ماهية البرهان في العلم الطبيعي
بقلم بروفيسور محجوب عبيد طه (يرحمه الله)
استاذ الفيزياء النظرية بجامعة الملك سعود
ج1
في هذه المقاله شرح لمعنى البرهان في العلم الطبيعي ، و توضيح لخصائص الحجه المقبوله فيه ،و دحض للظن بأن العلم الطبيعي يقوم على البراهين و الحجج القاطعه ، تحوي المقاله أمثله من أفكار و نظريات الفيزياء المعاصره و نقاشا للصله بين البرهان و الايمان.
مقدمه:
أوضح البراهين التطابق الرياضي ، اذ لا ينطوي الا على ادراك أن تعبيرين ،مختلفين في الشكل ، هما في الحقيقه تعبير عن ذات المقصود دون زياده أو نقصان .
هذا التطابق يفرضه التعريف ، و يمكننا مثلا من ادعاء أن 5-2 تعبير أطول عن الرقم 3.
غير أن موضوع البرهان الرياضي ، بصفه عامه موضوع شائك له جذور فلسفيه و فيه نقاش كثير لا نطيق الخوض فيه و لا نملك بضاعته .
ما يهمني في هذه المقاله هو التصدي لقضية البرهان كما تتجلى من معايشة العلم الطبيعي المعاصر و التفكر في أساليب القبول و الرفض السائده فيه ،و سأركز بصفه خاصه على أمثله من الفيزياء النظريه ، اذ فيها أساس المفاهيم و القوانين و أنماط السلوك بين المكونات الدقيقه للعالم المشاهد.
ما يدفعني للاهتمام بهذا الموضوع هو ملاحظتي أن كثيرا من المثقفين و العلميين يعتقدون بوجود اختلاف جوهري ، أي اختلاف نوع لا اختلاف درجه ، بين ماهية البرهان في العلم الطبيعي من ناحيه و في كافة اهتمامات الناس الاجتماعيه و السياسيه و العقائديه من ناحيه أخرى ، و هذا ليس صحيحا ، خذ الدوريات العلميه و الصحف السياره ، المجتمع العلمي يلزم العاملين فيه بتقاليد صارمه للنشر ، منها اخضاع العمل للتقويم و التحكيم قبل نشره، و لذلك فان ما ينشر يمثل في الغالب مجهودا عبر عن محتواه و دلالته و أهميته تعبيرا أمينا ، بني على التدقيق و التمحيص و النظر في الأعمال السابقه ذات الصله بموضوعه .
و بسبب أن المجتمع الصحفي لم ينجح في الزام العاملين فيه بمثل هذه الضوابط نجد أن كثيرا مما تنشره الصحف السياره يفتقر الى الدقه و الأمانه و الانصاف و لا يعدو أن يكون تعبيرا عن وجهة نظر فرديه قد لا تخلو من الغرض و الظن .
غير أن هذا الاختلاف بين ضوابط النشر في الدوريات المحكمه و في الصحف السياره لا يشكل اختلافا في ماهية البرهان في المجالين ، البرهان المطلوب في الحالين هو ما تحصل به القناعه ، و كثير من علماء الاجتماع يبنون تحليلاتهم على معلومات دقيقه و تقارير مفصله ، حصلت بعد عمل مضن ، و يتوصلون الى آراء و ملاحظات محايده و أمينه ينشرونها في دوريات محكمه ، مثل هذه الأعمال طابعها الجديه و الحرص و التأني و لا يكاد يفصلها عن بحوث العلوم الطبيعيه الا اختلاف الموضوع ، اذ لا يتاح في علم الاجتماع ما يتاح في العلم التجريبي من تجزئة النظام و فصل المتغيرات و تكرار التجريب و ازالة آثار البيئه و ضوضائها ، بسبب هذا الاختلاف في طبيعة الموضوع لم تتمكن العلوم الانسانيه مثل علم الاجتماع و السياسه من تحقيق التطور المذهل الذي تحقق في العلوم التجريبيه و ظل تأثيرها على ما يليها من حياة الناس ضعيفا.
و كما أن القضايا العمليه في تنظيم الحياة لا تنتظر اكمال البراهين و اتقان البحوث الأكاديميه ، و يلزمها اتخاذ قرارات عاجله فيها بعض الجرأه و المجازفه ، كذلك يحدث في جانب العلم الطبيعي أن يقتضي الأمر تجاوز مرحله التدقيق و اتقان البرهنه بقفزه فكريه مبنيه على الحدس و الالهام و التوقع المعقول .
بعض هذه القفزات ،عبر البرهنه المتصله ، ومضات ثاقبه لعدد قليل من أميز الباحثين هي التي صنعت تاريخ العلم الطبيعي عبر القرون.
موضوع هذه المقاله هو توضيح كيف تحصل القناعه ، في مجال العلم الطبيعي ، بالانجاز حتى يقبل و يعتمد ، و تبيان أن ادعاء البعض بوجود اختلاف جوهري في ذلك بين العلم و سواه من كافة اهتمامات الناس في حياتهم و عقائدهم ادعاء بطال لا يقوم عليه دليل ، و لعلي أبدأ بحديث عن الحجه المقبوله في العلم الطبيعي مبني على تدبر واقع البحوث المعاصره في مجال الفيزياء على وجه الخصوص .
الحجه المقبوله في العلم الطبيعي:
لا شك أن مجموعة الحجج المقبوله في العلوم الطبيعيه ، أي طرائق تقديم الدليل على الاستنتاج ، مجموعه كبيره .
بعض هذه الطرق أقوى من البعض الآخر ، و هي ليست بالضروره طرق اثبات لصحة الاستنتاج و انما هي في الغالب طرق اقناع بمعقوليته ، و هي في ذلك تختلف اختلافا بينا عن البراهين الرياضيه ، التي تعطي دليلا قاطعا على صحة استنتاج معين من بدايات أو مسلمات معطاه .
و رغم أن بعض صيغ تقديم النتائج الفيزيائيه تتغلب في الظاهر على هذا الاختلاف ، الا أن الأمر لا يعدو في مثل هذه الحالات أن يكون اعادة صياغه شكليه تخفي الاختلاف عن الرياضيات و لا تزيله ، من أمثلة ذلك حلول مسائل الميكانيكا التقليديه : "برهن أن المسارات المستقره للكواكب حول الشمس تتخذ شكل القطع الناقص ". البرهان قاطع بالمعنى الرياضي ، لأن المسلمات محدده بالمعنى الرياضي : كتل نقطيه تتحرك في فراغ تام تحت تأثير قوه ، معرفه بتعبير رياضي مضبوط ، بين كل منها و كتله نقطيه معينه ، بينما لا يتأثر بعضها بالبعض الآخر .
هذه اعادة صياغه شكليه لقضيه فيزيائيه لزمها عمل كثير من المشاهده الفلكيه و رصد المعلومات و تحليلها بل و تطوير الرياضيات اللازمه لذلك قبل أن تصبح مسأله مدرسيه تكتب على نحو ما تقدم .
و الموضوع الأساسي من جانب الفيزياء هو امتحان صحة المسلمات الأوليه و ليس صحة البرهان الرياضي .
ما نستهدفه باستخدام البرهان الرياضي هو استنتاج كل ما يترتب على هذه الفرضيات الأوليه حتى يمكن مقارنته بالواقع من أجل دعم هذا التصور المعين للنظام و تفاعلاته أو رفضه و البحث عن تعديله أو بديله .
و الانطباع الذي تعطيه الصياغه الرياضيه للموضوعات الفيزيائيه بأن فيها انضباطا رياضيا و مقولات قاطعه لا تقبل التعديل و التبديل انطباع خاطئ ، و لقد نقل عن اينشتاين قول جيد حول هذا : قال اننا ان تحدثنا حديثا منضبطا فنحن لا نتحدث عن الفيزياء و ان تحدثنا عن الفيزياء فنحن لا نتحدث حديثا منضبطا .
نسأل :ما هي اذن الحجه المقبوله في مجال العلم الطبيعي ؟ ما هي الحجه التي تحصل بها القناعه و يرسخ بها التصور ؟ يمكننا تحديد عدد من السمات العامه المشتركه بين الحجج التي تعتمد دليلا على معقولية مقوله جديده و مسوغا لأخذها مأخذ الجد . و لنبدأ بنوع الحجه التي "صح" بها قانون الجاذبيه الذي ذكرناه في المثال السابق .
قانون نيوتن للجاذبيه الكونيه تعبير رياضي بسيط يعطي القوه بين أي كتلتين بدلالة قيمتي الكتله و المسافه بينهما .
الاستنتاجات المترتبه على هذا التعبير الرياضي توضح أن اعتماده "يفسر" ظواهر تبدو غير مترابطه ، مثل سقوط الحجاره على سطح الأرض و مسار الأرض حول الشمس ، و يعطي قيما عدديه للمتغيرات المقيسه تتفق مع التجارب.
هذه هي حجة اعتماد القانون و أخذه مأخذ الجد .
السمه الأولى للحجه المقبوله هي أنها دعوه لاعتماد المقوله الجديده بناء على ما يترتب عليها، و ليس بناء على صحة الخطوات التي قادت اليها .
و سبب أن القانون الفيزيائي يصح بما يترتب عليه و ليس بصلته بما سبقه هو أن أكثر من تصور معقول لما يحدث في النظام المدروس يمكن أن يستخلص من مجموعه معطاه من المعلومات التجريبيه و المشاهدات .و لكن ما يترتب على قانون معين يكون مجموعه فريده من الاستنتاجات ، هي محك اختبار القانون بالتجريب ، من هذا الوجه لا يهم ما اذا كان نيوتن قد توصل لقانون الجاذبيه بعد تحليل الجداول الفلكيه التي تراكمت عبر القرون أو أن يكون رآه في المنام !!
مجموعة التوقعات في سلوك النظم تحت الجاذبيه المترتبه على القانون و اتفاق هذه التوقعات مع الواقع هي السند الحقيقي – أي الحجه المقنعه- لقبول نظرية الجاذبيه الكونيه .
السمه الثانيه المشتركه بين الحجج المقبوله هي أنها دعوه للأخذ بالمقوله الجديده بدافع أن الأخذ بها يجعلنا في وضع أفضل من حيث فهمنا للظواهر المتعلقه بالموضوع و اطمئناننا لصحة تصورنا لها .
خذ مثلا الانتقال من انموذج بور لذرة الهيدروجين ، رغم نجاحه المذهل ، الى وصف هذه الذره بمعادلة شريدنجر ، الحجه في رفض الأنموذج و الأخذ بالمعادله هي أن الأخيره أشمل و أعمق و تجعلنا في وضع أفضل من حيث ادراكنا لميكانيكا ذرة الهيدروجين و ثقتنا في تعميم النظريه خارج نطاق هذه الحاله .
و في هذا المثال بعض من سمة ثالثه مشتركه بين الحجج المقبوله في العلم الطبيعي و هي ادعاء أن الأخذ بالجديد لا يقوض الانجازات السابقه ، بل يدعم المعالجات السابقه و يتفق معها حيثما اتفقت مع الواقع ، و يختلف معها في مواقع حيودها عن الواقع ، فيوسع رقعة تفسير الظواهر و فهم الترابط السببي بينها .
من أمثلة ذلك القناعه بجدوى نظرية الجاذبيه المبنيه على النسبيه العامه ، و التي حوت نظرية نيوتن في حدود تطبيقاتها الناجحه ، و فسرت ظواهر عجزت نظرية نيوتن عن تفسيرها و أعطت تصورا أفضل لمعنى تفاعل الجاذبيه مع الماده، و حلت مشكلات نظريه أساسيه مثل عدم التزام الصياغه النيوتونيه بمتطلبات النسبيه الخاصه –و هي قيود رياضيه لازمه لكل نظريه فيزيائيه معاصره – و مثل اشكالية التأثير عن بعد ، أي انتقال أثر التفاعل دون وسيط.
غير أن بعض أهم التطورات في مجال الفيزياء بني على أفكار جريئه ، فيها طابع القفزه الجامحه التي ينكرها الباحث الحذر ، حجة تقديمها و الاحتفاء بها أنها تزيل على الفور تناقضا بين مبدأ معلوم مأخوذ به و أمر مشاهد يخالف مقتضيات هذا المبدأ .من أمثلة ذلك فكرة كمومية حالات الطاقه الالكترونيه في الذره ، التي قدمها بور لتزيل التناقض بين وجود الذره المستقره و بين الكهروديناميكا التقليديه التي تقتضي انهيارها بسبب أن الجسيمات المشحونه المتسارعه تشع فتفقد من طاقتها مع الزمن . فكرة بور فرضيه بلزوم الالكترونات لمسارات معينه محددة الطاقه ، دون أن تشع ، طالما بقيت عليها رغم تسارعها و شحنتها . هذه الفكره الجريئه التي تقول بالتخلي عن مبادئ جيده لم يعرف لها اختلاف مع التجارب من قبل ، في ظروف معينه ، أصبحت احدى أهم الأفكار في تاريخ الفيزياء ، و عليها بني تفسير طيف الهيدروجين و كانت مدخلا لمكانيكا الكم و الفيزياء الحديثه .
و من أمثلة هذه القفزات الجامحه المدفوعه بالرغبه في ازالة تناقض صريح ، الفكره الجريئه بافتراض وجود جسيم لم يشاهده أحد لازالة النتاقض بين تجارب تفكك النوى غير المستقره و مبدأ حفظ الطاقه . فكرة باولي فرضيه بوجود جسيم دقيق له خصائص لا تسمح بمشاهدته ، يظهر نتيجة التفكك ، مع الجسيمات المنتجه المشاهده فيحمل معه فارق الطاقه الذي تعطيه التجارب !
لم يؤبه للفكره بادئ الأمر ، و لكنها أخذت بجديه عندما بنى عليها فيرمي نظريه ناجحه للتفاعلات النوويه الضعيفه ، و تلعب هذه الجسيمات اليوم دورا مركزيا في نظرية و تجارب الجسيمات الأوليه .
و من أروع أمثلة هذه القفزات الفكريه التي تستهدف ازالة التناقض البين ، فكرة أن جسيمات الكوارك و هي الجسيمات التي يتكون منها البروتون و النيوترون و لم تشاهد حتى الآن ، انما تأتي بشحنات من ثلاثة أنواع ، سميت بالألوان . قدمت الفكره لازالة التناقض بين وجود جسيمات معينه مكونه من جسيمات الكوارك و بين مبدأ الاستقصاء في ميكانيكا الكم ، و هو مبدأ أساسي لم يعرف له اختلاف مع التجارب من قبل .
عندما قدمت الفكره لأول مره ظن كثيرون أنها النهايه المضحكه لأنموذج الكوارك ، و هو التصور الذي يعتمد جسيمات الكوارك المركبات الأوليه للماده النوويه ، و لكن سرعان ما أيدت التجارب مصداقية فكرة الألوان . و هي تشكل اليوم أهم مرتكزات النظريه المعاصره للتفاعلات النوويه القويه.و التي أصبحت تسمى " ديناميكا الألوان الكميه"!!
ما ذكرناه لا يستقصي سمات الحجه المقبوله لدعم الدعاوى في العلم الطبيعي ، و لكننا نكتفي به لأنه يفي بالغرض منه ، و هو توضيح طبيعة البرهان العلمي في أدق مجالات العلم الطبيعي و أرسخها . و بقي أن نختم هذا الحديث بأن ننفي عن الحجه العلميه سمه يظنها الكثيرون لازمه للعلم و قوانينه ، و هي أن تكون مقنعه للجميع ، أي لكل من يهتم بموضوعها من المختصين ، هذا الظن خاطئ .
ذلك أن الباب يظل دائما مفتوحا أمام العمل البحثي في كافة مجالات العلم الطبيعي ، خارج نطاق التصورات و النظريات المعتمده لدى غالبية العاملين في الحقل و التي تشكل التيار الرئيس للمفاهيم السائده .
سبب ذلك واضح و هو عدم وجود براهين أو قوانين أو نظريات مضبوطه و قاطعه بحيث يستحيل الخروج عن نطاقها ، و واقع الحال يؤكد ذلك اذ أننا نجد في كل حقل نفرا من الباحثين المتمردين على التيار الرئيس يكتبون من منطلقات بعيده عن هذا التيار ، بعضها لا يخلو من غرابه شديده و ينشرون أعمالهم في أميز المجلات العلميه المتخصصه !!
أنتقل الآن لتوضيح أن ما نطلبه لقبول الحجه العلميه قد لا يسهل ادراكه و أن اصرارنا على اكمال متطلبات القناعه كما نراها قد يعوق مسيرة العلم الطبيعي الأساسي .
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً -- ويأتيك بالأخبار من لم تزودِ
Bookmarks