الحمد لله وحده.
أما بعد، فقد اقترح علي أحد الأفاضل أن أفرد مقالا مستقلا لهذه المداخلة التي كنت قد كتبتها قبل مدة في بيان ضلال "هارون يحيى" وفساد عقيدته، فهذه هي، أسأل الله أن ينفع بها المسلمين. وقد تصرفت في مقدمة المداخلة بما يناسب نشرها كمقال مستقل، والله الموفق لما يحب ويرضى.
----------------
هارون يحيى: بين وحدة الوجود والاتحاد والحلول!

الحمد لله وحده.
أما بعد، فإنه مما يؤسف له حقا أن تنتشر مؤلفات "هارون يحيى" بين العامة من المسلمين المبتلين بالتعرض للشبهات الإلحادية هذا الانتشار. فإذا كان ينبغي لطالب العلم الذي يأمن على نفسه الفتنة من مؤلفات هارون يحيى ألا يتعامل معها إلا بحذر بالغ (لما سيأتي معك من بيان لما فيها)، فكيف بالعامي الذي لا يميز، بل وصل به ضعفه واهتزاز نفسه إلى حال لا يعلم هشاشتها إلا الله؟ أقول إن العوام لا يجوز لهم الاطلاع على تلك الكتب أصلا، ولا يجوز نشرها بينهم أو دلالتهم عليها لأنهم لا تؤمن فتنتهم بها، ولا يجوز أن نحيل الملاحدة الغربيين عليها أيضا للعلة نفسها! فلسنا نروم نقل الناس من كفر إلى كفر، ولا نريد انتشال الملحد من الإلحاد حتى ينتهي به الحال إلى وحدة الوجود أو الاتحاد!! وقد رأيت بعض الأفاضل ههنا يتكلمون في انحراف الرجل ورأيت منهم من ينفيه عنه ويبرئه منه - على فداحته وشناعته - دونما اطلاع، وقد تقرر أنه لا يجوز كتم البيان عن وقت الحاجة والله المستعان
فالواقع أن هارون يحيى شديد التعظيم لمحيي الدين ابن عربي شديد التأثر به، وهو متقلب متردد بين زندقتين كل منهما أردى من أختها: القول بما حقيقته وحدة الوجود أحيانا وبما حقيقته الاتحاد والحلول في أحيان أخرى، وإن كان يتبرأ من ذلك ويزعم أن قوله في حقيقة المادة ليس حقيقته وحدة الوجود. فهو يؤمن بأن المادة ليست إلا وهما في أذهاننا (بما في ذلك مادة أجسامنا) وأن ما يوجد في الخارج مما نسميه نحن المادة، هذا شيء آخر (إن استطعنا إثبات هذا الشيء الآخر فيما سوى الله، وعنده أننا لا يمكننا ذلك، مع أنه يصرح بإثبات العالم الخارجي المخلوق في مواضع كما سيأتي)! فهو يصرح أحيانا بقول ابن عربي في أنه لا موجود بحق إلا الله، ويفرق بين ما يسميه بالوجود المطلق (الذي ينسبه إلى الله وحده) وما يسميه بالوهم (الذي ينسبه إلى كل ما سوى الله)، وينتصر لذلك القول بمكتشفات علم الإدراك! فمذهبه في الحقيقة إنما هو "إعادة تدوير" لعقيدة ابن عربي، ولكن بلغة علم الإدراك وعلم الأعصاب الحديث الذي أثبت أن تجربتنا الإدراكية لا يلزم أن تكون مطابقة تمام المطابقة في جميع تفاصيلها لما في الخارج (وسيأتي جواب شبهته في هذا الباب لاحقا).
وأنا لا أجد وجها لبثه هذه العقيدة في كتبه المخصصة بالأصالة للرد على الملاحدة والداروينيين، إلا أن يكون غلوه البالغ في عقيدة الهالك ابن عربي يحمله على موافقته في فلسفته المتهافتة، مع اغتنام الفرصة لنصرة تلك العقيدة ببعض مكتشفات العلم الحديث وجعلها مدخلا إلى الإيمان بالله، كما سيأتي!
ففي كتاب له بعنوان Matter: the other name for Illusion أو "المادة: اسم آخر للوهم" (وحسبك بعنوان الكتاب!!) (1)، بدأ هارون يحيى ببيان أن الواقع كله ليس إلا صورا ترسمها أذهاننا، فيقول (ص 55):
Nobody has been able to move out of the perceptions that exist in the brain. Everybody lives in the cell that is in the brain, and no one can experience anything except that which is shown by his perceptions. Consequently, one can never know what happens outside of his perceptions. Thus to say "I know the original of matter" would in fact be an unjustified presupposition, because there is nothing that could be held up as evidence. The observer deals with the images formed in his or her brain. For instance, a person who wanders in a garden full of colorful flowers can in fact never see the actual of the garden, but its copy in his brain
.
"لا أحد أمكنه من قبل أن يتحرك خارج الإدراكات الموجودة في مخه. كلنا نعيش في تلك الخلية التي هي المخ، ولا أحد يمكنه اختبار شيء خلا ما يراه من خلال إدراكه. وعليه، فلا أحد يمكنه أن يعرف ما يجري خارج إدراكه (قلت: يقصد في الحقيقة أو الواقع). وعليه فإن قول القائل: "أنا أعرف أصل المادة" يكون في الحقيقة افتراضا غير مستساغ، لأنه لا يوجد ما يمكن حمله كدليل على ذلك. فإن المشاهد يتعامل مع صور نشأت في مخه. فعلى سبيل المثال، إن شخصا يتجول في حديقة مملوءة بالزهور الملونة، لا يمكنه أبدا أن يرى حقيقة تلك الحديقة، وإنما يرى نسخة منها مطبوعة في ذهنه." انتهى. (2)
وأقول إن قوله بأننا مقيدون بما ندرك فلا نخرج عليه في تجربتنا البشرية صحيح ولا شك، ولكن هذه المفارقة بين حقيقة ما يدخل إلى الإدراك – بهذا الإطلاق – وحقيقة الوجود الخارجي، هي عين المغالطة العقلية وهي سفسطة محضة، وليست المغالطة كما يدعي في قول كل عاقل باستواء الواقع في الخارج بما يدركه من ذلك (ما لم يجد دليلا على فساد إدراكه)! فأنا عندما أشاهد الأزهار في الحديقة، فإنه لا يسوغ لي أبدا بحال من الأحوال أن أزعم أن تلك الأزهار لا وجود لها في الواقع، أو أنها في الحقيقة موجودة على حل غير هذا الذي أراه، ومن زعم ذلك فهو المطالب ببذل الدليل، وليس العكس!! هذه أبجديات عقلية لو خولف فيها لانهدم العلم الطبيعي بل لانهدم العقل كله رأسا، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
وبعد سوق كثير من أمثال هذه السفسطات، وللوصول لنتيجته ومقصوده، يعقد صاحبنا فصلا بعنوان "حقيقة المادة تبين أن الله هو الكائن المطلق الوحيد" يقول فيه (ص. 97-98):
Some people, under the influence of materialist philosophy, think that matter is absolute being. Some of these people believe that God exists, but when they talk about the existence of God, and where He is, they display their ignorance. For example, if they are asked "Where is God?", they will ignorantly answer, "Show me your intelligence; you cannot. So, God is a reality like intelligence, but you cannot see it." Others assume in their own minds (God is surely beyond that) that God has an illusory existence like that of radio waves. According to their false view, they themselves and the things they possess are absolute existence and God's existence encompasses this material existence like radio waves. However, what is illusory is they themselves and the things they possess. The One Absolute Being is God. God's existence embraces everything. Human beings are in no way absolute beings but a transient image
.
"بعض الناس بسبب اعتقادهم المادي، يرون أن المادة كائن (قلت: أو وجود) مطلق. فبعض الناس يؤمنون بأن الله موجود، ولكن عندما يتكلمون عن وجوده وعن مكانه، يظهر جهلهم. فعلى سبيل المثال عندما يُسألون: أين الله؟، فسيقولون في جهلهم: "أرني ذكاءك، لن تستطيع! إذن الله واقع (قلت: حقيقة واقعية) كالذكاء ولكنك لا تستطيع أن تراه". ويعتقد آخرون في عقولهم (والله فوق ذلك قطعا) أن لله وجودا متوهما illusory كوجود موجات الراديو. فبحسب رؤيتهم، هم أنفسهم والأشياء التي يملكونها وجودها مطلق، ووجود الله داخل في جنس هذا الوجود المادي كموجات الراديو. ولكن في الحقيقة فإن الوجود المتوهم إنما هو وجود أنفسهم والأشياء التي يملكونها! فإن الموجود المطلق الوحيد هو الله! ووجود الله يشمل كل شيء! أما البشر فليس وجودهم مطلقا بحال من الأحوال وإنما هم صور زائلة." انتهى.
ثم يستدل على هذا الكلام بآية الكرسي، يستخرج منها أن قوله تعالى "لا إله إلا هو الحي القيوم" مفهومه أنه لا شيء حي في الحقيقة إلا الله، ولا وجود مطلق (قلت: أي حقيقي في الواقع) سواه!
ويعقب بقوله (ص 98):
Someone who knows that, apart from God, everything is a shadow existence, will say with certain faith (at the level of Haqq-al yakin – truth of certainty) that only God exists and there is no other deity (or any being with strength) besides Him
.
"إن من يعرف هذه الحقيقة، أنه فيما عدا الله فكل شيء وجوده كالظل (قلت: أو الأشباح كما يصطلح عليه أرباب وحدة الوجود)، سيقول بإيمان يقيني (على مستوى حق اليقين) أنه لا يوجد إلا الله وأنه لا وجود لآلهة أخرى (أو لكائنات ذات قوة) من دونه!"

قلت: فأي شيء هذا إلا عين وحدة الوجود؟
ثم يقول (ص 98):
Someone who learns this truth understands that his own existence has the quality of an illusion, and grasps that a being which is an illusion will not be able to see a being which is absolute
.
"إن من يدري هذه الحقيقة، يفهم أن وجود نفسه موصوف بأنه وهم، فيقبل دعوى أن وجودا موصوفا بالوهم لن يكون قادرا على رؤية وجود موصوف بأنه مطلق"

ثم يستدل على نفيه رؤية الله تعالى مطلقا (لأنه مطلق الوجود ونحن وجودنا وهم في وهم، والوهم لا يمكن أن يرى الحق بعينيه!!) بآية الأنعام:
((لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)) [الأنعام : 103]

ثم يعقب بقوله (في ذيل الصفحة):
Certainly, we human beings cannot see the Being of God with our eyes but we know that He completely encompasses our inside, our outside, our views and our thoughts
.
"قطعا، نحن البشر لا يمكننا أن نرى الله بأعيننا، ولكننا نعلم أنه يحتوي دواخلنا وخوارجنا، أبصارنا وأفكارنا، تمام الاحتواء"!

قلت: لاحظ أنه يقصد بالاحتواء ههنا الاحتواء الحقيقي، يعني بذاته جل وعلا، لأنها هي الوجود الحق وسائر ما سواها صور وأوهام في الأذهان. فإن لم يكن هذا تصريحا بعقيدة وحدة الوجود، فهو تصريح بالاتحاد والحلول، وكلاهما زندقة، نسأل الله السلامة!

ويستدل الرجل لذلك الاعتقاد الموبق بقول الله تعالى في سورة آل عمران:
((إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء)) [آل عمران : 5]

ثم يقول في صفحة (99):
Certainly God, Who is Absolute Being, knows every aspect of the human beings He has created. This is a very simple thing for God. But some in their ignorance may find this hard to understand. However, when we observe the impressions we think are the "external world", that is, as we lead our lives, the closest being to us is not an impression, it is clearly God. The secret of the verse "We created man and We know what his own self whispers to him. We are nearer to him than his jugular vein" (Surah Qaf: 16) is hidden in this fact. But when a person thinks that his body is composed of "matter, the absolute entity,” he cannot conceive of this important reality; this is again because he thinks that the nearest thing to him is his body
.

"لا شك أن الله، الذي هو الوجود المطلق، يعرف كل جانب من جوانب الإنسان الذي خلقه. هذا أمر هين للغاية على الله. ولكن بعض الناس في جهلهم يجد صعوبة في فهم هذه الحقيقة. ولكن عندما ننظر إلى تلك الانطباعات من حولنا التي نعتقد أنها "العالم الخارجي"، أي ونحن نمارس حياتنا، فإن الكائن الأقرب إلينا تحقيقا ليس انطباعا (قلت: بمعنى الوهم المتوهم في الذهن، الذي هو العالم الخارجي!!)، وإنما هو الله. وسر قوله تعالى: ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) [قـ : 16] يكمن في هذه الحقيقة. ولكن عندما يظن الإنسان أن جسمه مكون من "مادة، وجودها مطلق"، فإنه لا يمكنه أن يدرك تلك الحقيقة المهمة: لأنه يحسب أن أقرب شيء إليه هو جسده!" انتهى.

قلت: هنا يصرح بأنه يرى أن جسم الإنسان وهم لا وجود له في الحقيقة، لا أن إدراكنا له وللمادة عموما يختلف أو يمكن أن يختلف عن حقيقة وجوده في الخارج كما يفهم من كلامه في مواضع أخرى، ويصرح كذلك بأن قرب الله تعالى المذكور في آية (ق) إنما هو قرب حقيقي (لا بالعلم والإحاطة كما أجمع المسلمون على تفسيره)، لأن الجسد وهم (وجود غير مطلق) والله حقيقة (وجود مطلق). فليس الوجود المطلق absolute existence في عقيدته كما ترى إلا الوجود الحقيقي في الواقع، الذي ينفيه عن العالم الخارجي كله بما في ذلك جسم الإنسان! فإذا لم يكن للعالم ولا للإنسان وجود حقيقي، فلا موجود بحق إلا الله، وهو عين اعتقاد ابن عربي، ولكن بلغة جديدة.

ثم يواصل تأسيس فلسفته المتضاربة فيقول (ص 99):
For example, if this person conceives of his existence as being his brain, he does not admit the possibility that there is a being closer to him than his jugular vein. However, when he conceives of the fact that matter is not absolute, and that everything is a
facsimile that he experiences in his mind, then concepts such as outside, inside,
far and near have no meaning. His jugular vein, his brain, hands, feet, his
house and his car that he thought were outside himself, even the sun, the moon
and the stars that he thought were so far away, are all on the same plane. God
has encompassed him all around and is eternally near to him.
"على سبيل المثال، إذا كان هذا الإنسان يدرك أو يعقل أن وجوده هو وجود مخه، فإنه لا يعترف بإمكان أن يكون هناك كائن أقرب إليه من حبل الوريد. ولكن عندما يدرك حقيقة أن المادة "ليست مطلقة"، وأن كل شيء إنما هو صورة مطبوعة في ذهنه، فحينئذ تصبح مفاهيم كالداخل والخارج والقريب والبعيد لا معنى لها. فإن حبل وريده، ومخه ويداه وقدماه وبيته وسيارته التي كان يظن أنها خارجه عن نفسه، حتى الشمس والقمر والنجوم التي ظن أنها بعيدة عنه للغاية، كلها في الحقيقة على نفس المستوى (يعني مستوى الوهم أو الصورة في ذهنه!). فالله قد احتواه من كل جهة وهو قريب منه إلى الأبد." اهـ.

قلت هذا تخريف محض، أرجو ألا يحتاج إلى تحرير رد لإبطاله! أي شيء هذا أن وجود الإنسان هو وجود مخه، ومن يقول به؟ وكيف تكون الأشياء في الخارج إنما هي صور مطبوعة في ذهنه؟ وكيف يبطل وينهار معنى الداخل والخارج والقريب والبعيد؟ كل هذا حتى يصل إلى أنه ليس موجود في الخارج حقيقة إلا الله، وأما ما سوى ذلك فصور وأحوال وهمية! وهذا التخريف في نفي حقيقة معنى الداخل والخارج ومعاني الجهات وقلبها إلى أوهام، لازمه أن يكون النبي عليه السلام قد كذب على ربه وعلمنا وهما وخداعا حين شهد للجارية بأن قولها في جواب سؤاله "أين الله": "في السماء" هو الحق والإيمان! بل لازمه كذلك أن يكون كل نص جاء في القرءان بإثبات علو الله تعالى وأنه مستو على عرشه = باطل لا يصح، لأنه يصف وهما في أذهاننا، بينما الحقيقة في الواقع أن الله لا فوق ولا تحت ولا داخل العالم ولا خارجه وإنما هو فينا ومن حولنا، نسأل الله السلامة. فإن واجهت الرجل بهذه اللوازم، تبرأ وقال كلا أنا أثبت الواقع في الخارج ولا أنفيه، كما سيأتي، فالله المستعان على تلاعب تلك الطائفة ومراوغتها!

ويسوق الرجل في مقام الاستدلال لما تقدم من سفسطة، قوله تعالى: ((وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)) [البقرة : 186] وقوله تعالى: ((وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ)) [الإسراء : 60] وقوله تعالى: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ)) [الواقعة : 85]
ثم يشرع في نقل كلام ابن عربي في صفحة (103 – 104)، لبيان أنه لا حقيقة لأفعال الإنسان ولا لإرادته ولا لسببية أفعاله، وإنما كل ذلك وهم لا حقيقة له والله وحده هو الحق، فلا وجود إلا وجوده، ولا صفات إلا صفاته، ولا أفعال إلا أفعاله.

ثم تراه ينتصر لتلك العقيدة الخربة بما قدم نقله من كلام علماء الأعصاب وعلماء الإدراك، ففي صفحة (106) يقول:
If you ask any scientist or professor of neurology where they see the world, they will answer you that they see it in their brains. You will find this fact even in high school biology text books. But despite the fact that it is clearly evident, information pertaining to
the fact that we perceive the material world in our brains and the results that this information entails for human beings can be overlooked. It is of major significance that one of the most important scientifically proven facts is so carefully hidden from people's eyes.
"لو سألت أي عالم أو بروفيسور في علم الأعصاب أين يبصرون العالم، فسيكون جوابهم أنهم يبصرونه في المخ. وستجد هذه الحقيقة مذكورة حتى في كتب الأحياء في المدارس الثانوية. ولكن على الرغم من الحقيقة الواضحة الجلية، فإن المعلومات المتعلقة بحقيقة أننا ندرك العالم المادي في رؤوسنا وما تستلزمه تلك المعلومات من تأثير على حياة الإنسان كثيرا ما تتجاهل. فإنه من الملفت حقا أن تكون واحدة من أهم الحقائق العلمية الثابتة مخفية بهذه الدقة عن أعين الناس." اهـ.

وتفنيدا لشبهة الرجل التي أسس عليها كتابه هذا في الانتصار بتلك الحقائق العلمية لما يعتقده هو وشيخه الهالك ابن عربي من خرافة، نقول إنه ما من عاقل من هؤلاء العلماء والباحثين الذين يذكر كلامهم ويسوق أبحاثهم، ينفي عن العالم وجوده في الواقع، ويجعله وهما في وهم، ولو قال أحدهم بذلك لجعلوه أضحوكة بين أقرانه! ليس لأنهم ماديون كما يقول صاحبنا، ولكن لأنهم عقلاء (أو باقون على هذا الأصل العقلي على الأقل)، يعلمون أن إدراكنا للعالم الخارجي يثبت وجوده تحقيقا ولا ينفيه، ويدل عليه دلالة قطعية، وأن مجرد التعرض لهذه الحقيقة القطعية بالتشكيك يفضي إلى السفسطة ويهدم العقل هدما!!
فالعلم الحديث يفرق بين قضيتين كليتين: الوجود المادي بقوانينه (العالم كما هو في الخارج)، وعمليات الإدراك في أذهان الناس التي بها ينشأ تصورهم وإدراكهم لذلك العالم الخارجي وحكمهم الفردي على ما فيه. وقد كثر كلام فلاسفة الأعصاب والإدراك المعاصرين ونزاعهم في تحرير الطرق العلمية الصحيحة التي يمكن بها تتبع عمليات الإدراك في أذهان الناس بصورة موضوعية، بالنظر إلى كون عملية الإدراك هذه عملية توصف في الأعم الأغلب بأنها عملية فردية subjective تتأثر في عقول الناس بمؤثرات شتى، ولكن لم يجرؤ أحدهم أبدا على ادعاء أنه لا وجود للمادة في الخارج أصلا! كيف وبأي عقل يكون التفاوت بين إدراكنا لبعض مكونات الواقع، وحقيقة ذلك الواقع في نفسه، مؤداه نفي وجود الواقع نفسه في الخارج جملة واحدة، أو جعله صورة محصورة في قوالب رؤوسنا لا علاقة لها بما يحدثها في أذهاننا في الخارج؟
لو لم يوجد في الخارج واقع ندركه، أو جاز لنا أن ننسب ذلك العالم الخارجي المحسوس كما ندركه إلى الوهم المحض، لجاز لنا نسبة الوهم كذلك إلى كل ما نعقل وندعي (من طرق النظر الأنطولوجي) وجوده في الخارج، بما في ذلك وجود الخالق نفسه!

هذه العقيدة المضحكة، هي في الحقيقة خليط متذبذب بين مذهب فلسفي يعرف باسم solipsism وعقيدة وحدة الوجود pantheism وعقيدة الاتحاد والحلول panentheism. وهذا الأول هو اعتقاد الإنسان أنه لا يمكن الوصول إلى إثبات وجود الواقع الخارج عن الذهن، وأن الواقع الخارجي كله يجوز ألا يكون إلا وهما يتوهمه الإنسان في ذهنه. والفرق الجوهري بين عقيدة هارون يحيى وذلك المذهب أنه مع نفيه لوجود شيء حقيقي خارج الذهن (أو نسبته الوهم إلى كل ما سوى الله)، فإنه يثبت وجود الله ويجعله حقيقة مطلقة لا يمكن الجزم بوجود ما سواها. وثمة فرق آخر أن الوحدويين solipsists يرى كل واحد منهم أنه لا عقل إلا عقله في الحقيقة، والبشر كلهم من حوله وهم في وهم. أما هارون يحيى فلا ينكر وجود عقول البشر من حوله، وهو ما يوقعه في التناقض في الحقيقة. فإذا كان لا يرى وجودا حقيقيا إلا لله، فما هو العقل وما تلك العقول التي يثبتها من حوله؟ هل يثبت حقيقتها أم ينفيها؟ وهل هي أوهام لا توجد عند كل فرد من أفرادها إلا في داخله وفيما يتصور؟ كيف إذن يثبت لنفسه وجود ذاته بانفصال عن ذات الله كما يثبت ذلك لغيره من ذوات البشر، إذا كان يرى أن لا وجود لشيء في الحقيقة إلا الله؟
ثم إن تلك العقول الموجودة في الحقيقة لا تنتظم علاقتها فيما يتفقون على إدراكه من تواصل بينهم في الواقع، إلا من خلال ما يدركون حقيقته من العالم الخارجي من وسائط مادية يشتركون في إدراكها والتعامل معها، فكيف يثبت صاحبنا تعدد تلك العقول وتفاعلها في الواقع ومعه على نحو ما نرى، ثم ينفي العالم الخارجي كله ويكتفي بجعله وهما نتصوره جميعا؟
لذا باتت تتفق القاعدة العريضة من علماء النفس اليوم على أن مذهب الوحدوية هذا solipsism ليس في حقيقته إلا مرضا نفسيا psychopathology!!

وفي الواقع فعندما قوبل هارون يحيى بتهمة وحدة الوجود، تناقض، وشدد في نفي نسبة عقيدته تلك إلى وحدة الوجود، فقرر أنه يثبت أن الله خلق كل شيء، ويؤمن بأن العالم الخارجي موجود في الواقع تحقيقا ولكننا لا نراه كما هو على حقيقته. مع أنه يثبت أن البشر كلهم يتفقون على رؤيته على وجه واحد (من حيث الأصل)، وأن الملائكة كذلك تراه كما نراه! فإذا كان ذلك كذلك فأي طريق يملكه عاقل إلى إثبات أن هذا الإجماع الإدراكي قد وقع على شيء حقيقته تخالف ما ندرك جميعا؟؟ إن مجرد ثبوت التباين النسبي بين إدراكات البشر لبعض الموجودات في العالم (3)، لا يوصل منه إلى نقض المطلقات المجمع عليها في إدراك العقلاء لما هو مشاهد في العالم الخارجي! وعليه فلا مستند له من الحس ولا من العقل ولا من النقل لنصرة ما يقول به من مخالفة ما تصوره لنا عقولنا لما عليه الواقع، وإنما هو التعلق بعقيدة ابن عربي لا غير، وفتح الباب لإمكان أن يؤول ذلك الواقع الخارجي الذي يأتي إلى عقولنا وإدراكنا فنراه كما نراه، على أنه ليس إلا صفات الخالق نفسه في الحقيقة، والله المستعان!

يقول هارون يحيى ردا على ناقديه في مقال له بعنوان "السر وراء المادة، ليس هو وحدة الوجود"
http://www.harunyahya.com/articles/50wahdatulwujood.php
:
Having misunderstood the essence of the subject, these people claim that what is explained as the secret beyond matter is identical to the teaching of Wahdatul Wujood. Let us state, before all else, that the author of this book is a believer strictly abiding by the doctrine of Ahlus Sunnah and does not defend the view of Wahdatul Wujood. However, it should also be remembered that Wahdatul Wujood was defended by some leading Islamic scholars including Muhyiddin Ibn ‘Arabi. It is true that numerous significant Islamic scholars who described the concept of Wahdatul Wujood in the past did so by considering some subjects found in these books. Still, what is explained in these books is not the same as Wahdatul Wujood.
"بسبب سوء فهمهم (يعني من نقدوه) لجوهر المسألة، زعم هؤلاء أن ما شرحناه على أنه السر وراء المادة، يطابق عقيدة وحدة الوجود. فلنقرر أولا وقبل كل شيء، أن كاتب هذا الكتاب يؤمن إيمانا راسخا بعقيدة أهل السنة، وأنه لا ينتصر للقول بوحدة الوجود. ومع ذلك، يجب أيضا أن نتذكر أن وحدة الوجود قد انتصر لها بعض علماء الإسلام الكبار، ومنهم محيى الدين بن عربي. صحيح أن عددا كبيرا من علماء الإسلام الذين وصفوا مفهوم وحدة الوجود في الماضي اعتمدوا في ذلك على بعض الموضوعات الموجودة في تلك الكتب (يعني كتب ابن عربي)، إلا أن ما شرح في تلك الكتب ليس هو وحدة الوجود." اهـ.

ونقول ما أسهل أن يدعي كل أحد أنه على عقيدة أهل السنة، وقد قامت بضد دعواه الحجج البينات!
أود أن ألفت نظر القارئ ابتداء إلى هذا التناقض في كلامه، إذ يزعم أولا أن القول بوحدة الوجود قول معتبر قد انتصر له علماء كبار منهم ابن عربي (فيسوِّغ الخلاف فيه، وحسبك بهذا ضلالا)، ثم يرجع ويقول إن ما في كتب ابن عربي (مما نسبه العلماء إلى وحدة الوجود بسببه) ليس حقيقته وحدة الوجود!!
بل يتبع ذلك في الفقرة التالية مباشرة بقوله:
Some of those who defended the view of Wahdatul Wujood were engrossed by some erroneous opinions and made some claims contrary to the Qur’an and the doctrine of Ahlus Sunnah
"إن بعض أولئك المدافعين عن وحدة الوجود، قد وقعوا في آراء خاطئة وزعموا دعواى مخالفة للقرءان وعقيدة أهل السنة" اهـ.
قلت وإذن فالبعض الآخر لم يخالف ما في القرءان ولم يخالف عقيدة أهل السنة!

فما هي تلك المخالفات عنده؟
يقول ممثلا لتلك المخالفات (نفس المصدر السابق):
They, for example, completely rejected the creation of Allah. When the subject of the secret beyond matter is told, however, there is definitely no such claim. This section explains that all beings are created by Allah, and that the originals of these beings are seen by Him whereas people merely see the images of these beings formed in their brains.
"فقد ذهبوا، على سبيل المثال، إلى نفي خلق الله تعالى مطلقا. ولكن نحن حين نعرض مسألة السر وراء المادة، فإننا لا نزعم زعما كهذا بحال من الأحوال. وإنما هذا القسم يشرح كيف أن كل الموجودات قد خلقها الله، وأن أصل تلك الموجودات يراه الله أما نحن فلا نرى إلا صورها التي تتكون في أذهاننا." اهـ.

قلت: فليتنبه القارئ إلى إن الرجل مع تسويغه الخلاف حول "وحدة الوجود" كما تقدم، لم يكد يجد من مثال يضربه على مخالفات "بعض القائلين بها" للقرءان سوى قوله إنهم ينفون الخلق مطلقا!

ولقد ذهب هارون يحيى في الحقيقة إلى التمثيل لعقيدته بفكرة فيلم "الشبكة" Matrix، وألف كتابا كاملا بعنوان:
Idealism: The philosophy of the Matrix and the true nature of matter.
حيث يستند في بيان فكرته على فكرة فيلم "ماتريكس" الذي تدور قصته حول عالم افتراضي رقمي وهمي صنعته بعض الماكينات في المستقبل وأدخلته إلى عقول البشر ليصبح هو الواقع في ظن الناس جميعا، وليتخذوهم عبيدا لهم من حيث لا يشعرون! فيقول صاحبنا إذا كان هذا ممكنا ومتصورا في العقل، فما المانع من أن يكون العالم الخارجي كذلك حقا، عالما افتراضيا وهميا قد ركب في وعينا وإدراكنا، بينما الواقع ليس فيه وجود مطلق إلا الله وحده؟

وأقول ما أخيبها من عقيدة تلك التي لا يجد صاحبها سندا لها إلا في فيلم من أفلام هوليوود، والله المستعان!

يقول صاحبنا في كتابه المذكور (ص 12):
S]aying that matter is an illusion does not mean it does not exist. Quite the contrary: whether we perceive the physical world or not, it does exist. But we see it as a copy in
our brain or, in other words, as an interpretation of our senses. For us, therefore, the physical world of matter is an illusion. The matter outside is seen not just by us, but by other beings too. The Angels Allah delegated to be watchers witness this world as well: And the two recording angels are recording, sitting on the right and on the left. He does not utter a single word, without a watcher by him, pen in hand! (Surah Qaf: 17-18)
Most importantly, Allah sees everything. He created this world with all its details and sees it in all its states.
… [
"إن القول بأن المادة ليست إلا وهما، لا يعني أنها لا وجود لها. بل على العكس تماما: فسواء أدركنا العالم المادي أم لم ندركه فهو موجود. ولكن ما نراه إنما هو نسخة تنطبع عندنا في المخ، أو بعبارة أخرى، ترجمة له تأتينا عبر حواسنا. لذا فإن العالم الخارجي بالنسبة لنا ليس إلا وهما. والمادة في الخارج لسنا وحدنا من يبصرها، وإنما تراها الكائنات الأخرى كذلك. فالملائكة التي خصصها الرب لتكون رقيبة شهيدة على هذا العالم تراه كذلك، والملكان الموكلان بكتابة الأعمال يجلسان على يمين الإنسان وشماله. ((مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)) [قـ : 18 ]، وأهم من ذلك أن الله يرى كل شيء، فهو الذي خلق العالم بكل تفاصيله وهو يراه في كل أحواله."

قلت إذن فهو يثبت أن العالم الذي تراه الملائكة وسائر المخلوقات، تشترك جميعها في رؤيته على صورة واحدة، ولكنه يقول إن تلك الصورة ليست إلا وهما يشتركون فيه جميعا، والواقع بخلافه! وهذا الأمر ممكن ومتصور في العقل بدليل قصة فيلم ماتريكس!!
فإلى الله المشتكى!

وتأمل التناقض الفج! كيف تكون المادة موجودة والعالم موجودا في الخارج وجودا حقيقيا، ومع ذلك فبالنظر إلى كوننا لا نراها إلا من خلال الحواس والمخ، فلا نعتبرها إلا وهما؟ إذا كان العالم وهما، فما الحقيقة إذن وكيف نعرفها؟ وهل يدري صاحبنا معنى "الوهم" في اللغة؟ نعم يدريه تمام الدراية، وهو في هذا الكتاب يريد إثبات أن الواقع الذي نراه لا حقيقة له وأنه ليس ثمّ موجود بحق إلا الله! فإذا ما نوقش في ذلك آل كلامه بكل سهولة من وحدة الوجود إلى صورة من صور الاتحاد والحلول (كما ظهر في بعض النقولات أعلاه)! المهم أن يكون شيخه ابن عربي محقا في عقيدته، وألا يكون العالم إلا وهما، أو إن كان له حقيقة، فذات الله هي تلك الحقيقة مشهودة في كل شيء فيها، فلا حقيقة للأشياء إلا حقيقته سبحانه، كما هو قول فلاسفة التصوف!

فالحاصل أن عقيدة هارون يحيى في أصل المادة إنما هي تقلب بين مذاهب وحدة الوجود والاتحاد والحلول وغيرها من المذاهب الفلسفية المشابهة، تماما كما تقلب من قبل شيخه وأستاذه ابن عربي! وإذا كان الناس قد تلمسوا لابن عربي المخارج بدعوى أن كلامه كان يقصد به تجربة المتصوف وما يغمر شعوره من فناء العالم من حوله في حال تأمله في حضرة ربه وإغراقه في ذلك، وليس أن الله هو عين المخلوق أو أنه حال فيه تحقيقا، فلا إخالهم يجدون هذا المخرج نفسه لتلميذه هذا، الذي راح يستعمل الحقائق العلمية في علم الأعصاب والإدراك وغيره، ليثبت أن الواقع ليس كما نراه، وأنه ليس من موجود حق (مطلق) فيما وراء هذا الوهم إلا الله!

على أي حال فالذي أرجوه أن يكون قد تحقق المقصود بهذا القدر من النقل والتعقيب في هذا المبحث الموجز، وأن يكون طلبة العلم على ذكر من هذا وعلي بينة من مؤلفات هذا الرجل، وألا يضربوا بعضها ببعض، وألا يحيلوا العوام عليها بل يحذروهم منها ولا يدلوهم عليها، فالشأن ههنا يا إخوان في بدعة كفرية كبرى لا يستهان بها، والرجل كلامه مشحون بها، وقد خصص لها فوق ذلك كتابين كاملين كما رأينا، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

فلينتبه الإخوة لهذا، والله الهادي لا رب سواه، والحمد لله رب العالمين.


----------------------
(1) الكتاب غرضه بإيجاز الوصول إلى إثبات أن المادة وهم في الأذهان، وأن الوجود الحق إنما هو الله وحده!
(2) كل نص بين معقوفتين في سياق النقل ما لم أقدم الكلام داخله بقولي (قلت) فهو من كلام المنقول عنه.
(3) ومفهوم الإدراك مفهوم فلسفي واسع يحتاج تحريره إلى تفريق بين الإدراك الحسي perception والإدراك الاستعرافي cognition، من بعد التفريق بين هذا الأول والحس المباشر sensation، كما يحتاج إلى إثبات حقيقة أن ما ينخدع فيه الإدراك الحسي عند آحاد الناس، يعرفه غيرهم بأنه خداع ووهم illusion، وإلا ما جاز لنا في عقولنا ولغتنا أن نعرف شيئا اسمه "وهم" أصلا!