جزء في مقالات أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي :
تعريف أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي :
قال ابن رجب في كتابه ذيل طبقات الحنابلة :
علي بن عقيل بن محمد بن عقيل بن أحمد البغدادي : الظفري، المقرىء الفقيه، الأصولي، الواعظ المتكلم، أبو الوفاء، أحد الأئمة الأعلام، وشيحْ الإسلام: وُلد سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة في جمادى الآخرة. كذا نقله عنه ابن ناصر السلفي.
قال ابن الجوزي. ورأيتُه بخطّه.
ونقل عنه عَلي بن مسعود بن هبة الله البزار أنه قال: ولدت في جُمادى الأولى سنة إحدى وثلاثين، وتفقهت في سنة سبع وأربعين.
وذكر أبو محمد بن السمرقندي عنه: أنه وُلد سنة ثلاثين. والأول أصح. وحفظ القرآن. وقرأ بالروايات القرآن على أبي الفتح بن شيطا، وغيره.
وكان يقول: شيخي في القراءة: ابن شيطا. وفي النحو والأدب: أبو القاسم بن برهان. وفي الزهد: أبو بكر الدينوري، وأبو بكر بن زيدان، وأبو الحسين القزويني، ذكر جماعة غيرهم من الرجال والنساء. وفي آداب التصوف: أبو منصور صاحب الزيادة العطار، وأثنى عليه بالزهد والتخلق بأخلاق متقدمي الصوفية. وفي الحديث: ابن النوري، وأبو بكر بن بشران، والعشاري، والجوهري وغيرهم. وفي الشعر والترسل: ابن شبل، وابن الفضل. وفي الفرائض: أبو الفضل الهمذاني. وفي الوعظ: أبو طاهر بن العلاف صاحب ابن سمعون. وفي الأصول: أبو الوليد وأبو القاسم بن التبان. وفي الفقه: القاضي أبو يعلى المملوء عقلاً وزهدًا وورعًا. قرأت عليه سنة سبع وأربعين، ولم أخل بمجالسه وخلوته التي تتسع لحضوري، والمشي معه ماشيًا وفي ركابه إلى أن توفي. وحظيت من قربه بما لم يحْظ به أحد من أصحابه مع حداثة سني. والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، إمام الدنيا وزاهِدُها، وفارسُ المناظرة وواحدها. كان يُعَلمني المناظرة، وانتفعتُ بمصنَّفاته. وأبو نصر بن الصباغ، وأبو عبد الله الدامغاني، حضرت مجالس درسه ونظره. وقاضي القضاة الشامي انتفعت به غاية النفع، وأبو الفضل الهمذاني. وأكبرهم سنًا وأكثرهم فضلاً: أبو الطيب الطبريّ حظيتُ برؤيته، ومشيت في ركابه. وكانت صحبتي له حين انقطاعه عن التدريس والمناظرة، فحظيت بالجمال والبركة.
ومن مشايخي: أبو محمد التميمي. كان حسنة العالم، وماشطة بغداد.
ومنهم: أبو بكر الخطيب. كان حافظ وقته. وكان أصحابنا الحنابلة يريدون مني هجران جماعة من العلماء. وكان ذلك يحرمني علمًا نافعًا. وأقبل علي أبو منصور بن يوسف، فحظيتُ منه بأكبر حظوة. وقدمني على الفتاوى، مع حضور من هو أسن مني، وأجلسني في حلقة البرامكة، بجامع المنصور، لما مات شيخي سنة ثمان وخمسين. وقام بكل مؤونتي وتحملي، فقمتُ من الحلقة أتتبع حلق العلماء لتلقط الفوائد.
وأما أهل بيتي: فإن بيت أبي كلهم أرباب أقلام، وكتابة، وشعر، وآداب. وكان جدّي محمد بن عقيل كاتب حضرة بهاء الدولة. وهو المنشىء لرسالة عزل الطايع وتولية القادر ووالدي أنظر الناس وأحسنهم جزلاً وعلمًا. وبيت أبي بيت الزهري صاحب الكلام والدرس على مذهب أبي حنيفة.
وعانيتُ من الفقر والنسخ بالأجرة، مع عفة وتقى. ولا أزاحم فقيهًا في حلقة، ولا تطلب نفسي رتبة من رتب أهل العلم القاطعة لي عن الفائدة. وتقلبت عليَّ الدول فما أخذتني دولة سلطان ولا عامة عما أعتقده أنه الحق، فأوذيت من أصحابي حتى طلب الدم وأوذيت في دولة النظام بالطلب والحبس - فيا من خفت الكل لأجله، لا تخيب ظني فيك - وعصمني الله تعالى في عنفوان شبابي بأنواع من العصمة، وقصر محبتي على العلم وأهله، فما خالطتُ لعَّابًا قط، ولا عاشرتُ إلا أمثالي من طلبة العلم.
قال: والغالب على أحداث طائفة أصحاب أحمد العفة، وعلى مشايخهم الزهادة والنظافة. آخر كلامه.
والأذية التي ذكرها من أصحابه له، وطلبهم منه هجران جماعة من العلماء، نذكر بعض شرحها. وذلك:
أن أصحابنا كانوا ينقمون على ابن عقيل تردده إلى ابن الوليد، وابن التبان شيخي المعتزلة. وكان يقرأ عليهما في السر علم الكلام، ويظهر منه في بعض الأحيان نوع انحراف عن السنة، وتأول لبعض الصفات، ولم يزل فيه بعض ذلك إلى أن مات رحمه الله.
ففي سنة إحدى وستين اطلعوا له على كتب فيها شيء من تعظيم المعتزلة، والترحُّم على الحلاَّج وغير ذلك. ووقف على ذلك الشريف أبو جعفر وغيره، فاشتد ذلك عليهم، وطلبوا أذاه، فاختفى. ثم التجأ إلى دار السلطان، ولم يزل أمره في تخبيط إلى سنة خمس وستين، فحضر في أولها إلى الديوان، ومعه جماعة من الأصحاب، فاصطلحوا ولم يحضر الشريف أبو جعفر لأنه كان عاتبًا على ولاة الأمر بسبب إنكار منكر قد سبق ذكره في ترجمته.
فمضى ابن عقيل إلى بيت الشريف وصالحه وكتب خَطّه: يقول علي بن عقيل بن محمد: إني أبرأ إلى الله تعالى من مذاهب مبتدعة الاعتزال وغيره، ومن صحبة أربابه، وتعظيم أصحابه، والترحم على أسلافهم، والتكثر بأخلاقهم. وما كنت علّقته، ووُجد بخَطّي من مذاهبهم وضلالتهم فأنا تائب إلى الله تعالى من كتابته. ولا تَحل كتابته، ولا قراءته، ولا اعتقاده.
وإنني علقت مسألة في جملة ذلك. وإن قوماً قالوا: هو أجساد سود.
وقلت: الصحيح: ما سمعته من الشيخ أبي عليّ، وأنه قال: هو عَدمٌ ولا يسمى جسماً، ولا شيئًا أصلاً. واعتقدتُ أنا ذلك. وأنا تائب إلى الله تعالى منهم.
واعتقدتُ في الحلاج أنه من أهل الدين والزُّهد والكرامات. ونصرتُ ذلك في جزء عملته. وأنا تَائب إلى الله تعالى منه، وأنه قتل بإجماع علماء عصره، وأصابوا في ذلك، وأخطأ هو. ومع ذلك فإني أستغفر اللّه تعالى، وأتوب إليه من مخالطة المعتزلة، والمبتدعة، وغير ذلك، والترحم عليهم، والتعظيم لهم فإن ذلك كله حرام. ولا يحل لمسلم فعله لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " من عظَّم صاحب بدعة فقد أعان على هَدْمِ الإسلام " .
وقد كان الشريف أبو جعفر، ومن كان مَعه من الشيوخ، والأتباع، سادتي وإخواني - حرسهم الله تعالى - مصيبين في الإنكار عليَّ لما شاهدوه بخالي من الكتب التي أبرأ إلى الله تعالى منها، وأتحققُ أني كنتُ مخطئًا غير مصيب.
ومتى حفظ عليَّ ما ينافي هذا الخط وهذا الإقرار: فلإمام المسلمين مكافأتي على ذلك. وأشهدت الله وملائكته وأولي العلم، على ذلك غير مجبر، ولا مكرَه وباطني وظاهري - يعلم الله تعالى - في ذلك سواء. قال تعالى: " وَمنْ عَادَ فَيَنتقِمُ اللّهُ مِنْهُ، وَاللّهُ عَزِيز ذُو انْتِقَام " المائدة: 199.
وكتب يوم الأربعاء عاشر محرم سنة خمس وستين وأربعمائة.
وكانت كتابته قبل حضوره الديوان بيوم، فلما حضَر شَهِدَ عليه جماعة كثيرة من الشهود والعلماء.
قال ابن الجوزي: وأفتى ابن عقيل، ودرَسَ وناظر الفحول، واستفتى في الديوان في زمن القائم، في زمرة الكبار. وجمع علم الفروع والأصول وصنَّف فيها الكتب الكبار. وكان دائم التشاغل بالعلم، حتى أني رأيتُ بخطه: إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عُمري، حتى إذا تعطَّل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعةٍ، أعملتُ فكري في حال راحتي، وأنا مستطرح، فلا أنهض إلاَّ وقد خطر لي ما أسطره. وإني لأجدُ من حرصي على العلم. وأنا في عشر الثمانين أشدّ مما كنت أجدُه وأنا ابن عشرين سنة.
قال: وكان له الخاطر العاطر، والبحث كن الغامض والدقائق، وجعل كتابه المسمى ب " الفنون " مناطًا لخواطره وواقعاته. من تأمل واقعاته فيه عرف غور الرجل.
وتكلم على المنبر بلسان الوعظ مدة. فلما كانت سنة خمسٍ وسبعين وأربعمائة جرت فيها فتنٌ بين الحنابلة والأشاعرة فترك الوعظ واقتصر على التدريس. ومتعه الله تعالى بسمعه وبصره، وجميع جوارحه.
قال: وقرأت بخطه. قال: بلغتُ الاثنتي عشرة سنة، وأنا في سنة الثمانين وما أرى نقصًا في الخاطر والفكر والحفظ، وحدة النظر، وقوة البصر، لرؤية الأهلة الخفية، إلاّ أن القوة بالإضافة إلى قوة الشبيبة والكهولة ضعيفة.
قلتُ: وذكر ابن عقل، في فنونه: قال حنبلي - يعني نفسه - : أنا أقصرُ بغاية جهدي أوقات أكلي، حتى أختار سفّ الكعك وتحسيه بالماء على الخبزة لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ، توفرًا على مطالعة، أو تسطير فائدة، لم أدركها فيه.
قال ابن الجوزي: وكان ابن عقيل قوي الدين، حافظًا للحدود. وتوفي له ولدان، فظهر منه من الصبر ما يتعجب منه. وكان كريمًا ينفق ما يجد، ولم يخلف سوى كتبه وثياب بدنه. وكانت بمقدار كفنه، وقضاء دينه.
وقال ابن عقيل: قدم علينا أبو المعالي الجويني بغداد، أول ما دخل الغزالي فتكلم مع أبي إسحاق، وأبي نصر الصباغ، وسمعتُ كلامه. ثم ذكر عنه مسألة العلم بالأعراض المشهورة عنه، وبالغ في الرد عليه.
ولما ورد الغزالي بغداد، ودرس بالنظامية، حضَره ابن عقيل، وأبو الخطاب، وغيرهُما. وكان ابن عقيل كثير المناظرة للكيا الهراسي. وكان الكيا ينشده في المناظرة:
ارفق بعبدك إنَّ فيه فهاهة ... جبلية ولك العراق وماؤها
قال السلفي: ما رأت عيناي مثل الشيخ أبي الوفاء بن عقيل ما كان أحد يقدر أن يتكلم معه لغزارة علمه، وحسن إيراده، وبلاغة كلامه، وقوة حجته. ولقد تكلم يومًا مع شيخنا أبي الحسن الكيا الهرّاسي في مسألة، فقال شيخنا: هذا ليس بمذهبك. فقال: أنا لي اجتهادٌ، متى ما طالبني خصمي بحجة كان عندي ما أدفع به عن نفسي، وأقوم له بحجتي، فقال له شيخنا: كذلك الظنُّ بك.
وذكر ابن النجار في تاريخه: أن ابن عقيل قرأ الفقه على القاضي أبي يعلى، وعلى أبي محمد التميمي، وقرأ الأصول والخلاف على القاضي أبي الطيّب الطبري، وأبي نصر بن الصباغ، وقاضي القضاة أبي عبد الله الدامغاني.
وكان ابن عقيل رحمه الله عظيم الحرمة، وافر الجلالة عند الخلفاء والملوك.
وكان شهمًا مقدامًا، يُواجه الأكابر بالإنكار بلفظه، وخطه، حتى إنه أرسل مرة إلى حماد الدباس، مع شهرته بالزهد والمكاشفات، وعكوف العامة عليه، يتهدده في أمر كان يفعله ويقول له: إن عدتَ إلى هذا ضربتُ عنقك.
وكتبَ مرة إلى الوزير عميد الدولة ابن جهير لما بنى سور بغداد، وأظهر العوام، في الاشتغال ببنائه المنكرات.
لولا اعتقاد صحة البعث، وأن لنا دارًا أكون فيها على حال أحمدها، لما نصبت نفسي إلى مالك عصري، وعلى الله أعتمد في جميع ما أورده، بعد أن أشهده: أني محبٌ متعصبٌ. لكن إذا تقابل دين محمد ودولة بني جهير، فوالله ما أردت هذه بهذه، ولو كنت كذلك كنت كافرًا. فقلت: إن هذا الخرق الذي جرى بالشريعة لمناصبة واضعها. فما بالنا نعقد الختمات ورواية الأحاديث؟ فإذا نزلت بنا الحوادث تقدمنا بجميع الختمات، والدعاء عقيبها، ثم بعد ذلك طبول وصَواني، ومخانيث، وخيال، وكشف عورات الرجال مع حضور النساء، إسقاطًا لحكم اللّه تعالى.
وما عندي يا شرف الدين، أن تقوم بسخطة من سخطات الله تعالى. ترى بأي وَجهٍ تلقى محمدًا صلى الله عليه وسلم بل لو رأيته في المنام مقطبًا كان ذلك يزعجك في يقظتك. وأيّ حرمةٍ تبقى لوجوهنا وأيدينا وألسنتنا عند الله، إذا وضعنا الجباه ساجدة له ثم كيف تطالب الأجناد بتقبيل عتبة، ولثم ترابها، وتقيم الحدّ في دهليز الحريم، صباحًا ومساءً، على قدح نبيذٍ مختلف فيه، ثم تمرح العوام في المسكر المجمع على تحريمه؟ هذا مضاف إلى الزنا الظاهر بباب بدر، ولبس الحرير على جميع المتعلقين والأصحاب.
يا شرف الدين، اتق سخط الله تعالى فإن سخطه لا يقاومه سماء ولا أرض وإن فسدت حالي بما قلتُ فلَعَلَّ اللّهَ يلطف بي، ويكفيني هوائج الطباع. ثم لا تلمنا على ملازمة البيوت، والاختفاء عن العوام لأنهم إن سألونا لم نقل إلاّ ما يقتضي الإعظام لهذه القبائح، والإنكار لها، والنياحة على الشريعة. أترى لو جاءت معتبة من الله سبحانه في منام أو على لسان نبي - لو كان للوحي نزول - أو ألقى إلى روع مسلم بإلهام: هل كانت إلا إليك. فاتق اللّه تقوى من علم بمقدار سخطه، فقد قال: " فَلَمَّا آسَفُونا انتقَمْنَا مِنْهُم " الزخرف: 56، وقد ملأتكم في عيونكم مدائح الشراء ومداجاة المتمولين بدولتكم، الأغنياء الأغبياء، الذين خسروا الله فيكم، فحسنوا لكم طرائقكم. والعاقل من عرف نفسه، ولا يغره مدح من لا يخبرها.
وكتب ابن عقيل إلى السلطان جلال الدولة " ملكشاه " وقد كانت الباطنية أفسدوا عقيدته، ودَعوه إلى إنكار الصانع:
أيُّها الملك، اعلم أن هؤلاء العوام والجهال يطلبون الله من طريق الحواس، فإذا فَقدوه جحَدوه. وهذا لا يحسن بأرباب العقول الصحيحة. وذلك أن لنا موجودات ما نالها الحس ولم يجحدها العقل ولا يمكننا جحدها لقيام العقل على إثباتها.
فإن قال لك أحد من هؤلاء: لا تثبت إلا ما ترى. فمن ههنا دَخل الإلحادُ على جُهّال العوام، الذين يستثقلون الأمر والنهي، وهم يرون أن لنا هذه الأجساد الطويلة العميقة، التي تنمى ولا تفسد، وتقبل الأغذية وتصدر عنها الأعمال المحكمة، كالطب، والهندسة فعَلِموا أن ذلك صادر عن أمرٍ وراء هذه الأجساد المستحيلة وهو الروح والعقل، فإذا سألناهم: هل أدركتم هذين الأمرين بشيء من إحساسكم قالوا: لا، لكننا أدركناهُما من طريق الاستدلال بما صَدر عنهما من التأثيرات قلنا: فما لكم جحدتم الإله، حيث فقدتموه حسًا، مع ما صدر عنه من إنشاء الرياح والنجوم، وإدارة الأفلاك، وإنبات الزرع، وتقليب الأزمنة وكما أن لهذا الجسد عقلاً وروحًا بهما قوامه لا يحركهما الحس، لكن شهدت بهما أدِلةُ العقل من حيث الآثار، كذلك الله سبحانه - وله المثل الأعلى - ثبت بالعقل، لمشاهدة الإحساس من آثار صنائعه، وإتقان أفعاله.
وأرسل هذا الفصل إلى السلطان مع بعض خواصه. قال: فحكى لي أنه أعادهُ عليه فاستحسنه، وهش إليه، ولعن أولئك، وكشف إليه ما يقولون له.
وكتب ابن عقيل أيضَا مرة إلى أبي شجاع، وزير الخليفة المقتدي. كان ديناً كثير التعبد، لكن كانت به وسوسة في عباداته: أما بعد، فإن أجل تحصيل عند العقلاء، بإجماع العلماء: الوقتُ، فهو غنيمة تنتهز فيها الفرص. فالتكاليف كثيرة، والآداب خاطفة. وأقلّ متَعَبدٍ به الماء. ومن اطلع على أسرار الشريعة علم قدر التخفيف.
فمن ذلك قوله: " صُبوا على بول الأعرابي ذنوبًا من الماء " .
وقوله في المني: " أمطه عنك " .
وقوله في الخف: " طهوره أن تدلكه بالأرض " . وفي ذيل المرأة: " يطهره ما بعده " .
وقوله: " يغسل بول الجارية، وينضح بول الغلام " . و " كان يحمل بنت أبي العاص في الصلاة " .
ونهى الراعي في إعلام السائل عن الماء وما يرده، وقال: " يا صاحب الميزاب لا تخبره " ، فإن خطر بالبال نوعُ احتياط في الطهارة، كالاحتياط في غيرها في مراعاة الإطالة، وغيبوبة الشمس، والزكاة، فإنه يفوتُ من الأعمال ما لا يفي به الاحتياط في الماء، الذي أصله الطهارة.
وقد صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعرابي وركب الحمار وما عرف من خلقه التعبد بكثرة الماء. وقد توضأ من سقاية المسجد. ومعلوم حال الأعراب الذين بان من أحدهم الإقدام على البول في المسجد. وتوضأ من جرة نصرانية وما احترز تعليمًا لنا وتشريعًا. وأعلمنا أن الماء أصله الطهارة. وتوضأ من غدير كان ماؤه نقاعة الحناء.
فأما قوله: " تنزهوا من البول " فإن للتنزه حدًا معلومًا. فأما الاستشعار: فإنه إذا نما وانقطع الوقت، ولا يقتضي مثله الشرع.
وكتب ابن عقيل غير مَرّة إلى قاضي القضاة أبي الحسن بن الدامغاني رسائل تتضمن توبيخه على تقصير وقع منه في حقّه. وفيها كلام خشن وعتاب غليظ.
ولما دخل السلطان جلال الدولة إلى بغداد، ومعه وزيره نظام الملك، سنة أربع وثمانين، قال النظام: أريدُ أن أستدعي بهم، وأسألهم عن مذهبهم، فقد قيل: إنهم مجسمة - يعني: الحنابلة.
قال ابن عقيل: فأحببتُ أن أصوغ لهم كلامًا يجوز أن بقال إذًا، فقلت: ينبغي لهؤلاء الجماعة أن يُسألوا عن صاحبنا؟ فإذا أجمعوا على حفظه لأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله، إلا ما كان للرأي فيه مدخل من الحوادث الفقهية، فنحن على مذهب ذلك الرجل الذي أجمعوا على تعديله، على أنهم على مَذهب قومٍ أجمعنا على سلامتهم من البدعة. فإن وافقوا على أننا على مذهبه فقد أجمعوا على سلامتنا معه؟ لأن متبع السليم سليم. وإن ادّعوا علينا أنّا تركنا مذهبه، وتمذهبنا بما يخالف الفقهاء، فليذكروا ذلك ليكون الجواب بحسبه. وإن قالوا: أحمد ما شبَّه وأنتم ما شبَّهتم، قلنا: الشافعي لم يكن أشعريًّا، وأنتم أشعرية. فإن كان مكذوبًا عليكم فقد كذب علينا. ونحن نفزع من التأويل مع نفي التشبيه، فلا يُعَاب علينا إلا ترك الخوض والبحث وليس بطريقة السلف. ثم ما يريد الطاعنون علينا، ونحن لا نزاحمهم على طلب الدنيا.
وفي هذه السنة المذكور: توفي أبو طاهر بن علك. وكان من صدر الشافعية، وأكابر المتمولين. فشيّعه نظام الملك وأرباب الدولة. ودفن بتربة أبي إسحاق الشيرازي، وجاء السلطان إلى القبر بعد دفنه.
قال ابن عقيل: جلستُ إلى جانب نظام الملك، بتربة أبي إسحاق، والملوك قيامٌ بين يديه، واجترأتُ على ذلك بالعلم. وكان جالسًا للتعزية بابن علك. ولما بويع المستظهر حضر ابن عقيل مع الغزالي والشاشي للمبايعة. فلما توفي المستظهر غسله ابن عقيل مع الشيبي.
قال ابن عقيل: ولما تولد المسترشد تلقاني من المستخدمين يقول كل واحد منهم: قد طلبك مولانا أمير المؤمنين. فلما صرت بالحضرة، وقال لي قاضي القضاة - وهو قائم بين يديه - : طلبك مولانا أمير المؤمنين ثلاث مرات، فقلت: ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس. ثم مددتُ يدي فبسط لي يده الشريفة، فصافحته بعد السلام، وبايعتُ، فقلتُ: أبايعُ سيّدنا ومولانا أميرَ المؤمنين المسترشد باللّه على كتاب اللّه وسنة رسوله، وسنّة الخلفاء الراشدين، ما أطاق واستطاع، وعلى الطاعة مني.
وكان ابن عقيل رحمه الله من أفاضل العالم، وأذكياء بني آدم، مفرط الذكاء، متسع الدائرة في العلوم. وكان خبيرًا بالكلام، مطلعًا على مذاهب المتكلمين. وله بعد ذلك في ذم الكلام وأهله شيء كثير، كما ذكر ابن الجوزي وغيره عنه أنه قال: أنا أقطع أن الصحابة ماتوا، ما عرفوا الجوهر والعَرض. فإن رضيتَ أن تكون مثلهم فكن، وإنْ رأيتَ أنَّ طريقة المتكلمين أولى من طريقة أبي بكر وعمر، فبئس ما رأيتَ.
وذُكر عنه أنه قال: لقد بالغتُ في الأصول طول عمري، ثم عدتُ القهقرى إلى مذهب المكتب.
وقد حكى هذا عنه القرطبي في شرح مسلم. وله من الكلام في السنة والانتصار لها، والرد على المتكلمين شيء كثير. وقد صنّف في ذلك مصنفًا.
وقرأتُ بخط الحافظ أبي محمد البرزالي قال: قرأتُ بخط الحافظ ضياء الدين المقدسي، قال: كتب بعضُهم إلى أبي الوفاء بن عقيل يقول له: صِف لي أصحابَ الإمام أحمد على ما عرفتمن الإنصاف.
فكتب إليه يقول: هُم قوْم خُشُنٌ ، تقَلّصتْ أخلاقهم عن المخالطة، وغلظت طباعهم عن المداخلة، وغلب عليهم الجدّ، وقلَّ عندهم الهزل، وغربتْ نفوسهم عن ذل المراءاة، وفزعوا عن الآراء إلى الروايات، وتمسكوا بالظاهر تحرّجًا عن التأويل، وغلبت عليهم الأعمال الصالحة، فلم يدققوا في العلوم الغامضة، بل دققوا في الورع، وأخذوا ما ظهر من العلوم، وما وراء ذلك قالوا: الله أعلم بما فيها، من خشية باريها. لم أحفظ على أحد منهم تشبيهًا، إنما غلبت عليهم الشناعة لإيمانهم بظواهر الآي والأخبار، من غير تأويل ولا إنكار. والله يعلم أنني لا أعتقد في الإسلام طائفة محقة، خالية من البدع، سوى من سلك هذا الطريق. والسلام.
وكان رحمه اللّه بارعًا في الفقه وأصوله. - وله في ذلك استنباطات عظيمة حسنة، وتحريرات كثيرة مستحسنة. وكانت له يد طولى في الوعظ، والمعارف. وكلامه في ذلك حسن، وأكثره مستنبطٌ من النصوص الشرعية، فيستنبط من أحكام الشرع وفضائله معارف جليلة وإشارات دقيقة.
ومن معاني كلامه يستمدّ أبو الفرج بن الجوزي في الوعظ.
فمن ذلك ما قاله في الفنون: لقد عظم الله سبحانه الحيوان، لا سيما ابن آدم، حيث أباحه الشرك عند الإكراه، وخوف الضرر على نفسه، فقال: " إلاَّ مَنْ أكْرهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان " النحل: 106.
من قدَّم حرمة نفسك على حرمته، حتى أباحك أن تتوقى وتحامي عن نفسك بذكره بما لا ينبغي له سبحانه، لحقيق أن تعظم شعائره، وتقر أوامره، وزواجره.
وعصم عرضك بإيجاب الحدّ بقذفك، وعَصَم مالك بقطع مسلم في سرقته، وأسقط شطر الصلاة لأجل مشقتك، وأقام مسح الخف مقام غسل الرجل إشفاقًا عليك من مشقة الخلع واللبس، وأباحك الميتة سدًّا لرمقك، وحفظًا لصحتك، وزجرك عن مضارك بحد عاجلٍ، ووعيد آجل، وَخَرق العوائد لأجلك، أنزل الكتب إليك. أيحسن بك - مع هذا الإكرام - أن تُرى على ما نهاك منهمكًا، وعما أمرك متنكبًا، وعن داعيه معرضًا، ولسنته هاجرًا، ولداعي عدوك فيه مطيعًا؟ يعظمك وهُوَ هُو، وتهمل أمره وأنت أنت. هو حط رتب عباده لأجلك، وأهبط إلى الأرض من امتنع من سجدة يسجُدها لك.
هل عاديتَ خادمًا طالتْ خدمته لك لترك صلاة. هل نفيته من دارك للإخلال بفرض، أو لارتكاب نهي. فإن لم تعترف العبيد للموالي، فلا أقل من أن تقتضي نفسك للحق سبحانهُ، اقتضاء المساوي المكافي.
ما أوحش ما تلاعب الشيطان بالإنسان بينا يكون بحضرة الحق، وملائكةُ السماء سجودٌ له، تترامى به الأحوال والجهالات بالمبدأ والمآل، إلى أن يوجد ساجدًا لصورة في حجر، أو لشجرة من الشجر، أو لشمسٍ أو لقمر، أو لصورة ثور خار، أو لطائر صفرة ما أوحش زوال النعم، وتغيّر الأحوال، والجَوْرَ بعد الكور!.
لا يليق بهذا الحي الكريم الفاضل على جميع الحيوان أن يُرى إلا عابدًا للّه في دار التكليف، أو مجاورًا لله في دار الجزاء والتشريف. وما بين ذلك فهو واضع نفسه في غير مواضعها.
ومن كلامه في تقرير البعث والمعاد: واللّه لا أقنع من الله سبحانه بهذه اللمحة التي مزجت بالعلاقم، ولا أقنع من الأبدي السَّرمدي ولا يليق بذا الكرم إلا إدامة النعم. والله ما لوّح إلا وقد أعدّ ما تخافه الآمال. وما قدح أحدٌ في كمال جود الخالق وإنعامه بأكثر من جحده البعث مع تشريف النفوس، وتعليق القلوب بالإعادة، والجزاء على الأعمال الشاقة، التي هجر القوم فيها اللذات، فصبروا على البلاءة طمعًا في العطاء.
قال: ويَدُلُّ على أنّ لنا إعادةً تتضمن بقاءً دائمًا، وعيشًا سالمًا: أن أصح الدلالة قد دلّت على كمال البارىء سبحانه وتعالى، وخروجه عن النقائص. وقد استقرينا أفعالَه، فرأيناهُ قد أعدّ كل شيء لشيء. فالسمعُ للمسموعات، والعين للمبصرات، والأسنان للطحن، والمنخران للشمّ، والمعدة لطبخ الطعام. وقد بقي للنفس غرض قد عجن في طينها: وهو البقاء بغير انقطاع، وبلوغ الأغراض من غير أذى. وقد عدمت النفس ذلك في الدنيا. ثم إنا نرى طالما لم يقابل ولا تقتضي الحكمة لذلك. فينبغي أن يكون لها ذلك في دار أخرى.
قال: ولأنظر إلى صُورة البلى في القبور، فكم من بداية خالفتها النهاية. فإن بداية الآدمي والطير ماء مُسَخَّن مستقذَرٌ ، ومبادي النبات حَبٌّ عَفِن، ثم يخرج الآدمي والطاوس. وكذلك خروجُ الموتى بعد البلى.
قال: وبينا أنا نائم سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة، لاحت لي مقبرة، وكأن قائلاً يقول: هذه خيم البلى، على باب الرجاء وعلى الوفاء. قال: وهذا الإلقاء من الله تعالى لكثرة لهجي بالبعث، وتشوفي إلى الاجتماع بالسلف النطاف، وتبرمي من مخالطة السفساف.
وكان ابن عقيل يقول: لا يعظم عندكَ بَذْلُك نفسك في ذاتِ الله فهي التي بذلتها بالأمس في حب مغنية، وهوى أمرد، وخاطرتَ بها في الأسفار لأجل زيادة الدنيا. فلما جئت إلى طاعة الله تعالى عظمت ما بذلتَه، والله ما يحسن بذل النفس إلا لمن إذا أباد أعاد، وإذا أعاد أفاد، وإذا أفاد خلد فائدته على الآباد. وذاك الله الذي يحسن فيه بذل النفوس، وإبانة الرءوس. أليس هو القائل: " وَلاَ تَحْسَبَن الذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أمْوَاتًا " آل عمران: 170.
سَمع ابن عقيل الحديث الكثير من أبي بكر بن بشران، وأبي الفتح بن شيطا، وأبي الحسن التوزي، وأبي محمد الجوهري، وأبي طالب العشاري، والقاضي أبي يعلى، وأبي على المباركي، وغيرهم.
وحدث، وروى عنه ابن ناصر، وعمر بن ظفر المغازلي، وأبو المعمر الأنصاري، وأبو الرضى الفارسي وأبو القاسم الناصحي وأبو المظفر السَّنجيّ وأبو الفتح محمد بن يحيى البرداني، وغيرهم. وأجاز لأبي سعد بن السمعاني الحافظ، وعبد الحق اليوسفي، ويحيى بن بوش.
أنبأتنا زينب بنت أحمد بن عبد الرحيم عن علي بن عبد اللطيف الدينوري، عن أبي الحسين بن عبد الحق بن عبد الخالق، أخبرنا أبو الوفاء علي بن عقيل الإمام، أخبرنا أبو طالب محمد بن علي بن الفتح، أخبرنا محمود بن عمر العكبري، أخبرنا أبو بكر بن محب إجازة، حدثنا أبو حفص الجوهري، حدثنا أبو أحمد بن محمد بن جعفر، حدثنا أحمد بن محمد الأنماطي - الذي كان ينزل سامرَّا - أخبرنا أحمد بن نصر قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت: يا رسول الله مَنْ تركت لنا في عصرنا هذا ممن يُقتدى به. قال: عليكم بأحمد بن حنبل.
ولابن عقيل تصانيف كثيرة في أنواع العلم.
وأكبر تصانيفه: كتاب " الفنون " وهو كتاب كبير جدًا، فيه فوائد كثيرة جليلة، في الوعظ، والتفسير، والفقه، والأصلين، والنحو، واللغة، والشعر، والتاريخ، والحكايات. وفيه مناظراته ومجالسه التي وقعت له، وخواطره ونتائج فكره قَيَّدَها فيه.
وقال ابن الجوزي: وهذا الكتاب مائتا مجلد. وقع لي منه نحو من مائة وخمسين مجلدة.
وقال عبد الرزاق الرسعني في تفسيره. قال لي أبو البقاء اللغوي: سمعتُ الشيخ أبا حكيم النهرواني يقول: وقفتُ على السَّفر الرابع بعد الثلاثمائة من كتاب الفنون.
وقال الحافظ الذهبي في تاريخه: لم يُصنف في الدنيا أكبر من هذا الكتاب. حدثني من رأى منه المجلد الفلاني بعد الأربعمائة.
قلتُ: وأخبرني أبو حفص عمر بن علي القزويني ببغداد، قال: سمعتُ بعض مشايخنا يقول: هو ثمانمائة مجلدة.
وله في الفقه كتاب " الفصول " ، ويُسمى " كفاية المفتي " في عشر مجلدات، كتاب " عمدة الأدلة " ، كتاب " المفردات " ، كتاب " المجالس النظريات " ، كتاب " التذكرة " مجلد، كتابُ " الإشارة " مجلد لطيف، وهو مختصر كتاب " الروايتين والوجهين " ، كتاب " المنثور " .
وفي الأصلين كتاب " الإرشاد في أصول الدين " ، وكتاب " الواضح في أصول الفقه " ، و " الانتصار لأهل الحديث " ، مجلد، " نفي التشبيه " ، " مسألة في الحرف والصوت " ، جزء، " مسائل مشكلة في آيات من القرآن " وأحاديث سُئل عنها فأجاب. وله كتاب " تهذيب النفس " ، " تفضيل العبادات على نعيم الجنات " .
وكان ابن عقيل كثير التعظيم للإمام أحمد وأصحابه، والرد على مخالفيهم.
ومن كلامه في ذلك: ومن عجيب ما نسمعه من هؤلاء الأحداث الجهال أنهم يقولون: أحمد ليس بفقيه، لكنه مُحَدِّث. وهذا غاية الجهل لأنه قد خرج عنه اختيارات بناها على الأحاديث بناء لا يعرفه أكثرهم. وخرج عنه من دقيق الفقه ما لا تراه لأحد منهم. وذكر مسائل من كلام أحمد، ثم قال: وما يقصد هذا إلا مبتدع، قد تمزق فؤاده من خمود كلمته، وانتشار علم أحمد، حتى إن أكثر العلماء يقولون: أصلي أصلُ أحمد، وفرعي فرع فلان. فحسبك بمن يرضى به في الأصول قدوة.
وكان يقول: هذا المذهب إنما ظلمه أصحابه لأن أصحاب أبي حنيفة والشافعي إذا برع واحد منهم في العلم تولى القضاء وغيره من الولايات. فكانت الولاية لتدريسه واشتغاله بالعلم. فأما أصحاب أحمد: فإنه قل فيهم من تعلق بطرفٍ من العلم إلا ويخرجه ذلك إلى التعبد والتزهد لغلبة الخير على القوم، فينقطعون عن التشاغل بالعلم.
وكان مع ذلك يتكلم كثيرًا بلسان الاجتهاد والترجيح، واتباع الدليل الذي يظهر له ويقول: الواجب اتباع الدليل، لا اتباع أحمد.
وكان يخونه قلة بضاعته في الحديث. فلو كان متضلعًا من الحديث والآثار، ومتوسعًا في علومهما لكملتْ له أدوات الاجتهاد.
وكان اجتماعه بأبي بكر الخطيب، ومن كان في وقته من أئمة الحفاظ، كأبي نصر بن ماكولا، والحميدي، وغيرهم أولى وأنفع له من الاجتماع بابن الوليد وابن التبان. وتركه لمجالسة مثل هؤلاء هو الذي حرمه علمًا نافعًا في الحقيقة. ولكن الكمال لله.
وله مسائل كثيرة ينفرد بها، ويخالف فيها المذهب. وقد يخالفه في بعض تصانيفه، ويوافقه في بعضها، فإن نظره كثيرًا يختلف، واجتهاده يتنوع.
وكان يقول: عندي أن من أكبر فضائل المجتهد: أن يتردد في الحكم عند تردد الحجة والشبهة فيه. وإذا وقف على أحد المترددين دلّه على أنه ما عرف الشبهة، ومن لا تعترضه شبهة لا تصفو لي حجة. وكل قلب لا يقرعه التردد، فإنما يظهر فيه التقليد والجمود على ما يقال له ويسمع من غيره.
فمن المسائل التي تفرَّد بها: أن النساء لا يجوز لهن استعمال الحرير في اللبس دون الافتراش والاستناد. ذكره في الفنون.
ومنها: أن صلاة الغد تصح في صلاة الجنازة خاصة. وهو معروف عنه.
ومنها: أن الربا لا يجري إلاّ في الأعيان الستة المنصوص عليها. ذكره في نظرياته.
ومنها: أن الوقف لا يجوز بيعه، وإن خرِب وتعطل نفعه. وله في ذلك كلام في جزء مفرد.
ومنها: أن الأب ليس له أن يتملك من مال ولده ما شاء، مع عدم حاجته ذكره في الفصول في كتاب النكاح.
ومنها: أن المشروع في عطية الأولاد: التسوية بين الذكور والإناث. ذكره في الفنون.
ومنها: أنه يجوز استئجار الشجر المثمر تبعًا للأرض لمشقة التفريق بينهما. حكاه عنه الشيخ تقي الدين بن تيمية.
ومنها: أنه لا يجوز أن يؤخذ العشر من تجار أهل الحرب ولا أهل الذمة، إذا اتجروا في بلاد الإسلام، إلا بشرطٍ أو تراضٍ. ذكره في فنونه.
وقد حكى القاضي في شرحه الصغير رواية عن أحمد كذلك. ذكرها ابن تميم لكنها غريبة جدًا.
ومنها: إذا حلف على فعل يتعلق بعين معينة، فتغيرت صفاتها بما يزيل اسمها: لم يتعلق الحنثُ بها على هذه الحال مطلقًا.
ومنها: أنه لا يجوز وَطء المكاتبة، وإن اشترط وطأها في عقد الكتابة. وحكاه في مفرداته رواية.
ومنها: أنه لا زكاة في حليّ المواشط المعد للكراء. ذكره في " عمدة الأدلة " وخرج من قول الأصحاب بالوجوب وجهًا يوجب الزكاة في سائر ما يعد للكراء من الأملاك، من عقارٍ وغيره.
ومنها: أن الزروع والثمار التي تسقى بماء نجسِ طاهرة مُباحة، وإن لم تسقَ بعده بماء طاهر.
ومنها: أن الزوجة إذا كانت نِضوة الخُلق لا يُمكن وطأها إلا بجناية عليها: فإنه يملك فسخ نكاحها بذلك.
ومنها: أن الإمام لا يمتنع من الصلاة على الغالّ، ولا على من قتل نفسه، وأن امتناع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليهما كان من خصائصه.
ومنها: تحريم الاستمناء بكل حال. وحكاه رواية.
ومنها: أنه يجب الحد بقذف العبد العفيف كالحرّ. ذكره في مفرداته.
ومن المسائل الغريبة التي ذكرها ابن عقيل: مسألة في الحامل والمرضع إذا أفطرتا خوفًا على ولديهما: فهل تكون الكفارة على الأم من مالها، أو بينها وبين من تلزمه نفقته. ذكر في الفنون: فيها احتمال.
قال: والأشبه أنه على الأم لأنها هي المرتفقة بالإفطار لاستضرارها، وتغير لبنها، والولد تبع لها.
قال: ولأنه لو كان الطفل معتبرًا في إيجاب التكفير لكان على كل واحدٍ منهما كفارة تامة، كالجماع في رمضان، وكالمشتركين في قتل الصيد، على أصح الروايتين.
قلتُ: وهذا ضعيف فإن المشتركين في الجماع كل منهما أفسد صومه والمشتركين في القتل كل منهما جنى على إجرامه، فهما متساويان في الجناية، بخلاف الطفل والأم ههنا.
وذكر أيضًا في الفنون: قال: سأل سائل عن قائل قال: والله لا رددت سائلاً - أو قال: للّه عليّ لا رددت سائلاً - وليس يتسع حاله لذلك، وإن اعتمد ذلك لم يبقَ له وقت لعمل ولا لتجارة، ولو كان له مال يفي، فكيف ولا مال يفي، ولا وقت يتسع لذلك مع كثرة السؤال؟ فأجاب حنبلي: بأن هذا قياس قولنا فيمن نفر أن يتصدق بجميع ماله: فإنه في اليمين مخيّر بين الثلث، وكفارة يمين. وفي النذر: يلزمه أن يتصدق بثلث ماله، فيجب أن يتصدق بثلث ما يتحصل له، مما يزيد على حاجته. وإن لم يتحصل له ما يحتاج إليه: لم يدخل تحت نذره لزومُه التصدق به، ويكفر كفارة يمين.
قال قائل: يشتري بُرًّا أو حَبَّ رُمان، ويُعطي كل سائل حبة من ذلك؟ قال له الحنبلي: هذا لا يجيء على أصلنا لأنا نعتبر المقاصد في الأيمان والنذور، والقصد: أن لا يردّ سائلاً عن سؤاله. وحبة رمان وحبة بر ليست سؤال السائل، فإعطاؤه كردِّه.
وقال حنبلي: يحتمل أن يصح خروجه من نذره بِبَرّة بُرّ أنَّا قد علّقنا حكم الربا على برة ببرتين. وما علق عليه الشرع مأثمًا، فأحرى أن يعلق عليه ما يحصل به الثواب.
وقول عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: " اتَّقُوا النارَ وَلَوْ بِشقّ تَمرَة " يعضد القول بالتصدق بالبرَّة.
وقال حنبلي آخر: بل إذا لم يجد شيئًا أصلاً وَعَدَ، فكانت العِدة مخلصة له من الردّ. فإن الردَّ لا يتحقق مع العِدة. ألا ترى أن من وَعَد بزكاة ماله للساعي لا يستحق القتال، ولا التغرير، ولا يأثم؟ ولا يقال: إنه ردَّ الساعي ولا المطالب بدينه، ولا الفقير. وللحديث الذي جاء: " العِدَةُ دَيْنٌ " وهذه العدة نافعة في منع الحنث، من حيث إنها لا تقف مع العزم على الإعطاء على التوفية، بل من وعد فعزم أنه متى حصل له مال أعطى السائل ما سأله فما ردّه. والله أعلم.
ومن غرائب ابن عقيل: أنه اختار وجوب الرضى بقضاء الله تعالى في الأمراض والمصائب. ذكره في مواضع من كلامه. لكنه فسر الرضى في الفنون: بأنه الرضى عن الله تعالى بها، ثقة بحكمه وإن كانت مؤلمة للطبع، كما لا يبغض الطبيب عند بطء الدمّل وفتح العروق. وليس المراد هشاشة النفس وانشراحها لها، فإن هذا عنده مستحيل.
وصَرَّح بأنه لم يحصل للأنبياء. كذا قال. وهو فاسد.
واختار: أن النهار أفضل من الليل.
واختار: أنه لا تجوز الصلاة على القبر في شيء من أوقات النهي، بخلاف الصلاة على الجنازة. وخالفه بعض مشايخ أصحابنا في زمنه.
ومن كلامه الحسن: أنهُ وَعظ يومًا فقال: يا من يجد في قلبه قسوة، احذر أن تكون نقضت عهداً فإن اللّه تعالى يقول: " فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُم لَعَنَاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَة " 5: 15.
وسُئل فقيل له: ما تقول في عزلة الجاهل؟ فقال: خبال ووبال، تضره ولا تنفعه.
فقيل له: فعزلة العالم؟ قال: مَا لَك ولها، معها حِذَاؤها وسِقاؤُها: ترد الماء وترعى الشجر، إلى أن يلقاها ربها.
ومن كلامه في صفة الأرض أيام الربيع: إن الأرض أهدتْ إلى السماء غبرتها بترقية الغيوم، فكستها السماء زهرتها من الكواكب والنجوم.
وقال: كأنَ الأرض أيام زهرتها مرآة السماء في انطباع صورتها.
قال ابن النجار: قرأتُ في كتاب أبي نصر المعمر بن محمد بن الحسن البيع بخطه، وأنبأنا عنه أبو القاسم الأزجي، قال: أنشدنا أبو الوفاء عليّ بن عقيل بن محمد بن عقيل الحنبليّ لنفسه:
يقولون لي: ما بال جسمك ناحلٌ ... ودمعك من آماق عينيك هاطلُ.
وما بال لون الجسم بدل صفرةً ... وقد كان محمرًّا فلونك حائلُ.
فقلتُ: سقامًا حلّ في باطن الحشا ... ولوعة قلب بلبلته البلابلُ
وأنَّى لمثلي أن يبين لناظر ... ولكنني للعالمين أُجاملُ
فلا تغتررْ يوماً ببشري وظاهري ... فلي باطن قد قطّعته النوازلُ
وما أنا إلا كالزناد تضمّنتْ ... لهيباً، ولكنّ اللهيبَ مُداخلُ
إذا حُمل المرء الذي فوق طوره ... يرى عن قريب من تجلد عاطلُ
لعمري إذا كان التجمّل كلفة ... يكون كذا بين الأنام مجامِلُ
فأما الذي أثنى له الدهر عطفه ... ولان له وعر الأمور مواصلُ
بألطاف قربٍ يسهل الصعب عندها ... وينعم فيها بالذي كان يأملُ
تراه رخيّ البال من كل علقةٍ ... وقد صميت منه الكَلا والمفاصلُ
توفي أبو الوفاء بن عقيل رحمه اللّه بكرة الجمعة، ثاني عشر جمادى الأولى سنة ثلاثة عشرة وخمسمائة - وقيل: توفي سادس عشر الشهر - والأول أصح. وصُلي عليه في جامعي القصر والمنصور. وكان الإمام عليه في جامع القصر ابن شافع. وكان الجمعُ يفوت الإحصاء.
قال ابن ناصر: حزَرْتُهم بثلاثمائة ألف. ودُفن في دكة قبر الإمام أحمد رضي الله عنه. وقبره ظاهر رضي اللّه عنه. فما كان في مذهبنا أحدٌ مثله. آخر كلام ابن ناصر.
وذكر المبارك بن كامل الخفاف: أنه جرت فتنة - يعني: على حمله - قال: وتجارَحُوا، وقال الشيخ مطيع: كفن ونطع.
قال ابن الجوزي: حدثني بعض الأشياخ: أنه لما احتضر ابن عقيل، بكى النساء.
فقال: قد وقعت عنه خمسين سنة، فدعوني أتهنا بلقائه.
قال بن السمعاني، أنشدني، الإمام أبو المحاسن مسعود بن محمد بن غانم الأديب الغانمي لنفسه يمدح الإمام أبا الوفاء بن عقيل:
لعليّ بن عقيل البغدادي ... مجد لفرق الفرقدين محاذي
قد كان ينصر أحمدًا خير الورى ... وكلامه أحلى من الأَزاذ
وإذا تلهّب في الجدال فعنده ... سبحان فيه في التجارب هذي
ما أخرجت بغداد فحلاً مثلهُ ... للّه در الفاضل البغدادي
ولقد مضى لسبيله مع عصبةٍ ... كانوا لدين الحق خير ملاذِ
وقد قرأ على ابن عقيل الفقه الأصول خلقٌ من أصحابنا، يأتي ذكرهم في مواضعهم إن شاء الله تعالى من الطبقة التي بعد هذه.
وممن قرأ عليه أبو الفتح بن برهان الأصولي، صاحب التصانيف في الأصول، ومدرّس النظامية. وكان أولاً حنبليًا، ثم انتقل لجفاء أصحابنا له.
وكان لابن عقيل ولدان ماتا في حياته: أحدهما:
أبو الحسن عقيل:
كان في غاية الحسن. وكان شابًا، فهمًا، ذا خط حسن.
قال ابن القطيعي: حكى والده أنه وُلد ليلة حادي عشر رمضان سنة إحدى وثمانين وأربعمائة.
وذكر غيره: أنه سمع من هبة الله بن عبد الرزاق الأنصاري، وعلي بن حسين بن أيوب، وغيرهما، وتفقه على أبيه، وناظر في الأصول والفروع
وسمع الحديث الكثير، وشهد عند قاضي القضاة أبي الحسن بن الدامغاني، فقبل قوله. وكان فقيهًا فاضلاً يفهم المعاني جيدًا، ويقول الشعر. وكان يشهد مجلس الحكم، ويحضر المواكب.
وتوفي رحمه الله يوم الثلاثاء، منتصف محرم سنة عشر وخمسمائة. وصُلي عليه يوم الأربعاء. كذا ذكر ابن شافع وغيره.
وفي تاريخ ابن المنادي: أنه توفي يوم الجمعة ثاني عشر ربيع الآخر سنة ثلاث عشرة وخمسمائة. ودُفن يوم السبت بدكة الإمام أحمد.
فعلى هذا: تكون وفاته قبل والده بشهرٍ واحد. ولا أظن هذا إلا غلطًا. وكان له من العمر سبع وعشرون سنة. ودفن في داره بالظفرية، فلما مات أبوه نُقل إلى دكة الإمام أحمد رضي الله عنه.
قال والده: مات ولدي عقيل. وكان قد تفقه وناظر وجمع أدباً حسناً فتَعَزّيتُ بقصة عمرو بن عبد ودّ الذي قتله علي رضي الله عنه، فقالت أمه ترثيه:
لو كان قاتل عمرو غير قاتله ... ما زلتُ أبكي عليه دائم الأبدِ
لكن قاتله من لا يقاد به ... من كان يُدعى أبوه بيضة البلدِ
فأسلاها، وعزاها جلالة القاتل، وفخرها بأن ابنها مقتوله. فنظرتُ إلى قاتل ولدي الحكيم المالك، فهان عليَّ القتل والمقتول لجلالة القاتل.
وذكر عن الإمام أبي الوفاء: أنه كب عليه وقبَّله، وهو في أكفانه. وقال: يا بُنَيَّ، استودعتُك الله الذي لا تضيع ودائعه. الربُ خيرٌ لك مني. ثم مضى، وصلى عليه بجنان ثابت. رحمه الله.
ومن شعر عقيل هذا:
شاقَهُ والشوقُ من غيرِهْ ... طللٌ عافٍ سوى أثرِهْ
مقفرٌ إلا مَعالمُهُ ... واكف بالودق من مطرِهْ
فانثنى والدمعُ منهملٌ ... كانسلال السِلك عن دررِهْ
طاوياً كشحاً على نُوَبٍ ... سبحات لَسْنَ من وَطَرِهْ
رحلة الأحباب عن وطنٍ ... وحُلولُ الشيب في شعرِهْ
شِيَمٌ للدهر سالفة ... مستبيناتٌ لمختبرِهْ
وقبول الدر مبسمها ... أبلج يفترّ عن خَضِرِهْ
هزَّ عطفيها الشبابُ كما ... ماس غصنُ البان في شجرِهْ
ذاتُ فرع فوق ملتمع ... كدجى أبدي سنا قمرِهْ
وبنان زانه ترفٌ ... ذاده التسليم عن خَفَرِهْ
خَصْرُها يشكو روادفها ... كاشتكاء الصبُّ من سهرِهْ
نَصبت قلبي لها غرضاً ... فهو مصميّ بمعتورِهْ
وزهتْ تيهاً كأن لها ... منبتاً تزهى بمفتخرهْ
وأناختْ في فنا ملك ... دَنتِ الأخطارُ عن خَطَرِهْ
والآخر:
أبو منصور هبة الله:
ولد في ذي الحجة سنة أربع وسبعين وأربعمائة. وحفظ القرآن وتفقه وظهر منه أشياء تدل على عقل غرير، ودين عظيم. ثم مرض وطال مرضه، وأنفق عليه أبوه مالاً في المرض، وبالغ.
قال أبو الوفاء: قال لي ابني، لما تقارب أجله: يا سيدي قد أنفقتَ وبالغتَ في الأدوية، والطب، والأدعية، ولله تعالى في اختيارٌ، فدعني مع اختياره. قال: فوالله ما أنطق الله سبحانه وتعالى ولدي بهذه المقالة التي تشاكل قول إسحاق لإبراهيم: " افعَل مَا تُؤمَرُ " الصافات: 103، إلاّ وقد اختاره الله تعالى للحظوة.
توفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وثمانين وأربعمائة. وله نحو أربع عشرة سنة.
وحمل أبو الوفا رحمه الله في نفسه من شدة الألم أمرًا عظيمًا، ولكنه تصبَّر، ولم يظهر منه جزع. وكان يقول: لولا أن القلوب توقن باجتماع ثانٍ لتفطرت المرائر لفراق المحبوبين.
وقال في آخر عمره - وقد دخل في عشر التسعين، وذكر من رأى في زمانه من السادات من مشايخه وأقرانه، وغيرهم - : قد حمدتُ ربي إذْ أخرجني ولم يبق لي مرغوب فيه، فكفاني صحبة التأسف على ما يفوت لأن التخلف مع غير الأمثال عذاب. وإنما هوّن فقداني للسادات نظري إلى الإعادة بعين اليقين وثقتي إلى وعد المبدىء لهم، فلكأني أسمع داعي البعث قد دعا، كما سمعتُ ناعيهم وَقَد نعى. حاشا المبدىء لهم على تلك الأشكال والعلوم أن يقنع لهم من الوجود بتلك الأيام اليسيرة، المشوبة بأنواع التنغيص وهو المالك. لا والله، لا قنع لهم إلا بضيافة تجمعهم على مائدة تليق بكرمه: نعيم بلا ثبور، وبقاء بلا موت، واجتماع بلا فرقة، ولدات بغير نغصة.
( عن كتاب ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب )
كتاب (جزء في الأصول لابن عقيل الحنبلي : مسألة القرآن ) :
بسم الله الرحمان الرحيم
عبد مذنب ورب غفور ..
أما بعد ، فإن سبيل الحق قد عفت آثارها ، وقواعد الدين قد انحط شعارها، والبدعة قد تضرمت نارها وظهر في الآفاق شرارها ، وكتاب الله عز وجل بين العوام غرض ينتضل ، وعلى ألسنة الطغام بعد الاحترام يبتذل ، تضرب آياته بآياته جدالا وخصاما ، وتنتهك حرمته لغوا وآثاما ، قد هون في نفوس الجهال بأنواع المحال ،حين قيل ليس في المصحف إلا الورق والخط المستحدث المخلوق ، إن سلطت عليه النار احترق ، وأشكال في قرطاس قد لفقت ، إزدراء بحرمته واستهانة بقيمته ، وتطفيفا في حقوقه ، وجحودا لفضيلته ، حتى لو كان القرآن حيا ناطقا لكان من ذلك متظلما ، ومن هذه البدعة متوجعا متألما ، ترى أليس هذاالكتاب الذي قال الله فيه : ( وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) وقال: ( إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون) وقال : ( والطور وكتاب مسطور في رق منشور) ؟..أو ليس الحبر والورق قبل ظهور الحروف المكتوبة لا يمنع من مسه المحدثون ، وإذا ظهرت الحروف المكتوبة صار ( لا يمسه إلا المطهرون ) ؟ أليس هذا الكتاب الذي قال فيه صاحب الشريعة تنزيلا وتجليلا : " لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم " ؟ أليس الله تعالى يقول في كتابه : ( يايحيى خذ الكتاب بقوة ) وقال في حق موسى : (وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة ) أفترى من القوة تهوينها عند المكلفين ، والازدراء بها عند المتخلفين ، يزخرفون للعوام عبارة يتوقون بها إنكارهم ويدفنون فيها معنى لو فهمه الناس لعجلوا بوارهم ، ويقولون : تلاوة ومتلو وقراءة ومقروء ، وكتابة ومكتوب ، هذه الكتابة معلومة فأين المكتوب ؟ وهذه التلاوة مسموعة فأين المتلو ؟ يقولون : القرآن عندنا قديم قائم بذاته سبحانه، وإنما هي زخارف لبسوا بها ضلالتهم ، وإلا فالقرآن مخلوق عندهم لا محالة ، قد انكشف للعلماء منهم هذه المقالة .. يقدمون رجلا نحو الاعتزال فلا يتجاسرون ، ويؤخرون أخرى نحو أصحاب الحديث ليستتروا فلا يتظاهرون .
إن قلنا لهم ما مذهبكم في القرآن ؟ قالوا : قديم غير مخلوق ، وإن قلنا: فما القرآن أليس هو السور المسورة والآيات المسطرة في الصحف المطهرة ؟ أليس هو المحفوظ في صدور الحافظين ؟ أليس هو المسموع من ألسنة التالين ؟ قالوا : إنما هو حكايته وما أشرتم إليه عبارته ، وأما القرآن فهو قائم في نفس الحق غير ظاهر في إحساس الخلق .. فانظروا معاشر المسلمين إلى مقالة المعتزلة كيف جاءوا بها في صورة تنافي الصورة ...واسمعوا ما أقول من افساد دعواهم ..و البيان عن معتقدهم في القرآن من الزيغ و الضلالة ..و أنهم قائلون بخلافه لا محالة..و هأنذا أذكر من ءايات الكتاب ما يشهد أنهم بالاعتزال الصريح قالوا ..و بالقول بخلق القرآن دانوا ..
قال الله سبحانه (ان هذا القرءآن يهدي للتي هي أقوم ) وقال (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ) وقال (وننزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين ) و قال (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه)...فقد اجتمعت الامة على ان قوله : ( هذا) اشارة الى هذا المسموع بالآذان المتلو بالالسن ، وقد قالت الاشاعرة ان هذا المشار اليه هو المخلوق، فإن القديم قائم في النفس . فقد صرحوا بخلق القرآن إذ لله صفة تسمى قرآنا عندهم ، و ما في ذات الله تعالى غير مشار إليه لا منزلا ولا متلوا ولا ظاهرا لحس ولا مسموعا بأذن .فقد قالوا بخلق القرآن في المعنى وأرضوا العوام بأن اثبتوا شيئا سموه كلاما .
وأيضا من الدليل فإنهم قالوا بحدث القرآن ، والله يقول (فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ) (قل لئن اجتمعت الانس والجن على ان يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا). أفتراه سبحانه يقول : قل فأتوا بمثل ما في نفسي مما لم يعرفوه ولم يسمعوه ؟وهل هذا الا بمثابة قوله : قل فأتوا بمثل علمي او بمثل عيني او بمثل قدرتي مما لم يدركه الاحساس و لم يظهر لادراكات النفس . فلما تحدى العرب وعجّزهم و قال ( بمثل هذا ) علمنا أنه إنما أشار إلى ما سمعوه و عرفوه ، وإلا فلا حجة عليهم عند عجزهم عن الاتيان بما جهلوه. و ما في نفس الله تعالى لا صلة إليه ولا وقوف عليه و لا يقدر أحد على التحدي به . قال سبحانه إخبارا عن بعض انبيائه : ( تعلم ما في نفسي و لا أعلم ما في نفسك ) ولم يُنكر عليه .
فإن قالوا : إنما أشار إلى حكاية ما في نفسه وعبارته وهو هذا المتلو بالالسن المحفوظ في الصدور المكتوب في المصاحف ، فأما أن تشيروا إلى ما في ذاته فكلا . قلنا لهم : أنتم أغلظ وأكفر منكم في الاول ، لان الحكاية هي المثل و الشبه والنظير ، فإن تنصلكم هو التشبيه ، وإن ذراكم على أصحاب الحديث بالكذب والتمويه . و إذا قلتم لله تعالى في نفسه صفة نعقل حكايتها وهي تلاوتنا ، ونأتي بمثلها و هي قراءتنا ، فقد صرحتم أن وصف الله تحكية ، ووقعتمفيما تنصلتم منه من التشبيه . ولان هذه التلاوات لو كانت حكايات لكان الناس قد أتوا بمثل كلام الله تعالى فأين عجزهم ؟ و لان كلام الله تعالى عندهم ليس بحرف و لا صوت ، فكيف تكون حكايته حرفا و صوتا ؟ وهل هذه الحكاية الا بمثابة من قال إن علومنا كعلم الله و سمعنا و بصرنا حكاية سمع الله و بصره ، وإن كان سمعه ليس بحاسة و أسماعنا حاسة ، و موّهتم على
الناس أنكم من أهل السنة ، و ما أبعدكم من هذه التسمية مع تكذيبكم بنص القرآن . و الله تعالى يقول : ( وكلم الله موسى تكليما ) ( و إذ نادى ربك موسى ) ( و ناديناه من جانب الطور الايمن و قربناه نجيا ) . وقلتم إن الملك كلمه و الله ألهمه و فهّمه . و قد أكذب الله من جعل كلام الملك كلاماَ له سبحانه فقال تعالى : ( و ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم ) . و لم يسمّ أحدا من الانبياء كليما مع كونه أوحى إليهم و أرسل إليهم الملائكة فعلمنا أن التكليم حقيقة لم يحصل إلا لقسم منهم و هو الذي كلمه الله لا برسول و لا وحيا مثل موسى من وراء حجاب , و نبينا (صلى الله عليه وسلم ) من وراء المعراج . ولان الله سبحانه قد أفرد من أراد خطاب الملائكة عمن اختصه بالتكليم . فقال سبحانه في حق زكريا و مريم : (وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك و طهرك و اصطفاك على نساء العالمين ) , و قال في موسى : ( إني اصطفيتك على الناس برسالاتي و بكلامي ) ( وإذ نادى ربك موسى ) ( وناديناه من جانب الطور الايمن و قربناه نجيا ).. وقال سبحانه ( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم و إسماعيل و إسحاق ويعقوب والاسباط و عيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا. ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل و رسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما ) . وقال في حق زكريا عليه السلام : (فنادته الملائكة و هو قائم يصلي في المحراب ). فذكر الله تعالى الانبياء الذين أوحى إليهم ولم يضف إليهم التكليم و لا أحدا منهم سماه بالكليم ، ثم أفرد موسى بالذكر ، فدل على أن الكلام كان لموسى بخصيصة ليست إلا بنفي الوسائط ، و كلامه بنفسه سبحانه أوجب له إسم كليم . و إلا فمعلوم أن كثرة هؤلاء المذكورين لم يسم أحدا كليما ولا مكلما فانقطع عنهم موسى وأفرده باسم المكالمة منهم . وهذا يدل ذوي العقول إلى تمييزه منهم بميزة هي المواجهة و المكافحة من غير واسطة .
وقال في حق سليمان لما أراد أن بفهمه : ( ففهمناها سليمان ) ففرق بين التفهيم و التكليم. فمن سمى التفهيم تكليما فقد وضع لنفسه بدعة و لغة .
و زعمتم أن غير الله يقول لموسى : ( إنني أنا الله ) و موسى يقول لغير الله أرني أنظر إليك) و يقال لغيره تبت إليك) .و تجلى غير الله للجبل فجعله دكا .أترى الملائكة يتجلون للجبال على استمرار الزمن فلا تندك و لا تنهد ؟ أوليس الانبياء يسمعون كلام الملائكة فلا يصعقون و لا يفرقون ؟
وزعم أهل الزيغ و البدع أن الذي سمعه نبينا عليه السلام ليلة المعراج كلام الملك . أترى أي الملائكة كلمه ؟ وهذا جبريل يتقاصر خطوة عن مقام نبينا عليه السلام لقوله : ( و ما منا إلا له مقام معلوم ).و انقطع جبريل حيث انقطع ، و نبينا عليه السلام يقول : هذا مقام يفارق الخليل خليله ، ثم زج بالنبي عليه السلام حيث لا ملك ولا واسطة ، فقال بعد ذلك : فسمعت الحق يقول : ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه و المؤمنون ).و في حديث آخر : (فقال : فيم يختصم الملأ الاعلى ) و في حديث آخر : ( فألهمني الله عز وجل أن قلت : التحيات لله ) . ففرّق بين كلام جبريل و مقامه و بين كلام الحق سبحانه .
وزعمتم أن الله تعالى قد أرسل إليه بالملك فكلّمه فقد كلّمه الله تعالى . والله قد أكذبكم في نص كتابه فقال في حق الكفار : ( ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ). و معلوم أنه إنما نفى عنهم كلامه بنفسه ، أما الملائكة فقد أخبر عنهم أنها تكلمهم ، قال الله سبحانه : ( و قال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم ) ، و قال : ( وقفوهم إنهم مسؤلون ) ، وقال: ( يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين . ويقولون حجرا محجورا ). فدل على أنه لا يكون مكلماً من كلمته الملائكة و نفى عنهم كلامه. و الذي نفى عنهم هو كلامه بنفسه على الوجه الذي كلّم به موسى .
ومما خالف به السنة أهل الزيغ والبدع أنه ورد في الاخبار : ( أن الجبار جل جلاله إذا مات الخلق دحا السماوات و الارض و نادى : أين الجبارون ؟ لمن الملك اليوم . فيجيب نفسه : لله الواحد القهار ) . أين هم لما قالوا في كلامه لموسى و غيره بأنه كلام الملك ؟ ففي ذلك الوقت حيث لم تبق عين تطرف و لا لسان ينطق ، من القائل : أنا الملك لمن الملك اليوم ؟
وقوله تعالى : ( ولو أن ما في الارض من شجرةٍ أقلام ٌ والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفذت كلمات الله ) . فأثبت لنفسه كلمات منفردات غير متناهية الاعداد.
و قال سبحانه : ( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفذ البحر قبل أن تنفذ كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً ) فأثبت لنفسه كلمات.
و قالت الاشاعرة :إنه شيء واحد . فيكون على زعمهم قوله تعالى : ( ولا تقربوا الزنى ) هو قوله : ( أقم الصلاة ) . و معلوم أن تغاير ما بين الأمر والنهي و الوعد و الوعيد لا يزيد على معاني ما بين حرف و حرف. و قال سبحانه ( الم . ذلك الكتاب لا ريب ) . و قال ( بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ). وقال ( فأتوا بسورة من مثله).وقال (فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ). و قالت الاشاعرة : ليس هو آيات ولا سور مفصلات .
و قال سبحانه ( الم . ذلك الكتاب). وقال ( حم ) ( طسم.تلك آيات الكتاب المبين ) . وقد ذكر حروفا وآيات وكنى بها عن الكتاب . و قالت الاشاعرة : ليس بحروف ولا أصوات .
وقال الله سبحانه في الانبياء ( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله و رفع بعضهم درجات ) . و قالت الاشاعرة : كلهم كلمهم .على قولهم بأن الوحي هو الكلام. وقال الله سبحانه : ( فالحق و الحق أقول ) ( ولكن حق القول مني ). وقال سبحانه : (هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم ) (فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ). وقال الله سبحانه : (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ). وقالت الاشاعرة : لا قول له ولا هو ممن يقول ،وإنما كلامه كالفكر والحفظ أو الخاطر أو العلم والارادة التي تقوم بالنفس ولا تظهر للحس .وهذا هو الكفر وتكذيب القرآن عافانا الله.
وقال النبي (صلى الله عليه وسلم ) إذا كان يوم القيامة نادى الله بصوت فيسمعه أقصاكم كما يسمعه أدناكم : أنا الملك أنا الديان وعزتي و جلالي لأسألن القرناء لم نطحت الجماء ) . وقالت الاشاعرة : لا صوت له .
وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم )-عن جبريل عليه السلام - : إذا تكلم الله بالوحي سمع صوت كجر السلسلة على صفوان فتخر الملائكة للاذقان سجدا حتى إذا فزع عن قلوبهم قالت ملائكة كل سماء : ماذا قال ربكم ؟ فيقول قال : الحق...). وقالت الاشاعرة : لا صوت لكلام الله ولا حرف .
و تشغب على النبي بقوله ( كجر السلسلة على صفوان ) كيف يشبه القديم بالمحدث ؟ و لم يشنعوا عليه حيث قال : (ترون ربكم كما ترون القمر ) . كان أوجب ذكر القمر تشبيها للكلام به . لم يبق إلا تشبيه الرؤيا بالرؤيا و السماع بالسماع لا المرئي و لا المسموع.
و قال الله سبحانه لنبيه : (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ) . وقالت الاشاعرة: ما ألقي عليه إلا قول الملك. و قال الله سبحانه : (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الارض أو كلم به الموتى ). تقديره : لكان هذا القرآن . وقالت الاشاعرة : ليس الكلام تسير به الجبال ولا تقطع به الارض لانه قائم في نفس الحق.
و قال سبحانه : (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ). وقالت الاشاعرة : إنه لا يجوز عليه النزول.
و قال الله سبحانه : (وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الامين على قلبك لتكون من المنذزين ). و قال الله سبحانه: ( إنا أنزلناه في ليلة القدر). و قال الله سبحانه: ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ). و قال الله سبحانه : (قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء ). وقالت الاشاعرة :كلام الله لا ينزل ، ولا ينزل إلا حكايته أو عبارته أو كلام الملك.
و قال الله سبحانه : ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له و أنصتوا ). وقال الله سبحانه : ( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا ) وقال الله سبحانه : ( قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد ..)
و قال الله سبحانه : (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ) . و قال الله سبحانه : ( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ) . فأثبت لنفسه كلاما مسموعا . وقالت الاشاعرة : ليس المسموع كلام الله ولا هو القرآن. وزعمت الاشاعرة أن المسموع مخلوق وليس المسموع إلا القرآن .
وقال النبي (صلى الله عليه وسلم ) : (لاتسافروا بالقرآن إلى أرض العدو). وقال علي (عليه السلام ) : (والله ما حكمت مخلوقا وإنما حكمت القرآن ) وإنماأشار إلى هذا المسموع. وقالت الاشاعرة :لا يصح أن يحكم بالقرآن ولا يسافر به.
و أجمع المسلمون أن من حلف بالله لا سمعت كلام الله وسمع القرآن كان حانثا في يمينه . و أجمع أهل اللغة أن الكلام ثلاثة أشياء : إسم وفعل وحرف . وقالت الاشاعرة : ليس سوى القائم في النفس .
وقال الله تعالى إخبارا عن مريم أنها قالت : (فلن أكلم اليوم إنسيا)..فنفت الكلام . وقالت الاشاعرة :إنها كانت تتكلم بما كان في نفسها يتردد من حور الكلام.
وقال الله تعالى في حق زكريا: (آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام ) . فنفى عنه الكلام لانتفاء الحروف و الاصوات . وقالت الاشاعرة : هو متكلم بما كان في نفسه ولم ينف الكلام بإمساكه .
فقد خالفت الاشاعرة كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الفقهاء وأهل اللغة. فافهموا ذلك رحمكم الله وتدبروه . واجتنبوا مقالتهم واحذروا بدعتهم وضلالهم تسلموا من خدعهم وأخبروا المسلمين مقالتهم واعتقادهم الفاسد والله ولي معونته وهو حسبنا ونعم الوكيل .
لله الكلمة الأزلية..
وأما دعوى الاشاعرة موافقة أحمد بن حنبل رضي الله عنه فباطل. أين هم عن قول أحمد رضي الله عنه من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو كافر) ؟
قال عبد الله بن احمد :قال أبي : تكلم الله بصوت وقال : لا ينكر هذا الاالجهمية .
وقال إمامنا أحمد لابي أحمد الاسدي يوجه القرآن على خمس جهات : حفظ بالقلب وتلاوة باللسان وسمع بأذن وبصر بعين وخط بيد) .قال أبو أحمد الاسدي : فأشكل علي قوله وبقيت متحيرا في ذلك . فقال لي ما حالك ؟ القلب مخلوق و المحفوظ به غير مخلوق . و اللسان مخلوق و المتلو به غير مخلوق والاذن مخلوقة والمسموع اليها غير مخلوق. واليد مخلوقة و المخطوط بها غير مخلوق . والعين مخلوقة والمنظور اليها غير مخلوق ) . قال فقلت :يا ابا عبد الله ، العين تنظر الى السواد و الورق . فقال لي :مه. أصح شيء في هذا (لا تسافروا بالقرآن الى ارض العدو ). ولم يذكر حبرا ولا ورقا . وهل نهاهم الا عن الحروف المضمنة فيه ؟
والاشاعرة تقول : إن جبريل لم يسمع كلام الله من الله . و القراءة عندهم والتلاوة و الكتابة مخلوقة. و القرآن صفة قائمة في نفس المتكلم لا تظهر لاحساس المكلفين . وانما الحروف والاصوات حكايتها . واعتمدوا على نفي الحروف والاصوات بأن الحروف متغايرة مختلفة : الألف غير الجيم والميم غير الغين. و القديم لا يتغير ولا يختلف لانه ذات واحدة . ولان الاصوات تحتاج الى اصطكاك اجرام ، والحروف تحتاج الى مخارج مخصوصة من مجوفات الاجسام ، و الباري تعالى ليس بجسم ولا ذي آلات ولهوت. فبطل أن يكون الكلام الا وصفا قائما بنفس المتكلم .
وهذا باطل والجواب عنه من وجوه :احدها : من حيث اللغة .و الثاني : القرآن المرتب بظهوره على اللغة .و الثالث : السنة .والرابع : أدلة العقول.
أما طريق اللغة فإنه إجماع أهل اللسان على أن الممسك عن الحروف والاصوات من غير آفة ساكت وإن كان يمكن أن يكون متفكرا. فلو كان الكلام هو تصوير في النفس لكان المتفكر أحق باسم المتكلم من الذي تظهر منه الحروف والاصوات . ولوجب ألا يسمى القارئ غير المتفكر فيما يقوله متكلما . ولوجب ان يكون المعتبر متكلما ،لانه على أصلهم متكلم . وسقط عنه تسمية الاعتبار و التفكر وإن لم يبد منه النطق وإنما قام فيه فكر في النفس. وأجمع فقهاء شريعة الاسلام على ان من حلف لا يتكلم ثم تفكر لم يحنث. وبخلاف هذا من ظهرت منه الحروف والاصوات سمي متكلما وان لم يكن له فكر ولا اعتبار . ولهذا سمى الله الايدي والارجل متكلمة بقوله : (وتكلمنا ايديهم ) لكونها تنطق بالشهادة عليهم و ان لم يوجد منها فكر ولم يكن لها نفس يقوم بها الكلام الذي يشير اليه الاشاعرة . ولهذا قال الله عز وجل : (ولا يكلمهم الله يوم القيامة ) . ولا يخلو انه عز وجل يريد ألاّ يسمعهم صوته ووليس ألاّ يكون في نفسه كلام لهم . لان عند الاشعري أن كلام الله الذي هو وعيد الكفار وامرهم ونهيهم هو قائم في نفسه اليوم ويوم القيامة وكل يوم من ايام الابد لا يزول عنه. لم يبق إلا انه اراد ألاّ يسمعهم صوته . فثبت أن كلامه تعالى هو الصوت المسموع بالمعاني المخصوصة ليقع به الفهم. فهذا دليل اللغة.
وأما دليل الكتاب فقوله تعالى : ( حتى يسمع كلام الله ) فسمى الذي سمع من القارئ كلاما له . وعند الاشعري ان المسموع ليس بكلام وانما الكلام هو المعنى القائم بالنفس. وهذا خلاف ظاهر لنصه سبحانه و تعالى.
وقال تعالى ; ( و إذ نادى ربك موسى ). وقال : ( وانا اخترتك فاستمع لما يوحى ) الى قوله (انني انا الله ). فقرن النداء بالسمع . ومعلوم ان السمع لا يحله شيء سوى الصوت سيما وقد قرن به النداء . و النداء لا يكون إلا صوتا.
وفي سياق الاية (انني انا الله). ولا يقول غير الله (انني انا الله ) إلا ويكون كاذبا. كيف وقد خص الله ذلك بقوله : (ومن يقل منهم اني اله فذك نجزيه جهنم) ؟ وقد عنَّف نبيا من انبيائه بقوله : (آنت قلت للناس اتخذوني وأمي الهين من دون الله ...) وقال تعالى ; (طسم.تلك آيات الكتاب المبين ). فذكر سبحانه حروفا وكنى عنها بانها آيات الكتاب . وفي الحديث : (لا تسافروا بالقرآن الى ارض العدو ).وما منع السفر به الا الحروف المكتوبة .
وأما من حيث المعقول : فإن ما ليس بحرف ولا صوت وانما هو في النفس فقد انفرد في الشاهد بتسميته وهو كونه فكراً ووسوسة وخاطرا وغير ذلك مما يهجس في النفس . ولأنه يستغنى بإرادة الأحداث للأصوات المضمنة الامر والنهي عن الكلام القائم في النفس. فإن الذي فإن الذي نشير إليه هو هذه الحروف المخصوصة و الاصوات المسموعة المتضمنة المعاني المفيدة . فلا معنى لتسمية الشيء الواحد بإسميْن وقد يوجد الاجتزاء باحدهما عن الاخر .
وأما ما ذكروه من أن الحروف تتغاير وتختلف فذلك يوجب حدوثها .يبطل على الاشاعرة بنفس الكلام لكونه أمرا ونهيا ووعدا ووعيدا .وليس الامر هو النهي بل هو ضده ، لان الامر استدعاء الفعل . والنهي استدعاء الترك.فما هربت منه الاشاعرة وقعت فيه .لانها
هربت من اثبات الحروف خوف التغاير ، وقعت في تغاير الكلام بكونه خبرا و ستخبارا وأمرا ونهيا ووعدا ووعيدا. فإن كابرت الاشاعرة وقالت ليس الامر غير النهي . ساغ ان يقال لهم إن الالف ليس غير الجيم. وهذا ركوب الجهالات.
ولان الاشاعرة فد أثبتت الصفات من العلم و القدرة والحياة والارادة والكلام و الوجه واليدين والسمع والبصر ، وكل واحد من هذه الصفات ليس هو الاخر ، ولم يدخل فيه التغاير والاختلاف. كذلك هاهنا .
وأما قول الاشاعرة إن إنكارنا الحروف و الاصوات خوفا أن يؤدي إلى إثبات الجسم و الادوات و المخارج المخصوصات وذلك مستحيل على القديم واستحال ما لا يحتاج إليه إثباته . فغلط .لانه قد لزم الاشعري مثل هذا في إثبات الكلام القائم بالنفس . فإن ما يكون في انفسنا نحن انما هو محتاج الى الى محل يقوم به من آلات تخيل وفكر ، وهو القلب والرأس والشيء المخصوص الذي يتعاهد على إحداث الفكر فإذا أثبته في النفس ولم يخرج الى آلات التفكر في حقنا و ما يقوم بأنفسنا ، هذا ما نثبته كلاما على حد ما نعقله لا بآلات و أدوات . و لا انفصال عن هذا إلا الهوس و التدليس على من يعجز عن إقامة البرهان. و الله الموفق للصواب.
فصل :
قالت الاشاعرة بالتهجم على تأويل المتشابه و صرف الاحاديث عن ظاهرها بالرأي و حكم العقل خلاف الشرع . وذلك خطر عظيم و غرر جسيم وإثم موبق و دخول في من قال الله عز وجل في حقه : (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله و ما يعلم تأويله إلا الله ). فمذهب السلف وأئمة الخلف الايمان بالأسماء و الصفات توقيفاً لا يخرج عن ظاهرها إلى تأويل دليل العقول و شواهد النظر و لا يقومون بتفتيش صفاته التي وصف بها نفسه ووصفه بها رسوله وتلقتها الصحابة و القرابة بالإيمان بها و التسليم لها من غير رد و لا تأويل لها كما ابتدعته الاشاعرة والكلابية ومن وافقهما من المبتدعة . و قد علموا بأن النقل لما وصل إليهم أنه سئل عليه السلام عن الروح أهو شيء مخلوق يناله الحدوث ؟ قال الله له : (قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) فلما شذَّ عنهم علم باب صفة الروح من أوصافنا ، فبأن نمنع من تفتيش وصفه أولى و أحرى . فوجب أن نتلقاه تسليما و لا نكيّف فنقول ما اليدان وما النفس وما المجيء وما الإتيان وما الوجه وما السمع وما البصر وما النزول وما الضحك؟ وجميع الصفات التي نقلها الثقات والأئمة الأثبات . فيكون سؤالنا عن أوصافه بعد كتمه هذا وصفا من أوصافنا غباوة وجهلا. بل نقول كما قال و نمسك عما وراء ذلك .
ولو قدمنا على أخذها بقياس أفعالنا جاء من هذا الكفر المحض .فإن من بنى فأتقن ثم هدم ، وجمع ثم فرّق ، وأمكن من مخالفته فأنظر إبليس مع
علمه بأن انظاره يعود بفساد أكثر خلقه و مخالفة أكثر أوامره . وهذا جميعه في الواحد منّا سفه وهو جل وعز منه حكمة . فإذا كانت أفعاله كذا لا يقوم لها تأويل ولا يصح في العقل لها تعطيل . كان غاية أمرنا التسليم . فأوصافه أولى لان مفعولاته مخلوقة و أوصافه قديمة.
ولأن الاشاعرة لا تخلو أن تكون صدقت النقلة فيما روته من أخبار الصفات أو كذبت . فإن كانت صدقت وجب المصير الى ما قالته و نقلته و ترك تأويله وإمراره كما جاء على ما جاء من ظاهره. وإن كانت كذبت وجب ترك ما قالت ولم يجب تأويله .
ووجدنا رواة أخبار الصفات أئمة المسلمين و صدورهم و المرجوع إليهم في الفتاوى كسفيان الثوري ومالك بن انس و الحمادين وبن عيينة و الاوزاعي والليث بن سعد وعبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل و الشافعي و يحي بن معين وأبي عبيد بن سلام والحميدي وأبي بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه وأبي داود السجستاني والبخاري ومسلم ومحمد بن يحي الذهلي وعبد الله بن أحمد بن حنبل وأبي زرعة الدمشقي وأبي عبد الرحمان النسائي وأبي عيسى الترمذي وإبراهيم الحربي وعثمان الدرامي والمروذي والأثرم وأبي بكر بن أبي عاصم وابن خزيمة وعبد الله بن أبي داود وعبد الرحمان بن أبي حاتم وأبي بكر الأنباري وأبي سليمان البستي والدارقطني وعبد الله الطبري وغير هؤلاء من الحفاظ الأثبات ، هم والله سرج البلاد و نور العباد ، فغير جائز أن يكون خبرهم إلا صحيحا .
وقد ذكر ابن الانباري عن ابن مسعود و ابن عباس قوله تعالى : (و ما يعلم تأويله إلا الله و الراسخون في العلم يقولون آمنا به ) قالوا كلهم بأجمعم :الواو للإستئناف و ليست عاطفة .وذكر ابو سليمان البستي أن الوقف التام في هذه الآية عند قوله : (إلا الله ) وما بعده استئناف .
وقال إمامنا أحمد بن حنبل رضي الله عنه : لا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت . وقال ايضا : قلب المؤمن بين اصبعين من اصابع الرحمان . وقال : خلق آدم على صورته وخلق آدم بيده .كل ذلك نقول به لورود الحديث به .
وذكر ابو عيسى الترمذي في كتابه : (و قد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم روايات كثيرة منها رؤية الرب يوم القيامة وذكر القدم و ما أشبه هذه الأشياء ..والمذهب في هذا كله عند أهل العلم مثل سفيان و مالك و ابن المبارك ووكيع و ابن عيينة و غيرهم أنهم قالوا : أمِّروها و لا تقولوا كيف ؟ و هذا أمر أهل العلم الذي اختاروه و ذهبوا إليه ). و بالله التوفيق .
و الحمد لله على فضله و أياديه أولاً وآخراً .و صلى الله على سيدنا محمد و آله و صحبه و سلم تسليماً كثيراً.
اعلم وفقك الله وهداك ، أن من جملة ما ذهبت إليه الاشاعرة واستدلوا على صحته بما رمزوا : من ذلك نفيهم حقائق القرآن ، وقولهم : إنه مجاز .وإنما ذهبوا الى ذلك لأنهم قالوا : ( إن الله تعالى لم يكلم موسى ، وإنما اضطره الى معرفة المعنى القائم بالذات من غير أن يسمع صوتا أو يفهم حرفا). وبنوا على ذلك أصلهم في حد الكلام ، وأنه المعنى القائم بالذات ، وأن كل ما يقرأ و يتلى إنما هو عبارة عما لم يفارق الذات ، وهو المعنى القائم في النفس ، وأنه لا يدرك بشيء من الحواس بحال. وفرعوا على هذا الأصل فروعاً . فمن ذلك : أن قالوا : إن كلام الله تعالى لا يسمع منه ولا يتكلم به غيره ، وإن الله تعالى يتكلم بلا حرف ولا صوت ، وإنه لا يجوز أن يقال : إنه تكلم أو خاطب أو قرأ أو لفظ .ومن قال ذلك عندهم فقد كفر .
ومن فروعهم الفاسدة وأقوالهم الباطلة أن منعوا نزول القرآن جملة واحدة من غير تفصيل ، وأن القراءة والتلاوة والأصوات والحروف عندهم مخلوقة ، وزعموا بعقلهم الفاسد أن المفهوم من ذلك غير مخلوق ، وأن المقروء و المتلو والمسموع و المكتوب غير مخلوق . وهذا من رموزهم أيضا التي أحادوا بها العامة و أضلوا بها الأمة .
فأما نفيهم للحقائق : فاستدلوا على ذلك بأن قالوا : ( إذا ثبت أن حد الكلام هو القائم بالذات ، وأن الكلام صفة للذات ، وقد ثبت أن الصفة لا تفارق الموصوف ، وأن الموصوف لا سبيل إلى تكييفه وحدّه وأنه لا يتقسم ولا يتبعض ، ولا يحويه مكان ، عُلمَ أن كلامه بيننا مجاز لا حقيقة. لأننا لو حققنا وجوده بيننا كنا قد حكمنا بأن الصفة تفارق الموصوف ، ويحويها المكان ، وذلك لا يجوز. فلم يبق إلا أن كلام الله سبحانه لا حقيقة له بيننا ، وإنما بيننا العبارة عنه . الدليل على ذلك أن كلام الله تعالى لا يتغير ولا يدخله اللحن ولا يقع عليه المدح والذم ، وكل ذلك يدخل على عبارتنا ، فثبت ما قلنا).
والجواب على ما استدلوه من وجوه :
أحدها : أنهم حدوا كلام الله سبحانه بما حدوا به كلام المخلوقين ، وقد أثبتوا أن الباري عز وجل لا يحد ولا يكيف ، فبأن لا يحد كلامه أحرى وأولى . ولما جاز أن يحد المخلوقون جاز أن يحد كلامهم. وخلافنا ليس في كلام المخلوقين ، وإنما هو في كلام الخالق ، فبطل تحديد كلامه بما حدوه به .
والوجه الثاني من وجوه المنع للحد ، هو : أنه إذا حد الكلام بأنه هو المعنى القائم في النفس ، كان محدودا مدخولا بالفكر والمفهوم والمقروء والمتلو والمسموع والرمز والإشارة . ومعلوم أن الاشتراك في الحد لا يجوز، فبطل ما قالوه .
الثالث : من وجوه المنع للحد هو : أن الحد من شرطه الطرد والعكس لئلا يتبعض الحد ، وإذا كان حد الكلام : المعنى القائم بالنفس ، فيجب أن يكون حد المعنى القائم بالنفس : الكلام . فيكون الكلام هو الحد وهو المحدود ، وهذا بخلاف الأصول . لأن الحد عندنا : إنما هو بعض المحدود ، ولا يجوز أن يكون الكل ، فبطل ما أصّلوه واعتمدوه . ويجب أن يقال : كل ما في النفس كلام ، ويقال : كل الكلام ما في النفس. فيؤدي هذا إلى أن الكلام لا يسمع بحال ،وهذا باطل .
والرابع : من وجوه المنع للحد هو : أن الحد إذا كان هو المعنى القائم بالنفس من غير نطق ، فما الفرق بين الساكت و المتكلم ؟ ولأي فائدة وضع أهل اللسان صفة السكوت إذا كان يعد متكلما لأجل أن في
نفسه كلاما ، وقد يكون في نفس الساكت كلام أيضا ، وما حد السكوت عندهم؟ وليس عن شيء مما ذكرناه انفصال بحال .
وأما الثاني من وجوه الجواب عن الاستدلال عن نفي حقيقة القرآن بيننا هو :أنا اتفقنا على أن حد الحقيقة استعمال الشيء فيما وُضع له ، وحد المجاز استعمال الشيء فيما وُضع لغيره .فمثال الحقيقة : الله ربنا ، ومحمد نبينا ، و الكعبة قبلتنا. ومثال المجاز : تسميتنا للجد أباً ، وللرجل القوي أسدا . وقد اتفقنا أن الحقيقة لا تنتفي ، والمجاز هو الذي ينتفي . فيقول القائل : لي جد و ليس لي أب ، فلو كان الجد أبا على الحقيقة لم ينتف عنه اسم الأب . ثم اتفقنا على أنا نقول : كلام الله تعالى على الحقيقة مقروء بألسنتنا ، على الحقيقة متلو في محاريبنا ، على الحقيقة مفهوم بقلوبنا ، على الحقيقة محفوظ في صدورنا ، على الحقيقة مسموع بآذاننا ، على الحقيقة مكتوب في مصاحفنا ، غير حالّ في شيء من ذلك ،ولاينفصل عن ربنا عز وجل، ولو كان ما بيننا مجازا لم يثبت به اسم الحقيقة لما ذكرناه ، لأن المجاز لا يعبّر عنه بالحقيقة.
فإن قيل : لا نُسلّم ، بل يُعبّر عندنا بالحقيقة عن المجاز ، وذلك أن الغايط وهو المكان المطمئن من الأرض ينقله الاستعمال من الحقيقة الى المجاز، فصار المجاز حقيقة ، فيقول القائل : جئت من الغائط ، وحقيقته المكان المطمئن من الأرض ، وإخباره حال عن الحدث ،فيُعبّر بالحقيقة عن المجاز . وكذلك الوضوء والصلاة و الزكاة يُعبّر فيها بالحقيقة عن المجاز لكثرة الاستعمال .
فالجواب هو: أن هذا الكلام غير صحيح لوجوه :
أحدها : أن اتفاقنا على أن الحقيقة لا تنتف بحال ، ومما يدل على بطلان هذا السؤال :هو : أن القائل قد يقول : جئت من الغائط ولم أحدث . وفهمت القرآن لأصلي ولم أصل ، وكان يدعو ، أو يصلي على النبي (صلى الله عليه وسلم) ، ويقول كنت أتوضأ ولم أتوضأ ، وكان يغسل يده من الغمر . ولا يصح منه أن يقول : كنت أقرأ القرآن ولم أقرأه ، وكنت أتلو القرآن ولم أتله وحفظت القرآن في صدري ولم أحفظه . وهذا كلام لا يذهب إليه ولا يعول عليه إلا من عدم التحصيل و طلب التعطيل .
والثالث من وجوه الجواب عن الاستدلال عن نفي حقيقة القرآن بيننا هو : قولهم أن الموصوف وهو الباري سبحانه لا يكيف و لا يحد وأن الصفة لا تفارق الموصوف . نقول لهم وعليه نناظر ، لأنا لا ندعي أن القرآن فارق ربنا عز وجل ، سبحانه وتعالى عن ذلك ، وإنما نقول إنه نور يفرقه الله تعالى في قلوبنا ، وتنطق به ألسنتنا ، وتسمع به أسماعنا ، ونكتبه في مصاحفنا ، غير حالّ في شيء مما ذكرناه . قال الله عز وجل : (بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم )، وقال عز وجل : ( لا تحرك به لسانك لتعجل به ) . والهاء راجعة الى القرآن ، لأنه لا شيء يحرك به لسانه إلا القرآن، لقوله تعالى ( إن علينا جمعه وقرآنه ) ، ولو كان القرآن هو القائم بالذات ، لكان قوله تعالى : ( لا تحرك به لسانك) مستحيلا ، لأنه نهي لا معنى له ، لأن تحريك اللسان بما في الذات معدوم. و قال الله عز وجل : ( وما ينطق عن الهوى . إن هو إلا وحي يوحى . علمه شديد القوى ) فالهاء راجعة الى الوحي ، والوحي راجع الى النطق . وقال تعالى : ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ) ، ولا يسمع إلا القرآن ولا ينصت إلا له . وقال تعالى : ( بل هو قرآن مجيد . في لوح محفوظ ) . وقال تعالى : ( في كتاب مكنون . لا يمسه إلا المطهرون ) .
فإن قيل : كيف يكون القرآن بما ذكرتم غير حال ؟
قيل : يلزمكم هذا مثل ما يلزمنا ، لأنكم أثبتم المقروء والمتلو والمكتوب والمفهوم بيننا ، ولم تسألوا كيف أثبتّموه حالّ أو غير حالّ .
فإن قيل : نحن إنما أثبتناه مجازا لا حقيقة ، وأنتم أثبتموه حقيقة لا مجازا.
قيل : فما فائدة ذكركم للحقيقة وقد أبطلنا عبارتكم بها عن المجاز ؟
ثم نقول : إذا نظر أحدكم في الماء وفي المرأة وفي الجسم الصافي الصقيل ، هل هي - أي صورة الرائي - هو ، أم هي غيره ؟ وهل هي صفة الناظر أو صفة غيره ؟
فإن قالوا : هي صفته ، أخطأوا ، لأنهما مفترقتان رأي العين . وإن قالوا : لا نثبت أن الصفة ترى في غير محل الموصوف عن غير انتقال ولا طول . وإن قالوا : ليس هي صفة الناظر أخطأوا ، لأنها توجد وتعدم بعدمه ، ولا تخالفصفته ، فبطل ما قالوه .
وإن قالوا : ليست هي هو ، ولا هي غيره .
قلنا لهم : فما هذا المرئي فيهما ؟ وليس عن هذا انفصال بحال .
ثم نقول لهم : أخبرونا عن شعاع الشمس إذا حل على الجدار واكتست منه الدنيا : هل انفصل ذلك الشعاع منها ، أم هو متصل بها ؟
فإن قالوا : انفصل منها ، أخطأوا . وإن قالوا : متصل بها :
قيل لهم : فهل هو منفصل من الأرض ؟
فإن قالوا : نعم ، أخطأوا ، لأنه موجود رأي العين .
وإن قالوا : لا . قيل لهم : فهل هو صفة للشمس أم للدنيا ؟ فإنه متصل بهما جميعا .
فإن قالوا : هو صفة للشمس . قيل لهم : فقد فارقت الصفة الموصوف من غير انفصال ولا حلول .
فكذلك نحن نقول : إن القرآن هو حبل ممدود بين الله وبين خلقه ، غير منفصل من الله تعالى ، ولا حالّ في خلقه ، كما قال النبي (صلى الله عليه وسلم ) : (القرآن حبل الله المتين طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم ) والحبل هو السبب ، والسبب هو الحبل .
والرابع من وجوه الجواب عن الاستدلال عن نفي حقيقة القرآن بيننا هو : أن ذكرهم المكان لامعنى له ، لأن المجاز لا يستغني عن المكان ، كما أن الحقيقة لا تستغني عن مكان ، والذي يلزمنا من ذلك يلزمكم مثله .
ثم نقول لهم : أخبرونا عن الباري سبحانه ، هل هو معنا أو بيننا ؟ فإن قالوا : لا ، كفروا ، لأنهم نفوا آية من القرآن ، ومن نفى آية من القرآن فقد كفر . وإن قالوا : نعم ، طالبناهم بالمكان . ليس عن هذا انفصال بحال .
والخامس من وجوه الجواب عن الاستدلال عن نفي حقيقة القرآن بيننا هو: أن العبارة التي أسندوا إليها ظهورهم وعوّلوا عليها وجعلوها لهم أصلا، وموهوا على العالم بها ، فإن حقيقتها غير ما ذهبوا إليه .
وذلك أنهم قالوا : (إن القارئ إذا قرأ القرآن ، لم يكن متكلما بكلام الله عز وجل على الحقيقة ، كما لا يجوز أن يتكلم بكلام زيد على الحقيقة ، فلم يبق إلا أنه يعبر عن كلام الله سبحانه ) .
وهذا كلام غير صحيح ، لأنه لا خلاف بين أهل هذا الشأن في أن العبارة لا تكون حقيقة إلا من طريق المعنى فقط ، ثم يجوز أن يعبر الرجل إلا عمن سمع كلامه وفهم معناه ، دون من لم يسمع كلامه ولا فهم معناه ، يدل على ذلك نقل الشهادة ونقل الأخبار . ثم لم يبق إلا أن القارئ إنما عبر عن من سمع كلامه ، وهو الذي علمه، وكذلك صاعداً الى النبي (صلى الله عليه وسلم) ، ثم إن النبي (صلى الله عليه وسلم) عبّر عن جبريل ، وجبريل لم يعبّر عن رب العالمين لأنه لم يسمع كلامه ، ولا عن ميكائيل ولا عن إسرافيل ، لأنهم لم يسمعوا كلام الله تعالى عندهم ، فكيف يجوز أن يقال : عبارة عن كلام الله تعالى والله تعالى لم يسمع كلامه أحد ممن عبر عنه عندهم ؟ فبطل ما ادعوه من العبارة .
فإن قيل : جبريل عبّر عن ميكائيل ، وميكائيل عن إسرافيل ، وإسرافيل أخذ من اللوح المحفوظ .
قيل : فتكون العبارة عن اللوح ، واللوح لا يتكلم ، ولو تكلم لنسب الكلام إلى اللوح ولم ينسب إلى الله تعالى ، فلما لم ينسب الكلام إلى اللوح بطل حكم العبارة من كل الوجوه ، وثبت أن قارئ القرآن يتكلم بكلام الله عز وجل على الحقيقة ، لقوله تعالى : (لا تحرّك به لسانك لتعجل به ) ، ولقوله سبحانه : ( وما ينطق عن الهوى . إن هو إلا وحي يوحى ) ، وقوله ( هو ) : راجع إلى النطق الذي نطق به النبي (صلى الله عليه وسلم ) ، فأثبته الله تعالى أنه وحي علمه إياه ، ولم يقل إنه كلام محمد (صلى الله عليه وسلم) .
وقوله عز وجل : (كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك ) ، فسمى الله تعالى ما يتلوه النبي (صلى الله عليه وسلم) وحياً ، لم يقل إنه كلام النبي (صلى الله عليه وسلم) ، ولا خلاف أن التلاوة والقراءة واحدة .
فإن قيل : هما اثنان .
قلتا لهم : ففرقوا بين القراءة والمقروء والتلاوة والمتلو ، ولا فرق ، وقد قال تعالى إخبارا عن من قال إن هذا إلا قول البشر : (سأصليه سقر ) ، فأوجب الله عز وجل بعدله جهنم لما قال إن هذا القرآن كلام محمد .
وقوله تعالى : (ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) وهذا يدل على أن الميسر هو القرآن وليس هي للقراءة ، ولو كانت القراءة لم يكن لذكر القرآن فائدة .
وقوله عز وجل : (اتل ما أوحي إليك من الكتاب ) ، فأمره أن يتلو القرآن الذي أوحى الله إليه ، ولو كان لا يمكن أحداً أن يتكلم بكلام الله تعالى لكان الله تعالى قد كلف رسوله ما لا يتأتى وقوعه منه ، وذلك محال .
وقوله تعالى : (يريدون أن يبدلوا كلام الله ) ، وما كان بذات الله تعالى لا يقدر أحد على تبديله .
وقوله تعالى قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) ، والإشارة لا تكون لما بذات الله سبحانه لأنه لا يوصف .
فإن قيل : فإنما تحداهم بالتلاوة والقراءة والفصاحة والبلاغة وحسن التأليف ، ولم يتحداهم بمثل الكلام القائم بالنفس .
قيل : التلاوة والقراءة لا تسمى عندكم قرآناً ، ولا تعجز عنها فصحاء العرب ،وإنما عجزوا عن الإتيان بمثل المعجزة ، والتلاوة والقراءة ليست عندكم معجزة ، فبطل قولكم .
فإن قيل : العبارة عندنا إنما تكون عن المعنى دون الصيغة ، كما لو أن رجلا قال لعبده : قل لفلان تعال ، ففال له العبد : بيون - كلمة فارسية معناها تعال - ، لم يحسن من السيد لومه ، لأنه قد أتى على الغرض والمقصود .
فالجواب ، أن هذا كلام فاسد ، لأن المقصود بقوله قل لفلان تعال أن يجيء ، فلو مضى العبد وأخذ بيد فلان وجاء به من غير أن يكلمه ، لم يحسن من السيد لومه .
وليس كذلك المقصود بنقل كلام الله تعالى ، وإنما المقصود به معرفة الأحكام منه وإظهار المعجز الذي عجز الخلق عن الإتيان بمثله ، ولو كان المقصود به المعنى لم يعجز أحد عن ذلك ، ثم لم يلزمهم على هذا قراءته بالأعجمية وغيرها من اللغات .
وأما قولهم (إن اللحن والذم لا يتوجه على كلام الله سبحانه ، وإنما يتوجه ذلك على عبارتنا) . فهذا كلام غير صحيح . لأن من لحن في القرآن عندنا لم يقرأ القرآن ، لقول النبي (صلى الله عليه وسلم) : (من قرأ القرآن باللحن فقد كذب على الله سبحانه ) . واللحن هنا أيضا أردنا به ترك الإعراب دون التطريب و التلحين في القرآن .
وأما قولهم : ( إن موسى عليه السلام لم يسمع كلام الله بحاسة أذنه ، وإنما اضطره الى معرفة المعنى القائم بالذات ) ، فهذا إنكار لكتاب الله عز وجل وجحد له .
قال تعالى : (وكلم الله موسى تكليما ) ، وهذا مصدر ومعناه على الحقيقة، وهذا لا خلاف بيننا وبينكم فيه .
وقولهم (اضطره الى معرفة المعنى القائم بالذات ) خطأ ، لأن الإضطرار إنما هو الإلجاء والإكراه ، وذلك لا ميزة لموسى فيه على غيره .
فإن قيل : اضطره الى سماع كلامه بلا حرف ولا صوت .
قيل لهم : هذا ممتنع من كل الوجوه ، لأنا اتفقنا على أن كل ما وقع بقلب الانسان لا يعد كلاما لله ، وكذلك ما ألهمه لا يعد كلاما له ، فبطل ما قالوه . لأنه لا بخلو أن يكون فهم ما سمع ، أو فهم ما لم يسمع ، وأي ذلك كان لا يصح ، لأن السماع لا يكون إلا بالأذن ، كما أن الفهم لا يكون إلا بالقلب ، وهذا إنما هو فيمن تنسب إليه الأذن والقلب ، دون من لا تنسب إليه الأذن ، قال الله تعالى : (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ) ، ومعلوم أن الكافر لا يسمع كلام الله تعالى من الله ، فدل على أنه يسمعه من غيره ، وليس إلا القارئ .
فإن قيل : فإن الله إنما نصّ على الكافر حتى يسمع كلام الله لا كلام غيره ، فإن قام دليل العقل على منع ذلك وعلى عدم سقوط فائدة الآية، فلم يبق إلا أن الكافر يسمع كلام الله .
وجواب آخر : وهو أن الله تعالى لا يكلف رسوله ما لا سبيل إليه ، ولا يبعث به ولا يأمره بما لا فائدة له ،وذلك ممتنع بكل حال .
فإن قيل : إنما أراد حتى يسمع العبارة عن كلام الله تعالى .
قيل : العبارة معلومة على ما بيّنّاه ، ثم لو وُجدت لم تُسَمّ كلاما لله تعالى، ولم يبق إلا أنه يسمع كلام الله تعالى .
ثم نقول : إذا كان الله تعالى اضطره الى سماع كلامه من غير صوت ولا حرف ، فما المانع أن يضطره إلى أن يتكلم بكلامه بحرف و صوت؟
فإن قيل : قام الدليل على المنع من ذلك .
قيل : وكذلك قام الدليل على منع ما قلتموه أنتم أيضاً . قال الله سبحانه: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم تُرحمون ) فدل على أن المسموع القرآن ، والذي يُنصَت إليه هو القراءة .
وقال تعالى : (وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ) ومعلوم أن كلام الله لم يسمعوه ، وإنما سمعوا القراءة من القارئ وعقلوها دون كلام الله القائم بذاته الذي لا يصلون الى تحريفه ، كما أنهم لا يصلون الى العلم الذي بذاته ، فثبت أنه الكلام الذي نتلوه .
وقال تعالى إخبارا عن الجن : ( إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي الى الرشد فآمنا به ) ومعلوم أنهم لم يسمعوا كلام الله من الله، وإنما سمعوه من القارئ .
وقال الله عز وجل إخبارا عن الجن : ( إنا سمعنا كتاباً أٌنزل من بعد موسى ) ولم يسمعوا الكتاب لأن الكتاب لا يُسمع ، وإنما سمعوا قراءة القرآن .
وأما قولهم : (إن الله تعالى كلّم موسى بلا حرف ولا صوت ، وإن كلامه لا يجوز أن يقال إنه بحرف وصوت ) ، فخطأ ، لأنه قال تعالى : (وناديناه من جانب الطور الأيمن ) وقوله تعالى : (فلما أتاها نودي ) وقوله تعالى : (فلما جاءها نودي ) ومعلوم أن النداء لا يكون إلا بصوت، والصوت لا يكون إلا بحرف ، فثبت أنه تعالى نادى بصوت وحرف ليس كمثل أصواتنا ولا حروفنا ، لأن أصواتنا لها آلة ، وحروفنا لها مخارج ،والله تعالى لا يوصف بشيء من ذلك .
فإن قيل : فهذا هو دليلنا عليكم ، لأنكم أثبتتم لأصواتكم آلة ولحروفكم مخارج ونفيتم ذلك عن الله تعالى ، ثم قلتم إن كلامكم بكلامه هو كلامه على الحقيقة ، وذلك لا يجوز ، إلا أن تثبتوا لصوته آلة و لحروفه مخارج ، وإن بلغتم الى هذا فقد كفرتم .
قيل : يلزمنا من ذلك ما يلزمكم في إثباتكم أن السماوات والأرض قالتا أتينا طائعين ، وذك لا يخلو أن يكون القول بصوت أو بغير صوت ، فإن كان بصوت فيلزمكم أن تثبتوا لذلك الصوت آلة وحروفا ومخارج كما ألزمتمونا فما قلنا ، وإن لم يلزمكم ما قلنا لم يلزمنا ما قلتم ، وكذلك يلزمكم أن تثبتوا الآلة للذراع والأيدي والأرجل ، ولجهنم .
ويلزمكم أن تثبتوا للباري سبحانه آلة القرآن وآلة النداء وآلة الخطاب ، لأنه تعالى خاطب العالم فقال : ( يا آيها النبي ) و ( يا أيها الناس ) و(يا أيها الذين آمنوا ) ، وخاطب ذرية بني آدم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ؟ قالوا : بلى ، وهم في العدم ، وهل سمع الله تعالى كلامهم ذلك الوقت في حين خطابه لهم أم لا ؟ وآلة القدرة وآلة النظر وآلة المنظور إليه ، لأنكم أثبتتم أن الله تعالى يرى يوم القيامة وأنه يرى ويسمع ، فيلزمكم أن تثبتوا له السمع و البصر ، وكل ذلك لا تلزموه أنفسكم فلم يلزمنا ما قلتموه . ولو جاز أن يقال : إنا لم نجد في الشاهد حروفا إلا ممن له أدوات ، فيجب في الغائب مثله ، لجاز لنا أن نقول : إنا لم نعقل في الشاهد علماً إلا من أحد طريقين : إما ضرورة وإما استدلالا ، فكذلك يجب أن يكون علم الباري سبحانه ، ولك عين الخطأ .
فإن قيل : إن المانع من أن يكون كلام الله تعالى بحروف ، هو أن الثاني من الحروف متأخر والأول متقدم ، والقديم لا يجوز أن يسبق بعضه بعضاً ، فثبت أن الحروف مخلوقة لأنها مترتبة في الوجود .
قيل : هذا يبطل عليكم بقول الله سبحانه لآدم وعيسى : (كن) ، ومعلوم أن آدم خلق قبل عيسى .
فإن قيل : إنما قال لآدم ولعيسى : كن في الأول ، وإنما تقدم الوجود لآدم قبل عيسى ، ولم يتقدم القول بعضه على بعض .
قيل : هذا باطل ، لقوله تعالى : ( إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ) ، ولا يخلو أن يكون جميع ما في الدارين شيئا واحداً أو أشياء كثيرة ، فإن كان شيئا واحداً فإن دليل الشرع والعقل يمنع ذلك ويثبت أن جميع ما في الدارين أشياء عدة وكل شيء منها قال الله له : كن . ولابد أن يخلق شيئا بعد شيء ، فيكون كن الذي هو القول لكل شيء منفرد من القول للشيء الآخر ، وذلك يمتنع أن يكون في حالة واحدة ، في ساعة واحدة ، لأن الله تعالى خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، وقوله تعالى : ( كن ) لا يستغرق زمان ستة أيام لشيء واحد ، وهذا هو المحال بعينه .
ويبطل ما قالوه ، بقوله تعالى : ( كهيعص ) . ولا يخلو أن يكون حروفاً متوالية أو غير متوالية ، أو هي قرآن أو غير قرآن ، أو المنطوق به منها غير المفهوم أو هو المفهوم منها .
فإن كانت متوالية بطل ما قالوه ، وإن كانت غير متوالية فيعكسونها في القرآن وذلك أن يقولوا ( صعيهك ) ، وهذا إن بلغوا ليه كفروا ،لأنها إن كانت قرآنا لم يجز تغييرها ، وإن لم تكن عندهم قرآنا كفروا لأنهم نفوا آية من المصحف المجمع على ما فيه .
ثم نقول : هل يُفهم من الحروف التي في أوائل السور غير ما ينطق به منها ؟- وهو قراءتها -
فإن قالوا : المفهوم غيرالمنطوق به لزمهم أن يبينوه ويظهروه لكي نعلمه كما علموه ، وإن كان هو المنطوق به منها فليس ينطق إلا بحروف مقطعة ، فثبت أنها قرآن ، وبطل أن تكون مخلوقة .
ولأن الله تعالى لا يخلو من أن يكون قال : (ألم) أو لم يقل ، فإن كان قال فهو قوله ، وقوله غير مخلوق ، وإن كان لم يقل ، فيجب أن تمحوها من المصحف وتسقطوها من القرآن ، وإن بلغوا إلى هذا كفروا .
وأما منعهم لنزول القرآن ، وأنه لم يفارق الذات ، فإنهم استدلوا على ذلك بأن النزول هو الظهور في لسان العرب ، والقرآن هو الجمع في لغتهم ، وإنما سمى بذلك مجازا . وهذا كلام غير صحيح ، لأن النزول إذا كان هو الظهور فالمعنى القائم بالذات لم يظهر ، لأن ظهوره يخرجه عن أن يكون قائما بالذات ، لأن دليل العقل يمنع من ذلك .
فإن قيل : ما في النفس تسميه العرب كلاماً ، وأنشدوا بيت الأخطل :
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما**جعل اللسان على الفؤاد دليلا
واستدلوا بقول الله عالى : (فأشارت إليه ) ، والإشارة كلام ، وأن الله تعالى سمى الرمز كلاما ، فكذلك يجب أن يكون المعنى القائم بالذات كلاما .
فالجواب عن جميع ما أوردوه هو أن الظاهر لا يجوز أن يكون قائما بالذات ، لأن الظاهر هو الذي يدرك بالحواس ، و القائم بالذات لا يدرك بها .
فإن قيل : لا نسلم أن كلام الله تعالى يدرك بالحواس .
قيل : هذا يبطل بالمفهوم ، فإنه لا يفهم إلا بالحواس .
فإن قيل : أخبرونا كيف يكون النزول من غير انتقال وانفصال .
قيل : يكون كُرُوباَ -دنوا- من غير حصر بكيف ، وكالنداء بغير صوت ولا حرف ولا إلهام ..وجوابكم عن هذا هو جوابنا لكم ..فأما بيت الأخطل فلا حجة فيه لأنه ليس بجميع أهل اللغة .وأما الدليل أن أهل اللغة وافقوه على ما قال ، فيحتاج المحتج بقوله أن يقيم دلالة على أن جميع أهل اللغة وافقوه على ذلك . فإن وضعوا صيغة تدل على ما قالوه -وذلك معدوم من وصفهم - بطل الاحتجاج بقول الأخطل .
وأما قولهم : إن القرآن هو الجمع ، واستدلوا بقول العرب ، فالجواب عنه كالجواب عن قول الأخطل .
ثم نقول : يبطل هذا بقول الله تعالى : ( إن علينا جمعه وقرآنه ) فذكر الجمع ذكر القرآن ، فلو كان القرآن هو الجمع ، لم يجز أن يقول إن علينا جمعه وقرآنه ، لأن التأكيد لا يعطف ، ولأن العرب تقول - خرج القوم أجمعون أكتعون ، ولا يعطفون ذلك بالواو ، فثبت أن الجمع معنىً غير القرآن . فأما قوله : (فأشارت إليه ) ، فالإشارة عندنا غير الكلام ، لأن المصلي يحرم عليه الكلام ويبطل صلاته ، وإنما كان ذلك معجزة لمريم وبراءة لها لكي يفهمهم ، لأنها أتت بولد من غير أب ، فكان قوله براءة لها ، فصدقوا ذلك ، فأشارت أن اسألوه . وليس هو عندنا كلاماً ..كما أن الإشارة لا تسمى قراءة ولا تلاوة ، ولأنها قد تفهم وقد لا تفهم ، ولأن الأخرس لا يتكلم وهو يشير وتفهم إشارته ولا يعد متكلماً .
وأما قوله تعالى : (آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا ) فاستثنى الرمز من الكلام . وقوله : إن المستثى لا يكون إلا من جنس المستثنى منه ، وهذا غير مسلم لأن الاستثناء عندنا يجوز من غير الجنس ، كقوله تعالى : ( فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس ) ، وإبليس ليس من جملة الملائكة ، والرمز عندنا ليس هو من جنس الكلام .
وقال تعالى : (ألمص. كتاب أنزل إليك ) ، وقال تعالى : (ألر. كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ) ، وقوله تعالى : (وإنه لتنزيل رب العالمين . نزل به الروح الأمين . على قلبك ) ، وقال تعالى: ( إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى ) ، وقال تعالى : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) ، وقال تعالى : ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل) والمعنى القائم بالذات لا يخبر عنه بهذ ا ، ولا يشار إليه بهذا .
تم الفصل بحمد الله وعونه .
( عن خزانة التراث العربي )
مقالات أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي في كتب متنوعة :
1-شذرة
قال ابن عقيل :
وقد نبهنا على العجز عن ملاحظة العواقب فقال تعالى : وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم .
ففي عقولنا قوة التسليم وليس فيها قدرة الاعتراض عليه . وقد يدعو الإنسان فلا يجاب فيندم ، وهو يدعى إلى الطاعة فيتوقف ، فالعجب من عبيد يقتضون الموالي اقتضاء الغريم ، ولا يقتضون الغريم ولا يقتضون أنفسهم بحقوق الموالي .
(الاداب الشرعية)
2-شذرة
قال ابن عقيل :
من أحسن ظني به أنه بلغ من لطفه أن وصى ولدي إذا كبرت فقال : {فلا تقل لهما أف } .
فأرجو إذا صرت عنده رميما أن لا يعسف ; لأن أفعاله ، تشاكل أقواله ،
(الاداب الشرعية)
3-شذرة
قال ابن عقيل في الفنون : النعم أضياف وقراها الشكر ، والبلايا أضياف وقراها الصبر ، فاجتهد أن ترحل الأضياف شاكرة حسن القرى ، شاهدة بما تسمع وترى .
(الاداب الشرعية)
4-شذرة
قال ابن عقيل :
زنوا أنفسكم : من المبادئ ماء وطين ، وفي الثواني ماء مهين ، وفي الوسط عبيد محاويج لو حبس عنكم نسيم الهواء لأصبحتم جيفا ، ولو مكنت منكم البقوق عن السباع لأكلتكم ، كونوا متعرفين لا عارفين .
(الاداب الشرعية)
5- سبعة علماء :
قال ابن عقيل :
وجدت في تعاليق محقق أن سبعة من العلماء مات كل واحد منهم ، وله ست وثلاثون سنة ، فعجبت من قصور أعمارهم مع بلوغهم الغاية فيما كانوا فيه ، فمنهم الإسكندر ذو القرنين وقد ملك ما ذكره الله ، وأبو مسلم الخراساني صاحب الدولة العباسية ، وابن المقفع صاحب الخطابة والفصاحة ، وسيبويه صاحب التصانيف والتقدم في العربية ، وأبو تمام الطائي في علم الشعر ، وإبراهيم النظام في علم الكلام ، وابن الراوندي في المخازي ، وله كتاب الدامغ مما غر به أهل الخلاعة ، وله الجدل انتهى كلامه -
(الاداب الشرعية)
6-لا ينبغي الخروج من عادات الناس
قال ابن عقيل :
لا ينبغي الخروج من عادات الناس إلا في الحرام فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ترك الكعبة وقال { لولا حدثان قومك الجاهلية } وقال عمر لولا أن يقال عمر زاد في القرآن لكتبت آية الرجم .
(الاداب الشرعية)
7-فعل الخير مع الأشرار
قال ابن عقيل :
لا ينبغي فعل الخير مع الأشرار تقوية لهم على الأخيار ، كما لا ينبغي أن يحرم الخير أهله ، لا ينبغي أن يحرم الخير حقه ، فإن وضع الخير في غير محله ظلم للخير كما قيل : لا تمنعوا الحكمة أهلها فتظلموهم ، ولا تضعوها في غير أهلها فتظلموها ، كذلك البر والإنعام مفسد لقوم حسب ما يفسد الحرمان قوما ، قال : فهو كالنار كلما أطيب لها مأكلا سطت فأفسدت قال فرقد قال المتنبي :
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى
فالسياسة الكلية افتقاد محال الإنعام قبل الإنعام ، وقال علي رضي الله عنه : كن من خمسة على حذر من لئيم إذا أكرمته ، وكريم إذا أهنته ، وعاقل إذا أحرجته ، وأحمق إذا مازحته ، وفاجر إذا مازجته . ا .
(الاداب الشرعية)
8-
قال ابن عقيل في الفنون :
قال الحسن من دخل مداخل التهمة لم يكن أجر للغيبة
(الاداب الشرعية)
9-شذرة
في الفنون : يخطر بقلوب العلماء نوع يقظة ، فإذا نطقوا بها وبحكمها نفرت منها قلوب غيرهم ، ولو من العلماء ، ولا أقول العوام ، ومثل بأشياء منها قول أبي بكر رضي الله عنه لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا . وأن رجلا لو صحا ، فقال كلمة ظاهرها يوجب عند العوام الكفر فقال : لست أجد للرقيب ، والعتيد حشمة ولا هيبة حتى لو استفتي عليه جماعة من الفقهاء لقالوا كافر ، فظاهر هذا أنه ليس مصدقا بهما ، وهو يهون بحفظة الله تعالى على خلقه وملائكته ، فلو كان من المحققين ، فكشف عن سر واقعه لاستحيا من جهله ، أو كفره من العلماء فضلا عن العوام ، وكشف السر عن ذلك أنه قال : غلبت علي هيبة ربي وحشمة من يشهدني فسقط من عيني حشمة من يشهد علي ، وكنت أجد الحشمة لهما الغفلة عقبها صحو ، وموجب اليقظة والصحو وزوال الغفلة والسهو السمع { أو لم يكف بربك } { ونحن أقرب إليه منكم } والعقل ، فإن من شهد الحق كان كمن شهد الملك ، ومعه أصحاب أخباره فلا يبقى لأصحابه حكم في قلب من شهد الملك ، وإلا لكان وهنا في معرفته بحكم الملك وسلطانه .
فاحذر من الإقدام على الطعن على العلماء مع عدم بلوغك إلى مقاماتهم ، واختلاف أحوالهم حتى أنهم في حال كشخص ، وفي حال آخر كشخص آخر ، فإن للعبد عند كشف الحق محوا عن نفسه ، والعالم يتلاشى في عينه ، ولهذا قالت المتصوفة للصغار : يسلم للمشايخ الكبار حالهم ، وكلامهم سم قاتل لهم أولا ، ثم لمن لا يفهم ما تحت كلامهم ، والقاتل قد يكون معذورا ، والمقتول شهيدا ، أما المنكر فإنه جار على الظاهر . وأما القائل فقال بحكم حال كشفت له خاصة وحجب عنها السامع ، ومن هنا " كلموا الناس على قدر عقولهم " . فمن علم أن الخلق لا يستوون في المقال ، ولا في الأحوال لا يعقد الظنون ببادرة الواقع ، فيقع ناقصا .
(الاداب الشرعية)
10-شذرة
قال ابن عقيل :
متى حدثتك نفسك وفاء الناس فلا تصدق ، هذا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر الناس حقوقا على الخلق إلى أن قال : { قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى } فقتلوا أصحابه وأهلكوا أولاده .
(الاداب الشرعية)
11-من صدر اعتقاده عن برهان
قال أبو الوفاء ابن عقيل في الفنون : من صدر اعتقاده عن برهان لم يبق عنده تلون يراعي به أحوال الرجال . { أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } .
كان الصديق رضي الله عنه ممن يثبت على اختلاف الأحوال فلم تتقلب به الأحوال في كل مقام زلت به الأقدام إلى أن قال : وقد يكون الإنسان مسلما إلى أن يضيق به عيش ، وإنما ديننا مبني على شعث الدنيا وصلاح الآخرة فمن طلب به العاجلة أخطأه .
(الاداب الشرعية)
12-ويل لعالم لا يتقي الجهال بجهده
قال ابن عقيل :
ويل لعالم لا يتقي الجهال بجهده .. وكما يجب عليه التحرز من مضار الدنيا الواقعة من جهال أهلها بالتقية ، والواحد منهم يحلف بالمصحف لأجل حبة ، ويضرب بالسيف من لقي بعصبيته ، ويرى قناة ملقاة في الأرض فينكب عن أخذها ، والويل لمن رأوه أكب رغيفا على وجهه ، أو ترك نعله مقلوبة ظهرها إلى السماء ، أو دخل مشهدا بمداسه ، أو دخل ولم يقبل الضريح إلى أن قال :
هل يسوغ لعاقل أن يهمل هؤلاء ولا يفزع منهم كل الفزع ؟ ويتجاهل كل التجاهل في الأخذ بالاحتياط منهم فإن الذنوب مما تقبل التوبة عنها ولا إقالة للعالم من شر هؤلاء إذا زل في شيء مما يكرهون وينكرون ، وإن ظهر منه هوان ، وأبى إلا إهمالهم ، نظرا إليهم بعين الازدراء لهم ، فقد ضيع نفسه ، فإنه عندهم أهون ، وهم منه أكثر ، وعلى الإضرار به أقدر ، وهل تقع المكاره بالمسلم إلا من هؤلاء وأمثالهم ؟ فإذا احتشم الإنسان أهل العلم والحكمة توقيرا لهم وتعظيما ، أوجب الشرع والعقل احتشام هؤلاء تحدرا واتقاء فتكهم ، وهل طاحت دماء الأنبياء والأولياء إلا بأيدي هؤلاء وأمثالهم ؟ ..حيث رأوا من التحقيق ما ينكرون ، فصالوا لما قدروا عليه ، وغالوا لما لم يقدروا عليه ، فهم بين قاتل للمتقين مكاشفة حال القدرة ، أو غيلة حال العجز ، فاسمع هذا سمع قابل فإنه قول من ناصح خبير بالعالم ، ولا تهون بهم فتهون بنفسك ، ويطيح دمك مما رأيت من جهلهم ، إنهم يعني لا يرون الحيل التي وضعها العلماء على ما دلهم عليها الشرع كبيع الصحاح بفضة قراضة ليخرج من الربا أخذا لذلك من قوله عليه السلام : { بع التمر ببيع آخر ثم اشتر بثمنه } ويقول الواحد منهم هذا خداع لله تعالى ، ويعدل إلى بيع الدينار الصحيح بدينار ونصف قراضة ، ويرى أن الربا الصريح خير من التسيب الحلال بطريق الشرع إلى أن قال إن قوله عليه السلام عن اللحم الذي تصدق به على بريرة : { هو عليها صدقة ، ولنا هدية } طريق مستعمل ، ويتعين في كل عين تحرم في حقنا لمعنى إذا ملكها من تباح له لمعنى مبيح ونقلها ذلك إلينا بطريق شرعي ملكناها ، والعامة لا ترضى ذلك ، وتذم العالم الذي يسلك هذا المسلك .
(الاداب الشرعية)
13-الاصابة بالعين
قال ابن عقيل :
القول بالعدوى إضافة الداء إلى التولد وأن الفاسد ولد فاسدا وفي الهواء في الذات السليمة . والعين إضافة الفعل إلى صاحب العين إذ لا يمكنه ذلك ولا في الممكن أن يتولد من عينه ونظره فساد صالح ولا موت حي ولا ينسب ذلك إلا إلى الله . والحقيقة أن الله هو الفاعل لكل حادث من فساد الأجساد ومن صلاحها وأنه يحدث ذلك عند وجود شيء أو مقارنته ; لأن ذلك الشيء لا يولد ولا يحدث فسادا ولا صلاحا والله أعلم .
(الاداب الشرعية)
14-شذرة
قال ابن عقيل :
واكمداه من مخافة الأعيار ، واحصراه من أجل استماع ذي الجهالة للحق والإنكار ، والله ما زال خواص عباد الله يتطلبون لنزوحهم بمناجاتهم رءوس الجبال والبراري والقفار ، لما يرون من استزراء المنكرين بشأنهم من الأغمار ، إلى أن قال : فلا ينبغي للعاقل أن ينكر تضليع أحواله ، وتكدير عيشه .
(الاداب الشرعية)
15-مذهب العجائز أسلم
قال ابن عقيل :
قد تكرر من كثير من أهل العلم لا سيما أصحابنا قولهم : مذهب العجائز أسلم فظن قوم أنه كلام جهل ، ولو فطنوا لما قالوا لاستحسنوا وقع الكلمة وإنما هي كلمة صدرت عن علو رتبة في النظر ، حيث انتهوا إلى غاية هي منتهى المدققين في النظر ، فلما لم يشهدوا ما يشفي العقل من التعليلات والتأويلات بالاعتراض في أصل الوضع ، وقفوا مع الجملة التي هي مراسم الشرع ، وجنحوا عن القول بالتعليل ، فإذا سلم المسلمون ، وقفوا مع الامتثال حين عجز أهل التعليل فقد أعطوا الطاعة حقها ، ولقد علل قوم فمنعوا العقل عن الإصغاء إلى ذلك الإذعان بالعجز .
(الاداب الشرعية)
16-شذرة
قال ابن عقيل :
كل يوم تموت منك شهوة ولا تحيا منك معرفة ، واعجبا يختلف الناس في ماهية العقل ولا يدرون ، فكيف يقدمون على الكلام في خالق العقل ،
(الاداب الشرعية)
17-وعظ :
قال ابن عقيل (في أثناء كلام له يتكلم عن الله عز وجل ):
اعرفني بما تعرفت ، ولا تطلبني من حيث كتمت واقتطعت ، أنا قطعت بعض مخلوقاتي وعن علمك حيث وقفتك : فلما سألتني عن لطيفة فيك فقلت : ما الروح : فقلت مجيبا لك من أمري ، وقصرت عن علمك وعلم من سألك عنها فقلت { وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } . .قلت لرسولي في الساعة : { أيان مرساها } . .فكان جواب السائل والمسئول : { قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو } تجيء بعدها تبحث عني من لم يرضك لإيقافك على بعضك وهو يصفك تبحث عن ذاته وصفاته ، أما كفاك قولي : { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان } . ..فعرفك نفسك ونفسه عند سؤالك عنه بأنه مجيب لدعوتك ، فإياك أن تطلب ما وراء ذلك ، فإنك لا تجد إلا ما يورثك خبالا ، أتطمع أن تكشف حجابا أرخاه ؟ أو تقف على سر غطاه ؟ علم قصره خالقه عن درك بعض مخلوقاته التي فيك تريد أن تطلع به على كنه باريك ، والله إن موتك أحسن من حياتك .
(الاداب الشرعية)
18-مناظرة :
قال معتزلي : لا مسلم إلا من اعتقد وجود الله وصفاته على ما يليق به.
فقال ابن عقيل : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سهل ما قد صعبته فقنع من الناس بدون ذلك ، ويقول للأمة : " أين الله ؟ " فتشير إلى السماء فيقول : " إنها مؤمنة " فتركهم على أصل الإثبات إلى أن قال : إن مذهب المعتزلة أن من خرج من معتقدهم ليس بمؤمن ، وإن هذا ينعطف على السلف الصالح بالتكفير ، وإنا نحقق أن أبا بكر وعمر وغيرهما رضي الله عنهم لم يكن إيمانهم على ما اعتقده أبو علي الجبائي ، وأبو هاشم فخجل ثم قال : القوم كانوا يعرفون ولا يتكلمون ، فقيل له : القوم كانوا ينهون عن الجدال والجدال شبه المتكلمين .
(الاداب الشرعية)
19-شذرة
قال ابن عقيل في الفنون :
قال بعض مشايخنا المحققين : إذا كانت مجالس النظر التي تدعون أنكم عقدتموها لاستخراج الحقائق والاطلاع على عوائر الشبه وإيضاح الحجج لصحة المعتقد مشحونة بالمحاباة لأرباب المناصب تقربا ، وللعوام تخونا ، وللنظراء تعملا وتجملا ، فهذا في النظر الظاهر ، ثم إذا عولتم بالأفكار فلاح دليل يردكم عن معتقد الأسلاف والإلف والعرف ومذهب المحلة والمنشأ خونتم اللائح ، وأطفأتم مصباح الحق الواضح ، إخلادا إلى ما ألفتم ، فمتى تستجيبون إلى داعية الحق ؟ ..ومتى يرجى منكم الفلاح في درك البغية من متابعة الأمر ، ومخالفة الهوى والنفس ، والخلاص من الغش ؟ هذا والله هو الإياس من الخير ، والإفلاس من إصابة الحق ، فإنا لله وإنا إليه راجعون من مصيبة عمت العقلاء في أديانهم ، مع كونهم على غاية التحقيق ، وترك المحاباة في أموالهم ، ما ذاك إلا ; لأنهم لم يشموا ريح اليقين ، وإنما هو محض الشك ، ومجرد التخمين .
(الاداب الشرعية)
20-شذرة
قال ابن عقيل في الفنون :
قال بعض أهل العلم قولا بمحضر من السلطان في الاحتداد عليه وأخذ بعض من حضر يترفق ويسكن غضبه ولم يك محله بحيث يشفع في مثل ذلك العالم ، فالتفت العالم فقال للشافع يا هذا غضب هذا الصدر وكلامه إياي بما يشق أحب إلي من شفاعتك إليه ، فإن غضبه لا يغض مني وهو سلطاني ، وشفاعتك في غضاضة علي وكان القائل حنبليا فأفحم الشافع وأرضى السلطان .
و غضب بعض الصوفية على الأمير في طريق الحج فقال حنبلي بلسان القوم . قبيح بنا أن نخرج ونرجع مطاوعة للنفوس وهل خرجنا إلا وقد قتلنا النفوس ؟ فرجع معه وأطاعه فقال سبحان الله لو خوطبوا بلسان الشريعة من آية أو خبر ما استجابوا فلما خوطبوا بكلمتين من الطريقة أسرعوا الإجابة فما أحسن قول الله عز وجل { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم }
(الاداب الشرعية)
21-الدعاء :
قال ابن عقيل :
قد ندب الله تعالى إلى الدعاء ، وفي ذلك معان :
أحدها : الوجود ، فإن من ليس بموجود لا يدعى .
الثاني : الغنى ، فإن الفقير لا يدعى .
الثالث : السمع ، فإن الأصم لا يدعى .
الرابع : الكرم ، فإن البخيل لا يدعى .
الخامس : الرحمة ، فإن القاسي لا يدعى .
السادس : القدرة ، فإن العاجز لا يدعى .
ومن يقول بالطبائع يعلم أن النار لا يقال لها : كفي ! ولا النجم يقال له : أصلح مزاجي ! ! لأن هذه عندهم مؤثرة طبعا لا اختيارا ، فشرع الدعاء وصلاة الاستسقاء ليبين كذب أهل الطبائع .
(الاداب الشرعية)
22-شذرة
قال ابن عقيل :
الطباع الردية أبالسة الإنسان ، والعقول والأديان ملائكة هذا الشأن . وفي خلال تعتلج ولها أخلاق تتغالب والشرائع من خارج هذا الجسم لمصالح العالم وما دام العبد في العلاج فهو طالب ، فإذا غلب العقل واستعمل الشرع فهو واصل .
(الاداب الشرعية)
23- وعظ :
قال ابن عقيل :
أما تستحيي وأنت تعلم كلب الصيد يأخذ إبقاء عليك فيقبل تعلمك وتكسر عادية طبعه وتكلب نفسه عن الفريسة وهو جائع مضطر إليها ، حتى إذا أخذت الصيد إن شئت أطعمته وإن شئت حرمته ، ينتهي حالك معي وأنا المنعم الذي أنشأتك وغذيتك وربيتك إنني كلفتك أن تمسك نفسك عن البحث فيما يسخطني ، لم تضبط نفسك بل غلبتك على ارتكاب ما نهيت وعصيان ما أمرت ، بلغت الصناعة من هذا الحيوان الخسيس أن يأتمر إذا أمر ، وينزجر إذا زجر ، علقت الآداب بالبهيم وما تعلق بقلبك طول العمر وكمال العقل ، تنشط لزرع نواة وغرس فسيلة وتقعد منتظرا حملها ، وينع ثمرها ، وربما دفنت قبل ذلك ولو عشت كان ماذا وما قدر ما يحصل منها ؟ وأنت تسمع قولي { ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة } وقولي : { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة } هذا وأمثاله من آي القرآن لا تنشط أن تزرع عندي ما تجني ثماره النافعة على التأبيد ، هذا لأنك مستبعد ما ضمنت في الأخرى ، قوي الأمل في الدنيا ، ألم تسمع قوله تعالى { من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه } وتسمع : { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم } . وأنت تحدق إلى المحظورات تحديق متوسل أو متأسف كيف لا سبيل لك إليها ، وتسمع قوله تعالى { وجوه يومئذ ناضرة } . تهش لها كأنها فيك نزلت ، وتسمع بعدها { وجوه يومئذ باسرة }فتطمئن أنها لغيرك . ومن أين ثبت هذا الأمر ، ومن أين جاء الطمع ، الله الله هذه خدعة تحول بينك وبين التقوى .
(الاداب الشرعية)
24-شذرة
قال ابن عقيل :
والله ما أعتمد على أني مؤمن بصلاتي وصومي بل أعتمد إذا رأيت قلبي في الشدائد يفزع إليه ، وشكري لما أنعم علي ، وقال قد صنتك بكل معنى عن أن تكون عبدا لعبد وأعلمتك أني أنا الخالق الرازق فتركتني وقبلت على العبيد ، كلكم تسألوني وقت جدب المطر ، وبعد الإجابة يعبد بعضكم بعضا .
{ أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار }
(الاداب الشرعية)
25-التكشف
قال ابن عقيل :
للإيمان روائح ولوائح لا تخفى على اطلاع مكلف بالتلمح للمتفرس ، وقل أن يضمر مضمر شيئا إلا وظهر مع الزمان على فلتات لسانه وصفحات وجهه .
وقد أخذ الفقهاء بالتكشف على مدعي الطرش والعمى عند لطمه ، أو زوال عقله عند ضربه ، أو الخرس وما شاكل ذلك مما لا تعلم صحته إلا من جهته ولا تمكن الشهادة به .
وأن من أراد التكشف عن رجل خطب منه فإنه لا يزل يذكر المذاهب ويعرض بها ويذكر الأفعال المزرية في الشرع التي يميل إليها الطبع وينظر هشاشته إليها وتعبسه عند ذكرها وما شاكل ذلك ، فإنه لا يزال البحث بصاحبه حتى يوقفه على المطلوب بما يظهر من الدلائل ، فافهم ذلك بطريق مريح من كل إقدام على ما لا تسلم من عاقبته ، ويعصم من كل ورطة وسقطة يبعد تلافيها ، وذلك دأب العقلاء ، فأين رائحة الإيمان منك وأنت لا يتغير وجهك فضلا عن أن تتكلم ، ومخالفة الله سبحانه وتعالى واقعة من كل معاشر ومجاور فلا تزال معاصي الله عز وجل والكفر يزيد ، وحريم الشرع ينتهك ، فلا إنكار ولا منكر ، ولا مفارقة لمرتكب ذلك ولا هجران له .
وهذا غاية برد القلب وسكون النفس وما كان ذلك في قلب قط فيه شيء من إيمان ; لأن الغيرة أقل شواهد المحبة والاعتقاد . قال حتى لو تحجف الإنسان بكل معنى وأمسك عن كل قول لما تركوه ويفصح لأنهم كثرة وهو واحد والكلام شجون ، والمذاهب فنون ، وكل منهم ينطق بمذهب ويعظم شخصا ، وآخر يذم ذلك الشخص والمذهب ويمدح غيره ، ولا يزال كذلك حتى يهش لمدح من يهوى ، ويعبس لذمه ، وينفر من ذم مذهب يعتقده فيكشف ذلك .
فالعاقل من اجتهد في تفويض أمره إلى الله عز وجل في ستر ما يجب ستره وكشف ما يجب كشفه ، ولا يعتمد على نفسه فإنه يتعب ولا يبلغ من ذلك الغرض . قال لأنه إذا لم يهش بخلافة أبي بكر ولا علي رضي الله عنهما إن كانت المناظرة فيهما ، ولا إلى القدر ولا إلى نفيه ولا حدوث العالم ولا قدمه ، ولا النسخ ولا المنع من النسخ ، والسكون إلى هذا وبرد قلبه يدل على أنه كافر لا يعتقد إذ لو كان لهذا اعتقاد بحركة لهش إلى ناصر معتقده ، ولأنكر على مفسد معتقده .
فالويل للكاتم من المتكشفين ، وإرضاء الخلق بالمعتقدات وبال في الآخرة ، ومباغتتهم فيها ومكاشفتهم بها وبال في الدنيا وتغرير بالنفس ، ولا ينجو منهم المشارك لهم في الحيل . والأحرى بالإنسان أن يتماسك عما فيه ويترك [ فضول الكلام ، وإذا توسط اعتمد على الله في إصلاح دنياه، وإذا قصد إظهار الحق لأجل الله عز وجل فالله تعالى يعصمه ويسلمه وما رأينا من رد البدع إلا السلامة .
(الاداب الشرعية)
26-شذرة
قال ابن عقيل :
إنك لو علمت أن إكرام الخلق لك رياء سقطت من عينك ، أفأقنع أنا منك أن تجعلني في العادة جزءا من كل بعضا من جماعة ؟ وقال : ما يحلو لك العمل حتى تحلو لك تسميتهم بعابد وزاهد ، فارث لنفسك من ذلك فإنه رياء وسمعة وليس لك منه إلا ما حظيت به من الصيت ، تدري كم في الجريدة أقوام لا يؤبه لهم إلا عند القيام من القبور ، وكم يفتضح غدا من أرباب الأسماء من الخلق بعالم وصالح وزاهد نعوذ بالله من طفيلي تصدر بالوقاحة .
(الاداب الشرعية)
27-الإعجاب
قال ابن عقيل :
الإعجاب ليس بالفرح والفرح لا يقدح في الطاعات لأنها مسرة النفس بطاعة الرب عز وجل ، ومثل ذلك مما سر العقلاء وأبهج الفضلاء ، وكذلك روي في الحديث { أن رجلا قال يا رسول الله : إني كنت أصلي فدخل علي صديق لي فسرني ذلك . فقال : لك أجران أجر السر وأجر العلانية } وإنما الإعجاب استكثار ما يأتي به من طاعة الله عز وجل ورؤية النفس بعين الافتخار ، وعلامة ذلك اقتضاء الله عز وجل بما أتى الأولياء وانتظار الكرامة وإجابة الدعوة ، وينكشف ذلك بما يرى من هؤلاء الجهال من إمرار أيديهم على أرباب العاهات والأمراض ثقة بالبركات وما شاكل ذلك من الخدع حتى أن الواحد منهم لو كسر له عرض قال على سبيل الاقتضاء لله ؟ أليس قد ضمنت نصر المؤمنين ، ولا يدري الجاهل من المؤمن المنصور ؟ وما النصر ؟ وماذا شرط النصرة ؟ وذكر كلاما كثيرا إلى أن قال : إن العجب يدخل من إثبات نفسك في العمل ونسيان ألطاف الحق ومن إغفال نعمه التي لا تحصى ، وإلا فلو لحظ العبد اتصال النعم لاستقل عمله وإن كثر أن يقابل النعم شكرا ويدخل من الجهل بالمطاع ، فلو عرف العبد من يطيع ولمن يخدم لاستكثر لنفسه منه سبحانه ذلك ، واستقلها أن تكون داخلة مع أملاك سبع سموات يسبحون الليل والنهار لا يفترون .
ويدخل أيضا عن طرق الجهالة بكثرة الخلل والعلل ، التي ينبغي أن يكون معها على غاية الخجل ، والخوف من أن يقع الطرد والرد ، فإن الفيء مستوحش ، ويدخل أيضا من النظر إلى الخلق بعين الاستقلال ، وإدمان النظر إلى العصاة المتشردين ، ولو أنه نظر إلى العمال لله عز وجل لاستقل نفسه . فهذه معالجة الأدواء ، وحسم مواد الفساد في الأعمال .
(الاداب الشرعية)
28-الفيروزبادي
قال ابن عقيل :
شهد شيخنا ومعلمنا المناظرة أن أبا إسحاق الفيروزبادي لا يخرج شيئاً إلى فقير إلا أحضر النية ، ولا يتكلم في مسألة إلا قدم الاستعانة بالله وإخلاص القصد في نصرة الحق دون التزين والتحسين للخلق ، ولا صنف مسألة إلا بعد أن صلى ركعات فلا جرم شاع اسمه. واشتهرت تصانيفه شرقاً وغرباً هذه بركات الإخلاص .
(الاداب الشرعية)
29-الزهد
قال ابن عقيل :
هجران الدنيا في عصرنا هذا ليس من الزهد في شيء ، إنما المنقطع أنف من الذل فإن مخالطة القدري والتخلي عنهم تراعة ومن طلق عجوزا مناقرة فلا عجب وقال ما قطع عن الله وحمل النفس على محارم الله فهو الدنيا المذمومة وإن كان إملاقا وفقرا وما أوصل إلى طاعة الله فذاك ليس بالدنيا المذمومة وإن كان إكثارا وقال الواجب شكرها من حيث هي نعمة الله وطريق إلى الآخرة وذريعة إلى طاعة الله ، وكل خير يعود بالإفراط فيه شر ، كالسخاء يعود إسرافا ، والتواضع يعود ذلا ، والشجاعة تعود تهورا.
(الاداب الشرعية)
30-من مخض الرأي كانت زبدته الصواب :
قال ابن عقيل :
كان ملوك فارس يعتبرون أحوال الحواشي بإيفاد التحف على أيدي مستحسنات الجواري ويأمرونهن بالتدريج حتى إذا أطالوا الجلوس فتدب بوادي الشهوة قتلوا أولئك ، وإذا أرادوا مطالعة عقائد الفساد دسوا من يتابعهم على ذم الدولة فإذا أظهروا ما في نفوسهم استأصلوهم قال ابن عقيل في الفنون : فينبغي الحذر من هذه الأحوال ، ومن مخض الرأي كانت زبدته الصواب .
(الاداب الشرعية)
31- الخلاعة
قال ابن عقيل :
لما رأينا الشريعة تنهى عن تحريكات الطباع بالرعونات ، وكسرت الطبول والمعازف ، ونهت عن الندب والنياحة والمدح وجر الخيلاء فعلمنا أن الشرع يريد الوقار دون الخلاعة ، فما بال التغيير والوجد ، وتخريق الثياب والصعق ، والتماوت من هؤلاء المتصوفة؟
وكل مهيج من هؤلاء الوعاظ المنشدين من غزل الأشعار وذكر العشاق فهم كالمغني والنائح ، فيجب تعزيرهم ; لأنهم يهيجون الطباع ، والعقل سلطان هذه الطباع فإذا هيجها صار إهاجة الرعايا على السلطان أما سمعت : ( ياأنجشة ) رويدك سوقا بالقوارير وما العلم إلا الحكمة المتلقاة مع السكون والدعة واعتدال الأمزجة ، أما رأيته عزل القاضي حين غضبه ، وكذلك يعزل حال طربه أما سمعت : { فلما حضروه قالوا أنصتوا } .
فأين الطرب من الأدب ؟ والله ما رقص قط عاقل ، ولا تعرض للطرب فاضل ، ولا صغى إلى تلحين الشعر إلا بطر ، أليس بيننا القرآن ؟ وقد قال : طلبنا العلم لغير الله فأبى ، وذلك أن بداية الطلب صعبة فهو كلعبة المفطوم ثم يستغني عنها بقوة النهم فيدع الثدي تقذرا واستقذارا .
(الاداب الشرعية)
32- شذرة
قال ابن عقيل :
قال المأمون وهو صاحب الزيج المأموني لو صح الكيمياء ما احتجنا إلى الخراج : ولو صح الطلسم ما احتجنا إلى الأجناد والحرس ، ولو صحت النجوم ما احتجنا إلى البريد .
(الاداب الشرعية)
33-المنافقون
قال ابن عقيل :
قال تعالى { كأنهم خشب مسندة } أي مقطوعة ممالة إلى الحائط لا تقوم بنفسها ولا هي ثابتة ، إنما كانوا يستندون إلى من ينصرهم وإلى ما يتظاهرون به { يحسبون كل صيحة عليهم } لسوء اعتقادهم { هم العدو} للتمكن من الشر بالمخالطة والمداخلة .
(الاداب الشرعية)
34-الشكوى
قال ابن عقيل :
قوله تعالى : { لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا)
يدل على جواز الاستراحة إلى نوع من الشكوى عند إمساس البلوى ونظيره { يا أسفى على يوسف } { مسني الضر } { ما زالت أكلة خيبر تعاودني }
(الاداب الشرعية)
35- شذرة
قال ابن عقيل :
قال عالم يوما لكرب دخل عليه : ليتني لم أعش لهذا الزمان ، فقال متحذلق يدعي الزهد يريد أن يظهر اعتراضه على أهل العلم : لا تقل هذا وأنت إمام تتمنى على الله تعالى ، ما أراده الله بك خير مما تتمناه لنفسك ، وهذا اتهام لله ، فأجابه : من أين لك لسان تنطق بما لا نكير على العلماء ؟ كأنك تعلمهم ما لا يعلمون ، وتوهم أنك تدرك [ عليهم ] ما يجهلون . أليس الله قد حكى عن مريم { يا ليتني مت قبل هذا } وقال أبو بكر الصديق : يا ليتني كنت مثلك يا طائر .
(الاداب الشرعية)
36-قال أبو الوفاء ابن عقيل رحمه الله :
( احذره ولا تغتر به ، فقد عذَّب امرأة في هرة حبستها ، واشتعلت الشملة على الشهيد نارا لما غلَّها )
ولهذا قال بعض السلف ( رُبَّ مستدرج بنعم الله وهو لا يعلم وربَّ مفتون بستر الله وهو لا يعلم ، وربَّ مغرور بثناء الناس عليه وهو لا يعلم )
(الاداب الشرعية)
37-الوزير أبو شجاع
قال أبو الوفاء ابن عقيل :
ان الوزير أبو شجاع كثير البر للخلق، كثير التلطف بهم، فقدم من الحج وقد اتفق نفور العوام نفوراً أريقت فيها الدماء، وانبسط حتى هجموا على الديوان، وبطشوا بالأبواب والستور، فخرج من الخليفة إنكار عليه، وأمره أن يلبس أخلاق السياسة لتنحسم مادة الفساد، فأدَّب وضرب وبطش، فانبسطت فيه الألسنة بأنواع التهم، حتى قال قوم: ها هو إسماعيلي وهبط عندهم ما تقدم من إحسانه. قال ابن عقيل: فقلت لنفسي: أفلس من الناس كل الإفلاس، ولا تثقي بهم، فمن يقدر على إحسان هذا اليهم وهذه أقوالهم عنه. قال ابن عقيل: وقد رأيت أكثر أعمال الناس لا يقع إلا للناس إلا مَنْ عصم الله من ذاك، إني رأيت في زمن أبي يوسف كثيراً من أهل القرآن والمنكرون لإكرام أصحاب عبد الصمد، وكثر متفقهة الحنابلة، ومات فاختل ذلك فاتفق ابن جهير، فرأيت مَنْ كان يتقرب إلى الشيخ بالصلاح يتقرب إلى ابن جهير برفع أخبار العاملين، ثم جاءت الدولة النظام، فعظم الأشعرية، فرأيت مَنْ كان يتسخط علي بنفي التشبيه غلواً في مذهب أحمد، وكان يظهر بغضي يعود عليّ، بالغمض علي الحنابلة، وصار كلامه ككلام رافضي وصل إلى مشهد الحسين فأمن وباح، ورأيت كثيراً من أصحاب المذاهب انتقلوا ونافقوا، وتوثّق بمذهب الأشعري والشافعي طمعاً في العز والجرايات، ثم رأيت الوزير أبا شجاع يدين بحب الصلحاء والزُّهاد، فانقطع البطالون إلى المساجد، وتعمد خلق للزهد، فلما افتقدت ذلك قلت لنفسي: هل حظيت من هذا الافتقاد بشيء ينفعك? فقالت البصيرة: نعم، استفدت أن الثقة خيبة، فالغنى بهم إفلاس وليس ينبغي أن يعول على غير اللّه.
(المنتظم)
38-أبو القاسم النحوي
قال ابن عقيل:
كان يختار مذهب المرجئة المعتزلة، وينفي خلود الكفار، ويقول: قوله: "خالدين فيها أبداً" أي: أبداً من الآباد، وما لا غاية له، لا يجمع ولا يقبل التثنية، فيقال: أبدان، وآباد. ويقول: دوام العقاب في حق من لا يجوز عليه التشفي لا وجه مع ما وصف به نفسه من الرحمة، وهو إنما يوجد من الشاهد لما يعتري الغضبان من غليان دم قلبه طلباً للانتقام، وهذا مستحل في حقه سبحانه وتعالى.
قال ابن عقيل: هذا كلام يرده على قائله جميع ما ذكره، وذلك أنه أخذ صفات البارىء في صفات الشاهد، وذكر أن المثير للغضب ما يدخل على قلب الغضبان البارىء في صفات الشاهد، وذكر أن المثير للغضب ما يدخل على قلب الغضب من غليان الدم طلباً للانتقام، وأوجب بذلك منع دوام العقاب حيث لا يوجد في حقه سبحانه التشفي، والشاهد يرد عليه ما ذكره، وذلك أنه أخذ صفات البارىء في صفات الشاهد، وذكر أن المثير للغضب ما يدخل على قلب الغضبان من غليان الدم طلباً للانتقام، وأوجب بذلك منع دوام العقاب حيث لا يوجد في حقه سبحانه التشفي، والشاهد يرد عليه ما ذكره؛ لأن المانع من التشفي عليه الرأفة والرحمة، وكلاهما رقة طبع، وليس البارىء بهذا الوصف، وليس الرحمة والغضب من أوصاف المخلوقين بشيء، وهذا الذي ذكره من عدم التشفي كما يمنع الدوام يمنع ابتداء العقوبة إذا كان المحيل الدوام من عدم التشفي، وفورة الغضب وغليان الدم، كما يمنع دخوله في الدوام يمنع دخول ه عليه، ووصفه به، فينبغي بهذه الطريقة أن يمنع أصل الوعيد، ويحليه في حقه سبحانه كسائر المستحيلات عليه لا يختلف نفس وجودها ودوامها، فلا أفسد اعتقاداً ممن أخذ صفات الله تعالى من صفاتنا، وقاس أفعاله على أفعالنا، وأي أوصافه تلحق بأوصافنا.
(المنتظم)
39-الناس لا يعصمهم من الظلم إلا العجز
قال أبو الوفاء ابن عقيل :
رأيت الناس لا يعصمهم من الظلم إلا العجز، ولا أقول: العوام بل العلماء. كانت أيدي الحنابلة مبسوطةً في أيام ابن يوسف، فكانوا يتسلطون بالبغي على أصحاب الشافعي في الفروع؛ حتى لا يمكنوهم من الجهر والقنوت، وهي مسألة اجتهادية. فلما جاءت أيام النَّظَّام ومات ابن يوسف، وزالت شوكة الحنابلة، استطال عليهم أصحاب الشافعي استطالة السلاطين الظلمة، فاستعدوا عليهم بالسجن، وآذوا العوام بالسعايات، والفقهاء بالنبز بالتجسيم)، فكانوا يعيرون الحنابلة بذلك؛ لأنهم كانوا يثبتون الأسماء والصفات.
فتدبرت أمر الفريقين، فإذا بهم لم تعمل بهم آداب العلم، وهل هذه إلا أفعال الأجناد؛ يصولون في دولتهم ويلزمون المساجد في بطالتهم.
40- عن معنى قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ( إن الكلب الأسود شيطان )، ومعلوم أنه مولود من كلب، و( أن الإبل خلقت من الشياطين) مع كونها مولودة من الإبل.
قال أبو الوفاء ابن عقيل :
هذا على طريق التشبيه لها بالشياطين، لأن الكلب الأسود أشرّ الكلاب وأقلعها نفعاً، والإبل تشبه الجن في صعوبتها وصولتها، كما يقال: فلان شيطان ؛ إذا كان صعباً شريراً .
( يُتبع إن شاء الله )
Bookmarks