الحمد لله خالق السماوات والأرض، جاعل الظلمات والنور، أحمده حمدا كما ينبغي لكرم وجهه وعزّ جلاله، وأستعينه استعانة من لا حول له ولا قوة إلا به، وأستهديه بهُداه الذي لا يضل من أنعم به عليه، وأستغفره لما أزلفتُ وأخرتُ استغفار من يُقر بعبوديته، ويعلم أنه لا يغفر ذنبه ولا ينجيه منه إلا هو .

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قائم بلا عمد، واحد بلا عدد، لا يفنى ولا يَبيد، ولا يكون إلا ما يُريد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خصه تعالى بجوامع الكلم، وغرر الحكم، علم المؤمنين الكتاب والحكمة. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.

وبعد :

فهذا ميثاق للتناظر اجتهدتُ في وضعه استنباطا مما جاء في الكتاب والسنة، ثم كلام أهل العلم والنظر من السلف والخلف، فخلصت إلى استخراج أحد عشر شرطا، وأضاف الفاضل الموقر أبو القاسم المقدسي شرطين فيه، فكانت آخر ديباجاته ثلاثة عشر شرطا بالتمام والكمال .

واعلم أخي الكريم - أطال الله عمرك في الطاعة - أن باب المناظرة والجدل من أعوص الأبواب، لا من جهة أن يكون المناظر قوي الحجة غزير العلم ذو ذكاء وبديهة فحسب، بل من جهة أن الإدمان عليه قد يؤدي إلى الغلظة والتقاعس في العبادات والأخلاق، فلزم على الوالج أن يكون رقيبا على نفسه غير مفرط في محاسبتها، حتى لا يضيع العمل في ثنايا العلم، ولا ينفر من حيث وجب التبشير والجلب، فقد تكون حجة أحد المخالفين أمام الله سبحانه في كون داعية نفره بكلمة، أو استهزأ به في ثنايا سطر أو جملة، ولا أحسب أن أحدنا يحب لنفسه هذا الإحراج أمام خالق السماوات والأرض، ولا أن يبوء بمثل هذه المهلكات التي تهد الجبال.

أما آداب التناظر فهي :

1- أن يكون المناظر قاصدا بمناظرته التقرب إلى الله عز وجل، فإخلاص النية واجب،وأن يقبل على النفس ويستكمل فضائلها فكثرة الجدل تضعف العمل وتورث الشدة والغلظة. وعليه بتقوى الله عز وجل ولا يقصد بمناظرته المباهاة وإبراز العضلات والرياء، حتى يُقال عليه بين إخوانه أنه عالم أو قاهر الملاحدة وما شابه ، فكل ذلك مما يوقع في العجب ويحبط العمل. وأن يجعل قصده من المناظرة تحقيق الحق ومحق الباطل، وبيان ذلك للخصم، وإرادة هدايته للطريق المستقيم، لا مسح الأرض به وتنفيره .

2- قبل الشروع في المناظرة يبتدئ بحمد الله تعالى والثناء عليه، والصلاة على رسوله،فذلك مما يعين على التوفيق في الإبانة عن تهافت الباطل والكشف عن حجج الحق، وهو سنة النبي عليه الصلاة والسلام والسلف من الأئمة رضي الله تعالى عنهم.

3- الاستعانة بالدعاء طول المناظرة، وقد تستمر لأيام أو لأسابيع، فلا يغفلن عن الدعاء للخصم بالهداية وله بالتوفيق، فالمناظر إنما يتعبد الله تعالى بمناظرته تلكـ ويرجوا أن يشرفه عز وجل بأن يسلم أحدهم على يديه.


4- أن يتجنب الكلمات التي تفضي إلى تعكير صفو المناظرة، كأن يستهزىء بالخصم، أو يصفه بالغباء أو البلادة، فكل ذلك من الصوارف عن الحق، فيقذف بخصمه إلى غياهب التعنت والتكبر، ويقطع مادة الفهم والخاطر.

5- أن يتجنب التطويل في المداخلة دون لزام، فالكلام إن طال دون داع اشتمل على إطناب تمجه الآذان - مجازا وإلا فنحن في مناظرة كتابية- وتمله القلوب، وقد يكون الخصم ممن يعييه التطويل فيمر مرور الكرام وهذا وجب الاتفاق عليه ابتداءا.

6- على المناظر أن يلزم الخشوع والتواضع ، فإن أخطأ فلا يستحي من إبراز غلطه، والاعتذار إن فهم كلام الخصم على غير مراده، وإن لم يفهم كلمة أو جملة فليسأل عنها الخصم.

7- ألاّ يسرع في مكالمة الخصم وتحديه في المناظرة حتى يتابع نفسيته ومداخلاته ، فقد يكون باحثا عن الحق كما قد يكون مجادلا معاندا، أو سبابا لمازا، وليختر خصمه بعناية فإن وجد في نفسه الجلد على مناظرة كل الخصوم على اختلاف نفسياتهم فليتوكل، وإلا فليترك الساحة لمن هو أجلد منه، ولا يتحدى من هو أعلم منه سواء في علوم الجدل أو غيرها، فإن كان الخصم فيزيائيا أو فلكيا أو فيلسوفا فلا يخوضنَّ معه في ذلك وهو لا علم له بالفيزياء أو الفلك أو الفلسفة أو غيرها .

أما إن ناظرتَ معاندا وترجح عندك مناظرته
، فلا تترك ما قدرتَ عليه من المضايقة، ولا تتق شنعة تجد إليها سبيلا إلا وألحقتها به ، ولا تتساهل معه في شيء وألزمه قدر المستطاع وأفحمه من شتى البقاع، حتى لا يشنع عليك بما يصعب عليك تقصي أمره ورد كيده وإزالة إيهامه، فإن ضايقته وضيقتَ عليه ضعف في نظر القراء، فتكتم باطله وتضربه به فلا يروج له شيء.

وبمثله تعامل من قصد المباهاة، وبعكسه تعامل المبتدئ أو الباحث عن الحق وأضرابه، فلا تدع من التلطف والكشف بأحسن العبارات وأبين الإشارات والتساهل شيئا إلا وتأتي به. وكلما سهلتَ له الطريق وحببته في المعرفة ازداد طمعا في تفهم الحق وحرصا على طلبه إلى أن يوفقه الله للهداية على يديك.

8- ألا تستصغر خصمك حتى وإن كان أقل منك علما وفهما ، وإنزال كل أحد درجته ومنزلته، فميز بين الأستاذ والطالب، وبين النظير والمسترشد، فلا تناظر الأستاذ مناظرة النظير، ولا تناظر الطالب مناظرة الأستاذ، بل تناظر كلا على حقه وتحفظ كلا على رتبته . فإن كان نظيرك فخاطبه بأسلوب العالمِين، واختر له من الحجج أقواها ومن البلاغة مداها. وإن كان طالبا فاحترم قلة علمه وخاطبه بما يفهم. وهكذا دواليك.

9- الحرص على رونق الحق وبهائه، وذلك بألا تقدم في المناظرة أضعف الأدلة، إنما تختار أقواها فتقدم أقلها قوة وتختم بأقواها .

10- الثناء على مناظرك إذا سلَّم لك في أمر، وراعى الآداب العامة، ولمستَ منه ابتغاء الحق، فإن الثناء عليه وبيان محاسنه يزيدك رفعة في نظره، ويذيب الثلج في قلبه، وينصاع لك ويلين أكثر، وتأمن وقوع العناد منه.

11- ولا تتنازل للخصم في حجة من الحجج او شرط من الشروط، أو إلزام من الإلزامات حتى تعلم أنها لا تضرك أو تضر مسار المناظرة .

12- أن يذكّر المناظر مناظره بما يلزم بحسب نوع المناظرة ,وأن له إنهاءها إذا ثبت وقوعه في أحد القوادح كالكذب والتدليس (كثيرا ما يكون مع الرافضة) أو مكابرته في الأمور المسلمة أو العناد ونحو ذلك,وعدم السماح بالحيدة .

13 - مناظرة من تأنس في نفسك التفوق الكبير عليه أي بإتقان الموضوع محل المناظرة لا ما تلمس في نفسك ضعفا فيه .

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.