اجتهاد نوعي ذلك الذي سَطّره الباحث صلاح عبد الرزاق، في معرض تفسير أسباب اعتناق الإسلام، هناك في المجال التداولي الغربي، في عمل يحمل عنوان: "اعتناق الإسلام في الغرب أسبابه ودوافعه". (صدر عن منتدى المعارف، بيروت، ط 1، 2010.)

جاء الكتاب موزعا على سبعة فصول، وكانت عناوينها كالتالي: لمحة تاريخية عن اعتناق الأوروبيين للغسلام، مفهوم التحول الديني، نظريات تفسير التحول الديني، اعتناق الإسلام: المعنى والظاهرة، نظريات تفسير ظاهرة اعتناق الإسلام، دوافع اعتناق الغربيين للإسلام، وأخيرا، سيرة ذاتية لأهم المسلمين الغربيين، وقد توقف الكاتب في هذا الصدد عند سيرة كل محمد أسد، مراد هوفمان، روجيه غارودي، ديفيد موسى بيدكوك ومريم جميلة.

يشير المؤلف في تمهيد الكتاب، إلى أنه ضمن حوالي مائة ألف أوروبي اعتنق الإسلام، نجد مجموعة من المثقفين الغربيين، بما يُفيد أن الإسلام لم يعد مقتصرا على الدوائر الضيقة من بعض الفئات الاجتماعية العادية، بل صار يتغلغل داخل أوساط النخبة الغربية المثقفة. فخلال العقود الثلاثة المنصرمة دخل الإسلام العديد من المفكرين والمثقفين من أدباء وفنانين وفلاسفة ومفكرين وأساتذة جامعات وسياسيين، ويذكر منهم على سبيل المثال الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي، العالم والطبيب الفرنسي موريس بوكاي، الكاتب النمساوي محمد أسد، الدبلوماسي الألماني مراد هوفمان، المغني الإنكليزي السابق كات ستيفن (يوسف إسلام)، الداعية الإسكتلندي عبد القادر الصوفي، الكاتبة الأمريكية مريم جميلة، والدبلوماسي الإنكليزي غي إيتون، والمستشرق الإنكليزي مارتن لنغز والباحث البلجيكي عمر فان دنبروك والمحامي الكاتب أحمد ثومسون والباحثة الإنجليزية هدى خطاب، والكاتبة الإنجليزية عايشة بويلي، والكاتبة الأسترالية جميلة جونز، والأنثروبولوجي الألماني أحمد فون دينفر، وأستاذ الرياضيات الأمريكي جيفري لانغ، والكاتبة الأمريكية بربارا براون، الإنكليزية سوزان حنيف، والباحثة الإنكليزية رقية وارث مقصود، والباحث الهولندي هندريك خيل، والكاتبة الهولندية ساجدة عبد الستار، والإعلامي والكاتب الهولندي عبد الواحد فان بومل وآخرين كثيرين ينتشرون على امتداد القارة الأوروبية، واللائحة تطول طبعا.

وبَدَهي أن مجمل هؤلاء يساهمون في تطوير الفكر الإسلامي عموما من خلال كتاباتهم ومقالاتهم ومحاضراتهم وندواتهم التي يقيمونها ويتحدثون بلغاتهم الأوروبية إلى جمهور أوروبي أو مسلم. ويناقشون ويكتبون في مختلف القضايا والعلوم الإسلامية كالسيرة والحديث والتفسير والسنة والفقه الإسلامي.

ولو ارتحل الباحث قليلا في هذه الجزئية، لاستحضر نوعية العديد من الدراسات التي صدرت عن غربيين اعتنقوا الإسلام خلال لعقود أو السنوات الأخيرة، ونذكر منها كتاب قيّم صدر في الساحة المغربية، ويحمل عنوان: "الإسلام والأصولية وخيانة الموروث الإسلامي"، وصدر عن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية.

ميزة هذه الأسماء الوازنة هناك، برأي المؤلف، أنها لا تتردد في توجيه النقد للدول الغربية وسعيها إلى هيمنة على ثروات ومقدرات الشعوب غير الأوروبية، كما أنها تنتقد السوابق الاستعمارية والتبشيرية للدول الغربية في دول آسيا وإفريقيا وأمريكا، بما يُفسر مثلا، أن بعضها تعرض إلى حملات دعائية من الإعلام الغربي بسبب مواقفهم هذه.

التحول الديني.. القلق المنهجي

فيما يتعلق بالمقصود من "التحول الديني"، نتجه مباشرة إلى أهم خلاصات الكاتب ومفادها أن مصطلح التحول يبقى مصطلحا شاملا للتغير الديني، ويتضمن تحول عنيف من حالة سابقة. إن التحول الديني لا يعني ببساطة "تحولا" عاديا بل أعمق من مجرد تغير. ويركز بعض الباحثين على أنه المصطلح المستخدم لوصف عملية التغيير في المعتقد؛

فبعض الباحثين، يرى الاعتناق مجرد حاجة اجتماعية أو أزمة نفسية أو اندماج ثقافي أو حل فكري، مستشهدا بما صدر عن وليم جيمس العالم الشهير المتخصص بسيكولوجيا الدين، والذي يشدد على وظيفة التكامل في الاعتناق الديني فيقول: "كي تعتنق، يجب أن تولد من جديد، كي تحظى بالرحمة كي تجرب الدين، تحصل على الاطمئنان، توجد مراحل كثيرة تدل على عملية التحول، تدريجيا أو فجائيا، ينقسم فيها المرء على نفسه، يصاحبه خطأ واع وشعور بالإنحطاط و التعاسة، ليتحول إلى صح واع وسمو وسعادة عبر الحقائق الدينية الجديدة".

ولأن الخوض في موضوع "التحول الديني" يختلف بين مقاربة باحث مسلم أو ملحد، وبين باحث يهودي أو بوذي.. إلخ، يُعرج المؤلف في الفصل الثاني على جملة من الأسئلة المرتبطة بمقتضيات هذا "القلق المنهجي"، وفي مقدمة هذه الأسئلة: إلى أي حد يكون الباحث متحررا من عقيدته ودينه خلال معالجته قضايا التحول إلى دين غير دينه؟ فإذا كان غير متدين، هل سيحافظ على موقف حيادي تجاه التديّن؟ ليخلُصَ إلى أن الباحثين غير مُحصنين من الانحياز، كما أن عقائدهم واقتناعاتهم تبقى مؤثرة في تقييماتهم واستنتاجاتهم. فالباحثون العلمانيون ومن ضمنهم المفكرون، يستخدمون تفسيرات ذات علاقة بالحاجات النفسية والعوامل الاجتماعية والدوافع الاقتصادية، والحرمان والإكراه أو الإغراء السياسي.

وفي إطار هذه المؤاخذات على الباحثين المحسوبين على المرجعية العَلمانية، يرى صلاح عبد الرزاق، أن التحول الديني هو قضية تغيير عقيدة أو إيمان بدين بدلا عن الدين السابق، ولكن معظم الدراسات تهمل الدوافع الدينية أو تكون العوامل الفكرية غائبة فيها. وقد يعود ذلك إلى أن الباحثين والسيكولوجيين الذين يبحثون في هذه المشاكل هم علمانيون ويُقللون من شأن العامل الديني في عملية الاعتناق؛

فالسيكولوجيون مثلا، يميلون إلى التركيز على الشخصية المنعزلة، كما أنهم يُركزون على الفرد، مشاعره وأفكاره وأفعاله التي تسيطر على سلوكه وردود أفعاله، وغالبا ما يفسرون الاعتناق من خلال الكآبة والاضطراب والصراع والإحساس بالذنب وبقية المصاعب النفسية. وينظر منظرو علم النفس للاعتناق من خلال مختلف التفسيرات النظرية مثل التحليل النفسي والسلوكي والإنساني والاجتماعي وسيكولوجيا الإدراك؛

في حين يُركز المحللون النفسيون على ديناميكية الانفعالات الداخلية، وخاصة تلك التي تعكس العلاقة بين الوالدين والطفل؛

أما السلوكيون فيركزون على المحاور الاجتماعية والمؤسساتية للأديان التي يحدث فيها الاعتناق؛

وبالنسبة للأنثروبولوجيين، فإنهم يبحثون في الثقافة التي تبني الجو الفكري والأخلاقي والروحي للحياة، حيث يعتقدون أن الثقافة هي مظهر النشاط الإنساني والقوة المؤثرة في تشكيل وتجديد الأفراد والجماعات والمجتمعات.

ومن جهتهم، يؤكد اللاهوتيون أن هدف التحول الديني يبقى جلب الناس نحو العلاقة مع المقدس ومنح الحياة معنى. وهم يُركزون على الجانب العقائدي باعتباره المحور الأساسي في الاعتناق، وأن العوامل الأخرى خاضعة له. إن إقصاء البعد الديني في الاعتناق يؤدي إلى الفشل في تفسير الظاهرة بشكل ينسجم مع خبرات المعتنق.

تفاسير مناسبة لظاهرة مركبة

وعموما، من الواضح أن الباحثون في اعتناق الإسلام يبذلون جهودا كبيرة لإعطاء تفسيرات مناسبة لهذه الظاهرة، لكنهم غالبا ما يعتمدون على النظريات السيكولوجية والاجتماعية والأنثروبولوجية الغربية. ولكن لا يمكن اعتبار هذه النظريات عالمية وصالحة للتطبيق في كل بيئة وكل مجتمع. وحتى الباحثين الغربيين أنفسهم يعترفون بأن نظرياتهم مقيدة بالبيئة والثقافة الغربية؛

وعلى صعيد آخر، يعترض بعض المسلمين الغربيين على عبارة "اعتناق" ويفضلون بدلها لفظة العودة إلى الإسلام لأنهم يعتقدون أنهم رجعوا إلى الحالة الإنسانية الأصلية أي الفطرة السليمة. فالإنسان يولد على الفطرة السليمة أي الإسلام ولكن البيئة والتربية تجعله يؤمن بدين والديه ومجتمعه، ويفترض الباحث الأمريكي لاري بوستون بأنه منذ أن كان المسلمون لا يركزون على ربط اعتناق الإسلام بظاهرة غيبية مقارنة مع خبرة المسيحية في الاعتناق، فإن المؤرخين المسلمين اعتبروا الإسلام قضية معيارية، ولذلك ليس هناك حاجة إلى تدوينها.

وفي كتابه "معتنقو الإسلام، المسلمون الأوروبيون"، يقدم ستيفانو أليفي تقسيما نوعيا لاعتناق الإسلام بناء على معلوماته الميدانية التي جمعها في دراسته. فهو يميز بين نوعين من الاعتناق هما الاعتناق العلاقاتي والاعتناق العقلاني. ويعتبر النوع الأول العلاقاتي نتيجة علاقة اجتماعية تهيئ فرصا تجعل الشخص المستعد يفكر بتغيير دينه إذا، هناك علاقات اجتماعية معينة تمنحه خبرات جديدة تقوده فيما بعد إلى اعتناق الإسلام. أما الاعتناق العقلاني فهو مسألة فردية بحتة يكون الشخص فيها باحثا عن نظام جديد قادر على الاستجابة لمتطلباته وحاجاته الدينية (الروحية ــ الصوفية).

في معرض تفسير ظاهرة التحول الديني (محور الفصل الثاني)، يتوقف المؤلف عند خلاصات أبحاث جون لوفلاند ونورمان سكونوفد (وصدرت في العام 1981)، حيث أعطى تفسيرا لدوافع الاعتناق بواسطة تعريف الخبرات التي يمكنها تحديد كل نوع من الاعتناق. وقد قام بتحديد ستة دوافع: فكرية وصوفية وتجريبية وتأثيرية وإحيائية، وقسرية. ففي الاعتناق الفكري، يبحث الشخص عن معرفة القضايا الدينية والروحية من خلال الكتب والتلفزيون والمقالات والمحاضرات وبقية الوسائل الإعلامية التي لا تربطه بعلاقة اجتماعية ذات معنى. فالشخص يستقصي ويبحث عن بدائل. ويحدث الإيمان بالفكرة عنده قبل المشاركة الفعالة في الشعائر والمنظمات الدينية. وأما الاعتناق الصوفي فهو اعتناق فجائي مرضي للبصيرة، يستحث بالصور والأصوات أو أية خبرات فوق الطبيعة. أما الاعتناق التجريبي فينشأ كسبيل رئيس للتحول في القرن العشرين بسبب الحرية الدينية الكبيرة وتعدد المعتقدات المتاحة.

ما دمنا بصدد الحديث عن التحول الديني، يُذكّر الكاتب القارئ بأن الدين يُشكل جزءا هاما في حياة الإنسان. فهناك احتياجات روحية وأسئلة فكرية لا يمكن إشباعها إلا بواسطة العقائد والتعاليم الدينية، مستشهدا هذه المرة بأبحاث لويس رامبو بخصوص دور الدين في عملية الاعتناق: "الدين والروحيات هامة في عملية الاعتناق لسببين. الأول أن الأديان والمعتقدات تزود أتباعها بأنماط وخطوط هداية أو عقائد قابلة لتحول نحوها. ففي كل التعاليم هناك الاعتناق الحسن والاعتناق القبيح أو الاعتناق الصح والاعتناق الخطأ. وهناك شعائر معينة مطلوبة، ودوافع مقيمة، وعقائد متوقعة، ونتائج مكتسبة إذا طبيعة اعتناق الشخص مقيمة، وعقائد متوقعة ونتائج مكتسبة. إذا طبيعة اعتناق الشخص تتشكل وتبنى بواسطة الأساطير والطقوس والرموز لديانة معينة".

عقلانية اعتناق الإسلام

استنادا إلى البحوث الخاصة باعتناق الإسلام، مقارنة مع الخاصة باعتناق المسيحية، يبدو أن تأثير الدوافع النفسية أو وجود شخصيات مضطربة أو خبرات غيبية قليل جدا، حيث إن معظم البحوث التي تعنى باعتناق الإسلام، مع بعض الاستثناءات، لا تعير اهتماما للأسباب الفكرية باعتبارها عوامل هامة في اعتناق الإسلام. إن نقد المعتنقين للمجتمع العلماني الغربي والثقافة الغربية يمثل قضية فكرية عميقة. إن رفض العلمنة والمنظور المادي للمجتمع يوضح عمق الأزمة الفكرية التي يواجهها الفرد الغربي المعاصر، مما يُفسر الحقيقة التي تؤكد أن الذي يعتنقون الإسلام إنما يعتنقونه في سن متأخرة حيث يكون إدراكهم قد تطور ونضج بشكل يكون فيه قادرا على تقييم ومناقشة الأفكار والعقائد والخيارات بوعي كامل.

ويضيف المؤلف أن اعتناق الإسلام يختلف عن اعتناق الديانات الأخرى، فالمستعد للاعتناق يركز أكثر على دراسة الإسلام من خلال الرجوع إلى النصوص والأدبيات الإسلاميات بهدف الوصول إلى فهم واع للإسلام وعبر جهد فكري وعقلاني. يستنتج لاري بوستون (أحد أبرز الباحثين الذين اشتغلوا على موضوع اعتناق الإسلام في الولايات المتحدة) أن حوالي 75 في المائة من حالات اعتناق الإسلام بين الغربيين تعود إلى دراسة تعاليم الإسلام ثم الاقتناع بها، ليخلُص إلى نتيجة مثيرة لعلامات الاستفهام والجدل ربما، مفادها أن اعتناق الإسلام هو اعتناق عقلاني أكثر منه عاطفيا أو انفعاليا أو علاقاتيا.

ومن بين أهم الأسباب المتداولة بخصوص تفسير اعتناق الإسلام في الغرب، حديث المؤلف عن فضاء غربي يتميز (بالنسبة للمعتنقين الغربيين ) بوجود ثقافة تسمح بمكان صغير للدين والروحيات والأخلاق. فالعلمنة والمادية تهيمنان على مختلف أنواع النشاطات في المجتمعات الأوروبية في مجالات السياسة والاقتصاد والتعليم والإعلام وغيرها؛ وبكلمة، يبدو أن تغيب الدين في أوروبا أدى إلى حدوث فراغ روحي. فالكنيسة المسيحية قد فشلت في ملء هذا الفراغ، وعجزت عن الاستجابة للحاجات الروحية للفرد الأوروبي، مقتطفا هنا ما صدر على لسان محمد أسد، من أنه "يسبب فقدان المقاييس الأخلاقية الموثوق بها، لم يستطع أحد أن يقدم إلينا، نحن الشباب، أجوبة مرضية عن كثير من الأسئلة التي كانت تحيرنا"، أو كون "المسيحية تحمل فكرة التثليث التي تجعل وحدانية الله غامضة بلا شك في سياق العقيدة المسيحية، تحتل عقيدة ألهوية المسيح وظيفة ما. ولكن لو أخذتها من منظور أدبي وتاريخي، فإنك تمنح صفة الألوهية إلى رجل من لحم ودم، مدعيا أنه هو الله نفسه. كلا لا يمكن القبول بذلك".

ومن باب تلخيص أهم دوافع اعتناق الغربيين للإسلام، كما جاءت موزعة في الكتاب من ص 107 إلى 128، نجد على الخصوص: البحث عن نظرة جديدة للعالم؛ الاعتناق العقلاني؛ رغبة الارتباط بالغيب؛ فشل المسيحية؛ أسباب فكرية؛ وأخيرا، نتيجة تجارب وخبرات شخصية.

منتصر حمادة