النتائج 1 إلى 6 من 6

الموضوع: إعلان تقريب كتاب النبإ العظيم للشيخ دراز

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    May 2010
    المشاركات
    2,867
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    19

    افتراضي إعلان تقريب كتاب النبإ العظيم للشيخ دراز

    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
    أما بعد,
    فسأقوم إن شاء الله في عرض زبدة للكتاب النفيس (النبأ العظيم نظرات جديدة في القرآن) للشيخ المتفنن محمد عبد الله دراز رحمه الله, والغرض من ذلك إحياء سنة مدارسة الكتب في هذا المنتدى, وتنشيط الإخوة على القيام بذلك, وربما قام الإخوة في الإدارة يوما ما بإجراء مسابقة (قراءة في كتاب) تشجيعا لهذا النوع من العمل.
    وختاما أدعو الإخوة إلى إثراء الموضوع بالرجوع إلى الكتاب الأصلي فإنما أقدم لهم قراءتي الخاصة ورب حامل كتاب إلى من هو أقرأ و أفقه منه.

    --------
    النبأ العظيم, نظرات جديدة في القرآن
    أ , د /محمد عبدالله دراز
    تخريج وتعليق: عبد الحميد أحمد الدَّخاخني
    دار الطباعة والنشر الإسلامية
    مكتبة القاهرة : مدينة نصر شارع ابن هانىء الأندلسي.
    --------

    المعنى اللغوي والاشتقاقي لكلمتي "قرآن" و"كتاب"
    معنى القرآن في اللغة
    قال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} القيامة: الآية 17 أي قراءته.
    القرآن: مصدر على وزن فُعلان بالضم، كالغفران. قرأته قراءةً وقرآنًا بمعنى ، أي تلوته تلاوة, ثم صار علما على الكتاب. فهو القرآن والكتاب:
    فهو قرآن متلو بالألسن وكتاب مرقوم بالأقلام. ومن تأمل التسميتين فهم أن حق كلام الله أن يحفظ في السطور وفي الصدور.

    كتب وقرأ تدوران حول معنى الجمع. فالقراءة ضم الألفاظ بعضها لبعض نطقا والكتابة ضم بعضها لبعض خطا. وهاتان ركيزتان من ركائز الحفظ الرباني للقرآن, فلا عبرة لحفظ حافظ حتى يوافق الرسم المنقول بالتواتر ولا بكتابة كاتب حتى يوافق المحفوظ المتواتر. أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى.
     من معاني الجمع: الآيات, السور, الأحكام, الأخبار {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}
     فتأمل عبد الله هذا السر اللطيف في كون كلام الباري قرآنا وكتابا يتبين لك جزء من {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.
     الكتاب: المهيمن الجامع لما فيما قبله زائد عليها.
    هل يمكن تحديد القرآن تحديدًا منطقيًّا؟
     إنما يعرف القرآن بالإشارة إليه حاضرا في الحس أو معهودا في الذهن: فيقال مثلا هوما بين هاتين الدفتين, أو هو من الفاتحة إلى الناس.
     "القرآن هو كلام الله تعالى، المنزل على محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المتعبد بتلاوته".
     قولنا كلام الله: أخرج كلام البشر وكلام الجن وكلام الملائكة.
     قولنا المنزل: أخرج الكلام الذي استأثر به الله في نفسه مثلا, فليس كلام الله كله منزلا: آية الكهف.
     وقولنا المنزل على محمد: أخرج ما أنزل على أسلافه وإخوانه من الأنبياء.
     وقولنا المتعبد بتلاوته: أخرج قراءات الآحاد والأحاديث القدسية.

    {‏ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} إبراهيم: 41

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    May 2010
    المشاركات
    2,867
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    19

    افتراضي

    البحث الثاني في بيان مصدر القرآن
    تمهيد:
    القدر المشترك بين الناس بلا خلاف: القرآن جاء على لسان رجل عربي أمي (ق7م): فشهادة التاريخ حجة في هذا الأمر, وموطن النزاع: من أين جاء بالقرآن؟
     أليس من الإنصاف أن نبدأ بقول الكتاب نفسه؟ القرآن يقول إن جبريل لقن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب. قول رسول كريم. ومهمته الحفظ ثم التبليغ ثم البيان ثم التطبيق. وليس الإبتكار والصياغة: إن هو إلا وحي يوحى.
     {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي} ويقول: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} ، وأمثال هذه النصوص كثيرة في شأن إيحاء المعاني، ثم يقول في شأن الإيحاء اللفظي: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}.
    فانظر كيف عبر بالقراءة والإقراء، والتلاوة والترتيل، وتحريك اللسان: كلها متعلقة بالألفاظ لا بالمعاني البحتة. وهل قرأتم كتابا قط لا يفتتحه صاحبه بقوله, رأيت وألفت وحللت ونظمت؟
     القرآن صريح في أنه "لا صنعة فيه لمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا لأحد من الخلق، وإنما هو منزل من عند الله بلفظه ومعناه".
    فالشق الأول من المسألة واضح بنص القرآن.
     والحق أن القاضي العادل يحكم في هذا النزاع بمجرد ثبوت إقرار صاحبها على نفسه , فأي مصلحة له أن ينسب عبقريته إلى غيره؟ بل تاريخ الفكر والأدب حافل بالسرقات الأدبية. ولا نعرف مثالا لمبدع ينسب بنات أفكاره لغيره. ولو افترضنا ذلك جدلا, فبأي تعليل؟ ولكننا نتنزل مع المعاند المجادل درجة درجة وندحض له كل شبهة. ولو نسب كاتب كتابه لغيره فلعلة. ثم إنه لا يلبث أن يفضح نفسه.
     لو تنزلنا وافترضنا أنه نسبه إلى الوحي ليستصلح الناس ويستنهضهم لما لنسبته كلامه إلى الله من الهيبة والتعظيم.
     وهذا قياس فاسد في ذاته, فاسد في أساسه:فصاحب القرآن صدر عنه الكلام المنسوب إلى الله والكلام المنسوب إلى ذاته البشرية. دون أن ينقص ازدواج الكتاب والسنة من طاعته, فيا ترى لم لم ينسب كلامه كله إلى القرآن؟
     وأما فساد هذا القياس من أساسه فلأنه مبني على افتراض باطل، وهو:
     تجويز أن يكون صلى الله عليه وسلم وقد برأه الله وعافاه من ذلك ممن لا يتورعون عن الكذب والتمويه للوصول إلى غاية إصلاحية.
     وتكفينا لنسف هذه الفرية شهادة التاريخ: من تتبع سيرته علم صدقه في السر والعلن وفي الغضب والرضا كما شهد ولا يزال يشهد به أعداؤه قبل أصدقائه: شهادة ابي سفيان في مجلس هرقل في الصحيحين وشهادة توماس كارليل في كتابه الأبطال.
    طرف من سيرته بإزاء القرآن: فهل وجد في سيرته ما يؤيد أن القرآن ليس من عنده؟

     كانت تنزل به النازلة فتدعوه دواعي البشرية إلى تلمس المخرج مما يجعل العاقل يقطع أن القرآن لا يمليه من هواه:
     فترة الوحي في حادث الإفك: أبطأ الوحي في حادثة الإفك وطالت المحنة شهرا والناس يخوضون وصاحب القرآن لا يزيد على قوله: "إني لا أعلم عنها إلا خيرًا" وهو يستشير ويسأل الأصحاب ولم يزد أن قال لها بمقتضى بشريته التي لا تخترق حجب الغيب في خاتمة الأمر:
     "يا عائشة، أما إنه بلغني كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله". ولم يبرح مكانه حتى نزلت براءة عائشة في صدر سورة النور كما رواه الشيخان.
    فلو كان القرآن من وحي ضميره فما أعظم الداعي يومئذ أن يتقول كلمة يذب بها عن عرضه ذباب الأفاكين وخرص الجاهلين. ولكنه ما كان ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ, فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ).
    مخالفة القرآن لطبع الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعتابه الشديد له في المسائل المباحة:

     يأتي الوحي على غير ما يهواه. ويرى الرأي فيخطؤه القرآن, ويأذن له في الشيء لا يميل إليه, وتنزل الآيات بالعتاب {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} ، {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} ، {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ}، {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}، {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى، وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى، وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى، وَهُوَ يَخْشَى، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى}.
     لو كانت هذه التقريعات المؤلمة من وُجدانه، معبرة عن ندمه حين بدا له خلاف ما فرط من رأيه. أكان يعلنها بهذا والتشنيع؟ ألم يكن في السكوت عنها ستر، واستبقاء لحرمته؟ بلى
     لو كان القرآن يفيض عن وجدانه لكان يستطيع أن يكتم منه شيئًا، ولو كان كاتمًا شيئًا لكتم أمثال هذه الآيات، ولكنه الوحي لا يستطيع كتمانه {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ}
     وتأمل آية الأنفال: ظاهرة عجيبة، فإنها لم تنزل إلا بعد إطلاق أسارى بدر وقبول الفداء منهم، وقد افتتحت بالتخطئة والاستنكار، ثم ختمت بالإقرار وتطبيب النفوس. بل صارت هذه السابقة التي وقع التأنيب عليها هي القاعدة لما جاء بعدها.
     فهل الحال النفسية التي يصدر عنها أول هذا الكلام -افتراضا- يمكن أن يصدر عنها آخره ولما تمض بينهما فترة تفصل بين زمجرة الغضب والندم وبين ابتسامة الرضا والاستحسان؟
     كلا، إن هذين الخاطرين لو فرض صدورهما عن النفس متعاقبين متتالين لكان الثاني منهما ناسخا للأول ماحيًا له، ولاستقر الفكر على آخرهما الذي جرى به العمل، فيا ترى أي داع دعا إلى التعبير عن ذلك الخاطر الأول الممحو المنسوخ وإثباته وتسجيله، قرآنا متلوا متعبدا به, مع ما فيه من تقريع. علماء النفس يستشفون من ثنايا هذا الكلام وجود شخصيتين منفصلتين: سيد يقول لعبده معاتبا: لقد أخطأت في اختيارك, لكني عفوت عنك وأذنت لك تفضلا ومنا وكرما.
    هلموا بنا نتأمل في جنس الأمور التي عوتب فيها النبي صلى الله عليه وسلم: تنحصر في أنه يختار فيما لم يؤمر فيه بشيء الأقرب إلى رحمة أهله وهداية قومه وتأليف خصمه، والأبعد عن الغلظة والجفاء. و لم يكن بين يديه نص فخالفه عمدا، أو جاوزه خطأً ونسيانًا، بل كل ذنبه أنه مجتهدٌ بذل وسعه في النظر، ورأى نفسه مخيرًا فتخير.
     هبه مجتهدًا أخطأ باختيار خلاف الأولى بعد النظر والترجيح, ألا تراه معذورًا ومأجورًا؟ أولست تراه في كل واقعة من الوقائع المذكورة آنفا, يختار خير ما يختاره ذو حكمة ورفق وروية وأرجح ما يرجحه أعقل العقلاء لو قدر لهم أن يجتمعوا ويتشاوروا ويقلبوا وجوه الرأي في ذات المسائل التي عوتب فيها مبلغ القرآن.
     أوليس التنبيه الذي أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في تلكم المواقف جميعها ناطقا بترجيح ما تقتضيه الحكمة الربانية الإلهية, مما لا تبلغه ولن تبلغه قط حكمة بشرية وإن كانت حكمة أعظم وأتقى وأعلم البشر. أوليس الترجيح الذي نبه النبي صلى الله عليه وسلم حاصلا بميزان الحكمة الإلهية في حين أن الترجيح النبوي ثمرة ميزان الحكمة البشرية؟
     فليتأمل العاقل المنصف اللبيب, هل يحكم العقل على فعل واحد مما رجحه مبلغ القرآن في تلكم المواقف كلها بأنه ذنب ومخالفة؟ وهل يوجب العقل تأنيب ترجيحه في أي منها وتثريبه؟
     أم إن العقل يفهم أن آيات العتاب تلك تنزلت من مقام الربوبية على مقام العبودية, بغية الإرتقاء بسيد العباد في مقامات الرقي الإنساني ومعارج التعليم والتأديب؟
     ومثل ذلك صلاته صلى الله عليه وسلم على رأس المنافقين وعتاب القرآن له في ذلك: ففهم الحبيب الرؤوف الرحيم :"إنما خيرني ربي فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} وسأزيده على السبعين"
     فتدبروا يا أولي الألباب كيف دلت آيات العتاب التي يتعلق بها مرضى القلوب للطعن في القرآن وصاحب القرآن, على أن القرآن كلام الله, فكان العتاب والتأديب ناطقا بأفصح لسان عن إعجاز هذا القرآن.
    خلاصة إذا تدبرت المواقف النبوية من القرآن في أمثال هذه المواطن تجلى لك فيها معنيان متلازمان في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم يجمعهما قولنا عنه: إنه عبد لله رؤوف رحيم بخلق الله: "معنى العبودية الخاضعة ومعنى البشرية الرحيمة الرقيقة"
     هذا الجانب, الذي يكشف ما عليه شخصية النبي صلى الله عليه وسلم من أسمى درجات العبودية وأرقى منازل الرحمة الإنسانية والحكمة البشرية, يقابله هيبة وقوة وسلطان قاهر ينطق به هذا القرآن، قوة مستعلية عن البواعث والأغراض, بل هي دوما تنطق بالصدق, وتحكم بالعدل, وتصدع بالحق فرقانا, قوة تخاطب الخلق من عل, ولا تقيم لرضاهم عن حكمها ولا لسخطهم وزنا.
     فيا ترى أيها السامع المنصف هل تبين لك ما بين المقامين من فرق عظيم وبون شاسع, إنه الفرق بين السيد والمسود والعابد والمعبود.
     توقف الرسول -أحيانًا- في فهم مغزى النص حتى يأتيه البيان
     لو قيل لك ما الفرق بين ناقل الكلام وقائله: لقت دونما تردد الناقل يتصور فيه أن يلتبس عليه شيء من الكلام المنقول, وليس ذلك يضيره, ولكن هل يتصور أن يلتبس الكلام على قائله, ويخفى معنى الكتاب على كاتبه؟ كلا, لو تطرق إلينا أدنى شك في شيء من ذلك لحكمنا مع تضافر القرائن بان الناطق بهذا الكلام الذي لا يدري كنهه ناقل لا قائل, وأن الكاتب مقتبس من غيره لا مؤلف لبنات أفكاره.
     "أي عاقل توحي إليه نفسه كلامًا لا يفهم هو معناه، وتأمره أمرًا لا يعقل هو حكمته؟ أليس ذلك من الأدلة الواضحة على أنه ناقل لا قائل، وأنه مأمور لا آمر؟"

     إذا تقرر ذلك فتأملوا معاشر العقلاء كيف تكرر أمر القرآن بالأمر المجمل أو المشكل الذي لا يستبين ناقله ومبلغه صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه معناه ولا يستيقنون تأويله حتى يأتي القرآن نفسه ببيان المجمل وتفسير المشكل بعد.
     موقفه في قضية المحاسبة على النيات:
     نزل قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} أزعجت الآية الصحابة ، ؛ لأنهم فهموا منها أنهم سيحاسبون حتى حركات القلوب وخطراتها -فقالوا: يا رسول الله، أنزلت علينا هذه الآية ولا نطيقها- فقال لهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير" فجعلوا يتضرعون بهذ الدعوات حتى أنزل الله بيانها بقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} ، إلى آخر السورة
     وموضع الشاهد: أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لو كان يعلم تأويلها من أول الأمر لبين لهم خطأهم ولأزال اشتباههم؛ فهو ليس بكاتم عنهم علما, فكيف وحاجتهم تشتد إليه؟ ولا يتصور منه عدم اكتراثه بهلعهم وهو الرؤوف الرحيم, ولكنه كان مثلهم لا يعلم بعد بيان ما أشكل عليهم لأنه ببساطة لم ينزل بعد.
    "ولأمر ما أخر الله عنهم هذا البيان. ولأمر ما وضع حرف التراخي في قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}." كأن الشيخ يشير إلى أن هذا التراخي بين الحكم المجمل وبيانه المعبر عنه في الآية ب"ثم" من دلائل إعجاز هذا القرآن.
    مسلكه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلح الحديبية
     واقرأ في صحيح البخاري قصة الحديبية، ففيها آية بينة على ما نحن بصدده: قال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} فلما خرجوا في ذي القعدة سنة ست سمعوا بأن قريشا ازمعت منعهم من البيت.وصمموا على المضي إليه، فمن صدهم عنه قاتلوه. وبينا هم سائرون عند الحديبية إذ بركت راحلة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأخذ أصحابه يثيرونها إلى جهة الحرم فلا تثور، فقالوا: خلأت القصواء، خلأت القصواء، فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل" فنزل بأصحابه في أقصى الحديبية، وعدل بهم عن متابعة المسير إلى البيت؛ امتثالًا لهذه الإشارة الربانية التي لا يعلم حكمتها.
     ثم سعى في الصلح: "والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها" ولكن قريشًا أبت عليه دخول البيت في ذلك العام لا محاربًا ولا مسالمًا، وأملت عليه شروطًا قاسية بأن يرجع من عامه، وأن يرد كل رجل يلجأ إليه من مسلمي من مكة ، وألا ترد هي أحدًا يجيئها من المدينة تاركًا لدينه مفارقا لجماعة المسلمين، فقبل تلك الشروط التي لم يكن لقريش أن تمليها وقد نهكتها الحرب، فاشتد الأمر على المسلمين حتى إنهم ترددوا في امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالتحلل والعودة إلى المدينة. وراجع الفاروق النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر متسائلا: علام نعطي الدنية في ديننا؟ وقال بعد: "والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ."
     فتأملوا يا أولي النهى: هل يسيغ العقل أن تكون الخطة من تدبيره ثم تخفى عليه الحكمة منها, أم هل يعقل أن يتأخر في بيان وجه الحكمة من هذا الصلح المجحف ظاهره, والفتنة قد أطلت برأسها والجيش يوشك أن يتمرد على قائده؟
     وتمعنوا مليا في جوابه حين راجعه عمر: "إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري" فلكأني به يقول بأبي هو وأمي: إني عبد مأمور, ولا أعلم من حكمة هذا الأمر الرباني الساعة أكثر مما تعلمون منه حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
     وكذلك كان: قفلوا راجعين والإشكال قائم في نفوسهم حتى بينت لهم سورة الفتح طرفا من الحكم الباهرة والبشارات الصادقة التي ستولد من رحم هذا الصلح الذي حسبوه إعطاء للدنية وظنوه ظنوه ضيمًا وظلما بادئ الرأي {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا، هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا، إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا، لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا}
     قال الزهري: فما فُتِحَ في الإسلام فتحٌ قبله كان أعظم من فتح الحديبية، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب وأمن الناس بعضهم بعضًا التقوا وتفاوضوا في الحديث، فلم يُكلم أحد بالإسلام يعقل شيئًا في تلك المدة إلا دخل فيه. وفسر ذلك صاحب الفتح فقال: إن الناس لأجل الأمن الذي وقع بينهم اختلط بعضهم ببعض من غير نكير، وظهر من كان يخفي إسلامه، وأسمع المسلمون المشركين القرآنَ، وناظروهم جهرة آمنين، وكانوا قبل ذلك لا يتكلمون عندهم بذلك إلا خفية. فذل المشركون من حيث أرادوا العزة، وأقهروا من حيث أرادوا الغلبة.
    منهجه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كيفية تلقي النص أول عهده بالوحي
     كان -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين بداية نزول القرآن عليه يحرك به لسانه وشفتيه؛ طلبًا لحفظه، وحذرا من تفلته من صدره. ولم يكن ذلك يوما من عادة العرب، إنما كانوا يرتجلون الكلام ارتجالا, فلما خالف فعله عادة قومه في ذلك, أشار فعله إلى أن هذا القرآن يفجأه كما يفجأ المتعلم تلقين معلمه. لبث كذلك حتى نزل التطمين قرآنا يتلى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} الآيات من سورة القيامة وقوله: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}.
    طرف من سيرته العامة -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
     فإذا تبين ذلك كله, فدونكم شواهد ناطقة بأن القرآن لم يصدر عنه، بل ورد إليه، وأمثلة تفصح أنه كان لا يجاوز حكم القرآن وكثيرا ما يتوقف حتى ينزل القرآن, ويأبى أن يخوض فيما لا يعلمه في تواضع مهيب وصدق ناصع.
     قالت جارية في عرس: : وفينا نبي يعلم ما في غد. فقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تقولي هكذا، وقولي ما كنت تقولين". ومصداقه في كتاب الله تعالى: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ}.
     كان عبد الله بن أبي السرح ممن استثناهم النبي صلى الله عليه وسلم من الأمان يوم الفتح, ولما قدم به عثمان مستشفعا, لم يبايعه إلا بعد أن استشفعه ذو النورين ثلاثا. ثم خاطب أصحابه: "أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين كففت يدي عن بيعته فيقتله" ؟ فقالوا: ما ندري ما في نفسك، ألا أومأت إلينا بعينك! فقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة الأعين".
     فهذا الصدق والتواضع الذي يملأ قلبه لإستشعاره أنه سيسأل عن أمانة هذه الرسالة التي حملها من قبل رب العالمين: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ، فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ}.
     واعلم أنك لو درست هذه السيرة الزكية الطاهرة العطرة المباركة مرخيا للشك العنان, فإنك لن تملك في النهاية أن تدفع عن نفسك اليقين بصدق هذا الرسول الكريم وصفاء روحه, لن تملك شيئا من ذلك دون أن تشك في سلامة عقلك.
    واعلم أنك مهما أزحت عن نفسك راحة اليقين وأرخيت لها عنان الشك وتركتها تفترض أسوأ الفروض في الواقعة الواحدة والحادثة الفذة من هذه السيرة المكرمة فإنك متى وقفت منها على مجموعة صالحة لا تملك أن تدفع هذا اليقين عن نفسك إلا بعد أن تتهم عقلك. ألا ترى كيف تفضي دراسة شعر شاعر دراسة متأنية متفحصة إلى رسم صورة دقيقة لنفسية هذا الشاعر وعقيدته, وميوله ونزواته.
     ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم
     فما ظنك بهذه الحياة النبوية التي غدت تحت بصر العالم وسمعه كالكتاب المبسوط الذي لم تفته صغيرة ولا كبيرة من تفاصيل حياة من جعله الله رحمة للعالمين وأسوة للخلق أجمعين.
    وها نحن أولاء وقد خرجنا من واحة السيرة النبوية نعود فنقرر ما قصدنا البرهنة عليه في هذه العجالة فنقول: إن العقل المتجرد عن الهوى والتعصب ليشهد أن صاحب هذه المواقف التي يكل اللسان في وصف صدقها وصفائها لخليق بأن يصدق دون امتراء حين يقول: أوحي إلي هذا القرآن. فتنضاف شهادته واعترافه إلى سجل صدقه وتواضعه.
    {‏ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} إبراهيم: 41

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    May 2010
    المشاركات
    2,867
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    19

    افتراضي


    المرحلة الأولى من البحث البحث عن مصدر القرآن

    بيان أن القرآن لا يمكن أن يكون إيحاءً ذاتيًّا من نفس محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

     هذه حقيقة جلية برهانها ظاهر للعيان: يكفي للحكم ببراءة الإنسان من عمل من الأعمال عجزه المادي عن القيام بذلك العمل:

     فلينظر العاقل وليتأمل المتأمل: هل كان للنبي الأمي صلى الله عليه وسلم من الإمكانات العلمية والملكات ... مايجعله أهلا لأن يأتي بهاتيك العلوم والمعارف القرآنية؟

     سيجيب الملحد متسرعا: نعم بفضل من ذكائه الفطري وبصيرته النافذة وفراسته وتأملاته الصادقة.

     وإنك لتعجب ممن يكذب بنبوة الرسول الخاتم ثم يذهب يمدحه على هذا النحو حتى يستقيم له الإنكار. ونحن قد نسلم بأكثر من هاته الشمائل ولكن:

     هل معاني القرآن وحقائقه كلها مما يستنبطه العقل ، ومما يدركه الوجدان ؟ كلا، ففي القرآن جانب كبير من الأخبار البحتة التي لا يدركها العقل المجرد وإن إجتمع لذلك أذكياء العالم، بل إنهم سيقرون أن النقل هو السبيل الأوحد إلى الإحاطة بها.

     فكيف يجيب الملحد يا ترى عما قصه القرآن من أنباء ما قد سبق، وعن تفصيل تلكم الأنباء كما وقعت بالفعل؟ أتراه يقول: إن حقائق التاريخ أيضا مجال للنظر العقلي وللفراسة؟ أم إنه يكابر فيقول: إن محمدًا قد عاصر آدم ونوحا وإبراهيم, ثم تنقل بين القرون لينقل لنا خبر عاد وثمود ومدين؟

     أم إنه يعود فيدرك أن العمدة في الأخبار النقل, فيقول إن نبينا صلى الله عليه وسلم ورث كتب الأولين, فدرسها ثم صاغها قرآنا يتلى؟

     لن يسع الملحد أن يدعي شيئا من ذلك كله لأنه سيواجه بشهادة التاريخ وهي تدحض كل هذه الإفتراضات الخرقاء.

     {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} 2 {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}.

     نحن نعلم أن العلم المجمل ببعض جزئيات تاريخ الأمم السابقة وأنبيائها مثل طوفان نوح وإهلاك قوم عاد وثمود ولوط قد وصل إلى العرب, وليس الشأن في هذه النتف اليسيرة وإنما كلامنا عن التفاصيل العلمية الدقيقة التي تعزب عن غير الدارس المتخصص. مثلا يقرر القرآن عن نوح: فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما. والتوراة تخبر أنه عاش تسعمائة وخمسين سنة. ويخبر أن أهل الكهف لبثوا في كهفهم "ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعًا". والسنون التسع فرق ما بين التقويم الشمسي والقمري. فأنى لأمة أمية لا تكتب ولا تحسب بهذا الحساب الدقيق؟

    كفاك بالعلم في الأمي معجزة ... في الجاهلية والتأديب في اليتم

     رجل أمي بين ظهراني أمة أمية، يخالطهم في غير الباطل ويعول أهله، راعيًا ، أو تاجرًا بالأجر، رجل تعرفه الأسواق ولم تعرفه حلق العلم والعلماء يوما من الدهر.

     بل قد علم بالتواتر أنه لم يكن يعاني شيئا من الكتابة أبدا, يبقى كذلك أربعين سنة, ثم يخرج على قومه يوما بكلام لم يعهد منه, ولم يتكلم قبل بحرف منه, ويقص علينا من أنباء القرون الخالية ما اجتهد أهل الكتاب في إخفائه وتحريفه دهورا متطاولة.

     هل يسيغ العقل أن تكون هذه الطفرة العلمية نتيجة منطقية لحياته السابقة؟ كلا, لا بد أن نتلمس سر هذا الطور العلمي الجديد الذي يظهر للعيان أنه لا ينبني على مقدمات منطقية, ولا يستند إلى معلومات سابقة, ينبغي أن نتلمسه خارج حدود نفسه.

     ولقد فطن مشركو الجاهلية الأولى عند تعليلهم لظاهرة القرآن لما خفي على ملاحدة الجاهلية المتأخرة, فأهل مكة فهموا أن هذا العلم الجديد نتيجة تعليم: {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} وبهذا كان أبوجهل وأبي بن خلف والوليد بن المغيرة أحسن حالا وأقوى حجة من ملاحدة آخر الزمان الذين يقولون إن القرآن وحي نفسي.
     (وليقولوا درست): صدقوا فإنه درسها على أستاذه الروح الأمين.

     تلكم أخبار التاريخ في القرآن يشهد العقل أن العمدة فيها على النقل وأنها لا ترد من داخل النفس بل لا بد أن تصدر إليها بواسطة التعليم والتلقين. فهل نسلم للمخالف في أن بقية العلوم القرآنية مما قد يناله الأذكياء بالنظر والفراسة؟

     كلا, فالعقول لا سبيل لها للإحاطة بما لم يقع تحت الحس الظاهر أو الباطن, أو ما لم يكن مركوزا في النفس, ما لم ينبن هذا الإدراك على مقدمات معلومة, يتوصل بها إلى ذلك العلم الجديد الذي كان قبل مجهولا. وهذا الإدراك يتم ببطء بواسطة الإستدلال والإستنباط والقياس, أو بسرعة من طريق الحدس. وكل ما لم تتهيأ له هذه المقدمات فإنه يبقى خارج مرمى العقل ومجاله.
     سؤال: هل تهيأت للحقائق القرآنية غير النقلية مقدمات تجعلها مما ينال بالعقل؟ سنضرب لذلك مثالين:"أحدهما" قسم العقائد الدينية."والثاني" قسم النبوءات الغيبية.

    الحقائق الدينية الغيبية لا سبيل للعقل إليها

     غاية النظر العقلي في أمر العقائد الدينية ومنتهاه, شرط استقامة الفطرة, أن يدرك أن فوق هذا العالم إلها خالقا مدبرا, وأنه لم يخلقه عبثا, بل كل ذرة في الوجود تشهد للموجد بالحكمة والعدل والرحمة, فيستنبط العقل المتجرد أن الحكمة تقتضي أن ينال كل عامل جزاء ماعمل إن خيرا وإن شرا.
     فهل وقف القرآن عند هذا الحد؟ أم أنه فصل شرائع الإيمان, ووصف بدء الخلق ونهايته, ووصف لنا جزاء من حقق الإيمان وجزاء من جحده. فوصف الجنة ونعيمها وعدة أبوابها... فبأية مقاييس عقلية تنال مثل هذه الأمور؟ هذا كله إما حق ينال بالتعليم أو باطل مبناه على الخيال. ولكنه لا ريب الحق الذي شهدت له الكتب واستيقنه أهلها:
     {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.

    أنباء المستقبل لا سبيل فيها لليقين إلا بالوحي الصادق

     وإن تسل عن النبوءات الغيبية فإن العاقل يجعل تجاربه مصباحا يستكشف به بضع خطوات من مجرى الحوادث المستقبلة, فيقيس الغائب على الشاهد, ثم يصدر حكمه متثبتا متحفظا متوجسا, فيقول: "ذلكم توقعي حسب طبيعة الحوادث لو لم يقع ما ليس في الحسبان."
     ولا يبت في الأمور المستقبلة بغير مقدمات علمية إلا أحد اثنين: رجل مجازف جاهل لا يبالي بالعواقب, وهذا دأب المنجمين والعرافين, وإما نبي مرسل تصدقه الحوادث ولا ثالث لهما إلا رجلا ينقل عن أحدهما.
     فيا أيها المخالف, أي الرجلين صاحب القرآن في حكمك؟ وأنت تراه يخبر جازما بما سيقع في أعوام, وبما سيكون آخر الزمان, وبما لا يكون أبد الدهر, وهو لم يتعاط التنجيم, وكان خلقه يأبى عليه المجازفة وإلقاء الكلام على عواهنه والدعوى المجردة عن الدليل. بل كانت أخباره صدقا كلها يعجز الدهر أن ينقض منها حرفا واحدا.
     {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} .

    أمثلة من النبوءات القرآنية

     هاكم أمثلة بعض النبوءات القرآنية, لترى هل كانت مقدماتها توحي بالنتائج التي تضمنتها تلك النبوءات؟ وهي تتعلق بأنواع ثلاثة:
    1- ما يتعلق بمستقبل الإسلام وكتابه ورسوله.
    2- ما يتصل بمستقبل المؤمنين.
    3- ما يتصل بمستقبل المعاندين.
    1- فيما يتصل بمستقبل الإسلام

    أولا: الإخبار ببقاء الإسلام:
     {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.
    متى وأين صدرت هذه البشارات المؤكدة، بل العهود الوثيقة؟
     صدرت في مكة والإسلام في استضعاف وقلة وحصار. فهل كانت هناك بارقة أمل توحي بظهور هذا الدين, ولو افترضنا أن هذه الآيات ترجمة لمشاعر قلب ممتلئ يقينا ورجاء في ظهور دعوته ما دام يتعهدها, فمن أين يجئيه اليقين ببقائها بعد موته, فكم من نبي قتل وكم من كتاب حرف.
     فمن ذا الذي يملك الضمان على بقاء شيء أبد الدهر إلا رب الدهر ومصرف الحوادث. فكم مرة استأسد العدو على أهل الإسلام وتسلط على ديارهم ودنس حرماتهم. كما فعل القرامطة والعبيديون والإفرنج والتتار, مما كان يكفي عشر معشاره لطمس هذه العقيدة وتحريف هذا الكتاب, لولا الحفظ الرباني. يفعلون بأهل هذا الدين الأفاعيل ثم لا يخرج كيدهم عما سطرته أمثال هاتين الآيتين:
     {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ}.
    {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}
     ومثل ذلك التحدي بالقرآن:
     {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} 1 {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} 2.
    أنى لرجل عربي يعلم أن مضمار المساجلات اللغوية بين قومه مفتوح, وأن لكل كلام بشري نقصا يستدركه اللاحق, أنى له أن يتحدى الخلق, ثم ينفي أن يأتوا بمثل كلامه نفيا مؤكدا مؤبدا؟
     ومثال ثالث إخبار القرآن أن الله تعهد بحفظ حياة نبيه صلى الله عليه وسلم حتى يبلغ رسالات ربه:
     {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}. فهل يملك هذا الضمان أحد؟ أنظر إلى الرؤساء كيف يجتهدون في حماية أمنهم الشخصي ثم يأتي بعضهم من يقتلهم غيلة رغم الكاميرات والمخابرات والإحتياطات.
     وروى الطبراني عن أبي سعيد الخدري قال: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يحرس بالليل، فلما نزلت هذه الآية ترك الحرس وقال: "يأيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله".
    من ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن جابر قال: كنا إذا أتينا في سفرنا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلما كنا بذات الرقاع نزل نبي الله تحت شجرة وعلق سيفه فيها. ولنترك النبي صلى الله عليه وسلم نفسه يقص ما كان من أمر ذلك المشرك:
     « إِنَّ رَجُلاً أتاني وَأَنَا نَائِم،ٌ فَأَخَذَ السَّيْفَ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِي، فَلَمْ أَشْعُرْ إِلاَّ وَالسَّيْفُ صَلْتًا في يَدِهِ، فَقَالَ لي: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ. ثُمَّ قَالَ في الثَّانِيَةِ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ. قَالَ فَشَامَ السَّيْفَ فَهَا هُوَ ذَا جَالِسٌ ». ثُمَّ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم. شام السيف أي رده في غمده.
     في غزوة حنين، وقد انكشف المسلمون ، فطفق النبي صلى الله عليه وسلم يركض ببغلته جهة العدو ، فأقبل إليه المشركون َفلما غشوه لم ينكص، بل نزل
    عن بغلته ، وجعل يقول: "أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب" كأنما يتحداهم ويدلهم على مكانه، فو الله ما نالوا نيلًا، بل أيده الله بجنده، وكف عنه أيديهم بيده. متفق عليه.
     تثبيت المؤمنين وإخبارهم بما سيكون من أمر مستقبلهم:
     {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}
     بعد الهجرة بدأت الحرب فقالوا: أترون أنا نعيش نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله؟ فنزلت الآية: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا}. رواه الحاكم.
     فبشرهم القرآن بالخلافة والملك مؤكدا الوعد بالقسم. فانظر تأويل الآية فيما عاشه الصحابة بعد من التمكين وفتح الأقطار. وتأمل الخطاب لهم: "منكم"
     مثال هزيمة الروم أمام الفرس. {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ}.
    فأخبرت الآية بأمرين خارجين عن إدراك العقل. فجعل زمان غلبة الروم أمارة على نصر المؤمنين, فتراهن المشركون على تكذيب النبوءات مجتمعة, لكنها وقعت لسبب يوقن به من تأمل الآية الأخرى: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}. فانتصرت الروم يوم انتصر المسلمون في بدر كما رواه الترمذي وغيره.
     شبهة: لم لم يحدد السنين؟ اختلاف الحساب, تأخر بشائر النصر. فقال في بضع ولم يقل بعد بضع سنين.
    ثانيا: إخبار القرآن بمستقبل المعاندين:
     دعا صلى الله عليه وسلم على أهل مكة بسنين كسني يوسف فأجابه القرآن: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ، يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}
     فأصابهم القحط حتى أكلوا العظام، وحتى جعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد. فأتوه يستسقون, فاستسقى لهم فأغيثوا ثم عمهوا في كفرهم.
     ثم انظر قوله بعد ذلك: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ، يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} ثلاث نبوءات: كشف العذاب ثم عودتهم للكفر والمكر, ثم الإنتقام منهم يوم بدر. فقتل سبعون من صناديدهم وأسر سبعون.
     قال تعالى: سيهزم الجمع ويولون الدبر. جعل عمر يقول: أي جمع هذا؟ قال: فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقولها.
     ومن إخبار القرآن بما ينال أعداء هذا الدين قوله عن الوليد بن المغيرة: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ}, فأصيب أنفه يوم بدر فكان موسوما على الخرطوم يعير بها دهره.
     فما أعجب هذه النبوءات القرآنية التي تخترق حجب الغيب, وتتحكم في سير الحوادث ومآلات الأمور, ثم يأتي الدهر مصدقا لتفاصيلها.
     وما أعجب هذا الرجل الذي كلما أخبرنا بأمر ماض صدقته شواهد التاريخ وكلما أنبأنا باالأمور المستقبلة صدقته صروف الحوادث, بعد موته بدهور وأحقاب متباعدة.
     فهل يصح في الأذهان أن يكون جاء بذلك كله من عند نفسه وهو الأمي الذي لم يؤثر عنه طلب للعلم أي علم؟
     الجواب أنه لا بد من أن مصدر هذه العلوم والأخبار جميعها من معلم خارجي, ثم إن هذا المصدر له من سعة العلم ودقته وكماله ما لا يحيط به بشر.
     ولا يمكن بحال قبول الإدعاء أن ذلك كله ثمرة ذكاء رجل أمي وعبقريته. فأي عبقري ينال من الدهر عهدا أن يصوب ظنونه كلها وأن يوافقه في تنبؤه بالمستقبل.
     حتى الأنبياء لم يظفروا بمثل هذا العهد. انظر إلى يعقوب يتهم بنيه حين جاءوا على قميص يوسف بدم كذب, ثم يتهمهم حين قالوا له: إن ابنك سرف, فقال في كلتا المرتين: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}, فأصابت فراسته في الأولى وأخطأت في الثانية. ومثله قول موسى للعبد الصالح: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}, ثم ينسى ولا يطيق صبرا ولا يطيع أمره.
     وهذا مبلغ القرآن نفسه, يوشك الناس أن يضللوه. قال الله تعالى: {وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا، وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} وصح في سبب نزولها أن لصا سرق طعام أنصاري يسمى رفاعة وسلاحه, فتفقد رفاعة متاعه فوجده في بيت بني إبيرق وفيهم منافقون,
     فجاء قتادة بن النعمان مع عمه رفاعة يشكون إلى النبي صلى الله عليه وسلم,
     و جاء بنو أبيرق يشكون رفاعة ويرمونه برميهم بالسرقة دونما تثبت, فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على قتادة.
     بل إسمع شهادة النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه فيما يرويه أحمد وابن ماجه: "إنما أنا بشر مثلكم، وإن الظن يخطئ ويصيب، ولكن ما قلت لكم " قال الله" فلن أكذب على الله" وقوله "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها أو ليتركها" رواه والشيخان وأصحاب السنن.
     فكيف يا ترى يعجز مبلغ القرآن عن إدراك حقيقة ما وقع بين خصمين يعاصرانه, يسمع من كليهما ثم يخرج بحكم يخالف الواقع ثم يخبر بما مضى أخبارا تصدقها الكتب, ويخبر بما لم يقع بعد فيقع حسبما أخبر؟ ثم ألا يرى كل ذي عينين أن الآية تنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون خصيما للخائنين, وتأمره بالإستغفار, ألا يحيل العقل أن يصدر الحكم الأول والثاني عن نفس واحدة؟
     إنه عالم الغيب الذي تنطمس أمامه أنوار الفراسة وآلات الفكر والعبقرية, فيغدو العقل أمامه متحيرا متخبطا, تتقاذفه الظنون وتتلاعب به الخيالات, فلكأنه حاطب ليل يحمل الحية يحسبها حطبا, لا يصيب حكمه مرة حتى يخطئ مرارا.
     فما بال هذا القرآن دوما يصيب, فأخباره صدق وأحكامه عدل, لا تترك كلاما لمستدرك؟
     {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}.
    {‏ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} إبراهيم: 41

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    May 2010
    المشاركات
    2,867
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    19

    افتراضي


    المرحلة الثانية من البحث بيان أن محمدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا بد أن يكون أخذ القرآن عن معلم

     البحث في الأوساط البشرية عن ذلك
     المتكلم بكلام ما, إما قائل له أو ناقل. فلنلتمس تعليلا لظاهرة القرآن في تعليم مبلغه وردراسته ما دام قد أعيانا الظفر فشيء من ذلك بعد تدقيق النظر في عقله وفراسته.
     ومادام وصف الأمية له ملازما فلا بد له إذن من معلم ممل ملقن. فمن هو ياترى؟ هذا الشطر الثاني من بحثنا. ولعل اللبيب يجد في المباحث السابقة الجواب الشافي عن هذا التساؤل, ولكننا أحببنا أن نزيد الأمر بيانا ليستيقن المتشكك ويثبت المتردد.

     البحث عنه بين الأميين
     إسما الأمية والجاهلية ملتصق بالعرب, حتى صارا علما لهم منه تشتق نسبتهم, حتى قيل: إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما بعد المائة من سورة الأنعام. وهذا يغنينا عن البرهنة على استحالة تلقي النبي صلى الله عليه وسلم عن أحد بني جلدته الأميين.
     نكتفي بذلك ثم نسأل المعاند أن يقلب صحائف التاريخ فينظر هل يجد فيها خبرا عن جلوس مبلغ القرآن إلى عالم يأخذ عنه كما يجلس الطالب إلى المعلم؟ قل هاتوا برهانكم.

    البحث عنه بين أهل العلم
     لا ننكر أنه لقي بحيرا في سوق بصرى ولقي ورقة بن نوفل ثم لقي كثيرا من احبار اليهود والنصارى في المدينة. ولكننا ننفي أنه أخذ عنهم شيئا. والذين جاءوه بعد البعثة, أتوه سائلين متعلمين.
     أما عن الأولين: فهل يزعم المخالف أنه أخذ عنهما القرآن أثناء ذينك اللقائين العابرين؟ ويكفيك لتوقن بتهافت هاته الدعوى الجوفاء أن تعلم أنها لم تخطر لمشركي مكة على بال, وهم أشد الناس حرصا على نسف هذه الدعوة الجديدة.
     فهل سكت التاريخ عن أمر بحيرا وورقة؟ كلا فالأول بشر أبا طالب بما سيكون لإبن أخيه من عظيم الشأن, وأكد ورقة أن هذا نبي آخر الزمان. فهاهو التاريخ يثبت اللقاء في كلتا الحالتين ولم يثبت السماع.

     موقف محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من العلماء موقف المصحح لما حرفوا، الكاشف لما كتموا
     هل كان في العلماء يومئذ من يصلح أن تكون له على محمد وقرآنه تلك اليد العلمية؟
    جواب الملحد: "إن القرآن هو الأثر التاريخي الوحيد الذي يمثل روح عصره أصدق تمثيل". إنه يمثلها أصدق تمثيل، ثم يمثِّل بها أنكى تمثيل.

     ونحن ندعوهم وقد خلعوا على القرآن هذا الوصف الذي نقبله في حدوده أن ينظروا خبر أهل الكتاب في الزهراوين ويتأملوا أسلوب محاورة القرآن لعلمائهم، ونقض مذاهبهم المحرفة وتصحيح عقائدهم الباطلة, وفضح جرائمهم.
    {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} 2 {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى} 3 {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} 1 {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} 2.
    وهذا طرف من وصفه وتفنيده لخرافاتهم الدينية {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} 3 {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} 4 {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} 5 {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} 6 {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} 7 {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} ، {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} ، {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} 8، {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}.
     فتأمل كيف فضح القرآن شركهم وسفه أحلامهم فهل ترى فيهم بعد هذا كله صورة الأستاذ الذي يتلقى عنه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن؟ أم أنك ترى في هذا الكتاب صورة المعلم الذي يصحح أخطاءهم ويرد عليهم باطلهم؟
     ثم: هل كان علم أهل الكتاب مبذولا للطالبين؟ كلا إسمع إلى شهادة القرآن:
     {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، بل جاء كاشفًا لما ستروه مبينًا لما كتموه حاكمًا فيما اختلفوا فيه {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} 9 {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ}.
    انظر إلى الآيتين :مقصد أساس بيان ما اختلف فيه أهل الكتاب.

    من زعم أن له -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- معلمًا من البشر فليسمه
     ما اسمه؟ ما خبره؟ ماذا سمع منه؟ متى؟ ألا تزعمون أنه بشر؟ يرى ويسمع, إنسان يؤنس؟ ألم يكن يخالطهم ويمشي بين أظهرهم: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ}
     قالوا: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} مجرد كلمة جوفاء إستنجدوا بها لما أعيتهم الحيل كما يستمسك الغريق بالقشة.
     فهل تجرأوا أن يجعلوا ذلك البشر المزعوم واحدا منهم؟ كلا وقد علمت السبب. وهل بحثوا عنه لفراغ مكة من علماء الدين خارجها؟ كلا, بل بحثوا عن رجل من غير جلدتهم, لا يقدح فيه ما هم عليه من أمية, يعيش بين أظهرهم في مكة. حتى يقال: هاهو رجل على قدر من العلم نزيل مكة, يدخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم بكرة واصيلا فيعلمه ويلقنه.
     ولك أن تعجب غاية العجب إن علمت خبر هذا الرجل وسيرته: إنه غلام رومي يمتهن الحدادة. حداد نصراني يقرأ ويكتب, فهل يا ترى كان صاحبهم يحصل تلك العلوم القرآنية الباهرة بين ضرب المطارق ونفخ الكير؟
     ثم إن أستاذ محمد صلى الله عليه وسلم المزعوم رجل أعجمي اللسان: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} فيا ليتهم سكتوا قبل أن يفتضحوا بهذه المقالة الشوهاء.
     وما أجمل كلمة الشيخ: هكذا ضاقت بهم دائرة الجد فما وسعهم إلا فضاء الهزل، وهكذا أمعنوا في هزلهم حتى خرجوا عن وقار العقل، فكان مثلهم كمثل من يقول: إن العلم يستقى من الجهل، وإن الإنسان يتعلم كلامه من الببغاء! وكفى بهذا هزيمة وفضيحة لقائله.
     وهم إذ راموا بدعواهم هاته أن يفحموا خصمهم, فإنهم إنما طعنوا في أنفسهم وكسروا ما بقي فيهم من نخوة وكبرياء حيث أقروا أن حدادا أعجميا أولى بالعلم منهم, وأرفع في درجات الفهم من مجموعهم.
     هاهم أولاء قد عجزوا أن يجدوا صلة بينة بين مبلغ القرآن وبين علماء عصره, فما بال الملحدين ينقبون اليوم في قمامات التاريخ عن تلك الصلة المزعومة في الموضع الذي أنف المشركون أن ينبشوه؟
     ألا فليكفوا أنفسهم ذلك العناء, وإلا " أبوا فليعلموا أن كل شبهة تقام في وجه الحق الواضح سيحيلها الحق حجة لنفسه يضمها إلى حججه وبيناته."
     وهم في سعيهم الحثيث لبطر الحق وجحد نور القرآن يعمهون في ظلمات التخبط والإضطراب فينسبون هذا الكتاب إلى معلم خارجي سرعان ما يعييهم تعيينه, فما يلبثون أن ينسبوه إلى نفس مبلغه, حتى إذا بلغ تحيرهم مبلغه جمعوا بين النسبتين فقالوا: (معلم مجنون) كما جاء في سورة الدخان.
     نظرية الوحي النفسي ليست جديدة: مع اضطراب أصحابها: شعر, جنون, اضغاث أحلام. كلمات جوفاء يثيرون بها الغبار في عيون طلاب الحق. لا تقنع أصحابها أنفسهم.
     ملاحدة اليوم يلوكون مقالات الجاهليين, لم يزيدوا على أن ألبسوا أقوال أسلافهم ثيابا جديدة: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ}.
     كذلك قال أسلافهم: : {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}, فقالوا إنه صادق أمين معذور فيما نسب إلى الوحي.
     "كانوا كلما وضعوا يدهم على رأي منها وأرادوا أن ينسجوا منه للقرآن ثوبًا وجدوه نابيًا عنه في ذوقهم، غير صالح لأن يكون لبوسًا له، فيفزعون من فورهم إلى تجربة رأي ثان، فإذًا هو ليس بأمثل قياسًا مما رفضوه، فيعمدون إلى تجربة ثالثة .. وهكذا دواليك."
     وصف حالهم: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} فهذه الآية القصيرة ترجمة لحيرتهم واضطرابهم.
    {‏ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} إبراهيم: 41

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    May 2010
    المشاركات
    2,867
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    19

    افتراضي


    المرحلة الرابعة من البحث البحث في جوهر القرآن نفسه عن حقيقة مصدره

    هذا القرآن ليس له على ظهر الأرض أب ننسبه إليه من دون الله
     لقد كانت المباحث السالفة خارجة عن جوهر القرآن نفسه, درسنا فيها الطريق الذي جاءنا منه هذا الكتاب استنادا إلى تلمس سيرة صاحب القرآن وإلى تقصي الظروف العامة والخاصة التي أحاطت بظهور القرآن؟؟؟ فمن كان يستند معنا إلى مصادرنا التاريخية وكان سليم الفطرة فسينتفع بهذه المباحث.
     أما غيرهم فلا مناص من أن نتقدم بهم خطوة أخرى ونبين لهم أن هذا القرآن يأبى أن يكون من صنع البشر, حتى إنه لو وجد ملقى في صحراء لأيقن الناظر فيه أنه ليس نتاجا أرضيا. فكما أن الله يأتي بالشمس من المشرق فإنه تحدى الخلق بهذا القرآن فأعجزهم.
     العجز عن مضاهاة الخلق هو عين العجز عن محاكاة كلام الله.
     أهل العناد: يقولون: {مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} 1 {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}.
     لا سبيل لنا على هؤلاء: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا}, وإنما ننصب الحجة لجاهلها ممن طلب الحق فلم يجده بعد.
     النواحي الثلاث للإعجاز: دعوة للمنصف أن ينظر في القرآن حيث شاء منها: أسلوبه أو علومه أو أثره على العالم, أو إليها مجتمعة. ونخيره بين أن ينظر إليه في حدود بيئته أو يفترض ظهوره في أرقى عصور العلم, وله أن يفترض شخصا خياليا مثاليا اجتمعت فيه كل ملكات البشر فينظر بعدها: ألا يجد في هذا القرآن قوة تتضاءل أمامها قدرات البشر؟
     فلنبدأ في مدارسة هاته النواحي الثلاث مع التركيز على الناحية اللغوية لوقوع التحدي بها فالقرآن معجزة لغوية.ولنعرض الشبه حول هذه المسألة تمهيدا لتفنيدها:
     من شك في هذه المسألة نستوضحه: هل عرف من نفسه القصور عن رتبة البلاغة القرآنية أم لم يعرف؟ هل علم أن الناس سكتوا عن معارضته؟ وهل علم أن عجزهم كان بسبب إعجازه أم بسبب آخر؟ أم أنه يقر بإعجازه للناس دون من جاء به؟
    الشبهة الأولى: شبهة غر ناشئ يتوهم القدرة على محاكاة البلاغة القرآنية
     هذا إنما يعرض للأغرار الناشئين, فدواء علته إطالة النظر في أساليب العرب حتى ينال ملكة تذوق الأدب والبيان, ثم يعود فينظر في القرآن. فلن ينتهي به الأمر إلا موقنا بصغار نفسه وبمدى عجزه حين ينظر إلى هذا القرآن كما أيقن السحرة أن عصا موسى ليست من جنس السحر.
     وانظر إلى من راموا معارضة القرآن كيف جاءوا بسخف من القول لا يشبه القرآن ولا يشبه كلام أنفسهم. ومنهم من استحيا وتوارى.
     الشبهة الثانية: شبهة أديب متواضع ينسب القدرة على محاكاة القرآن لغيره
    فليرجع الدعي إلى التاريخ فإن قالوا "لو نشاء لقلنا مثل هذا" فقل: "هاتوا برهانكم!" فإن عجز معاصروا التنزيل فمن بعدهم أعجز.
     وتأمل كيف تحداه بسورة "من مثله" من, يشعر بعدم اشتراط المماثلة العامة, بل حسبهم أن يأتوا بشيء من مثل القرآن فيه مطلق المماثلة.
     وما اجمل وصفه لعجزهم: حتى إذا استيأسوا من قدرتهم واستيقنوا عجزهم ما كان جوابهم إلا أن ركبوا متن الحتوف، واستنطقوا السيوف بدل الحروف. وتلك هي الحيلة التي يلجأ إليها كل مغلوب في الحجة والبرهان، وكل من لا يستطيع دفعًا عن نفسه بالقلم واللسان.
     الشبهة الثالثة: عدم معارضة القرآن سببها انصراف العرب عن ذلك.
     قوة البواعث وتظافر الدواعي مع حميتهم وأنفتهم.
     القول بالصرفة قول متهافت فالقوم علموا أنهم عاجزون عن معارضة القرآن مع بقاء قدرتهم, فهل نزل مستوى شعرهم بعد نزول القرآن؟ وانظر قول الوليد بن المغيرة: وما هو بقول بشر.
     الشبهة الرابعة: من يظن أن إعجاز القرآن ليس في بلاغته فهو لم يخرج عن لغة العرب
     والجواب أن البيان مثل البنيان: فهل يخلق المهندس البناء مادة البناء؟ كذلك أهل اللغة, يردون موردا واحد ويصدرون بألوان من الكلام شتى تتباين في درجات البلاغة تباينا عظيما.
     "فالجديد في لغة القرآن أنه في كل شأن يتناوله من شئون القول يتخير له أشرف المواد، وأمسها رحمًا بالمعنى المراد، وأجمعها للشوارد، وأقبلها للامتزاج، ويضع كل مثقال ذرة في موضعها الذي هو أحق بها وهي أحق به، بحيث لا يجد المعنى في لفظه إلا مرآته الناصعة، وصورته الكاملة، ولا يجد اللفظ في معناه إلا وطنه الأمين، وقراره المكين. لا يومًا أو بعض يوم، بل على أن تذهب العصور وتجيء العصور، فلا المكان يريد بساكنه بدلًا، ولا الساكن يبغي عن منزله حِوَلًا .. وعلى الجملة يجيئك من هذا الأسلوب بما هو المثل الأعلى في صناعة البيان."
     فخذ الآن هذا المثال: قول الوليد بن المغيرة:
    وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم مني بالشعر لا برَجَزِه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقوله شيئًا من هذا، ووالله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمنير أعلاه، مشرق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته.
     فتأمل شهادة الخبير: وإذا لم تر الهلال فسلم ... لأناس رأوه بالأبصار
     أما إن كنت لتمييز طبقات الكلام اهلا فاقرأ ما شئت من كلام العرب ثم افتح صفحة من المصحف وانظر ماذا ترى: أسلوب عجب لم ينسج على منوال سابق. فلو وضعت آية منه وسط كلام أحد البلغاء لتميزت بينه ولدلت على نفسها.
     الشبهة الخامسة: قولهم لكل أسلوب خصوصية, فلا يستطيع أحد أن يجاري كلام أحد؟
     نحن لا نطلب نفس صورة القرآن الكلامية بل كلاما يأتي به صاحبه يحاذي القرآن ويساميه في البلاغة والنظم والبيان. فهذا موطن التماثل والمقاربة التي نتحداهم أن يدانوه. فيا ترى لم عجزوا؟
     فإن قيل إن التفاوت بين بلاغة النبي الأمي صلى الله عليه وسلم وبلاغة معاصريه تفاوت شاذ, أفضى إلى استحالة مقاربتهم لأسلوب بيانه, فمثل قولنا بأن الإنسان ما ليس بإنسان. بل الحق أن الطبيعة الإنسانية العامة واحدة. بل إن أقرب الناس من النبي مزاجا وطبعا أحرى أن يقتربوا من درجة بيانه وبلاغته.
     ثم إن لصاحب القرآن ضربين من الكلام لا يشتبهان, والحق أن أهل السليقة لم يكن عندهم مثل هذا التباين : فلعل المخالف يقول: من المألوف أن يكون للبليغ كلام يرسله على سجيته دون أن يعنى بتهذيبه وتنميقه وآخر على خلافه. فنقول: وأي الكلامين القرآن في نظرك, فلا بد أن يجيب أنه الذي يحصل بالروية والتأني, فنسأله: فما بال القرآن كان يفجأه من حيث لا يتوقعه, ويسأل فيما لا علم له به, فتأتي الآيات في غاية درجات البلاغة والحكمة. أما الحديث فإنه قد يأتي بخلاف ذلك بعد تفكير وروية وتشاور وتلبث.
     فقد تقرأ الكلمة فيشتبه عليك مصدرها, أمن مشكاة النبوة هي أم كلام الصحابة والتابعين, فهل يحصل مثل هذا مع آي القرآن؟
     كل من له أذنان تسمعان يعلم أن القرآن لا يشتبه مع أي كلام بشري, وإن كان حديث النبي صلى الله عليه وسلم فهو كلام من ليس كمثله شيء, فكلامه ليس كمثله شيء.
     الإنتقال من جلاء الشبهة إلى شفاء العلة لمن كان من طلاب الحق, واستبان له معنا أن القرآن نسيج وحده:
     الجمال التوقيعي في توزيع حركاته سكناته ومدوده وغناته.
     مر قارئا مجيدا أن يقرأ من القرآن ما تيسر نازلا بنفسه على هوى القرآن لا العكس, ثم انتح ناحية حيث لا تسمع من القراءة إلا وقعها الصوتي, وأصخ سمعك إلى هذا النسق الصوتي الذي لا يشبه شعرا ولا غناء ولا حداء ولا زجلا, بل شيء فريد لا يمل ولا يمج أبدا. فهو دوما متجدد وإن كان غاية في التنوع يتجدد به النشاط وتطرب له النفس وتحنو إليه الروح كما تحن الطير إلى أوكارها.
     إذا علمت ذلك, فهمت لم كانت أكثر الكلمات دورانا على ألسنة المشركين نسبتهم القرآن إلى الشعر.
     فإذا اقتربت أكثر من القارئ, قرع سمعك حروف القرآن في تناسقها العجيب, ما بين مجهور ومهموس ومستعل ومستفل, هذا فيه صفير وذاك فيه استطالة, في نظام فريد لا تنافر فيه ولا تناكر, فحسبك إن تذوقت عذوبة القرآن وجماله بمجرد التعرض لقشرته الصوتية واللفظية ولما تغص في بحور معانيه وحكمه, أن تعلم أنه الكتاب الذي لا تنقضي عجائبه.

    نظرات في لب البيان القرآني وخصائصه التي امتاز بها عن سائر الكلام
     فإن لم يلهك جمال القرآن الأخاذ ورونقه البهي عما تحته من الكنوز الدفينة, فأحببت أن تنفذ من النظم اللغوي إلى نظامه البياني, فلتلق معنا نظرات في لب البيان القرآني. أما النظر فيما حواه القرآن من المعاني البديعة والعلوم النافعة فهو خارج عن البحث اللغوي الذي نحن بصدده.
     نحن إذن سننظر في قيمة البيان قبل أن ننطلق إلى النظر في قيمة المبين ولنقسم خصائص القرآن البيانية إلى مراتب أربع:
    أولا: القرآن في قطعة منه (ما يؤدي معنى). ثانيا: القرآن في سورة سورة منه. ثالثا: القرآن فيما بين بعض السور وبعض. رابعا: القرآن في جملته.
     فالنجم تستصغر الأبصار رؤيته ... والذنب للطرف لا للنجم في الصغر
    فالإعجاز في خلق النملة مثله في خلق الفيل: فدونك سورة من قصار المفصل: استقص معانيها, وألبسها ألفاظا من عندك, فلن تخرج عن أمرين: إما أن تعيد عين ألفاظها حتى تجمع بين تلك المعاني والإيجاز, وإما أن تعجز. فيتبين لك حقيقة إعجاز القرآن في قصار سوره وفي طوالها على حد سواء.
     . قال ابن عطية رحمه الله: "ونحن تبين لنا البراعة في أكثره ويخفى علينا وجهها في مواضع، لقصورنا عن رتبة العرب يومئذ في سلامة الذوق وجودة القريحة. وقد قامت الحجة على العالم بالعرب، لانتهائهم إلى غاية الفصحاة البشرية"

     1. القرآن في قطعة منه:"أسلوب القرآن تلتقي عنده نهايات الفضيلة كلها على تباعد ما بين أطرفها" ولننظر في كلام الناس حتى يتبين المراد:
    القصد في اللفظ مع الوفاء بحق المعنى: نهايتان تقصر عنهما همم البلغاء, كما يقصر الزوج عن إرضاء ضرتين. فمن مال إلى الطي وادخار اللفظ قد يقع في الإختصار المخل, ومن جنح إلى التفصيل والبسط لم يأمن الإملال والإسراف.
    والخلاصة أن البليغ مهما جد واجتهد, لا يبلغ قط منتهى أمله بل لا يعدو وصوله إلى كمال نسبي. أما الوفاء بحق المعنى على وجه الكمال فذلك ما لا يستقل به إنسان البتة. وعلامة ذلك أن البليغ لا يزال يتعقب كلامه, ينقحه ويهذبه, يقدم فيه ويؤخر, يبتغي بلوغ الكمال البياني الذي ارتسم في خياله فلا يبلغه {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ}.
     هذا ما يعانيه من يرنو من البلغاء إلى الوفاء بحق المعنى, فماذا لو سعى أثناء ذلك إلى سكب المعاني في لفظ قاصد؟ فلا يكاد يقترب من الكمال البشري حينا حتى يبتعد عنه أحيانا, فتجد القصيدة الطويلة فيها الجيد والمتوسط والرديء.

    فإن أحببت أن ترى كيف اجتمعت هاتان الغايتان على وجه الكمال والإستمرار فاقرأ ما شئت من القرآن. أحص كلمات منه ثم أحص كلمات في عدتها من كلام رجل بليغ, ثم انظر كم كلمة تستطيع أن تسقطها من المقطع القرآني ومن الكلام البشري دون أن يختل المعنى.قال ابن عطية: "لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب لفظة أحسن منها لم توجد"2 بل هو كما وصفه الله {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} 3.
     ودونك غايتين أخريين متباعدتين أشد التباعد يعيي بلغاء الناس الجمع بينهما: خطاب العامة وخطاب الخاصة: فلو خاطبت الأذكياء بالكلام الذي يحتاجه الأغبياء, وبالعكس, لأجحفت في كل مرة بطرف. فأنت لا تخاطب الأطفال بنفس خطابك للرجال.
    أما القرآن فهو متعة للعامة والخاصة, كل ميسر لما أراد {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}.
     والقرآن يجمع أيضا بين غايتين: إقناع العقل وإمتاع العاطفة: فللإنسان قوة تفكير وقوة وجدان: ولكل منهما حاجات: فالأولى قوة عاقلة مفكرة, أما الأخرى فتحس وتشعر وتفرح وتحزن, والبيان التام هو الذي يوفي الحاجتين حقهما, فيجمع لك بين المتعة الفكرية واللذة الوجدانية.
     فهل توهمت أن كلام الناس يفي بهذين الأمر على وجه التمام دون تفريط أوإجحاف؟
     أم أن كلام البشر لا بد أن يميل إلى طرف دون آخر, فترى الشاعر يمتعك ولا يكاد يحرك عقلك, وتجد الفيلسوف يحلق بفكرك غائصا عن المعاني الدقيقة بما لا يكاد وجدانك يعرف له متعة.
     وإن جمع إنسان في كلامه بين الأمرين, فلا تجدهما إلا متناوبين, كلما كانت الغلبة لإحدى القوتين جاء الكلام على مقتضاها (ما جعل الله رجل من قلبين في جوفه).
    فما بال هذا القرآن يحلق بعقلك ووجدانك, بما يجمع لك بين الغايتين على ما بينهما من تباعد, فتجد في قصصه حكمة وعبرة للعقل المتدبر وراحة وسلوى لوجدان العليل وقلب المحزون على حد سواء, فيجمع بين الحق والجمال كأنه شراب رقراق سائغ يروي غليل العقل ويطفئ ظمأ الوجدان.
     {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [سورة الأنبياء: 22] تأمل كيف جمعت الآية الاستدلال والتهويل والاستعظام في هذه الكلمات القليلة. بل الدليل نفسه جامع بين عمق المقدمات اليقينية ووضوح المقدمات المسلمة ودقة التصوير لما يعقب التنازع من "الفساد" الرهيب. فهو برهاني خطابي عاطفي معًا. هل تجد مثل هذا في كتاب من كتب الحكمة النظرية؟
    البيان والإجمال: فإنك ترى الناس إذا حددوا المراد من كلامهم لم يتركوا مجالا لتأويل, وإذا جنحوا إلى الإجمال أوقعوا السامع أو القارئ في الإلتباس.
    أما القرآن فإنه ينبئك في مقطع منه عن حكم أو خبر أو موعظة في الفاظ شفافة ليس فيها غريب, فيتبين لك معنى ما, حتى إنك لتظن أنك أحطت بمعنى الآيات, ثم إذا رجعت إليها بعد مدة, تراءى لك معنى جديد محتمل, فالمعنى الأول محدود هو ثمرة فهمك, وكلام الله غير محدود:
     مثال: قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [سورة البقرة: الآية 312]. كلام بين واضح, ولكن. انظر إلى مرونة الآية:
     لو قلت: إنه سبحانه يرزق من يشاء بغير محاسب يحاسبه، ولا سائل يسأله لماذا يبسط الرزق لهؤلاء ويقدره على هؤلاء، أصبت.ولو قلت: إنه يرزق بغير تقتير ولا محاسبة لنفسه عند الإنفاق خوف النفاد، أصبت.
     ولو قلت: إنه يرزق من يشاء من حيث لا ينتظر، ولا يحتسب، أصبت.ولو قلت: إنه يرزق بغير معاتبة ومناقشة له على عمله، أصبت،ولو قلت: يرزقه رزقًا كثيرًا لا يدخل تحت حصر وحساب، أصبت.
     فعلى الأول يكون الكلام تقريرًا لقاعدة الأرزاق في الدنيا وأن نظامها لا يجري على حسب ما عند المرزوق من استحقاق بعلمه أو عمله، بل تجري وفقًا لمشيئته وحكمته سبحانه في الابتلاء، وفي ذلك ما فيه من التسلية لفقراء المؤمنين.
     فما أشبه آية القرآن بفص الماس لو نظرت إليه جملة بهرك بريقه ولمعانه, ولو نظرت إلى جزء منه رأيت شعاعا قد ينسيك جمال الفص بأكلمه.
    {‏ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} إبراهيم: 41

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    May 2010
    المشاركات
    2,867
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    19

    افتراضي

    دقة التعبير القرآني

     انتهينا إلى بيان جوانب من البيان القرآني ممثلة ببعض الآيات, فلنزد الأمر بيانا مستهدين في ذلك بآيات لا يلتفت معظم الناس إلى ما تضمنته من الإعجاز البياني, لا نعرض للآيات التي اشتهرت لكثرة الإستدلال بها في معرض ما نحن فيه مثل: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ ...} ومثل: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}:
     قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
     فتضمن هذا المقطع القرآني: 1. مقالة نصح لليهود بالإيمان بالقرآن و 2. إجابتهم لهذا الناصح بجواب ضم مقصدين و 3. والرد على جوابهم من وجوه عدة.
    قال الناصح: آمنوا بالقرآن كما آمنتم بالتوراة, فكلها من عند الله, فجمع الله كل هاته المعاني في هذه الجملة الوجيزة {آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} لأنه لم يسم القرآن بل كنى عنه, فبين ما يدعوهم إليه, وبين حجته في دعوتهم إليه, فأخرج الدعوى والدليل في لفظ واحد.
     وتأمل كيف طوى ذكر المنزل عليه, فلم يقل: آمنوا بما أنزل على محمد لأنه كان سيكون في ميزان البيان زائدا وفي ميزان الحكمة الإرشادية مفسدا. فلا مدخل لذكر المنزل عليه في هذا الموضع فيما يراد من إلزام اليهود من اتباع الوحي المنزل, كما قد يتعارض ذكر النبي صلى الله عليه وسلم مع غرض التأليف والإصلاح الذي هو من مقاصد الآية, وذلك لإستحكام العداوة بين اليهود وبين النبي العربي الأمي صلى الله عليه وسلم بغيا منهم وحسدا.
     فأشار هذا الحذف إلى طبيعة الإسلام الذي هو تأليف وجمع بين الأمم على ملة التوحيد ودعوتهم إلى سواء الصراط.
     وانظر إلى جوابهم: إننا إنما آمنا بالتوراة لأنها أنزلت علينا وليس لأنها تنزيل الله فحسب, فتعصبوا وأخذتهم الحمية لجنسهم وعرقهم. أوجز الله هذا المعنى في قوله: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا}.
     ولقد أشار قولهم هذا إلى كفرهم بما أنزل على غيرهم, وإن لم يصرحوا بهذا القول لشناعته, فأبرزه القرآن في معرض شرح مقالتهم فقال مباشرة: {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ}. ولم يجعل لازم مذهبهم مذهبا لهم ولم يدخل مضمون قولهم في جملة ما نقله عنهم: فلم يقل: نؤمن بما أنزل علينا ونكفر بما وراءه. فجمع بيان حالهم مع الأمانة في النقل.
     وانظر قوله: {بِمَا وَرَاءَهُ}: فتضمن كفرهم بالإنجيل والقرآن, ولم يتضمن كفرهم بما قبل التوراة كصحف إبراهيم مثال. فهذا اللفظ الجامع المانع بين هذه المعاني الكثيرة واختزل كفرهم خلال تلك الأزمنة المتطاولة مع الإنصاف والعدل.
     وبعد هذا العرض الموجز المبين لحالهم انتقلت الآية إلى مناقشتهم في قولهم الذي أعلنوه وفي خبايا معتقدهم الذي أسروه, وتركت دعوى إيمانهم بكتابه كأنها مسلمة لتبنى عليها وجوب الإيمان بغيره من الكتب, فتقول لهم: كيف يدعوكم إيمانكم بالكتاب الأول إلى الكفر بالثاني الذي هو حق مثله, بل هو الحق كله, ثم هو لا يعارضه ولا يناقضه حتى يكون الإيمان المتقدم داعيا وموجبا للكفر بالمتأخر.
     ليس هذ فحسب, بل هذا الحق الذي هو القرآن جاء شاهدا و{مُصَدِّقًا} لما بين يديه من الكتاب, فما وجه تكذيبكم به؟
     ويستمر في دحض حجتهم الواهية التي بنوا عليها كفرهم بالقرآن مبينا أن التطابق بين هذا الكتاب وبين ما لا يزال في أيديهم من صحف كتابهم رغم ماطالها من تحريف وتبديل هذا كله تؤديه كلمة {لِمَا مَعَهُمْ}.ولم يقل لما أنزل عليهم, فتأمل هاتين الكلمتين نور الله بصائرنا لفهم كتابه وقد طوقتهم الآية ببيان وإيجاز وإجمال عجيب, لكأن كل كلمة منها سورة يطبق عليهم ويقطع عليهم طرق الهرب والإعتذار. فأين يذهبون؟
     ولما فرغ القرآن من بيان حالهم والرد على شبهتهم بهذا الأسلوب المطوي البليغ بدأ يرد على دعواهم الإيمان بما أنزل عليهم فأكذبهم وفند دعواهم بما لا مزيد عليه: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.

    تأمل كيف لا يشعر القارئ بالإنتقال إلى هذا المقصد الجديد حيث تهيأت النفس له: فقد تبين أنهم إذ كذبوا هذا القرآن الذي يصدق ويشهد لما معهم من الكتاب, إذن هم قد كذبوا بما أنزل عليهم أيضا. وهذه المعاني كلها إنما جاءت إلزاما لهم من أقوالهم نفسها.
     ولقد كانت كلمة {مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ}آخر درجة في سلم المقصد الأول وأول درجة في المقصد الثاني, فأغلقت باب الغرض الأول وفتحت باب الثاني, دون أن تشعر الأذن بتنافر وتجاف بين أجزاء الكلام, بل إن البيان القرآني جاء بهاته الآية في غاية الإلتحام والإنسجام, يرتفع بالسامع والقارئ في درجات المعنى درجة درجة ويرفعه في يسر وأناة منزلة منزلة حتى يبلغ قمة الغاية التي سيقت لها الآية.
     وتأمل كيف لم ينسب فعل قتل الأنبياء إلى آبائهم بل إلى أنفسهم, فهل يحق لهم أن يجيبوا: تلك أمة قد خلت؟ كلا فهم لا يزالون يقتفون آثار آبائهم ويفخرون بجرائمهم بل يعدونها مآثر. فناسب أن تنسب جرائر الآباء الغابرين إلى الأبناء المتبعين الراضين. فكان الإختصار منطويا على مقاصد جمة فضلا عن جمال النظم ورونق البيان.

    وانظر كيف ازدادت صورة المعنى وضوحا في قوله تعالى: (فلم تقتلون) فعدل عن الماضي إلى المضارع, ليتصور القارئ والسامع هؤلاء وأيديهم النجسة ملطخة بدماء النبيئين الطاهرة الزكية.
     ولما كان التعبير بقتلهم الأنبياء بصيغة المضارع المشعرة بالإستمرار قد يوحش قلب النبي صلى الله عليه وسلم, لذكر الأنبياء عموما, وقد يغري اليهود ويطمعهم في نجاح مسعاهم في قتل النبي الخاتم كما قتلوا كثيرا من إخوانه, فقطعت الآية أطماعهم بكلمة: {مِنْ قَبْلُ}.

     وحسبنا ما ذكرنا للتمثيل على بعض اللطائف البيانية التي تضمنتها الآية. ثم إن هناك سرا دقيقا يتميز به الكلام الرباني عن كلام البشر, فالإنسان إذا تكلم بغرض الدفاع عن رأيه أو الإقناع بمذهبه لمحت من الإنفعال والتأثر في كلامه بقدر ما في نفسه, فتراه في ثنايا كلامه يكاد يسر ويستبشر إن أقبل الناس عليه وأفلح في مسعاه, ويمتعض ويحزن إن كان خلاف ذلك. فهل تلمح أيها اللبيب المنصف شيئا من ذلك في مثل هاته الآية؟ كلا, إنك تحس بهيبة قوة تؤثر ولا تتأثر, لا ترجوا أحدا ولا تخشى مخلوقا. إنك ترى رداء الكبرياء والعظمة يكسو البيان القرآني, فتراه مقتصدا في الحجاج, لا تستفزه عداوة مخالف ولا جهل معاند: إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضري فتضروني. يقول عن القرآن {هُوَ الْحَقَّ} ولا يزيد, فلتبحثوا يا أيها المخلوقون بعين الإنصاف عن تفاصيل هذا الحق الذي أجمل ههنا إجمالا. فهل يكتفي صاحب الفكرة البشرية بمثل هذا الإجمال؟

    القرآن إيجاز كله
     القرآن لا يخرج عن الإيجاز سواء في معرض الإجمال أو في مواطن التفصيل, وحقيقة ذلك أنه يأتي بأعظم المعاني وأوفرها بأقل لفظ ممكن.
     وهذا اصطلاح جديد للشيخ. فقد قسم أهل البلاغة الكلام إلى مساو وموجز ومطنب. فالمساواة أداء المعنى بلفظ على قدره, والإيجاز أداؤه بلفظ ناقص عنه واف به, والإطناب أداؤه بلفظ زائد عنه لفائدة. وجعلوا المقياس الذي يحكم اختيار البلغاء بين هذه المراتب أمر عرفيا أو وضعيا. فذهب السكاكي إلى أن الغالب على كلام الناس المساواة, التي لا توصف بمدح ولا ذم. والكلام البليغ بين الإيجاز والإطناب.
     والإجمال والتفصيل يتفاوت تفاوتا كبيرا فلا يكاد ينضبط, فما من كلام وجيز إلا أمكن تأدية معناه بأقل من لفظه حتى المثل الذي يضربونه من القرآن للإيجاز {ولكم فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} فيمكن تأدية معناه بكلمتين مثلا: القصاص حياة. والفاتحة ترجع إلى كلمات خمس: نحمدك اللهم ونعبدك، ونستعينك ونستهديك.
     لذا رأينا أن نضع تقسيم هاته المراتب الثلاث على نسق آخر, يجعل الضابط والمقياس هو المقدار الذي يؤدى به المعنى كاملا غير منقوص بأصله وحليته دون إسراف أو تقتير حسب ما يقتضيه الحال والمقام من إجمال وتفصيل وطي وحذف هذا التوسط الذي هو قبلة البلغاء وقرة عين الأدباء.
     هذا التوسط وهذا القصد وهذا الإيجاز هو الميزان الذي يرى الشيخ وفاءه بحق البلاغة والبيان وبحق المعنى وأغراض الكلام في آن واحد.
    وليس فيه حرف إلا جاء لمعنى.
     فلا تلتفت إلى من يصف بعض كلمات القرآن بأنها مقحمة وبعض حروفه بأنها زائدة زيادة معنوية, فهذا الحكم الجائر مبناه على الجهل بدقة الميزان البياني الذي ينتظم القرآن.
     واجعل هذا الميزان نبراسا لرحلتك مع القرآن, وإن خفي عليك وجه الحكمة في حرف أو كلمة منه, فكل علم ذلك إلى عالمه, دون أن تيأس فتقعد عن الأخذ بأسباب العلم, وقل رب زدني علما واذكر كيف فطن الفتى عمر إلى ما غاب عن شيوخ الصحابة.
     ومثال ذلك الكاف في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}, فقد درج كثير من أهل العلم على الحكم بزيادة هذه الكاف, إذ قد يتوهم من إبقائها على معناها الأصلي التشبيه, حيث فهموا نفيها الشبيه عن مثل الله, فتكون بذلك تسليما بثبوت المثل.
     ولو نظرت إلى هذا الحرف لرأيته مهيبا محتفظا بقوة الدلالة فلم ياترى؟
     نبين ذلك من طريقين: الأول أقرب إلى فهم العامة: فلو قيل "ليس مثله شيء" لكان نفيا للمثيل المكافئ تام المماثلة دون غيره, فربما وسوس الخبيث أن امتناع المماثلة التامة لا يقتضي انتفاء المماثلة الجزئية التي ينسبها معظم أهل الشرك إلى أوثانهم. فكانت هاته الكاف التي تبدو بادئ الرأي زائدة, نافية لوجود مطلق المماثلة في عالم المخلوقين بأملاكه وجنه وإنسه, فكأن الآية تقول: ليس هناك شيء يشبه أن يكون مثلا لله فضلا عن أن يماثله على الحقيقة, وهذا من قبيل قوله تعالى: { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} من جهة التنبيه على الأعلى بالأدنى.
    والطريق الثاني أدق وألطف يجليه المثال التالي: لو قلت في رجل: "فلان لا يكذب ولا يبخل" تبغي أن تمدحه, كان قولك دعوى مجردة عن الدليل, ولكنك لو قلت: "مثل فلان لا يكذب ولا يبخل" لم يفهم عنك أنك تشير إلى مماثل حقيقي مبرإ من النقائص, بل كلما تريده أن تبرئ ممدوحك ببرهان كلي: كأنك تقول: من يكون على مثل صفاته الكريمة وسجاياه الحسنة لا يكون كذلك. لوجود التباين العظيم بين تلك السجايا والخلال وبين ذلك النقص الموهوم. في ضوء هذا المثال الحسي يمكن تقريب فهم الآية, فلكأنها تقول: "مثله تعالى لا يكون له مثل" وبعبارة أخرى: من كانت له تلك الأسماء الحسنى والصفات العلى لا يجوز أن يتوهم له شبيه.
    فجاء نفي الشبيه المتوهم بلفظين ليتم البرهان الذي يغسل قلب العبد عن أدران التشبيه والتمثيل هما "الكاف" و"مثل".
     فتأمل في هذه الكاف وما كفته عن مقام توحيد الله من شبه المشركين وتشبيه الجاهلين, لتوقن أن حروف القرآن لا يصح أن يوصف منها شيء بالزيادة أو الإقحام بحال.


    الإيجاز بالحذف مع الوضوح والطلاوة
     هناك سبيل آخر في إيجاز القرآن عجيب, فتراه يحذف بعضا من أصول الكلام, وقد يحذف جملا كثيرة, ثم يستثمر ما يبقيه من لفظ للوفاء بحق المعنى, فيجليه في غاية الوضوح مع الطلاوة والعذوبة, بحيث لا تفطن إلى العناصر الكثيرة المحذوفة.
     وسر ذلك أنه أودع معاني الكلمات المطوية في كلمة أو حرف, ثم أدار الأسلوب وأحكمه, ثم نفخ فيه من روح البيان فإذا هو تام نير مشرق لا تشعر النفس بما فيه من طي وحذف إلا بعد تأمل دقيق. ومثل ذلك مثل الخياط ينتفع بالقطعة اليسيرة من البز فيجعلها حلة ضافية, في حين لا يفلح غيره في الإنتفاع بأكبر منها, فذلك مثل الإيجاز القرآني إذا قيس إلى كلام الناس.
     ومثاله من سورة يونس: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}: حال منكري البعث الذين قالوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}, فلما أمهلهم الله طفقوا يستعجلون بالشر استعجالهم بالخير, يقولون عن الشر ما يحسبه؟ وعن الرجز والعذاب: متى هو؟
     والمعنى الإجمالي للرد القرآني: لو مضت سنة الله بتعجيل الشر للناس إذا استعجلوه, كما مضت سنته بتعجيل الخير لهم إذا استعجلوه, لعجله لهؤلاء, ولكن سنته التي لا تتبدل جرت بأن يمهل الظالمين ويؤخره إلى أجل مسمى. فتأخر العذاب عن هؤلاء المستعجلين المستهزئين يحكمها هذا النظام وهذه السنة الربانية.
     فقد تضمنت الآية معاني متقابلة أربعة: تعجيل من الله في الخير والشر واستعجال من الناس كذلك, ثم الرد الرباني على هؤلاء الكفرة المستعجلين.
     فانظر ماذا صنع القرآن بهذه الأجزاء الكثيرة من المعنى: أدير الكلام من المقابلة بين تعجيل وتعجيل, وبين استعجال واستعجال كما يقتضيه ظاهر الكلام, بحيث أصبحت المشابهة والمقابلة بين تعجيل واستعجال, فحذف من الكلام طرفين, فقال تعالى: (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير) فتأمل هل تحس في الكلام نقصا بعد هذا الطي والحذف, أم هل يخفى المراد على الخاصة أو العامة؟
    فلم بقي المعنى جليا ياترى؟ تأمل في "لو" الامتناعية التي صدرت بها الآية, فهي قائمة بدل المقدمة المطوية, فدلت على أن تعجيل الشر الذي يسأله المشركون لا يكون من الله, ثم قام حرف التفريع في كلمة "فنذر": ليبين النتيجة: ولكن شأن الله الرحيم الصبور أن يذر الناس ويمهلهم, فلذلك يذر هؤلاء. ولم يكتف بالفاء, بل عززها بأمرين آخرين يقويان المعنى: الانتقال من صيغة الماضي إلى صيغة المضارع, ومن الغيبة إلى الخطاب, وهذا الانتقال كفيل بتجديد نشاط السامع مشعر بهيبة الجبار الذي لا يستفزه أحد من خلقه فتأمل العظمة والهيبة في قوله تعالى: "فنذر".
    ثم تأمل في الطرفين المحذوفين من الأطراف الأربعة للكلام, فإنه لم يحذف طرفين من جنس واحد, فلم يحذف استعجالين مثلا, بل أبقى استعجالا وتعجيلا من كل زوج, ليدل المذكور على المحذوف ولينبه الشاهد على الغائب. فهكذا دل "تعجيل الشر" على استعجالهم به, ودلت لو التي صدرت بها الآية, أن الله لا يعجلهم له منا وإمهالا, ودل "استعجالهم بالخير" بأن الله يعجله لهم فضلا وكرما.
    وفي الآية ملمح آخر لطيف هو سر الإمهال: فكأن الآية صورت استعجال المشركين في كلتا الحالتين في صورة الطالب الملح اللجوج, سيما إن كان يطلب الخير, فلكأن من حكمة عدم تعجيل الله لهم الشر بيان أنه متعال عن استعجال المستعجلين الذين تستفزهم البواعث وهو الصبور الحليم.
    وانظر كيف جاء بعد لو فعل مضارع وهي عادة تقتضي فعلا ماضيا, ولكن التعبير بالمضارع يختصر الكلام اختصارا, وتبقى لكمة "لو" قرينة تشهد للكلام وإن كان مضارعا في صورته أنه أمر مضت به سنة الله, فأدت هاتان الكلمتان الغرضين كليهما في لين وجزالة وإيجاز.
     ثم إن الجملة الشرطية كانت تقتضي جوابا من قبيل "لعجله" ولكنه عدل عنه إلى ما هو أهول وأقرع للفؤاد "لقضي إليهم أجلهم" فبين أنه لو عجل لهم الشر لكان عذاب استئصال وقطع لدابرهم.
     وكان مقتضى الكلام في ظاهره أن يقال: "فنذرهم" أو "فنذر هؤلاء" ولكنه قال: {فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} فأشار إلى معنيين مهمين: أحدهما التنبيه على أن عدم إيمانهم بالبعث هو منشأ هذا الاستعجال والآخر: أن الإمهال سنة عامة لهم ولأضرابهم.
     فانظر إلى هذه المعاني النيرات كيف تسربلت بألفاظ معدودات فأشرقت منها شمس البيان القرآني, فترى الحرف في الآية تحسبه هينا وهو في ميزان البلاغة القرآنية عظيم, لا يؤدي بلغاء الأرض معناه ولو كتبوا المجلدات العظام, فهم ليسوا سوى أهل صنعة, والآية من كلام الرحمن الذي علم البيان.
     القرآن في سورة سورة منه "الكثرة" و"الوحدة"
    ينضاف إلى ثراء القرآن المعنوي مع وجازة اللفظ أمر آخر أعجب وأبهر ألا وهو تناسق أجزائه وائتلاف عناصره حتى لكأنه فص من ماس لا ترى فيه إلا تناسقا وجمالا وانتظاما. فالمعاني وإن ارتقت واستنارت لا يعرف قدرها متفرقة متناثرة, بل لا مناص من إحكام نظمها في وحدة بيانية بحيث تغدو وحدة متماسكة مؤتلفة. وهذا من أجل المطالب لمن مارس شيئا من صنعة البيان. فإذا اكتملت عند الكاتب أفراد المعاني بعد التمحيص والتنقيح, لزمه التأليف بين أجزائها, واختيار مواضعها, فهذا أصل وهذا تكميل, وهذا للمقدمة وهذا للوسط, ثم ينبغي الترجيح بين طرق ربط أطراف الكلام ومزج أجزائه. هذا قد يتيسر في الكلام البشري الذي لا يخرج عن غرض واحد أو غرضين, فما ظنك بمن يروم الجمع بين المعاني المختلفة والأغراض المنفصلة والمواضيع المتشعبة؟ يريد أن يخرج الكلام في النهاية في صوة وحدة بيانية متناسقة لها مزاج واحد وروح واحدة تسري في ثنايا الكلام كما تسري الروح في الجسد؟
    ولعزة هذا المطلب نرى الشاعر المجيد يأتي في القصيدة الواحدة بأغراض متنوعة وبمعان متعددة, فترى أكثرها أشتاتا لا تنتظم في وحدة, إذ يعييهم حسن التخلص من غرض إلى آخر.
    وعادة الكتاب في سد تلك الثغرات التنبيه إلى الانتقال إلى معنى آخر بأساليب منها قولهم: سننتقل الآن, نعود, سننظر, وفي سياق آخر...
     هكذا صعوبة تأليف المعاني المتقاربة في مجلس واحد وفي زمن متقارب, فكيف جمع القرآن بين المواضيع المختلفة التي جاءت في مناسبات شتى ثم أحكمت إحكاما عجيبا كأنها سبيكة ذهب خالصة, فما أعجب هذا الوجه من إعجاز القرآن.
     كان القرآن ينزل خلال ثلاث وعشرين سنة ينتقل بك بين المعاني البديعة والأخبار الرائقة والمواعظ البليغة والأحكام الرفيعة, فلا يبقى على غرض واحد ولا على أسلوب واحد ولا على نسق من البلاغة واحد, بل هو في المعنى الواحد يأخذك من إنشاء إلى إخبار, ومن إظهار إلى إضمار ومن غيبة إلى خطاب ومن مضي إلى حضور, ثم لا تحس باضطراب ولا اختلاف, بل هو في ذلك كله يرفعك إلى الطبقة العليا من البلاغة وجودة النظم.
     تأمل ذلك كله ثم تذكر أنه نزل منجما حسب الوقائع: فهل ترى فيه ثغرات تشهد للتباعد الزماني بين أجزائه؟ ألم يكن هذا مدعاة إلى تقطيع أوصال الكلام, بحيث يصعب التأليف بين أفراده؟
     خذ أحاديث نبوية أو كلاما متفرقا لأحد البلغاء, ثم اجتهد أن تجعل منه قطعة واحد تنظمها دون أن تزيد أو تنقص شيئا. فهل ترى تناسقا أم تنافرا, تأليفا أم تلفيقا سبكا أم ترقيعا؟
     أضف إلى ذلك طريقة ضم نجوم القرآن بعضها إلى بعض:
     ولننظر أولا مسلك البشر في صناعاتهم التركيبية: يبدأون بتحديد الأجزاء ثم يحددون مواقعها من المصنوع المركب. ثم يبدأ في التركيب من الأسفل إلى الأعلى.
    مثال: افترض رجلا في واد فسيح مقفر, ترتج الأرض فيلقي إليه الجبل في كل مرة بصخور ثم بشظايا حديد وغيرها في فترات متباعدة, هل يجيز العقل أن هذا الرجل يستطيع أن يتصور مدينة كاملة يبنيها بتلك المواد المتناثرة المتنافرة, وما يدريه أن هذه الظواهر ستتكرر, وما نوع المواد التي ستلقيها إليه في كل مرة, وكم عدد القطع اللازمة, وكم عدد الأبنية التي يمكن إقامتها...
     هل يستطيع أحد في هذا الجو الغامض أن يغامر بتصميم كوخ فضلا عن بلد كبير, ثم يبدأ منذ أن تحصل له اللبنات الأولى؟
     ثم هبه غامر وأسعفته الصدفة في بداية البناء, ثم هو يراغم نواميس الكون, فيقرر موضع اللبنة النهائي, فتقع في يده لبنة من الشرفات قبل تمام الأساسات, وربما حصلت له لبنات متفرقة من أبنية مختلفة, فيقول ضعوا هاته هنا وهذه هناك, يحسم أمره في كل مرة ولا يتردد ولا يتراجع, فكأنه يبني السطح قبل اكتمال الأساس. فكيف لو تم هذا الأمر على هذا النحو, فترى هذا البناء العجيب يضع آخر لبنة على هذا المنوال فيسفر الوادي عن مدينة منسقة مثالية, متآلفة القصور والغرفات واللبنات, ليست فيها ذرة يقدر ذوو الصنعة وأرباب الفن أن يقولوا ليتها وضعت في غير هذا الموضع؟ أليس لو حصل ذلك لكان تحديا لقدرة البشر أجمعين؟

    أما إن ذلك كله قد وقع: فأما الرجل فنبينا صلى الله عليه وسلم, وأما المدينة فالقرآن الكريم, الذي شرع في وضع لبناته منذ أول نزوله. وأما القصور، والغرفات، واللبنات فهي السور والنجوم والآيات, وأما الظواهر الكونية التي أدت إلى وقوع المواد في يد البناء, فهي الوقائع والأحداث التي هي مناسبات آي القرآن واسباب نزولها.
     إذن إن طريق تأليف القرآن وضم بعض نجومه إلى بعض طريق معجز, فإن صاحب القرآن صلى الله عليه وسلم لم ينتظر نزول آخر آية ليجمع آيه وسوره, بل كان يبادر عند كل قرآن جديد بالقول: ضعوها في موضع كذا من سورة كذا.
     فكم من آية تأخرت نزولا وتقدمت ترتيبا, وكم من سورة نزلت جميعا في فترة نزول نجوم من سور شتى.
     فيا أيها المتشكك, هل رأيت أحد الشعراء يسلك مثل هذا المسلك؟ يحدد من أول يوم مواضع أبيات في قصائد لم يفتتحها بعد, يضع البيت يقوله في مناسبة ما, في خاتمة قصيدة سينظمها بعد عام؟ ثم يكتمل ديوانه بعد عقود وفق هذه الخطة المحكمة, ثم يتم له ما أراد دون تصحيح أو تنقيح أو مراجعة أو تقديم أو تأخير؟
    ألا ترى معنا أن واضع هذه الخطة التفصيلية لا بد أنه علم بالمناسبات التي تعلقت بها كثير من آيات القرآن قبل وقوعها, بل وقبل حصول بواعثها؟ ألا ترى أن هذا الترتيب المحكم وهذا التنسيق العجيب المعجز صادر عمن استوى في علمه السر والعلن والغيب والشهادة؟ ألا ترى أن خالق تلك الأحداث والمناسبات والبواعث المفضية إليها لا بد أن يكون هو نفسه منزل هذا الكلام, مادام التناسق بين الآيات وأسباب نزولها لم يتخلف مرة, فلا بد أن هذا الكلام هو كلام مقدر المقادير ومصرف الحوادث.
     ثم انظر بعد ذلك كله إلى بنيان القرآن, فهل ترى إحكامه وبنيانه تأثر لنزوله منجما؟ أم أنك تراه كما وصفه الله: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ}

    اعمد إلى سورة من تلك السور التي تتناول أكثر من معنى واحد وما أكثرها في القرآن، فهي جمهرته -وتنقل بفكرتك معها مرحلة مرحلة، ثم ارجع البصر كرتين: كيف بدئت؟ وكيف ختمت؟ وكيف تقابلت أوضاعها وتعادلت؟ وكيف تلاقت أركانها وتعانقت؟ وكيف ازدوجت مقدماتها بنتائجها ووطئت أولاها لأخرها؟ ..
    وأنا لك زعم بأنك لن تجد البتة في نظام معانيها أو مبانيها ما تعرف به أكانت هذه السورة قد نزلت في نجم واحد أم في نجوم شتى. ولسوف تحسب أن السبع الطوال من سور القرآن قد نزلت كل واحدة منها دفعة، حتى يحدثك التاريخ أنها كلها أو جلها3 قد نزلت نجومًا. أو لتقولن: إنها إن كانت بعد تنزيلها قد جمعت عن تفريق فلقد كانت في تنزيلها مفرقة عن جمع؛ كمثل بنيان كان قائمًا على قواعده فلما أريد نقله بصورته إلى غير مكانه قدرت أبعاده ورقمت لبناته، ثم فرق أنقاضًا فلم تلبث كل لبنة منه أن عرفت مكانها المرقوم، وإذا البنيان قد عاد مرصوصًا يشد بعضه بعضًا كهيئته أول مرة.
    أجل، إنك لتقرأ السورة الطويلة المنجمة يحسبها الجاهل أضغاثًا من المعاني حشيت حشوًا، وأوزاعًا من المباني جمعت عفوًا؛ فإذا هي -لو تدبرت- بنية متماسكة قد بنيت من المقاصد الكلية على أسس وأصول، وأقيم على كل أصل منها شعب وفصول، وامتد من كل شعبة منها فروع تقصر أو تطول؛ فلا تزال تنتقل بين أجزائها كما تنتقل بين حجرات وأفنية في بنيان واحد قد وضع رسمه مرة واحدة، لا تحس بشيء من تناكر الأوضاع في التقسيم والتنسيق، ولا بشيء من الانفصال في الخروج من طريق إلى طريق، بل ترى بين الأجناس المختلفة تمام الألفة، كما ترى بين آحاد الجنس الواحد نهاية التضامِّ والالتحاق. كل ذلك بغير تكلفة ولا استعانة بأمر من خارج المعاني أنفسها، وإنما هو حسن السياقة ولطف التمهيد في مطلع كل غرض ومقطعه وأثنائه، يريك المنفصل متصلًا، والمختلف مؤتلفًا.
    ولماذا نقول: إن هذه المعاني تنتسق في السورة كما تنتسق الحُجُرات في البينان؟ لا، بل إنها لتلتحم فيها كما تلتحكم الأعضاء في جسم الإنسان، فبين كل قطعة وجارتها رباط موضعي من أنفسهما، كما يلتقي العظمان عند المفصل ومن فوقهما تمتد شبكة من الوشائح تحيط بهما عن كثب، كما يشتبك العضوان بالشرايين والعروق والأعضاء؛ ومن وراء ذلك كله يسري في جملة السورة اتجاه معين، وتؤدي بمجموعها غرضًا خاصًّا، كما يأخذ الجسم قوامًا واحدًا، ويتعاون بجملته على أداء غرض واحد، مع اختلاف وظائفه العضوية.

    فيا ليت شعري: إذا كانت كافة الأجزاء والعناصر التي تتألف منها وحدة السور منوطة بأسباب لم تكن كلها واقعة ولا متوقعة، وكان لا بد لتمام هذه الوحدة من وقوع تلك الأسباب كلها في عصر نزول القرآن ليتناولها ببيانه، فما الذي أخضع دورة الفلك لنظام هذه الوحدات وجعل هذه النوازل تتوارد بأسرها في إبان التنزيل؟ لماذا لم يتفق في حادثة واحدة منها أن تخلفت عن عالم الوجود يومئذ لينخرم هذا النظام، فتجيء سورة من السور مبتورة في مفتتحها أو في مختتمها أو فيما بين ذلك؟ أليس مطاوعة تلك الأحداث الكونية ومعاونتها بدقة دائمًا لنظام هذه الوحدات البيانية، شاهدًا واضحًا على أن هذا القول وذاك الفعل كانا يجيئان من طريق واحدة، وأن الذي صدرت هذه الكلمات عن علمه، هو نفسه الذي صدرت تلك الكائنات عن مشيئته؟
    بل ليت شعري لو أن هذا الإنسان الغريب الذي جاء القرآن على لسانه كان قد أحصى ما سوف يلده الزمان من مفاجآت الحوادث المستقبلة صغيرة وكبيرة في مدى دهره، ثم قدر ما سوف تتطلبه تلك النوازل من تعاليم الفرقان، فما علمه بالنظام البياني الذي ستوضع عليه صيغة تلك التعاليم؟ ثم ما علمه أي هذه التعاليم سيكون قرينة لهذا الجزء أو ذاك؛ ليتأهب لتلك القرائن قبل ورودها فيودع في كل جزء ساعة نزوله عروة لائقة بقرينته المعينة، حتى إذا قدمت استمسكت بعروتها فازدوجت بقرينها ذلك الازدواج المحكم؟ ولماذا حين وردت كل قرينة وجدت من قرينها جارًا لا يجور ولا يجار عليه، ووجدت بجانبه المكان الذي ينتظرها، لا ضيقًا فيزاحمها ويتبرم بها، ولا واسعًا فتنقطع الصلة بينهما، بل وجدت مقدرًا بمقدارها، حتى لا حاجة إلى الاستدراك على الماضي بمحو حرف، ولا بزيادة حرف، ولا بتبديل وضع، وحتى لا مجال هنا لقول: "ليت..." ولا "لو إن....".

    "بل إن الإنسان حين تحفزه باعثة القول وترد إليه سانحته لا يعدو فيها إحدى خطتين: فهو "إما" أن يدعها كما هي سانحة منعزلة. وكذلك يفعل في أمثالها، حتى إذا بلغ الغاية رجع أدراجه فأخذ فيها جمعًا وتفريقًا، وتبويبًا وترتيبًا. "وإما" أن يأخذ في ضم هذه النصوص، أولًا على وفق ورودها الأول فالأول. أما الثالثة وهي أن يجعلها هكذا "عزين". ولا يزال يظاهر من قريب وبعيد، عن أيمانها وعن شمائلها وفي خلالها، بهذه الطريقة المحددة، وبهذا الطريقة المشتتة المعقدة، على أن يجعل المكان الذي أحل كل سانحة فيه مكانًا مسجلًا لا تحول عنه ولا تزول. ثم يطمع أن يخرج له بتلك الصنعة ديوان كامل التقسيم والتبويب، جيد التنسيق والترتيب، مترابط متماسك في جملته وتفصيله، كلمة كلمة وحرفًا حرفًا، فتلك أمنية لا يظفر المرء منها إلا بعكس ما تمنى".
    {‏ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} إبراهيم: 41

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. مدارسة كتاب النبأ العظيم للأخ هشام ابن الزبير
    بواسطة drop في المنتدى الصوتيات والمرئيات
    مشاركات: 11
    آخر مشاركة: 10-06-2013, 01:54 AM
  2. إعلان: تقريب كتاب النبإ العظيم للشيخ دراز
    بواسطة هشام بن الزبير في المنتدى قسم الحوار عن الإسلام
    مشاركات: 11
    آخر مشاركة: 10-06-2012, 04:37 PM
  3. كتاب (النبأ العظيم)... محمد عبد الله دراز
    بواسطة الجاحـظ في المنتدى المكتبة
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 01-30-2012, 05:34 PM
  4. أريد نسخه واضحه من كتاب النبأ العظيم
    بواسطة عبدالرحمن الحنبلي في المنتدى قسم الاستراحة والمقترحات والإعلانات
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 01-12-2012, 11:49 PM

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء