النتائج 1 إلى 1 من 1

الموضوع: فلسفة هيجل وماركس للتاريخ

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Dec 2004
    الدولة
    سوريا
    المشاركات
    370
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي فلسفة هيجل وماركس للتاريخ

    فلسفة هيجل وماركس للتاريخ

    للأستاذ أبو الأعلى المودودي
    أمير الجماعة الإسلامية بباكستان

    خلاصة هذه الفلسفة
    إن الضلالات الكبيرة التي تدفق بها على الإنسانية سبيل الحضارة الجديدة , من منابعها الفكرية المهمة , هي تلك الفلسفات للتاريخ التي كان أول من قال بها هيجل , والتي بنى على مقدماتها كارل ماركس تفسيره المادي للتاريخ فيما بعد .

    خلاصة فلسفة هيجل للتاريخ أن الارتقاء في الحضارة الإنسانية إنما يحصل بظهور الأضداد وتصادمها ثم تمازجها , وإن كل دور من أدوار التاريخ في حد ذاته , وكل وجود جسد حي , وأن مختلف نظريات الإنسان من سياسية واقتصادية ومدنية وخلقية وعلمية وعقلية ودينية تكون على مرتبة خاصة ويكون بينها التناسب والتلاؤم والتساند في هذا الدور , كأنها وجوه مختلفة لهذا الوجود الحي أو الوحدة العصرية تجري فيها روح هذا الدور كله .

    وعندما ينتهي دور كبير من ترقية روحه إلى أرفع ما يستطيع من معارج الكمال , وعندما تنتهي المبادئ والنظريات والأفكار الإنسانية التي تقوم بتسيير هذا الدور إلى الارتقاء إلى آخر حد من حدود طاقتها , يظهر من حضن هذا الدور نفسه بعد أن يترعرع ويتقوّى عدوه طائفة أخرى من الأفكار والميول والنظريات والمبادئ لا تتولد إلا لأن هذا الدور المتداعي يقتضيها بنفسه , ثم يشرع في محاربة الأفكار القديمة .
    وتبقى الحرب قائمة بين القديم والجديد إلى مدة من الزمن .
    وأخيراً يحصل الامتزاج بينهما بعد الأخذ والرد وتخرج إلى حيز الوجود حضارة عصرية جديدة بامتزاج عناصر قديمة وأخرى جديدة . وهمذا يبدأ دور جديد من أدوار التاريخ .

    ثم عندما ترتقي روح هذا الدور الجديد إلى أعلى مدارجها , يظهر من حضنها أيضاً عدوها وتقوم بينهما الحرب حتى يتولد مزيج جديد بامتزاج عناصر من هذا وعناصر من ذاك بعد الأخذ والرد يكون روحاً لدور جديد من الحضارة والمدنية .

    وهذه العملية للارتقاء هي التي يعبر عنها هيجل حسب اصطلاحه بالعملية الجدلية , فكأن عصر التاريخ أو ميدان الدهر قائمة فيه – في نظره – مجادلة منطقية متسلسلة , تقوم أولاً الدعوى ثم يظهر في مقابلها جوابها , وبعد أن يطول بينهما الصراع فإن العقل الكلي أو الروح الكلية تعقد بينهما الصلح أي يجعل منهما مزيجاً بقبول شيء من هذا وشيء من ذاك , وهذا المزيج عندما يتقدم قليلاً يتحول إلى دعوى , ثم يواجه هذه الدعوى جوابها , ثم ينعقد بينهما الصلح بعد الحرب بينهما ويأتي إلى حيز الوجود مزيج جديد , وهلم جرا .

    فالعملية الجدلية يموجب نظرية هيجل هذه , عملية اجتماعية شاملة ومعنى هذا أن الحضارة الإنسانية بكل شعبها وفروعها في كل عصر من عصور التاريخ جسد حي متوحد , أو وجود متكامل , وليس الأفراد والطوائف إلا أعضاء أو أجزاء لهذا الجسد المتوجد , فعلى هذا لا يمكن لفرد من الأفراد ولا طائفة من الطوائف أن تتحرر من الروح الكلية لمدنية عصرها وحضارته , فكل إنسان مهما كان كبيراً ومن ألمع الشخصيات التاريخية وأشهرها ليس في هذه اللعبة الجدلية أو الصراع للبقاء إلا بمثابة قطعة من قطع البيدق في لعبة الشطرنج , فالفكرة المطلقة هي تدفق النهر الجارف هذا لا تزال بنفسها تتقدم في مسير التاريخ في أبهة كأبهة الملوك دون منازع أو مصادم , تعرض الدعوى أولاص , ثم تعرض جوابها , ثم تعقد بينهما الصلح بالتركيب بينهما . ومن أعاجيب العقل الكلي أو الروح الكلية أنه يغر الأفراد ويضللهم بأنهم في هذه المسرحية يلعبون دوراً هاماً , دور الأبطال البارزين , مع ان العقل الكلي هو الذي يستعملهم لذاته في حقيقة الأمر [1] .

    أما كارل ماركس فقد استقى من نظرية هيجل الفلسفية هذه الفكرة العملية الجدلية وفصل عنها تصور الروح أو الفكرة الأمر الذي كان جوهراص لفسفة هيجل , وجعل الأسباب المادية أو المحركات الاقتصادية وحدها هي الأساس لسير التاريخ وتطوره وارتقاءه . وقال إن الأمر الذي له الأهمية الحقيقية في حياة الإنسان إنما هو الاقتصاد وأن النظام الاقتصادي في كل عهد من عهود التاريخ , هو الذي يرسم الصورة الكاملة للمدنية الإنسانية في ذلك العهد . فالقانون الأخلاقي والدين والفلسفة والعلوم والفنون وبالجملة سائر الأفكار والتصورات الإنسانية لا تتشكل إلا بتأثير هذا النظام الاقتصادي .

    أما الوجه الذي تظهر عليه العملية الجديلية أثناء التاريخ عند ماركس فهو أن أي طبقة من الناس عندما تضع يدها على إعداد أسباب الحياة وتهيئتها وتوزيعها وتجعل سائر الطبقات الإنسانية محتاجة إليها متسولة أمامها تحت نظام خاص للاقتصاد , يبدأ القلق والاضطراب يرفع رأسه في الطبقات المستضعفة ويجعلها أخيراً تقوم مطالبة بنظام جديد لتوزيع الثروة الاقتصادية وأسباب الحياة وحقوق الملكية يكون أكثر ملاءمة لمصالحها , مما هو – بكلمات أخرى – جواب لدعوى النظام القديم أو عدوه إنما ينشأ ويكبر في حضنه هو , فهناك يبدأ الصراع وينشب النزاع بينهما , والمجموعة الكاملة لقوانين النظام الحاضر ودينه وأخلاقه ونظرياته لا تؤيد في هذا الصراع إلا النظام القائم في هذت تاعهد من ذي قبل . أما الجهة الأخرى , فإن القوى الناشئة الجديدة , التي إنما تقوم بطالبتها في حقيقة الأمر لتغيير النظام الاقتصادي وأسسه تجد نفسها مضطرة إلى أن ترد هذه المجموعات القديمة للتصورات القانونية والدينية والاجتماعية وترتب بدلاً من منها مجموعة أخرى تكون على وفاق مع نظامها الاقتصادي المنشود . فهذا الصراع الطبقي يبقى قائماً على قدم وساق إلى أن يتبجل النظام الاقتصادي آخر الأمر , وإذا حدث هذا , فلا بد للتصورات القانونية والدينية والأخلاقية والفلسفية القديمة أن تخلي مكانها للتصورات الجديدة .

    هذا هو تفسير ماركس المادي للتاريخ وهو يُعرف عامة بالمادية التاريخية أو المادية الجدلية , فمسألة تهيئة أسباب المعيشة وتوزيعها هي المحور لارتقاء المدنية الإنسانية وما يطرأ على التاريخ الإنساني من تغيرات وتقلبات . وفي نظر ماركس أن هذا المحور هو الذي تدور حوله الحياة الإنسانية . وما القوة المحركة لهذا المحور إلا قوة الصراع الطبقي وليست هناك – عنده – مبادئ أبدية للدين والأخلاق والحضارة الإنسانية تكون حقاً وصدقاً في حد ذاتها , وعلى العكس من هذا يقول ماركس بأن الإنسان يختار أولاً طريقاً تقتضيه مصالحه الذاتية وتشتهيه أغراضه الاقتصادية ثم يختلق ديناً وفلسفة للأخلاق ونظاماً للأفكار والنظريات ليحكم بها هذا الطريق ويسيره بنجاح ويثبت للناس أحقيته , ومما يطابق الفضرة والعقل معاً – في نظر ماركس – أن طبقة من الناس إذا وجدت مصلحتها الاقتصادية في طريق آخر لها أن ترد نظامها الاقتصادي السابق وترد معه ما يقوم عليه من التصورات الدينية والأخلاقية والقانونية والمدنية وتختلق بدلاً منها عقائد ومبادئ جديدة أخرى تلتئم مع مصالجها الاقتصادية , وفوق هذا يقول ماركس أن الصراع للأغراض الذاتية والمادية هو من عين ما تقتضيه الفطرة وأن الطريق الوحيد لارتقاء التاريخ الإنساني أن تتناوع وتتكالب مختلف طبقات الناس فيما بينها لأغراضها ومصالحها الذاتية المادية , لأن الإنسان ما قطع حتى الآن من مراحل التاريخ إلا متخاصماً يتقاتل بعض أفراده مع بعض وأن ليس عليه الآن إلا ان يستمر بقطع مراحل التاريخ بالنسبة للمستقبل هكذا , وإنه إذا كان هناك أساس للاتفاق والمصالحة بين مختلف أفراده فإنما هو اتحادهم على الأغراض الاقتصادية المحضة , فكل من كانوا متحدين بينهم على هذا الأساس , فلا عليهم إذا اجتمعوا بصورة طائفة وقاتلواسائر الناس النختلفين عنهم على هذا الأساس .

    مناقشة هذه الفلسفة
    إننا لسنا نريد في هذا المقال أن نشبع نظريات هيجل وماركس انتقاداً , إنما الذي نريد بيانه هنا , هو أن هذه النظريات قد أخطأت اليوم وجهة نظر أهل العلم كافة في الدين والأخلاق والحضارة والعمران من أساسها وأن الذين قد تأثروا منهم بفلسفة هيجل قد ألقى في روعهم أمران :

    1- أن الحضارة بجملتها في كل عصر من عصور التاريخ وحدة وأن كل ما يوجد في عصر من العصور من الأخلاق والقوانين والدين والعلم والفلسفة والفن والعلائق الدولية , إنما هي في حقيقة الأمر مظاهر مختلفة للطبيعة الاجتماعية أو الروح الكلية لذلك الزمان .

    2- إن أي مدنية من مدنيات الإنسان عندما تدرك وتبلغ ذروة كمالها , فإن مجموعة جديدة من الميول والنظريات والتصورات تبرز إلى الوجود من داخل نفس تلك المدنية وتشرع في محاربة الأفكار والنظريات القديمة إلى أن تخرج إلى حيز الوجود مدنية جديدة يبقى فيها كل ما في المدنية القديمة من العناصر الصالحة وتحل مكان العناصر غير الصالح عناصر ثمينة من الأفكار والميول والنظريات الجديدة , وهكذا فإن مختلف المدنيات التي مازالت ولا تزال تظهر إلى الوجود تكون أصلح وأفضل من سابقاتها لأنها تحوز في نفسها كل ما في هذه المدنيات السابقة من العناصر الصالحة , ومع هذا تضيف إلى هذه العناصر عناصر ثمينة أخرى من الأفكار والنظريات الجديدة .


    من الظاهر أن أحداً إذا رسخت في ذهنه هاتان الفكرتان , فمن المحال ان يكون أو يبقى مؤمناً بتعليم قد مضى عليه غير واحد من القرون . ولا بد على هذا أنك كلما ذكرت له ابراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم , قال (( كل واحد من هؤلاء وليد زمانه وجواباً لدعوى المدنية السائدة في ذلك الزمان مما قد أصبح بعده جزءاً لمدنية مزيجة إلا بعد أن جرى عليه ما جرى من فترة الصراع والأخذ والرد , وكم من جواب قدم لكم من دعوى بعده مازالت المدنية الإنسانية تجتاز بعده مراحل التقدم والرقي حتى بلغت الزمان الذي نعيش فيه , إننا نجل هؤلاء الأفراد ونعترف بما يستحقون من الفضل والتقدير من حيث ما قاموا به لترقية المدنية الإنسانية وازدهارها في عهودهم , ولكن لا يصح البتة أن نرجع القهقرى ونجابه دعوى المدنية الحاضرة بجواب قديم قد أكل عليه الدهر وشرب )) .

    إن أتباع ماركس مشتركون مع أتباع هيجل في هاتين الفكرتين . ومع هذا فقد استولت على أذهانهم فكرة ثالثة هي أنهم لا يرون كل ما يوجد في عصر خاص من عصور التاريخ من الأفكار والتصورات الدينية والخلقية والقانونية إلا متولداً من النظام الاقتصادي السائد في ذلك العصر ويقولون إن هذه التصورات والمبادئ والقوانين ما وضعت إلا لحماية وحفظ النظام الاقتصادي الرائج في ذلك الزمان . فالنتيجة المنطقية اللازمة لعقيدتهم هذه أنه كلما تبدل طريق لتهيئة وتوزيع أسباب المعيشة للإنسان , فلا بد أن يتبدل مع هذا كل شيء من الدين والأخلاق والقانون , لأنها ما كانت تساير إلا النظام الاقتصادي القديم ولا تستطيع أن تساير روح النظام الجديد .

    فهل لأحد أن يدّعي أن من كان يعتقد بنظرية ماركس هذه , يستطيع أن يكون – في الوقت ذاته – مؤمناً بتعليم ديني أو شريعة أو نظام خلقي تكون مضت عليه عدة قرون من الزمان ؟ .

    وقد نشر أحد الشيوعيين مقالاً عنوانه (( أي شيء لا تجده في الشيوعية ؟ )) حاول أن يثبت به أن لا تناقض هناك بين الشيوعية والإسلام . ولربما يكون رجال آخرون من أمثاله يقولون بصحة هذه الفكرة , فإني أطلب منهم أن يدرسوا أولاً تفسير ماركس المادي للتاريخ ونتائجه المنطقية ثم يتفكروا أي مجال لمن يبقى يعترف بصحة هذه الفكرة للقول بأنه مسلم ؟ لا ريب أنه من حق كل شحص أن يختار ما يشاء من عقيدة , فهم إن كانوا يعتقدون بصحة نظرية ماركس , فلهم أن يختاروها , ولكن من الواجب عليهم مع ذلك أن يكونوا على بينة من الأمر الواقع . إنهم إن كانوا يدعون أتباعهم للعقيدة الدينية ويقولون مع هذا إنهم معتقدون بضدها , فإن ذلك إن كان يدل على شيء فإنما يدل على ارتباك في أذهانهم , مما يدعو إلى الأسف ويبعث على الأسى .

    لقد حاول كل من هيجل وماركس أن يدرك الحقيقة ولكنه فشل في إدراكها فشلاً ذريعاً . إن كل واحد وجد جانباً من الحقيقة فحاول أن يؤكد أنه الحقيقة التامة , حتى كان من نتيجة ذلك أن وقع في خطل الرأي وترك غيره كذلك يتخبطون في مجاهل الخطأ خبط عشواء .

    إذا كان هناك شيء صحيح في فلسفة هيجل للتاريخ , فإنما هو أن ارتقاء المدنية الإنسانية أثناء التاريخ ما زال يحصل بصورة الحرب بين الأضداد أولاً ثم التصالح بينهما بعده , إلا أن هليجل مزج هذه الفكرة الصحيحة بأفكار خاطئة كثيرة حتى أقام بناء نظرية لا تقوم أكثر أعمدتها إلا في الفضاء .

    إن قول هيجل بأن الله روح العالم وأن الله إنما يجعل الإنسان أداء لاستكمال ذاته , وأن تاريخ ارتقاء المدنية الإنسانية إنما هو تاريخ ارتقاء الله نفسه إلى منتهى كماله , فما كل هذا إلا آراء سخيفة ليس في السماء ولا في الأرض ما يثبت صحتها ثبوتاً يرتاح إليه القلب وتطمئن إليه النفس .

    ثم إن قوله بأن الإنسان في مسرح التاريخ إنما هو ممثل لا شعور له ولا اختيار ولا إرادة وأن الله هو الذي يعوض الأفكار المتعارضة بوساطة الناس ويجعلهم يقتتلون بعضهم مع بعض ثم يعقد بينهم الصلح ويحدث فيهم صوراً جديدة للفكر والخيال , فهذا أيضاً قياس فاسد لا أساس له من الصحة ولا تؤيده حقيقة علمية .

    فهذه أخطاء هيجل الأساسية قد جعلت فلسفته للتاريخ لغزاً من الألغاز ثم إننا إذا نظرنا في نظريته للجدل التاريخي , وجدنا أن هذه النظرية وإن كانت فيها لمحة من الصدق والحقيقة , إلا أن عنصر القياس والتخمين فيها أكثر بكثير من عنصر الاستشهاد بوقائع التاريخ . إن هيجل ما حاد عن جادة الصواب إلى حد قوله بأن الحرب مازالت قائمة بين الأفكار المتضادة أثناء التاريخ وأن الصلح مازال يحصل بينهما – كذلك – بصورة مزيج , إلا أنه لم يكرس جهده ليغور في المسألة ويعرف ما هي نوعية الأضداد التي تحصل بينها الحرب في الحقيقة , ملماذا ينعقد الصلح بينها آخر الأمر , ولماذا أن المزيج الذي يأتي إلى الوجود بهذا الصلح , يتولد في حضنه عدوه بعد ذلك , فبدلاً من أن يدرس هيجل هذه العملية الجدلية دراسة وافية تحليلية اكتفى بأن ألقى عليها نظرة عابرة كما يلقي الطائر نظره على مدينة أثناء طيرانه فوقها .

    أما ماركس , فلم يكتب له مثل ذلك التعمق في النظر والتحقيق , الذي كتب لهيجل . إنه لا يحاول أصلاً أن يعرف ويفهم فطرة الإنسان وبنيته وتركيبه فهو – لذلك – إنما ينظر فيه إلى الحيوان الخارجي الذي تمسه الحاجة إلى أسباب المعيشة , ولا ينظر أبداً إلى الإنسان الداخلي الذي يعيش في داخل غلاف هذا الحيوان الخارجي , والذي كان الحيوان الخارجي له آلة من آلات العمل , كما أن مقتضيات فطرته مختلفة عن مقتضيات فطرة الحيوان الخارجي . إن قصور نظر ماركس وقلة فهم لحقيقة الإنسان خطأت عليه كل نظرياته العمرانية فظن أن الإنسان الداخلي إنما هو تابع أو خادم بل عبد للحيوان الخارجي , وأن كل ما أوتي من قوى العقل والاستدلال والفكر والبحث والمشاهدة والوجدان والتحقيق والاختراع , إنما هو لخدمة الحيوان الخارجي وتحقيق شهواته وطالبه وأغراضه , ولهذا فإن غاية ما قد قام به الإنسان الداخلي حتى الآن أو سيقوم به أو يستطيع أن يقوم به في المستقبل , إنما هو – على حسب قول ماركس – أن يضع مبادئ للأخلاق والقانون ويخترع تصورات للدين ويعين لنفسه طريقاً للحياة وفقاً لأهواء الحيوان الخارجي !! ما أتعس هذه الفكرة لحقيقة الإنسان ! وما أبشع هذا التصور للمدنية الإنسانية .

    إننا لا نشك أن أحاسيس الحيوان الخارجي ومطالبه كثيراً ما تؤثر في قوة إرادة الإنسان الداخلي وأن هناك كثيراً من الناس تغلب عليهم حيوانيتهم , ولكن ما أخطأ قمرة ماركس القائلة بأن الإنسان الداخلي لا يؤثر في الحيوان الخارجي تأثيراً فعالاً , وما أخطأ دراسته لتاريخ الحضارة الإنسانية حتى أنه لا يراها مبنية إلا على أيدي أولئك الذين كانت لهم إنسانيتهم تابعة لحيوانيتهم , ومع انه لو كان نظر بعين حرة , لوجد أن كل ما هو ثمين وصالح وجدير بالتقدير والاحترام من عناصر المدنية الإنسانية , إنما هو منحة من أولئك الذين جعلوا حيوانيتهم تابعة لإنسانيتهم وأثروا بشخصيتهم القوية في أغلبية ساحقة من أفراد البشر المتصفين بالصفات الحيوانية فأدخلوا في حياتهم مبادئ دائمة للحضارة و التهذيب والشرف والأخلاق والروحانية والعدل والإنصاف .

    ولو أن هيجل وماركس قرآ القرآن , لما لقيا في فهم حقيقة الإنسان وإدراك القانون الأساسي لارتقاء المدنية الإنسانية من الفشل والحيرة مثل ما لقيا بظنهما وتخمينهما , لأن علم الإنسان وفلسفة التاريخ الموجودين في القرآن يحلان بأحسن طريق وأقومه جميع تلك المسائل والمشاكل التي قد ارتبكا فيها مع أمثالهما من مفكري الغرب وفلاسفته .

    وبموجب بيان القرآن ليس الإنسان عبارة عن الوجود الحيواني الذي هو محل الجوع والشهوة والطمع والخوف والغضب وما إليها , وإنما هو عبارة عن ذلك الوجود المعنوي الذي يعيش في داخل الغلاف الحيواني وهو محل الأحكام الأخلاقية وما هو – كالحيوانات الأخرى – مجرد عبد للجبلة , وإنما أوتي قوى مختلفة من العقل والتمييز واكتساب العلم والأي والفكر , وهكذا أوتي الاستقلال إلى حد نا . إن الطبيعة لا تسيره كالحيوانات الأخرى على طريق معين ولا تتكفل له بجميع حاجاته بنفسها , وإنما قد أعطاه الله قوة السعي والجهد وتركه في الدنيا بحيث لا ينال إلا بسعيه ولا يختار الجهة أو الطريق لبذل سعيه وجهده إلا على مشيئته فيتقدم على طريقه المختار إلى حيث يستطيع . فالروح الحاملة لهذا الاستقلال , الحائزة لقوة السعي والجهد , هي المختارة لجهة هذا السعي والجهد على مشيئتها وإرادتها , هي الإنسان في نظر القرآن .

    أما الحيوان الخارجي , فإنما أعطي الإنسان الداخلي ليستعبده ويستذله لخدمته . وهذا الخادم إنما هو جاهل ليس عنده إلا الأهواء , وشهوات النفس ومطالب الجسد وما نصب عينه إلا أن يحصل على رغباته ويحقق حاجاته , فهو بدلاً من أن يخدم الإنسان الداخلي , يريد أن يطغى عليه ويستخدمه ويكرهه على أن يكون مجرد آلة لتحقيق مطالبه ورغباته الحيوانية ويجعل فكره إلى تحت بدلاً من أن يرتفع إلى فوق , ويجعله ضيّق النظر ويبذل السعي ليجعله يعبد الحسوسات ويربي في نفسه العصبيات الجاهلية .

    وعلى العكس من هذا فإن الإنسان الداخلي تستدعيه فطرته أن يسخر لنفسه الحيوان الخارجي , وقد ألهمه الله علم الفجور والتقوى وأعطاه الكفاءة للتمييز بين طريق الخير والشر ( وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ) وجعل فيه حساً خلقياً يستدعيه من الداخل أن لا يحقق حتى حاجاته الحيوانية إلا بطريق يناسب إنسانيته لا كما تحققها الحيوانات ولذا فإنه بنفسه يستحيي أن يميل إلى الطرق الحيوانية ويترفع بنفسه عن المقاصد الحيوانية ويريد دائماً أن يكون وجوداً من الدرجة العليا , ويوجد – بسائق وجدانه – الطلب لأن تكون حياته لغاية عليا ومقصد إنساني كبير .

    وعلى هذا ليست الحياة الإنسانية من أولها إلى آخرها إلا ساحة للحرب القائمة بين الإنسان الداخلي والحيوان الخارجي , فالحيوان الخارجي يجر الإنسان الداخلي إلى الأسفل وبعد أن يجعله تابعاً لنفسه يشق لسلوكه طرقاً معوجة فيها الظلم والعدوان والفحشاء والمنكر والاثم والبغي واتباع شهوات النفس ولذائذها والإخلال بالروابط الإنسانية . أما الإنسان الداخلي فلا يرضى لنفسه بهذا اللون من الذل فيخرج على الحيوان الخارجي إلا أنه أثناء محاولته لتسخر الحيوان الخارجي واستذلاله قد يميل إلى طرق معوجة أخرى فيها الرهبانية والرغبة عن الدنيا واضطهاد النفس والانحراف عن الحاجات الفطرية والفرار عن تبعات الحياة الاجتماعية , فهناك من يتمرد على الحيوان الخارجي مرة أخرى ويجره إلى طرق معوجة .

    فهاتان القوتان للإفراط والتفريط تثور كل واحدة منهما على الأخرى مرة بعد أخرى وبتأثير كل واحدة منهما في الأخرى ينشأ في الدنيا من النظريات والمبادئ والمناهج العملية ما يحوز في نفسه عناصر للحق وعناصر للباطل , والإنسان يجرب هذه المبادئ والنظريات والمناهج العملية إلى مدة من الزمان وأخيراً فإن غطرته الحقيقية التي تحن دائماً إلى الصراط المستقيم , ترغب عن الطرق المعوجة وتبدي عليها سخطها و تنبذ ما فيها من العناصر الباطلة حتى لا يبقى منها في الحياة الإنسانية إلا الحق والصدق , ( فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ ) , ولكن ما أن تفشل مجموعة للإفراط والتفريط حتى أن تأتي إلى الميدان مجموعة أخرى وتستعر الحرب مرة أخرى بين الإفراط والتفريط – كما هما في هذه المجموعة الجديدة – إلى مدة من الزمان , ثم ترد الفطرة الإنسانية هذه المجموعة أيضاً لنفس تلك الأسباب التي كانت لأجلها ردت المجموعة السابقة للحق والباطل من قبل .

    فهكذا إن ارتقاء الحضارة الإنسانية أثناء التاريخ إنما يظهر بصورة خط منحنِ يلتقي مع الخط المستقيم ويقطعه مرة أخرى على حسب ما هو ظاهر بالرسم الآتي :

    ففي هذا الرسم الخط أب هو الطريق الفطري للحياة الإنسانية , الذي يعبر عنه القرآن بكلمات الصراط المستقيم والرشد والهدى وسواء السبيل وسبيل الرب وما إليها . لقد كانت الإنسانية على فطرتها في بدء الأمر (كان الناس أمة واحدة) ثم ظهرت في الناس ميول إلى تعدي حدودهم المشروعة فهذه الميول ما زالت تحيد بالإنسان بعيداً عن الصراط المستقيم الفطري مرة بعد أخرى , ولكن في كل مرة نرى أن مرارة التجارب وقلق الفطرة الإنسانية مازالا يجبرانه على الرجوع إلى طريق الفطرة ولكن الإنسان ما كان يرجع إلى طريق الفطرة إلا ليبتعد عنه مرة أخرى إلى الجهة المعاكسة للجهة الأولى ثم يجد نفسه مرة أخرى مضطراً إلى الرجوع إلى طريق الفطرة .

    فالذي يعبر عنه هيجل بالدعوى وجوابها , هي الميول المتطرفة التي تجر الإنسان إلى هذا الجانب من الخط المستقيم مرة وإلى الجانب المعاكس له مرة أخرى وإن الذي يعبر عنه بالتركيب والمزج , إنما هو النقط التي يلتقي عليها الخط المنحني مع الخط المستقيم ويقطعه .

    إن هجل وماركس وجدا في التاريخ هذا الخط المستقيم , ولكنهما ما استطاعا أن ينظرا إلى ذلك الخط المستقيم الذي هو مرسوم من الأزل إلى الأبد والذي تتقاضاه فطرة الإنسان من داخله , وإن وجوده في داخل هذه الطربق المعوجة حقيقة يشهد بها قلب كل إنسان متفكر وهو مفطور على القلق للبحث عنه .

    والأنبياء عليهم السلام هم أولئك الذين كانوا يعرفون هذا الصراط المستقيم , فقد دعوا الناس , إلى هذا الصراط الوسط وأقاموا عليه المدنية الإنسانية فعلاً .

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
    [1]إن ذات الله هي التي يعبر عنها هيجل بالعقل أو الروح الكلية أو الروح المطلقة أو الفكرة المطلقة وما إليها من الكلمات الأخرى في حقيقة الأمر , فعنده أن الروح الكلية أي الذات الإلهية هي التي ترتقي بصورة ارتقاء الدنية أو الحضارة الإنسانية وأن الله هو الذي يظهر نفسه بنفسه وراء هذا الحجاب ويكدح ويكد لترقية ذاته ويتقدم في مسير التاريخ . وأما الإنسان المسكين إنما يستعمل كمظهر خارجي أو أداة ظاهرة للتنفيذ .
    التعديل الأخير تم 04-22-2006 الساعة 12:39 AM
    { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } [فصلت-44]

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. مدخل الى فلسفة العلوم
    بواسطة نور الدين الدمشقي في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 04-08-2013, 01:08 AM
  2. فلسفة خبر الآحاد
    بواسطة تقي الدين أحمد في المنتدى قسم السنة وعلومها
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 12-27-2012, 11:04 PM
  3. العقل والعلم يفندان داروين وماركس
    بواسطة ناصر التوحيد في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 10-28-2007, 10:11 PM
  4. على هامش التفسير المادي للتاريخ الإسلامي
    بواسطة الأسمر في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 04-22-2006, 10:09 PM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء