المعذرة يا سيدي يا رسول الله
لكنني اليوم لا اعتذر بسبب رسوم او إساءة صدرت عن غير مؤمن بك
لكنه اعتذار عمن يؤمنون بك ويحبونك لكنهم يسيئون إليك من حيث لا يشعرون
لقد جئتنا يا اكمل إنسان بمنهج يؤلف بين القلوب منهج يستوعب الدنيا كلها العدو قبل الصديق
ولكن فهم بعض المسلمين ضيق ما جئت به من رحابة وسعة
جئتنا بالسلام وهي كلمة كل حروفها موجودة في كلمة " الإسلام " التي لا تزيد عنها إلا الهمزة والهمزة عنوان الصدارة فهي أول الحروف أفلا نفهم من هذا أن صدارتنا لا تكون إلا بإفشاء السلام وقد كان صلى الله عليه وسلم يأمر بذلك ويجعله سببا لنشر المحبة حيث يقول: " والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا بي حتى تحابوا أفلا أدلكم على شئ إذا فعلتموه تحاببتم افشوا السلام بينكم"
لقد هالني ما يروج له بعض المتحدثين باسم الإسلام من عدم جواز مبادأة أهل الكتاب بالسلام اعتمادا على حديث ورد في قوم معينين لعلة معينة في وقت معين ذاكم هو حديث النبي صلى الله عليه وسلم " لا تبدؤوا أهل الكتاب بالسلام "
إذ لا يمكن أن يكون هذا الحديث بفهمه المنقطع عن سياقه عنوانا للإسلام كما لا يمكن أن تختزل فيه – أي في هذا الحديث بفهمه المجانب للصواب- قيم الإسلام التي تكرس لغرس السلام في المجتمع وتؤسس للدعوة بالحسنى التي جسدها النبي صلى الله عليه وسلم قولا وعملا .
أيضا إن هذا الفهم الشائع لهذا الحديث يصد كثيرين عن هذا الدين العظيم ويضيع كثيرا من القيم الحضارية لهذا الدين الصالح بتشريعاته الحكيمة لكل زمان ومكان.
قال لي بعض الذين يحتكون بحكم عملهم أو دراستهم بغر المسلمين: نحن نخجل من هذا الحديث لأننا لا نريد مخالفة هذا الحديث كما أننا لا ندري ماذا يمكن أن نفعل مع زملائنا من غير المسلمين هل نسلم عليهم أم ، لا؟
قلت: ليس في ديننا ما يخجل وكل تشريعات ربنا وكل أحاديث رسولنا هي تاج فوق رؤوسنا وعندما يحدث شيء من هذا الخجل العام فلنثق في أن سببه إما سوء فهم للخبر ، وإما لضعف فيه، ويجب علينا أن نعرف كيف نتعامل مع النصوص أو أن نكل ذلك إلى من يجيد التعامل معها.
ولنعلم أن الخروج بالنص عن سياقه وعن ظرفه وسبب وروده يبعد كثيرا عن فهم معناه ويضيع كثيرا من القيم العليا والمقاصد العامة للإسلام العظيم.
وإن أمامنا في فهم النصوص المشكلة منهجا علميا لا يخطئ عندما نقوم بتطبيقه والاعتماد عليه ذاكم هو جمع الروايات ولم شتاتها للوقوف على المعنى الكامل للنص مدعوما بسبب وروده والظرف والحال الذي قيل فيه لنقف على مناطه أو علته.
هذا إذا كان الحديث مشكلا فكيف الحال إذا عارض النصوص القطعية وواقع النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته وجافى مقاصد الشريعة ؟
إن الحديث الذي معنا هو واحد من هذه الأحاديث التي يجب أن توزن بميزان هذا المنهاج العلمي الذي ذكرته لأنه يسيء – بما يعرضه كثيرون من فهم – إلى الإسلام كقيمة تهدف إلى احترام الإنسان من حيث هو إنسان {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً }الإسراء70
ثم تذكيره بمهمته في الوجود {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }الذاريات56 لكن بالأسلوب الأمثل والدعوة بالحسنى {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }النحل125
وهذا الحديث لا يمكن فهمه إلا في ضوء حديثين آخرين برواياتهما المتعددة هما:
الحديث الأول ما أخرجه البخاري عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا السام –أي الموت - عليكم قالت عائشة: ففهمتها فقلت: وعليكم السام واللعنة قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مهلا يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله " – وفي رواية عند البخاري أيضا قال: " مهلا يا عائشة عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش" فقلت: يا رسول الله، أو لم تسمع ما قالوا ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد قلت وعليكم"
والحديث الآخر ما جاء في كثير من كتب السنن ومسند أحمد عن أبي عبد الرحمن الجهني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اني راكب إلى يهود فلا تبدءوهم بالسلام فإذا سلموا عليكم فقولوا وعليكم "
ففي ضوء هذين الحديثين نفهم حديث النهي عن مباداة أهل الكتاب بالسلام إذ إن هذا خاص ببعض اليهود الذين كانوا يدعون على النبي بالموت في إلقاء السلام عليه وهو مع علمه بما كانوا يقولون لم يأذن للصحابة في قتلهم حين عرضوا عليه هذا وقد كانت لهم القدرة على ذلك بل نهاهم وأرشدهم إلى ان يقولوا فقط وعليكم والرواية كما في صحيح البخاري عن أنس بن مالك قال: "مر يهودي برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: السام عليك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وعليك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أتدرون ما يقول ؟ قال السام عليك. قالوا يا رسول الله ألا نقتله ؟ قال: لا إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم" وقد مضى ما قاله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها حين لعنتهم فهل علمت الدنيا مسالمة موادعة وحلما كحلم الرسول صلى الله عليه وسلم.
إنه يعلمنا بتصرفه هذا وإرشاده إلى العدل فاليهود يدعون بالسام فيكفي ردا عليهم أن نقول: وعليكم أي مثل ما قلتم فيكون الرد قصاصا وعدلا ، وينهى عن مبادأتهم لأن الصحابة لو قالوا لهم: السلام عليكم فسيردون: وعليكم السام أي الموت.
إذن فعليهم الانتظار حتى يبدؤوا هم فيكون الرد مناسبا لما يقولون.
والحديث الآخر : إني راكب إلى يهود .......يشير إلى اليهود المحاربين حيث قال كثيرون إن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك وهو ذاهب إلى يهود بني قريظة حين نقضوا عهده وظاهروا الكفار عليه في غزوة الأحزاب.
وفي حالة الحرب لا يمكن إلقاء السلام على المحاربين لأن السلام يحمل معنى الأمان فلو سلم المسلم ثم حارب فقد ناقض نفسه إذ كيف يؤمن بالسلام ثم يحارب والواقع أن لن يستطيع الكف عن قوم محاربين؟
إذن فحديث النهي عن المبادأة بالسلام خاص بهؤلاء المحاربين للنبي صلى الله عليه وسلم الذين كانوا يدعون عليه بالسام أو الموت.
وإلا فكيف نفهم هذا الحديث الذي يعرض لنا زيارة النبي صلى الله عليه وسلم لبيت يهودي يعود ابنا له كان يعمل عنده ومرض وقد قعد النبي عند رأسه وقال له: "أسلم" فنظر الغلام اليهودي إلى أبيه وهو عنده فقال له أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم فأسلم فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "الحمد لله الذي أنقذه من النار" رواه البخاري
فكم واحدا من الناس يهتم بأن يعود مرضا يعمل عنده خصوصا إذا كان على غير دينه ولنتصور دخول النبي صلى الله عليه وسلم بيت اليهودي هل دخله دون أن يسلم عليه ؟
وترى هل كان اليهودي سأمر ابنه بطاعة النبي لو كان النبي قد دخل عليه وهو يمتهنه بعدم السلام عليه ؟
أيضا لنا أن نتصور دعوة النبي والمسلمين لأهل الكتاب وغيرهم للدخول في الإسلام هل كانت دعوة مسبوقة بامتهان المدعوين وعدم السلام عليهم فكيف سيقبلون بها إذن ؟
وهؤلاء التجار من المسلمين الذين نشروا الإسلام في دول آسيا تراهم كيف كانوا يتعاملون مع أهل هذه البلدان وكيف كانت دعوتهم إياهم إلى الإسلام ؟
وإننا حين نتمم المنهج الذي ندعو إليه فنعرض هذا الفهم السقيم على القرآن الكريم وعلى واقع النبي صلى الله عليه وسلم وتاريخه فسوف نقف على مدى تهاويه وعمق ضعفه.
فالقرآن الكريم في آياته يبيح السلام على المشركين والجاهلين فكيف بأهل الكتاب وهذه آياته ناطقة بذلك:
قال تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام وقد كان والده كافرا {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً }مريم47
جعل سبحانه من صفات عباد الرحمن الإعراض وأن يقولوا سلاما وهذا المعنى وارد في عدد من الآيات منها قوله تعالى:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً }الفرقان63
وقوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ }القصص55
وقوله سبحانه: {وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون * فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ }الزخرف: 88، 89
ويضاف إلى ما سبق أمور عديدة وأدلة كثيرة تنتج ان القول بعدم جواز مباداة أهل الكتاب بالسلام هو حكم مطلق إنما هو قول ضعيف لا تساعده كثير من تشريعات الإسلام وسماحته وشموله واستيعابه للآخر مهما كانت ملته أو عقيدته ومن ذلك ما يلي:
1- الإسلام أباح للمسلم أن يأكل طعام الكتابي وأن يتم الود عن طريق تبادل الطعام بينهما بقوله سبحانه :{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ } فهل ترى سيأكل كل منا طعام الآخر حين يدعى إليه دون أن يسلم المسلم على الكتابي حين يذهب إليه في داره تلبية لدعوته إلى تناول طعام عنده؟
2- وأباح الإسلام أن يتزوج المسلم بكتابية بقوله سبحانه تتمة للآية السابقة: { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ }فلو تزوج المسلم بالكتابية وعاشا معا في بيت الزوجية فهل تراه لا يسلم عليها ؟ وهل يمكن أن يطلب الإسلام هذا من المسلم ؟
3- أخرج البخاري أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير ؟ قال: " تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت وعلى من لم تعرف" وقطعا سيكون من بين من لا نعرف كتابيون .
4- كتبه صلى الله عليه وسلم ورسائله إلى الملوك والرؤساء يدعوهم فيها إلى الإسلام ومن بينهم المقوقس عظيم القبط وهرقل عظيم الروم وكسرى عظيم فارس وغيرهم بماذا كانت تصدر هذه الكتب؟ إنها كانت تصدر بهذه العبارة " السلام على من اتبع الهدى" ولنلحظ هنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قدم السلام على اتباع الهدى ولم يجعل اتباع الهدى شرطا لحصول السلام فلم يقل مثلا: لو اتبعت الهدى عليك السلام. ولنلحظ أيضا أنه عبر بالهدى ولم يعبر بالإسلام فلم يقل: السلام على من اتبع الإسلام. كل هذه المعاني لا يمكن أن تغفل في خطاب النبي صلى الله عليه وسلم ولا نشك مطلقا في كونها مقصودة ممن لا ينطق عن الهوى وأن لها دلالات واضحة وأنها لم تسق هكذا بلا معنى.
5- دأب كثير من السلف ممن تربوا على يد النبي صلى الله عليه وسلم وسنته أو على يد صحابته على مبادأة أهل الكتاب بالسلام ولم يروا في ذلك بأسًا ومنهم ابن مسعود رضي الله عنه والحسن والنخعي وعمر بن عبد العزيز وكان أبو أمامة إذا انصرف إلى بيته لا يمر بمسلم ولا نصراني، ولا صغير ولا كبير إلا سلّم عليه، فقيل له في ذلك، فقال: أمرنا أن نفشي السلام. وكان يقول: إن الله جعل السلام تحية لأمتنا وأمانا لأهل ذمتنا.
6- جاء في كتاب موارد الظمآن للهيثمي عن كريب عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى حبر تيماء يسلم عليه
7- وجاء في كتاب التمهيد لابن عبد البر عن ابن مسعود رضي الله عنه مسعود أنه كتب إلى رجل من أهل الكتاب السلام عليك. وقال تعليقا على مواقفه هذه: لو قال لي فرعون خيرا لرددت عليه مثله.
وبهذا قد بان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة الذين تلقوا عنه وأحسنوا فهم سنته وروح شريعته فدانت لهم الدنيا لحسن أخلاقهم ورفعة سلوكهم ألا فليتق كل من يتحدث باسم الدين ربه وليبلغ عن رسوله كامل سنته غير مبتورة ولا منقوصة وإلا { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }