لن يجادل أحد في كون صناعة طاولة من خشب تتطلب معرفة وعلما بحرفة النجارة؛ لكن «صناعة» الإنسان –من خلال عملية الدعوة والتربية، بما تعنيه من إعادة صياغة نفسيته وسلوكه- يبدو وكأنها لا تتطلب عند بعض القائمين بأمر الدعوة الإحاطة بعلوم النفس والتربية والاجتماع، إنما تكفي آية للوعد وأخرى للوعيد، وبضعة أحاديث، وقائمة للحلال والحرام تعلن على أسماع العباد لتحقيق التغيير النفسي، وتخريج نماذج بشرية ملتزمة بالسلوك الإسلامي!أقول هذا بمناسبة سماعي لشريط صوتي بالغ فيه أحد الدعاة في إيراد مشاهد عذاب القبر وربطها بمجموعة من الأوامر والنواهي، حاسبا بذلك أنه انتقى أفضل مسلك لاستجاشة شعور الطاعة.إن ثمة أمرا ينبغي أن نتأمل فيه جيدا، وهو انحطاط السلوك الحضاري داخل المجتمعات العربية الإسلامية. ففعلنا الإنتاجي معطل، وإذا ما تحرك قليلا وصنع شيئا صار ذلك المنتوج مضرب المثل في الرداءة والقدرة على غش المستهلك.. ومؤسساتنا الإدارية مشروخة بأدواء التزوير والرشوة والمحسوبية.. وإذا انتقلنا من أخلاقيات المؤسسات الجمعية إلى أخلاقيات الأفراد فسنلاحظ أن الجرائم في تصاعد منذر بتفكك الرابطة الاجتماعية، وانحرافات السلوك تتعدد وتكثر على نحو يحول بعض كبريات المدن العربية إلى غابة تسرح فيها حيوانات لا توقر عرضا ولا شرفا، مع أنها حيوانات يفترض أنها عاقلة، وتتسمى بأسماء مسلمة!!فكيف يجوز هذا، مع أننا الأمة الوحيدة التي تستطيع أن تجمع جموعا هائلة ينصتون كل أسبوع إلى خطب تربوية إرشادية تتركز على توجيه السلوك وترقيته، فأين يذهب مفعول خطب الجمعة؟صحيح أننا لا نضع كل هذه المسؤولية على منبر الجمعة، إنما نستحضر ذلك فقط من باب التمثيل لما نملكه من أدوات ومناسبات تربوية مهمة. وعندما نطرح السؤال، فذلك لأن هنا مفارقة تستفز التفكير، ولبيانها يكفي أن نقارن بعض المجتمعات العربية المسلمة بمجتمعات وثنية آسيوية، حيث لا بد أن ننتهي إلى أن الالتزام الأخلاقي عند هذه أفضل بكثير مما عندنا.فما سبب ذلك؟ هل هو اقتصادي فقط؟بالتأكيد لا؛ لأن درجة الفقر في بعض المجتمعات الآسيوية أفظع من فقر بعض بلداننا العربية، ورغم ذلك فهي أفضل منا في سلوك مسلك الالتزام الأخلاقي، وفق أعرافها المجتمعية.وفي رمضان الماضي، قدم الإعلامي أحمد الشقيري في برنامجه «خواطر» حلقات ركز فيها على مقارنة سلوكنا نحن العرب، بسلوك الإنسان الياباني، فخلص إلى تسجيل ملاحظات نقدية ذكية. والواقع أن هذه المقارنات يجب أن تدفعنا إلى التفكير مليا في كيفية صناعة الإنسان في مجتمعاتنا الإسلامية، وتركيز الاستفهام على دور التربية والدعوة الإسلامية؛ لأنها بالتأكيد لا تحقق المطلوب منها. ولتحقيق منهجية هذه المساءلة لا بد لقادة الفكر والتربية في المجتمعات الإسلامية من الاستعانة بباحثين متخصصين في علوم النفس والاجتماع، لضبط قواعد ومعايير التنشئة الاجتماعية وبحث مواطن الخلل فيها.
د/ الطيب بوعزة - جريدة العرب القطرية
Bookmarks