بسم الله الرحمن الرحيم
في الواقع لقد أخذني هذا السؤال إلى رحلة ايمانية رائعه في هذا القرآن العظيم تلمس قلبي فيها عظمة ورونق ونظام الإحكام في كتاب رب الانام
فسبحان الذي يعلم السر واخفى توكلت على الحي القيوم العظيم الرحيم.
ووالله إنه يأتي كمثال عظيم على فصاحة وبلاغة الصياغه في مفردات هذا القران العجيب الكريم.
فلا توجد به كلمة الاوهي في مكانها السليم ولاآية الا وهي في قوامها القويم تبارك الله العليم الحكيم.
لقد ظهر للناظر في الأيتين الكريمتين مدى التشابه فيهما فاستشكل عليه فهمه فيما اختلف منهما حول المعنى ذاته وسر اختلاف اللفظ للكلمة هنا وهناك .
وأقول وبالله التوفيق إن الكل مجمع على أن للقرآن الكريم نظام محكم ولايمكن لنا أن نفهم مدلول الايات الا في سياقها وكل ما اتسع منظورنا للسياق
ازداد فهمنا لمعنى الايات عمقا والذي حصل من اشتباه في مثلنا الماثل امامنا مرده لنفس السبب .
وقبل تبيين التفاصيل في سر السياق الذي انعكس تاثيره على اللفظة المنتقاه لابد ان نعلم او نتمعن في الحقيقة الدلاليه للحدث نفسه وهو خروج الماء من الحجر.
إننا اذا نظرنا للحدث سنجد ان دلالته المعنوية قد أتت على وجهين فهو من وجهه الأول رحمة رحيم وكرم كريم لاشك في ذلك وهو من الوجه الثاني آية بحد ذاته .
أي انه حدث له دلالتين فهو رحمة وآية عظيمة في نفس الوقت .
وإن نظرنا للدلالة الحركيه للحدث نفسه فلها كذلك وجهان الأول هو خروج الماء من حيث طريقه للظهور وشدة قوته في شق الصخره والثاني جريانه وتسربه بعد ذلك بيسر وهدوء.
ونجد ان لفظ التفجير يعبر فعلا عن الدلالة المعنويه التي تظهر الحدث كآية عظيمه ويعبر كذلك عن الظهور للماء اول مايكون في دلالته الحركيه فهو بلا أدنى شك يماثل ويمثل هاتين الدلالتين ويمزج بينهما بشكل مذهل.قال تعالى ( وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعاالاسراء )(آية:90)
فظهور الشيء من بعد انعدامه أشد وطأة على النفوس من وفرته بعد قلته أو من زيادته بعد نقصانه . فتفجير الماء تعبير لايخص الماء من ناحية حجم الماء نفسه ولا الإنبجاس يعني قلته بعد زيادته , قال تعالى (واذا البحار فجرت) الانفطار (آية:3):
وليست قلة الماء أو زياته على علاقة برحمة الله وعقابه فقد تكون زيادته شرا محض ونقصانه خير وفلاح .
ونستطيع أن نؤكد ان الانبجاس لم يأتي للتقريع أبدا في الآية الكريم بمجرد النظر لآخرها . فكيف يكون للتقريع اذا كان الماء يكفي للشراب والطعام
فلازيادة الماء ولاقلته تعني شيئا إذا حصل الإكتفاء والإنتفاع به على أكمل وجه بصريح قوله تعالى.
قال تعالى (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ ۖ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ۖ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ۚ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ ۖ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ۚ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ )
فكيف يتفق التقريع مع المن والسلوى والطيبات؟
ومنه فالإنبجاس حقا هو اللفظ الأنسب لإظهار الحدث على معنى الدلالة المعنويه التي تشير إلى فعل يخص الرحمة الإلهية بصرف النظره عن الحدث كآيه عظمى .
وأيضا يتسق المعنى الحركي للحدث من جريان الماء مع لفظ الانبجاس الذي يشير الى تسرب الماء وجريانه لنفس الغرض وهو الرحمه ,
فوافق معنى الانبجاس الرحمه فعلا ودلالة لفظية أيضا .
اما التفجير فليس له علاقة البته بالخير المطلق وليس له علاقة لوفرة وزيادة حجم الماء فقد يكون التفجير لأعين صغيره تزهر جنات وتثمر
من الخيرات مالله به عليم قال تعالى (او تكون لك جنه من نخيل وعنب فتفجر الانهار خلالها تفجيرا) (الاسراء (آية:91):
وقال تعالى في سورة القمر عن طوفان نبي الله نوح عليه السلام( وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12)
ومن هاتين الآيتين نتيقن بأن التفجير هو عملية إظهار الماء من باطن الشيء فلاعلاقة له بالحجم كبير كان ام صغير أو بالخير والشر.
وبعد أن تعرفنا وأدركنا الجوانب والغايات من اللفظين صار الوقت ملائما لفهم المناسبة التي قرنت بين اللفظين في الآيتين الكريمتين .
وكان لزاما علينا من أجل ذلك النظر في سياق الآيتين وما أدراك مالسياق.
نبدأ بلفظ التفجير وسر مقارنته بآيته الكريمه والذي قلنا أنه لفظ يخص اظهار الحدث من ناحية كونه آية عظيمه تم فيها إظهار الماء
بعد أن كان معدوما ومبهما. فهل السياق ينم عن الإتفاق الدلالي أم لا لنرى سويا.
قال تعالى (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ ۖ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ۖ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَٰذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ ۚ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59) وَإِذِ اسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ ۖ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ۖ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ۖ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَنْ نَصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ۖ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ۚ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ ۗ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۗ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
ملاحظاتنا على السياق
السياق يوحي بالشده في التوبيخ والتقريع بل والعذاب العظيم ويوحي بمقت عظيم للسلوكيات التي يتبعها بنو اسرائيل بالمجمل.
ايضا السياق يظهر به علاقة وطيده بالآيات العظمى فأول آيه تبين أن بني اسرايل يلحون في طلبهم لأعظم آيه وهي رؤيته سبحانه وتتسلسل بعد ذلك الايات الكريمه في عرض المواقف التي تعرض لها بني اسرائيل والتي تؤكد مرورهم بآيات عظيمه تباعا ولكنهم قوم لايفقهون.
ومما سبق نكتشف فعلا السر الكامن خلف اختيار لفظ التفجير لاظهار الحدث كآيه عظمى ولكن بني اسرائيل مازالوا في غيهم وكفرهم وعمائم الذي لاينفك عنهم. فسبحان الله كيف جائت هذه اللفظه في مكانها وعنوانها المناسب والدقيق جدا.
ومن الطبيعي أن يأتي لفظ الانبجاس على سياقه المغاير في دلالته العامه عن سابقه كما سنرى في الايات الكريم الاتيه
قال تعالى ( وَمِنْ قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ ۖ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ۖ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ۚ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ ۖ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ۚ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَٰذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ ۚ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161))
السياق بالمجمل يشي بالنواحي والفضائل التي أنعم بها سبحانه على بني اسرائيل فلاق أن تظهر الاية الكريمه الحدث في سياقه وهو الاخبار عن الرحمات والفضل الالهي على هؤلاء القوم ولم يحتاج السياق ابدان الى الدلالة على الناحية الاعجازيه في الحدث فليس ذلك من أغراض العرض المنشوده فأتى لفظ الانبجاس في الاية الكريمه مناسبا جدا حتى في جرسه الصوتي
لنقل الصوره الحية التي تصورها الايات الكريمه عن حال القوم فسبحان العلي العظيم.
والأعجب أن الشبه لم تنفرد به الآياتين الكريمتين التي نتدارسها بل إن السياقين يتظمنان وحده وشبه تقشعر لها الجلود فعلا والأمر لايقتصر على التشابه بل وحتى الترتيب فواحدة تسبق آية مشابهة لاية تلحق الثانيه فسبحان اللطيف الخبير ولا أجد أفضل مانختم به سوى قوله عز من قائل ( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23))
والحمدلله رب العالمين..
Bookmarks