التصور الذي كان يقول أن العقل كيان معزول عن مطالب/حاجات الشعورية هو تصور تقليدي عفى عليه الزمن يا نيوتن. الأبحاث كثيرة جداً جداً في هذا الباب ولكن من الكتب المعاصرة التي جمعت شتات خلاصتها كتاب عالم الأعصاب الشهير Antonio Damasio ، وخلاصة القول فيه بشأن هذا المسألة بعينها أن هناك علاقات تفاعلية عميقة بين الحاجات الشعورية و طريقة استعمال العقل. من القدماء اللذين أشاروا إلى هذه الفكرة قبل تواتر الأبحاث المعاصرة ديفيد هيوم وبلييز باسكال [1]، بل إن نظرية التطور - إن شئت أن نحتكم إليها في هذه المسألة فلا مانع عندي - تجعل "النفعية" الموجّه الأول للنشاط العقلي. فلا أدري على أي أساس علمي ادّعيت هذه القدرة "غير الطبيعية" على تشغيل العقل معزولاً عن تحيزاته النفعية/الحاجيّة؟ العلم الحديث في هذا المجال لا يؤيدك فحسب بل يغلّطك. لن تستطيع أن تأتي ببحث علمي واحد يثبت عكس كلامي.
نعم، مرة أخرى: هذا ما كنت أريده منك ومن غيرك من الملاحدة، لسبب مهم: وهو أن فرضية الإله تعبّر عن "اتجاه عقلي"، أي أنها حالة نفسية مركّبة من: اتجاه + عقل، والاتجاه يعبر عن مطالب شعورية بينما العقل يعبّر عن مطالب فكرية reasoning. المغالطة الكبيرة التي انخدع بها الملاحدة هي فرضهم أن إلحادهم قرار عقلي محض unalloyed، بينما المتدينون أفضل حالاً وواقعية منهم لأنهم معترفون بلسان الحال والمقال أن تعاطيهم مع فرضية الإله محكوم بحالة مركبة من حاجات ومطالب شعورية عقلية - احترز! هنا لفٌ ونشر - أي "اتجاه عقلي".[2]
[1] انظر: Descartes' Error ، ص 200، لــ Antonio Damasio.
[2]
الجدير بالذكر أن التصور الإسلامي للعقل- لا سيما عند أئمة أهل السنة كابن تيمية وتلميذه ابن القيم - متقدم على زمنه، وذلك أن العقل في لغة القرآن واستعمال العرب يطلق ويراد به هذه الحالة المركبة، ومن التقريرات الشهيرة لأئمة أهلا السنة في تعريف العقل أنه مركز القلب وله تعلق بالدماغ، أي ليس في الدماغ فقط وليس في منعزلاً في القلب فقط، لذلك يقول الرياضي Blaise Pascal السالف ذكره :"إن للقلب أسبابه التي تخصه و التي لا يعرفها العقل" وذلك في جوابه عن أسباب بعض القرارات "الواعية" - كالإيمان بالله وغير ذلك - التي يتخذها الناس دون مبرر عقلي محض من وجهة نظرهم.
Bookmarks