كنت في المملكة العربية السعودية أبلغوني أن أباكَ مريضْ !!! قلتُ كيف ذلك؟ طمنوني قالوا لا تقلق - شوية ضغط مرتفع - قلت الحمد لله - وبعدها بأيام تأتي فاجعة سوء التشخيص -
لتقول التحليلات أن أباكَ قد تمكن منه السرطان وحدث ما يسمي بتعطُل كامل في جميع وظائف الكبد !!! حينها لما أُخبرت بذلك نزلــت من عيني الدمعات تتْرا !!! ووالله ما صدّقتهم - وما صدقت أن المرض سوف يؤثر في أبي - ذلك البنيانُ القوي والحيوية الفائقة - تركته منذ ثلاثة أشهر ونصف فقط وهو بكامل قوته المعهودة عنه - قالوا لابد من النزول الي مصر - فربما تكون النهاية - قلت آآآآآآآآآه -أيُّ نهاية تقصدون - أوَ تقصدون أن يموت أبي !!! لا كيف ذلك - لم أتخيل يوما أنني من الممكن أن أفقد نبع الحنان وريحانة الفؤاد بهذه السرعة - كنت دائما أعظ الناس حينما أذهب لزيارة مريض وأذكره بالله وأنه لابد من الصبْر - وأُحسن الكلام جداً في هذا الأمر حتي يصـبر أهـله ويتصـبّروا وتنزل كلماتي عليهم كالسلسبيل العذب الذي يخفف عليهم هجير محنتهم - ؟؟ لكن لما حـلّت بي أنا المصيبة ما تحملتها - صرخت من أعماقي حينما رأيت أمي ريحانة القلب تقابلني علي الباب تحتضنني وتبكي - ليست كعادتها تحتضنني حين الوصول وتبتسم لعودتي - حينها فقط أيقنت أن الموت قد دخل بيتنا ليخطف أبي من بيننا - الكلُ يسلم عليا ويبكي - وأنا والله خائف أن أدخل غرفة أبي الي الآن - أخاف أن أُصدم فيه - أخاف علي إحساسه الرقيق أن يُصدم هو أيضاً بنزولي المفاجيء ويقول جئت يا عاطف !! عرفت أني سأموت يا بني - يــــا اللّــــــه !!! لم أتحمل - قلبي يتمزق ماذا أصنع ؟؟ هل أصبّر أمي وإخوتي أم أدخل علي أبي - لكن لابد من الدخول - دخلت عليه وقدَمَاي لا تكاد تتحرك من الخوف - دخلت وليتني ما دخلت - وجدت ريحانة القلب ونبع الحنان ملقيً علي الفراش لا يستطيع الكلام ولا الحراك ولا يشعر بمن حوله أصلا - صِحْت بالناس أهذا أبي ؟؟؟ أهذا أبي ؟؟
إنتظرته أن يقوم فيحتضنني كعادته - ويقول حمدا لله علي سلامتك ؟؟ لكن للاسف هو في عالم آخر منذ فترة ولم يخبروني !!! شعورٌ صعب لم أتخيله من قبل أبدا - ظللت بجانبه اليَوم كلّه أدعوا له وأبكي - فقد كان أبي صديقي ومعلمي علي بساطته - فكنت لا أذهب لإلقاء خطبة الجمعة الا وهو معي يناصحني - يوجهني - أطلت في هذه - قصرت في هذه - كان ينبغي ان تقول كذا - او لا تقول كذا - ابتعد عن السياسة - وهكذا - وكان لا يدعني في اي بلد أذهب اليه للجمعه بل حتي في دروسي كان يشجعني دائما علي الدعوة منذ أن كنت صغيراً - وكان يفتخر بي بين الناس في كل وقت - يسعد اذا جاء الناس يسلمون علي بعد انتهاء خطبتي - فكنت وسط الناس أتوجه اليه أُقبل يدَه ورأسه لأخبرهم أن الفضل لله ثم لهذا الأب الفاضـــل - كان أبـي صديقـــاً لي يحمل أسراري - ظللت أتذكر كل هذه المواقف وأنا وحدي مع أبي في الغرفة وثالثنا الموت ؟
ثالثنا الموت ولم أكن أعلم أنه معنا - عاش الموت معي في غرفة أبي ثلاثة أيام وقد عاينته بعيناي - فلك أن تتخيل أن حبيبك يموت بالبطيء أمام عينيك ولا تملك أن تفعل له شيئا - كل هذه كانت حقائق لكن لا يدركها الا من عاشها حقيقةً - ظلَلْت أنظر الي أبي وأبكي أكلمه فلا يجيب - أنظــر اليه فلا يجــيب وفجأة فتح الأب الحنون عينيه - واستفاق قليلاً وَنَظر اليّ - ففرحت وكبرت - لكن ليته ما استفاق ولا نظر ؟ نظر الي فأدْرَكني - فأراد أن يقوم ليحتضنني فما استطاع - حاول فما استطاع - فنزلت من عينيه دمعتان وكأنه يقول جئت يا عاطف - لكني سأرحل - والله ان تلك النظرة وهاتان الدّمعتان تذبحني الي الان - وهما أصعب عليّ من جلد السِيَاط صباح مساءْ - هاتان الدّمعتان لهما في حياتي وتربيتي معنيً كبيراً جدااااا
فلا أكاد أنسي حينما كانت تتساقط هاتان الدمعتان من عيناي أبي الحنون وكأنهما بحرُ من الخشوع والتأثر حينما أكون علي المنبر اتلوا يصوتي ايات المقدمة كلّ جُمعة كان يبكي فيها أبي حين يسمع صوتي متأثراً به - ووالله لن أنساهم ما حييت - وليس التأثر لجمال الصوت - إنما التأثر لثمرة التربية وقد كنت أعرف هذا في عينيه - بل انني أتذكر كل موضع في كل مسجد جلس فيه أبي الغالي - وأذهب وأنظر اليه وأبكي وأقول هنا الذكريات ؟ هنا جلس الوالد - هنا بكي الوالد - في وقت كذا - وكنت أقول كذا - بل إنني وفي كثير من الاحيان علي المنبر كنت أبكي علي بكاء الوالد وانا علي - والناس تقول يبكي متأثرا بما يقول - ولا يعلمون المساكين أني أبكي رحمة بأبي ,,
والله الذي لا اله غيره ما هنأت بعيش بعد وفاة أبي !!!! ثلاث أيام وأنا معه في غرفته أدعوا له وأُطَبِبه وفي اليوم الرابع قبض أبي ورحل عن الدنيا !!! يوم الجمعة ليلا قبل الفجر 2012/12/1 - يـــــــااللّــــــــــه لقد مات أبي - ؟؟ عندما يمـــــــــــــو ت الحنـــــــــان ؟؟؟ يمر شريط ذكرياته لحظة موته في ذاكرتي بسرعة البرق واتذكر يوم كنت طفلا لا أحسن استعمال الحمام ويقوم أبي معي وسط الليل الي الحمام - ثم أتذكر يوم دخلت الابتدائية وهو مبتسم ثم نجاحي في الثانوية ثم أتذكر موقفه يوم دخلت الجامعة وفرحته - ثم اتذكر يوم تخرجت وكلامه - وووووو كل هذا وقت أن انقطع أبي عن الحياة ولم يكن بجواره سواي ؟؟؟؟؟؟؟ وقتها ورب الكعبة كدت ان أموت من الحزن عليه -ما ذا أصنع - يـــــارب رحمَـــــــاك !!! انها الآلام والحسرات علي موت الحبيب - لم أك أتخيل أن أبي سينام مسجي الان أمام عيني - وددت لو انتزعت حياتي من بين قلبي ووضعته في قلبه هو ليعيش وأموت - آآآآآآآآه لو كان الموت إنسانا لقتلته حتي لا يموت أبي - كنت أشعر بروحه تسحب من قدميه تصاحبها برودة في الأطراف فأحاول إيقافها بيدي - لا اعتراضا مني علي أمر ربي حاش لله - لكنه احساس بالفراق ولوعته - الآن كيف سأواجه أمي الغالية - وأنا في هذه الحيرة - أحسّت الام بشيء في صدرها وهي في غرفة أخري والله وحدها في نفس اللحظة فقامت تقول كيف أبوك ؟؟ تمالكت وقلت بخير يأماه !! فقالت - إنني أشعر بوحشة في صدري وكأنه قد مات ودخلت تحركه فعلمَت أنه قد مات - وهنا أصابها الأغماء ودخلت في غيبوبة من هول الصدمة ولا زلت أعالج فيها إلي الأن منذ 7 أشهر - لكن كان لابد من التمالك حتي أصبّر أمي المسكينة التي فقدت زوجها الحبيب بعد عِشرةٍ دامت 45 عاما من الحب والود المتبادل بينهم - ما ذهبَت يوما إلي بيت اهلها غاضبة منه طوال هذا العمر ,,
دعوني أقول وبصراحة لقد كُشــف الظهْر - وتخيلت نفسي بعد وفاة أبي كمن يمشي في الصــحراء وهناك من الامطار والرياح والزوابع ما يَعصف به والبرد الشديد القاتل يكاد أن يقضي عليه - لولا الحضن الأبوي الحانْ الذي يحميه من ذلك كله - مهما وصل بك والله السن من الرجولة فأنت تحتاج الي حضن أبيك ولا يمكنك الإستغناء عنه أبدا - لمن ذاق حقيقة هذا الحنان الأبوي الدافيء
تخيلت كمن يمشي في أرض قاحلة جدباء جرداء مليئة بالجبال السوداء من شدة لهيب حرارة الشمس عليها - وكان أبي بمثابة الغطاء لي من تلك الحرارة الملتهبة - يدفع عني الشمس والبــرد والــزمهرير - ويخفف عني هجير الحياة وآلامها -
فقد كان أبي قصةَ كفاحٍ عجيبة - إي والله -كفاحِ في التربية - كفاح في الاجتهاد علي الارزاق وتربية اخوته بعد وفاة ابيه وهو بن 15 عاما فقط - ثم كفـــاح في تربية ابنائه وتعليمهم لاعلي الدرجات - ومن ثمّ نال أبي احترام الناس كبيرا وصغيرا فلا يذكر الا بالخير بين الناس - وكان مشهده يوم أن مات شاهداً علي ذلك رحمه الله ,, عهدته والله في خدمة الناس وحـــل مشاكلهم فكم من قضية أو مشكلة قد حلّها بتوفيق الله له - وقد تعثرت علي أصحابها سنينَ عددا - وكم من أرض إختلف عليها الورثة ولم تجد حلاّ الاّ عنده - إفتقد الجميع أبي من هذه الجهة - لكنني إفتقدت الحنان الأبوي الذي لا مثيل له ولا عوض عنه ,,
إنني والله الآن أكتب وقلبي ينزف - فانني أعيش بدون حياة بعد وفاة أبي رحمه الله - ولا أري الا الموت في كل لحظة - وأشعر ان النهاية قريبة جدا - ولا آمل أن أعيش الي الغد فقد ذهب أبي بكل شيء له طعم حلو في هذه الدنيا ؟
صدقوني أنا أََنام علي الفراش كل ليلة أتذكر ابي في حلّه وترحَاله حتي تختلط دموع عيني بالوسادة التي انام عليها - وما تخيلته قد مـــات أبدا - أذهب الي المقابر لأدفن الموتي فأنظر الي قبر أبي أخاطبه وأسلم عليه باكيا فيخرج من قبره - ولولا أن تقولوا أني مجنون !!!!! لأقسمت بخروجه لي حقيقةكل جنازة بلباسة المتواضع البســيط يســــلم عليا ويحتضنني والله وكأني أنظر اليه الآن وهو ويقول : ازيك يا عاطف - متزعلشي !! كيف أمك واخواتك !! سلّم عليهم - وقل لهم ما يزعلوش !! فأمكث عنده ما شاء الله - أخاطبه حتي ينصرف الناس كلهم من المقابر ولم يتبق إلا أنا أو كادت الشمس أن تغيب وأنا بجوار قبره ناسيا نفسي أتعايش معه الذكريات وأدعوا له بالرحمات - ثم أنصرف وقد تفطر القلب ,,
لما مات الوالد رحمه الله قلت أتفقدأصدقائه من باب البرّ كما قال بن عمر رضي الله عنهما [ إنّ أَبرّ البرّ أن يصل الرجل ودّ أبيه ] وكان نبينا صلي الله عليه وسلم - يُكرم أصدقاء خديجة - لاسيما أختها هالة - وكان بن عمر رضي الله عنهما يفرش ردائه لشيخ كبير اذا رآه ويجلسه عليه فيُسْئل ماذا تفعل - فيقول هذا كان ودا لعمر ـــــــــ وهذا من الوفاء لأبيه أن يكرم أصدقائه ويتعاهدهم ويتفقد أحوالهم ــــــــــــ
من هذا الباب ذهبت أتفقد أصدقاءَ أبي رحــمه الله لاسيما أقربهم وأخلصهم له - قلتُ أزوره وأسئل عنه بعد وفاة أبي بأيام فقط وكان أبي يحبه كثيرا - وكان مع أبي في مرضه لا يتركه كما اخبروني - فذهبت أسئل عنه فقد كان مريضا هو الآخر - قلت أقف بجواره وأطببه كأبي - فقد كنت أري فيه حب الوالد وحنانه - فتفاجئت كما تفاجأ الجميع بعد عودته من مستشفي المنصورة أنه يحمل مرض أبي الذي مات فيه وقد تمكن السرطان من جسده هو الآخر - تذكرت أبي حينها وصحبتني الدمعات رقة له وشفقة بصاحبه - مرت الايام وأجّلت سفري لأطبب صديق والدي بما أستطيع من إعطائه الحقن وما شابه - وأقف معه في محنته - وفجأة بعد حوالي ثلاثة أشهر تزيد قليلا - وكنت في مجلس قراءة سنن أبي داوود في بيتي يقرأها عليّا أحد اخواننا من طلبة العلم - جاءني الخبر - إحضر الآن [ لقد مات عمك حجي الأن ] قلت يـــــــا اللــــــــــــــــه !!! - كتمت آهاتي وأحزاني وذهبت الي هناك مسرعاً وكان البيت قريبا - حدث هذا يوم الخميس ليلا بعد صلاة العشاء في وقت متأخرة وكانت عندي خطبة جمعه دُعيت اليها في مدينة دكرنس الحبيبة -إعتذرت لصاحبي الذي دعاني لأني أنا الذي سأقوم بواجب الغسل والدفن - غسلته وذهبنا الي المسجد - وسط نشيج وبكاء الأهــل والأحباب - استأذن أخي الأكبر من خطيب المسجد وكان طالبا عنده في الثانوية قديما فأذن لي ؛ فصعدت المنبر أتحدث في خطبة بعنوان [ رسالة عاجلة الي مريض علي فراش الموت ] وقتها تذكرت الوالد وأنا علي المنبر فما تمالكت نفسي - تذكرت الوالد وأنا أنظر الي سرير صاحبه وحبيبه في نهاية المسجد - فلم أقوي علي كتم الدمعات والآهات فظللت أبكي وأنتحب علي منبر القرية ولم يتبين الناس الصوت من شدة البكاء وبكي الناس - وبكي النــاس - وضجّ المسجد بالبكــــــــاء - لأنهم يعلمون أني تذكرت والدي وأن هذا صاحبه المقرّب - ونزلت وقد خارت قواي من الحزن علي والدي الحبيب وصاحبه -
صدقوني ووالله انها لنصيحة لِمَن أبوه علي قيد الحياة [ برّ أباك بما تستطيع ] فعمّا قريب ستفقده فانتهز الفرصة - ربما يرحل عنك - أو ترحل عنه أنت - فليرحل وهو راض عنك فياله من فوز تفوز به ,
لذلك عزمت علي ان اكتب رسالة بعنوان [ عندما يموت الحنـــــــــــــان ] أتحدث فيها عن أبي الغالي رحمه الله - وكيف أثرّ فيّ من خلال المواقف العملية والتربوية النافعة - وهذه الأسطر اعتبرتها بمثابة مقدمة ان شاء الله رب العالمين - اسألكم الدعاء لأبي بالرحمة والمغفرة - ولي بالثبات وحسن الخاتمة !!! وصلي اللهم علي نبينا محمد وعلي آله وصحبه وسلم ,,,
وكتبه / عاطف بن السيد أحمد
ابو صهيب البيضاوي
Bookmarks