الحمدلله
**تمهيد**
كل أصحاب فنٍّ يعرفون بالضرورة أنَّهم وعلمهم .. ولا يجوز عند كلِّ بني آدم –العقلاء منهم- أن يدخل الرجل في علمٍ لا يُتقنه .. و من المقرر أن لكل بحث أدواته الخاصة ومنهجهُ العقلي الذى يتفق مع طبيعته .. ومن لا يمتلك تلك الأدوات ويعرف ذلك المنهج وكيف يطبقه .. فخوضه خوض الأدعياء وإن رآى ذلك الشخص خلافَ ذلك
فالأطباء -مثلا- أدرى بالمشاكل الجسدية للإنسان وعلاجها من التُّجار .. والصيادلة أعلم بتراكيب الدواء وتفاعلاته الكيميائية وأثره على الجسم من المهندسين .. وكذلك الفقهاء أعلم بأقوال الأئمة الأربعة من المُحامين .. والمحدِّثون أدرى بالحديث صحَّةً وضعفًا من الأطباء والصيادلة والمهندسين والتُّجار والمحامين
فهل يمكن للعقل أن يتصور غير هذا!؟
وهل يمكن لجاهل بفن من الفنون أن يبحر فيه!؟
**التَّعالم**
لو أن رجلا مثلي .. تحدث عن الاقتصاد .. وجاءَ بفكرة جديدة سمَّاها
{!! الأنطولوجيا الإقتصادية وحنتفيش الأمة !!}
وجئت ففصَّلت فيها نظريات جديدة لم يسمع بها أهل الإقتصاد من قبل .. فسيكون أول سؤال بدهي يسألني إياه أهل ذلك الفن
هل أنت متخصص في هذا المجال الذي تكلمت فيه !؟ هل تفهم في الإقتصاد يا شهادة !؟
السؤال هنا منطقي جدا .. ومبرر جدا..
ولن يعترض عليهم أحد ويقول ناقشوا "شهادة" في الفكرة قبل أن تسألوه عن تخصصه
لماذا !؟
لأنني عندما ابتكرت نظرية <<الانطولوجيا وحنتفيش الأمة>> اخترعت شيئا جديدا .. وهذا يعني أنني يجب أن يتم قبولي أولا في نادي علم الاقتصاد قبل النظر في نظريتي وكلامي .. ثم سيتم لاحقا مناقشة الفكرة التي أتيت بها .. وطبعًا حال ما تُعرض هذه الفكرة الجديدة على أهل الإقتصاد سيدركون أن الذي أمامهم متعالم لا يعرف "كوعه من بوعه" .. وستصبح النظرية قصة يتندّر بها الإقتصاديون في اجتماعاتهم .. متذاكرين فيها حين تكلَّم " شهادة " في غير فنِّه وأتى بالعجائب
________________________
هذه حقيقة المتعالمين في زماننا الحالي .. فالواحد منهم يملك خلطة سرية يتناولها كل صباح .. ليتمكن بعد ذلك من الحديث في كل شيء .. فهو .. محلل سياسي .. وخبير اقتصادي .. وعالم اجتماع .. ومنظر في أصول التربية .. وناقد لأصول الفقه .. ومحقق في قواعد علم الحديث .. وأستاذ في اختلافات الفرق الإسلامية .. و و و الخ ..
هذا كله من غير أن يكلف نفسه عناء البحث في هذه العلوم!؟
وإذا سألتهُ عن معرفته وعلمه في الأمور الخطيرة التي يناقشها .. سيقول لك بأن المسألة ليست بحاجة إلى قراءة أو توسع أو علم أو حتى تخصص .. بل ما عليك إلا أن تُعمل عقلك قليلا وستخرج بقواعد وأصول وحقائق غابت عن ملايين العلماء طوال الأربعة عشر قرنا الماضية
فهل يقول بهذا عاقل!؟
**عـُرى الإسـلام**
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
{{لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة ، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها ، وأولهن نقضاً الحُكْم وآخرهن الصلاة}}
هذا واقع الحال اليوم..
أمورٌ يضحكُ السُّفهاء منها ** ويبكي من عواقبها اللبيبُ
فيأتي أحدهم لينكر السنة .. حتى لا يحتج عليه أحد بكلام النبي صلى الله عليه وسلم .. ويأتي آخر ليطعن في أخبار الآحاد .. ويأتي ثالث ليتمسح بالعقل .. ويعلن مخالفة هذه النصوص للعقل .. ثم يأتي رابع ليقول إن أحكام الإسلام خاصة بوقت نزوله فقط .. ويأتي خامس ليؤكد أن الإسلام جاء ليكون في المسجد فقط .. ويأتي سادس وسابع وعاشر
وتجد الواحد منهم يتكلم في الفقة .. وفي الأصول .. وفي التفسير .. وفي العقائد .. والفرق .. وفي الحديث .. ويبحث في هذا كله .. بحث الناقد العارف الخبير الذي لا يستعصي عليه شيء .. في سلسلة لا متناهية من الاعتداءات على الثوابت والأصول التي يقوم عليها الإسلام
والأعجب من هذا كله .. أن يتحول هذا "المتعالم" إلى مرجع للفتوى .. ليكون مقامهُ مساوياً لمنزلة من أمضى عمره في تفهم علوم الشريعة والتفقه فيها .. بل ربما صار كلام "المتعالم" ميزاناً توزن به فتاوى وأقوال من يعلم يقيناً .. أنه لم يحصل عُشر مِعشار ماحصلوه وتعلموه
هذا ماصرنا نراه ونسمع به..
وقد قالوا
عش رجبًا ترى عجبًا..!
**خاتمة**
الإخوة والأخوات الفضلاء .. لا أريد أن يُفهمَ من كلامي أن ديننا يمنع الاستفسار والسؤال .. بل على العكس من ذلك
لكنهُ -في نفس الوقت- يمنع الكلام بغير علم .. ويحجب الجهال وأصحاب الهوى .. عن الخوض فيه بعقولهم المجردة من مبادئ علوم الإسلام
ومشكلتنا مع تلك الفئة ذات القدرات الخارقة في الإبحار في شتى علوم الشريعة ..أنهم إذا أشكل عليهم شيء تأنف نفوسهم عن النزول لمستوى المتعلم .. بل يريدون أن يكونوا معلمين .. ومفكرين .. ومجتهدين بإطلاق .. وفي كل شئ .. سواء أحاطوا به علماً أم أحاطوا به جهلاً .. ولو أنهم تواضعوا وسألوا سؤال المتعلم المسترشد عما خفي عليهم علمه .. لأدركوا أن ثقافتنا لا تمنع التفكير والتساؤل .. ولكني أكاد أجزم أن أيًّا منه لم يحاول يومًا أن يجالس أحدًا من أهل العلم ليتباحث معه أو يناقشه في أي مسألة من المسائل التي أشكلت عليه
هدى الله الجميع إلى خير ما يحب ويرضى .. وأعاذنا الله وإياكم من مرض التعالم والجُرأة على الله
دمتم بخير
Bookmarks