" السلام عليكم ورحمة الله وبركاته "

بوابات المعصية

لــــ د. نوال العيد


اعلمي أخيتي أن للمعصية عدة أبواب تقود إليها فاحذريها.. وهي عديدة لا يمكن حصرها أوجزها على النحو التالي:

أولاً: النظرة: فأما اللحظات فهي رائد الشهوة ورسولها، وحفظها أصل حفظ الفرج، فمن أطلق بصره أورد نفسه موارد الهلكات. وعند الترمذي (5/101) من حديث عليَّ رضي الله عنه مرفوعاً: "يا
عليَّ لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة"
(حسنه الألباني).

وفي صحيح ابن حبان (5/271) من حديث عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"اضمنوا لي ستاً أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا اؤتمنتم،
واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم"
..

والنظرة أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان، فالنظرة تولد خطرة، ثم تولد الخطرة فكرة، ثم تولد الفكرة شهوة، ثم تولد الشهوة إرادة، ثم تقوى فتصير عزيمة جازمة، فيقع الفعل ولابد، ما لم يمنع
منه مانع، وفي هذا قيل: "الصبر على غض البصر أيسر من الصبر على ألم ما بعده".

قال الشاعر:

كل الحوادث مبداها من النظـــر *** ومعظم النار من مستصغر الشـرر

كم نظرة بلغت من قلب صاحبها *** كمبلغ السهم بين القوس والوتـــــــر

والعبد ما دام ذا طــــرف يقلـبه *** في أعين الغيد موقوف على الخطر

يسر مقلته ما ضـــــــــر مهجته *** لا مرحباً بسرور عاد بالضــــــرر


فاحفظ بصرك عن ما حرم الله عليك، وهنا أشير إلى ضرر القنوات الفضائية، وما تبث من سموم، وما تسحب من لذة طاعة، وجلاء إيمان، فاحذر أن يراك الله في ما لا يجب، عصمني الله وإياك من
الفتن.

ثانياً: الخطرة: وأما الخطرات فشأنها أصعب، فإنها مبدأ الخير والشر ومنها تتولد الإرادات والهمم والعزائم، فمن راعى خطراته ملك زمام نفسه، وقهر هواه، ومن غلبته خطراته فهواه ونفسه له أغلب،
ومن استهان بالخطرات قادته قهراً إلى الهلكات.

واعلم أن ورود الخاطر لا يضر، وإنما يضر استدعاؤه ومحادثته، فالخاطر كالمار على الطريق، إن تركته مر وانصرف عنك، وإن اُسْتُدْعِيَ سحرك بحديثه وغروره، يقول ابن القيم في طريق الهجرتين (
274) "قاعدة في ذكر طريق يوصل إلى الاستقامة.. وهي شيئان: أحدهما حراسة الخواطر وحفظها والحذر من: إهمالها والاسترسال معها فإن أصل الفساد كله من قبلها يجيء به لأنها هي بذر
الشيطان، والنفس في أرض القلب، فإذا تمكن بذرها تعاهدها الشيطان بقية مرة بعد أخرى حتى تصير إرادات ثم يسقيها بسقيه حتى تكون عزائم ثم لا يزال بها حتى تثمر الأعمال ولا ريب أن دفع
الخواطر أيسر من دفعها بعد أن صارت إرادة جازمة، وهو المفرط إذا لم يدفعها وهي خاطر ضعيف، كمن تهاون بشرارة من نار وقعت في حطب يابس فلما تمكنت منه عجز عن إطفاؤها.

فإن قلت فما الطريق إلى حفظ الخواطر؟ قلت: أسباب عدة أحدها: العلم الجازم باطلاع الرب سبحانه وتعالى ونظره إلى قلبك وعلمه بتفاصيل خواطرك.

الثاني: حياؤك منه. الثالث: إجلالك له أن يرى مثل تلك الخواطر في بيته الذي خلق لمعرفته، الرابع: خوفك منه أن تسقط من عينه بتلك الخواطر، الخامس: إيثارك له أن تساكن قلبك غير محبته،
السادس: خشيتك أن تتولد تلك الخواطر ويستشعر شرارها فتأكل ما في القلب من الإيمان ومحبة الله فتذهب به جملة وأنت لا تشعر. السابع: أن تعلم أن تلك الخواطر بمنزلة الحب الذي يلقى
للطائر ليصاد به؛ فاعلم أن كل خاطر منها فهو حبة في فخ منصوب لصيدك وأنت لا تشعر. الثامن: أن تعلم أن تلك الخواطر الرديئة لا تجتمع هي وخواطر الإيمان ودواعي المحبة والمعرفة والمحبة
فأخرجتها واستوطنت مكانها لكن لو كان للقلب حياة لشعر بألم ذلك..

وتذكر ـ رحمك الله ـ قصة أبينا وأمنا مع الشيطان وكيف دخل الخواطر وزين أكل الشجرة، بل وعلم أن الإنسان يحب الغنى والبقاء، فقال لهما:
{مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ
أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ}
وقال في سورة طه {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى * فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ
وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}
فانظر كيف أسمى قبح عمله وأسمى الشجرة التي نهى الله الأبوين عنها وبين عاقبة أكلها فقال: {وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ} شجرة الخلد، وهذا باب كيده
الأعظم الذي يدخل منه على ابن آدم؛ فإنه يجري منه مجرى الدم حتى يصادف نفسه ويخالط ويسألها عما تحبه وتؤثره، فإذا عرفه استعان بها على العبد، ودخل عليه من هذا الباب، وكذلك علم
إخوانه وأولياءه من الإنس.

فاحذره واستعن بالله على دفع وساوسه، ولا تسلم خاطرك له، فتعصي ربك، فتندم
{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} ولا يغرنك تغير المسميات ما دام أن
حقيقتها محرمة، وقد نبأك الله عن كيده مع أبيك وأمك، والمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، فقد أسمى الربا فوائد مادية، والتبرج والسفور تقدماً وحرية، والعلاقات المحرمة صداقة، فلا حول ولا قوة إلا
بالله.

ثالثاً:اللفظة: وأما اللفظات فحفظها بأن لا يخرج لفظة ضائعة وأن لا يتكلم إلا فيما يرجو فيه الربح والزيادة في دينه، فإذا أراد أن يتكلم بالكلمة نظر: هل فيها ربح وفائدة أم لا؟ فإن لم يكن فيها ربح
أمسك عنها.

قال "يحيى بن معاذ": "القلوب تغلي بما فيها، وألسنتها مفارقها، فانظر إلى الرجل حين يتكلم فإن لسانه يفترق لك مما في قلبه، حلو وحامض، عذب وأجاج، ويبين لك طعم قلبه اغتراف لسانه، كما
تطعم بلسانك طعم ما في القدور فتدرك العلم بحقيقته، كذلك تطعم ما في قلب الرجل من لسانه".

وفي المسند (3/198) من حديث أنس مرفوعاً:
"لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه" وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل النار؟ فقال: "الفم
والفرج"
قال الترمذي: حديث صحيح (2004).

ومن العجب: أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة والنظر المحرم وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركة اللسان! وكم ترى من رجل متورعٍ عن الفواحش
والظلم، ولسان حاله يفري في أعراض الأحياء والأموات! وإذا أردت أن تعرف ذلك فانظر فيما رواه مسلم في صحيحه (2621) من حديث جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدث أن رجلاً
قال:
"والله لا يغفر الله لفلان، وإن الله تعالى قال: من ذا الذي يتألى عليَّ أن لا أغفر لفلان فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك" فهذا العابد الذي قد عبد الله ما شاء الله أن يعبده أحبطت هذه
الكلمة الواحدة عمله كله.

وفي البخاري (6113) من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي بها بالاً يرفع الله درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا
يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم".. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة يرفعه: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت"
وفي الترمذي (2421) عن أم حبيبة زوج النبي صلى الله
عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر الله".. (قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب).

وقال بعض الصحابة لجاريته يوماً: هاتي السفرة نعبث بها ثم قال: أستغفر الله ما أتكلم بكلمة إلا وأنا أخطمها وأزمها إلا هذه الكلمة خرجت مني بغير خطام ولا زمام.

وأيسر حركات الجوارح حركات اللسان وهي أضرها على العبد. وفي اللسان آفتان عظيمتان، إن خلص من إحداهما لم يخلص من الأخرى: آفة الكلام، وآفة السكوت، وقد يكون كل منها أعظم إثماً
من الأخرى في وقتها، فالساكت عن الحق شيطان أخرس، عاص لله، مراء مداهن إذا لم يخف على نفسه، والمتكلم بالباطل شيطان ناطق عاص لله، وأهل الوسط أهل الصراط المستقيم كفوا ألسنتهم
عن الباطل، وأطلقوها فيما يعود عليهم نفعه في الآخرة.

رابعاً:الخطوات: وحفظها أن لا ينقل قدمه إلا فيما يرجو ثوابه عند الله تعالى، فإن لم يكن في خطاه مزيد ثواب فالقعود عنها خير له، ويمكنه أن يستخرج من كل مباح يخطو إليه قربة يتقرب بها وينويها
لله فتفتح خطاه قربة، وتنقلب عادته عبادة، ومباحاته طاعات، فإن مكثت المرأة في بيتها لإصلاح أمر زوجها، والقيام بشؤون أولادها، واحتسبت ذهابها وإيابها كتب لها الأجر إن شاء الله، سارت لصلة
قريباتها، واحتسبت الأجر في صلة الرحم كتب لها إن شاء الله، وعليه فقِسْ، ولما كانت العثرة عثرتين عثرة الرجل وعثرة اللسان، جاءت إحداهما قرينة الأخرى في قوله تعالى
{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ
يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}
فوصفهم بالاستقامة في لفظاتهم وخطواتهم كما جمع بين اللحظات والخطرات في قوله تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ }