السلام عليكم,
اسمحوا لي أن أدلي بدلوي المتواضع بارك الله فيكم.
الحقيقة أنا لا أرى في كلام الأخ الكريم إسلام أي شيء.
أنتم عندما تتحدثون عن الفلسفة, فإنما تتحدثون عن تلك الفلسفة المطلقة, التي لا قيود لها ولا حدود. هذا النوع من الفلسفة هو بالفعل كالبحر المترامي الأطراف, فالسابح فيه لن يجد أي شاطئ ثابت راسخ ليرسوا فيه, إلا ما يمليه عليه عقله وتفكيره المحض.
وهذا النوع من الفلسفة لا خلاف مطلقا على بطلانه وخطورته, لأن من يسبح فيه سيتوه حتما, بل وربما يغرق أيضا. والواقع أن هذا لا يمت للفلسفة الحقيقية بصلة, بل إنما هو إلى الهرطقة والسفسطة أقرب!
ذلك ببساطة لأن الواقع فيه لن يجد أي مانع في الانقلاب على أبسط قواعد المنطق السليم والمبرهنات العقلية الراسخة, والتي لن يبقى بعدها أي مجال لأي نوع من أنواع العلم سواءا النظري أو التجريبي. بل إن مبدأ التفكير بحد ذاته لن يبقى له أي معنى بدون هذه المبرهنات والمسلمات.
ألا ترون أن هذا السلوك هو أكثر ما يغيظكم في الملحدين المتعالمين الذين يفدون عليكم بشكل يومي تقريبا؟
إنما الفلسفة التي نتحدث عنها هي تلك المقيدة برباط اليقين الذي يمنحنا إياه ديننا العظيم.
ولكي نفهم هذه الفكرة, دعونا نأخذ بالاعتبار أن كلمة فلسفة "Philosophy" تعني "حب الحكمة". وديننا الحنيف يعلمنا أن "رأس الحكمة مخافة الله".
يا إخوان, كلنا نعلم قصة الأعرابي البسيط الذي سئل عن دليل وجود الله فأجاب إجابة عظيمة وقاصمة على بساطتها: "الأثر يدل على المسير, والبعرة تدل على البعير, فكيف بالسموات والأرض, ألا تدل على العلي القدير؟؟!".
ألا تعتقدون معي أن هذا الرجل البسيط قد نطق بعبارة من أجمل العبارات الفلسفية رغم بساطتها؟
هو بالفعل, ومن حيث لا يدري, قدم لنا شرحا مختصرا شافيا كافيا لمبدأ السببية الذي لا يشك من في رأسه مثقال ذرة من عقل على أنه من أهم المسلمات والبديهيات التي تستند إليها شتى العلوم والمعارف التي عرفها الإنسان!
فلن تجد خبزة خبزت نفسها هكذا صدفة! ولا ماءا في قارورة سكبت نفسها في الكأس صدفة من غير شيء! فكيف يجرؤ أحدهم على أن يزعم أن هذا الكون بكل ما فيه قد جاء إلى الوجود صدفة من غير شيء؟!
كلنا أيضا يعلم قصة الأعرابي الآخر الذي سئل "كيف عرفت الله؟" فأجاب إجابة في منتهى الجمال حين قال: "عرفت الله في العزائم!", قيل "وكيف ذاك؟", فقال: "كلما عزمت على أمر, جاء على غير ما أريد, فعرفت أن للأمور مدبرا!"
من هنا, أريد أن أنتقل إلى نقطة أخرى, وهي القانون الذي علمنا إياه ديننا الحنيف: "الحكمة ضالة المؤمن, فأينما وجدها فهو أولى بها." ؟
صحيح أن الحديث قد يكون ضعيفا, لكن هذا المبدأ واضح تماما في قصة أبي هريرة رضي الله عنه مع الشيطان أيضا!
طبعا بالتأكيد, لا ننصح بدخول الفلسفة من لم يكن على بينة ويقين وعلم في دينه وعقيدته, خشية أن ينزلق في هاوية قد تودي به في شرك الإلحاد والشك والعياذ بالله, لكن لست أرى أين وجه اعتراضكم على استفادة المؤمن مما يتوافق مع دينه وعقيدته من علوم الأقوام الآخرين؟
هلا وضحتم وجه تحريم هذا من القرآن والسنة؟
يعني أنا عن نفسية بصراحة أجد في قصة للفيلسوف القديم ديوجينيس مع الاسكندر المقدوني عبرة جميلة جدا, عندما جاءه الاسكندر المقدوني وكان جالسا قرب النهر ووقف أمامه وعرض عليه أن يطلب كل ما يريد ليعطيه إياه, فما كان من ديوجينيس إلا أن قال: "تنحى جانبا. إنك تحجب نور الشمس."!
كان هذا كل ما طلبه ديوجينيس من الاسكندر المقدوني! فقد كان زاهدا في حطام الدنيا الفانية, لا يريد منها شيئا! وبصراحة لست أدري ما المشكلة في أن أستفيد من هذه القصة, طالما أنها لا تتنافى ما عقيدتي وديني الحنيف؟
في النهاية, نحن مسلمون, لدينا العروة الوثقى التي لانفصام لها. ولدينا ما إذا تمسكنا به فلن نضل بإذن الله: كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام!
وقبل الختام, أود أن ألفت نظركم إلى نقطة أخرى إذا سمحتم.
فمن جانب آخر ألا ترون كيف أن الملائكة عليهم السلام سألوا الله تعالى: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويفسد الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟" وكيف أجابهم الله تعالى على تساؤلهم؟ فلم ينهاهم جل وعلا عن السؤال, ولم يعذبهم, بل أجابهم: "إني أعلم ما لا تعلمون"؟
ثم كيف سأل ابراهيم عليهم السلام ربه: "رب أرني كيف تحيي الموتى", فلم ينهاه الله تعالى عن السؤال, بل أجابه بكل بساطة: "فخذ أربعة من الطير فصرهن إلى واجعل على كل جبل من هن جزءا, ثم ادعهن يأتينك سعيا"؟
و هناك قصص عديدة في الكتاب الله على نفس المنوال! فلم تحرمون ما أحله الله تعالى؟
ألم يأمرنا ديننا الحنيف على أن نعبد الله على بصيرة؟ وينهانا عما كان يفعله الأقوام السابقون بقولهم: "هذا ما وجدنا عليه آباءنا"؟
وفي نهاية المطاف, لدينا قول الله تعالى: "فأما الزبد فيذهب جفاءا وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض"!
والله تعالى أعلى وأعلم.
وأعتذر عن الإطالة.
يقول الملحد الضال المضل من أصل يهودي الهالك كارل ساجان أنه "من الأفضل تقبل الكون على حقيقته بدل الإيمان بالخرافات والخيالات."
والحقيقة أنه لا توجد في الكون خرافة أكبر وأعظم إضحاكا وسخفا من التصديق بإمكانية ظهور مثقال حبة خردل فما فوقها أو تحتها صدفة من غير شيء!
فسبحان ربِّك رب العزة عما يصفون, وسلامٌ على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
Bookmarks