الفوائد والدرر من حديث


"لن يدخل أحدكم عمله الجنة"


والرد على الزائغين


الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده، وعلى آله وصحبه.
أمَّا بعدُ:


فسنَّة النبي - - مليئة بالفوائد والدُّرر، والكلام القليل الذي يحمل من المعاني الكثير، والعلم النافع الذي يَهدي العباد إلى العمل الصالح، ويُرشد العقول إلى الخير المأمول.
وكي نحصلَ على هذا الخير، لا بد أن نفهم السنَّة في ضوء القرآن، وليس بمعزلٍ عنه، وإن كان هذا ليس شرطًا مطَّردًا؛ لأن في السنَّة تفصيلاتٍ لا وجود لها في كتاب الله.

ولا بد أن يكون عندنا أدواتُ العلم، وأن نستفيدَ من علم اللغة، وعلم أصول الفقه، وعلم مقاصد الشريعة، وغير ذلك من العلوم النافعة المُعِينة على فَهْم النصوص على الوجه الصحيح.
وليس معنى أن الشخص قد امتلَك أدوات الفهم، أنَّ فهمه للنص يكون صحيحًا، فكم من العلماء مَن فَهِم النص على خلاف مراد الشرع، مع امتلاك العالِم لأدواتِ الفهم والاستنباط، وتجرُّد العالِم للحق، والسرُّ في ذلك: الاختلافُ في الاستعدادات الفِطْرية والمكتسبة لدى العلماء، واختلاف نظرتهم للنص، وتفاوُت عِلمهم، ودرجة استنباطهم، والقواعد التي يَبنون عليها فَهْم النصوص، فرُب قاعدةٍ يسير عليها عالِم لا يُقرُّها عالِمٌ آخرُ، ورُبَّ عالم يبني استنباطَه على قاعدة باطلةٍ ودليلٍ باطل.

والفهم الصحيح للنص توفيقٌ من الله مع الأخذ بأسباب الفهم، فندعو الله أن يَهدينا إلى الحق فيما اختُلف فيه.

ولتفاوت العلماء في الفهم، فمن الأفهامِ ما يوافق الكتابَ والسنَّة، ومن الأفهام ما يخالف الكتاب والسنَّة؛ فالواجب عرضُ كلام العلماء على الكتاب والسنَّة، فما وافقهما، قبِلناه، وما خالفهما، رددناه.
ومن النصوص التي فَهِم منها البعضُ خلاف ما يوافق مراد الشرع حديثُ: ((لن يُدخِل أحدَكم عملُه الجنَّةَ))، وهذا الحديث الشريف في الصحيحين؛ فهو في أعلى درجات الصحة.

والحديث نصُّه عن عائشة - -: أن رسول الله - - قال: ((سدِّدوا وقارِبوا وأبشِروا؛ فإنه لا يُدخِل أحدًا الجنةَ عملُه))، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا، إلا أن يَتغمدَني اللهُ بمغفرة ورحمة))[1].

وفي رواية عن عائشة، قال رسول الله - -: ((سدِّدوا وقاربوا، واعلموا أن لن يُدخِل أحدَكم عملُه الجنةَ، وأنَّ أحبَّ الأعمالِ إلى الله أدومُها وإن قلَّ))[2].

وعن أبي هريرة - - قال: قال رسولُ الله - -: ((لن ينجِّي أحدًا منكم عملُه))، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا، إلا أن يتغمَّدَني اللهُ برحمة، سدِّدوا وقاربوا، واغدُوا ورُوحوا، وشيء من الدُّلجة، والقصدَ القصدَ تبلغوا))[3].

ودعونا نَحْيَ في رحاب هذا الحديث، ننهل منه الدررَ والفوائد والعِبر؛ فقولُ السيدة عائشة - -: "قال رسول الله - "، يدلُّ على رواية النساءِ لحديث النبي - - أي: نشر النساء الصحابيات للحديث النبوي، وحِفظهن للسنَّة؛ أي: إن للنساء دورًا في نشر السنَّة وحفظها، كما نشَرها الرجال وحفظوها، فلا يُنكِر دورَ النساء في نشر السنَّة وحفظها إلا جاهلٌ بعلوم الحديث.

وتحديث السيدة عائشة أم المؤمنين عن النبيِّ - - دليلٌ على أن نساء النبيِّ - َّ - كان لهنَّ دورٌ في نشر السنة والدين، وحفظ السنة والدين، وقد روت السيدة عائشة - - "2210" حديثًا، وروت السيدة أم سلَمةَ "378" حديثًا، وروت السيدة ميمونة - - "76" حديثًا، وروت السيدة أم حبيبة - - "65" حديثًا، وروت السيدة حفصة - - "60" حديثًا، وروت السيدة جُوَيرية - - خمسة أحاديث.

ومن هنا نُدرك أن تعدُّدَ زوجات النبي - - قد جعله اللهُ سببًا من أسباب نشر الدين وحِفظه، وهذا يدل على امتثال أُمهات المؤمنين لقوله - تعالى -: ﴿ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ﴾ [الأحزاب: 34].

والآية فيها حضُّ نساءِ النبي - - على نشر وتعليم العلم الشرعي، المتمثلِ في القرآن والسنَّة؛ فالذي يُتلى في بيوت زوجات النبي - - هو كتابُ الله، والحكمةُ، التي هي سنَّة رسول الله - - فهذا أمرٌ للنساء أن يُشاركْنَ الرجال - حيث لا فتنةَ - في تبليغ القرآن والسنَّة.

ولا يقال:
الأمر خاصٌّ بنساء النبي - - لأن خطاب الله - - لنساء النبي - - يدخل فيه نساءُ المؤمنين؛ إذ نساء المؤمنين تَبَع لهن في ذلك، وإنما خصَّ الله - - نساء النبي - - بالخطاب لشرفهنَّ ومنزلتهن من النبي - - ولأنهن القدوةُ لنساء المؤمنين، ولقرابتِهن من النبي - - والعبرة بعموم اللفظِ لا بخصوص السبب[4]، ما لم يَرِدْ دليلٌ يدل على التخصيص.

وقول النبي - -: ((سدِّدوا)) من السداد، والسداد: الصواب من القول والقصد[5]، أو الإصابة في المنطق والتدبير والرأي[6]، والتسديد: هو إصابةُ الغرض المقصود، وأصله من تسديد السهم إذا أصاب الغرضَ المَرْميَّ إليه، ولم يُخْطِئْه[7]، وفُسِّر السدادُ بالصواب، وهو مقارب للقصد؛ لأن التقصير في المطلوب أو المغالاة فيه، تُخرجه عن الصواب.

ومعنى "سدِّدوا":
اقصدوا السداد، واطلبوه، واعملوا به في الأمور، وهو القصد فيها دون التفريط ودون الغُلو[8]، فالسداد هو الاستقامة، وهو القصد في الأمر والعدل فيه[9].

قال ابن رجب: "السداد: هو حقيقةُ الاستقامة، وهو الإصابة في جميع الأقوال والأعمال والمقاصد، كالذي يرمي إلى غرضٍ، فيُصيبه"[10].

وفي قوله - -: ((سدِّدوا)) أمرٌ بالسداد؛ أي: ابْلُغوا بأعمالكم درجةَ السداد والصلاح، والأمر يفيد الوجوب[11] ما لم يأتِ صارف، وما دام السدادُ في الأمور واجبًا، فهذا يفيد وجوبَ القصد والاعتدال فيما طلبه الشرعُ منَّا؛ أي: وجوب الاستقامة؛ كما قال - تعالى -: ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [هود: 112]، والمعنى: فاستقمْ كما أمرك ربُّك في كتابه، فاعتقِد الحقَّ، واعمل الصالح، واترُك الباطل، ولا تعمل الطالح أنت ومَن معك من المؤمنين؛ ليكونَ جزاؤُكم خيرَ جزاء يوم الحساب والجزاء[12].

وفي قوله - -: ((سدِّدوا)) أمرٌ بتصحيح العقيدة، ونهي عن الشرك؛ لأن السدادَ ليس في القول والفعل فحسب، بل أيضًا في الاعتقاد، والأمر باستقامة المعتقد يستلزم النهي عن الشرك، وفي النهي عن الشرك قال - تعالى -: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [النساء: 36].
وفي قوله - -: ((سدِّدوا)) النهي عن التقصير في الطاعات؛ لأن الأمر بالسداد أمرٌ بفعل الطاعة كما ينبغي، والتقصير يخالف ذلك.
وفي قوله - -: ((سدِّدوا)): نهي عن التشدد في الدين؛ لأن التشدد غلوٌّ في الدين، والشرع أمرنا بالقصد، ونهانا عن المغالاة؛ فالغلو خروج عن المقصود، وخروج عن الاعتدال.
وفي قوله - -: ((سدِّدوا)): أمرٌ بالإخلاص في العمل، ونهي عن الرياء؛ لأن العمل كي يكون سديدًا صوابًا، لا بد من إخلاص النية؛ بأن يقصِد المرءُ بعبادته التقربَ إلى الله - - والتوصل إلى دار كرامته؛ كما قال - تعالى -: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ﴾ [البينة: 5]؛ أي: وما أُمِروا في سائر الشرائع إلا ليعبدوا اللهَ وحده، قاصدين بعبادتهم وجهَه، مائلين عن الشرك إلى الإيمان.
والأمر بإخلاص النية نهيٌ عن الرياء؛ لأن الأمرَ بالشيء نهيٌ عن ضده[13].
وفي قوله - -: ((سددوا)): أمرٌ بموافقة الشرع، ونهي عن البدعة؛ لأن العمل كي يكونَ سديدًا صوابًا لا بد من موافقةِ ما شرعه الله، وما شرعه الله هو ما كان عليه النبي - - فمن أتى بما لم يكن عليه النبيُّ - - فعمله ليس بصوابٍ، بل عمله مردودٌ، بل يأْثَم على فعله، وفي حُرمة الإتيان بفعل ليس على هَدْي النبي - - قال رسول - -: ((من أحدث في أمرِنا ما ليس منه، فهو ردٌّ))[14]؛ أي: الأمرُ الديني المُحدث مردودٌ باطل.
وقال النبي - -: ((عليكم بسنَّتي وسنة الخلفاء الراشدين المَهديين من بعدي، تمسَّكوا بها، وعضُّوا عليها بالنواجذ، وإيَّاكم ومُحدثاتِ الأمور؛ فإن كلَّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة))[15]؛ أي: الأمر الديني المحدَث بدعة وضلالة يقع الإثم على فعْله.
والعمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا، لم يُقبَل، وإن كان صوابًا ولم يكنْ خالصًا، لم يُقبَل؛ حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكونَ لله، والصواب أن يكون على السنَّة.
وفي قوله - -: ((سدِّدوا)): دليلٌ على وسطية الدين واعتداله، فلا يأمر الدينُ إلا بالقصد والاعتدال، وإعطاء كلِّ ذي حق حقَّه؛ لأن السداد هو التوسط والاعتدال في العمل بلا إفراط أو تفريطٍ، وألا يجورَ شيء على شيء، وعندما قال سلمان الفارسي - - لأبي الدرداء: إن لربِّك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا؛ فأعطِ كل ذي حق حقَّه، فأتى أبو الدرداء النبيَّ - - فذكر ذلك له، فقال النبي - -: ((صدَق سلمانُ))[16].
ومن تتبَّع الشريعةَ في أحكامها، وجدها تنحو المنحى الوسط في الأمور، وتقصِد الاعتدالَ في كل ما يقوم به المكلَّفون من أعمال؛ فالخروج عن ذلك إلى التشديد أو التخفيف المُفرِط، خروجٌ عن مقصد الشريعة، وهو أمرٌ مذموم لا ممدوح.
قال ابن تيمية: "المشروعُ المأمور به الذي يحبه اللهُ ورسوله - - هو الاقتصادُ في العبادة"[17].
وفي قوله - -: ((سددوا)): دليلٌ على نفي الجَبْر؛ فلولا قدرةُ الإنسان على السداد، لَمَا كان لأمر النبي - - الصحابةَ بالسداد معنًى؛ فالقول بالجبر يُبطِل أمرَ النبي - - الصحابةَ بالسداد.
وقول النبي - -: ((قاربوا)) من المقاربة، وهي القصد الذي لا غلوَّ فيه ولا تقصير، وهو القريب من الطاعة، الذي لا مَشقَّة فيه[18]، وقارَب في الأمر: اقتصَد وترَك المبالغةَ، ترَك الغلوَّ وقصد السداد والصِّدق[19].
وقال ابن الجوزي:
"المقاربةُ: القصد في الأمور من غير غلوٍّ ولا تقصيرٍ"[20].
قال ابن رجب:
"والمقاربة: أن يُصيب ما قرُب من الغرض إذا لم يُصِب الغرضَ نفسه، ولكن بشرط أن يكون مُصمِّمًا على قصد السداد وإصابة الغرض، فتكون مقاربته عن غير عمدٍ، ويدل عليه قولُ النبي - - في حديث الحكم بن حزن الكُلَفي: ((أيها الناس، إنكم لن تَعملوا - أو لن تُطيقوا - كلَّ ما أمَرتكم، ولكن سدِّدوا وأبشروا))[21].
والمعنى: اقصدوا التسديد والإصابة والاستقامة؛ فإنهم لو سدَّدوا في العمل كله، لكانوا قد فعلوا ما أُمِروا به كله"[22].
وفي قوله - -: ((قاربوا)) بعد قوله - -: ((سددوا)): إشارةٌ إلى سماحة الشريعة ويُسْر الشريعة، وأنها بُنِيت على القصد والاعتدال، ورُوعِي فيها اجتنابُ التشديد أو التخفيف الذي يؤدي إلى التحلُّلِ من أحكام الإسلام؛ فالمطلوب: الاستقامة، وهي السداد، وفعل المطلوب على وجه الكمال، فإن لم يستطعِ الشخص الأخذَ بالأكمل، فليعمل بما يقرب منه، والمقاربة دون السداد؛ أي: يُكتفى منك في الشرع بالمقاربةِ رفعًا للحرَج، فالعبدُ يتَّقي اللهَ قدر استطاعته؛ كما قال - -: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [التغابن: 16].
واكتفاءُ الشرع بالمقاربة دون السداد عند عدم القدرة على فعل السداد - دليلٌ على أن الدِّين يُسرٌ لا عُسر فيه ولا حرَج، وليس في أحكامه ما يجاوز قُوى الإنسان، أو ما يُعنته، وقد جاءت الكثيرُ من النصوص التي تحمل هذا المعنى؛ كقوله - تعالى -: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185]، وقال - تعالى -: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78].
قال النووي:
"معنى ((سدِّدوا وقاربوا)): اطلبوا السدادَ، واعملوا به، وإن عجَزتم عنه، فقاربوه؛ أي: اقربوا منه، والسداد: الصوابُ، وهو بين الإفراط والتفريط، فلا تَغلوا ولا تُقصِّروا"[23].
واكتفاءُ الشرع بالمقاربة دون السداد عند عدم القدرة على فعْل السداد - دليلٌ على أن الشرع لا يريد من العبد إلا ما يُطيق ويستطيع ويتحمَّل، ولا يريد الشرعُ من العبد ما يشقُّ عليه مشقةً غير معتادة لا يستطيع تحمُّلها؛ إذ الشرع لا يقصِد بالتكليف المشقةَ، بل يقصد ما في التكليف من المصالح التي تعود على المكلَّف، فإذا اختلَف عليك طريقان للعبادة، فإن أيسرَهما أقربُهما إلى الله، وكون الإنسان يذهب إلى الأصعب مع إمكان الأسهل، هذا خلافُ الأفضل؛ فالأفضل اتِّباع الأسهل في كل شيء.
قال ابن حجر:
"والحاصل أنه أمَرَ بالجد في العبادة، والإبلاغ بها إلى حد النهاية، لكن بقيد ما لا تقع معه المشقةُ المُفضية إلى السآمة والملال"[24].
قال الشاطبي:
"المشقة ليس للمكلَّف أن يقصِدَها في التكليف نظرًا إلى عِظَم أجرها، وله أن يقصِد العمل الذي يعظُم أجرُه؛ لعظم مشقَّته من حيث هو عمل"[25]، وقال أيضًا: "فإذا كان قصدُ المكلف إيقاعَ المشقة، فقد خالف قصد الشارع؛ من حيث إن الشارعَ لا يقصِد بالتكليف نفس المشقة، وكل قصد يخالف قصد الشارع باطلٌ؛ فالقصدُ إلى المشقة باطلٌ، فهو إذًا من قبيل ما يُنهَى عنه، وما يُنهى عنه لا ثوابَ فيه"[26].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - -:
"ومما ينبغي أن يُعرَف أن الله ليس رضاه أو محبتُه في مجرد عذاب النَّفس وحملِها على المشاقِّ، حتى يكون العملُ كلما كان أشقَّ كان أفضل، كما يحسب كثيرٌ من الجُهال أن الأجرَ على قدر المشقَّة في كل شيء، لا، ولكن الأجر على قدر منفعةِ العمل، ومصلحته، وفائدته، وعلى قدر طاعة أمر الله ورسوله، فأيُّ العملين كان أحسن، وصاحبه أطوع وأتبع - كان أفضلَ؛ فإن الأعمالَ لا تتفاضل بالكثرة، وإنما تتفاضل بما يحصل في القلوب حال العمل"[27].
ومن قوله - -: ((سدِّدوا وقاربوا))، نعلم أن الذين يكلِّفون أنفسهم بعبادات لا يستطيعون القيامَ بها، أنهم يخالفون أمر النبي - - ويخالفون هَدْي النبي - - ويخالفون مقصودَ الشرع، فلم يسدِّدوا ولم يقاربوا، بل شدَّدوا على أنفسهم.
قوله - -: ((سدِّدوا وقاربوا)): يفيد أن المحبوبَ من العبادة ما كان أدومَ؛ فالشرع أمَرَ بالاقتصاد في العبادة، وألا يتحمَّل الإنسانُ من العبادة ما لا يُطيقه، فتكون العبادةُ سهلةً ميسورة، وهذا أدعى لدوامها، أما فِعل ما لا يطاق، وإجهادُ النفس في العبادة جهدًا غير معتاد - فهذا يُفضي إلى الملال، وزوالِ الشعور بالمتعة أثناء أداء العبادة، فيؤدي ذلك مع الوقت إلى ترْك العبادة.
قال ابن حزم في كلامه على مواضع من البخاري: "معنى الأمر بالسداد والمقاربة أنه - - أشار بذلك إلى أنه بُعِث ميسِّرًا مسهِّلاً، فأمر أمَّته بأن يَقتصدوا في الأمور؛ لأن ذلك يقتضي الاستدامة"[28].
قال أبو عمر: "قوله في هذا الحديث: ((سدِّدوا وقاربوا))، يفسِّر قوله: ((استقيموا ولن تُحصوا))، يقول: سدِّدوا وقاربوا، فلن تبلغوا حقيقةَ البِر، ولن تُطيقوا الإحاطةَ في الأعمال، ولكن قاربوا؛ فإنكم إن قاربتُم ورفَقتم، كان أجدرَ أن تدوموا على عملكم"[29].
قال ابن حجر: "((وقاربوا))؛ أي: لا تُفْرِطوا، فتُجهدوا أنفسَكم في العبادة؛ لئلا يُفضي بكم ذلك إلى الملال، فتتركوا العملَ، فتُفَرِّطوا"[30].


[1]رواه البخاري في صحيحه 8/98، حديث رقم 6467، باب القصد والمداومة على العمل.
[2]رواه البخاري في صحيحه 8/98، حديث رقم 6464، باب القصد والمداومة على العمل.
[3]رواه البخاري في صحيحه 8/98، حديث رقم 6463، باب القصد والمداومة على العمل، ورواه مسلم في صحيحه 4/2169، حديث رقم 2816، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله.
[4] المحصول؛ للرازي 3/125، والفروق؛ للقرافي 1/114، والأشباه والنظائر؛ للسبكي 2/134، و نهاية السول شرح منهاج الوصول؛ للإسنوي ص 219.
[5] معجم ديوان الأدب 3/64.
[6] الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي ص 197.
[7] شرح صحيح البخاري؛ لابن رجب 1/151.
[8] انظر: مشارق الأنوار على صحاح الآثار 2/210.
[9] النهاية في غريب الحديث 2/ 352.
[10] جامع العلوم والحِكم ص 512.
[11] إرشاد الفحول؛ للشوكاني 1/250، قواطع الأدلة في الأصول؛ للسمعاني 1/81.
[12] أيسر التفاسير 2/584.
[13] الفصول في الأصول؛ للجصاص 2/164، والعدة في أصول الفقه؛ للقاضي أبي يعلى 2/368، والتبصرة في أصول الفقه؛ للشيرازي ص 89.
[14] رواه البخاري ومسلم في صحيحهما.
[15] سنن أبي داود 2/610 حديث رقم 4607، قال الألباني: صحيح.
[16] رواه البخاري في صحيحه 3/38 حديث رقم 1968، باب من أقسم على أخيه ليُفطر في التطوع، ولم يَرَ عليه قضاءً إذا كان أوفقَ له.
[17] مجموع الفتاوى؛ لابن تيمية 25/272.
[18] تفسير غريب ما في الصحيحين البخاري ومسلم؛ لابن فتوح الأزدي ص 313.
[19] معجم اللغة العربية المعاصرة؛ للدكتور أحمد مختار 3/1791.
[20] غريب الحديث؛ لابن الجوزي 2/228.
[21] رواه أبو داود في سننه 1/287 حديث رقم 1096، وقال الألباني: حسن، ورواه أحمد في مسنده 29/399 حديث رقم 17856، ولفظه: ((يا أيها الناس، إنكم لن تفعلوا، ولن تُطيقوا كلَّ ما أُمِرتم به، ولكن سدِّدوا وأبشِروا))، قال شعيب الأرناؤوط: إسناده قوي؛ شهاب بن خراش وشعيب بن رزيق صدوقان لا بأس بهما، والحَكَم بن موسى ثقةٌ.
[22] جامع العلوم والحكم؛ لابن رجب ص 511.
[23] شرح صحيح مسلم؛ للنووي 17/162.
[24] فتح الباري؛ لابن حجر 11/299.
[25] الموافقات؛ للشاطبي 2/222.
[26] الموافقات؛ للشاطبي 2/222.
[27] مجموع الفتاوى؛ لابن تيمية 25/281 - 282.
[28] فتح الباري؛ لابن حجر 11/300.
[29] التمهيد؛ لابن عبدالبر 24/320.
[30] فتح الباري؛ لابن حجر 11/297.

Read more: http://www.tafsir.net/vb/tafsir34282/#ixzz2F7l5v5hP