قولك أيها المتأثر بأن العلم يستطيع تقديم إجابات كافية تفسيرية فعذر أقبح من ذنب، فالعلم هو تفسير لنشأة الظواهر التجريبية الحسية، ونطاق تخصصه في إجابة الكيف وليس في إجابة "لماذا ". يقول
شاشوان في كتابه تطور المعتقدات الدينية : " مهما يكن تقدمنا العجيب في العصر الحاضر .. علميا، وصناعيا، واقتصاديا، واجتماعيا، ومهما يكن اندفاعنا في هذه الحركة العظيمة للحياة العملية، وللجهاد والتنافس في سبيل معيشتنا ومعيشة ذوينا، فإن عقلنا في أوقات السكون والهدوء عظاما كنا أو متواضعين، خيارا كنا أو أشرارا، يعود إلى التأمل في المسائل الأزلية .. وإلى التفكير في العلل الأولى أو الثانية وفي حقوقنا وواجباتنا "

وقد تأملتُ مؤلفات كثير من اللادينيين الواحدة تلو الأخرى، وأعدتُ فيها النظر، متدبرا لأركانها، غير مغفل لجوانبها وما بين سطورها، فوجدتُ أن الخلل عندهم منهجي، وصارفهم عن الحق سلسلة شروط يحسبونها عقلية وهي في باطنها ليست كذلك، فرأيتُ تأثرهم بالمنهج العلموي - ولا أقول العلمي- وبالمنهج العقلوي - ولا أقول العقلي -، لهذا لا بد من خلخلة لمنهجهم قبل مناقشة الفكر

والمنهج العلموي هذا الذي يطبقون مبادئه على كل شيء، ظهر بطلانه في القرن الماضي عند أزمة العلوم الحديثة ، وتكفل عدد من الفلاسفة والعلماء بنقد هذه النزعة التي جنت على البشرية، لكن للأسف الملاحدة ومن تابعهم لا زالوا يحيون مصنفات ومناهج أكل عليها الدهر وشرب ، لأنهم لا يطالعون كتبا في العلوم الإنسانية تكفلت بنقض تعميم تلك المناهج، بل حاصل ثقافتهم مطالعة كتب العلوم التجريبة وروادها ويتابعونهم في أي شيء بل في كل شيء .

ونحن نريد منك أيها المخالف العودة إلى الأساس الأول الأنطلوجي للمعرفة، والأساس المؤسس للموجودات والمعرفة، وعدم اختزال الظواهر فيما يظهر بل الرجوع بها إلى الوجود الخفي الذي هو بمثابة الماهية الموجودة والحاضرة في كل الأشياء، وبه ستخرج من أزمة المعنى والتوجه الذي تعاني منه المذاهب الفكرية المعاصرة، فأنتَ الآن تحشر العلوم التجريبية ذات النزعة الموضوعية في مواضيع ليست أهلا للخوض فيها ، وبالتالي نظرتك تتحدد بكفية شبه تامة من قبل الأسلوب الذي تتبعه هذه العلوم في تناول موضوعاتها ومعالجتها، فينجم عن ذلك بصفة مباشرة التخلي عن الأسئلة الحاسمة بالنسبة لك وللإنسان بصفة عامة واتخاذ موقف اللامبالاة منها، هذه الأسئلة مرتبطة بمصيرك كإنسان، وبمعنى وجودك، وبطبيعة علاقتك بمحيطك، ودور العقل في حياتك.

فالمنهج العلموي لا يهتم بهذه الأسئلة لأنها واقعة في أسر النزعة الموضوعية التي تقوم على استبعاد كل ما هو ذاتي من اهتماماته . إذ العلمية أيها الزميل - حسب المعيار العلمي السائد - تقتصر على ملاحظة الوقائع وتسجيلها ، وهذا ما يؤدي إلى استبعاد الأسئلة الأساسية المتعلقة بالوجود الإنساني، ويجعل تلك العلوم عاجزة عن مساعدة الإنسان في إعطاء معنى لحياته وأفعاله وتوجيهها. بل تكون حائلا بينه وبين هذه الأجوبة.

وباعتمادك للمنهج العلموي فإنك تتخلى عن العقل ومعاييره المنطقية، وتفقد الثقة فيه وفي علومه الفكرية وفي قدرته على الوصول إلى الحق واليقين، والتشكيك في علمية العلوم العقلية يؤدي إلى التشكيك في وجودية الأسئلة الكبرى، أسئلة المعنى والحرية والتاريخ، والوقوع في أسر الحاجات اليومية للحياة العملية وآفاقها الضيقة. فنزعتك قائمة على تأويل خاطئ للعلم ، مؤداه أن علم الفيزياء الرياضي الحديث هو النموذج الوحيد للعلمية، الموصل لليقينية، الكفيل بتغطية دور الدين التفسيري، وهو بمزعمك صالح بل ملزم لجميع العلوم والمعارف بما في ذلك العلوم الدينية والشرعية بل والإنسانية. متغافلا عن أن هذا المنهج له حدود ويستحيل تعميمه على كل المجالات، لأن ماضي العلم يعيش في حاضره على شكل ترسبات، بل لا بد له من مسلمات لا تناقش، وما نقد "باشلار" لمسلمات "أوقليدس" عنا ببعيدة.

بل ليت شعري كيف لهذا المنهج أن يحلل ثنائية الذات والموضوع، وقضايا الدين والفكر والوعي وهو يختزل المعنى في الموضوع المعطى الحسي فقط ؟ والمعنى بالمفهوم الفلسفي يتشكل في انفتاح الذات على العالم، فموضوعات الإدراك والتفكير والإحساس لا توجد بشكل موضوعي خالص كما لا توجد بشكل ذاتي خالص، بل هي في العلاقة بين الإنسان مع العالم، فكيف لهذا المنهج أن يخوض في هذه المسائل المرتبطة بالوجود والأديان والخالق وهو لا يمتلك وسائل الإجابة والخوض ؟

ألا ترى أيها الزميل أن الفرضي الآن هو ما كنا نعتبره في القرن التاسع عشر والعشرين بالظواهر ؟ وأن الحقيقة العلمية السابقة أصبحت اليوم نظرية كلاسيكية ؟ فلم يعد بمقدورنا منح الثقة قبليا للمعلومات التي يزعم المنهج العلمي أنه يمدنا بها، وهذا ما دفع عالما فيزيائيا يقول في أحد كتبه : " إن المعطى العلمي لم يعد حكما ولا شاهدا بل إنه أصبح متهما، ولا بد أن نتمكن آجلا أو عاجلا من إثبات أنه يكذب، ولذلك فالمعرفة العلمية هي دوما إصلاح لوهم " - باشلار -.

والمنهج العلمي تحشره في ما لا طاقة له به، وطلب المعلومات منه في في تلك المسائل لن يسمن ولن يعطي نتيجة فكأنك تطلب من علم الطب أن يشرح لك ظاهرة التدين أو صعود أوباما، أو أسباب الأزمة الاقتصادية !!! وهذا ما جعل عددا من العلماء المرموقين يعترفون بحدود العلم، كآينشتين حينما يقول : " إني متيقن أن البناء الرياضي الخالص يمكننا من اكتشاف المفاهيم والقوانين التي تحكمها والتي تمكننا من فهم الظواهر الطبيعية . طبعا يمكن للتجربة أن ترشدنا في اختيار المفاهيم الرياضية التي سنستعملها إلا أنها لا يمكن أن تكون هي المنبع الوحيد الذي تصدر عنه ... وبمعنى ما إني أصادق على أن الفكر الخالص قادر على فهم الواقع كما كان يحلم بذلك القدماء " - كتاب المنهاج التجريبي وفلسفة الفيزياء -.

ويقول هانري بوانكاريه في كتابه العلم والفرضية : " إن مما يصدم الناس أن يروا كم هي فانية النظريات الفيزيائية، فبعد سنوات من الازدهار يرونها تهجر تباعا، ويرون بقاياها تتراكم تباعا ويتوقعون أن النظريات التي توجد حاليا في الواجهة ستفنى بدورها عاجلا .. وهذا ما يسمونه إفلاس العلم ."

والشاهد عندنا أن للعلم حدودا، ولمنهجه حدودا، وتعميمه سيوقعك في مأزق فكري عقدي صعب، قد تخسر فيه خسرانا مبينا، وتأمل معي قول برونسلاو مالينوفسكي : "
لا ريب أننا، في الأزمة الراهنة لحضارتنا، قد ارتقينا إلى ذرى مدوخة في العلوم النظرية الخالصة والتطبيقية في ميدان الميكانيكا والكيمياء، وفي نظرية المادة، والصناعة الميكانيكية. ولكننا لا نشعر بالثقة ولا بالاحترام أمام نتائج العلوم الإنسانية، بل لا نعتقد في صلاحية النظريات الاجتماعية. ولا بد في الوقت الحاضر من إقامة توازن بين الهيمنة المفرطة للعلوم الطبيعية وتطبيقاتها من جهة ومن الإجهاد الذي يعاني منه العلم الاجتماعي ..." -نظرية علمية في الثقافة -

فكل هؤلاء الأشخاص والمفكرون والعلماء لم يرتضوا حشر العلوم التجريبية فيما لا يعنيها، بله حشر المنهج العلمي في قضايا دينية وعقدية وجودية، وهذا تجده مفصلا في كل المؤلفات التي اعتنت بأزمة الحضارة الغربية، والتي كان سببها الرئيسي طغيان "ميتافيزيقا التقنية" والمنهج العلموي، فظهرت ما أطلق عليه الغربيون "بأزمة الحداثة وما بعد الحداثة".

والعقل عندنا آلة منتجة للمعرفة موصلة إلى الحق إن شاء الله واختيار الدين الصحيح، لأن له تقنيات ومناهج في تنظيم الأفكار وتمحيصها واستخراج النتائج اللازمة عنها، وهو بتعبير ديكارت : " هو نور فطري في الإنسان، يمكنه من التمييز بين الخير والشر، ويوصله إلى معرفة الحقيقة وهو متساو بين الناس جميعا فلا يختلفون في امتلاكه وإنما في طرق استخدامه ". - فطرية العقل-.

فتأمل في كلام ديكارت الحكيم هذا، وتأمل نعته للعقل بالنور الفطري في الإنسان، بل وتسمية كتابه "بفطرية العقل"، حينما يكون العقل منصتا لنداء الفطرة، فيتحدان في رحلة بحثهما عن الحق، حينها تتوصل إلى الإله الحق وإلى الدين الحق، فتكون سالكا في طريق النجاة، واصلا إلى ما سيريحك بعد الممات.

لهذا أيها الزميل دعوى استطاعة العلم أن يقدم تفسيرات عقدية وإجابات عن الأسئلة الوجودية هي سفسطة كذوبة يضحك بها الهوى على العقول ، وإلا فأخرج لنا الإجابات .

بل وأقول وأقرر بيقين ما بعده يقين، أن العلم يقود إلى الدين في عالمنا المعاصر.

والحمد لله رب العالمين .