ثالثا : الحاجة إلى الآخرة:
لقد بحثنا في الصفحات الماضية فيما إذا كان حدوث شيء من مثل الآخرة التي يدعيها الدين ممكناً , ولقد ثبت ما علمنا أن الآخرة ممكنة الحدوث , والمسألة التي نقف أمامها الآن هي: البحث فيما إذا كان هذا العالم في حاجة-فعلاً- إلى شيء من قبيل الآخرة؟ وهل يقتضي الكون-في هيكله الحالي- وقوعها ؟
(أ) الجانب النفسي :
لنتناول أولا (الجانب النفسي) من المسألة.
قول البروفيسور (كنجهام) في كتابة: Plato s Apalogy : (إن عقيدة الحياة بعد الموت (لا أدرية مفرحة Cheerful Agnosticism) ومن الممكن اعتبار هذا القول خلاصة أفكار فلاسفتنا الملحدين المعاصرين ؛ فهم يرون أن عقيدة الآخرة اخترعتها عقلية الإنسان الباحثة عن عالم حر مستقل عن حدود هذا العالم وعن مشكلاته ، مليء بالأفراح ! , وإنما يدفعه إلى الإيمان بهذه العقيدة أمله في الحصول على حياته المفضلة ، التي لا جهد فيها ولا كدح !, وأن هذه العقيدة تنتهي بالإنسان إلى عالم مثالي وخيالي ،حيث يحلم بأنه سوف يظفر به بعد الموت؛ ولكن الحقيقة- كما يراها الفلاسفة- أن لا وجود لشيء كهذا العالم الثاني في الأمر الواقع !"
وفي رأيي : أن هذا المطلب الإنساني-في حد ذاته- (دليل نفسي) قوي على وجود عالم آخر ، كالظمأ ، فهو يدل على الماء ، وعلى علاقة خاصة باطنة بين الماء وبين الإنسان وهكذا .. فإن تطلع الإنسان-نفسياً- إلى عالم آخر دليل في ذاته على أن شيئا مثل ذلك موجود في الحقيقة ، أو أنه-على الأقل- خليق أن يوجد وهذاالمطلب النفسي يؤكد علاقة مصيرنا بهذه الحقيقة ! ويدلنا التاريخ على وجود هذه الغريزة الإنسانية منذ أقدم العصور على مستوى إنساني !
وهو أمر لا أستطيع فهمه ! كيف يمكن أن يؤثر أمر باطل على البشر في هذا الشكل الأبدي ، وعلى مستوى إنساني ؟ وهذا الواقع نفسه يدلنا على قرينة قوية بإمكان وجود العالم الآخر, وإنكار هذه الحاجة النفسية ، بدون أدلة يعتبر جهلاً وتعصباً ! إن الذين ينكرون حاجة نفسية عظيمة مثل هذه زاعمين أنها باطلة ، هم من أعجز الناس حقا عن تفهم أي واقع على سطح الأرض بعد هذا ! ولو كانوا يزعمون الفهم في الواقع فلا أدري بأي دليل؟ وعن أي برهان؟
ولو كانت هذه الأفكار نتاج المجتمع كما يزعمون فكيف لا تزال تطابق التفكير الإنساني بهذه الصورة المدهشة من أقدم العصور؟ هل تجدون مثالاً لأية أفكار إنسانية أخري ظلت باقية إلي العصر الحاضر ، وبهذا التسلسل الرائع منذ ألوف السنين ؟ هل يستطيع أذكى أذكيائكم أن يخترع فكراً واهياً , ثم يدخله إلى النفس الإنسانية وكأنه موجود بها منذ الأزل ؟!
إن لكل إنسان أماني كثيرة لا تكلل بالنجاح في حياته ، إنه يتمنى حياة أبدية ، ولكن الحياة التي أعطيت له تخضع لقانون الموت , والعجيب أن الإنسان عندما يكون على أبواب حياة ناجحة عظيمة ، بعدما كسب من العلم والمعرفة والخبرة والتجارب الثمينة ، حينئذ تداهمه دعوة الموت ! ولقد أكدت إحصائية عن تجار لندن الناجحين أن أمرهم يستقر فيما بين 45-65 سنة من أعمارهم ، ثم يبدأون يربحون ما بين خمسة آلاف إلي عشرة آلاف جنيه في السنة ، وفي ذلك الوقت الثمين-فجأة- تتوقف حركات قلوبهم ذات مساء أو ذات صباح ، فيرحلون إلى عالم مجهول تاركين تجارتهم الممتدة إل ما وراء البحار !
يقول وينوود ريد (Winwood Reade) : ( إنه لأمر هام يدعونا إلى التفكير فيما إذا كانت لنا علاقة شخصية مع الإله؟ هل هناك عالم غير عالمنا هذا ؟ وهل سوف نلتقي جزاء أعمالنا في ذلك العالم ؟ إن هذا السؤال ليس بعقدة فلسفية عظيمة فحسب ، وإنما هو في نفس الوقت أعظم أسئلتنا العملية أيضا إنه سؤال تتعلق به مصالحنا الكثيرة ؛ فحياتنا الراهنة قصيرة جدا أفراحها عادية موقوتة ، إذ أننا عندما نظفر بما نحلم به يفاجئنا الموت ، ولو استطعنا الاهتداء إلى طريق خاصة تجعل أفراحنا دائمة وأبدية ، فلن يرفض العمل به أحد غير البله والمجانين منا )
ولكن الكاتب نفسه يستطرد فينكر ذلك المطلب النفسي الكبير من أجل أمور لا وزن لها ولا قيمة ؛ فهو يقول: ( إن هذه العقيدة كانت معقولة جداً حين كنا لا نبحث جوانبها بعمق وجد , ولكن بعد هذا البحث اتضح لنا أنها أمر سخيف ، ويمكن إثبات سخافته بسهولة فالفلاح المحروم العقل الجاهل لا يتحمل مسئولية خطاياه ، وسيدخل الجنة ، ولكن العباقرة مثل (جوته) ، و(روسو) ، سوف يحترقون في نار الجحيم ؛ فلأن يخلق الإنسان محروم العقل خير له من أن يكون من أمثال جوته وروسو ! إن هذا الكلام تافه وسخيف).
وما أشبه هذا الموقف بالذي اتخذه (اللورد كلوين) تجاه التحقيق العلمي الذي قام به (ماكسويل) ؛ فقد زعم اللورد أنه لا يستطيع أن يفهم نظرية ما إلا بعد وضع نموذجها الميكانيكي ، وبناء علي هذا الفرض أنكر نظرية ماكسويل عن البرق والمغناطيس ، لأنها لم تحل في أحد نماذج اللورد المادية! إن مثل هذه المواقف والادعاءات الخرافية أصبحت غريبة في عالم الطبيعة الحديثة ويتساءل العالم (سوليفان): (كيف يروق لأحد أن يدعي أن الطبيعة لابد أن تكون كما يضعها مهندس القرن التاسع عشر في معمله؟ )
وسوف أوجه هذا الكلام إلى (وينوود): (كيف يجوز لفيلسوف القرن العشرين أن يرى أن يكون الكون الخارجي في حقيقة الأمر مطابقاً لما يزعمه هو؟ )
إن كاتبنا لم يستطع أن يفهم أمراً في غاية البساطة : هو أن الحقيقة لا تحتاج إلى الواقع الخارجي ، وإنما الواقع الخارجي هو الذي يكون في حاجة إلى الحقيقة ؛ فالحقيقة أن لهذا الكون إلهاً وسوف نمثل أمامه يوم الحساب, فلابد لكل منا- سواء أكان روسو أم كان مواطناً عادياً- أن يكون وفياً ومطيعاً لإلهه ! ؛ فنجاتنا لن يحققها جحودنا بل هي تمكن في إيماننا وطاعتنا , والغريب أن كاتبنا لم يرق له أن يطالب (جوته) و (روسو) أن يسلكا مسلك الحق ، وإنما طالب الحق بالتغيير ! ولما لم يطع الحق راح ينكره ! وهذا أشبه بمن ينكر قانون حفظ الأسرار العسكرية الذي يكرم أحياناً جندياً بسيطاً ويعدم عالماً ممتازاً ، مثل ( روزنبيرج وعقيلته الحسناء ) بالكرسي الكهربائي ! ,إنه لا يوجد على سطح الأرض من يفكر في الغد غير الإنسان ! فهو يتميز عن سائر الحيوانات بدوام تفكيره في المستقبل ، وجهاده المتواصل ، وسعيه الدائب في سبيل تحسين أحواله .
ولا شك أننا قد نجد بعض الحيوانات تعمل لمستقبلها ؛ كالنمل الذي يدخر غذاءه للشتاء القادم ؛ والطيور التي تصنع أعشاشاً يسكنها أولادها بعد فقسهم ، ولكن هذا العمل لدي الحيوانات يعتبر غريزياً !، فهو صادر عن غير شعور بالمسئولية ؛ إنها تقوم بهذه الأعمال لقلقها من مشكلات الغد ، وإنما تأتي بها طبيعياً ، ومن ثم تنتفع بها في المستقبل فالتفكير في المستقبل يتطلب فكراً مدركاً واعياً ، وهو من ميزات الإنسان فحسب ،ولا يتمتع به شيء من الحيوانات غيره . هذا الفرق الكبير بين الإنسان والحيوان يؤكد أنه لابد أن تكون للإنسان مواقع أكثر بالنسبة إلى أي نوع آخر للانتفاع بها ، فحياة الحيوانات هي ما تسمى "حياة اليوم" ، ففكرة الغد لا توجد عندها ولكن مطالعة حياة الإنسان تقتضي غداً ! ، ولو أنكرنا هذه الحاجة لخالفنا الطبيعة.
ويعتقد بعض العلماء والفلاسفة أن خيبة آمال الإنسان في حياته الراهنة هي التي تجعله يفكر في حياة أفضل ، وهم يرون أن هذا الفكر سوف يتلاشى لو أتيح للإنسان مجتمع رفاهي كامل, فقد اعتنق عدد كبير من أسرى الروم المسيحية لأنها وعدتهم بأفراح السماء ! ولذا تتوقع هذه الطائفة من العلماء والفلاسفة أن سعادة الإنسان ورفاهية المجتمع سوف تزداد أكثر فأكثر إلى أن تقضي نهائيا على نظرية العالم الآخر.
ولكن تاريخ الأربعمائة سنة الأخيرة-التي ازدهرت فيها العلوم والتكنولوجيا- يكذب هذا التوقع ؛ فإن أول ما هيأ التقدم التكنولوجي للإنسان أنه أتاح له وسائل عديدة احتكرتها أيدٍ محدودةٍ , قامت بدورها باستغلالها ، وقضت على صغار العمال والحرفيين ، وحولت تيار الثروات إلى كنوزها وخزائنها ، وجعلت من الشعب عمّالاً فقراء معوزين ، ويمكن مطالعة هذه المناظر القبيحة التي جاءت نتيجة للتقدم التكنولوجي ، في كتاب كارل ماركس (رأس المال) ! ، الذي يعتبر ضجيجاً للطبقة العمالية التي عاشت القرنين الثامن والتاسع بعد الألف , ثم بدأت ردود فعل هذا الضجيج وتبعه كفاح طويل قامت به المنظمات العمالية ، حتى تحسنت الأحوال إلى حد ما ولكنني أري أن التغير الذي طرأ على أحوال العمال ليس إلا ظاهرياً ؛ فعامل اليوم يتقاضى أكثر مما يتقاضاه بالأمس ، أما السعادة الحقة فإنه أكثر افتقادا لها من سلفه. . ذلك أن النظام التكنولوجي لم يعط الإنسان أكثر من مظاهر مادية ، فهو لا يملك القيم الروحية ، حتى يمنح لأتباعه السعادة والطمأنينة القلبية ، وما أصدق ما قاله الشاعر (Blake) عن إنسان الحضارة الحديثة: A mark in every face I meet Marks of weaknees, marks of woe
(كل وجه ترى عليه سمات فيه ضعف ، وفيه ذل وحقد)
لقد اعترف (برتراند راسل) قائلا: (إن حيوانات عالمنا يغمرها السرور والفرح ، علي حين كان الناس أجدر من الحيوان بهذه السعادة ، ولكنهم محرومون من نعمتها في عالمنا الحديث ) واليوم كما يقول راسل أصبح من المستحيل الحصول علي هذه النعمة: السعادة !
إنك عندما تزور نيويورك تشاهد أبنيتها الضخمة مثل عمارة (إمباير ستيت) التي تتكون من 102 طابقا وهي عالية جدا حتى إن درجة الحرارة في أدوارها العليا تكون منخفضة جدا بالنسبة إلي أدوارها السفلي ، وعندما تخرج منها وتراها من الشارع فلن تصدق أنك كنت فوق هذا العملاق الذي يرتفع فوق سطح الأرض ، ولا يستغرق المصعد الكهربائي للصعود من أسفلها إلي أعلاها أكثر من ثلاث دقائق ! ....
إن ما رأيته في نيويورك لم يكن إلا منظرا مقتضبا من مسرحية الإنسان في العصر الحديث.
لقد أقامت العلوم والتكنولوجيا أبنية شامخة ، ولكنها نزعت السعادة من قلوب ساكنيها ، إنها أقامت مصانع تتحرك بآلات هائلة ، ولكنها حرمت عمالها الراحة التي يطمحون إليها ، وهذه هي نتيجة التاريخ العلمي والتكنولوجي, فكيف بنا إذن نطمح ونتوقع عالما يسوده السلام والسعادة ، من صنع التكنولوجيا؟.
(ب) الضرورة الأخلاقية :
وعندما ندرس المسالة من الوجهة نري أنه لابد من الآخرة ، فإن التاريخ الإنساني لن يكون له أي معنى بدونها.
إن فطرة الإنسان تميز بين الخير والشر ، والصالح والطالح ، والظلم والعدل ، وهذه الفطرة هي التي تميز الإنسان عما سواه ، ولكن ها هو ذا الإنسان الذي كرمه ربه ، يهدر فطرة الله أكثر ممن لا يتمتعون بها ؛ إنه يظلم بني جنسه ؛ يقتلهم ويشردهم ، ويوجه إليهم كل شر مستطاع ! إن الحيوانات لا تظلم فصائلها ، فالأسد ليس في الأسود أسداً ، والنمر ليس في العرين نمراً , ولكن الإنسان أصبح يفترس إخوانه ، حتى الأقربين منهم ، مما لا يوجد له مثيل في قانون الغابة ! ( قد يستدرك على المؤلف بما ثبت في الخبر من القصاص بين الحيونات بعضها من بعض , الا ان يقال بأن العبرة بالغالب ) ولا مرية أننا وجدنا أضواء الحق والعدالة في التاريخ الإنساني ، وأننا نقدرها حق قدرها ، ولكن الجزء الأكبر من التاريخ يفيض بقصص الظلم والفساد والعدوان. إن المؤرخ ليصاب بيأس بالغ عندما يري أن أحداث التاريخ تتعارض تماماً مع الضمير الإنساني.
ولنقتبس هنا بعض الأقوال:
فولتير: (إن التاريخ الإنساني ليس إلا صورة للجرائم والمصائب).
هربرت سبنسر : (إن التاريخ تهريج ، وكلام فارغ لا جدوى منه).
نابليون : (إن التاريخ بأكمله عنوان لقصة لا تعنى شيئاً ).
إدوارد جين : ( إن تاريخ الإنسان لا يعدو أن يكون سجلا للجرائم ، والحماقة ، وخيبة الأمل ).
هيكل : (إن الدرس الوحيد الذي تعلمته الحكومة والشعب من مطالعة التاريخ هو أنهم لم يتعلموا من التاريخ شيئا ).
هل قامت مسرحية العالم كلها لتنتهي إلى كارثة أليمة ؟ إن فطرتنا تقول: لا. . فدواعي العدالة والإنصاف في الضمير الإنساني تقتضي عدم حدوث هذا الإمكان ، لابد من يوم يميز بين الحق والباطل ، ولابد للظالم والمظلوم أن يجنيا ثمارها ، وهذا مطلب لا يمكن إقصاؤه من مقومات التاريخ ، كما لا يمكن إبعاده عن فطرة الإنسان.
إن هذا الفراغ الشاسع الذي يفصل ما بين الواقع والفطرة يقتضي ما يشغله ؛ فإن المسافة الهائلة بين (ما يحدث) و (ما ينبغي أن يحدث) تدل على أن مسرحاً آخر قد أعد للحياة ، وأنه لابد من ظهوره, فهذا الفراغ العظيم يدعو إلى تكميل الحياة , وإني لأتحير عندما يؤمن الناس بفلسفة الروائي الإنجليزي (هاردي) القائلة: ( بأن العالم مكان للظلم والوحشية ) ولكنني أصاب بحيرة أكبر عندما أرى أن هذه الحالة البالغة السوء لا تقودهم إلى الإيمان بأن: ما ليس بموجود اليوم ويقتضيه العقل ، لابد من حدوثه غداً .
(إذا لم تكن هنالك قيامة فمن ذا الذي سوف يكسر رؤوس هؤلاء الطواغيت الطغاة؟ )
كلمة كثيراً ما تخرج من شفتي مصحوبة بأنين مرير ، عندما أطالع الجرائد ، فجرائدنا صورة مصغرة أرض لم لما يحدث كل يوم علي الأرض ، والصورة التي تحملها الجرائد إلينا رهيبة . . إنها تتكلم عن الاغتيالات ، والخطف ، والنهب ، والاتهامات الكاذبة ، والتجارة السياسية ، والدعايات الباطلة التي تتلعب بالألفاظ . إن هذه الجرائد تخبرنا كيف نكل الحاكم الفلاني بمعارضيه الضعفاء ، باسم مصالح الأمة ، ودواعي الأمن القومي , وكيف سيطر على ذلك الشعب يملكه طيلة التاريخ بقوة السلاح ! وليست هذه الجرائد إلا حكايات لمأساة الضعيف والقوي ، والسلطان والرعاع !.
إن الأحداث التي وقعت في بلادي أخيراً ، وبخاصة تلك الاغتيالات الجماعية ، وعمليات النهب والحرق المخططة التي جرت في مناطق جبل بور ، وجمشيد بور ، وراؤر كيلا ، وكلكتا- يبدو بعدها أن المرء لا ينبغي أن يستبعد وقوع أية جريمة علي هذه الأرض ، سواء أمكنه تصورها أم لا ! فإن قوما يرفعون شعارات (العلمانية) و (الجمهورية) و (اللاعنف) يستطيعون-في نفس الوقت- أن يرتكبوا أبشع أنواع الطائفية ، وأشنع ألوان الدكتاتورية ، وأسوأ صور العنف ، كما لم يشهده التاريخ. وكل هذه الجرائم البشعة-التي تأسي لحدوثها السباع المفترسة ، والذئاب الكاسرة ، والخنازير الوحشية- قد جرت في عهد زعيم أطلق عليه لقب: (معلم الإنسانية ورسول السلام ) ! وليت المأساة توقفت عند هذا الحد ، فلقد ارتكبت في هذا العصر الذي ازدهر فيه النشر والإذاعة ، جرائم شنيعة ، وأحداث مروعة من نهب وقتل وإحراق أقوام بأسرهم ؛ ودامت المأساة أشهرا طويلة ، بل سنين عديدة ، في بلاد شاسعة جدا من الهند ، والصحافة العالمية لا تنشر عنها شيئا ما ، وقد امحت تماما هذه الجرائم من صفحات التاريخ ، كأن لم تكن مأساة الأمس القريب ! هل خلق هذا العالم ليكون مسرحاً للمآسي ، والشيطنة ، والهمجية والقرصنة ، ثم لا يلقي الظالم والمظلوم جزاءهما؟ إن عالماً- من هذا القبيل- إعلان في حد ذاته عن أنه ناقص وهذا النقص في ذاته يقتضي ما يكمله.
ولندرس هذا من ناحية أخرى .. لقد شغلت مسألة هامة الذهن الإنساني من أقدم العصور ، وهي كيفية إجبار الناس على سلوك طريق الحق ، فإذا افترضنا أن بعض أفراد المجتمع قد منحوا سلطة سياسية من أجل تحقيق هذا الهدف ، فمن الممكن أن يمتنع الرعايا خوفا من العذاب. ولكن ما الذي يدفع أولئك الذين يتمنعون بالسلطة السياسية إلى تحقيق العدل والإنصاف؟ ولو أننا استنجدنا القانون ، واستصرخنا المحكمة ، فكيف إذن يمكن أن نبلغ بهما تلك الأماكن التي لا تخضع للشرطة والقانون؟ ولو أننا خضنا معارك الدعاية وناشدنا أهل الشر أن يكفوا عن الجرائم ، فمن ذا الذي ينصت إلينا؟ ويتخلى عن فائدة يجنيها دون كلفة؟ إن رهبة عقاب الدنيا لن تنجح في قمع انحرافات الإنسان ؛ فنحن جميعا نعرف أن الكذب ، والرشوة ، والمحسوبية ، واستغلال النفوذ ، وما إلي ذلك من الوسائل المعروفة ، سوف تحول دون أي إمكان للعقاب.
إنه لن يفلح شيء في قمع الجرائم غير الدافع المنبعث من داخل قلب الإنسان-الضمير ، الضمير الذي لو دخل إرادة الإنسان فلن يسقطه عامل خارجي أيا كان ، وهذه الميزة غير متاحة إلا في عقيدة الآخرة ! فإن دافعاً قوياً يكمن في هذه العقيدة ، ويجعل من اتقاء الجرائم مصلحة ذاتية لكل إنسان, إنها مصلحة يهتم بها الجميع ، فالكل رئيساً كان أم مرؤوساً ، في الظلام كان أو في الضوء-ينطلق يفكر في أنه لابد من يوم للقاء الله ، والكل يشعر بأن الله يراه ، وسوف يحاسبه حساباً عسيراً, وهذه الأهمية الكبرى في عقيدة الآخرة هي التي جعلت القاضي ماتيوهالوس (Mathew Halos) ، وهو من كبار قضاة القرن السابع عشر يقول: ( إن القول بأن الدين خدعة ، هو بمثابة إبطال لجميع المسئوليات التي تقع على عاتقنا لاستقرار النظام الاجتماعي ).
(ج) مشكلة السلوك:
ألا ما لنستطيع أن ندرك أبعاد هذه النظرية لو تأملنا أن كثيرا من علمائنا الملحدين الذين لا يعتقدون أن الآخرة أمر واقع ، قد اضطروا- بناءاً على تجارب التاريخ- إلى القول بأنه لا يوجد شيء غير (الآخرة) لمراقبة الإنسان ، وإخضاعه لسلوك طريق الحق والعدل في جميع الظروف.
لقد أنكر الفيلسوف الألماني (كانت) فكرة (الإله) ، قائلاً: (إنه لا يجد أدلة شافية علي وجوده). فهو ينكر (الصواب النظري) في الدين ، ولكنه ، في نفس الوقت ، يضطر إلي أن يسلم (بالصواب العملي) في الدين ، من الناحية الأخلاقية.
و (فولتير) أيضا لا يؤمن بحقائق ما وراء الطبيعة ، ولكنه يرى : ( أن أهمية الإله والحياة الآخرة عظيمة جدا ، حيث أنهما أساسان لإقامة (المبادئ الأخلاقية) وهو (فولتير) يرى أن هذه العقيدة وحدها كفيلة بإيجاد إطار أخلاقي أفضل للمجتمع ولو أن هذه العقيدة زالت فلن نجد دافعا للعمل الطيب ، وسيترتب على ذلك انهيار النظام الاجتماعي ). إن الذين يرون أن (الآخرة) فكرة خيالية ينبغي أن يفكروا : كيف أصبحت فكرة خيالية ذات أهمية قصوي بالنسبة إلى واقع حياتنا؟
لماذا لا نستطيع بدونها إقامة نظام اجتماعي سليم؟ ولماذا تنهار قيم حياتنا عندما نتخلى عن هذه الفكرة ؟ هل يمكن أن تحتل فكرة خيالية هذه الأهمية الكبرى في الحياة؟ هل وجدتم مثالا ما في الكون لفكرة خيالية غير كائنة ، أصبحت تتمتع بهذه الأهمية الحقيقية في الحياة ، رغم أنها لا علاقة لها بواقعنا؟
إن حاجتنا الملحة إلى الآخرة لتنظيم الحياة ، وإقامتها على أسس عادلة حقيقية ، هي-في حد ذاتها- تأكيد بأن الآخرة من كبريات حقائق الكون ، ولست أبالغ إذا قلت: إن هذا الجانب المنطقي من الاستدلال يثبت حقية هذه النظرية ، على مستوي التحقيق المعملي العلمي !
(د) الضرورة الكونية:
ولننظر إلى هذه القضية من جهة ثالثة ، تلك التي أسميها: (الضرورة الكونية). لقد تكلمت في الصفحات الماضية عن وجود الإله في الكون ؛ وقد ثبت جليا أن الدراسة العلمية والفكرية هي التي تدعونا إلى القول بوجود إله لهذا الكون. وبقي أن نسأل: لو كانت هناك علاقة بين الإله والإنسان لما كان بد من ظهورها ، فمتي ستظهر هذه العلاقة جليا؟
أما بالنسبة إلى عالم اليوم ، فمن الممكن الجزم بأن هذه العلاقة لم تظهر بعد ؛ فالرجل الذي لا يؤمن بالإله ، يصيح قائلا: (إنني لا أخاف من الله) ثم هو لا يصاب بأذى بل قد يحصل علي الزعامة ، ويتسلم مقاليد الحكم ! , أما الذين يبلغون رسالات الله ، فإن السلطات توقف نشاطهم بحجة أنه (غير شرعي). وهنالك أيضا مكاتب ومؤسسات تشغلها-ليل نهار- الدعاية لأولئك الذين يقولون: (لقد ذهب صاروخنا إلى القمر ولم يتشرف بلقاء إلهكم! ) ، وجميع أجهزة الدعاية الرسمية تدعم هذه المؤسسات ، فإذا ما نهض أصحاب الدعوات برسالتهم ردهم علماء العصر قائلين: إنكم رجعيون تتخبطون في الظلمات! يولد الأطفال ، ثم يشبون ، ويموتون. تصل الشعوب إلى أوج مجدها ، ثم تنقرض , تقع الثورات ، ثم تزول , تشرق الشمس وتغرب ، ولكن لا تظهر آيات وجود الله.
وفي هذه الحالة تطالبنا عقولنا وقلوبنا بالإيمان بوجود الله ، أو إنكار هذا الوجود فلو آثرنا الإيمان بالله ، فلا مناص لنا من الإيمان بالآخرة فليست هناك طريق أخرى لتبيين علاقة الإنسان بالإله.
لقد سلم (داروين) بأن لهذا الكون (خالقا) ، ولكن تفسير الحياة الذي قدمه لا يتضمن أدني ربط بين الخالق ومخلوقه ، كما أنه لا يحس بالحاجة إلى نهاية لهذا الكون ، حاجة تدفعه إلى تقرير هذا الربط ، ولست أدري كيف سيملأ (داروين) هذا الفراغ الكبير في نظريته البيولوجية ؟ إن عقلي يستنكر إلهاً لا علاقة له بأمور الكون ، ولا يشهده عباده في مظهر الخالق أبداً وما أعجب (خالق داروين)- هذا الذي يأتي بكون عملاق هكذا ، ثم ينهيه ، دون إبداء الأسباب التي دفعته إلى هذا الخلق ، ودون تعريف مخلوقيه بصفاته العديدة ! إننا لو أعطينا هذه المسألة الخطيرة شيئا من تفكيرنا ، فسوف نجد قلوبنا تصرخ: ( إن الساعة آتية لا ريب فيها ) .بل إنا لو تأملنا فسنراها مسرعة إلينا ، سوف نراها ثقيلة ، وشيكة الانفجار ، كأنها الوليد في بطن الحامل, وما أقرب ما تفتك بنا-فجأة-ذات عشية أو ضحاها: (يسئلونك عن الساعة أيان مرسها. قل إنما علمها عند ربي. لا يجليها لوقتها إلا هو. ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة ).
رابعا- الشهادة التجريبية:
نواصل الآن بحثنا في الجانب الآخر من هذا الموضوع: (الآخرة) ، وهو: هل هناك شهادة تجريبية تثبت الحياة بعد الموت؟
عن أول دليل على الحياة الثانية هو حياتنا الأولي في حد ذاتها ؛ فإن الذين ينكرون الحياة الثانية يقرون بداهة الحياة الأولى , والحياة تلك التي ظهرت مرة واحدة ، كيف تعجز عن إعادة نفس العملية مرة أخري ؟ هذه التجربة التي نعيشها نحن اليوم ، كيف يستحيل حدوثها ثانية ؟ إنه لا شيء أكثر عداء للمنطق والعقل الإنساني من أن نسلم بوقوع حادث في الحال وننكره في المستقبل !
يا له من تناقض عجيب. . إن الإنسان يدعي أن (الآلهة) التي اخترعها هو بقدراته الخارقة لتفسير الكون ، تستطيع إعادة وقائع الكون مرة أخري ، ولكنه يرفض بعناد تلك النظرية المماثلة التي يتقدم بها الدين ، ويعبر (السير جيمس جينز) عن نظرية هؤلاء القوم قائلا: ( لا غرابة إذا كانت أرضنا قد جائت صدفة نتيجة بعض الحوادث. وإذا بقي كوننا علي حاله الراهنة لمدة طويلة مماثلة (لمدة حدوثه صدفة) ، فلا نستبعد حدوث أي شيء يمكننا قياسه على الأرض ).
وترى نظرية النشوء والتطور أن جميع أنواع الحيوانات تنحدر من نوع بدائي واحد ، وأنها ارتقت إلى ما هي عليه الآن خلال مراحل تطورية متطاولة, بناءاً على هذا التفسير الذي قام بوضعه (داروين)-صاحب هذه الفكرة-فإن (الزراف) الموجود حالياً ، كان في بدء الأمر من عشيرة الحيوانات الصغيرة ذوات الظلف ، ولكن هذا الحيوان من خلال العمليات الطويلة التي أعقبت التوالد والتناسل ، والتغيرات والفوارق الصغيرة التي طرأت علي الجنس الحيواني ، استطاع أن يحصل علي هذا الهيكل العظيم غير العادي الذي نشهده اليوم.
يقول (داروين) موضحا نظريته في الباب التاسع من كتابه: (ومن الأمور الحتمية عندي أنه-إذا ما أجريت العملية المطلوبة خلال زمن طويل ، فمن الممكن أن نجعل من حيوان ذي ظلف عادي حيواناً مثل الزراف ).
وهكذا اضطر جميع العلماء الذين حاولوا شرح الكون والحياة ، بطريق طبيعية إلى أن يسلموا بأنه لو هيئت نفس الأحوال-التي ساعدت في خلق الحياة الأولي- فمن الممكن حدوث الحياة ولوازمها مرة أخرى ! إن إمكان حدث الحياة الأخرى أقوى-نظرياً- من إمكان الحياة الأولى ، الذي قد وقع فعلاً ، وأي شيء نسلم به أنه خلق الحياة-مهما كان هذا الخالق- فلابد لنا من الإقرار بصفة بدهية بأن ذلك الخالق يستطيع بالتأكيد إعادة نفس الحوادث التى أنشأها للمرة الأولى ، ولابد لنا من هذا الاعتراف ، اللهم إلا إذا أنكرنا الحياة الأولى الموجودة الآن, فنحن نفقد جميع الأسس التي نبني عليها دعائم إنكارنا للحياة الأخرى ، عندما نسلم بوجود الحياة الأولى!
خامسا- البحث النفسي:
لقد أثبت البحث النفسي ، الذي ذكرناه آنفا ، أن جميع أفكار الإنسان-أو بعبارة أخرى : جميع خلايا مخه- تبقى بصفة دائمة , وهذا الواقع يثبت بصراحة أن عقل الإنسان ليس بجزء من جسمه ، فإن جميع خلايا وأنسجة الجسم تتغير تغيراً كاملاً في بضعة أعوام ، ولكن سجل اللاشعور لا يقبل أي تغير أو مغالطة أو شبهة على رغم مرور مئات السنين , ولو كان هذا السجل الحافظ كائنا في الجسم فلا أدري أين مكانه منه؟ وفي أي جزء يكمن على وجه الخصوص؟ ولو كان في أحد أجزاء هذا الجسم ، فلماذا لا يزول عندما تزول هذه الأجزاء بعد سنوات عديدة؟ ما أعجب هذا السجل الذي تتحطم جميع لوحاته تلقائيا ، ولكنه لا يفني ولا يزول ! ؟
إن هذه البحوث الجديدة في علم النفس تؤكد بصفة قاطعة أن الوجود الإنساني لا تنحصر حقيقته في ذلك الجسم المادي الذي يخضع دوما لعمليات التحطم والاحتكاك والفناء ، بل هو شيء آخر غير هذا كله وهو لا يفني بل يبقي مستقلا ولا يزول. ويعلم من هذا أبضا أن الحواجز وقوانين الزمن لا وظيفة لها إلا في عالمنا هذا ، ولو كان هناك عالم آخر ، يبدأ عند فناء جسمنا المادي ، فهو يخلو تماما من هذه الحواجز والقوانين.
إن كل ما نباشره من الأعمال والأفعال الشعورية يخرج في نطاق هذه القوانين والحواجز, ولو كانت هناك (حياة عقلية أخري)-كما يعتقد فرويد- فمعناه أن هذه الحياة الجارية لن تفنى أبداً ، بل ستستأنف بعد الموت ، وسوف نكون على قيد الحياة ، فإن هذا الموت لم يكن إلا نتيجة من نتائج هذه الحواجز والقوانين الزمنية , أما وجودنا الحقيقي-وهو اللاشعور ، كما يقول فرويد-فهو حر مستقل عن هذه الحواجز والقوانين ، ولا يطرأ عليه الموت بل يأتي (الموت) علي الجسد العنصري المادي ، ويبقي اللاشعور- وهو الإنسان الحقيقي- كما هو !
ومثاله أن حادثاً وقع قبل ربع قرن ، أو فكراً خطر ببالي قبل عشرين سنة ، وقد نسيت كليهما قاطبة ومع ذلك فإني أراهما في أحلامي اليوم! وتفسير ذلك عند علماء النفس هو أنهما كانا محفوظين في (اللاشعور) بأكمل صورهما وجزئياتهما ، كأنما حدث بالأمس !
وقد نتساءل هنا: وأين هذا اللاشعور؟ فلو كان منقوشاً على الخلايا- كالصوت مسجلاً على الاسطوانات-فإن تلك الخلايا ، التي سجلت ذلك الحادث قبل ربع قرن ، أو هذه الفكرة قبل عشرين سنة ، قد تحطمت وزالت منذ سنين طويلة ، ولا علاقة لها في أي صورة بجسدي الموجود الآن. فأين هذا الفكر من جسدي؟ تلك شهادة تجريبية تثبت- قطعياً-إن هناك عالما آخر خارج أجسامنا المادية مستقلا بذاته ، ولا يفني بفناء الجسم ، أو جزء من أجزائه.
سادسا- البحوث الروحية:
أثبتت (البحوث الروحية) Psychical Researches الحياة بعد الموت على المستوي التجريبي والعملي, إن الأمر الذي يدفعنا إلى إبداء مزيد من الإعجاب بهذه البحوث هو أنها لا تثبت بقاءا محضا لروح ما بل إنها تثبت أيضا بقاء الشخصيات التي كنا نعرفها بذاتها ، قبل أن تموت !
إن هناك خصائص كثيرة يتمتع بها الإنسان من قديم الأزمان ؛ ولكنا لم نلق الضوء عليها إلا حديثا. ومن هذه الخصائص: (الرؤيا) ، التي تعد من أقدم مميزات الجنس البشري والحقائق المثيرة التي تعد من أقدم مميزات الجنس البشري والحقائق المثيرة التي كشفها علماء النفس عن هذه الميزة لم يكن قدماؤنا علي علم بها. وهناك مظاهر أخري درسناها أخيرا وأجرينا بحوثا وإحصاءات في مختلف أنحاء العالم حولها وجاءت البحوث بنتائج غاية في الأهمية.
ومن هذه البحوث ما نسميه (بالبحوث الروحية). . وهي فرع من علم النفس الحديث وهدفها محاولة الكشف عن المميزات الإنسانية غير العادية ، وقد أقيم أول معهد لإجراء هذا النمط من البحوث عام 1882م في انجلترا. وبدأ علماء المعهد عملهم سنة 1889م ، بعد أن قاموا بمسح واسع النطاق علي 17 ألفا من المواطنين ، ولا يزال هذا المعهد موجودا باسم (جمعية البحوث الروحية). وقد انتشرت الآن معاهد كثيرة في مختلف بلدان العالم. وأثبتت هذه المعاهد بعد بحوثها وتجاربها الواسعة النطاق ، أن الشخصية الإنسانية تواصل بقاءها بعد فناء الجسد المادي ، في صورة غريبة , كان وكيل متنقل لشركة أمريكية يسجل طلبات عملائه. جالسا في حجرته في فندق سانت جوزيف ، بولاية ميسوري ، فإذا به يشعر أن أحدا يجلس عن يمينه ويقول الرجل: (فحولت وجهي بسرعة فوجدت أنها أختي!).
وكانت أخته هذه قد ماتت منذ تسع سنين. . وبعد برهة اختفى وجه أخته! وكان الوكيل قد أفزعه هذا الحادث ، لدرجة أنه بدلا من أن يستأنف جولته ، قرر مغادرة (ميسوري) إلى بيته في بلدة (سانت لويس). وفي البيت ذهب يقص على أقربائه الحادث بالتفصيل كما رآه وعندما وصل أثناء كلامه إلي هذه الجملة: (وشاهدت على خدها الأيمن جرحا واضحا أحمر اللون) , فإذا بأمه تصرخ وتقوم مرتعدة ، وهي تقول: (إنني أنا السبب في ذلك الجرح الذي رأيته وقد حدث ذلك عن غير قصد مني ، وقد ندمت لذلك الحادث وآلمني المنظر ، فأزلت كل آثار الجرح ، ووضعت في مكانه شيئا من البودرة! ) وأضافت الأم قائلة: (ومنذ ذلك اليوم لم أفض بهذا السر إلي أحد أبدا)
إن هذه الوقائع وأمثالها لا تختص بأمريكا وأوروبا ، وإنما تحدث بكثرة في كل منطقة من العالم ولكن حيث إن أكثر البحوث العلمية الحديثة قد أجريت في تلك المنطقة من العالم ، فلابد لنا أن نأتي بالشهادات التجريبية من تلك المناطق أيضاً ولو كان عند بعض علمائنا شيء من الطموح والثقة بالنفس ، وبدءوا هذا العمل في مناطقهم فمن الممكن أن نجمع شهادات لا حصر لها في بلادنا الآسيوية والأفريقية. وأنا شخصياً على علم بكثير من وقائع مماثلة تدعم هذه النظرية بصفة مدهشة ، ولكنا بكل أسف تعوزنا الهمم للقيام بمثل هذه البحوث العلمية ، وما يلزمها من قدرة علي الإنفاق ، وبذل الوقت المطلوب.
إن هناك وقائع لا تحصي من هذا القبيل وهي تؤكد وجود (شخصيات معروفة) بعد موتها. ولا سبيل أمامنا لاعتبار هذه الوقائع والحقائق: (أوهاما وخيالات) ، كما اعتاد بعض الناس القول ببساطة في مثل هذه المسائل فإن سر الجرح على خد الفتاة الأيمن- وقد ماتت منذ حقبة من الزمن-لم يكن أحد يعرفه غير الفتاة وأمها ...
إن كثيرين من علمائنا المحدثين يرتابون في قبول هذا الاستدلال كما يقول ( براد ). ( إن أي فرع من فروع العلوم الحديثة لا يؤكد إمكان الحياة بعد الموت اللهم إلا ذلك الاستثناء المشتبه فيه من البحوث الروحية)
بيد أن الاستدلال يشبه عندي أن أقول: إن التفكير استثناء مشتبه في أمره لأن أحدا من ملايين الحيوانات علي سطح الأرض لم يصدق هذه الظاهرة غير الإنسان!.إن بقاء الحياة وفنائها يتعلق بعلم النفس لكونه مسألة نفسية بحتة فلا تصلح دراسته إلا في علم النفس أما أن نبحث عنه في أقسام أخرى من العلوم , فهو بمثابة أن نطالب علمي (النبات) و (الفلزات) بإثبات ظاهرة التفكير. ولا نستطيع-أيضا- أن نجعل دراستنا داخل الجسم الإنساني حكما في هذه المسألة الخطيرة وسببه أن الجزء الذي ندعي بقاءه واستمراره في الحياة-وهو الروح- لا يوجد في هذا الجزء المادي بل في جسم آخر سواه.
وهذا هو المر الذي دفع الكثيرين .. إلى الاعتراف بأن (الحياة بعد الموت) واقع حقيقي بعد أن قاموا بأبحاث علمية طويلة غير منحازة. وقد ألقي (البروفسور دوكاس) وهو أستاذ الفلسفة بجامعة براون ضوءا علي الجوانب النفسية والفلسفية من مسألة الحياة بعد الموت في الباب التاسع عشر من كتابه. والدكتور دوكاس لا يؤمن بالحياة بعد الموت كعقيدة دينية ، وإنما وجد- أثناء بحوثه- شواهد كثيرة اضطر علي أثرها-أن يؤمن بالحياة الآخرة مجردة عن قضايا الدين. وهو يكتب في آخر الباب السابع عشر من كتابه قائلا: ( لقد قام رهط من أذكى علمائنا وأكثرهم خبرة بمطالعة الشهادات المتعلقة بالمسألة وفحصوها بنظرة نقد ثاقبة وقد توصلوا آخر الأمر إلى أن هناك شواهد كثيرة تجعل فكرة (بقاء الروح) نظرية معقولة وممكنة الحدوث , وهم يرون أنه لا يمكن تفسير تلك الشواهد إلا على هذا النحو, ومن هؤلاء الكبار الذين قاموا بهذه البحوث نستطيع أن نذكر: الأساتذة ألفريد راسل واليس ، والسير وليام كروكس ، وف. و. ه مايرز ، وسيزار لومبرازو، وكميل فلاماريون ، والسير أوليفر لوج ، والدكتور ريتشارد هوجسن ، والمستر هنري سيدويك ، والبروفيسور هيسلوب ).
ويستطرد الدكتور دوكاس قائلا: ( ويتضح من هذا أن عقيدة بقاء الحياة بعد الموت- التي يؤمن بها الكثيرون منا كعقيدة دينية- ليس من الممكن أن تكون واقعاً فحسب ، وإنما لعلها هي الوحيدة من عقائد الدين الكثيرة ، التي يمكن إثباتها بالدليل التجريبي, ولو صح هذا فمن الممكن أيضا أن نجد معلومات قطعية في هذا الموضوع بغض النظر عن الأفكار التي افتراها رجال الدين عن نوعية الحياة بعد الموت ولن نحتاج حينئذ إلى الإيمان بالوجهة الدينية من هذه النظرية ).
ويكاد الدكتور دوكاس- بعد الوصول إلى هذا الحد من وضوح قضية الحياة بعد الموت ثم الجحود بوجهتها الدينية-أن يكون مثله مثل الفلاح الذي يصر على أنه لا سبيل إلى الحديث بينه وبين أحد أقربائه الذي يسكن في بلدة نائية,. فإذا وصلت خط التليفون مع قريبه هذا في البلدة النائية وأعطيته السماعة,إذا به يقول لك بعد فراغه من الكلام : (ليس من الضروري أنه كان صوت قريبي فمن الممكن أنه كان يخرج من إحدي الماكينات! ).
وحيد خان - الاسلام يتحدى (110-131)
Bookmarks