قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في كتاب "إزالة الستار عن الجواب المختار لهداية المحتار" تعليقاً على هذه المسألة وغيرها:
الحمد لله ، وبعد : فقد اطّلعت على تعليق كتبه - مختصر تفسير المنار - الشيخ القاضي محمد أحمد كنعان ص 378 ، 379 ج 2 تضمن مسائل ثلاثا يجب التنبيه عليها .
الأولى : قوله : ( فالإمام مالك وغيره من السلف نفوا الكيف أصلا معلوما ومجهولا لأنهما في النتيجة سواء ، من حيث نسبة الكيف إلى الله تعالى والكيف عليه تعالى محال) .
وهذا القول غير صحيح فإنّ السلف لا ينفون الكيف مطلقا لأنّ نفي الكيف مطلقا نفي للوجود إذ ما من موجود إلاّ وله كيفية ، لكنها قد تكون معلومة وقد تكون مجهولة ، وكيفية ذات الله تعالى وصفاته مجهولة لنا ، ولا يحلّ لنا أن نكيّف شيئا من ذلك لأنّنا إن قيدنا هذه الكيفية بما نشاهده فهذا هو التمثيل الممتنع في حق الله تعالى ، فإنّ الله تعالى ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته ، وإن لم نقيّد الكيفية بما نشاهده وإنما تصورنا كيفية معينة لا نظير لها فيما نشاهد ، كان ذلك قولا على الله تعالى بغير علم ، وهو حرام لقوله تعالى : (قل إنّما حرّم ربّي الفواحش ماظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله مالا تعلمون) . وعلى هذا فنثبت كيفية لا نعلمها ولا يحل لنا أن نتصورها بشيء معين سواء قيدناها بمماثل نشاهده أم لا .
وأما قوله : أن الإمام مالك لا يقول : والكيف مجهول ، فالجزم بأنه لا يقول بذلك جزم بلا علم له فيه ، وأما كون هذا غير وارد فصحيح ، فإنّ الوارد بالسند عنه قوله : الإستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة كما رواه البيهقي وأبو الشيخ الأصبهاني ، وقوله - رحمه الله - غير معقول أي إنّا لا ندركه بعقولنا فإذا لم ندركه بعقولنا ولم يرد به السمع فقد انتفى عنه الدليلان العقلي والسمعي فوجب الكف عنه وتعذرت الإجابة ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية : فقول ربيعة ومالك : الإستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب موافق لقول الباقين امروها كما جاءت بلا كيف فإنما نفوا علم الكيفية ولم ينفوا حقيقة الصفة . أه فتأمل قول الشيخفإنما نفوا علم الكيفية ، ولم يقل نفوا الكيفية ، يتبين لك أن السلف يثبتون الكيفية لكنها مجهولة لنا ، ويدل لذلك أن الإمام مالكا وشيخه رحمهما الله لك يقولا : الكيف مستحيل أو غير ممكن ، ولو كان هذا هو الحق الذي يجب لله لبيّنه السلف رحمهم الله .
والحاصل : أنّ نفي الكيفية عن الإستواء مطلقا هو تعطيل محض لهذه الصفة ، لأننا إذا أثبتنا الإستواء حقيقة لزم أن يكون له كيفية وهكذا يقال في بقية الصفات.
المسألة الثانية قوله : ولا يجوز أن يفهم من الإستواء معنى لا يليق بالله مثل الإستقرار أو الجلوس أو القعود .
وهذا القول غير صحيح على إطلاقه فإن قوله لا يجوز أن يفهم من الإستواء معنى لا يليق بالله صحيح ، فإنّ كلّ ما وصف الله تعالى به نفسه من الإستواء وغير لا يجوز أن نفهم منه معنى لا يليق بالله ، ولكن ما هو المرجع والميزان فيما يليق بالله تعالى وما لا يليق ؟ إن قلت المرجع إلى ذلك العقول لزم من ذلك محذوران عظيمان :
أحدهما : أن يكون المرجع فيما يجب لله تعالى من صفات الكمال وما ينزه عنه من صفات النقص هو العقل ، ومن المعلوم قصور العقول عن إدراك ما يجب لله تعالى إثباتا ونفيا على سبيل التفصيل قال الله تعالى : ( ولا يحيطون به علما ) . فإذا علم قصور العقول عن ذلك فكيف يمكن أن تكون ميزانا لما لا يمكن أن تدركه ؟.
الثاني : أن عقول هؤلاء الذين زعموا أن المرجع في ذلك العقول كانت مضطربة متناقضة ، يوجب بعضها ما يرى الآخر امتناعه ، فكيف تكون هذه العقول المضطربة أدلة وبراهين في إثبات ما يثبت لله تعالى ونفي ما ينفى عنه .
وأمّا تمثيله لما لا يليق بالله بتفسير الإستواء على العرش بالإستقرار عليه والجلوس والقعود فغير صحيح ، فأمّا تفسير استواء الله تعالى على عرشه باستقراره عليه فهو مشهور عند السلف نقله ابن القيم في النونية وغيره . وأمّا الجلوس والقعود فقد ذكره بعضهم لكن في نفسي منه شيء والله أعلم .
المسألة الثالثة : قوله أو المكان . يعني أنه لا يليق بالله عزّ و جلّ وهذا أيضا غير صحيح على إطلاقه ، فإنه إن أراد بالنفي نفي المكان المحيط بالله عزّ وجلّ فهذا النفي صحيح فإنّ الله لا يحيط به شيء من مخلوقاته ، وهو أعظم عزّ وجلّ من أن يحيط به شيء كيف (والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه) . وإن أراد بنفي المكان نفي أن يكون الله تعالى في العلو فهذا النفي غير صحيح ، بل هو باطل بدلالة الكتاب والسنة وإجماع السلف والعقل والفطرة ن وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للجارية : (أين الله ؟ قالت في السماء قال لمالكها اعتقها فإنها مؤمنة) وكلّ من دعا الله عزّ وجلّ فإنه لا ينصرف قلبه إلاّ غلى العلو هذه هي الفطرة التي فطر الله الخلق عليها لا ينصرف عنها إلاّ من اجتالته الشياطين ، لا تجد أحدا يدعو الله عزّ وجلّ وهو سليم الفطرة ثمّ ينصرف قلبه يمينا أو شمالا أو إلى أسفل أو لا ينصرف إلى جهة بل لا ينصرف قلبه إلاّ إلى فوق .
Bookmarks