بين التصوير الفوتوغرافى والتصوير بالريشة , هذا تتجلى فيه عبقرية الشعور ، وذلك تتجلى فيه مهارة الصناعة .

    والسينما فن الجماهير الشعبى ، فهو فن المهارة والإتقان والتجسيم والتقريب ، وهو بطبيعة اعتماده على المهارة أكثر من اعتماده على الروح الفنية .. يمكن أن تبدع فيه العبقرية الأمريكية .. ومع هذا فما يزال الفيلم الإنجليزى والفرنسى والروسى والإيطالى , أرقى من الفيلم الأمريكى ، وإن كان أقل صناعة ومهارة .
    والكثرة الغالبة من الأفلام الأمريكية تتجلى فيها بدائية الموضوع ، وبدائية الانفعالات ، وهى فى الغالب أفلام الجريمة البوليسية ، أفلام رعاة البقر . أما الأفلام العالية البارعة من أمثال : ( ذهب مع الريح ) و ( مرتفعات وذرنج ) و ( ترتيل برنادوت ) وما إليها فهى قليلة , بالقياس إلى النتاج الأمريكى .
    وما يرد من الفيلم الأمريكى إلى مصر أو البلاد العربية لا يمثل هذه النسبة ، لأن الكثير منه من أرقى الأفلام الأمريكية النادرة , والذين يزورون دور العرض فى أمريكا هم الذين يدركون تلك النسبة الضئيلة من الأفلام القيمة .

    هنالك فن آخر برع فيه الأمريكان ، لأن ما فيه من المهارة فى الصناعة والإنتاج ، أكثر مما فيه من الفن العالى الأصيل .. ذلك هو فن تمثيل المناظر الطبيعية بالألوان ، كأنها فوتوغرافية صادقة دقيقة .

    ويبدو هذا فى متاحف الأحياء المائية والبرية ، إذ تعرض هذه الأحياء أو أجسادها المحنطة , فى مثل مواطنها الطبيعية كأنها حقيقة ، وتبرع ريشة الرسام ، فى تصوير هذه المواطن ، مشتركة مع التصميم الفنى للمنظر ، وتبلغ حد الإبداع .

    ثم ندع تلك الآفاق العليا فى الفن والشعور ، لنهبط إلى ألوان الملابس وإلى مذاق الأطعمة :
    إن بدائية الذوق لا تتجلى فى شيء كما تتجلى فى تلك الألوان الصارخة الزاهية ، وفى تلك التقاسيم المبرقشة الكبيرة وبخاصة ملابس الرجال … ذلك السبع أو النمر الواثب على صدر الصدرية .. وذلك الفيل أو الثور الوحشى الجاثم على ظهرها , تلك الفتاة العارية الممددة على رباط العنق من أعلى إلى أسفل ، أو تلك النخلة الصاعدة فيه من أسفل إلى أعلى …

    لطالما تحدث المتحدثون عندنا عن ( فستان العيد ) فى الريف ، أو عن ثوب العروس فى القرية ، بألوانه الزاعقة البدائية ، التى لا تربط بينها رابطة ، إلا أنها كلها فاقعة الألوان .. ليت هؤلاء يرون معى أقمصة الشبان فى أمريكا لا ملابس الفتيات ! .
    ولطالما تحدث المتحدثون عن ( الوشم ) عند الغجر ، أو فى أواسط إفريقية ، ليتهم يرون أذرع الشبان الأمريكان وصدورهم وظهورهم ، موشمة بالوشم الأخضر : ثعابين وحيات ، وفتيات عاريات ، وأشجار وغابات ! فى أمريكا المتحضرة , فى الدنيا الجديدة فى العالم العجيب ! .

    أما الطعوم فشأنها هو الآخر عجيب :
    إنك تلفت النظر ، وتثير الدهشة ، حين تطلب قطعة أخرى من السكر , لكوب الشاى أو القهوة تشربه فى أمريكا , ذلك أن السكر محتفظ به للمخلل ( السلاطة ) ! كما أن الملح يا سيدى محتفظ به للتفاح والبطيخ ! .
    وفى صحيفة طعامك تجتمع قطعة اللحم المملحة ، إلى كمية من الذرة المسلوقة ، وكمية من البازلاء المسكرة وبعض المربى الحلوة … وفوق ذلك كله الGrafy المؤلف أحيانا من السمن والخل والدقيق ومرقة العجل والتفاح ، والملح والفلفل والسكر .. والماء ! .
    كنا على المائدة فى مطعم ملحق بالجامعة حينما رأيت بعض الأمريكان يضعون الملح على البطيخ ، وكنت قد اعتدت رؤية هذه ( التقاليع ) واعتدت كذلك أن أتفكه عليهم فى بعض الأحيان .
    وقلت متجاهلا : أراكم ترشون الملح على البطيخ ! قال أحدهم : أجل ! ألا تصنعون ذلك فى مصر ؟ قلت : كلا ! إنما نحن نرش الفلفل ! قالت واحدة فى دهشة واستفسار : أو يكون مستساغا ؟ قلت : يمكنك أن تجربى ! وجربت ، وذاقت , وقالت في استحسان : كم هو لذيذ ! وكذلك فعل الآخرون .

    وباختصار فكل ما يحتاج إلى قسط من الذوق , فالأمريكانى ليس له فيه حتى الحلاقة ! وما من مرة حلقت شعرى هناك إلا وعدت إلى البيت لأسوى بيدى ما شعث الحلاق ، وأصلح ما أفسده بذوقه الغليظ .
    إن لأمريكا دورها الرئيسى فى العالم ، فى مجال العلم التطبيقى ، وفى مجال البحوث العلمية ، وفى مجال التنظيم والتحسين ، والإنتاج والإدارة .. كل ما يحتاج إلى ذهن وعضل فهنا تبرز العبقرية الأمريكية , وكل ما يحتاج إلى روح وشعور فهنا تبدو البدائية الساذجة .

    وإن البشرية لتملك أن تنتفع بالعبقرية الأمريكية فى مجالها , فتضيف قوة ضخمة إلى قواها , ولكن هذه البشرية تخطيء أشنع الخطأ ، وتعرض رصيدها من القيم الإنسانية للضياع ، إذا هى جعلت المثل الأمريكية مثلها فى الشعور والسلوك …
    إن ذلك لا يعنى أن الأمريكان شعب بلا فضائل ، وإلا لما أمكنه أن يعيش ، ولكنه يعنى أن فضائله هى فضائل الإنتاج والنظام ، لا فضائل القيادة الإنسانية والاجتماعية ؛ فضائل الذهن واليد ، لا فضائل الذوق والشعور .

    وختاماً
    العودة إلى مصر
    نشر عباس خضر - صديق سيد قطب - خبر عودته إلى مصر فى مجلة الرسالة العدد 894 قائلاً :
    ( يصل بالطائرة يوم 20 أغسطس الحالي 1950 م ) الأستاذ سيد قطب عائدًا من أمريكا ، حيث كان مبعوثًا من وزارة المعارف , لدراسة النظم التعليمية هناك ) .
    وبعد عامين كاملين فى أمريكا من أغسطس 1948 م , حتى أغسطس 1950 م ، عاد سيد قطب إلى مصر ، فظن الكثير أنه حصل على درجة الدكتوراه وأطلقت جريدة المصرى عليه لقب ( الدكتور سيد قطب ) ، يحكى ذلك صديقه عباس خضر , فى مجلة الثقافة العدد 47 قائلاً :

    ( كان سيد جادًا مترفعًا ، أذكر عقب عودته من أمريكا , أن كتبت عنه جريدة المصرى شيئًا , قالت فيه : ( الدكتور سيد قطب ) , فكتب فى العدد التالى أنه ليس دكتورًا … وكان يمكن أن يترك ذلك اللقب يجرى على الأقلام والألسنة , ويشيع مسندًا إليه … كما يفعل بعض المواطنين ) .

    وقبل عودته مباشرة , هاج الشوق فى نفسه إلى مصر ، فنظم قصيدة وهو فى مدينة سان فرنسيسكو , نشرتها مجلة الكاتب ( جزء 6 ) , تحت عنوان : (دعاء الغريب ) .

    يا نائيات الضفـاف هنا فتــــاك الحبيــب
    علية طال المطاف متى يعــــود الغريـب
    متـى تمس خطـــاه ذاك الأديـــــم المغبـر
    متــى تشــم شـــذاه كالأقحـــوان المعطـر
    متــى تـرى عينــاه تلك الربوع المواثــل
    أحلامــــه ومنــــاه تدعوه خلف الحوائل
    حنينــــــه رفّــــاف إلى الديـــار البعيــدة
    متى متى يا ضفاف تأوى خطاه الشريـدة
    يا أرض ردّى إليـك هذا الوحيـد الغريــب
    هــواه وقف عليـــك ردّى فتــاك الحبيـب


    وتحت عنوان ( هتاف الروح ) , نشرت مجلة الرسالة قصيدته الثانية , فى ( العدد 877 ) :

    فى الجو يا مصر دفء يدنـــى إلى خيـالك
    وتستجـتيش جنينــــــى إلــى الليـالى هناك
    للأمسيــات السكـــارى نشوى ترفّ خيالك
    ونسمــة فيـــك تســــرى ريانـــة من جمــالك
    نجــواك مــلء فــــؤادى تُرى خطرت ببــالك
    فى النفس يا مصر شوق لخطــــرة فى ربــاك
    لضمـــــة مـــن ثــــراك لنفحــــة مــن جـواك
    لومضــــة مــن سمـــاك لهــاتــف مــن رؤاك
    لليــــلـــة فيــــك أخـرى مــع الرفــــاق هنـاك
    ظمــــآن تهتف روحــى متــى تــرانى أراك ؟


    عاد سيد قطب إلى عمله فى وزارة المعارف ، بعد أن توقعت أمريكا وعملاؤها فى مصر من سيد , أن ينقل المناهج والأساليب الأمريكية إلى مصر … ولكن سرعان ما تبددت أحلامهم , وفجعوا بالرجل المؤمن ، صاحب رسالة ودعوة وغاية ، يسعى إلى إرضاء ربه ، وتحقيق رسالته ، يقول فى الرسالة ( عدد 995 ) :
    ( ألم أحاول عشرين مرة ـ بعد عودتى من البعثة إلى أمريكا ـ أن أنشىء لوزارة المعارف إدارة فنية ، تقيم نظم التعليم ومناهجه على أساس سليم ، ففشلت فى هذه المرات فشلاً ذريعًا ، لأن المراد فى هذه المرة كان إصلاحًا فى الصميم ) .

    وبدأ سيد يعلن حقائق الوجه الكالح الأمريكى , فى المنطقة فيقول فى مقاله : ( عدونا الأول الرجل الأبيض ) فى مجلة الرسالة ( العدد 1009 ) :
    ( إن الرجل الأبيض هو عدونا الأول سواء كان فى أوربا أو كان فى أمريكا .. ولكن الذى نفعله هو عكس هذا على خط مستقيم .. عندنا فى وزارة المعارف عبيد للرجل الأبيض ، وعندنا في معاهد التربية التى تخرج المدرسين ، فتؤثر بذلك فى عقلية أجيال بعد أجيال ) ثم يقول :
    ( إن الاستعمار لا يغلبنا اليوم بالحديد والنار ، ولكنه يغلبنا قبل كل شيء بالرجال الذين استعمرت أرواحهم وأفكارهم ، يغلبنا بهذه الأقلام التى تغمس فى مداد الذل والهوان الروحى , لتكتب عن أمجاد فرنسا ، وأمجاد بريضانيا ، وأمجاد أمريكا ….. ) .

    تم النقل, فرحم الله سيد فقد فطن لحقيقة أمريكا حتى قبل أن يتم الله عليه نعمة العيش في ظلال القرآن فغفر الله له وجعل الفردوس مثواه.
    {‏ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} إبراهيم: 41

  5. #5

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة هشام بن الزبير مشاهدة المشاركة

    يقول سيد قطب عن النفس الأمريكية : فى كل مكان ضحكات ، وفى كل محلّة مرح ، وفى كل زاوية أحضان وقبلات ، ولكنك لا تلمح فى وجه واحد معنى الرضا ، ولا تحس فى قلب واحد روح الأطمئنان .
    صدق رحمه الله , وجزاك الله خير استاذنا الفاضل.
    رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    الدولة
    مغربي فاسي و لكن دولتي من طنجة الى جاكارتا
    المشاركات
    459
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    أستاد هشام شكرا على هدا الموضوع االرائع اللدي يعرض الواجهة الأخرى لهؤلاء الأمريكين اللدي صنعت منهم هوليود مثال و قدوة للعالم .
    و أما هده الجملة الدهبية

    ( إن الاستعمار لا يغلبنا اليوم بالحديد والنار ، ولكنه يغلبنا قبل كل شيء بالرجال الذين استعمرت أرواحهم وأفكارهم ، يغلبنا بهذه الأقلام التى تغمس فى مداد الذل والهوان الروحى , لتكتب عن أمجاد فرنسا ، وأمجاد بريضانيا ، وأمجاد أمريكا ….. )
    فتستحق أن تكتب الدهب و توضع في المقررات.
    جزيت خيرا أستادي .
    عندما كان الناس أكتر روحانية و سيطرت عليهم الكنيسة كانوا تحت رحمة صكوك الغفران التي ما أنزل الله بها من سلطان. فلما أنتقلوا الى المادية و الحداثة أستقبلتهم الأبناك بصكوك أخرى بمسمى الفوائد لتحكم أيضا عليهم بالرضوخ لها. فلا فرق بين صك استعبادي يعطى لفرج كرب روحاني و بين صك استعبادي أخر يأخد لفرج كرب مادي .

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Apr 2012
    الدولة
    بين المسلمين
    المشاركات
    2,906
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    صدقت و صدق رحمه الله

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. القطّة التي رأيت بالأمس..
    بواسطة عبدالله الشهري في المنتدى عبدالله الشهري
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 06-07-2012, 01:16 AM
  2. القطّة التي رأيت بالأمس..
    بواسطة عبدالله الشهري في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 06-07-2012, 01:16 AM
  3. تخيرّ الكتب التي تبني إيمانك، وليست التي تهدمه..
    بواسطة عبدالرحمن الحنبلي في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 01-12-2012, 10:01 PM
  4. قوله تعالى " وما رميت اذ رميت ولكن الله رمى "
    بواسطة ماكـولا في المنتدى قسم العقيدة والتوحيد
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 10-07-2009, 01:24 PM

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء