الملحد: أنتم تصدرون يا عزيزي عن فكر مغلق دوغمائي منغلق...
المؤمن: هل أفهم من كلامك أن فكرك الإلحادي منفتح؟
الملحد: أنا أرى أن الإلحاد مذهب محايد إلى حد بعيد.
المؤمن: حيادك المزعوم هذا, هل هو اختيار فكري ام سلوك جبري؟
الملحد: هممم, لا بد أنه اختيار فكري.
المؤمن: أنت لك تصور إلحادي للعالم, ونحن لنا تصور إيماني, هذه الاعتقادات الأساسية هي التي تحكم فهمنا للحياة
ونظرتنا العامة للأشياء قبل الشروع في أي بحث.
الملحد: للأسف, لا يمكننا التفكير إلا بناء على أمثال هذه الافتراضات الأولية.
المؤمن: هل توافقني في أن هذه الافتراضات يجب أن تكون صحيحة حتى تكون المعرفة ممكنة؟

الملحد: ما الذي تعنيه؟
المؤمن: لا بد أن نثق في عقولنا وحواسنا, فنفترض ابتداء أنها لا تخدعنا, فلو وجد عالم قطعة خزف أثرية, فإنه يفترض أنه ينظر إليها بالفعل وأن حواسه تنقل إليه صورة حقيقية, ويفترض أيضا أن يثق في ذاكرته بحيث يستحضر كل ما درسه من مناهج تحليل الحفريات وفك رموز الحضارات البائدة, ويفترض كذلك أن هذه الرموز تعني شيئا ما, فلا يفترض مثلا أنها مجرد خطوط خلفها مرور الزمن, وقس على ذلك.
الملحد: هذه أمور بديهية فلا تطل فيها, أخبرني إلى ماذا تريد أن تصل؟
المؤمن: قليلا من الصبر, كيف تعرف أنها بديهية, أنت تفترض ذلك كما تفترض أن ذاكرتك لا تخدعك, وأنت تثق في حواسك وعقلك على وجه العموم, لكنك في المقابل تفترض أن العالم وجد صدفة من غير موجد فهذا افتراض أولي, فالمشكلة ليست في الحقائق بل في استقبالها وتحليلها وفهمها, فنحن ننطلق من اعتقادات مختلفة, تصور أن عالمين يجدان على التوالي نفس قطعة الخزف الأثرية, أحدهما يفترض أنها نتاج حضارة إنسانية والأخر يراها ثمرة صدفة وعوامل عشوائية, هل توافقني أنهما لن يصلا إلى نفس النتيجة؟

الملحد: لكن العلم يكفي لمعرفة الحقيقة والكشف عنها, أليس كذلك؟
المؤمن: العلم ليس مجرد تحصيل للمعرفة, بل هو منهج لتحليلها وفهمها أيضا.
الملحد: هكذا أنتم تسلكون كل الطرق للتنقيص من العلم.
المؤمن: لو صبرت قليلا لفهمت ما أعنيه, أليست الحواس بابا إلى إدراكنا للعالم, ونحن نفترض أنها جديرة بالثقة, كما نفترض العلية أو السببية فيما نراه من ظواهر, ونفترض وجود النظام والقصد في العالم, ونفترض أننا إذا تتبعنا أي ظاهرة أو حدث بالبحث فإننا سنصل حتما إلى نتيجة ما, هذه كلها افتراضات نسلم بها, فمن أين جاءت؟

الملحد: لا بد أنها نتيجة تطور الفكر البشري, لكن الحقيقة تبقى حقيقة, المنهج العلمي أفضل شيء بين أيدينا.
المؤمن: ما اختلفنا على هذا, لكنك ترى أن هذا المنهج العلمي لا تقوم له قائمة حتى يؤسس على افتراضات من نوع ما ذكرته لك, تصور مثلا أن رجلا صحيحا يعتقد أنه مصاب بالسرطان, فيجتهد الطبيب في إقناعه ويريه نتائج الفحوص, لكنه لا يصدقه أبدا, لماذا؟ لأن نظرته إلى كل هذه الأدلة العلمية تنبني على اعتقاد آخر راسخ في عقله, وربما ساءت صحته إذا استمر على هذا الافتراض الخاطئ.
الملحد: هذا افتراض مبني على الجهل, ونحن ندعو إلى العلم.

المؤمن: ما أريد الوصول إليه أن وجود الدليل وحده لا يفيد في الوصول إلى الحقيقة, لأن الأمر الأول الذي يؤثر على إدراكنا هو نظرتنا إلى العالم, أي عقيدتنا, وهذه يأخذها أكثر الناس تقليدا للآباء والكبراء, ولهذا السبب لا نصل في حوارنا مع الملحد لنتيجة, رغم تضافر الأدلة على صدق ما ندعو إليه.
الملحد: أيها الزميل, ما شأن العقيدة, لا بد أن ننطلق من أرضية علمية محايدة.
المؤمن: لقد بينت لك بأن الحياد شيء لا وجود له, فعالم الحفريات يدرس جميع المناهج العلمية ويستعمل كل التقنيات المتاحة, لكن تصوره وعقيدته تقود بحثه في الوجهة التي تنسجم معها, هل فهمتني الآن؟ الخلاف حول العقائد يقود بالضرورة للخلاف حول فهم العالم وتحليل ظواهره.

الملحد: أنا لا أوافقك وأرى أنك بنيت كلامك على سفسطة مع احترامي لك, فنحن نعتمد العقل والمنطق, وهذه هي أدوات العلم.
المؤمن: أنت تنطلق من المنطق والعقل في زعمك, لكن العقل لا بد أن ينطلق من افتراضات أولية كما بينت لك, فلهذا نحن ننطلق من عقيدتنا ثم من العقل, أنت لا تتخلى عن افتراضاتك وتصورك الإلحاديي للعالم, فلماذا تريدني أن أبدأ حواري معك بنكران ما أدين به؟
الملحد: أنا أؤمن بالعلم وقوانينه.
المؤمن: أنت تفترض أن العالم يخضع لقوانين, أنت تفترض أن الطبيعة تخضع لنظام, هذا اعتقاد, لكنك تفترض أن للصدفة دورا في هذا كله, وهذا اعتقاد آخر, والعجيب أنك جمعت في تصورك المتناقضات.

الملحد: ليس هناك تناقض, لكني لم أر دليلا على وجود الله فقلت إن الأرجح أن الكون نشأ صدفة.
المؤمن: أنت افترضت اعتقادا مخالفا لما تضافرت عليه الأدلة المنطقية والعلمية من أن الكون بنظامه ودقته و استمراره يدل على خالقه, فلم تنفعك جميع الأدلة.
الملحد: أنا أكتفي بقوانين المنطق والعلوم التجريبية, يجب ألا نقبل إلا الحقائق التي تم التحقق منها تجريبيا.
المؤمن: جميل, ماذا عن القوانين التجريبية ذاتها, هل تم التثبت تجريبيا, ألا ترى أن العقل لا بد أن ينطلق من افتراضات أولية كما بينت لك مرارا؟

لماذا توجد قوانين المنطق ابتداء؟ أليس المفروض في عالم عشوائي أن يخترع كل منا منطقه الخاص الذي يزن به الخطأ والصواب؟ ولماذا توجد قوانين ثابتة في عالم متغير نشأ صدفة؟ أليس المفروض أن تورث العشوائية والصدفة خصائصها لكون أنشأته؟ لماذا نحتاج لنظام أخلاقي دون وجود الخالق؟ ما معنى الأخلاق من دون وجود الخالق؟ أنت ملحد لكنك لا تنكر الأخلاق جملة أليس كذلك؟

الملحد: بلى, الملحد ليس وحشا ضاريا متفسخ الأخلاق كما يحب بعض المتدينين تصويره.
المؤمن: أنت تعترف بضرورة وجود حد أدنى من الالتزام الأخلاقي, لكن هذا التصور لا معنى له داخل الإلحاد, ألا ترى أن تصورك للعالم ليس متسقا مع القوانين التي تحكمه؟ فالعالم مبناه على النظام وأنت تؤمن بالعشوائية, ومبناه على القصد وأنت تؤمن بالصدفة, ومقياس سلوك الناس قانون الخير والشر وأنت تكفر بالخالق.
الملحد: أيها الزميل, أنا أسلم بوجود قدر مشترك من الأخلاق, لكنها في النهاية شيء نسبي, بل إن كل شيء في هذا العالم نسبي.
المؤمن: هل أنت متأكد تماما من نسبية كل شيء؟
الملحد: نعم
المؤمن: إذن فقد وجدنا على الأقل شيئا غير نسبي بإقرارك. أخبرني كيف تميز الخير من الشر؟ وهل تقبل وأنت مؤمن بالتطور بشيء اسمه الخير والشر؟
الملحد: في نظري الأخلاق هي نوع من السلوك الإيجابي الذي تعارف عليه الناس لتحقيق أكبر قدر من السعادة والنفع لمعظم الناس.
المؤمن: ألا ترى تناقضا بين تعريفك هذا وبين مذهب الإلحاد, السعادة عندك مجرد تفاعلات كيميائية عصبية, فلماذا نحتكم إلى تفاعلات كيميائية, كما أن سلوكاتنا الصالحة والطالحة تفاعلات كيميائية أيضا, فلماذا نحتاج أن نصدر عليها حكما بالخير والشر.
الملحد: نحن نحتاج للأخلاق لتنظيم المجتمع وحفظ الأمن وتجنب الفوضى.
المؤمن: الفوضى؟ وما المانع من ذلك في عالم يحكمه تصور إلحادي, فنحن في النهاية حيوانات, فلماذ نكبح جماح التطور والانتخاب الطبيعي بشيء ميتافيزيقي مثل الحكم على سلوكنا بميزان الأخلاق والخير والشر؟
الملحد: ربما كان هذا ثمرة التطور, فأصبح الإنسان يختار أخلاقه لتنظيم حياة مجتمعه.
المؤمن: إذن الأخلاق راجعة إلى اختيار الناس فقط, ماذا لو اختار الناس أن يقتلوا المرضى والعجزة المعاقين لتنظيم المجتمع ورفع إنتاجه, فهل تقبل ذلك؟
الملحد: قطعا إن حسنا الأخلاقي يمنعنا من قبول ذلك.
المؤمن: لو كنا مجرد حيوانات متطورة تحكمها تفاعلات كيميائية, فلم نعاقب المجرمين على أشياء تفعلها الحيوانات ولا نعاقبها؟
الملحد: على ذكر الأخلاق, أرى أن هناك أحكاما إسلامية تناقض الأخلاق.
المؤمن: لنفترض أن ذلك صحيح, هل يضر ذلك إلحادك في شيء؟ أنا لا أقبل التناقض لأني أرجع إلى مرجع أخلاقي ثابت, لكن ماذا عنك أنت, كيف تعلم أن التناقض لا يقع في العالم المادي أبدا؟
الملحد: هذه قوانين المنطق يا عزيزي.
المؤمن: ومن أين جاءت قوانين المنطق أيها الذكي لتستوطن عالما خرج من رحم الصدفة والعبث؟

الملحد: أنتم تستعبدون النساء في مجتمعاتكم الذكورية.
المؤمن: لو سلمنا لك جدلا أن ذلك صحيح, فأي شيء يمنع في مذهبك من استعباد النساء واستغلال الأطفال واستحلال الكذب والغش وكل الرذائل إذا حقق ذلك منافع مادية؟ إنك لا تستطيع أيها الزميل أن تثبت مسألة أخلاقية واحدة من داخل الإلحاد, فإن الحديث عن الأخلاق حديث عن الحكمة, وحكمة الإلحاد أن تقنع الناس ألا حكمة في الحياة.
الملحد: أنت تتصور الإلحاد شيئا ذميما بغيضا لا يصلح لشيء, أين الإنصاف؟
المؤمن: إنما أردت أن أبين أنك لا تستطيع أن تحتج لإلحادك بشيء حتى تفترض شيئا من خارج الإلحاد, فأنت تحيا في عالم تحكمه سنن إلهية مادية وغير مادية, ظاهرة وباطنة, ومهما اجتهدت أن تطبق الإلحاد على ظواهر الكون فإنك لا بد أن تقع في التناقض, وأقل ما تقع فيه بتصورك الإلحاد أن تقر أن الإنسان كتلة مادية مقهورة لا تتمتع بشيء اسمه الحرية.