شفاء السقام بتنزيه الشريعة من أباطيل من ادعى العلم بإسم دين الإسلام


الحمد لله خالق السماوات والأرض، جاعل الظلمات والنور، أحمده حمدا كما ينبغي لكرم وجهه وعزّ جلاله، وأستعينه استعانة من لا حول له ولا قوة إلا به، وأستهديه بهُداه الذي لا يضل من أنعم به عليه، وأستغفره لما أزلفتُ وأخرتُ استغفار من يُقر بعبوديته، ويعلم أنه لا يغفر ذنبه ولا ينجيه منه إلا هو .

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قائم بلا عمد، واحد بلا عدد، لا يفنى ولا يَبيد، ولا يكون إلا ما يُريد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خصه تعالى بجوامع الكلم، وغرر الحكم، علم المؤمنين الكتاب والحكمة. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.

وبعد :

هذا رد مختصر على رسالة الأخ أبو الفضل عبد القاهر الأندلسي، تبين جنايته في تضعيف أثر أنس بن مالك رضي الله عنه، وتكشف بعض مغالطاته فقلتُ مستعينا بالله :

لو سكت الذين لا يعلمون لكان خيرا، فقد رأيت التضعيف أوهى من بنيان العنكبوت، هذا فضلا عن أن يناطح صاحب المقال الإمام البيهقي - الذي يعتبره عدد من هؤلاء من المتقدمين - والإمام الألباني، وليس مستغربا عمّن رد أحاديث الصحيحين في رسالة أخرى له، وجعل نفسه في مقام الإمام النسائي كما سيأتي .

وبدعة التفريق بين منهجي المتقدمين والمتأخرين بغية الإعراض عن علم هؤلاء الأواخر وتسفيهه، أنتج لنا موجة كبيرة من التضعيف والطرح، مست الصحيحين أيضا، فتجد حديثا رواه البخاري ومسلم في أعلى درجات الصحة يضعفه الحدِث ويخوض في رده وهو نكرة لا يُعرف، قد يكون كل عهده بعلم الحديث أربع أو خمس سنوات ! والله المستعان .

فلو كان صاحب المقال متأدبا بالآداب الشرعية وبرسم أهل الصنعة وعرض تضعيفه للحديث دونما تعريض بالأئمة ولمزهم وختمها بقول "الله أعلم" لكان خيرا له، فلما دس السم في العسل لم يبارك له في المقال جملة نعوذ بالله من الخذلان.

واعلموا أيها الأفاضل حفظكم الله ويسر لكم أموركم أن مسائل التصحيح والتضعيف لا تؤتى إلا من مجتهد عارف بمناهج الأئمة، والرجل قد جازف برد أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فما بالك لو كان الأثر ليس مرويا عنه صلى الله عليه وسلم كحال هذا الأثر الذي بين أيدينا عن أنس رضي الله عنه ؟ فلا شك بأن بينهما فرقا وتضعيف كلام صحابي أوهن من تضعيف حديث نبوي، لكن التعريض بالرواة والأئمة في هذا المقال هو عين الغلط والفحش يأثم به المرء ولا شك، خاصة وأن الأثر لم يضعفه أحد من الأئمة حسب علمي ، فلما بحثت عن صاحب الرسالة حتى أتلمس له الأعذار لعله مجتهد من الراسخين، وجدته نكرة لا يُعرف إلا بمقالتين، ولا نعلم أين مجلسه ولا عمن أخذ ولا من أي البلاد هو ولا مبلغه من العلم ولا من زكاه وأثنى عليه ؟! ، وكم هو من السهل إشاعة المقالات عبر الشبكة العنكبوتية، فهي منبر من لا منبر له، سهلة الاقتحام، يسيرة للاشتهار، مجرئة على التصدر، غاوية للطلبة، مشجعة على التعالم ! والله المستعان .

وغرضي من هذه المشاركة كشف بعض الأغاليط التي تمر على غير المتخصصين، خاصة وأن المقال منتشر ولم يتعرض له شخص بالنقد الحديثي، وقد صاغه صاحبه بيقين وجزم وكأن علله ظاهرة بائنة واضحة خفيت على البيهقي والألباني وغيرهم رحم الله الجميع، فاستبانت له هو نسائي زمانه و معين عصره !!

أتى الأخوان "المتروي" و "محب بلال" حفظهما الله تعالى ببعض النصوص التي تبين الخلاف حول التفريق بين عورة الأمة والحرة، وعلى هذا الأساس ينبغي فهم الأثر، فهو مذهب للصحابة مشهور جدا وثابت بالروايات الصحيحة شهرة نار على علم فوق ناطحة سحاب ! ولو فتحتُ كتب الفقه والحديث في هذا ما فرغتُ من جمع الأقوال الكثيرة في هذه البابة .

نأت إلى علة الحديث، فصاحب المقال تأمل المتن وجزم بنكارته، هكذا دونما ذكر لضوابط تضعيف المتن ! فلما نظر في السند لم يسعفه على تحقيق بغيته فتراه يتهافت في رده بشكل غير منهجي بالجملة، فالحديث ليس به مدلس ولا كذوب ولا ضعيف إنما كل رواته ثقات ! فكيف السبيل لرده ؟ فتراه علله بالانفراد ! وفي التعليل بالانفراد هكذا بإطلاق خطورة كبرى، فهناك أحاديث صحيحة أتت من طريق واحدة انفرد بها الرواة فلزم أن كل حديث آحاد منفرد باطل مردود ! ثم أين هي الروايات الأخرى التي تخول لنا الحكم على انفراد حماد بن سلمة واتهامه بالشذوذ أو الخطأ وغيره ؟!

ماهذه بمنهجية أبدا .. فنسأله من ضعف الحديث من المتقدمين ؟ فلا شك أنه كان يروى في زمنهم .

هل المتن به نكارة ؟

رد الحديث من طريق المتن وحده لا يحسنه إلا أهل الاجتهاد في علوم الحديث الذين خالط هذا العلم الشريف لحمهم وعظمهم، وليس لطالب العلم مهما بلغ أن يلج لهذا البحر اللجي، وظني بصاحب المقال أنه يقول بفرضية النقاب ويستشنع كشف الوجه بله التفريق بين عورة الأمة والحرة، ويحسب أنه لا خلاف فيه فلما قرأ الأثر عن الصحابة صُدم فحسب أن عدم ستر شعر الأمة شنيعة من الشنائع ولربما ظن بأن الأمة في بيت عمر كانت تكشف ثدييها للضيفان !، وهذا فهم أعوج .

فيكفي أن يُعرف بأن عدم ستر شعر الأمة كان من المتعارف عليه في زمن الصحابة وأن الإماء غالبا لم يكن ينظر إليهن بشهوة، فكانوا يرون أنه رخصة من الشارع حين الخدمة لهن . يقول الإمام ابن تيمية في رسالته " حجاب المرأة " : [ وقد كانت الإماء على عهد الصحابة يمشين في الطرقات متكشفات الرؤوس ويخدمن الرجال مع سلامة القلوب ]
وقد علق الإمام الألباني في تحقيقه للرسالة بقوله : " كأنه يشير إلى ما رواه البيهقي ... " وأورد الحديث .

يقول الإمام البيهقي في السنن الكبرى بعدما سرد الأثر عن شيخه : [ والآثار عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في ذلك صحيحة ، وإنها تدل على أن رأسها ورقبتها وما يظهر منها في حال المهنة ليس بعورة.]

قلتُ : فلم أغفل كاتب المقال فهم الإمام للأثر ؟ إلا أن يريد استثارة العواطف وأن يفهم الناس على غير مراد المتن ؟ وذلك ظاهر عبر التدليس على البيهقي في سننه حيث أن صاحب المقال استبدل لفظ " تضرب " بـ " تضطرب "، فتأمل رواية البيهقي في السنن :

"وأخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن عبيد الله الحرفي ببغداد ، أنبأ علي بن محمد بن الزبير الكوفي ، ثنا الحسن بن علي بن عفان ، ثنا زيد بن الحباب عن حماد بن سلمة ، قال : حدثني ثمامة بن عبد الله بن أنس عن جده أنس بن مالك قال : كن إماء عمر - رضي الله عنه - يخدمننا كاشفات عن شعورهن ، تضرب ثديهن . "
[ السنن الكبرى، كتاب الصلاة، باب عورة الأمة ص 320، المجلد الثاني طبعة دار الكتب العلمية ]


فالمعنى أن شعرهن يضرب ثديهن، وليس كما يحاول إيهامه السيد، ولم أعثر على لفظ تضطرب عند البيهقي، لكني رأيتها عند الإمام الألباني في كتابه إرواء الغليل نقلا عن البيهقي، فلعلها خطأ مطبعي، أو وقعت في نسخ سابقة للسنن الكبرى ، وهذا يعني أن الرجل لم يقف على سنن البيهقي في طبعته المنقحة إنما استخرج الأثر من إرواء الغليل ! فتأمل .

ثم بدأ صاحب المقال بالحشو والإكثار لكي يدهش القارئ فقال :


و حماد هذا تكلم فيه الأئمة و تفرده بمثل هذا المتن المنكر غير مقبول، كيف و كبار الحفاظ المتقدمين يردون ما تفرد به الحفاظ الكبار كما فعل النسائي مثلا بحديث أبي داود الحفري عن حفص عن حميد عن عبد الله بن شقيق عن عائشة قالت رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي متربعا، قال النسائي :لا أعلم أحدا روى هذا الحديث غير أبي داود وهو ثقة ولا أحسب هذا الحديث إلا خطأ

وعبارة " تكلم فيه الأئمة " توحي بأن حمادا رحمه الله تعالى مجروح ! وهو تدليس على القارئ وليس كذلك كما سيأتي بيانه ..

أما ضربه لمثال الإمام النسائي فكأن لسان حال صاحب المقال تسوية نفسه بالنسائي ! فيقول بلسان الحال لقد رد النسائي متن الحديث لشكه فيه إذاً فسأرد الأثر بنفس الحجة ! وقياس أبي داود على حماد قياس غير سائغ، فالحفري إمام من صغار أتباع التابعين أما حماد فمن الطبقة الوسطى وهو إمام كبير من أئمة أهل السنة و مفتي أهل البصرة و له جهاد ضد أهل البدع وكان سيفا مسلولا عليهم رحمه الله، وثناء العلماء على الحفري لا يبلغ عشر معشار ثنائهم على حماد رحمهما الله تعالى. والنسائي وثق حماد بن سلمة - راجع التعديل والتجريح للباجي - وأخرج له كثيرا من الأحاديث في السنن.

ثانيا : عبارة الإمام النسائي شكك عدد من الأئمة في صحتها، لأنها غير واردة في عدد من النسخ ولا توجد في السنن الكبرى للإمام الذي هو الأصل .

ثالثا : لم ينفرد الحفري بمتن الحديث بل رواه ابن خزيمة من طريق الأصبهاني .

رابعا: الإمام النسائي شيخ الشيوخ في العلل، ولا يبلغ صاحب المقال درجته حتى يستشهد بفعله .

أما قوله بأن الحديث منكر، فالنكارة على ضربين :

1- أن ينفرد الراوي المستور أو الموصوف بالضعف في بعض الحديث أو جله، فيخالف بذلك سائر الرواة الثقات الذين رووا الحديث .

2- أن يتفرد الراويالضعيف بأثر ولا يوجد له أصل إلا من طريقه .

وحماد بن سلمة ليس بضعيف كما سيأتي، حتى يرد تفرده بإطلاق، كما أنه لم يخالف الرواة في هذا الأثر بل على العكس الثابت عن الصحابة .

قلتُ : وقوله" كبار الحفاظ المتقدمين يردون ما تفرد به الحفاظ الكبار " به مغالطة كبرى، وهذا واقع عند كل من يفرق بين منهج المتقدمين والمتأخرين، حيث أنهم لو عثروا على عالمين أو ثلاثة يقررون مسألة سحبوها على عامة المتقدمين، فيشيعون هذا التعميم الغير منهجي، فيقال هذا منهج المتقدمين هكذا بإطلاق! والحق أن بين المتقدمين أنفسهم اختلافات ومنها هذه المسألة، أي تفرد الثقة مطلقا، واستشهاد صاحب المقال بتعريف البرديجي فيه نظر، فهذا الأخير نقل إلينا على اختلاف في ألفاظه ومصدره مفقود، ومذهب إطلاق النكارة على كل حديث تفرد بمتنه الثقة لم يستسغه ابن رجب نفسه ناقل العبارة، لكن صاحب المقال أخفى تعقب الإمام لهذا، حيث أن الإمام ابن رجب ذكر بأن الأكثرين من أهل الحديث يقبلون أفراد الثقات ولا يحكمون بنكارتها، وهو مذهب الشيخين والشافعي وغيرهم - راجع شرح العلل - .. ولو سَلم مذهب صاحب المقال للزم من ذلك لوازم كبيرة منها :

- عدم قبول خبر الواحد العدل .

- غرائب الصحيحين ضعيفة، وهو طعن في الكتابَين .

- اتساع دائرة التضعيف والرد .

وصراحة عند التحقيق نرى بأن رد ما تفرد به الحافظ الثقة بإطلاق ليس محفوظا إلا عن البرديجي في عبارته تلك، ويعارضه كثير من أهل الحديث في أقوالهم وتطبيقاتهم، يقول الخليلي رحمه الله : [ وأما الأفراد فما يتفرد به حافظ مشهور ثقة أو إمام عن الحفاظ والأئمة فهو صحيح متفق عليه] - الإرشاد -

[ قال الحسن بن محمد الزعفراني : قلتُ لأحمد بن حنبل : من تابع عفان على حديث كذا وكذا ؟ قال : وعفان يحتاج أن يتابعه أحد ؟ - أو كما قال -] - تاريخ بغداد -

والأئمة كانوا يحكمون بنكارة المتن عبر القرائن وليس عبر تفرد الثقة، فإن سلم التفرد من القرائن المرجحة لخطأ راويه الذي تفرد به قبلوه، وهو توجيه لفهم تعريف البرديجي .فكيف يُرد حديث حماد بعلة التفرد وهو لم يخالف غيره من الثقات وحديثه خال من قرائن الخطأ ؟ بل روايته موافقة لما صح عن عمر والصحابة في النهي عن تحجب الإماء وتشبههن بالحرائر .


قال البيهقى نفسه عن حماد بن سلمة: هو أحد أئمة المسلمين ، إلا أنه لما كبر ساء حفظه ، فلذا تركه البخاري ، و أما مسلم فاجتهد ، و أخرج من حديثه عن ثابت ما سمع منه قبل تغيره ، و ما سوى حديثه عن ثابت لا يبلغ اثني عشر حديثا ، أخرجها في الشواهد .
قال الحاكم : لم يخرج مسلم لحماد بن سلمة في الأصول إلا من حديثه عن ثابت ،و قد خرج له في الشواهد عن طائفة .
قال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، و ربما حدث بالحديث المنكر.

فهذا هو كلام الأئمة فيه كما يحاول إيهامنا ؟ ومن نافلة القول بأن الرجل اقتطف هذا عن الإمام ابن حجر في تهذيب التهذيب، وحسب تقسيمه فالحافظ من المتأخرين الذين ضلوا وأضلوا فتأمل السفاهة ! يُعرّض بهم ويأخذ عنهم !

أولا البيهقي لم يجرح حمادا بل أشار إلى أنه من أئمة المسلمين إلا أنه لما شاخ ساء حفظه، وعلى التسليم بهذا فيكون كل ما رواه قبل الشيخوخة صحيحا لا غبار عليه أما بعدما شاخ فيحتمل الخطأ، وكيف يتوهم ذلك وقد أخرج له وصحح الحديث ؟ وكذا قول الحاكم وكذا قول ابن سعد، حيث استعمل لفظ "ربما " أي هو على سبيل الظن ودال على أن ابن سعد يراه قليل الخطأ.

وتصحيح البيهقي للحديث دل على أن حمادا رواه قبل سوء حفظه – إن ثبت سوء الحفظ – كيف لا والبيهقي نفسه ذكر ما ذكر ؟

فلنأت إلى أقوال أهل الجرح والتعديل حتى نرى منزلة حماد رحمه الله :

قال المزي : قال أبو طالب ، عن أحمد بن حنبل : حماد بن سلمة أثبت الناس في حميد الطويل ، سمع منه قديما .
و قال الحسن الميموني ، عن أحمد بن حنبل : حماد بن سلمة أثبت في ثابت من معمر .
و قال حنبل بن إسحاق : قلت لأبي عبد الله : وهيب ، و حماد بن زيد ، و حماد بن سلمة ؟ قال : وهيب وهيب كأنه يوثقه ، و حماد بن سلمة لا أعلم أحدا أروى في الرد على أهل البدع منه، و حماد بن زيد حسبك به .
و قال محمد بن حبيب : سمعت أبا عبد الله ، و سئل عن حماد بن زيد ، و حماد بن سلمة أيهما أحب إليك ؟ قال : كلاهما . و وصف حماد بن زيد بوقار ، و هدى ، و عقل .
قال أبو القاسم البغوي : حدثني محمد بن مطهر ، قال : سألت أحمد بن حنبل ، فقال : حماد بن سلمة عندنا من الثقات ، ما نزداد فيه كل يوم إلا بصيرة - أنظر الأعلام للزركلي -
و قال أبو بكر الخلال : أخبرني محمد بن جعفر ، قال : حدثنا أبو الحارث أن أبا عبد الله قيل له : أيما أحب إليك حماد بن زيد أو حماد بن سلمة ؟ قال : ما منهما إلا ثقة، و حماد بن سلمة أقدم سماعا من أيوب ، و كتب عنه قديما فى أول أمره ، و حماد بن زيد أكثر مجالسة له ، فهو أشد معرفة به .

قال إسحاق بن منصور ، عن
يحيى بن معين: حماد بن سلمة ثقة .
و قال عباس الدوري ، عن
يحيى بن معين : حديثه في أول أمره و آخره واحد .
و قال عنه أيضا : من خالف حماد بن سلمة في ثابت فالقول قول حماد . قيل : فسليمان بن المغيرة عن ثابت ، قال : سليمان ثبت ، و حماد أعلم الناس بثابت .

قلتُ - ابن عبد البر الصغير - : فأنت ترى بأن الإمام يحيى بن معين يرجح رواية حماد عن ثابت إن خالفه فيها أحد الرواة الثقات، ولاشك أن في المخالفة تفردا لحماد، كما أن قول بن معين : " حديثه في أول أمره وآخره واحد " يدفع بها تهمة سوء الحفظ في آخر حياته عنه، بل يذهب الإمام ابن معين أبعد من ذلك ويقول : [ إذا رأيت إنسانا يقع في عكرمة ، و في حماد بن سلمة فاتهمه على الإسلام. ] - أنظر ترجمة حماد عند المزي -

علي ابن المديني : لم يكن في أصحاب ثابت أثبت من حماد بن سلمة .
وفي كتاب الزركلي قال ابن المديني :[
هو عندي حجة في رجال ، وهو أعلم الناس بثابت البناني ، وعمار بن أبي عمار ، ومن تكلم في حماد فاتهموه في الدين . ]

قلتُ - ابن عبد البر الصغير - : وهذا الإمام ابن المديني كما ابن معين يثبت أن كل من تكلم في حماد فله خبيئة سوء لأن حمادا كان يقارع أهل البدع وكان شوكة في حلوق المبتدعة، وهو عنده حجة في رجال .

و قال حجاج بن المنهال : حدثنا حماد بن سلمة ، و كان من أئمة الدين .

و قال الأصمعي ، عن
عبد الرحمن بن مهدي : حماد بن سلمة صحيح السماع ، حسن اللقى أدرك الناس ، لم يتهم بلون من الألوان ، و
لم يلتبس بشيء ، أحسن ملكة نفسه و لسانه ، و لم يطلقه على أحد ، و لا ذكر خلقا بسوء ، فسلم حتى مات .

قال عبد الله بن المبارك : دخلت البصرة فما رأيت أحدا أشبه بمسالك الأولين من حماد بن سلمة .

ثم يقول الإمام ابن حبان مدافعا عن حماد بن سلمة : [ كان من العباد المجابين الدعوة في الأوقات ، و لم ينصف من جانب حديثه ، و احتج بأبي بكر بن عياش في كتابه ، و بابن أخي الزهري ، و بعبد الرحمن ابن عبد الله بن دينار . فإن كان تركه إياه لما كان يخطيء ، فغيره من أقرانه مثل الثوري ، و شعبة ، و ذويهما كانوا يخطئون ، فإن زعم أن خطأه قد كثر من تغير حفظه فقد كان ذلك في أبى بكر بن عياش موجودا ، و أنى يبلغ أبو بكر حماد بن سلمة ؟ ! و لم يكن من أقران حماد بن سلمة بالبصرة مثله في الفضل ، والدين ، و النسك و العلم ، و الكتبة ، و الجمع ، و الصلابة في السنة ، و القمع لأهل البدع ، و لم يكن يثلبه في أيامه إلا معتزلي قدري ، أو مبتدع جهمي ، لما كان يظهر من السنن الصحيحة التي ينكرها المعتزلة ، و أنى يبلغ أبو بكر بن عياش حماد بن سلمة في إتقانه ، أم في جمعه ، أم في علمه ، أم في ضبطه ؟ ]

وهنا ابن حبان قصد عتاب البخاري في حماد ولم يسمه، يقول الحافظ في التهذيب : [ قد عرض ابن حبان بالبخاري لمجانبته حديثه حماد بن سلمة ، حيث يقول : لم ينصف من عدل عن الاحتجاج به إلى الاحتجاج بفليح و عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار .و اعتذر أبو الفضل بن طاهر عن ذلك ، لما ذكر أن مسلما أخرج أحاديث أقوام ترك البخاري حديثهم قال : و كذلك حماد بن سلمة إمام كبير ، مدحه الأئمة ، و أطنبوا لما تكلم بعض منتحلي المعرفة أن بعض الكذبة أدخل في حديثه ما ليس منه لم يخرج عنه البخاري معتمدا عليه ، بل استشهد به في مواضع ليبين أنه ثقة ، و أخرج أحاديثه التي يرويها من حديث أقرانه ، كشعبة ، و حماد بن زيد ، و أبي عوانة ،و غيرهم ، و مسلم اعتمد عليه ، لأنه رأى جماعة من أصحابه القدماء و المتأخرين لم يختلفوا ، و شاهد مسلم منهم جماعة ، و أخذ عنهم ، ثم عدالة الرجل في نفسه ،و إجماع أئمة أهل النقل على ثقته و أمانته . ]

قُلتُ : والبخاري كان يرى حمادا كثير الخطأ في الإسناد خاصة وليس في المتن وهو ما قرره الإمام الخليلي : [ ذاكرت يوماً بعض الحفاظ فقلت: البخاري لم يخرج حماد بن سلمة في الصحيح وهو زاهد ثقة؟ فقال: لأنه جمع بين جماعة من أصحاب أنس، فيقول: حدثنا قتادة، وثابت، وعبد العزيز بن صهيب. وربما يخالف في بعض ذلك. فقلت: أليس ابن وهب اتفقوا عليه، وهو يجمع بين أسانيد فيقول: حدثنا مالك، وعمرو بن الحارث، والليث بن سعد، والأوزاعي، بأحاديث، ويجمع بين جماعة غيرهم؟ فقال: ابن وهب أتقن لما يرويه وأحفظ له ] - الإرشاد -

فحماد كان يجمع لأكثر من شيخ له في الحديث الواحد، فتكون بين رواياتهم اختلاف في المتن أو الإسناد، فلا يفصل بعضها عن بعض، فيعتبره الحفاظ نوعا من الغلط.

قال العجلي : ثقة ، رجل صالح ، حسن الحديث. ، و قال : إن عنده ألف حديث حسن ليس عند غيره .

قلتُ : فالعجلي قال بأن عنده ألف حديث حسن ليس عند غيره، بمعنى أنه تفرد بها ومع ذلك قبلها، لا ردها كما صاحب المقال، خاصة وأنتَ ترى كل النقولات عن أهل العلم تجعل حمادا ثقة ثبتا، كتمها صاحب المقال، وابن معين قد نفى عنه أمر الاختلاط أصلاً، والبيهقي كان يحتاط من التحديث عن حماد على غير شيوخه ومع ذلك صحح هذا الأثر . لهذا رد الرواية بعلة انفراد حماد مجازفة، خاصة ثبوت التفريق بين عورة الأمة والحرة عن الصحابة والتابعين والأئمة في آثار أخرى تشهد لهذا الأثر وأن ثمامة من شيوخ حماد .. وأنتَ ترى بأن حمادا لم يلمزه إمام بشيء، ومكانته ومنزلته تجعله راويا فريدا وإماما كبيرا ولم يتكلم فيه إلا أهل البدع.

ومن النافلة القول بأن بعض الأئمة قالوا يتوقف في حديث حماد لاحتمال الخطأ إن كان آتيا من بعض الشيوخ فقط وليس على إطلاقه، وهو قول الإمام مسلم :[ وحماد يعد عندهم إذا حدّث عن غير ثابت؛ كحديثه عن قتادة، وأيوب، ويونس، وداود بن أبي هند، والجريري، ويحيى بن سعيد، وعمرو بن دينار، وأشباههم فإنه يخطىء في حديثهم كثيراً، وغير حماد في هؤلاء أثبت عندهم، كحماد بن زيد، وعبد الوارث، ويزيد بن زريع، وابن علية ]

قلتُ : ولم يذكر أحد حديثه عن ثمامة، والله أعلم .

لكن هل تفرد حماد بن سلمة بالأثر ؟

الجواب : لا بل تابعه نصر بن طريف عن ثمامة أيضا لكن نصر بن طريف ضعيف وقد زاد في متن الحديث كلمة " تضطرب " و"بادية خدامهن "...

فيكون هذا شاهدا لحديث حماد، وأن متن حماد عن ثمامة أصح .

وغير مستبعد أن حمادا لم يرو من حفظه إنما نسخا، لأن حمادا كان يكتب الحديث وإمكانية الوهم والخطأ ضعيفة جدا في هذا الأثر، فهو لا يتعدى مقدار كلمتين، يوافق فيها المشتهر .

فهذا فيما يخص حمادا رحمه الله تعالى .


قلت: ثم انفرد بهذه الرواية المنكرة ثمامة بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري البصري عن جده انس بن مالك و هو من الطبقة الرابعة التي تلي الوسطى من التابعين روى له الجماعة و ذكره ابن عدى في الكامل و روى عن أبى يعلى أن ابن معين أشار إلى تضعيفه. و أين المكثرين من الرواية عن أنس كثابت البناني و قتادة بن دعامة السدوسي و عبدالعزيز بن صهيب و حميد الطويل و محمد بن مسلم الزهري؟!! أين هؤلاء الحفاظ من رواية مثل هذا المتن الفاسد!!! فتفرد ثمامة به مردود بلا ريب.

فتأملوا هداكم الله كيف أن الرجل يورد في كلامه الاعتراض وما يدحضه ! فمجرد أن الجماعة روت له تبين لك فضل الرجل، كيف لا وهو قاضي البصرة وحفيد الصحابي الجليل أنس بن مالك ! وهو ليس بضعيف، وقد أخذ عبارة " ذكره ابن عدي في الكامل وروى عن أبي يعلى أن ابن معين أشار إلى تضعيفه " عن ابن حجر - وهو صدوق عنده- وكتم ما أورده الحافظ قبل هذه الجملة من توثيق :

قال الحافظ في "تهذيب التهذيب" 2/29 :[ و قال العجلي : تابعي ثقة .
و قال ابن سعد : كان قليل الحديث .
و ذكره ابن حبان في " الثقات " ] .

وحسبك كم التدليسات وكتمان العلم الذي وقع من صاحب المقال حتى تعرف أنه ليس بشيء ! ولا يُعتمد في خلاف فقهي بَله تصحيح وتضعيف ! كما أنه كتم قول ابن عدي فيه كما سيأتي.

قال ابن عدي :[ ولثمامة عَن أَنس أحاديث وأرجو أنه لا بأس به، وأحاديثه قريبة من غيره، وأرجح وهو صالح فيما يرويه عَن أَنَس عندي.. ] - الكامل لابن عدي-

قال عبد الله بن أحمد بن حنبل ، عن أبيه : ثقة . - تهذيب الكمال- .

وثقه الذهبي وقال عنه في سير أعلام النبلاء : [ وكان من العلماء الصادقين ، ولي قضاء البصرة وكان يقول : صحبت جدي ثلاثين سنة .]

وكذا عند الجماعة، فقد أخرج له البخاري أحاديث من بينها [ حدثَنَا عَبْدَةُ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَلَّمَ سَلَّمَ ثَلَاثًا وَإِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلَاثًا ] - كتاب العلم-

وكذا أخرج له في كتاب الاستسقاء، وكتاب الزكاة، وكتاب الشركة، وكتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، كتاب فضائل الصحابة، كتاب اللباس، كتاب الاستئذان، كتاب الحيل، كتاب الأحكام

فهل الإمام البخاري يخرج لضعيف يا هداك الله ؟

وقد أخرج له الإمام مسلم في كتاب الأشربة : [ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَا حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ عَزْرَةَ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَنَفَّسُ فِي الْإِنَاءِ ثَلَاثًا ]

فهل يخرج مسلم لضعيف أيضا ؟

فإن أضفت تخريج أحمد والدارمي وأبو داود والنسائي وغيرهم تدهش من جراءة الرجل في التعريض بثمامة، أضف إلى أن هناك أحاديث أخرى من طريق حماد عن ثمامة عن أنس حكم عليها أهل العلم بالصحة، مثل حديث كتاب أبي بكر رضي الله عنه فعلق عليه بعض الحفاظ :

[
قال الدارقطني: إسناده صحيح وكلهم ثقات.
وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي.
قال الحافظ في "الفتح" "4/75": وقال إسحاق بن راهويه في "مسنده" أخبرنا النضر بن شميل: حدثنا حماد بن سلمة: أخذنا هذا الكتاب من ثمامة يحدثه عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره. فوضح أن حماداً سمعه من ثمامة وأقرأه الكتاب فانتفى تعليل من أعله بكونه مكاتبة وانتفى تعليل من أعله بكون عبد الله بن المثنى لم يتابع عليه ؟.
قال الدارقطني في "العلل" "1/231" والصحيح حديث ثمامة عن أنس. ..وصححه أيضا ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما كما سيأتي. ] - تلخيص الحبير للعسقلاني -

فكل ما أوردناه يدل بأن ثمامة ثقة وليس من الضعفاء، فإن أضيف إلى هذا بأن ثمامة كان حفيدا لأنس رضي الله عنه ولازمه لثلاثين عاما وهو ممن يقبل تفرده عنه لقربه منه، يظهر لك تهافت تعليله لعدم رواية الآخرين لهذا الأثر .

فيكون قوله : "فتفرد ثمامة به مردود بلا ريب" محتاجا إلى دليل فمن من أهل العلم قال بأن تفرد ثمامة عن أنس مردود بلا ريب ؟ وكيف لا يتفرد ببعض الأشياء عنه وهو جده ؟

فيتضح بعد كل ما مر في تقرير أن :


هذا الأثر منكر باطل لا تجوز روايته إلا ببيان حاله و قد تكلمت عليه مختصرا

جناية ظاهرة على الرواة والأئمة ومجازفة كبرى، والراجح عندنا صحته، والحمد لله أنه تكلم على هذا الحديث مختصرا، وأنتَ ترى على اختصاره كم من التدليسات وقعت، ومن الكتمان حصل، ومن المغالطات ظهرت، فلو فصَّل لكانت طامة كبرى !

والله تعالى أعلى وأعلم .