قال رب العزة والجلال : " الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلي النور , والذين كفروا أوليائهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلي الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " سورة البقرة 257
كثيرا ما نمر علي هذه الآية مرور الكرام الأعزة , والحقيقة أن الآية متضمنة لمعني قريب جميل يطمئن العبد , ومعني بعيد يمثل مؤشر خطير ومهم جدا :
فالمعني القريب : هو أن العبد يمكن أن يكون مؤمنا وفيه شعب كثيرة من الظلمات والآثام , بل إن المؤمن لابد له من ذنب يقترفه بين الفينة والأخري كما قال صلي الله عليه وسلم : " ما من مؤمن إلا و له ذنب ، يعتاده الفينة بعد الفينة ، أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه ، حتى يفارق الدنيا ، إن المؤمن خلق مفتنا ، توابا ، نسيا ، إذا ذكر ذكر " (الحديث في السلسلة الصحيحة ), وقال :" لولا أنّكم تذنبون لخلق الله خلقاً يذنبون فيغفر الله لهم", وكما يقول إبن تيمية :" فالعبد قد يجتمع فيه ,إيمان وكفر , وإخلاص ونفاق , فإيها كان أغلب كان حال العبد أقرب إليه " أو كما قال .
والمعني البعيد (وهو المهم هنا ) : أن الله عرف الإيمان بلازم من لوازمه ألا وهو " الخروج من الظلمات إلي النور " ومعلوم أن التعريف عند المناطقة ينقسم إلي ثلاث :-
1-التعريف اللفظي : وهو تعريف اللفظ بلفظ اخر مرادف له معلوم عند المخاطب , ومرادف الشئ هو في الحقيقة خاصة من خواصه كتعريف القسورة بأنه الأسد
2- التعريف بالمثال : وهو تعريف الشئ بذكر شئ من أمثلته ومثال الشئ في الحقيقة خاصة من خواصه كتعريف الأسم بأنه ما أشبه لفظ زيد ورجل
3- التعريف بالتقسيم : وهو تعريف الشئ بذكر الأقسام التي ينقسم إليها ومعلوم أن اقسام الشئ خاصة من خواصه
يتفرع من هذه التقسيمات تقسيم لايعتبر تعريفا كاملا للجواهر أو الأعراض لكنه مستأنس به وهو التعريف بلازم الشئ وهو أن تعرف الشئ بلازم وجوده وهو خاصه من خواص المعرف .
فبالتالي يصبح الإيمان عبارة عن عملية معالجة طويلة المدي وصفها الدائم أنها تنتقل من حسن إلي الأحسن , والعكس بالعكس فالكفر كذلك عملية تتدرج في النزول والسفول من السئ إلي الأسوء , وبين الحدين درجات متفاوتة تختلف بحسب حال العبد فهو تارة للإيمان أقرب وتارة للكفر أقرب ومما يعضد هذا المعني قول الله تعالي في سورة العنكبوت : " اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) " ومعلوم أن الصلاة داخلت في مسمي الإيمان بل هي من كل العبادات سماها الله تبارك وتعالي إيمانا فقال عز من قائل في سورة البقرة : " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) " فأنظر كيف سمي الله الصلاة إيمانا , ثم أنظر كيف جعل الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر إي تقود العبد الصالح المتخلق بها القائم بأركانها علي أكمل الوجوه من الحسن إلي الأحسن . وآية أخري تتدل علي هذا المعني هي قول الله تبارك وتعالي في سورة النساء : " وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) " فالفعل المدعو لتخلق به هو إلتزام طاعة الله ورسوله , ثم جعل تبارك وتعالي أجر هذا الفعل أمرين إثنين الأول : الأجر العظيم , والثاني : الهداية للصراط المستقيم ويفهم منها الزيادة في الهداية إذا أن ذات الطاعة لله ورسوله من الهداية ومن الصراط المستقيم فلم يقل الله تعالي : " ولثبتناهم علي الصراط المستقيم " وإنما قال هديناهم صراط مستقيما للدلالة علي زيادة الهداية والإستقامة . ثم أكد هذا الثواب بأن جعل المطيع لله ولرسوله من داخل في المنعم عليهم من قبل الله تعالي " مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ " ومعلوم أن الصفة المشتركة لكل هؤلاء هي القدر العالي من الإيمان بالله والتوكل عليه , فثبت بذلك أن الإيمان سبب للأجر وسبب للهداية لما هو خير وأحسن سبيلا . وقول الله تعالي في سورة مريم وهو يحكي النقاش الذي دار بين الكفار وبين المؤمنين عند تلاوة آيات الله : " وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) " فجاء قوله : " وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى " في مقابل حال الكفار : " قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا" فدل بذلك أن الزيادة تعود للطائفة المذكورة في مقابلة أهل الكفر في أول الآيات ألا وهم أهل الإيمان والتوحيد .
السؤال هنا : أين تضع نفسك بين هذين الحدين ؟؟ لنأخذ علي سبيل المثال السنتين الماضيتين من عمرك هل علاقتك مع الله في تحسن أم تسوء شهرا بعد شهرا ؟؟ هل كنت مداوم علي طاعات ثم تركتها أم أنك تزداد في الطاعات القلبية والعملية ؟؟
أنت أعلم الناس بنفسك , وأي مداهنة أو كذب علي النفس لن يعود بالضرر إلا عليك . وأعلم أن أول خطوة في التغيير هو أن تعرف المشكلة وتقدرها حتي تعالجها وكما يقال: " فشرط الإجتياز , هو الإستيعاب " , بعني إذا أردت أن تغيير وتجتاز واقعك الحالي , فلابد لك من أن تستوعبه وتفهمه .
# وفي الآية رد واضح وصريح علي منهج الخوارج في تكفير مرتكب الكبيرة , لم أقف علي من أستدل بها من قبل في هذا الأمر , وذلك أن الله تعالي قد عمم هداية الذين آمنوا ونقلهم من الظلمات إلي النور بكل المؤمنين وكل الظلمات (المعاصي ) وخرج الكفر من تلك الظلمات التي يمكن أن أن يكون المؤمن متلبس بها وهو محتفظ بمسمي الإيمان للآيات المتواتر القاطعة في هذا الأمر وما دام أن لفظ الظلمات هنا عام ولم يوجد ما يخصصه فهو شامل لكل ما يمكن أن يعصي به الله تعالي مما هو دون الكفر أو الشرك ,ومصداق ذلك قول النبي صلي الله عليه وسلم في الحديث الذي أوردته إبن حبان في صحيحه وصححه الألباني رحمه الله عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُحْشَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ، وَلَا التَّفَحُّشَ، وَإِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الشُّحُّ، أَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ، فَقَطَعُوا أَرْحَامَهُمْ، وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ، فَفَجَرُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ، فَبَخِلُوا»، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «أَنْ يَسْلَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِكَ، وَيَدِكَ»، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ، قَالَ: «أَنْ تَهْجُرَ مَا كَرِهَ رَبُّكَ»، قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْهِجْرَةُ هِجْرَتَانِ، هِجْرَةُ الْحَاضِرِ، وَهِجْرَةُ الْبَادِي، أَمَّا الْبَادِي، فَيُجِيبُ إِذَا دُعِيَ، وَيُطِيعُ إِذَا أُمِرَ، وَأَمَّا الْحَاضِرُ، فَهُوَ أَعْظَمُهُمَا بَلِيَّةً، وَأَعْظَمُهُمَا أَجْرًا» , ومعلوم أن الظلم يشمل هنا أكل أموال الناس بالباطل , وقول الزور , وشهادة الزور وغير ذلك من الأمور المتفق علي أنها من الكبائر . فأنظر في التعريف السابق للإيمان بشقيه , وأنظر كيف سمي العبد مؤمنا وهو ما زال متلبس ببعض الظلمات التي يدخل فيها الكبائر لتعلم أن القول بكفر مرتب الكبيرة قول باطل لا دليل له من الصحة . ومما يعضد هذا المعني من أقوال المفسرين ما ورد في جامع البيان في تفسير القرآن في تفسير الآية : " (الله وَلِيُّ الذِينَ آمَنُوا): ناصرهم، ومتولي أمورهم، (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ): الجهل، وهو أجناس كثيرة، (إِلَى النُّورِ): الهدى والعلم، وهو واحد، والجملة خبر بعد خبر أو حال، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ): الشياطين يتولون أمورهم ويزينون الجهل لهم، (يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ): الفطري، أو لما كان سببًا لعدم إيمانهم كأنه أخرجهم، (إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)، وعيد وتحذير " . فتأمل كيف قال عن الظلمات : هو الجهل وهو أجناس كثير .
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والعصيان وجعلنا اللهم من الراشدين .