أفي الله شك فاطر السماوات والأرض؟


من أغرب الأشياء أن يتمارى عاقلان في وجود الخالق سبحانه وتعالى, ومن أعجب الأمور أن يدعي إنسان افتقاره إلى دليل عقلي على وجود البارئ المصور عز شأنه. ورغم ذلك كله فإن كثيرا ممن أتيح لهم أن يتعلموا هذه اللغة الفريدة التي أخط بها هاته السطور يلجون نفق الإلحاد المظلم من هذا الباب العجيب: باب إنكار الخالق والكفر به بدعوى أن لا دليل ولا برهان عليه تعالى الله عما يقول الجاهلون علو عظيما. وما أعجب أن يحيا هذا المنكِر الجاحد بعدها في هذا العالم الفسيح تقله الأرض وتظله السماء ويشهد تعاقب الليل والنهار ويرى الحياة تدب فيه ومن حوله في كل حين ثم لا يراجع نفسه ولا يعيد الكرة لينظر في هذه المسألة العظيمة من جديد. إن الكون بأسئلته المحيرة وبآياته المدهشة لا يختفي فجأة حين يلحد أحدهم, كما أنه لا يصير بعدها كتابا مألوفا تقلب صفحاته في ملل وأنت تكاد تستشرف ما تخبئه الفصول التالية, كلا إن وجودنا ههنا لغز محير, ومن اختار الإلحاد فإنه يلج نفقا كئيبا قد يفضي به إلى الجنون.

الميت يطلب الدليل على وجود الحي الذي لا يموت.

يسألنا الملحد: هل هناك دليل عقلي على وجود الله؟ والحق أن هناك أدلة كثيرة يشد بعضها بعضا, ويُشكّ في عقل من أنكرها أو ردها, ولكن ثمة فرقا عظيما بين وجود دليل عقلي ما, وبين أن يذعن له زيد من الناس, كما أن هناك فرقا بين أن تطلع شمس النهار وينكرها من كان أعمى البصر.

فلنبدأ بالنظر في حال هذا الملحد السائل: جسم مادي عاقل يقول عن نفسه: "أنا لا أؤمن بوجود خالق لهذا الكون". هذا الكيان المادي المتكلم يختار الإلحاد. لكن المعضلة الكبرى تبدأ في هذه اللحظة حين يقرر اعتناق هذه المذهب العجيب. فمن أين جاء الفكر والاختيار ليستوطن هذه المادة التي تشعر فجأة بالهوية وتقول: "أنا"؟ هل يوجد قانون طبيعي أو فيزيائي يفسر نشوء المعلومات داخل المادة بطريقة آلية؟ ما دام هذا أمرا غير موجود فإن الكون يصير لغزا كبيرا حين يقرر إنسان ما اعتناق الإلحاد. إذا كانت المادة لا تمتلك القدرة على إنتاج المعلومات, فمن أين جاءت كل هذه القوانين والسنن التي تجعل العالم المادي منتظما متناسقا كما نشهده ونعجب به؟

لماذا نفترض أن العالم قابل للفهم خاضع لسنن مطردة؟

لماذا يجتهد العالم الطبيعي أو الفيزيائي أو الفلكي في بحثه وهو يوقن أن ثمة قوانين ثابتة قابلة للكشف وقابلة للفهم؟ لماذا يفترض أن العالم المادي يسير وفق نظام دقيق قابل للفهم؟ تصور أن باحثا في علم الآثار يكتشف ألواحا عليها نقوش حضارة بائدة, ألا يفترض بداهة أن هذه الألواح دليل على وجود ذات عاقلة مفكرة تريد أن تبلغنا شيئا ما؟ إن هذا القانون البسيط جعلنا نفهم الكثير عن الحضارات القديمة, حيث درسنا تلك المعلومات التي انتقلت إلينا عبر القرون على الألواح الصخرية وعلى قطع الخزف وغيرها. فنحن لا نفترض أبدا أن هذه المعلومات نشأت بشكل آلي أو بالصدفة, بكل بساطة لأننا نسلم بأن المعلومات لا تنشأ حسب قانون مادي ما, بل هي نتيجة جهد عاقل حكيم. فنحن حين نفك رموز لوح هيرغلوفي مثلا فإننا نسعى إلى تتبع تلك الرموز لتقودنا إلى العقل الذي أنتجها.

الجينوم البشري قصم ظهر الإلحاد

لكم أن تتصوروا هول الصدمة التي أصابت الكوخ الإلحادي المتهالك بعد الكشف عن تركيب الحمض النووي البشري. لقد أيقن كل ذي عقل أن الكم الهائل من المعلومات المخزنة في الحمض النووي, لا يمكن أن يتكون بشكل آلي. ثم إن تلك المعلومات يتم نسخها باستمرار, وانتقالها من جيل إلى جيل, فالحمض النووي يبين أن القرد قرد والإنسان إنسان والفأر فأر, لأن هذه المعلومات تحدد لكل كائن صفاته المميزة.
فما جواب الملاحدة يا ترى؟ التطوريون يتحدثون عن الطفرات, لكن الطفرات لا تضيف معلومات للحمض النووي بل على العكس من ذلك تنقصها. نعم, الطفرات قد تعزز قدرة الكائن الحي على البقاء ومقاومة الأمراض مثلا, ولكنها قطعا لا تضيف إلى حمضه النووي معلومات لم تكن موجودة.

وماذا بعد؟ الملحد يهرب كعادته إلى الأمام؟


الملحد يجيب عن هذه الحقيقة بقوله: عدم علمنا بحصول إضافة للحمض النووي لا ينفي وجودها, فهو يحيلنا على أمر غائب غير مشاهد, مثل حديثهم عن العوالم المتوازية, والسؤال المحير هو: لماذا لا يتخلص الملحد من الإيمان بالغيب؟
 هناك أمور كثيرة لا نعلمها, أليس كذلك, لماذا لا تقر أيها الملحد بأن جحودك لبارئك وخالقك إنما مرده إلى جهلك, فتحيلنا على المستقبل الذي سيكشف لك الحقيقة, كما تحيلنا على المستقبل الذي سيكشف الأشكال الوسيطة لنظرية التطور والعوالم الموازية وهلم جرا؟

الإلحاد عقيدة يستمسك بها الجاهلون رغم أنف العلم

السبب الذي من أجله يرد الملحد هذه الحجج وغيرها رغم وضوحها ليس سببا علميا بل سببا اعتقاديا. فالملحد ينطلق من عقيدة: أن لا إله والكون مادة, فكل ما يتعارض مع عقيدته التي هي عنده أمر مسلم به, يتعرض للرد والتجاهل والتسفيه.
إذن الأساس الفكري الذي ينبني عليه الإلحاد ليس علميا بل هو مجرد افتراضات ونظريات وتكهنات يستميت الملحد في الدفاع عنها. لهذا فلا يستغرب أبدا ما يعتري البروفيسور دوكينز قسيس الإلحاد من حماسة حين يسفه الأديان, فتراه متوتر المزاج محمر الأوداج كأنه يخطب في حشد من المريدين. إن الرجل ينافح عن دينه ويزعم أنه تحرر من كل دين!

وكذلك نحن ننطلق من عقيدة مع فارق عظيم بين اعتقاد لا دليل عليه وبين عقيدة شهد لها الشرع والعقل. الفرق بين دين الحق ودين الباطل يظهر عند الإختبار, فمن كانت عقيدته صحيحة فإنه سيجد العلم المادي الصحيح مؤازرا له في اعتقاده, فالمؤمن والملحد كلاهما ينظر في نفس الحقائق العلمية (الحمض النووي, الأحافير, صور التلسكوب هابل وغيرها) ولكن الذي يختلف هو تصورهما للكون والحياة. أي العقيدة.
والسؤال الذي ينبغي لأهل الإلحاد أن يجيبوا عنه هو: هل أنكرنا حقيقة علمية واحدة مثبتة؟ هل تعارضت حقيقة علمية واحدة مع اعتقادنا؟