قد تعرض شيخ الاسلام رحمه الله في جوابه الصحيح لمن بدل دين المسيح , للحديث عن القرآن واعجازه , ونثر درراً ينبغي الوقوف عندها واستظهار مراميها .
حيث أشار رحمه الى أن " نفس نظم القرآن وأسلوبه عجيب بديع ليس من جنس أساليب الكلام المعروفة ولم يأت أحد بنظير هذا الأسلوب فإنه ليس من جنس الشعر ولا الرجز ولا الخطابة ولا الرسائل ولا نظمه نظم شيء من كلام الناس عربهم وعجمهم ونفس فصاحة القرآن وبلاغته هذا عجيب خارق للعادة ليس له نظير في كلام جميع الخلق وبسط هذا وتفصيله طويل يعرفه من له نظر وتدبر ونفس ما اخبر به القرآن في باب توحيد الله وأسمائه وصفاته أمر عجيب خارق للعادة لم يوجد مثل ذلك في كلام بشر لا نبي ولا غير نبي. وكذلك ما أخبر به عن الملائكة والعرش والكرسي والجن وخلق آدم وغير ذلك ونفس ما أمر به القرآن من الدين والشرائع كذلك ونفس ما أخبر به من الأمثال وبينه من الدلائل هو أيضا كذلك, ومن تدبر ما صنفه جميع العقلاء في العلوم الإلهية والخلقية والسياسية وجد بينه وبين ما جاء في الكتب الإلهية التوراة والإنجيل والزبور وصحف الأنبياء وجد بين ذلك وبين القرآن من التفاوت أعظم مما بين لفظه ونظمه وبين سائر ألفاظ العرب ونظمهم ,فالإعجاز في معناه أعظم وأكثر من الإعجاز في لفظه وجميع عقلاء الأمم عاجزون عن الإتيان بمثل معانيه أعظم من عجز العرب عن الإتيان بمثل لفظه... "

وقال رحمه الله " و قوله -تعالى - "فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا " ولن لنفي المستقبل فثبت الخبر أنهم فيما يستقبل من الزمان لا يأتون بسورة من مثله كما أخبر قبل ذلك وأمره أن يقول في سورة سبحان وهي سورة مكية افتتحها بذكر الإسراء وهو كان بمكة بنص القرآن والخبر المتواتر وذكر فيها من مخاطبته للكفار بمكة ما يبين بذلك بقوله: " قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً " فعم بالخبر جميع الخلق معجزا لهم قاطعا بأنهم إذا اجتمعوا كلهم لا يأتون بمثل هذا القرآن ولو تظاهروا وتعاونوا على ذلك وهذا التحدي والدعاء هو لجميع الخلق وهذا قد سمعه كل من سمع القرآن وعرفه الخاص والعام وعلم مع ذلك أنهم لم يعارضوه ولا أتوا بسورة مثله ومن حين بعث وإلى اليوم الأمر على ذلك مع ما علم من أن الخلق كلهم كانوا كفارا قبل أن يبعث ولما بعث إنما تبعه قليل.

وكان الكفار من أحرص الناس على إبطال قوله مجتهدين بكل طريق يمكن تارة يذهبون إلى أهل الكتاب فيسئلونهم عن أمور من الغيب حتى يسألوه عنها كما سألوه عن قصة يوسف وأهل الكهف وذي القرنين كما تقدم وتارة يجتمعون في مجمع بعد مجمع على ما يقولونه فيه وصاروا يضربون له الأمثال فيشبهونه بمن ليس مثله لمجرد شبه ما مع ظهور الفرق فتارة يقولون مجنون وتارة يقولون ساحر وتارة يقولون كاهن وتارة يقولون شاعر إلى أمثال ذلك من الأقوال التي يعلمون هم وكل عاقل سمعها أنها افتراء عليه.
فإذا كان قد تحداهم بالمعارضة مرة بعد مرة وهي تبطل دعوته فمعلوم أنهم لو كانوا قادرين عليها لفعلوها فإنه مع وجود هذا الداعي التام المؤكد إذا كانت القدرة حاصلة وجب وجود المقدور ثم هكذا القول في سائر أهل الأرض. فهذا القدر يوجب علما بينا لكل أحد بعجز جميع أهل الأرض عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن بحيلة وبغير حيلة وهذا أبلغ من الآيات التي يكرر جنسها كإحياء الموتى فإن هذا لم يأت أحد بنظيره وكون القرآن أنه معجزة ليس هو من جهة فصاحته وبلاغته فقط أو نظمه وأسلوبه فقط ولا من جهة إخباره بالغيب فقط ولا من جهة صرف الدواعي عن معارضته فقط ولا من جهة سلب قدرتهم على معارضته فقط بل هو آية بينة معجزة من وجوه متعددة من جهة اللفظ ومن جهة النظم ومن جهة البلاغة في دلالة اللفظ على المعنى ومن جهة معانيه التي أخبر بها عن الله تعالى وأسمائه وصفاته وملائكته وغير ذلك.
ومن جهة معانيه التي أخبر بها عن الغيب الماضي وعن الغيب المستقبل ومن جهة ما أخبر به عن المعاد ومن جهة ما بين فيه من الدلائل اليقينية والأقيسة العقلية التي هي الأمثال المضروبة كما قال تعالى: " وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً ".
وقال تعالى: " وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً".
وقال: "وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ".
وكل ما ذكره الناس من الوجوه في إعجاز القرآن هو حجة على إعجازه !ولا تناقض في ذلك بل كل قوم تنبهوا لما تنبهوا له..."

وكان مما لا بُد منه ,ذكر ضوابط لمثل هذه الاشارات للناس حتى لا يُخرج القرآن عن مضمونه وما أُنزل لأجله ! مع تنبيهات لما تُنبه له , في الفصل بين الاعجاز الحقيقي وضده , وبين النكت واللطائف .والمقصود بالإعجاز العلمي هو ما يعرفه الشيح الحمد -حفظه الله- في التقريب لتفسير التحرير والتنوير وتسليط الضوء على منهج ابن عاشور في تفسير العجيب حيث يقول " هي الحقائقُ العلمية التي كشف عنها العلم، ووافقت أحدث ما انتهى إليه الكشف العلمي في هذا العصر مع كونها مجهولة في عصر النبوة وما بعده لقرون عديدة. والشيخ ابن عاشور -كما يقول الدكتور بلقاسم الغالي- : حين يأخذ بهذا اللون من الإعجاز إنما يأخذ به في اعتدال فهو يخالف الشاطبي الذي يرى (أن الشريعة أمية ليس فيها من علوم المتقدمين والمتأخرين شيء؛ لذلك لا ينبغي تناول آيات القرآن من وجهة نظر العلوم الحكمية بجميع أنواعها).وهو يخالف المغالين الذين أسرفوا في تأويل آيات إلى حد التكلف والمجافاة للفظ القرآن وسياقه، ولم يخرج الألفاظ والتراكيب عند مدلولاتها اللغوية، ولم يحمل النصوص ما لا تحتمل".

وقد تعرض الشيخ ابن عاشور في تفسيره لمسائل في الإعجاز العلمي، ونص على هذه التسمية في مواضع عديدة كما في المقدمة العاشرة من تفسيره، وكما في تفسيره لقوله تعالى: [أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً..] الأنبياء:30., وكما في تفسيره لقوله تعالى: [خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ] العلق.
ولقد أوغل الشيخ ابن عاشور في هذا الباب برفق؛ حيث لم يكن ممن أنكروا ذلك، ولم يكن -أيضاً- ممن أغرق في النظريات العلمية، واسترسل مع دقائقها؛ فلعل هذا هو المنهج الراشد في هذه المسألة."

وما اشار إليه ابو العباس في قوله " ولا تناقض في ذلك ,بل كل قوم تنبهوا لما تنبهوا له " أي : بحدود ما رمت اليه المعاني المتفق عليها في هذه المكتشفات العلمية فهي فيما أجمعوا عليه من اللفظ والمعنى دائرة , وعلى نسق السلف سائرة , وتكون في حيزة المسكوت عنه , أو فيما اختلفوا فيه , فتكون تريجيحاً لأحد أقوالهم في المسألة.

وفي فلك هذا المعنى يقول د. محمد ابراهيم دودح " لقد ادخر القرآن الكريم كثيراً من الآيات للأجيال في عبارات معلومة الألفاظ، لكن الكيفيات والحقائق لا تتجلى إلا حيناً بعد حين، يقول -تعالى-: "إن هو إلا ذكر للعالمين ولتعلمن نبأه بعد حين" [ص:87 - 88]، وقد فسر الطبري معنى الحين بقوله: (فلا قول فيه أصح من أن يطلق كما أطلقه الله من غير حصر ذلك على وقت دون وقت) انظر تفسير الطبري(23/21) فلكل نبأ في القرآن زمن يتحقق فيه، فإذا تجلى الحديث ماثلاً للعيان أشرقت المعاني وتطابقت دلالات الألفاظ والتراكيب مع الحقائق، وهكذا تتجدد معجزة القرآن على طول الزمان، يقول العلي القدير: "وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل لكل نبأٍ مستقر وسوف تعلمون" [الأنعام: 66-67]، ونقل ابن كثير عن ابن عباس - رضي الله عنهما- تفسيره للمستقر بقوله: "لكل نبأ حقيقة أي لكل خبر وقوع ولو بعد حين"، وقد تردد هذا الوعد كثيراً في القرآن الكريم بأساليب متعددة كما في قوله -تعالى-: "ثم إن علينا بيانه" [القيامة: 19]، وقوله: "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق" [فصلت: 53] وقوله: "وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها" [النمل: 93]، قال ابن حجر: (ومعجزة القرآن مستمرة إلى يوم القيامة وخرقه للعادة في أسلوبه وفي بلاغته وإخباره بالمغيبات فلا يمر عصر من العصور إلا ويظهر فيه شيء مما أخبر به أنه سيكون يدل على صحة دعواه) فتح الباري(9/7)، قال محمد رشيد رضا: (ومن دلائل إعجاز القرآن أنه يبين الحقائق التي لم يكن يعرفها أحد من المخاطبين بها في زمن تنزيله بعبارة لا يتحيرون في فهمها والاستفادة منها مجملة وإن كان فهم ما وراءها من التفصيل الذي يعلمه ولا يعلمونه يتوقف على ترقي البشر في العلوم والفنون الخاصة بذلك)، وقال جوهري: (أما قولك كيف عميت هذه الحقائق على كثير من أسلافنا؟، فاعلم أن الله هو الذي قال: "سأريكم آياتي فلا تستعجلون"[الأنبياء: 37]، وقال: "وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها"[النمل: 93]، إن الله لا يخلق الأمور إلا في أوقاتها المناسبة وهذا الزمان هو أنسب الأزمنة،والمدار على الفهم، والفهم في كل زمان بحسبه، وهذا زمان انكشاف بعض الحقائق) تفسير الجواهر(8/30-10/65)

وفي قوله -تعالى-: "سأريكم آياتي فلا تستعجلون" [الأنبياء: 37]، قال ابن عاشور: (وعد بأنهم سيرون آيات الله في نصر الدين) وهي كما قال الرازي: (أدلة التوحيد وصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم- ولذلك قال سبحانه: "فلا تستعجلون"، أي أنها ستأتي لا محالة في وقتها، واستعجال المنكرين يعني كما قال جوهري: (استبعاد ما جاء في هذه الآيات من الأمور العلمية التي أوضحها علماء العصر الحاضر، فهم يستبعدونها طبعاً لأنهم لا يعقلونها فقال الله تعالى لا تستبعدوا أيها الناس: "سأريكم آياتي فلا تستعجلون"[الأنبياء: 37]، فإذا لم تفهمها أمم سابقة، سيعرفها من بعدهم، فقد ادخرنا هذه الأمور لأمم ستأتي؛ لتكون لهم آية علمية على صدقك فتكون الآيات دائماً متجددة، قال الرافعي: (والكلام في وجوه إعجاز القرآن واجب شرعاً وهو من فروض الكفاية، وقد تكلم فيه المفسرون والمتكلمون، فإن كان ذلك قد وفى حاجة تلك الأزمنة، فهو لا يفي بحاجة هذا الزمان إذ هي داعية إلى قول أجمع وبيان أوسع، وبرهان أنصع في أسلوب أجذب للقلب وأخلب للب، وأصغى للأسماع، وأدنى إلى الإقناع) (إعجاز القرآن ص20)."

وقال " وقد رافق الوعد في القرآن بتجلي دلائل التوحيد فيض من التفصيلات العلمية مع دعوة صريحة للنظر في الكون، واستجوابه عن عجائب القدرة وبديع الصنع ودلائل الوحدة، والنظم المقدرة وبينات القصد منذ بَدء الخلق، مما يؤكد تناوله لنفس موضوعات العلوم الطبيعية اليوم, لأن الله تعالى لا يأمر بالتطلع والتأمل والنظر إلا إلى ما يمكن أن يبلغه علم المخاطبين أو يدركه النظر, وذلك كقوله تعالى: "قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ" [يونس: 101], وقوله: "أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا" [ق:6], وقوله: "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ" [العنكبوت: 20], وهذه النصوص الكريمة تؤكد أن العلم بخلق الله طريق إلى معرفة الله, وهذا العلم أيضا تأهيل لإدراك صدق ما كشفه القرآن الكريم من أسرار الخلق بينة على التنزيل وصدق الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم-، ولعل هذا يفسر ربط القرآن الكريم بين أدلة صدق حديثه وبين الأمر إلى التطلع في الكون وإدراك خفايا الخلق, كما قال تعالى: "أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ" [الأعراف: 185].

وقد لخص الشيخ خالد عبد الرحمن العك في أصول التفسير وقواعده - 224 - شروطاً ينبغي للمفسر , وللمورد للآيات الاعجاز أن يتأملها , ويقعّدها في نقولاته , منها :
أولاً : مراعاة -قواعد- التفسير .
ثانياً : أن يكون التفسير للآيات الكونية مطابقاً لمعنى النظم القرآني.
ثالثاً : الاّ يخرج حد التفسير الى عرض النظريات العلمية التضاربة .
رابعاً: أن يتثبت المفسر من النظريات العلمية التي يفسر بها الاشارات الكونية القرآنية .
خامساً : ألا يحمل النظريات العلمية على الايات القرآنية حملاً , فإن كانت مطابقة لمعنى الايات فبها ونعمت , وإلا فلا !.
سادساً : أن يجعل مضمون الايات القرآنية أصلاً للمعنى الذي يدور حوله الايضاح والتفسير .
سابعاً : أن يلتزم بالمعاني اللغوية في اللغة العربية للايات التي يريد إيضاح اشاراتها العلمية ,لأن القرآن عربيٌ .!
ثامناً : ألا يخالف مضموناً شرعياً في تفسيره .!
تاسعاً : أن يكون تفسيره مطابقاً للمُفسَّر ! , من غير نقص لما يحتاج إليه من إيضاح المعنى , ولا زيادة لا تليق بالغرض ولا تناسب المقام .!
عاشراً : أن يكون مراعياً للتأليف بين الآيات , وتناسبها ومؤاخاتها , فيربط بينها لتكون وحدة موضوعية واحدة .
هذا هو مجمل الشروط التي يجب على كل من أراد تفسير الاشارات القرآنية الكونية تفسيراً علمياً .

والله تعالى الموفق والهادي الى الحق .