النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: ماهية البرهان في العلم الطبيعي

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2010
    المشاركات
    903
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي ماهية البرهان في العلم الطبيعي

    بقلم بروفيسور محجوب عبيد طه (يرحمه الله)
    استاذ الفيزياء النظرية بجامعة الملك سعود



    ج1
    في هذه المقاله شرح لمعنى البرهان في العلم الطبيعي ، و توضيح لخصائص الحجه المقبوله فيه ،و دحض للظن بأن العلم الطبيعي يقوم على البراهين و الحجج القاطعه ، تحوي المقاله أمثله من أفكار و نظريات الفيزياء المعاصره و نقاشا للصله بين البرهان و الايمان.

    مقدمه:

    أوضح البراهين التطابق الرياضي ، اذ لا ينطوي الا على ادراك أن تعبيرين ،مختلفين في الشكل ، هما في الحقيقه تعبير عن ذات المقصود دون زياده أو نقصان .
    هذا التطابق يفرضه التعريف ، و يمكننا مثلا من ادعاء أن 5-2 تعبير أطول عن الرقم 3.
    غير أن موضوع البرهان الرياضي ، بصفه عامه موضوع شائك له جذور فلسفيه و فيه نقاش كثير لا نطيق الخوض فيه و لا نملك بضاعته .
    ما يهمني في هذه المقاله هو التصدي لقضية البرهان كما تتجلى من معايشة العلم الطبيعي المعاصر و التفكر في أساليب القبول و الرفض السائده فيه ،و سأركز بصفه خاصه على أمثله من الفيزياء النظريه ، اذ فيها أساس المفاهيم و القوانين و أنماط السلوك بين المكونات الدقيقه للعالم المشاهد.
    ما يدفعني للاهتمام بهذا الموضوع هو ملاحظتي أن كثيرا من المثقفين و العلميين يعتقدون بوجود اختلاف جوهري ، أي اختلاف نوع لا اختلاف درجه ، بين ماهية البرهان في العلم الطبيعي من ناحيه و في كافة اهتمامات الناس الاجتماعيه و السياسيه و العقائديه من ناحيه أخرى ، و هذا ليس صحيحا ، خذ الدوريات العلميه و الصحف السياره ، المجتمع العلمي يلزم العاملين فيه بتقاليد صارمه للنشر ، منها اخضاع العمل للتقويم و التحكيم قبل نشره، و لذلك فان ما ينشر يمثل في الغالب مجهودا عبر عن محتواه و دلالته و أهميته تعبيرا أمينا ، بني على التدقيق و التمحيص و النظر في الأعمال السابقه ذات الصله بموضوعه .
    و بسبب أن المجتمع الصحفي لم ينجح في الزام العاملين فيه بمثل هذه الضوابط نجد أن كثيرا مما تنشره الصحف السياره يفتقر الى الدقه و الأمانه و الانصاف و لا يعدو أن يكون تعبيرا عن وجهة نظر فرديه قد لا تخلو من الغرض و الظن .
    غير أن هذا الاختلاف بين ضوابط النشر في الدوريات المحكمه و في الصحف السياره لا يشكل اختلافا في ماهية البرهان في المجالين ، البرهان المطلوب في الحالين هو ما تحصل به القناعه ، و كثير من علماء الاجتماع يبنون تحليلاتهم على معلومات دقيقه و تقارير مفصله ، حصلت بعد عمل مضن ، و يتوصلون الى آراء و ملاحظات محايده و أمينه ينشرونها في دوريات محكمه ، مثل هذه الأعمال طابعها الجديه و الحرص و التأني و لا يكاد يفصلها عن بحوث العلوم الطبيعيه الا اختلاف الموضوع ، اذ لا يتاح في علم الاجتماع ما يتاح في العلم التجريبي من تجزئة النظام و فصل المتغيرات و تكرار التجريب و ازالة آثار البيئه و ضوضائها ، بسبب هذا الاختلاف في طبيعة الموضوع لم تتمكن العلوم الانسانيه مثل علم الاجتماع و السياسه من تحقيق التطور المذهل الذي تحقق في العلوم التجريبيه و ظل تأثيرها على ما يليها من حياة الناس ضعيفا.
    و كما أن القضايا العمليه في تنظيم الحياة لا تنتظر اكمال البراهين و اتقان البحوث الأكاديميه ، و يلزمها اتخاذ قرارات عاجله فيها بعض الجرأه و المجازفه ، كذلك يحدث في جانب العلم الطبيعي أن يقتضي الأمر تجاوز مرحله التدقيق و اتقان البرهنه بقفزه فكريه مبنيه على الحدس و الالهام و التوقع المعقول .
    بعض هذه القفزات ،عبر البرهنه المتصله ، ومضات ثاقبه لعدد قليل من أميز الباحثين هي التي صنعت تاريخ العلم الطبيعي عبر القرون.
    موضوع هذه المقاله هو توضيح كيف تحصل القناعه ، في مجال العلم الطبيعي ، بالانجاز حتى يقبل و يعتمد ، و تبيان أن ادعاء البعض بوجود اختلاف جوهري في ذلك بين العلم و سواه من كافة اهتمامات الناس في حياتهم و عقائدهم ادعاء بطال لا يقوم عليه دليل ، و لعلي أبدأ بحديث عن الحجه المقبوله في العلم الطبيعي مبني على تدبر واقع البحوث المعاصره في مجال الفيزياء على وجه الخصوص .

    الحجه المقبوله في العلم الطبيعي:

    لا شك أن مجموعة الحجج المقبوله في العلوم الطبيعيه ، أي طرائق تقديم الدليل على الاستنتاج ، مجموعه كبيره .
    بعض هذه الطرق أقوى من البعض الآخر ، و هي ليست بالضروره طرق اثبات لصحة الاستنتاج و انما هي في الغالب طرق اقناع بمعقوليته ، و هي في ذلك تختلف اختلافا بينا عن البراهين الرياضيه ، التي تعطي دليلا قاطعا على صحة استنتاج معين من بدايات أو مسلمات معطاه .
    و رغم أن بعض صيغ تقديم النتائج الفيزيائيه تتغلب في الظاهر على هذا الاختلاف ، الا أن الأمر لا يعدو في مثل هذه الحالات أن يكون اعادة صياغه شكليه تخفي الاختلاف عن الرياضيات و لا تزيله ، من أمثلة ذلك حلول مسائل الميكانيكا التقليديه : "برهن أن المسارات المستقره للكواكب حول الشمس تتخذ شكل القطع الناقص ". البرهان قاطع بالمعنى الرياضي ، لأن المسلمات محدده بالمعنى الرياضي : كتل نقطيه تتحرك في فراغ تام تحت تأثير قوه ، معرفه بتعبير رياضي مضبوط ، بين كل منها و كتله نقطيه معينه ، بينما لا يتأثر بعضها بالبعض الآخر .
    هذه اعادة صياغه شكليه لقضيه فيزيائيه لزمها عمل كثير من المشاهده الفلكيه و رصد المعلومات و تحليلها بل و تطوير الرياضيات اللازمه لذلك قبل أن تصبح مسأله مدرسيه تكتب على نحو ما تقدم .
    و الموضوع الأساسي من جانب الفيزياء هو امتحان صحة المسلمات الأوليه و ليس صحة البرهان الرياضي .
    ما نستهدفه باستخدام البرهان الرياضي هو استنتاج كل ما يترتب على هذه الفرضيات الأوليه حتى يمكن مقارنته بالواقع من أجل دعم هذا التصور المعين للنظام و تفاعلاته أو رفضه و البحث عن تعديله أو بديله .
    و الانطباع الذي تعطيه الصياغه الرياضيه للموضوعات الفيزيائيه بأن فيها انضباطا رياضيا و مقولات قاطعه لا تقبل التعديل و التبديل انطباع خاطئ ، و لقد نقل عن اينشتاين قول جيد حول هذا : قال اننا ان تحدثنا حديثا منضبطا فنحن لا نتحدث عن الفيزياء و ان تحدثنا عن الفيزياء فنحن لا نتحدث حديثا منضبطا .
    نسأل :ما هي اذن الحجه المقبوله في مجال العلم الطبيعي ؟ ما هي الحجه التي تحصل بها القناعه و يرسخ بها التصور ؟ يمكننا تحديد عدد من السمات العامه المشتركه بين الحجج التي تعتمد دليلا على معقولية مقوله جديده و مسوغا لأخذها مأخذ الجد . و لنبدأ بنوع الحجه التي "صح" بها قانون الجاذبيه الذي ذكرناه في المثال السابق .
    قانون نيوتن للجاذبيه الكونيه تعبير رياضي بسيط يعطي القوه بين أي كتلتين بدلالة قيمتي الكتله و المسافه بينهما .
    الاستنتاجات المترتبه على هذا التعبير الرياضي توضح أن اعتماده "يفسر" ظواهر تبدو غير مترابطه ، مثل سقوط الحجاره على سطح الأرض و مسار الأرض حول الشمس ، و يعطي قيما عدديه للمتغيرات المقيسه تتفق مع التجارب.
    هذه هي حجة اعتماد القانون و أخذه مأخذ الجد .
    السمه الأولى للحجه المقبوله هي أنها دعوه لاعتماد المقوله الجديده بناء على ما يترتب عليها، و ليس بناء على صحة الخطوات التي قادت اليها .
    و سبب أن القانون الفيزيائي يصح بما يترتب عليه و ليس بصلته بما سبقه هو أن أكثر من تصور معقول لما يحدث في النظام المدروس يمكن أن يستخلص من مجموعه معطاه من المعلومات التجريبيه و المشاهدات .و لكن ما يترتب على قانون معين يكون مجموعه فريده من الاستنتاجات ، هي محك اختبار القانون بالتجريب ، من هذا الوجه لا يهم ما اذا كان نيوتن قد توصل لقانون الجاذبيه بعد تحليل الجداول الفلكيه التي تراكمت عبر القرون أو أن يكون رآه في المنام !!
    مجموعة التوقعات في سلوك النظم تحت الجاذبيه المترتبه على القانون و اتفاق هذه التوقعات مع الواقع هي السند الحقيقي – أي الحجه المقنعه- لقبول نظرية الجاذبيه الكونيه .
    السمه الثانيه المشتركه بين الحجج المقبوله هي أنها دعوه للأخذ بالمقوله الجديده بدافع أن الأخذ بها يجعلنا في وضع أفضل من حيث فهمنا للظواهر المتعلقه بالموضوع و اطمئناننا لصحة تصورنا لها .
    خذ مثلا الانتقال من انموذج بور لذرة الهيدروجين ، رغم نجاحه المذهل ، الى وصف هذه الذره بمعادلة شريدنجر ، الحجه في رفض الأنموذج و الأخذ بالمعادله هي أن الأخيره أشمل و أعمق و تجعلنا في وضع أفضل من حيث ادراكنا لميكانيكا ذرة الهيدروجين و ثقتنا في تعميم النظريه خارج نطاق هذه الحاله .
    و في هذا المثال بعض من سمة ثالثه مشتركه بين الحجج المقبوله في العلم الطبيعي و هي ادعاء أن الأخذ بالجديد لا يقوض الانجازات السابقه ، بل يدعم المعالجات السابقه و يتفق معها حيثما اتفقت مع الواقع ، و يختلف معها في مواقع حيودها عن الواقع ، فيوسع رقعة تفسير الظواهر و فهم الترابط السببي بينها .
    من أمثلة ذلك القناعه بجدوى نظرية الجاذبيه المبنيه على النسبيه العامه ، و التي حوت نظرية نيوتن في حدود تطبيقاتها الناجحه ، و فسرت ظواهر عجزت نظرية نيوتن عن تفسيرها و أعطت تصورا أفضل لمعنى تفاعل الجاذبيه مع الماده، و حلت مشكلات نظريه أساسيه مثل عدم التزام الصياغه النيوتونيه بمتطلبات النسبيه الخاصه –و هي قيود رياضيه لازمه لكل نظريه فيزيائيه معاصره – و مثل اشكالية التأثير عن بعد ، أي انتقال أثر التفاعل دون وسيط.
    غير أن بعض أهم التطورات في مجال الفيزياء بني على أفكار جريئه ، فيها طابع القفزه الجامحه التي ينكرها الباحث الحذر ، حجة تقديمها و الاحتفاء بها أنها تزيل على الفور تناقضا بين مبدأ معلوم مأخوذ به و أمر مشاهد يخالف مقتضيات هذا المبدأ .من أمثلة ذلك فكرة كمومية حالات الطاقه الالكترونيه في الذره ، التي قدمها بور لتزيل التناقض بين وجود الذره المستقره و بين الكهروديناميكا التقليديه التي تقتضي انهيارها بسبب أن الجسيمات المشحونه المتسارعه تشع فتفقد من طاقتها مع الزمن . فكرة بور فرضيه بلزوم الالكترونات لمسارات معينه محددة الطاقه ، دون أن تشع ، طالما بقيت عليها رغم تسارعها و شحنتها . هذه الفكره الجريئه التي تقول بالتخلي عن مبادئ جيده لم يعرف لها اختلاف مع التجارب من قبل ، في ظروف معينه ، أصبحت احدى أهم الأفكار في تاريخ الفيزياء ، و عليها بني تفسير طيف الهيدروجين و كانت مدخلا لمكانيكا الكم و الفيزياء الحديثه .
    و من أمثلة هذه القفزات الجامحه المدفوعه بالرغبه في ازالة تناقض صريح ، الفكره الجريئه بافتراض وجود جسيم لم يشاهده أحد لازالة النتاقض بين تجارب تفكك النوى غير المستقره و مبدأ حفظ الطاقه . فكرة باولي فرضيه بوجود جسيم دقيق له خصائص لا تسمح بمشاهدته ، يظهر نتيجة التفكك ، مع الجسيمات المنتجه المشاهده فيحمل معه فارق الطاقه الذي تعطيه التجارب !
    لم يؤبه للفكره بادئ الأمر ، و لكنها أخذت بجديه عندما بنى عليها فيرمي نظريه ناجحه للتفاعلات النوويه الضعيفه ، و تلعب هذه الجسيمات اليوم دورا مركزيا في نظرية و تجارب الجسيمات الأوليه .
    و من أروع أمثلة هذه القفزات الفكريه التي تستهدف ازالة التناقض البين ، فكرة أن جسيمات الكوارك و هي الجسيمات التي يتكون منها البروتون و النيوترون و لم تشاهد حتى الآن ، انما تأتي بشحنات من ثلاثة أنواع ، سميت بالألوان . قدمت الفكره لازالة التناقض بين وجود جسيمات معينه مكونه من جسيمات الكوارك و بين مبدأ الاستقصاء في ميكانيكا الكم ، و هو مبدأ أساسي لم يعرف له اختلاف مع التجارب من قبل .
    عندما قدمت الفكره لأول مره ظن كثيرون أنها النهايه المضحكه لأنموذج الكوارك ، و هو التصور الذي يعتمد جسيمات الكوارك المركبات الأوليه للماده النوويه ، و لكن سرعان ما أيدت التجارب مصداقية فكرة الألوان . و هي تشكل اليوم أهم مرتكزات النظريه المعاصره للتفاعلات النوويه القويه.و التي أصبحت تسمى " ديناميكا الألوان الكميه"!!
    ما ذكرناه لا يستقصي سمات الحجه المقبوله لدعم الدعاوى في العلم الطبيعي ، و لكننا نكتفي به لأنه يفي بالغرض منه ، و هو توضيح طبيعة البرهان العلمي في أدق مجالات العلم الطبيعي و أرسخها . و بقي أن نختم هذا الحديث بأن ننفي عن الحجه العلميه سمه يظنها الكثيرون لازمه للعلم و قوانينه ، و هي أن تكون مقنعه للجميع ، أي لكل من يهتم بموضوعها من المختصين ، هذا الظن خاطئ .
    ذلك أن الباب يظل دائما مفتوحا أمام العمل البحثي في كافة مجالات العلم الطبيعي ، خارج نطاق التصورات و النظريات المعتمده لدى غالبية العاملين في الحقل و التي تشكل التيار الرئيس للمفاهيم السائده .
    سبب ذلك واضح و هو عدم وجود براهين أو قوانين أو نظريات مضبوطه و قاطعه بحيث يستحيل الخروج عن نطاقها ، و واقع الحال يؤكد ذلك اذ أننا نجد في كل حقل نفرا من الباحثين المتمردين على التيار الرئيس يكتبون من منطلقات بعيده عن هذا التيار ، بعضها لا يخلو من غرابه شديده و ينشرون أعمالهم في أميز المجلات العلميه المتخصصه !!
    أنتقل الآن لتوضيح أن ما نطلبه لقبول الحجه العلميه قد لا يسهل ادراكه و أن اصرارنا على اكمال متطلبات القناعه كما نراها قد يعوق مسيرة العلم الطبيعي الأساسي .

    ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً -- ويأتيك بالأخبار من لم تزودِ

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2010
    المشاركات
    903
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي


    ج2
    الجنوح نحو التجريد:

    أكثر النظريات العلميه عمقا ، لطبيعة موضوعها و لما تم في مجالها من تطور كبير هي النظريات الفيزيائيه المتعلقه بالماده الدقيقه و تفاعلاتها.
    في العقود الأخيره من القرن الحالي جنحت هذه النظريات باضطراد نحو التجريد في المفاهيم و التصور .
    بسبب ذلك بعدت الشقه بين مقولاتها و امكانية التحقق بالتجريب من اتفاقها مع الواقع ، و هذا التحقق كما ذكرنا يعتبر في ختام المطاف محك القبول أو الرفض .نجد هذا في أوضح صوره في " نظرية الخيوط " التي يعمل عليها حاليا عدد كبير من الباحثين ، بينهم بعض أميز الفيزيائيين النظريين .
    تفترض هذه النظريه أن المكون الأساسي للماده خيوط دقيقه جدا تهتز و تتعرج و تتداخل فتشكل أنماط حركتها ، عند أقل مستويات الطاقه ، الجسيمات الأوليه بخصائصها و تفاعلاتها المعروفه .و التصور فيها أن هذه الخيوط نشأت في العالم و هم في عشرة أبعاد ، البعد الزمني و تسعة أبعاد مكانيه ، و كان يخلو من كل ما نراه فيه اليوم ، و أن الموجودات تكونت من الخيوط و تفاعلت في بيئه من حقول القوى ظهرت نتيجة تقلص الأبعاد المكانيه ، على مراحل متدرجه ، من التسعه المفترضه الى الثلاثه التي نراها اليوم .
    في ختام هذه التحولات الطوريه استقرت الموجودات و التفاعلات على ما يتصف به الكون من خصائص في بداياته الأولى وفق النظريات الكونيه المعتمده ، و التي بنيت على النظريه النسبيه العامه و الفيزياء النوويه .
    البناء الرياضي لهذه النظريه ما يزال محل الدراسه المكثفه بواسطة مجموعه كبيره من الفيزيائيين و الرياضيين، و يبدو مما هو معلوم حتى الآن أنه يفي بمتطلبات رياضيه عجزت النظريات السابقه عنها ، من أهمها خلوه من الانفراج ، أي القيم اللانهائيه ، و تحقيقه للتناسق الشامل تحت التحولات الاحداثيه العامه ، و توحيده في تصور المنشأ و في طرق المعالجه لكافة القوى الطبيعيه بما في ذلك قوة الجاذبيه ، غير أن هذا البنيان الرياضي الرائع هو الحجه الوحيده المقدمه حتى الآن لأخذ هذه النظريه مأخذ الجد و اعتماد الانشغال بها عملا مشروعا للباحثين في الفيزياء الأساسيه ، اذ لا يوجد دليل تجريبي واحد على صحة هذه التصورات البعيده عن المختبرات و معداتها .
    هذه الحجه من قبيل القفزات الجامحه من أجل ازالة تناقض بين المبدأ و الواقع .
    الا أن القفزه هذه المره أعظم جموحا و التناقض أقل وضوحا ، القفزه في أبعاد الزمان و المكان ، و التناقض بين المبدأ و التصور . ذلك أن النظريه تستهدف في المكان الأول حل مشكلات رياضيه في الصياغات السابقه ثم تأمل أن يؤدي ذلك لفهم شامل لكل الوجود المشاهد .
    أثارت هذه النظريه نقاشا حادا بين أنصارها الذين يعتبرونها أهم انجازات الفكر البشري و يسمونها " نظرية كل الوجود " و بين عدد كبير من الفيزيائيين النظريين الذين يعتبرون الانشغال بها ملهاة عن العمل الجاد ، بسبب أنها لا تشكل نظريه فيزيائيه تتصل بالواقع أي اتصال يمكن من اختبارها و تطويرها . و من هؤلاء من يرى فيها محاوله للعوده لطرق الفلسفه اليونانيه العقيمه التي ترى أن قضايا العلم بطبيعة الأشياء و أسباب سلوكها يمكن أن تحل بمجرد التأمل الفكري دون الحاجه لربط الفكر بالتجريب ، و الحقيقه أن في هذا الموقف اجحافا ، ذلك أن الاعتبارات النظريه التي أسس عليها البنيان الرياضي لنظرية الخيوط نشأت عن معاناه فكريه استمرت سنوات طويله من أجل فهم القوى الأساسيه في الطبيعه و اختزالها في عبارات رياضيه بسيطه تحترم المبادئ النظريه المستنبطه من آلاف التجارب و المشاهدات ، النجاح المذهل لهذا المجهود و الرغبه في حل القضايا و الاشكاليات المتعلقه بالصياغه أعطيا الدافع القوي للقيام بقفزه جامحه قد تحقق بخطوه واحده الغايه المستهدفه : توحيد أصل الموجودات و ربط كل شيء بكل شيء آخر .
    يعلل منظرو الخيوط انقطاع صلتهم بالمختبرات ببعد الشقه حاليا بين الطاقه المتاحه في المعجلات الموجوده و الطاقه العاليه المطلوبه لاختبار صحة نظرية الخيوط.
    هذه العله صحيحه و لكن التعبير عنها بهذه الكيفيه يعطي انطباعا خاطئا بأن الأمر مؤقت ، الحقيقه هي أن الطاقه المطلوبه يستحيل بلوغها بالمعجلات المؤسس تصنيعها على المبادئ المعلومه حاليا . و انتظار ادراك هذه الطاقات خلال فتره زمنيه تهم انسان هذا العصر تعلق بأمل كاذب لا يتوقع تحقيقه .
    مسوغ الاهتمام بالنظريه ليس احتمال أن يؤكدها التجريب في المستقبل ، المسوغ الحقيقي للاحتفاء بها هو كونها بنيانا رياضيا يحقق الشروط العامه لشكل النظريه الفيزيائيه الأساسيه ، كما هي معلومه من الأمثله المعتمده ، و يمكّن من حيث المبدأ من معالجة كافة أنواع القوى دون أن يشكو من تناقضات داخليه فيه .
    نظرية الخيوط تبرهن وجود صياغات رياضيه تحقق ما نطلبه حاليا من شروط ، أما التصور الفلسفي للكيفيه التي يتحول بها مثل هذا البنيان الى واقع يتفق مع تجاربنا و مشاهداتنا فهو في الحقيقه حتى الآن مجرد تصور جميل ، خيال رائع لنشأة الخلق من عالم غيبي لا يشبه هذا العالم و لا يحوي شيئا مما فيه .
    وجود البنيان الرياضي ينفي استحالة انشاء نظام نظري يحقق الشروط المطلوبه وفق ما نراه اليوم ، أما وجود التصور الفلسفي المرتبط بهذا البنيان فسببه أنه المثال الوحيد الموجود حاليا لنظام يحقق هذه الشروط و ليست المسأله فيه مسألة برهان بقدر ما هي مسألة ايمان!! .
    لقد بدأنا باعتبارات لصيقه بالتجريب فكيف انتهينا الى التجريد و الخيال و الى الايمان بالتصور المبني على هذا التجريد؟ في ظني أن مثل هذه المسيره من طرف المعرفه الغليظ الذي يغوص في الواقع الى طرفها اللطيف الذي يطفو على الخيال ، مسيره ضروريه طالما ظللنا نبحث عن أصل الموجودات ، فالبحث عن أصل هذا القلم الذي أكتب به يبدأ بالخشب الذي صنع منه غلافه و بالجرافيت الذي استخلص منه مداده عبر كل ما نعلم من الكيمياء و الفيزياء ، الى التساؤل حول أصل كل الماده و الطاقه ، ثم الى تأمل كيف بدأ الخلق ، ثم الى الخروج عن دائرة العالم المشاهد الى عالم غيبي صدر عنه هذا العالم .
    في ظني نظرية الخيوط مثال لهذا الخروج الحتمي في مرحله من مراحل هذه المسيره !!.

    البرهان و الايمان :

    التطور المضطرد في مسيرة بحث العلم الطبيعي عن الأصول و الجذور كان دائما في اتجاه تقليل عدد المكونات الأساسيه للماده ،عن طريق التوصل للارتباطات التي تفسر نشأة بعض أشكال الماده عن البعض الآخر ، و تحديد مجموعه صغيره من المكونات تعتبرها النظريه المعاصره أوليه ، لا يفسر وجود أي عضو فيها ارتباطه ببعض الأعضاء الآخرين. خاتمة هذا المسعى و منتهاه الذي يستقر عنده ، ان بلغه ، هو التوصل لعنصر أولي واحد ، جسيما كان أو حقلا ، و الى تصور واضح للكيفيه التي انبثق بها العالم المشاهد عن هذا العنصر الأولي .
    من هذا التصور نتبين خصائص و صفات هذا العنصر التي تلينا ، أي تلك التي يمكن أن تقود اليها دراستنا لعالمنا المشاهد ، فان كانت له خصائص و صفات أخرى مكنت من ظهور عوالم أخرى لا ندري عنها شيئا ، فلن يكون لنا بها علم .
    حدود علمنا بهذا العنصر الفريد هي الاحاطه ، ان استطعنا ، بتلك الخصائص و الصفات التي نعتبرها ضروريه لظهور عالمنا الذي نشاهده و ندرس سلوكه و تطوره ، و هذه حدود مطلقه للمعرفه البشريه يقر بها كل عالم تدبر الأمر و فكر فيه ، و هي مفروضه علينا بحكم وجودنا داخل فقاعة البيئه التي ندرسها ،و عدم استطاعتنا أن ننفذ من أقطار السماوات و الأرض ، لنرصد هذه الفقاعه من خارجها .
    حقق التيار الرئيس لمسيرة العلم الطبيعي في البحث عن الأصول و الجذور انجازات رائعه نتجت عنها منظومه فكريه مدعومه بالحجج القويه التي تصلها بالتجريب و توطدها على أساسه . و لدى أغلب الباحثين في المجال اعتقاد بأن توفير التمويل اللازم و بذل الجهود المكثفه قد يمكن من بلوغ الغايه خلال بضع عقود . و أنا أسأل : ما سبب الاعتقاد بوجود هذه الغايه أصلا ؟ هل لدينا برهان بوجود عنصر فريد أو حقل فريد يشكل الأصل الذي صدر عنه كل شيء ؟ بعض الباحثين يرفض هذا التساؤل بدعوى أن العلم لا يقوم على فرضيات مسبقه . يقول اننا نقبل على هذا الأمر بذهن مفتوح يقبل كل ما تقود اليه البحوث ، و ليس لدينا اعتقاد مسبق بوجود غايه معينه هي التي نستهدفها ، و ما وجدنا من تقليل في عدد المكونات الأساسيه للماده ، باضطراد مع تطور الأجهزه و تدقيق المفاهيم ، انما وجدناه لأنه يمثل الواقع الفعلي و لم نبدأ من نظريه تتنبأ به .
    هذا الموقف ممكن و يسهل الدفاع عنه ، ممكن لمن يتأمل المسيره من مقاعد المتفرجين . اما موقف فرسان الميدان ممن يسهرون الليالي و يفنون العمر في مجاهدة المعادلات و المعجلات فهو موقف من يدفعه ايمانه بصدق تصور معين لدرجه تشبه اليقين المطلق لبلوغ الغايه المحدده التي يكاد يراها رأي العين و لا يرى سواها .
    لم يكتف الباحثون عن كنه البروتون بتصورهم وجود ثلاثة مكونات أساسيه حبيسة كيانه ، قوانين ارتباطها معلومه و تفسر كل خصائص البروتون التجريبيه . هذا التصور سليم و مقبول و واف . و مع ذلك فقد ظل الباحثون و ما يزالون يسألون لماذا ثلاثه ؟ ما سبب اتصاف كل منها بصفاته المعلومه ؟ هل كانت موحده على نحو ما ؟ و اذن فما سبب تباينها ؟ لماذا هذه القوانين ؟ هل هي مستقله عن القوانين الطبيعيه الأخرى أم تصدر عنها ؟ و هكذا دواليك . يرغبون أن يتوغلوا داخل البروتون فيكشفوا حججه لينجلي سر هذه الثلاثه . دافعهم اعتقاد صارم بأن هذه التعدديه لا تشفي الغليل و أن توحيد الجذور ممكن . و ليس وراء هذا الاعتقاد برهان و انما وراءه ايمان : ايمان بأن الكون منظم على أساس يريح " الفطره البشريه " التي لا ترضى بالتعدد و تتوق للتوحيد !! هذه الفطره ليست نتاج العلم المعاصر و اتجاهاته البحثيه و انما صاحبت الانسان منذ فجر التأريخ و عبر كل الحضارات السابقه .
    و اذن فلدى الانسان ايمان فطري قبل أن يعرف معنى الحجه و البرهان ، بوجود كينونه ذات مقدره أو ذات صفات تمكن من أن يصدر عنها العالم المشاهد . ما فعله الطبيعيون هو أنهم سعوا لتحقيق هذا التوقع الفطري من منطلق عملهم و بوسائلهم ، بسبب هذا انحصرت غايتهم فيما يمكن أن يبلغوه بوسائلهم : جسيم واحد أو حقل واحد له صفات و خصائص من النوع الذي يرد في المعادلات و يحيط به ما ألفوه من المفاهيم و المصطلحات .
    و أنا أسأل : هل سينتهي متى بلغنا مثل هذه الغايه ، تساؤل السائلين ممن انطلقوا بدوافع الفطره يتوقون للتوحيد ؟ الاجابه عندي بالنفي ، سيظل الناس يسألون العلم الطبيعي عن أصل الأصل ؟ و لكن دون جدوى ! ذلك أن هذه ان تحققت ستكون فعلا نهاية مسيرة العلم الطبيعي ، و غاية ما يمكن أن تحققه وسائله و حججه و براهينه .
    و السبب هو ما سبق أن ذكرنا من أن تفسير هذا الكون بأكمله ، من داخله أمر مستحيل .
    من المستحيل أن تقودنا المعرفه البشريه بوسائلها التي تقوم على مراقبة الموجودات و رصد سلوكها من الوجود الى العدم المطلق أو من العدم المطلق الى الوجود . ليس باستطاعة العقل البشري أن يتخيل ظهور شيء الى حيز الوجود من عالم يكتنفه العدم المطلق و يخلو من كل موجود . لأن ظهور الأشياء هكذا من العدم يعني انتفاء السبب المرتبط بالحدث و هذا أمر لا يقبله العقل البشري و لا تقوم به حجه .
    غير أن مسيرة العلم الطبيعي توضح جدوى القفزات الفكريه الكبيره ، ليس من الوجود الى العدم و لا من العدم الى الوجود ، و انما من وجود قريب مشاهد الى وجود غيبي لا يرتبط ارتباطا مباشرا بالقريب المشاهد .
    من هذه القفزات قفزة نظرية الخيوط و هي من عالم الوجود القريب المشاهد الى عالم غيبي بعيد ، و لكنها تقيد هذا العالم الغيبي بمفاهيم العلم الطبيعي و نظرياته . و لئن نجح منظروا الخيوط في سد الفجوه بين الواقع و تصوراتهم لبداياته ، فقد أبلغونا غاية العلم الطبيعي التي ذكرناها ، و ذكرنا قصورها عن أن تنهي تساؤل السائلين .
    القفزه الفكريه المطلوبه من الوجود الى الوجود ، و لكن لوجود لا تحده مفاهيم العلم الطبيعي و لا تحيط به قوانينه و نظرياته بل هو علة كل القوانين و منتهى كل السنن . و بمثل هذا نزل الوحي و اليه دعت الرسالات السماويه .

    خاتمه

    العلم الطبيعي هو مجموعة الأفكار و التصورات التي تتسق مع المشاهدات و الملاحظات الناتجه عن مراقبة الموجودات و رصد سلوكها . اتفاق تنبؤات هذه التصورات مع الواقع هو الحجه المقبوله و البرهان المعتمد للاعتقاد بصدقها و صحة رؤيتها .
    و ليس هنالك قيد على الكيفيه التي يتوصل بها الباحثون لأفكارهم و تصوراتهم . بل انهم يختلفون حول ما اذا كان يلزم قصرها على النوع الذي يصلح للاختبار المباشر بالتجريب ، و لقد بنى كثير من علماء الطبيعه تصوراتهم على الايمان الفطري بضرورة وجود بدايات موحده لكافة أنواع السلوك المشاهد و بضرورة وجود أصل واحد لكافة أنواع الموجودات المشاهده ، دون انتظار اكمال الحجج و البراهين المؤسسه على الواقع .و هذا المسعى لا يكمله العلم الطبيعي و يبلغه منتهاه ، و انما يتطلب أن ننفذ خارج العالم المادي و نتجاوز حدود العلم الطبيعي ، وسائله و حججه ، و هذه هي رسالة الوحي السماوي و ما بلغه الرسل و هدوا اليه من شاء الله أن يهتدي : ( و كذلك أوحينا اليك روحا من أمرنا ، ما كنت تدري ما الكتاب و لا الايمان ،و لكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا ، و انك لتهدي الى طريق مستقيم ) . (الشورى ، 52 ) .
    ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً -- ويأتيك بالأخبار من لم تزودِ

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. كوة العلم الطبيعي التجريبي الضيقة؛ مقال هام للغاية!
    بواسطة elserdap في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 05-21-2014, 12:30 AM
  2. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 05-16-2014, 02:08 AM
  3. خبر: ماهية الدين
    بواسطة عقل في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 06-28-2013, 10:22 PM
  4. مناظرة: حول ماهية السنة و حُجيتها
    بواسطة caxine في المنتدى قسم السنة وعلومها
    مشاركات: 77
    آخر مشاركة: 05-18-2012, 12:19 AM

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء