النتائج 1 إلى 1 من 1

الموضوع: الرومانسية

  1. افتراضي الرومانسية

    من كتاب /
    العلمانية نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة

    لفضيلة الشيخ سفر الحوالى

    لسنا في حاجة إلى إعادة القول بأن: حياة أوروبا هي عبارة عن خط بياني متذبذب تحكمه ردود الفعل المتناقضة، فقد أصبح ذلك حقيقة مقررة بعد أن رأينا شواهده في كل مجال، وهنا في مجال الأدب نلمس تلك الحقيقة بوضوح:

    فالغبطة الكلاسيكية لم تدم طويلاً، إذ سرعان ما جرت عليها سنة أوروبا في الارتداد، وإذا كان أعظم ايجابياتها هو الاهتمام بالإنسانية وإيقاظ العقل الأوروبى المطمور ليأخذ مركز التوجيه في الحياة، فإنه حتى هاتان لم تستقرا دون تطوير أو تغيير.

    وكان التطوير من نصيب الأولى، أما الأخرى فكان نصيبها التغيير بل الثورة، ومن هذين انبثق المذهب الجديد الذي عرف بـالرومانسية ، والذي يقترن تاريخياً بمسمى عصر التنوير.

    أولا - تطور النزعة الإنسانية:

    لعل أصدق تعبير عن هذا التطور هو ما قاله مؤلفو كتاب ثلاثة قرون من الأدب : ''إن القرن الثامن عشر لم يخصص للدين، وإنما خصص للعلم والسياسة، فلم يعد زعماؤه قسساً مسيحيين، بل فلاسفة طبيعيين...، لقد كان التغير عميقاً، ومن نواحٍ عدة كان القديم والجديد على طرفي نقيض، فالتطلع إلى ما وراء أشياء هذا العالم قد تراجع أمام التطلع إلى أشياء هذا العالم، لقد أصبح القديس الدائر حول محور الله عالماً إنسانياً محوره الإنسان، والحياة التي كانت تسير بهدي الكتاب المقدس، ولم يعد العالم مكاناً حيث العناية الإلهية دائمة الحضور والفعل تضبط وتدير كل ما يحدث حتى التافه منه (!) فلعين العقل صار العالم الآن جزءاً من آلة الكون التي وقد أخذت تدور مرة استمرت في الدوران لنفسها وبنفسها(!) حتى الله ذاته لم يعد شخصياً أباً يحب ويرهب، بل أصبح قوة عاقلة سحيقة البعد لا شخصية، علة أولى أدارت الآلة وتركتها تعمل بنظام كامل وفق نواميس رياضية وفيزيائية، ويسوع ابن الله أصبح يسوع ابن الإنسان(؟!).

    لم يعد موضوع البحث للجنس البشري هو الله، بل الإنسان.

    وتحسين حال الإنسان يمكن توقعها، لا عن طريق الدين بقدر ما يمكن توقعها عن طريق العلم والتربية والسياسة التي بها يستطاع إصلاح المجتمع .

    وهكذا أصبحت ثورة عصر النهضة المبهمة تملك منهجاً عقلياً ومساراً محدداً، وبذلك تواجهنا صورة وثنية جديدة أكثر وضوحاً.

    وهذا هو المميز الأول للرومانسية، وعنه نشأ تأكيدها على سيادة القلب وحياة النفس الداخلية بمعنى حصر كل الاهتمامات في حدود الكائن البشري، بل في أعماق النفس الفردية، وينتقد الرومانسيون الأدب الكلاسيكى بأنه كان الهدف منه تصوير البشر، لا كما هم فعلياً ولكن كما هم مثالياً، 1 مما جعل الأدب تقليداً وليس تعبيراً، ولذلك فقد أهمل الرومانسيون الملاحم وحوروا المسرحيات، ونحوا بالأدب منحىً شخصياً داخلياً، فالكتابة الفنية تأتى في صورة اعترافات أو سيرة ذاتية، والشعر يصبح غنائياً عاطفياً يعبر عن المعاني الوجدانية للبشر، كالعشق والفرح والألم، ويبتغى - بالدرجة الأولى - إثارة السامع وامتاعه.

    وكان من أبرز العوامل الاجتماعية المهيأة لذلك: طابع الفروسية التي كانت في ريعان شبابها، إذ احتضنت الرومانسية حتى اندمجت في كيانها، وأصبح الرومانسيون اللسان المعبر عن الحياة الفروسية بخصائصها وفضائلها. 2

    وقد أفصح بعض زعماء المذهب عن علاقة رد الفعل القائمة بين الاتجاه الرومانسي والمسيحية ، فـالمسيحية كما عرفوها تكبت الإنسان وتصيبه بالميلانخوليا، ومن ثم فهي مسئولة عما أصاب الإنسانية من الانطواء والكآبة، وقد عزا الناقد الرومانسي الألماني شليجل الكآبة إلى الدين المسيحي الذي جعل الإنسان منفياً يشتاق إلى وطنه البعيد 3

    وانطلاقاً من ذلك وتمشياً مع التركيز على التعبير عن الذات جهد أولئك في أن يحولوا الشوق الصوفي المسيحي الذي كان يتجه إلى الله أو يسوع إلى حب عذري أو إباحي يعبر عنه في أسلوب غنائي، ويتجه إلى الجمال الخارجي للمحبوب الذي كان في الغالب امرأة وأحياناً الطبيعة.

    ثانياً: الثورة على العقلانية التي سادت القرنين (17-18) :

    سبق أن عرفنا كيف فاجأ عصر التنوير أوروبا المسيحية بتلك الكلمتين المقدستين لديه (الطبيعة والعقل)، وجعل الأولى رمزاً خفياً للوثنية يحل محل اسم الله في المسيحية ، والثانية وسيلة إلى فهم الإله الجديد بدلاً من وسيلة المسيحية الوحي.

    ولقد وثق الهاربون من طغيان الكنيسة العلمي في مقدرة العقل وثوقاً أعمى، وكان لكشف كوبرنيكس ، وقوانين جاليلو ونيوتن ومبادئ بيكون وديكارت العقلية أعظم الأثر في تمجيد العقل بل عبادته، ولما كان جل همم إغاظة الكنيسة والانتقام من عبوديتها فقد اشتطوا وغلوا في ذلك إلى أبعد الحدود.

    لكنهم ما كادوا يلتقطون أنفاسهم وتستقر أعصابهم من مطاردة الكنيسة حتى بدأ بعضهم يبحث عما إذا كان إله العقل جديراً بما أعطي من قيمة وتقديس أم لا؟

    وكانت النتيجة مرة، وهي أن العقل عاجز حقاً عن تفسير الطبيعة، وإذ كان كذلك فهو أعجز عن تفسير النفس الإنسانية وفهمها.

    وتساءل أولئك: أليس من طريق للثورة على الكنيسة والوصول إلى فهم الطبيعة والإنسانية إلا طريق العقل وحده؟

    واستطاعوا أن يكتشفوا طريقاً آخر أرحب من العقلانية بمنطقها الجامد وقوالبها المحددة، وأقوى من العقل اختراقاً للأسرار وتبديداً للغموض، ألا وهي الشعور العاطفي، ذلك الشعور الذي يمتطي آفاق الخيال الواسعة، فيسبر أغوار الذات الإنسانية العميقة، ويستجلي جمال الطبيعة، وهكذا أخذ الرومانسيون يرتفعون رويداً رويداً عن الأرض ويحلقون في الفضاء السحيق، ولكن إلى غير الله ومن غير طريق المسيحية .

    كانوا يتحدثون عن الحب، ويبحثون عن الجمال ويفلسفونهما في أساليب ضبابية كثيفة، كما كانوا يتحدثون عن الشياطين والملائكة والسحر والعوالم المجهولة في محاولات دائبة ويائسة لاستكناه أسرار الكون وتحقيق السعادة الداخلية.

    وأصبحوا ينقبون عن الحقائق الأبدية لا في الكتاب المقدس ولا في المؤلفات العقلية، ولكن في صفحة الطبيعة الخلابة ومناظرها الحالمة، وكل هذا أفضى بهم بالطبع إلى مثالية مغرقة جوفاء أعظم في بعض جوانبها من تلك التي انتقدوها على الكلاسيكيين.

    ونتيجة أخرى مهمة هي أن الرومانسية باعتقادها أن غاية النشوة وقمة السعادة تكمن في أن يطلق الإنسان عنان نفسه لتذوب في حب الطبيعة وتفنى فيها كما يفني الصوفي في معبوده، ولذا أحلت الطبيعة محل الله والشعور محل العقل -بهذا الاعتقاد- تكشفت عن صورة وثنية جديدة (وكل الكلام الجميل المعسول الذي قيل لتبرير هذه الوثنية : أن الطبيعة محراب الله وأن الجمال صورة الله، إننا نعبد الله في خلقه... إلى آخر هذه الجمل الرومانتيكية البراقة، كل هذا الكلام لا يستطيع أن يخفي تلك الروح الوثنية الغارقة في الوثنية التي تعبد المحسوس في حقيقة الأمر، لأنها تعجز عن إدراك الله بالروح، والروح غنية عن المحسوسات) 4

    ولقد عبر روسو -رائد الرومانسية - عن ذلك أوضح تعبير في راهب سافوي الذي هو صورة لذاته، إنه راهب بالفعل، ولكنه يختلف جذرياً عن رهبان الكنيسة، فهو راهب في صومعة الطبيعة يسبح بحمدها ويقدس لها.

    وفي كتابات روسو (الاعترافات مثلاً) وقصائد بوب (مقال عن الإنسان ) وجوته (فاوست )، وكذلك كيتس ولامارتين وأضرابهم نماذج واضحة للمذهب الرومانسى في أوج مجده.

    ولما كان أعظم أثر للرومانسية ينحصر في رد الفعل الذي نجم عنها بولادة الأدب الواقعي اللاديني الحديث، فلن نفيض في الحديث عنها أكثر من هذا.

    1. المصدر السابق: 1/144.
    2. حول تأثر الفروسية بالشعر العربى أنظر مثلاً: عالم العصور الوسطى ج ج كولتون: 96 - 97، ترجمة جوزيف نسيم.(دار المعارف).
    3. ثلاثة قرون من الأدب: 1/134.
    4. جاهلية القرن العشرين: 226 - 227.
    التعديل الأخير تم 12-23-2004 الساعة 07:26 PM

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء