الاخوة الكرام , بارك الله فيكم , وحباكم وأصلح أحوالنا واحوالكم , جزيتم خيراً .

نتابع ما تبقى من الاسئلة , علماً بأن الاجوبة السابقة فيها مفاتيح لكثير من الاشكلات ان شاء الله , الا ان تبين ان ثمة أمر لم ألتفت إليه ,ففي السؤال
س4: "لو صح القول في س3 - فهل يلزم منه ان اللام في "ليعبدون" تكون للغاية والعاقبة (الشرعية لا القدرية فيما فهمت) - لا للتعليل؟
ما تقدم من الاجابة فيه غُنية عن هذا , اذا ما صح الجمع بين الاصطفاء الخلقي خاصة الخلق الشرعية , الذين هم عباد الرحمن يستخدمهم الله لطاعته وعبادته , كالانبياء , والرسل , والصالحين , والصديقين .. فيهديهم الله هداية توفيق والهام وسداد , وسائر الخلق , يهديهم الله هداية الهام ورشد , فمنهم المنصاع لتلكم الهداية , ومنهم المكابر المجاحد , فقد قال الله " فأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهُدى " , بينما وجدنا الامر في عباد الله على خلاف ذلك فقد قال الله عن نبيه يوسف -عليه السلام - " كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ "
قال الشوكاني في فتح القدير " قرأ ابن عامر وابن كثير وأبو عمرو «المخلِصين» بكسر اللام. وقرأ الآخرون بفتحها. والمعنى على القراءة الأولى أن يوسف عليه السلام كان ممن أخلص طاعته لله، وعلى الثانية أنه كان ممن استخلصه الله للرسالة، وقد كان عليه السلام مخلصا مستخلصا."

وقال بن عاشور التونسي في تحريره " والصرف: نقل الشيء من مكان إلى مكان، وهو هنا مجاز عن الحفظ من حلول الشيء بالمحل الذي من شأنه أن يحل فيه. عبر به عن العصمة من شيء يوشك أن يلابس شيئا. والتعبير عن العصمة بالصرف يشير إلى أن أسباب حصول السوء والفحشاء موجودة ولكن الله صرفهما عنه ... وجملة {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} تعليل لحكمة صرفه عن السوء والفحشاء الصرف الخارق للعادة لئلا ينتقص اصطفاه الله إياه في هذه الشدة على النفس."

وقال ابو الفداء " { إنه من عبادنا المخلصين } أي: من المجتبين المطهرين المختارين المصطفين الأخيار، صلوات الله وسلامه عليه. " , فالحاصل ان من المخلوقات ما يُعدها الله لطاعته ونشر دينه والجاهد في سبيل , ويستخدمهم في سبيله " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم " , ومنهم من لا يصطفيهم ويترك لهم الخيار مع بيان دلائل الخير والشر , والارادة وعوامل التسيير لذلك , فيخلقهم مسلمين وكفار , ويطالب المسلم بالثبات , ويطالب الكافر بالسعي نحو طرق الخير والرشاد " هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير "

وفي قوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}يقول بن عاشور فيها " تتميم واحتراس واستطراد، فهو تتميم لما يكمل المقصود من تقسيمهم إلى فريقين لإبداء الفرق بين الفريقين في الخير والشر وهو عليم بذلك وعليم بأنه يقع وليس الله مغلوبا على وقوعه ولكن حكمته وعلمه اقتضيا ذلك ... خلق الله الناس وأودع فيهم العقول التي تتوصل بالنظر السليم من التقصير وشوائب الهوى وغشاوات العناد إلى معرفة الله على الوصف اللائق به وخلق فيهم القدرة على الأعمال الصالحة وغيرها ...وأرشدهم إلى الصلاح وحذرهم من الفساد، والله عالم بما يكتسبه كل أحد ولو شاء لصرف مقترف الفساد عن فعله ولكنه أوجد نظما مرتبطا بعضها ببعض ومنتشرة فقضت حكمته بالحفاظ على تلك النظم الكثيرة .." , والتوبة والطاعة والمبادرة الى فعل الخيرات تحجز العبد عن وتحول بينه وبين مغاضب الله , وبثباته على ذلك , وسؤال ربه القبول والثبات في الامر , ينجو , ليتأكد معنى العلة الغائية من الخلق , وان تأخرت , ولتتأصل العلية الاصلية من الخلق في ايجاد عباد مُخلَصين مُخلِصين , يضرب بهم المثل , في الاحتذاء , ليكون اسوة لمن بعدهم , فيتحقق السير على الصراط المستقيم " اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين "


س5: فهمت مما قرأت في تفاسير الآية ان العبادة هي "من" الحكم (او العلل) في خلق الانسان - وليست كل الحكم والعلل - فهل يصح هذا الفهم؟
وانقل بعض كلام صاحب التحرير والتنوير: "فالحصر المستفاد من قوله وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون قصر علة خلق الله الإنس والجن على إرادته أن يعبدوه ، والظاهر أنه قصر إضافي وأنه من قبيل قصر الموصوف على الصفة ، وأنه قصر قلب باعتبار مفعول " يعبدون " ، أي : إلا ليعبدوني وحدي ، أي : لا ليشركوا غيري في العبادة ، فهو رد للإشراك ، وليس هو قصرا حقيقيا فإنا وإن لم نطلع على مقادير حكم الله تعالى [ ص: 27 ] من خلق الخلائق ، لكنا نعلم أن الحكمة من خلقهم ليست مجرد أن يعبدوه ؛ لأن حكم الله تعالى من أفعاله كثيرة لا نحيط بها ، وذكر بعضها كما هنا مما يقتضي عدم وجود حكمة أخرى ، ألا ترى أن الله ذكر حكما للخلق غير هذه كقوله ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم بله ما ذكره من حكمة خلق بعض الإنس والجن كقوله في خلق عيسى ولنجعله آية للناس ورحمة منا. " انتهى
مفهوم الحكمة من الخلق أوسع من علة الخلق , وبمعنى آخر ؛ أن العلة من الخلق أصالةً هي العبادة , والحكمة او العلل من سائر المخلوقات لا حصر لها , فهي باعتبار القدر الكوني الشرعي محصورة , فالقدر الشرعي محصور في محاب الله , ومراضيه , كتوحيد الله , والثناء على الله , ونصرة دينه , والصلاة , والصيام وسائر القربات التي يرتضيها الرب سبحانه . فمن هذا الوجه الحصر فيها متعين , فالخلق محصور في فيما يحدو الى العبادة وتعظيم الله , وما كان في خلافه ذلك , فماحق .

اما الخلق القدري الكوني , فمحصورة من وجه , وغير محصورة من وجه آخر ! , اما كونها غير محصورة , فاسائر الموجودات تدل على عظيم قدرة الخالق , وهيبته وجماله واتقانه وقدرته , ففي كل شيء في مخلوقاته له فيها آية تدل على وحدانيته وصمديته سبحانه , فكلام الله الكوني , وعلم الله , وخلقه , وقدرته , لا مثل لها ولا عدل , فقد اشار الله الى كلامه الكوني بقوله " قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا " وقال " ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم " , فكلام الله لا يحصى ولا يستقصى , اما كلامه الشرعي محصور فيما بالنسبة لنا بما في دفتي القرآن او ما صح من الاحاديث القدسية .

وكذلك الحال في خلق الله , فمنهم من ييسرهم ليسرى , ومن ييسرهم للعسري , ومنهم من هو دون ذلك من ممن صابه مس العمى او جنون او الكهولة او الطفولة , او مرض او ماشبه , فأوجدهم لحكمة , وأوجد سائر المخلوقات , كالحيوانات والجمادات وغيرها , وهي مسخرة لخدمة الانسان .وخص الجن والانس بالايجاد القدري الشرعي في قوله " وما خلقت الجن والانس " للعبادة أصالة , فالعبادة أصلية , وما لاح من الحكم فرعية , ليخدم هذا الاصل الاصيل , فعاد الامر محصور من وجه , وسابح من وجه آخر , واظن الخلاف شكلي , والله اعلم .

اما عن
س6: وقفت على هذا الكلام في علة الخلق - فهل يصح؟: (بارك الله فيكم):
اما عن ما نقلته , فلم أفهمه جيداً , وانما حاله كحال من يحوم حوماً , ويروم شيئاً على استحياء , فيبدي طرفاً ويستره لحظةً ! , ورسمه على رسم الشيعة الضلال , وهم نفاة للصفات , فلاجل ذلك يكون كلامهم من قبيل ما وصفت لك , وفيما ذكرته كفاية ان شاء الله .


اضيف نقلين مهمين ومتعلقين:
قال ابن القيم في بدائع الفوائد (1/175) :" وسمعت شيخنا أبا العباس بن تيمية يقول يستحيل دخول لام العاقبة في فعل الله فإنها حيث وردت في الكلام فهي لجهل الفاعل لعاقبة فعله كالتقاط آل فرعون لموسى فإنهم لم يعلموا عاقبته أو لعجز الفاعل عن دفع العاقبة نحو لدوا للموت وابنوا للخراب فأما في فعل من لا يعزب عنه مثقال ذرة ومن هو على كل شيء قدير فلا يكون قط إلا لام كي وهي لام التعليل ولمثل هذه الفوائد التي لا تكاد توجد في الكتب يحتاج إلى مجالسة الشيوخ والعلماء"
وبين الكاتب في هذه الوصلة ان الاختلاف بين اللام الغائية ولام التعليل أقرب للشكلي (س7: فما رأيكم) - (اظن هذا مربط الفرس في الموضوع):
اظنه كما ذكرت .. خاصة وان الخطاب يعود فائدته على المخاطبين , فتصح اللام العاقبة لبيان بعض الاحوال وللاتقاط العبرة للمخاطبين ! , وهو من قبيل قول الله " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون " وهو من قبيل ما ذكر , فجمعت بين الانظار وعاقبة العمل , وشهادة الشاهدين , مع العلم والاحاطة المسبق بعمل العامل.

وسؤالك الثامن
بحثت في تفاسير هذه الآية اثناء بحثي عن تفسير الآية التي نحن بصددها - وذكر المفسرون عدة اقوال في تفسير "ولذلك خلقهم" - وذكروا انها لام التعليل. الا انه اشكل علي كذلك قول من فسرها: للرحمة خلقهم - وبه قال ابن عباس. ونقلا عن تفسير ابن كثير:
وقيل : للرحمة خلقهم . قال ابن وهب : أخبرني مسلم بن خالد ، عن ابن أبي نجيح ، عن طاوس; أن رجلين اختصما إليه فأكثرا فقال طاوس : اختلفتما فأكثرتما ! فقال أحد الرجلين : لذلك خلقنا . فقال طاوس : كذبت . فقال : أليس الله يقول : ( ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ) قال : لم يخلقهم ليختلفوا ، ولكن خلقهم للجماعة والرحمة . كما قال الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : للرحمة خلقهم ولم يخلقهم للعذاب . وكذا قال مجاهد والضحاك وقتادة . ويرجع معنى هذا القول إلى قوله تعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) [ الذاريات : 56 ] .ووجه الاشكال في ذلك انه لو كانت اللام للتعليل - لكانت علة الخلق الرحمة - فهل هذا يصح؟ (وهذا س8)
بل الرحمة من لوازم الخلق القدري الشرعي , فعاد الامر لسابقه , فمن اراد الرحمة والهناء والسكينة , فليحقق علة الخلق التي من اجلها خُلق , ومن اراد الخُلف , والاختلاف , والهلاك والضياع , فليعصي الله , والمرحوم من رُحِم , والمَخذول من خُذل , وللرحمة اسباباً , وللتيه اسبابه , ولكل بابه , وطراقه .

لي عودة ان شاء الله ..