الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الكريم وعلى آله وصحبه اجمعين .

وبعد : فقد قرأت فتوى للشيخ عبد الرحمان بن ناصر البراك أحسن الله إليه حول مسألة التصويت على «الدستور»,فكان لي هذا التعقيب الذي نستسمح الشيخ في كتابته من باب التناصح والحض على التمسك بالحق :

لقد أقررت يا فضيلة الشيخ بأن هذا الدستور يحتوي على مواد كفرية وهذا الأمر طبعا لا يخفى عليك ولا يخفى على كل مسلم عارف بالتوحيد .ولا شك أن التحاكم إلى أي دستور فيه مواد كفرية يعني التحاكم إلى حكم الطاغوت .. والتحاكم إلى الطاغوت كما تعلم يا فضيلة الشيخ لا تبيحه حاجة ولا ضرورةولا مصلحة لأن التلفظ بكلمة الكفر لا يباح إلا في حالة الإكراه الملجئ فكيف بالتحاكم.

وأعظم مصلحة هي التوحيد , فلا ينبغي التضحية به من أجل أي مصلحة أخرى ..إن الشرك والتوحيد نقيضان لا يجتمعان وقد عاب الله تعالى على المشركين الذين يظنون بزعمهم أنه يمكن الجمع بين الإيمان والشرك فقال تعالى : {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون}. وإذا زعم هؤلاء المسترخصون للشرك بأنهم يغوصون في بحار الشرك من أجل الوصول إلى شاطئ التوحيد , فأنت تعلم يا فضيلة الشيخ أن الشرك لم يكن في

يوم من الأيام وسيلة للتوحيد ولا طريقا موصلا إليه ..

روى ابن جرير عن ابن عباس: أن قريشا وعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطوه مالا فيكون أغنى رجل بمكة، ويزّوجوه ما أراد من النساء، ويطئوا عقبه، فقالوا له: هذا لك عندنا يا محمد، وكفّ عن شتم آلهتنا، فلا تذكرها بسوء، فإن لم تفعل، فإنا نعرض عليك خصلة واحدة، فهي لك ولنا فيها صلاح.

قال: "ما هي؟" قالوا: تعبد آلهتنا سنة: اللات والعزي، ونعبد إلهك سنة، قال: "حتى أنْظُرَ ما يأْتي مِنْ عِنْدِ رَبّي"، فجاء الوحي من اللوح المحفوظ:{ قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ } السورة، وأنزل الله:{ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ } ... إلى قوله:{ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ } .وحدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، عن محمد بن إسحاق، قال: ثني سعيد بن مينا مولى البَختري قال: لقي الوليد بن المُغيرة والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب، وأميَّة بن خلف، رسول الله، فقالوا: يا محمد، هلمّ فلنعبد ما تعبد، وتعبدْ ما نعبد، ونُشركك في أمرنا كله، فإن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا، كنا قد شَرِكناك فيه، وأخذنا بحظنا منه; وإن كان الذي بأيدينا خيرا مما في يديك، كنت قد شَرِكتنا في أمرنا، وأخذت منه بحظك، فأنزل الله:{ قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ } حتى انقضت السورة .) تفسير الطبري - (24 / 703)وقال القرطبي: (وقال أبو صالح عن ابن عباس: أنهم قالوا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو استلمت بعض هذه الآلهة لصدقناك، فنزل جبريل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذه السورة فيئسوا منه، وآذوه، وآذوا أصحابه.) تفسير القرطبي - (20 / 225) أما المفاضلة بين نجاح هذا الدستور وفشله فلا طائل من ورائه , لأنه من العبث المفاضلة بين امرين كلاهما كفر , فالكفر هو الكفر لا يتبعض ولا يتجزأ وقليله وكثيره سيان.فمن كذب بحرف واحد من القرآن تساوى في الكفر مع من كذب بالقرآن كله .

كان من الأولى يا فضيلة الشيخ أن تنبهوا عامة المسلمين وترشدوهم إلى اتخاذ الوسائل الشرعية التي جعلها الله
طريقا إلى تحكيم الشرع و تحرضوهم على تحمل ما فيها من مشقة وعناء لأن هذه هي طبيعة التكاليف , ويجب أن ندفع الضريبة كما دفعها الجيل الأول من الصحابة .. قال سليمان بن سحمان :إذا عرفت أن التحاكم إلى الطاغوت كفر، فقد ذكر الله في كتابه: أن الكفر أكبر من القتل، قال تعالى: [البَقَرَة: 217]{وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ

الْقَتْلِ} وقال: [البَقَرَة: 191]{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ * وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} والفتنة هي الكفر فلو اقتتلت البادية والحاضرة، حتى يذهبوا لكان أهون من أن ينصبوا في الأرض طاغوتاً يحكم بخلاف شريعة الإسلام، التي بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم) انتهى.

أما أن يتخذ قوم بعض الوسائل الشركية بحجة الوصول إلى الشريعة ثم يقولوا هذا ملا يمكن سواه ..!

فنقول لهم كلا ..وألف كلا ..

فإن الله تعالى أمر بتحكيم شرعه ,وأرشد عباده إلى الوسائل الشرعية إلى تحكيمه , ولكنها ثقلت عليكم فاستعذبتم طريق الشرك ! ثم ما ذا بعد هذا الدستور يا فضيلة الشيخ ؟ هل سيطبق شرع الله من خلال هذا الدستور الشركي؟

هل ستضمحل قوة العلمانيين بعد أن وقعنا لهم العلماء على مشروعية أن يكون الحكم للشعب وليس لله ؟

كلا يا فضيلة الشيخ ..! بل سيطالبون في كل الدساتير القادمة وفي جميع البلدان الإسلامية أن يكون الدستور الإسلامي على شاكلة هذا الدستور الكفري لأن العلماء أفتوا بمشروعية التصويت عليه !

فهل هناك انتصار كان يحلم به العلمانيون أكثر من هذا ؟

العلمانيون يافضيلة الشيخ يعلمون أن هذا الدستور غير إسلامي وأنه لا يختلف في درجة كفره عن بقية الدساتير الكفرية ولكنهم يناورون من أجل مكاسب أكثر ويعرضون عضلاتهم حتى لا يحلم أحد بتطبيق الشريعة .. وقد قلتَ يا فضيلة الشيخ: (وأنتم تعلمون أن ترك التصويت للدستور مما يسر العدو في الداخل والخارج فكلهم يرتقبون ذلك منكم). وأنت تعلم يا فضيلة الشيخ أنه يجب علينا العمل بالحكم الشرعي بغض النظر

عن كونه يسر العلمانيين أو يغضبهم.

فالترجيح في مثل هذه المسألة الخطيرة لا يكون من خلال ردة الفعل على موقف العلمانيين , وإنما من خلال التمسك بالحكم الشرعي الثابت .

ما يسر العلمانيين هو ما فعلته اللجنة التي كتبت هذا الدستور حين شحنته بالمواد الكفرية .هذا الرئيس يا فضيلة الشيخ يحشد الجماهير الإسلامية التي تريد الإسلام من أجل قضية غير إسلامية !

العلمانيون يتحركون بشكل صريح من أجل مبادئهم ويصرحون بكل ما يريدون ويقولنها بكل جرأة : نرفض الشريعة الإسلامية ..

أما نحن الذين نريد الشريعة فحسبنا هذا الدستور الكفري !! !

نحن خاسرون على أية حال :إن نجح الدستور فالنتيجة هي العلمانية !

وإن فشل الدستور فالنتيجة هي العلمانية ! ففيم نستعذب الكفر ؟!!

ولو كان هذا الدستور إسلاميا خالصا لالتف جميع المسلمين من حوله ,اما أن يكون الدستور شركيا ثم نسعى بعد ذالك إلى أن تحيا الجماهير من أجله وتموت من أجله فهذا من الاستخفاف بالعقول !

لقد كذب هؤلاء على الجماهير المسلمة لأنهم قالوا لها : سننتهز فرصة كتابة دستور جديد للبلاد من أجل أن تكون الحاكمية للشريعة , لكن كانت النتيجة انهم ضحوا بالشريعة من أجل إرضاء العلمانيين .

والواقع ان مرسي وجماعته غير مستعدين لأن يتبنوا حاكمية الشريعة وغير مستعدين للدخول في أي صراع مع القوى العلمانية ..

بل هم على استعداد للتوافق معها ولو كلفهم ذالك التحاكم إلى الطاغوت لمدة ألف عام ..

و إذا كانت الشريعة لن تطبق إلا بالتوافق مع العلمانيين , فنحن على يقين من انها لن تطبق أبدا .

وحين ننطلق من مبدأ إقامة الدولة الإسلامية دون حدوث أي صدام مع العلمانيين فنحن واهمون !

فالعلمانيون وأمريكا والغرب ليسوا من الغباء والسذاجة بحيث تقوم دولة الخلافة في مصر وهم لا يشعرون !!

وإذا كان الحاكم المسلم سيحكم بالقانون الكفري فما هو الفرق بينه وبين الحاكم الشيوعي أو النصراني ؟

إذا كان مرسي عاجزا عن تحكيم الشريعة فنحن لا نريد "بَرَكَة" الإخوان ! ثم إن عجزه عن فعل الواجبات لا يبيح له فعل الكفريات . وقد قلت يا فضيلة الشيخ وأمِرُّوا هذا الدستور الذي لا يقدر الرئيس أن يصنع في الوقت الحاضر أفضل منه).. وتعليقا على ذالك نقول : بالنسبة للتطبيق الفعلي للشريعة فإنما يجب حسب

القدرة , لكن بالنسبة للدستور فالقضية قضية مبدأ ولا تحتمل التدرج أو التبعض, فإما أن يكون الحكم لله ,وإما أن يكون الحكم لغير الله , والانطلاق من مبدأ حاكمية الشعب لا يختلف عن إعلان الكفر بالله ..

فهل ترضى يا فضيلة الشيخ أن يكون إعلان الكفر بالله هو الثمن للوصول إلى الشريعة ؟

لماذا إذن لم يستجب النبي صلى الله عليه وسلم للكفار عندما قالوا له : "تعبد آلهتنا سنة ، ونعبد إلهك سنة" ؟

يا فضيلة الشيخ :

حين يسعى مرسي إلى تحكيم الشريعة بشكل واضح فسوف نكون له جندا وأتباعا .

لكن ما يقوم به مرسي اليوم ليس تحكيما للشريعة بل هو تحكيم للقوانين

الكفرية والنظم الديمقراطية , الرئيس مرسي يا فضيلة الشيخ سلك منهجا طريقا غير شرعي وكان ينبغي لأهل

العلم تحذيره من هذا الطريق الذي لا يقود إلا إلى الشرك ..

وهذا الشرك لن يتوقف بل سيتواصل ويستمر مادام هذا الرئيس وأتباعه سائرين في هذا الطريق .

أما ما دعوت إليه يا فضيلة الشيخ من الاجتماع والوحدة فهو ما نسعى إليه جميعا , لكن الله تعالى يقول:{واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} فهل

هذا الدستور هو حبل الله ؟ وكيف تحرض المسلمين على الاعتصام بأمر أقررت أنت بأنه يحوي كفريات ؟

لقد كان ينبغي لك يا فضيلة الشيخ أن تحرض مرسي وجماعته على اتباع المنهج الإسلامي الواضح , فهذا هو الذي سيقضي على الخلاف ويجعل كلمة المسلمين في مصر موحدة ضد العلمانيين .

نسأل الله تعالى ان يوفقك لما يحبه ويرضاه ويجزل لك المثوبة والعطاء على نصيحتك واجتهادك وينفع بعلمك الإسلام والمسلمين .

والحمد لله رب العالمين

كتبه :

أبو المنذر الشنقيطي

الجمعة 01 صفر 1434 هـ