-------------------
الردُّ على الأشاعرة في قولهم: إن كلام الله معنى واحد:
وقولهم: هو الأمر بكل مأمور, والخبر عن كل مخبر، إن عبر عنه بالعربية كان قرآناً، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً، وقولهم إن الأمر والنهي صفات للكلام، لا أنواع له، ولذلك فلا فرق بين القرآن والتوراة، ولا بين آية وآية أخرى دلت على معنى مختلف.
وهذا من أعجب ما في مذهب الأشاعرة وأشده غرابة، حيث إنه مخالف لبدائه العقول، ولواقع الأمر أيضاً، ولا شك أن أعلام الأشاعرة – وفيهم الأئمة والقضاة والفقهاء – لم يكونوا ليقبلوا الإقرار بمثل هذا لولا أن هناك أصولاً عقلية سلموها تسلطت على رؤوسهم ورقابهم لم يستطيعوا منها فكاكاً ولا لها دفعاً. فأصبحوا يسلمون بمثل هذه الأقوال المخالفة للعقل, والنقل, والفطر، ويبحثون لها عن تعليلات, وتبريرات, وتخريجات لا تغني شيئاً.
ولذلك اعترف بعض أعلامهم بما في المذهب الأشعري من إشكالات، حتى قال العز بن عبدالسلام لما سئل في مسألة القرآن: "كيف يعقل شيء واحد هو أمر, ونهي, وخبر, واستخبار؟ فقال أبو محمد: ما هذا بأول إشكال ورد على مذهب الأشعري" ((انظر التسعينية صـ 261)) . وسترد أمثلة أخرى إن شاء الله تعالى.
ومناقشة قول الأشاعرة – في زعمهم أن كلام الله معنى واحد – واضحة جدًّا، ويمكن إجمال ردود شيخ الإسلام عليهم في ذلك بما يلي:
1-
أن هذا القول انفردوا به عن سائر الفرق، كما ذكره الرازي ((انظر التسعينية صـ 175)) ، سواء قالوا – كما هو قول جمهورهم – إنه معنى واحد، أو قالوا إنه خمسة معان، كما هو قول بعضهم. فالذين قالوا هو معنى واحد قالوا: ذلك المعنى هو معنى كل أمرٍ أمر الله به، سواء كان أمر لتكوين، أو أمر تشريع، وسواء أمراً ورد في القرآن, أو ورد في التوراة، وكذلك هو معنى كل نهي نهى الله عنه، وهو معنى كل خبر أخبر الله به.
والذين قالوا إنه خمسة معان يقولون الأمر الواحد هو الأمر بالصلاة والزكاة، والحج، والسبت – الذي لليهود – وهو الأمر بالناسخ والمنسوخ، وبالأقوال, وبالأفعال، وبالعربي, والعبراني، كل ذلك أمر واحد، ومثله النهي, ومثله الخبر، حيث يقولون: إن ما أخبر الله به في آية الكرسي, وسورة الإخلاص، وقصص الأنبياء, والكفار، وصفة الجنة, والنار، كل ذلك خبر واحد ((انظر التسعينية صـ 175)) .
يقول شيخ الإسلام معلقاً على هذا: "ومن المعلوم أن مجرد تصور هذا القول يوجب العلم الضروري بفساده، كما اتفق على ذلك سائر العقلاء، فإن أظهر المعارف أن الأمر ليس هو الخبر، وأن الأمر بالسبت هو الأمر بالحج، وأن الخبر عن الله ليس هو الخبر عن الشيطان الرجيم" ((انظر التسعينية صـ 175 - 177)) ، ولا شك أيضاً أن معنى آية الكرسي ليس هو معنى آية الدين، كما أن معاني قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1] ليست هي معاني تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد: 1] ((انظر مجموع الفتاوى 12 / 122 و 267 ومنهاج السنة 3 / 104)) .
وكذلك أيضاً فإن "المعاني التي أخبر الله بها في القرآن في قصة بدر, وأحد, والخندق، ونحو ذلك لم ينزلها الله على لسان موسى بن عمران، كما لم ينزل على محمد تحريم السبت، ولا الأمر بقتال عباد العجل فكيف يكون كلام الله معنى واحداً" ((انظر منهاج السنة 3 / 104)) . ومن المعلوم أن التوراة إذا عربت لم تكن هي القرآن، كما أن آية الكرسي ليست معنى آية الدين ((انظر مجموع الفتاوى 12 / 558 و درء التعارض 1 / 112 - 113 و 267)) . وهذا واضح جدًّا، ويلاحظ أن الأشاعرة يلتزمون هذه اللوازم الفاسدة, فيقولون: إن كلام الله معنى واحد، فلا يفرقون بين آية الدين, وآية الكرسي، ولا بين القرآن, والتوراة، بل كل ذلك معنى واحد لا يتبعض ولا يتجزأ، ولا يتكلم الله بشيء منه دون شيء إلا على معنى خلق إدراك للخلق فقط – كما سبق -.
بل إن شيخ الإسلام يرى أنه يلزم على قولهم أن تكون الحقائق الموجودة كالملائكة والجن، والجنَّة والنَّار – شيئاً واحداً، لأن معاني الكلام تتبع الحقائق الخارجة، وهذا لازم لا محيد لهم عنه ((انظر مجموع الفتاوى 12 / 558 و درء التعارض 1 / 112 - 113 و 267)) .
2-
يقال للأشاعرة: موسى لما كلمه الله، أفهم كلامه كله أو بعضه؟ إن قلتم: كله، فقد صار موسى يعلم علم الله، وهذا من أعظم الباطل، وإن قلتم بعضه: فقد تبعض كلام الله, وأنتم تقولون: إنه لا يتبعض. وفي هذا إبطال لقولكم ((انظر التسعينية صـ 177)) . وأيضاً فإن الله فضل موسى بالتكليم على غيره ممن أوحى إليهم، كما فرق تعالى بين التكليم والوحي، وهذا يدل على أن الكلام ليس معنى واحداً، لأنه – حينئذ – لا يكون هناك فرق بين التكليم الذي خص به موسى، والوحي العام الذي يكون لغيره. وهذا بيِّنٌ ((انظر منهاج السنة 3 / 105 ومجموع الفتاوى 12 / 130)) . وكذلك قولهم إن القرآن عبارة عن كلام الله، فإن كان عبارة عن كلام الله كله فهو باطل، وإن كان عبارة عن بعضه فهو مبطل لقولكم ((انظر منهاج السنة 3 / 105)) .
3-
إلزامهم أن يقولوا في الصفات ما قالوه في الكلام، وبالعكس، وذلك أنه إذا جاز أن يجعلوا الحقائق المتنوعة – كآية الدين، وآية الكرسي، وقصة موسى، وقصة نوح، والأمر بالصلاة، والأمر بالسبت، والنهي عن الزنا وعن الربا، والقرآن, والتوراة، والإنجيل – شيئاً واحداً، فيلزمهم أن يجوزوا أن يكون العلم, والقدرة, والكلام, والسمع, والبصر, والحياة, والإرادة، صفة واحدة، أو أن يقولوا في الكلام ما يقولونه في الصفات من أن العلم غير القدرة, والإرادة غير الحياة، وإن كانت صفات قائمة بالله تعالى.
وقد أسهب شيخ الإسلام في شرح هذا الإلزام, وبيَّن أنه لا محيد للأشاعرة عنه، وأن أئمتهم اعترفوا به ((انظر مجموع الفتاوى 12 / 122 - 123)).
وممن اعترف بذلك الآمدي، حيث قال بعد أن ذكر هذا الاعتراف – وهو الإلزام بالصفات – وذكر جواب أصحابه الأشاعرة عنه – قال معلقاً على جواب شيوخه: "وفيه نظر" ((انظر درء التعارض 4 / 118)) ، ثم قال: "والحقُّ أنَّ ما أوردوه من الإشكال على القول باتحاد الكلام, وعود الاختلاف إلى التعلقات والمتعلقات مشكل، وعسى أن يكون عند غيري حله، ولعسر جوابه فرَّ بعض أصحابنا إلى القول بأن كلام الله القائم بذاته خمس صفات مختلفة، وهي الأمر, والنهي, والخبر, والاستخبار, والنداء"
((انظر درء التعارض 4 / 119 وهو في أبكار الأفكار)) .
وقد علق شيخ الإسلام على كلام الآمدي بأن القول بأن الكلام خمس صفات, أو سبع, أو تسع, أو غير ذلك من العدد لا يزيل ما تقدم من الأمور الموجبة لتعدد الكلام
((انظر درء التعارض 4 / 119 وما بعدها)) . ولشيخ الإسلام مناقشات متنوعة لهذا الإلزام, وبيان تناقضهم من وجوه عديدة ((في أكثر من موضع في التسعينية مثل صـ 176 - 177 ومجموع الفتاوى 9 / 283)) . وقياسهم لوحدة الكلام بوحدة المتكلم مردود أيضاً من وجوه عديدة ((انظر التسعينية صـ 181 - 187)) .
4-
وهناك إلزام آخر لهم، وهو أنه يقال لهم ما يقولون هم لمن قال إن القرآن حروف وأصوات قديمة أزلية، وإن الباء ليست قبل السين، وهكذا، وقد نقل شيخ الإسلام نصًّا مهما للباقلاني من كتابه – (النقض) – ردَّ فيه على هؤلاء ((انظر التسعينية صـ 188)) ، ثم قال: "هذا بعينه وارد عليك فيما أثبته من المعاني، وهو المعنى القائم بالذات، فإن الذي نعلمه بالضرورة في الحروف نعلم نظيره بالضرورة في المعاني، فالمتكلم منا إذا تكلم ببسم الله الرحمن الرحيم، فهو بالضرورة ينطق بالاسم الأول لفظاً ومعنى، قبل الثاني، فيقال في هذه المعاني نظير ما قاله في الحروف..." ((انظر التسعينية صـ 188)).
ولشيخ الإسلام في (درء التعارض) مناقشة أخرى مماثلة، فإن من قال باجتماع المعاني يلزمه ما يلزم من قال باجتماع الحروف وعدم تعاقبها ((انظر درء التعارض 4 / 111 - 115)) .
5-
أن النصوص قد وردت بما يدل على تعدد الكلام, وبطلان قول من زعم أنَّه معنى واحد، ومنها:
أ -
الآيات الواردة بأن لله كلمات، ومنها قوله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ [الأنعام: 115] وقوله: مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ [لقمان: 27] وقوله: يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ [الأنفال: 7] وغيرها كثير جدًّا.
ب -
كما وردت أحاديث كثيرة، فيها الاستعاذة بكلمات الله التامات .
ج -
ومنها ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله جزأ القرآن ثلاثة أجزاء، فجعل قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ جزءاً من أجزاء القرآن)) ((رواه مسلم)) . فكيف يقال – مع هذه النصوص – إن كلام الله لا يكون إلا معنى واحداً؟ ((انظر التسعينية صـ 210 - 217))
6-
أن الأدلة دلت على أن القرآن بعضه أفضل من بعض وهذا أصح القولين لأهل السنة. وهذا يدل على أن كلام الله ليس معنى واحد. ولشيخ الإسلام مناقشات مطولة في هذا الموضوع ((درء التعارض 7 / 271 - 273)).
7-
ما في كلام هؤلاء من شبه بأقوال النصارى. وهذا يدل على بطلانه ((انظر التسعينية صـ 225 و 331)) .
8-
أن أئمة الاشاعرة اعترفوا بفساد قول ابن كلاب والأشعري في كلام الله، ومن هؤلاء: أبو حامد الإسفراييني، وأبو محمد الجويني، وأبو الحسن الكرجي، والعز بن عبدالسلام وغيرهم ((انظر التسعينية صـ 236 - 238)) ، والإسفراييني كانت له مواقف مشهورة في الإنكار على الباقلاني, وأقواله في كلام الله ((انظر التسعينية صـ 238 ودرء التعارض 2 / 95 - 99)) . وقد حاول الرازي أن يستدل لمذهب الأشاعرة في كلام الله, وأنَّه بمعنى واحد بصفة العلم, وأنَّ علم الله لا نهاية له وهو واحد، ولكن شيخ الإسلام ردَّ عليه من كلامه، وبين بطلان كلامه وتناقضه ((انظر التسعينية صـ 219 - 223)) .
جمهور الأشاعرة التزموا بأن كلام الله معنى واحد قديم، وذهب قليل منهم إلى أنه متعدد بتعدد الكلام ((انظر لباب العقول صـ 282)) ، وهذا القول الأخير اختاره المكلاتي.
أما الذين قالوا: إنه معنى واحد فقد انقسموا إلى ثلاث فرق:-
الأولى قالت:
إنه واحد وهو مع ذلك في الأزل أمرٌ, ونهيٌ, وخبرٌ، وهذا القول قاله إمام الحرمين, واختاره السعد ((شرح المقاصد للتفتازاني صـ 512)).
الثانية قالت:
إنه واحد وهو في الحقيقة راجع على الخبر، واختاره الرازي ((محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين للرازي صـ 185 ومعالم أصول الدين صـ 65)).
والثالثة قالت:
إنه واحد ولا قسمة فيه في الأزل – وإنما يصير أمراً, ونهياً, وخبراً, وفيما لا يزال ((انظر لباب العقول صـ 282)) .
أما قولهم: إن الكلام معنى واحد فقالوه فراراً من القول بالتعدد لأنه من صفات المحدثين لا الخالق. وهذا الذي قالوه حكم مجرد عن الدليل والبرهان، فإن في القرآن ما يدل صراحة على إثبات كلمات لله تعالى كقوله: قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [الكهف: 109]، فأثبت كلمات لله تعالى ((انظر الفصل لابن حزم 12 / 63)) ، إلا أنهم يجيبون عن ذلك بأن الكثرة راجعة إلى التعلقات لا إلى أصل الكلام، وهذا مصادرة للمطلوب, وإعراض عن ظاهر الكلام "إذ الأصل في الإطلاق الحقيقة" ((قاله الباجوري في تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد صـ 74)) كما خاصموا المعتزلة.
وهذا وقت الشروع في الردِّ على أقوالهم:
فقول من قال إنه معنى واحد وهو مع ذلك في الأزل أمر, ونهيٌّ, واستخبارٌ, قول متهافت, وفي غاية الضعف، إذ أنَّ الأقسام الماضية مختلفة في حدودها – فالأمر مثلاً: طلب الفعل, واقتضاؤه بالقول على وجه الاستعلاء ((انظر شرح اللمع للشيرازي 1 / 293)) ، وأما النهي: فهو طلب الترك واقتضاؤه بالقول على وجه الاستعلاء ((انظر شرح اللمع للشيرازي 1 / 293)) ، ومعلوم أن الخبر ليس فيه طلب, ولا اقتضاء ضرورة، فإذا كان الأمر كذلك استحال جعل تلك الأقسام شيئاً واحداً ((انظر لباب العقول صـ 282)).
وأما اختيار الرازي من أن الجميع راجع للخبر باعتبار أن الأمر في الأزل إخبار باستحقاق فاعله, الثواب وتاركه العقاب، والنهي، يكون بالعكس، فقول ساقط أيضاً إذ ما قاله هو لازم الأمر, ولازم النَّهي, وليس هو حقيقة الأمر, ولا حقيقة النَّهي ((انظر شرح المقاصد للتفتازاني 4 / 163)), فاستلزام الشيء للشيء ليس دليلاً على اتحادهما – وكذلك يقال له: إن الأصوليين ذكروا عن الخبر المجرد بقطع النظر عن قائله, كونه محتملاً للصدق والكذب ((انظر شرح الكوكب المنير 3 / 77))، ولم يذكروا ذلك في بقية أقسام الكلام فدل على تغايرها وأن القول باتحادها قلب للحقائق، ثم كذلك ما ردَّه من الأمر, والنَّهي إلى الخبر غير شامل لأمر الندب, والنهي التنزيهي، فالأول ليس فيه إخبار عن العقاب على تركه، والثاني ليس فيه إخبار عن العقاب على فعله، ثم إنه لم يتخلص من التعدد إلا إذا قال إن الكلام خبر واحد وليس أخباراً كثيرة! ((انظر حاشية عصام على شرح التفتازاني على النسفية صـ 294)).
وأما القول الثالث، وهو أن الكلام ليست له أقسام في الأزل، وإنما يصير أمراً, ونهياً, واستخباراً فيما لا يزال، فقول ساقط كذلك، إذ الكلام جنس، والجنس موجود بالقوة، أي أن وجوده كلي في الأذهان فقط، ولا يتحقق في الخارج إلا بأنواعه، والأشاعرة ممن يقول إن الجنس موجود في الأذهان فقط، فلزم على هذا أحد أمرين؛ إما أن يقولوا إنه غير متصف بالكلام أزلاً إذا اختاروا أن الأقسام كلها – الأمر, والنهي, والخبر, والاستخبار – تكون فيما لا يزال، لأن الجنس غير موجود بهذا الاعتبار, وإنما الموجود حقيقة أنواعه، أو يقولوا إن الكلام له أنواع, وإنه ليس معنى واحداً، وهذا الأمر لازم لهم ((انظر لباب العقول صـ 283)) .
ثم إن هؤلاء القائلين بأن كلام الله معنى واحد يلزمون بأشياء وهي:
الإلزام الأول:
هل سمع موسى عليه السلام كلَّ كلام الباري, أم سمع بعضه؟ وإليك هذه المحاورة التي دارت بين الإمام السجزي وأحد الأشاعرة فإنها كافية لإثبات هذا الإلزام:
قال له الإمام: "... ما تقول في موسى عليه السلام حيث كلمه الله؟ أفهم كلام الله مطلقاً أم مقيداً؟ فتلكأ قليلاً، ثم قال: ما تريد بهذا؟ فقلت: دع إرادتي، وأجب بما عندك، فأبى, وقال ما تريد بهذا؟ فقلت: أريد أنك إن قلت إنه عليه السلام فهم كلام الله مطلقاً، اقتضى أن لا يكون لله كلام من الأزل إلى الأبد, وقد فهمه موسى وهذا يؤول إلى الكفر، فإن الله تعالى يقول: وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء [البقرة: 255] ولو جاز ذلك لصار من فهم كلام الله عالماً بالغيب وبما في نفس الله تعالى، وقد نفى الله تعالى ذلك بما أخبر به عن عيسى عليه السلام أنه يقول: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ [المائدة: 116] ، وإذا لم ينجز إطلاقه, وألجئت إلى أن تقول أفهمه الله ما شاء من كلامه، دخلت في التبعيض الذي هربت منه، وكفرت من قال به، ويكون مخالفك أسعد منك، لأنه قال بما اقتضاه النص الوارد من قبل الله عز وجل, ومن قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت أبيت أن تقبل ذلك, وادعيت أن الواجب المصير إلى حكم العقل في هذا الباب، وقد ردك العقل إلى موافقة النص خاسئاً، فقال هذا يحتاج إلى تأمل وقطع الكلام" ((نقله شيخ الإسلام كاملا في درء تعارض النقل والعقل 20 / 90 - 91)). قلت: وإن قالوا: إن الله لم يسمعه كل كلامه, لأنه كان برفع الحجاب عن موسى عليه السلام، فيلزمهم أن يقولوا إن الله لم يكن متكلماً حقيقة – وهذا هو اللازم من قولهم لزوماً لا انفكاك لهم عنه.
الإلزام الثاني:
إذا كان الكلام واحداً واختلافه بحسب التعبير عنه فإن عبر عنه بالعربية كان قرآناً, وبالعبرية كان توراة وهكذا... يلزم منه اتحادهما معنى – ويظهر ذلك بالترجمة، وهذا خلاف المعلوم بالضرورة من دين الإسلام, ويكذبه الواقع، ويلزم كذلك في الكتاب الواحد كالقرآن أن تكون آياته متحدة المعنى، فآية الدين هي آية تحريم الزنا والخمر
– وهكذا – وهذا معلوم البطلان بالضرورة ((انظر درء تعارض النقل والعقل 4 / 112 - 113 وبدائع الفوائد لابن القيم 2 / 115)) .
الإلزام الثالث:
هو من أخطر الإلزامات التي يمكن إيرادها عليهم:
إذا كنتم تقولون عن أنواع الكلام راجعة إلى معنى واحد، وإن تنوعه بحسب تنوع متعلقاته لا بتنوعه في ذاته، فهلا قلتم ذلك في بقية الصفات – القدرة, والإرادة, والعلم, والسمع, والبصر – إنها كلها راجعة إلى صفة واحدة، وإن تنوعها بحسب تنوع متعلقاتها, لا أنها متنوعة في ذاتها، فهي لما تتعلق بالموجود إيجاداً تسمى قدرة، وبالموجود تخصيصاً: إرادة، وبكل معدوم وموجود انكشافاً: علماً، وبالموجودات إدراكاً: سمعاً أو بصراً؟ فيرجع الجمع إلى صفة واحدة. فإن لم تلتزموا هذا فالتزموا كذلك تنوع الكلام.
ثم إنه يقال لكم: إذا كان يمكن إرجاع كل تلك الصفات إلى صفة واحدة، فلم لا يجوز إرجاع ذلك كله إلى الذات من غير احتياج إلى الصفات؟ فيلزم الوقوع صراحة في مذهب المعتزلة. وعندما حكى الآمدي هذا الإشكال ذكر إجابات أصحابه فلم يرتضها وحاول أن يجيب ولكنه اعترف بعجزه، وأن ما أورد تشكيك وشبهات ((انظر غاية المرام في علم الكلام صـ 117 - 118)).
ثم إن الشهرستاني كذلك أورد هذا الإشكال واعترف بعدم إمكانية الإجابة عليه عقلاً حتى قال عن هذا الإيراد: ".. ثم هل تشترك هذه الحقائق, والخصائص في صفة واحدة أم في ذات واحدة؟ فتلك الطامة الكبرى على المتكلمين، حتى فر القاضي أبو بكر الباقلاني رضي الله عنه منها إلى السمع، وقد استعاذ بمعاذ, والتجأ إلى ملاذ, والله الموفق" ((انظر نهاية الإقدام في علم الكلام صـ 236 - 237)) ثم لم يعقب بشيء. ((انظر مثله في مجموع الفتاوى 6 / 522 - 523 و 9 / 283))
ولو فر حقيقة إلى السمع لوجد فيه أن الكلام صفة ذات وفعل لله تعالى، وذلك أن الكلام صفة ذاتية لله تعالى، وهو يتكلم متى شاء وبما شاء، فقد كلم رسلاً له من الملائكة والناس كلاماً سمعوه منه بصوته في هذه الدنيا، وصرح بالنداء في مواضع من كتابه كقوله: وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ [مريم: 52] ، ولوجد كذلك نداء الله تعالى لأهل الجنة إذا دخلوها، ولوجد تكليم الله تعالى للناس في الآخرة عند الحساب، ولوجد أكثر مما ذكر ((انظر ما ساقه البخاري من أدلة في كتاب التوحيد من صحيحه من باب 30 - 38 وانظر كذلك التوحيد لابن خزيمة 1 / 328 - 404)) ، ولا ينكره من اعتمد الكتاب والسنة في اعتقاده.
والمتأخرون من الأشاعرة يذكرون في كتبهم عشرين صفة وهي: صفة نفسية، وسبع صفات معاني, ومثلها معنوية, وخمس سلبية، فأما المعاني فقد تقدمت، ويعبرون عن ذلك كله بالواجب في حق الله. وأما المستحيل في حقه فأضداد ما مضى من العشرين صفة. ((انظر منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله لخالد عبد اللطيف 2 / 517))
يُـتبع بالجزء الأخير من الرد ...
Bookmarks