النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: جزء في مقالات أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي :

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jun 2013
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    33
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي جزء في مقالات أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي :

    جزء في مقالات أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي :

    تعريف أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي :

    قال ابن رجب في كتابه ذيل طبقات الحنابلة :
    علي بن عقيل بن محمد بن عقيل بن أحمد البغدادي : الظفري، المقرىء الفقيه، الأصولي، الواعظ المتكلم، أبو الوفاء، أحد الأئمة الأعلام، وشيحْ الإسلام: وُلد سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة في جمادى الآخرة. كذا نقله عنه ابن ناصر السلفي.
    قال ابن الجوزي. ورأيتُه بخطّه.
    ونقل عنه عَلي بن مسعود بن هبة الله البزار أنه قال: ولدت في جُمادى الأولى سنة إحدى وثلاثين، وتفقهت في سنة سبع وأربعين.
    وذكر أبو محمد بن السمرقندي عنه: أنه وُلد سنة ثلاثين. والأول أصح. وحفظ القرآن. وقرأ بالروايات القرآن على أبي الفتح بن شيطا، وغيره.
    وكان يقول: شيخي في القراءة: ابن شيطا. وفي النحو والأدب: أبو القاسم بن برهان. وفي الزهد: أبو بكر الدينوري، وأبو بكر بن زيدان، وأبو الحسين القزويني، ذكر جماعة غيرهم من الرجال والنساء. وفي آداب التصوف: أبو منصور صاحب الزيادة العطار، وأثنى عليه بالزهد والتخلق بأخلاق متقدمي الصوفية. وفي الحديث: ابن النوري، وأبو بكر بن بشران، والعشاري، والجوهري وغيرهم. وفي الشعر والترسل: ابن شبل، وابن الفضل. وفي الفرائض: أبو الفضل الهمذاني. وفي الوعظ: أبو طاهر بن العلاف صاحب ابن سمعون. وفي الأصول: أبو الوليد وأبو القاسم بن التبان. وفي الفقه: القاضي أبو يعلى المملوء عقلاً وزهدًا وورعًا. قرأت عليه سنة سبع وأربعين، ولم أخل بمجالسه وخلوته التي تتسع لحضوري، والمشي معه ماشيًا وفي ركابه إلى أن توفي. وحظيت من قربه بما لم يحْظ به أحد من أصحابه مع حداثة سني. والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، إمام الدنيا وزاهِدُها، وفارسُ المناظرة وواحدها. كان يُعَلمني المناظرة، وانتفعتُ بمصنَّفاته. وأبو نصر بن الصباغ، وأبو عبد الله الدامغاني، حضرت مجالس درسه ونظره. وقاضي القضاة الشامي انتفعت به غاية النفع، وأبو الفضل الهمذاني. وأكبرهم سنًا وأكثرهم فضلاً: أبو الطيب الطبريّ حظيتُ برؤيته، ومشيت في ركابه. وكانت صحبتي له حين انقطاعه عن التدريس والمناظرة، فحظيت بالجمال والبركة.
    ومن مشايخي: أبو محمد التميمي. كان حسنة العالم، وماشطة بغداد.
    ومنهم: أبو بكر الخطيب. كان حافظ وقته. وكان أصحابنا الحنابلة يريدون مني هجران جماعة من العلماء. وكان ذلك يحرمني علمًا نافعًا. وأقبل علي أبو منصور بن يوسف، فحظيتُ منه بأكبر حظوة. وقدمني على الفتاوى، مع حضور من هو أسن مني، وأجلسني في حلقة البرامكة، بجامع المنصور، لما مات شيخي سنة ثمان وخمسين. وقام بكل مؤونتي وتحملي، فقمتُ من الحلقة أتتبع حلق العلماء لتلقط الفوائد.
    وأما أهل بيتي: فإن بيت أبي كلهم أرباب أقلام، وكتابة، وشعر، وآداب. وكان جدّي محمد بن عقيل كاتب حضرة بهاء الدولة. وهو المنشىء لرسالة عزل الطايع وتولية القادر ووالدي أنظر الناس وأحسنهم جزلاً وعلمًا. وبيت أبي بيت الزهري صاحب الكلام والدرس على مذهب أبي حنيفة.
    وعانيتُ من الفقر والنسخ بالأجرة، مع عفة وتقى. ولا أزاحم فقيهًا في حلقة، ولا تطلب نفسي رتبة من رتب أهل العلم القاطعة لي عن الفائدة. وتقلبت عليَّ الدول فما أخذتني دولة سلطان ولا عامة عما أعتقده أنه الحق، فأوذيت من أصحابي حتى طلب الدم وأوذيت في دولة النظام بالطلب والحبس - فيا من خفت الكل لأجله، لا تخيب ظني فيك - وعصمني الله تعالى في عنفوان شبابي بأنواع من العصمة، وقصر محبتي على العلم وأهله، فما خالطتُ لعَّابًا قط، ولا عاشرتُ إلا أمثالي من طلبة العلم.
    قال: والغالب على أحداث طائفة أصحاب أحمد العفة، وعلى مشايخهم الزهادة والنظافة. آخر كلامه.
    والأذية التي ذكرها من أصحابه له، وطلبهم منه هجران جماعة من العلماء، نذكر بعض شرحها. وذلك:
    أن أصحابنا كانوا ينقمون على ابن عقيل تردده إلى ابن الوليد، وابن التبان شيخي المعتزلة. وكان يقرأ عليهما في السر علم الكلام، ويظهر منه في بعض الأحيان نوع انحراف عن السنة، وتأول لبعض الصفات، ولم يزل فيه بعض ذلك إلى أن مات رحمه الله.
    ففي سنة إحدى وستين اطلعوا له على كتب فيها شيء من تعظيم المعتزلة، والترحُّم على الحلاَّج وغير ذلك. ووقف على ذلك الشريف أبو جعفر وغيره، فاشتد ذلك عليهم، وطلبوا أذاه، فاختفى. ثم التجأ إلى دار السلطان، ولم يزل أمره في تخبيط إلى سنة خمس وستين، فحضر في أولها إلى الديوان، ومعه جماعة من الأصحاب، فاصطلحوا ولم يحضر الشريف أبو جعفر لأنه كان عاتبًا على ولاة الأمر بسبب إنكار منكر قد سبق ذكره في ترجمته.
    فمضى ابن عقيل إلى بيت الشريف وصالحه وكتب خَطّه: يقول علي بن عقيل بن محمد: إني أبرأ إلى الله تعالى من مذاهب مبتدعة الاعتزال وغيره، ومن صحبة أربابه، وتعظيم أصحابه، والترحم على أسلافهم، والتكثر بأخلاقهم. وما كنت علّقته، ووُجد بخَطّي من مذاهبهم وضلالتهم فأنا تائب إلى الله تعالى من كتابته. ولا تَحل كتابته، ولا قراءته، ولا اعتقاده.
    وإنني علقت مسألة في جملة ذلك. وإن قوماً قالوا: هو أجساد سود.
    وقلت: الصحيح: ما سمعته من الشيخ أبي عليّ، وأنه قال: هو عَدمٌ ولا يسمى جسماً، ولا شيئًا أصلاً. واعتقدتُ أنا ذلك. وأنا تائب إلى الله تعالى منهم.
    واعتقدتُ في الحلاج أنه من أهل الدين والزُّهد والكرامات. ونصرتُ ذلك في جزء عملته. وأنا تَائب إلى الله تعالى منه، وأنه قتل بإجماع علماء عصره، وأصابوا في ذلك، وأخطأ هو. ومع ذلك فإني أستغفر اللّه تعالى، وأتوب إليه من مخالطة المعتزلة، والمبتدعة، وغير ذلك، والترحم عليهم، والتعظيم لهم فإن ذلك كله حرام. ولا يحل لمسلم فعله لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " من عظَّم صاحب بدعة فقد أعان على هَدْمِ الإسلام " .
    وقد كان الشريف أبو جعفر، ومن كان مَعه من الشيوخ، والأتباع، سادتي وإخواني - حرسهم الله تعالى - مصيبين في الإنكار عليَّ لما شاهدوه بخالي من الكتب التي أبرأ إلى الله تعالى منها، وأتحققُ أني كنتُ مخطئًا غير مصيب.
    ومتى حفظ عليَّ ما ينافي هذا الخط وهذا الإقرار: فلإمام المسلمين مكافأتي على ذلك. وأشهدت الله وملائكته وأولي العلم، على ذلك غير مجبر، ولا مكرَه وباطني وظاهري - يعلم الله تعالى - في ذلك سواء. قال تعالى: " وَمنْ عَادَ فَيَنتقِمُ اللّهُ مِنْهُ، وَاللّهُ عَزِيز ذُو انْتِقَام " المائدة: 199.
    وكتب يوم الأربعاء عاشر محرم سنة خمس وستين وأربعمائة.
    وكانت كتابته قبل حضوره الديوان بيوم، فلما حضَر شَهِدَ عليه جماعة كثيرة من الشهود والعلماء.
    قال ابن الجوزي: وأفتى ابن عقيل، ودرَسَ وناظر الفحول، واستفتى في الديوان في زمن القائم، في زمرة الكبار. وجمع علم الفروع والأصول وصنَّف فيها الكتب الكبار. وكان دائم التشاغل بالعلم، حتى أني رأيتُ بخطه: إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عُمري، حتى إذا تعطَّل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعةٍ، أعملتُ فكري في حال راحتي، وأنا مستطرح، فلا أنهض إلاَّ وقد خطر لي ما أسطره. وإني لأجدُ من حرصي على العلم. وأنا في عشر الثمانين أشدّ مما كنت أجدُه وأنا ابن عشرين سنة.
    قال: وكان له الخاطر العاطر، والبحث كن الغامض والدقائق، وجعل كتابه المسمى ب " الفنون " مناطًا لخواطره وواقعاته. من تأمل واقعاته فيه عرف غور الرجل.
    وتكلم على المنبر بلسان الوعظ مدة. فلما كانت سنة خمسٍ وسبعين وأربعمائة جرت فيها فتنٌ بين الحنابلة والأشاعرة فترك الوعظ واقتصر على التدريس. ومتعه الله تعالى بسمعه وبصره، وجميع جوارحه.
    قال: وقرأت بخطه. قال: بلغتُ الاثنتي عشرة سنة، وأنا في سنة الثمانين وما أرى نقصًا في الخاطر والفكر والحفظ، وحدة النظر، وقوة البصر، لرؤية الأهلة الخفية، إلاّ أن القوة بالإضافة إلى قوة الشبيبة والكهولة ضعيفة.
    قلتُ: وذكر ابن عقل، في فنونه: قال حنبلي - يعني نفسه - : أنا أقصرُ بغاية جهدي أوقات أكلي، حتى أختار سفّ الكعك وتحسيه بالماء على الخبزة لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ، توفرًا على مطالعة، أو تسطير فائدة، لم أدركها فيه.
    قال ابن الجوزي: وكان ابن عقيل قوي الدين، حافظًا للحدود. وتوفي له ولدان، فظهر منه من الصبر ما يتعجب منه. وكان كريمًا ينفق ما يجد، ولم يخلف سوى كتبه وثياب بدنه. وكانت بمقدار كفنه، وقضاء دينه.
    وقال ابن عقيل: قدم علينا أبو المعالي الجويني بغداد، أول ما دخل الغزالي فتكلم مع أبي إسحاق، وأبي نصر الصباغ، وسمعتُ كلامه. ثم ذكر عنه مسألة العلم بالأعراض المشهورة عنه، وبالغ في الرد عليه.
    ولما ورد الغزالي بغداد، ودرس بالنظامية، حضَره ابن عقيل، وأبو الخطاب، وغيرهُما. وكان ابن عقيل كثير المناظرة للكيا الهراسي. وكان الكيا ينشده في المناظرة:
    ارفق بعبدك إنَّ فيه فهاهة ... جبلية ولك العراق وماؤها
    قال السلفي: ما رأت عيناي مثل الشيخ أبي الوفاء بن عقيل ما كان أحد يقدر أن يتكلم معه لغزارة علمه، وحسن إيراده، وبلاغة كلامه، وقوة حجته. ولقد تكلم يومًا مع شيخنا أبي الحسن الكيا الهرّاسي في مسألة، فقال شيخنا: هذا ليس بمذهبك. فقال: أنا لي اجتهادٌ، متى ما طالبني خصمي بحجة كان عندي ما أدفع به عن نفسي، وأقوم له بحجتي، فقال له شيخنا: كذلك الظنُّ بك.
    وذكر ابن النجار في تاريخه: أن ابن عقيل قرأ الفقه على القاضي أبي يعلى، وعلى أبي محمد التميمي، وقرأ الأصول والخلاف على القاضي أبي الطيّب الطبري، وأبي نصر بن الصباغ، وقاضي القضاة أبي عبد الله الدامغاني.
    وكان ابن عقيل رحمه الله عظيم الحرمة، وافر الجلالة عند الخلفاء والملوك.
    وكان شهمًا مقدامًا، يُواجه الأكابر بالإنكار بلفظه، وخطه، حتى إنه أرسل مرة إلى حماد الدباس، مع شهرته بالزهد والمكاشفات، وعكوف العامة عليه، يتهدده في أمر كان يفعله ويقول له: إن عدتَ إلى هذا ضربتُ عنقك.
    وكتبَ مرة إلى الوزير عميد الدولة ابن جهير لما بنى سور بغداد، وأظهر العوام، في الاشتغال ببنائه المنكرات.
    لولا اعتقاد صحة البعث، وأن لنا دارًا أكون فيها على حال أحمدها، لما نصبت نفسي إلى مالك عصري، وعلى الله أعتمد في جميع ما أورده، بعد أن أشهده: أني محبٌ متعصبٌ. لكن إذا تقابل دين محمد ودولة بني جهير، فوالله ما أردت هذه بهذه، ولو كنت كذلك كنت كافرًا. فقلت: إن هذا الخرق الذي جرى بالشريعة لمناصبة واضعها. فما بالنا نعقد الختمات ورواية الأحاديث؟ فإذا نزلت بنا الحوادث تقدمنا بجميع الختمات، والدعاء عقيبها، ثم بعد ذلك طبول وصَواني، ومخانيث، وخيال، وكشف عورات الرجال مع حضور النساء، إسقاطًا لحكم اللّه تعالى.
    وما عندي يا شرف الدين، أن تقوم بسخطة من سخطات الله تعالى. ترى بأي وَجهٍ تلقى محمدًا صلى الله عليه وسلم بل لو رأيته في المنام مقطبًا كان ذلك يزعجك في يقظتك. وأيّ حرمةٍ تبقى لوجوهنا وأيدينا وألسنتنا عند الله، إذا وضعنا الجباه ساجدة له ثم كيف تطالب الأجناد بتقبيل عتبة، ولثم ترابها، وتقيم الحدّ في دهليز الحريم، صباحًا ومساءً، على قدح نبيذٍ مختلف فيه، ثم تمرح العوام في المسكر المجمع على تحريمه؟ هذا مضاف إلى الزنا الظاهر بباب بدر، ولبس الحرير على جميع المتعلقين والأصحاب.
    يا شرف الدين، اتق سخط الله تعالى فإن سخطه لا يقاومه سماء ولا أرض وإن فسدت حالي بما قلتُ فلَعَلَّ اللّهَ يلطف بي، ويكفيني هوائج الطباع. ثم لا تلمنا على ملازمة البيوت، والاختفاء عن العوام لأنهم إن سألونا لم نقل إلاّ ما يقتضي الإعظام لهذه القبائح، والإنكار لها، والنياحة على الشريعة. أترى لو جاءت معتبة من الله سبحانه في منام أو على لسان نبي - لو كان للوحي نزول - أو ألقى إلى روع مسلم بإلهام: هل كانت إلا إليك. فاتق اللّه تقوى من علم بمقدار سخطه، فقد قال: " فَلَمَّا آسَفُونا انتقَمْنَا مِنْهُم " الزخرف: 56، وقد ملأتكم في عيونكم مدائح الشراء ومداجاة المتمولين بدولتكم، الأغنياء الأغبياء، الذين خسروا الله فيكم، فحسنوا لكم طرائقكم. والعاقل من عرف نفسه، ولا يغره مدح من لا يخبرها.
    وكتب ابن عقيل إلى السلطان جلال الدولة " ملكشاه " وقد كانت الباطنية أفسدوا عقيدته، ودَعوه إلى إنكار الصانع:
    أيُّها الملك، اعلم أن هؤلاء العوام والجهال يطلبون الله من طريق الحواس، فإذا فَقدوه جحَدوه. وهذا لا يحسن بأرباب العقول الصحيحة. وذلك أن لنا موجودات ما نالها الحس ولم يجحدها العقل ولا يمكننا جحدها لقيام العقل على إثباتها.
    فإن قال لك أحد من هؤلاء: لا تثبت إلا ما ترى. فمن ههنا دَخل الإلحادُ على جُهّال العوام، الذين يستثقلون الأمر والنهي، وهم يرون أن لنا هذه الأجساد الطويلة العميقة، التي تنمى ولا تفسد، وتقبل الأغذية وتصدر عنها الأعمال المحكمة، كالطب، والهندسة فعَلِموا أن ذلك صادر عن أمرٍ وراء هذه الأجساد المستحيلة وهو الروح والعقل، فإذا سألناهم: هل أدركتم هذين الأمرين بشيء من إحساسكم قالوا: لا، لكننا أدركناهُما من طريق الاستدلال بما صَدر عنهما من التأثيرات قلنا: فما لكم جحدتم الإله، حيث فقدتموه حسًا، مع ما صدر عنه من إنشاء الرياح والنجوم، وإدارة الأفلاك، وإنبات الزرع، وتقليب الأزمنة وكما أن لهذا الجسد عقلاً وروحًا بهما قوامه لا يحركهما الحس، لكن شهدت بهما أدِلةُ العقل من حيث الآثار، كذلك الله سبحانه - وله المثل الأعلى - ثبت بالعقل، لمشاهدة الإحساس من آثار صنائعه، وإتقان أفعاله.
    وأرسل هذا الفصل إلى السلطان مع بعض خواصه. قال: فحكى لي أنه أعادهُ عليه فاستحسنه، وهش إليه، ولعن أولئك، وكشف إليه ما يقولون له.
    وكتب ابن عقيل أيضَا مرة إلى أبي شجاع، وزير الخليفة المقتدي. كان ديناً كثير التعبد، لكن كانت به وسوسة في عباداته: أما بعد، فإن أجل تحصيل عند العقلاء، بإجماع العلماء: الوقتُ، فهو غنيمة تنتهز فيها الفرص. فالتكاليف كثيرة، والآداب خاطفة. وأقلّ متَعَبدٍ به الماء. ومن اطلع على أسرار الشريعة علم قدر التخفيف.
    فمن ذلك قوله: " صُبوا على بول الأعرابي ذنوبًا من الماء " .
    وقوله في المني: " أمطه عنك " .
    وقوله في الخف: " طهوره أن تدلكه بالأرض " . وفي ذيل المرأة: " يطهره ما بعده " .
    وقوله: " يغسل بول الجارية، وينضح بول الغلام " . و " كان يحمل بنت أبي العاص في الصلاة " .
    ونهى الراعي في إعلام السائل عن الماء وما يرده، وقال: " يا صاحب الميزاب لا تخبره " ، فإن خطر بالبال نوعُ احتياط في الطهارة، كالاحتياط في غيرها في مراعاة الإطالة، وغيبوبة الشمس، والزكاة، فإنه يفوتُ من الأعمال ما لا يفي به الاحتياط في الماء، الذي أصله الطهارة.
    وقد صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعرابي وركب الحمار وما عرف من خلقه التعبد بكثرة الماء. وقد توضأ من سقاية المسجد. ومعلوم حال الأعراب الذين بان من أحدهم الإقدام على البول في المسجد. وتوضأ من جرة نصرانية وما احترز تعليمًا لنا وتشريعًا. وأعلمنا أن الماء أصله الطهارة. وتوضأ من غدير كان ماؤه نقاعة الحناء.
    فأما قوله: " تنزهوا من البول " فإن للتنزه حدًا معلومًا. فأما الاستشعار: فإنه إذا نما وانقطع الوقت، ولا يقتضي مثله الشرع.
    وكتب ابن عقيل غير مَرّة إلى قاضي القضاة أبي الحسن بن الدامغاني رسائل تتضمن توبيخه على تقصير وقع منه في حقّه. وفيها كلام خشن وعتاب غليظ.
    ولما دخل السلطان جلال الدولة إلى بغداد، ومعه وزيره نظام الملك، سنة أربع وثمانين، قال النظام: أريدُ أن أستدعي بهم، وأسألهم عن مذهبهم، فقد قيل: إنهم مجسمة - يعني: الحنابلة.
    قال ابن عقيل: فأحببتُ أن أصوغ لهم كلامًا يجوز أن بقال إذًا، فقلت: ينبغي لهؤلاء الجماعة أن يُسألوا عن صاحبنا؟ فإذا أجمعوا على حفظه لأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله، إلا ما كان للرأي فيه مدخل من الحوادث الفقهية، فنحن على مذهب ذلك الرجل الذي أجمعوا على تعديله، على أنهم على مَذهب قومٍ أجمعنا على سلامتهم من البدعة. فإن وافقوا على أننا على مذهبه فقد أجمعوا على سلامتنا معه؟ لأن متبع السليم سليم. وإن ادّعوا علينا أنّا تركنا مذهبه، وتمذهبنا بما يخالف الفقهاء، فليذكروا ذلك ليكون الجواب بحسبه. وإن قالوا: أحمد ما شبَّه وأنتم ما شبَّهتم، قلنا: الشافعي لم يكن أشعريًّا، وأنتم أشعرية. فإن كان مكذوبًا عليكم فقد كذب علينا. ونحن نفزع من التأويل مع نفي التشبيه، فلا يُعَاب علينا إلا ترك الخوض والبحث وليس بطريقة السلف. ثم ما يريد الطاعنون علينا، ونحن لا نزاحمهم على طلب الدنيا.
    وفي هذه السنة المذكور: توفي أبو طاهر بن علك. وكان من صدر الشافعية، وأكابر المتمولين. فشيّعه نظام الملك وأرباب الدولة. ودفن بتربة أبي إسحاق الشيرازي، وجاء السلطان إلى القبر بعد دفنه.
    قال ابن عقيل: جلستُ إلى جانب نظام الملك، بتربة أبي إسحاق، والملوك قيامٌ بين يديه، واجترأتُ على ذلك بالعلم. وكان جالسًا للتعزية بابن علك. ولما بويع المستظهر حضر ابن عقيل مع الغزالي والشاشي للمبايعة. فلما توفي المستظهر غسله ابن عقيل مع الشيبي.
    قال ابن عقيل: ولما تولد المسترشد تلقاني من المستخدمين يقول كل واحد منهم: قد طلبك مولانا أمير المؤمنين. فلما صرت بالحضرة، وقال لي قاضي القضاة - وهو قائم بين يديه - : طلبك مولانا أمير المؤمنين ثلاث مرات، فقلت: ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس. ثم مددتُ يدي فبسط لي يده الشريفة، فصافحته بعد السلام، وبايعتُ، فقلتُ: أبايعُ سيّدنا ومولانا أميرَ المؤمنين المسترشد باللّه على كتاب اللّه وسنة رسوله، وسنّة الخلفاء الراشدين، ما أطاق واستطاع، وعلى الطاعة مني.
    وكان ابن عقيل رحمه الله من أفاضل العالم، وأذكياء بني آدم، مفرط الذكاء، متسع الدائرة في العلوم. وكان خبيرًا بالكلام، مطلعًا على مذاهب المتكلمين. وله بعد ذلك في ذم الكلام وأهله شيء كثير، كما ذكر ابن الجوزي وغيره عنه أنه قال: أنا أقطع أن الصحابة ماتوا، ما عرفوا الجوهر والعَرض. فإن رضيتَ أن تكون مثلهم فكن، وإنْ رأيتَ أنَّ طريقة المتكلمين أولى من طريقة أبي بكر وعمر، فبئس ما رأيتَ.
    وذُكر عنه أنه قال: لقد بالغتُ في الأصول طول عمري، ثم عدتُ القهقرى إلى مذهب المكتب.
    وقد حكى هذا عنه القرطبي في شرح مسلم. وله من الكلام في السنة والانتصار لها، والرد على المتكلمين شيء كثير. وقد صنّف في ذلك مصنفًا.
    وقرأتُ بخط الحافظ أبي محمد البرزالي قال: قرأتُ بخط الحافظ ضياء الدين المقدسي، قال: كتب بعضُهم إلى أبي الوفاء بن عقيل يقول له: صِف لي أصحابَ الإمام أحمد على ما عرفتمن الإنصاف.
    فكتب إليه يقول: هُم قوْم خُشُنٌ ، تقَلّصتْ أخلاقهم عن المخالطة، وغلظت طباعهم عن المداخلة، وغلب عليهم الجدّ، وقلَّ عندهم الهزل، وغربتْ نفوسهم عن ذل المراءاة، وفزعوا عن الآراء إلى الروايات، وتمسكوا بالظاهر تحرّجًا عن التأويل، وغلبت عليهم الأعمال الصالحة، فلم يدققوا في العلوم الغامضة، بل دققوا في الورع، وأخذوا ما ظهر من العلوم، وما وراء ذلك قالوا: الله أعلم بما فيها، من خشية باريها. لم أحفظ على أحد منهم تشبيهًا، إنما غلبت عليهم الشناعة لإيمانهم بظواهر الآي والأخبار، من غير تأويل ولا إنكار. والله يعلم أنني لا أعتقد في الإسلام طائفة محقة، خالية من البدع، سوى من سلك هذا الطريق. والسلام.
    وكان رحمه اللّه بارعًا في الفقه وأصوله. - وله في ذلك استنباطات عظيمة حسنة، وتحريرات كثيرة مستحسنة. وكانت له يد طولى في الوعظ، والمعارف. وكلامه في ذلك حسن، وأكثره مستنبطٌ من النصوص الشرعية، فيستنبط من أحكام الشرع وفضائله معارف جليلة وإشارات دقيقة.
    ومن معاني كلامه يستمدّ أبو الفرج بن الجوزي في الوعظ.
    فمن ذلك ما قاله في الفنون: لقد عظم الله سبحانه الحيوان، لا سيما ابن آدم، حيث أباحه الشرك عند الإكراه، وخوف الضرر على نفسه، فقال: " إلاَّ مَنْ أكْرهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان " النحل: 106.
    من قدَّم حرمة نفسك على حرمته، حتى أباحك أن تتوقى وتحامي عن نفسك بذكره بما لا ينبغي له سبحانه، لحقيق أن تعظم شعائره، وتقر أوامره، وزواجره.
    وعصم عرضك بإيجاب الحدّ بقذفك، وعَصَم مالك بقطع مسلم في سرقته، وأسقط شطر الصلاة لأجل مشقتك، وأقام مسح الخف مقام غسل الرجل إشفاقًا عليك من مشقة الخلع واللبس، وأباحك الميتة سدًّا لرمقك، وحفظًا لصحتك، وزجرك عن مضارك بحد عاجلٍ، ووعيد آجل، وَخَرق العوائد لأجلك، أنزل الكتب إليك. أيحسن بك - مع هذا الإكرام - أن تُرى على ما نهاك منهمكًا، وعما أمرك متنكبًا، وعن داعيه معرضًا، ولسنته هاجرًا، ولداعي عدوك فيه مطيعًا؟ يعظمك وهُوَ هُو، وتهمل أمره وأنت أنت. هو حط رتب عباده لأجلك، وأهبط إلى الأرض من امتنع من سجدة يسجُدها لك.
    هل عاديتَ خادمًا طالتْ خدمته لك لترك صلاة. هل نفيته من دارك للإخلال بفرض، أو لارتكاب نهي. فإن لم تعترف العبيد للموالي، فلا أقل من أن تقتضي نفسك للحق سبحانهُ، اقتضاء المساوي المكافي.
    ما أوحش ما تلاعب الشيطان بالإنسان بينا يكون بحضرة الحق، وملائكةُ السماء سجودٌ له، تترامى به الأحوال والجهالات بالمبدأ والمآل، إلى أن يوجد ساجدًا لصورة في حجر، أو لشجرة من الشجر، أو لشمسٍ أو لقمر، أو لصورة ثور خار، أو لطائر صفرة ما أوحش زوال النعم، وتغيّر الأحوال، والجَوْرَ بعد الكور!.
    لا يليق بهذا الحي الكريم الفاضل على جميع الحيوان أن يُرى إلا عابدًا للّه في دار التكليف، أو مجاورًا لله في دار الجزاء والتشريف. وما بين ذلك فهو واضع نفسه في غير مواضعها.
    ومن كلامه في تقرير البعث والمعاد: واللّه لا أقنع من الله سبحانه بهذه اللمحة التي مزجت بالعلاقم، ولا أقنع من الأبدي السَّرمدي ولا يليق بذا الكرم إلا إدامة النعم. والله ما لوّح إلا وقد أعدّ ما تخافه الآمال. وما قدح أحدٌ في كمال جود الخالق وإنعامه بأكثر من جحده البعث مع تشريف النفوس، وتعليق القلوب بالإعادة، والجزاء على الأعمال الشاقة، التي هجر القوم فيها اللذات، فصبروا على البلاءة طمعًا في العطاء.
    قال: ويَدُلُّ على أنّ لنا إعادةً تتضمن بقاءً دائمًا، وعيشًا سالمًا: أن أصح الدلالة قد دلّت على كمال البارىء سبحانه وتعالى، وخروجه عن النقائص. وقد استقرينا أفعالَه، فرأيناهُ قد أعدّ كل شيء لشيء. فالسمعُ للمسموعات، والعين للمبصرات، والأسنان للطحن، والمنخران للشمّ، والمعدة لطبخ الطعام. وقد بقي للنفس غرض قد عجن في طينها: وهو البقاء بغير انقطاع، وبلوغ الأغراض من غير أذى. وقد عدمت النفس ذلك في الدنيا. ثم إنا نرى طالما لم يقابل ولا تقتضي الحكمة لذلك. فينبغي أن يكون لها ذلك في دار أخرى.
    قال: ولأنظر إلى صُورة البلى في القبور، فكم من بداية خالفتها النهاية. فإن بداية الآدمي والطير ماء مُسَخَّن مستقذَرٌ ، ومبادي النبات حَبٌّ عَفِن، ثم يخرج الآدمي والطاوس. وكذلك خروجُ الموتى بعد البلى.
    قال: وبينا أنا نائم سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة، لاحت لي مقبرة، وكأن قائلاً يقول: هذه خيم البلى، على باب الرجاء وعلى الوفاء. قال: وهذا الإلقاء من الله تعالى لكثرة لهجي بالبعث، وتشوفي إلى الاجتماع بالسلف النطاف، وتبرمي من مخالطة السفساف.
    وكان ابن عقيل يقول: لا يعظم عندكَ بَذْلُك نفسك في ذاتِ الله فهي التي بذلتها بالأمس في حب مغنية، وهوى أمرد، وخاطرتَ بها في الأسفار لأجل زيادة الدنيا. فلما جئت إلى طاعة الله تعالى عظمت ما بذلتَه، والله ما يحسن بذل النفس إلا لمن إذا أباد أعاد، وإذا أعاد أفاد، وإذا أفاد خلد فائدته على الآباد. وذاك الله الذي يحسن فيه بذل النفوس، وإبانة الرءوس. أليس هو القائل: " وَلاَ تَحْسَبَن الذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أمْوَاتًا " آل عمران: 170.
    سَمع ابن عقيل الحديث الكثير من أبي بكر بن بشران، وأبي الفتح بن شيطا، وأبي الحسن التوزي، وأبي محمد الجوهري، وأبي طالب العشاري، والقاضي أبي يعلى، وأبي على المباركي، وغيرهم.
    وحدث، وروى عنه ابن ناصر، وعمر بن ظفر المغازلي، وأبو المعمر الأنصاري، وأبو الرضى الفارسي وأبو القاسم الناصحي وأبو المظفر السَّنجيّ وأبو الفتح محمد بن يحيى البرداني، وغيرهم. وأجاز لأبي سعد بن السمعاني الحافظ، وعبد الحق اليوسفي، ويحيى بن بوش.
    أنبأتنا زينب بنت أحمد بن عبد الرحيم عن علي بن عبد اللطيف الدينوري، عن أبي الحسين بن عبد الحق بن عبد الخالق، أخبرنا أبو الوفاء علي بن عقيل الإمام، أخبرنا أبو طالب محمد بن علي بن الفتح، أخبرنا محمود بن عمر العكبري، أخبرنا أبو بكر بن محب إجازة، حدثنا أبو حفص الجوهري، حدثنا أبو أحمد بن محمد بن جعفر، حدثنا أحمد بن محمد الأنماطي - الذي كان ينزل سامرَّا - أخبرنا أحمد بن نصر قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت: يا رسول الله مَنْ تركت لنا في عصرنا هذا ممن يُقتدى به. قال: عليكم بأحمد بن حنبل.
    ولابن عقيل تصانيف كثيرة في أنواع العلم.
    وأكبر تصانيفه: كتاب " الفنون " وهو كتاب كبير جدًا، فيه فوائد كثيرة جليلة، في الوعظ، والتفسير، والفقه، والأصلين، والنحو، واللغة، والشعر، والتاريخ، والحكايات. وفيه مناظراته ومجالسه التي وقعت له، وخواطره ونتائج فكره قَيَّدَها فيه.
    وقال ابن الجوزي: وهذا الكتاب مائتا مجلد. وقع لي منه نحو من مائة وخمسين مجلدة.
    وقال عبد الرزاق الرسعني في تفسيره. قال لي أبو البقاء اللغوي: سمعتُ الشيخ أبا حكيم النهرواني يقول: وقفتُ على السَّفر الرابع بعد الثلاثمائة من كتاب الفنون.
    وقال الحافظ الذهبي في تاريخه: لم يُصنف في الدنيا أكبر من هذا الكتاب. حدثني من رأى منه المجلد الفلاني بعد الأربعمائة.
    قلتُ: وأخبرني أبو حفص عمر بن علي القزويني ببغداد، قال: سمعتُ بعض مشايخنا يقول: هو ثمانمائة مجلدة.
    وله في الفقه كتاب " الفصول " ، ويُسمى " كفاية المفتي " في عشر مجلدات، كتاب " عمدة الأدلة " ، كتاب " المفردات " ، كتاب " المجالس النظريات " ، كتاب " التذكرة " مجلد، كتابُ " الإشارة " مجلد لطيف، وهو مختصر كتاب " الروايتين والوجهين " ، كتاب " المنثور " .
    وفي الأصلين كتاب " الإرشاد في أصول الدين " ، وكتاب " الواضح في أصول الفقه " ، و " الانتصار لأهل الحديث " ، مجلد، " نفي التشبيه " ، " مسألة في الحرف والصوت " ، جزء، " مسائل مشكلة في آيات من القرآن " وأحاديث سُئل عنها فأجاب. وله كتاب " تهذيب النفس " ، " تفضيل العبادات على نعيم الجنات " .
    وكان ابن عقيل كثير التعظيم للإمام أحمد وأصحابه، والرد على مخالفيهم.
    ومن كلامه في ذلك: ومن عجيب ما نسمعه من هؤلاء الأحداث الجهال أنهم يقولون: أحمد ليس بفقيه، لكنه مُحَدِّث. وهذا غاية الجهل لأنه قد خرج عنه اختيارات بناها على الأحاديث بناء لا يعرفه أكثرهم. وخرج عنه من دقيق الفقه ما لا تراه لأحد منهم. وذكر مسائل من كلام أحمد، ثم قال: وما يقصد هذا إلا مبتدع، قد تمزق فؤاده من خمود كلمته، وانتشار علم أحمد، حتى إن أكثر العلماء يقولون: أصلي أصلُ أحمد، وفرعي فرع فلان. فحسبك بمن يرضى به في الأصول قدوة.
    وكان يقول: هذا المذهب إنما ظلمه أصحابه لأن أصحاب أبي حنيفة والشافعي إذا برع واحد منهم في العلم تولى القضاء وغيره من الولايات. فكانت الولاية لتدريسه واشتغاله بالعلم. فأما أصحاب أحمد: فإنه قل فيهم من تعلق بطرفٍ من العلم إلا ويخرجه ذلك إلى التعبد والتزهد لغلبة الخير على القوم، فينقطعون عن التشاغل بالعلم.
    وكان مع ذلك يتكلم كثيرًا بلسان الاجتهاد والترجيح، واتباع الدليل الذي يظهر له ويقول: الواجب اتباع الدليل، لا اتباع أحمد.
    وكان يخونه قلة بضاعته في الحديث. فلو كان متضلعًا من الحديث والآثار، ومتوسعًا في علومهما لكملتْ له أدوات الاجتهاد.
    وكان اجتماعه بأبي بكر الخطيب، ومن كان في وقته من أئمة الحفاظ، كأبي نصر بن ماكولا، والحميدي، وغيرهم أولى وأنفع له من الاجتماع بابن الوليد وابن التبان. وتركه لمجالسة مثل هؤلاء هو الذي حرمه علمًا نافعًا في الحقيقة. ولكن الكمال لله.
    وله مسائل كثيرة ينفرد بها، ويخالف فيها المذهب. وقد يخالفه في بعض تصانيفه، ويوافقه في بعضها، فإن نظره كثيرًا يختلف، واجتهاده يتنوع.
    وكان يقول: عندي أن من أكبر فضائل المجتهد: أن يتردد في الحكم عند تردد الحجة والشبهة فيه. وإذا وقف على أحد المترددين دلّه على أنه ما عرف الشبهة، ومن لا تعترضه شبهة لا تصفو لي حجة. وكل قلب لا يقرعه التردد، فإنما يظهر فيه التقليد والجمود على ما يقال له ويسمع من غيره.
    فمن المسائل التي تفرَّد بها: أن النساء لا يجوز لهن استعمال الحرير في اللبس دون الافتراش والاستناد. ذكره في الفنون.
    ومنها: أن صلاة الغد تصح في صلاة الجنازة خاصة. وهو معروف عنه.
    ومنها: أن الربا لا يجري إلاّ في الأعيان الستة المنصوص عليها. ذكره في نظرياته.
    ومنها: أن الوقف لا يجوز بيعه، وإن خرِب وتعطل نفعه. وله في ذلك كلام في جزء مفرد.
    ومنها: أن الأب ليس له أن يتملك من مال ولده ما شاء، مع عدم حاجته ذكره في الفصول في كتاب النكاح.
    ومنها: أن المشروع في عطية الأولاد: التسوية بين الذكور والإناث. ذكره في الفنون.
    ومنها: أنه يجوز استئجار الشجر المثمر تبعًا للأرض لمشقة التفريق بينهما. حكاه عنه الشيخ تقي الدين بن تيمية.
    ومنها: أنه لا يجوز أن يؤخذ العشر من تجار أهل الحرب ولا أهل الذمة، إذا اتجروا في بلاد الإسلام، إلا بشرطٍ أو تراضٍ. ذكره في فنونه.
    وقد حكى القاضي في شرحه الصغير رواية عن أحمد كذلك. ذكرها ابن تميم لكنها غريبة جدًا.
    ومنها: إذا حلف على فعل يتعلق بعين معينة، فتغيرت صفاتها بما يزيل اسمها: لم يتعلق الحنثُ بها على هذه الحال مطلقًا.
    ومنها: أنه لا يجوز وَطء المكاتبة، وإن اشترط وطأها في عقد الكتابة. وحكاه في مفرداته رواية.
    ومنها: أنه لا زكاة في حليّ المواشط المعد للكراء. ذكره في " عمدة الأدلة " وخرج من قول الأصحاب بالوجوب وجهًا يوجب الزكاة في سائر ما يعد للكراء من الأملاك، من عقارٍ وغيره.
    ومنها: أن الزروع والثمار التي تسقى بماء نجسِ طاهرة مُباحة، وإن لم تسقَ بعده بماء طاهر.
    ومنها: أن الزوجة إذا كانت نِضوة الخُلق لا يُمكن وطأها إلا بجناية عليها: فإنه يملك فسخ نكاحها بذلك.
    ومنها: أن الإمام لا يمتنع من الصلاة على الغالّ، ولا على من قتل نفسه، وأن امتناع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليهما كان من خصائصه.
    ومنها: تحريم الاستمناء بكل حال. وحكاه رواية.
    ومنها: أنه يجب الحد بقذف العبد العفيف كالحرّ. ذكره في مفرداته.
    ومن المسائل الغريبة التي ذكرها ابن عقيل: مسألة في الحامل والمرضع إذا أفطرتا خوفًا على ولديهما: فهل تكون الكفارة على الأم من مالها، أو بينها وبين من تلزمه نفقته. ذكر في الفنون: فيها احتمال.
    قال: والأشبه أنه على الأم لأنها هي المرتفقة بالإفطار لاستضرارها، وتغير لبنها، والولد تبع لها.
    قال: ولأنه لو كان الطفل معتبرًا في إيجاب التكفير لكان على كل واحدٍ منهما كفارة تامة، كالجماع في رمضان، وكالمشتركين في قتل الصيد، على أصح الروايتين.
    قلتُ: وهذا ضعيف فإن المشتركين في الجماع كل منهما أفسد صومه والمشتركين في القتل كل منهما جنى على إجرامه، فهما متساويان في الجناية، بخلاف الطفل والأم ههنا.
    وذكر أيضًا في الفنون: قال: سأل سائل عن قائل قال: والله لا رددت سائلاً - أو قال: للّه عليّ لا رددت سائلاً - وليس يتسع حاله لذلك، وإن اعتمد ذلك لم يبقَ له وقت لعمل ولا لتجارة، ولو كان له مال يفي، فكيف ولا مال يفي، ولا وقت يتسع لذلك مع كثرة السؤال؟ فأجاب حنبلي: بأن هذا قياس قولنا فيمن نفر أن يتصدق بجميع ماله: فإنه في اليمين مخيّر بين الثلث، وكفارة يمين. وفي النذر: يلزمه أن يتصدق بثلث ماله، فيجب أن يتصدق بثلث ما يتحصل له، مما يزيد على حاجته. وإن لم يتحصل له ما يحتاج إليه: لم يدخل تحت نذره لزومُه التصدق به، ويكفر كفارة يمين.
    قال قائل: يشتري بُرًّا أو حَبَّ رُمان، ويُعطي كل سائل حبة من ذلك؟ قال له الحنبلي: هذا لا يجيء على أصلنا لأنا نعتبر المقاصد في الأيمان والنذور، والقصد: أن لا يردّ سائلاً عن سؤاله. وحبة رمان وحبة بر ليست سؤال السائل، فإعطاؤه كردِّه.
    وقال حنبلي: يحتمل أن يصح خروجه من نذره بِبَرّة بُرّ أنَّا قد علّقنا حكم الربا على برة ببرتين. وما علق عليه الشرع مأثمًا، فأحرى أن يعلق عليه ما يحصل به الثواب.
    وقول عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: " اتَّقُوا النارَ وَلَوْ بِشقّ تَمرَة " يعضد القول بالتصدق بالبرَّة.
    وقال حنبلي آخر: بل إذا لم يجد شيئًا أصلاً وَعَدَ، فكانت العِدة مخلصة له من الردّ. فإن الردَّ لا يتحقق مع العِدة. ألا ترى أن من وَعَد بزكاة ماله للساعي لا يستحق القتال، ولا التغرير، ولا يأثم؟ ولا يقال: إنه ردَّ الساعي ولا المطالب بدينه، ولا الفقير. وللحديث الذي جاء: " العِدَةُ دَيْنٌ " وهذه العدة نافعة في منع الحنث، من حيث إنها لا تقف مع العزم على الإعطاء على التوفية، بل من وعد فعزم أنه متى حصل له مال أعطى السائل ما سأله فما ردّه. والله أعلم.
    ومن غرائب ابن عقيل: أنه اختار وجوب الرضى بقضاء الله تعالى في الأمراض والمصائب. ذكره في مواضع من كلامه. لكنه فسر الرضى في الفنون: بأنه الرضى عن الله تعالى بها، ثقة بحكمه وإن كانت مؤلمة للطبع، كما لا يبغض الطبيب عند بطء الدمّل وفتح العروق. وليس المراد هشاشة النفس وانشراحها لها، فإن هذا عنده مستحيل.
    وصَرَّح بأنه لم يحصل للأنبياء. كذا قال. وهو فاسد.
    واختار: أن النهار أفضل من الليل.
    واختار: أنه لا تجوز الصلاة على القبر في شيء من أوقات النهي، بخلاف الصلاة على الجنازة. وخالفه بعض مشايخ أصحابنا في زمنه.
    ومن كلامه الحسن: أنهُ وَعظ يومًا فقال: يا من يجد في قلبه قسوة، احذر أن تكون نقضت عهداً فإن اللّه تعالى يقول: " فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُم لَعَنَاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَة " 5: 15.
    وسُئل فقيل له: ما تقول في عزلة الجاهل؟ فقال: خبال ووبال، تضره ولا تنفعه.
    فقيل له: فعزلة العالم؟ قال: مَا لَك ولها، معها حِذَاؤها وسِقاؤُها: ترد الماء وترعى الشجر، إلى أن يلقاها ربها.
    ومن كلامه في صفة الأرض أيام الربيع: إن الأرض أهدتْ إلى السماء غبرتها بترقية الغيوم، فكستها السماء زهرتها من الكواكب والنجوم.
    وقال: كأنَ الأرض أيام زهرتها مرآة السماء في انطباع صورتها.
    قال ابن النجار: قرأتُ في كتاب أبي نصر المعمر بن محمد بن الحسن البيع بخطه، وأنبأنا عنه أبو القاسم الأزجي، قال: أنشدنا أبو الوفاء عليّ بن عقيل بن محمد بن عقيل الحنبليّ لنفسه:
    يقولون لي: ما بال جسمك ناحلٌ ... ودمعك من آماق عينيك هاطلُ.
    وما بال لون الجسم بدل صفرةً ... وقد كان محمرًّا فلونك حائلُ.
    فقلتُ: سقامًا حلّ في باطن الحشا ... ولوعة قلب بلبلته البلابلُ
    وأنَّى لمثلي أن يبين لناظر ... ولكنني للعالمين أُجاملُ
    فلا تغتررْ يوماً ببشري وظاهري ... فلي باطن قد قطّعته النوازلُ
    وما أنا إلا كالزناد تضمّنتْ ... لهيباً، ولكنّ اللهيبَ مُداخلُ
    إذا حُمل المرء الذي فوق طوره ... يرى عن قريب من تجلد عاطلُ
    لعمري إذا كان التجمّل كلفة ... يكون كذا بين الأنام مجامِلُ
    فأما الذي أثنى له الدهر عطفه ... ولان له وعر الأمور مواصلُ
    بألطاف قربٍ يسهل الصعب عندها ... وينعم فيها بالذي كان يأملُ
    تراه رخيّ البال من كل علقةٍ ... وقد صميت منه الكَلا والمفاصلُ
    توفي أبو الوفاء بن عقيل رحمه اللّه بكرة الجمعة، ثاني عشر جمادى الأولى سنة ثلاثة عشرة وخمسمائة - وقيل: توفي سادس عشر الشهر - والأول أصح. وصُلي عليه في جامعي القصر والمنصور. وكان الإمام عليه في جامع القصر ابن شافع. وكان الجمعُ يفوت الإحصاء.
    قال ابن ناصر: حزَرْتُهم بثلاثمائة ألف. ودُفن في دكة قبر الإمام أحمد رضي الله عنه. وقبره ظاهر رضي اللّه عنه. فما كان في مذهبنا أحدٌ مثله. آخر كلام ابن ناصر.
    وذكر المبارك بن كامل الخفاف: أنه جرت فتنة - يعني: على حمله - قال: وتجارَحُوا، وقال الشيخ مطيع: كفن ونطع.
    قال ابن الجوزي: حدثني بعض الأشياخ: أنه لما احتضر ابن عقيل، بكى النساء.
    فقال: قد وقعت عنه خمسين سنة، فدعوني أتهنا بلقائه.
    قال بن السمعاني، أنشدني، الإمام أبو المحاسن مسعود بن محمد بن غانم الأديب الغانمي لنفسه يمدح الإمام أبا الوفاء بن عقيل:
    لعليّ بن عقيل البغدادي ... مجد لفرق الفرقدين محاذي
    قد كان ينصر أحمدًا خير الورى ... وكلامه أحلى من الأَزاذ
    وإذا تلهّب في الجدال فعنده ... سبحان فيه في التجارب هذي
    ما أخرجت بغداد فحلاً مثلهُ ... للّه در الفاضل البغدادي
    ولقد مضى لسبيله مع عصبةٍ ... كانوا لدين الحق خير ملاذِ
    وقد قرأ على ابن عقيل الفقه الأصول خلقٌ من أصحابنا، يأتي ذكرهم في مواضعهم إن شاء الله تعالى من الطبقة التي بعد هذه.
    وممن قرأ عليه أبو الفتح بن برهان الأصولي، صاحب التصانيف في الأصول، ومدرّس النظامية. وكان أولاً حنبليًا، ثم انتقل لجفاء أصحابنا له.
    وكان لابن عقيل ولدان ماتا في حياته: أحدهما:
    أبو الحسن عقيل:
    كان في غاية الحسن. وكان شابًا، فهمًا، ذا خط حسن.
    قال ابن القطيعي: حكى والده أنه وُلد ليلة حادي عشر رمضان سنة إحدى وثمانين وأربعمائة.
    وذكر غيره: أنه سمع من هبة الله بن عبد الرزاق الأنصاري، وعلي بن حسين بن أيوب، وغيرهما، وتفقه على أبيه، وناظر في الأصول والفروع
    وسمع الحديث الكثير، وشهد عند قاضي القضاة أبي الحسن بن الدامغاني، فقبل قوله. وكان فقيهًا فاضلاً يفهم المعاني جيدًا، ويقول الشعر. وكان يشهد مجلس الحكم، ويحضر المواكب.
    وتوفي رحمه الله يوم الثلاثاء، منتصف محرم سنة عشر وخمسمائة. وصُلي عليه يوم الأربعاء. كذا ذكر ابن شافع وغيره.
    وفي تاريخ ابن المنادي: أنه توفي يوم الجمعة ثاني عشر ربيع الآخر سنة ثلاث عشرة وخمسمائة. ودُفن يوم السبت بدكة الإمام أحمد.
    فعلى هذا: تكون وفاته قبل والده بشهرٍ واحد. ولا أظن هذا إلا غلطًا. وكان له من العمر سبع وعشرون سنة. ودفن في داره بالظفرية، فلما مات أبوه نُقل إلى دكة الإمام أحمد رضي الله عنه.
    قال والده: مات ولدي عقيل. وكان قد تفقه وناظر وجمع أدباً حسناً فتَعَزّيتُ بقصة عمرو بن عبد ودّ الذي قتله علي رضي الله عنه، فقالت أمه ترثيه:
    لو كان قاتل عمرو غير قاتله ... ما زلتُ أبكي عليه دائم الأبدِ
    لكن قاتله من لا يقاد به ... من كان يُدعى أبوه بيضة البلدِ
    فأسلاها، وعزاها جلالة القاتل، وفخرها بأن ابنها مقتوله. فنظرتُ إلى قاتل ولدي الحكيم المالك، فهان عليَّ القتل والمقتول لجلالة القاتل.
    وذكر عن الإمام أبي الوفاء: أنه كب عليه وقبَّله، وهو في أكفانه. وقال: يا بُنَيَّ، استودعتُك الله الذي لا تضيع ودائعه. الربُ خيرٌ لك مني. ثم مضى، وصلى عليه بجنان ثابت. رحمه الله.
    ومن شعر عقيل هذا:
    شاقَهُ والشوقُ من غيرِهْ ... طللٌ عافٍ سوى أثرِهْ
    مقفرٌ إلا مَعالمُهُ ... واكف بالودق من مطرِهْ
    فانثنى والدمعُ منهملٌ ... كانسلال السِلك عن دررِهْ
    طاوياً كشحاً على نُوَبٍ ... سبحات لَسْنَ من وَطَرِهْ
    رحلة الأحباب عن وطنٍ ... وحُلولُ الشيب في شعرِهْ
    شِيَمٌ للدهر سالفة ... مستبيناتٌ لمختبرِهْ
    وقبول الدر مبسمها ... أبلج يفترّ عن خَضِرِهْ
    هزَّ عطفيها الشبابُ كما ... ماس غصنُ البان في شجرِهْ
    ذاتُ فرع فوق ملتمع ... كدجى أبدي سنا قمرِهْ
    وبنان زانه ترفٌ ... ذاده التسليم عن خَفَرِهْ
    خَصْرُها يشكو روادفها ... كاشتكاء الصبُّ من سهرِهْ
    نَصبت قلبي لها غرضاً ... فهو مصميّ بمعتورِهْ
    وزهتْ تيهاً كأن لها ... منبتاً تزهى بمفتخرهْ
    وأناختْ في فنا ملك ... دَنتِ الأخطارُ عن خَطَرِهْ
    والآخر:
    أبو منصور هبة الله:
    ولد في ذي الحجة سنة أربع وسبعين وأربعمائة. وحفظ القرآن وتفقه وظهر منه أشياء تدل على عقل غرير، ودين عظيم. ثم مرض وطال مرضه، وأنفق عليه أبوه مالاً في المرض، وبالغ.
    قال أبو الوفاء: قال لي ابني، لما تقارب أجله: يا سيدي قد أنفقتَ وبالغتَ في الأدوية، والطب، والأدعية، ولله تعالى في اختيارٌ، فدعني مع اختياره. قال: فوالله ما أنطق الله سبحانه وتعالى ولدي بهذه المقالة التي تشاكل قول إسحاق لإبراهيم: " افعَل مَا تُؤمَرُ " الصافات: 103، إلاّ وقد اختاره الله تعالى للحظوة.
    توفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وثمانين وأربعمائة. وله نحو أربع عشرة سنة.
    وحمل أبو الوفا رحمه الله في نفسه من شدة الألم أمرًا عظيمًا، ولكنه تصبَّر، ولم يظهر منه جزع. وكان يقول: لولا أن القلوب توقن باجتماع ثانٍ لتفطرت المرائر لفراق المحبوبين.
    وقال في آخر عمره - وقد دخل في عشر التسعين، وذكر من رأى في زمانه من السادات من مشايخه وأقرانه، وغيرهم - : قد حمدتُ ربي إذْ أخرجني ولم يبق لي مرغوب فيه، فكفاني صحبة التأسف على ما يفوت لأن التخلف مع غير الأمثال عذاب. وإنما هوّن فقداني للسادات نظري إلى الإعادة بعين اليقين وثقتي إلى وعد المبدىء لهم، فلكأني أسمع داعي البعث قد دعا، كما سمعتُ ناعيهم وَقَد نعى. حاشا المبدىء لهم على تلك الأشكال والعلوم أن يقنع لهم من الوجود بتلك الأيام اليسيرة، المشوبة بأنواع التنغيص وهو المالك. لا والله، لا قنع لهم إلا بضيافة تجمعهم على مائدة تليق بكرمه: نعيم بلا ثبور، وبقاء بلا موت، واجتماع بلا فرقة، ولدات بغير نغصة.

    ( عن كتاب ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب )



    كتاب (جزء في الأصول لابن عقيل الحنبلي : مسألة القرآن ) :

    بسم الله الرحمان الرحيم
    عبد مذنب ورب غفور ..
    أما بعد ، فإن سبيل الحق قد عفت آثارها ، وقواعد الدين قد انحط شعارها، والبدعة قد تضرمت نارها وظهر في الآفاق شرارها ، وكتاب الله عز وجل بين العوام غرض ينتضل ، وعلى ألسنة الطغام بعد الاحترام يبتذل ، تضرب آياته بآياته جدالا وخصاما ، وتنتهك حرمته لغوا وآثاما ، قد هون في نفوس الجهال بأنواع المحال ،حين قيل ليس في المصحف إلا الورق والخط المستحدث المخلوق ، إن سلطت عليه النار احترق ، وأشكال في قرطاس قد لفقت ، إزدراء بحرمته واستهانة بقيمته ، وتطفيفا في حقوقه ، وجحودا لفضيلته ، حتى لو كان القرآن حيا ناطقا لكان من ذلك متظلما ، ومن هذه البدعة متوجعا متألما ، ترى أليس هذاالكتاب الذي قال الله فيه : ( وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) وقال: ( إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون) وقال : ( والطور وكتاب مسطور في رق منشور) ؟..أو ليس الحبر والورق قبل ظهور الحروف المكتوبة لا يمنع من مسه المحدثون ، وإذا ظهرت الحروف المكتوبة صار ( لا يمسه إلا المطهرون ) ؟ أليس هذا الكتاب الذي قال فيه صاحب الشريعة تنزيلا وتجليلا : " لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم " ؟ أليس الله تعالى يقول في كتابه : ( يايحيى خذ الكتاب بقوة ) وقال في حق موسى : (وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة ) أفترى من القوة تهوينها عند المكلفين ، والازدراء بها عند المتخلفين ، يزخرفون للعوام عبارة يتوقون بها إنكارهم ويدفنون فيها معنى لو فهمه الناس لعجلوا بوارهم ، ويقولون : تلاوة ومتلو وقراءة ومقروء ، وكتابة ومكتوب ، هذه الكتابة معلومة فأين المكتوب ؟ وهذه التلاوة مسموعة فأين المتلو ؟ يقولون : القرآن عندنا قديم قائم بذاته سبحانه، وإنما هي زخارف لبسوا بها ضلالتهم ، وإلا فالقرآن مخلوق عندهم لا محالة ، قد انكشف للعلماء منهم هذه المقالة .. يقدمون رجلا نحو الاعتزال فلا يتجاسرون ، ويؤخرون أخرى نحو أصحاب الحديث ليستتروا فلا يتظاهرون .
    إن قلنا لهم ما مذهبكم في القرآن ؟ قالوا : قديم غير مخلوق ، وإن قلنا: فما القرآن أليس هو السور المسورة والآيات المسطرة في الصحف المطهرة ؟ أليس هو المحفوظ في صدور الحافظين ؟ أليس هو المسموع من ألسنة التالين ؟ قالوا : إنما هو حكايته وما أشرتم إليه عبارته ، وأما القرآن فهو قائم في نفس الحق غير ظاهر في إحساس الخلق .. فانظروا معاشر المسلمين إلى مقالة المعتزلة كيف جاءوا بها في صورة تنافي الصورة ...واسمعوا ما أقول من افساد دعواهم ..و البيان عن معتقدهم في القرآن من الزيغ و الضلالة ..و أنهم قائلون بخلافه لا محالة..و هأنذا أذكر من ءايات الكتاب ما يشهد أنهم بالاعتزال الصريح قالوا ..و بالقول بخلق القرآن دانوا ..
    قال الله سبحانه (ان هذا القرءآن يهدي للتي هي أقوم ) وقال (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ) وقال (وننزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين ) و قال (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه)...فقد اجتمعت الامة على ان قوله : ( هذا) اشارة الى هذا المسموع بالآذان المتلو بالالسن ، وقد قالت الاشاعرة ان هذا المشار اليه هو المخلوق، فإن القديم قائم في النفس . فقد صرحوا بخلق القرآن إذ لله صفة تسمى قرآنا عندهم ، و ما في ذات الله تعالى غير مشار إليه لا منزلا ولا متلوا ولا ظاهرا لحس ولا مسموعا بأذن .فقد قالوا بخلق القرآن في المعنى وأرضوا العوام بأن اثبتوا شيئا سموه كلاما .
    وأيضا من الدليل فإنهم قالوا بحدث القرآن ، والله يقول (فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ) (قل لئن اجتمعت الانس والجن على ان يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا). أفتراه سبحانه يقول : قل فأتوا بمثل ما في نفسي مما لم يعرفوه ولم يسمعوه ؟وهل هذا الا بمثابة قوله : قل فأتوا بمثل علمي او بمثل عيني او بمثل قدرتي مما لم يدركه الاحساس و لم يظهر لادراكات النفس . فلما تحدى العرب وعجّزهم و قال ( بمثل هذا ) علمنا أنه إنما أشار إلى ما سمعوه و عرفوه ، وإلا فلا حجة عليهم عند عجزهم عن الاتيان بما جهلوه. و ما في نفس الله تعالى لا صلة إليه ولا وقوف عليه و لا يقدر أحد على التحدي به . قال سبحانه إخبارا عن بعض انبيائه : ( تعلم ما في نفسي و لا أعلم ما في نفسك ) ولم يُنكر عليه .
    فإن قالوا : إنما أشار إلى حكاية ما في نفسه وعبارته وهو هذا المتلو بالالسن المحفوظ في الصدور المكتوب في المصاحف ، فأما أن تشيروا إلى ما في ذاته فكلا . قلنا لهم : أنتم أغلظ وأكفر منكم في الاول ، لان الحكاية هي المثل و الشبه والنظير ، فإن تنصلكم هو التشبيه ، وإن ذراكم على أصحاب الحديث بالكذب والتمويه . و إذا قلتم لله تعالى في نفسه صفة نعقل حكايتها وهي تلاوتنا ، ونأتي بمثلها و هي قراءتنا ، فقد صرحتم أن وصف الله تحكية ، ووقعتمفيما تنصلتم منه من التشبيه . ولان هذه التلاوات لو كانت حكايات لكان الناس قد أتوا بمثل كلام الله تعالى فأين عجزهم ؟ و لان كلام الله تعالى عندهم ليس بحرف و لا صوت ، فكيف تكون حكايته حرفا و صوتا ؟ وهل هذه الحكاية الا بمثابة من قال إن علومنا كعلم الله و سمعنا و بصرنا حكاية سمع الله و بصره ، وإن كان سمعه ليس بحاسة و أسماعنا حاسة ، و موّهتم على
    الناس أنكم من أهل السنة ، و ما أبعدكم من هذه التسمية مع تكذيبكم بنص القرآن . و الله تعالى يقول : ( وكلم الله موسى تكليما ) ( و إذ نادى ربك موسى ) ( و ناديناه من جانب الطور الايمن و قربناه نجيا ) . وقلتم إن الملك كلمه و الله ألهمه و فهّمه . و قد أكذب الله من جعل كلام الملك كلاماَ له سبحانه فقال تعالى : ( و ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم ) . و لم يسمّ أحدا من الانبياء كليما مع كونه أوحى إليهم و أرسل إليهم الملائكة فعلمنا أن التكليم حقيقة لم يحصل إلا لقسم منهم و هو الذي كلمه الله لا برسول و لا وحيا مثل موسى من وراء حجاب , و نبينا (صلى الله عليه وسلم ) من وراء المعراج . ولان الله سبحانه قد أفرد من أراد خطاب الملائكة عمن اختصه بالتكليم . فقال سبحانه في حق زكريا و مريم : (وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك و طهرك و اصطفاك على نساء العالمين ) , و قال في موسى : ( إني اصطفيتك على الناس برسالاتي و بكلامي ) ( وإذ نادى ربك موسى ) ( وناديناه من جانب الطور الايمن و قربناه نجيا ).. وقال سبحانه ( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم و إسماعيل و إسحاق ويعقوب والاسباط و عيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا. ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل و رسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما ) . وقال في حق زكريا عليه السلام : (فنادته الملائكة و هو قائم يصلي في المحراب ). فذكر الله تعالى الانبياء الذين أوحى إليهم ولم يضف إليهم التكليم و لا أحدا منهم سماه بالكليم ، ثم أفرد موسى بالذكر ، فدل على أن الكلام كان لموسى بخصيصة ليست إلا بنفي الوسائط ، و كلامه بنفسه سبحانه أوجب له إسم كليم . و إلا فمعلوم أن كثرة هؤلاء المذكورين لم يسم أحدا كليما ولا مكلما فانقطع عنهم موسى وأفرده باسم المكالمة منهم . وهذا يدل ذوي العقول إلى تمييزه منهم بميزة هي المواجهة و المكافحة من غير واسطة .
    وقال في حق سليمان لما أراد أن بفهمه : ( ففهمناها سليمان ) ففرق بين التفهيم و التكليم. فمن سمى التفهيم تكليما فقد وضع لنفسه بدعة و لغة .
    و زعمتم أن غير الله يقول لموسى : ( إنني أنا الله ) و موسى يقول لغير الله أرني أنظر إليك) و يقال لغيره تبت إليك) .و تجلى غير الله للجبل فجعله دكا .أترى الملائكة يتجلون للجبال على استمرار الزمن فلا تندك و لا تنهد ؟ أوليس الانبياء يسمعون كلام الملائكة فلا يصعقون و لا يفرقون ؟
    وزعم أهل الزيغ و البدع أن الذي سمعه نبينا عليه السلام ليلة المعراج كلام الملك . أترى أي الملائكة كلمه ؟ وهذا جبريل يتقاصر خطوة عن مقام نبينا عليه السلام لقوله : ( و ما منا إلا له مقام معلوم ).و انقطع جبريل حيث انقطع ، و نبينا عليه السلام يقول : هذا مقام يفارق الخليل خليله ، ثم زج بالنبي عليه السلام حيث لا ملك ولا واسطة ، فقال بعد ذلك : فسمعت الحق يقول : ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه و المؤمنون ).و في حديث آخر : (فقال : فيم يختصم الملأ الاعلى ) و في حديث آخر : ( فألهمني الله عز وجل أن قلت : التحيات لله ) . ففرّق بين كلام جبريل و مقامه و بين كلام الحق سبحانه .
    وزعمتم أن الله تعالى قد أرسل إليه بالملك فكلّمه فقد كلّمه الله تعالى . والله قد أكذبكم في نص كتابه فقال في حق الكفار : ( ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ). و معلوم أنه إنما نفى عنهم كلامه بنفسه ، أما الملائكة فقد أخبر عنهم أنها تكلمهم ، قال الله سبحانه : ( و قال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم ) ، و قال : ( وقفوهم إنهم مسؤلون ) ، وقال: ( يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين . ويقولون حجرا محجورا ). فدل على أنه لا يكون مكلماً من كلمته الملائكة و نفى عنهم كلامه. و الذي نفى عنهم هو كلامه بنفسه على الوجه الذي كلّم به موسى .
    ومما خالف به السنة أهل الزيغ والبدع أنه ورد في الاخبار : ( أن الجبار جل جلاله إذا مات الخلق دحا السماوات و الارض و نادى : أين الجبارون ؟ لمن الملك اليوم . فيجيب نفسه : لله الواحد القهار ) . أين هم لما قالوا في كلامه لموسى و غيره بأنه كلام الملك ؟ ففي ذلك الوقت حيث لم تبق عين تطرف و لا لسان ينطق ، من القائل : أنا الملك لمن الملك اليوم ؟
    وقوله تعالى : ( ولو أن ما في الارض من شجرةٍ أقلام ٌ والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفذت كلمات الله ) . فأثبت لنفسه كلمات منفردات غير متناهية الاعداد.
    و قال سبحانه : ( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفذ البحر قبل أن تنفذ كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً ) فأثبت لنفسه كلمات.
    و قالت الاشاعرة :إنه شيء واحد . فيكون على زعمهم قوله تعالى : ( ولا تقربوا الزنى ) هو قوله : ( أقم الصلاة ) . و معلوم أن تغاير ما بين الأمر والنهي و الوعد و الوعيد لا يزيد على معاني ما بين حرف و حرف. و قال سبحانه ( الم . ذلك الكتاب لا ريب ) . و قال ( بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ). وقال ( فأتوا بسورة من مثله).وقال (فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ). و قالت الاشاعرة : ليس هو آيات ولا سور مفصلات .
    و قال سبحانه ( الم . ذلك الكتاب). وقال ( حم ) ( طسم.تلك آيات الكتاب المبين ) . وقد ذكر حروفا وآيات وكنى بها عن الكتاب . و قالت الاشاعرة : ليس بحروف ولا أصوات .
    وقال الله سبحانه في الانبياء ( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله و رفع بعضهم درجات ) . و قالت الاشاعرة : كلهم كلمهم .على قولهم بأن الوحي هو الكلام. وقال الله سبحانه : ( فالحق و الحق أقول ) ( ولكن حق القول مني ). وقال سبحانه : (هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم ) (فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ). وقال الله سبحانه : (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ). وقالت الاشاعرة : لا قول له ولا هو ممن يقول ،وإنما كلامه كالفكر والحفظ أو الخاطر أو العلم والارادة التي تقوم بالنفس ولا تظهر للحس .وهذا هو الكفر وتكذيب القرآن عافانا الله.
    وقال النبي (صلى الله عليه وسلم ) إذا كان يوم القيامة نادى الله بصوت فيسمعه أقصاكم كما يسمعه أدناكم : أنا الملك أنا الديان وعزتي و جلالي لأسألن القرناء لم نطحت الجماء ) . وقالت الاشاعرة : لا صوت له .
    وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم )-عن جبريل عليه السلام - : إذا تكلم الله بالوحي سمع صوت كجر السلسلة على صفوان فتخر الملائكة للاذقان سجدا حتى إذا فزع عن قلوبهم قالت ملائكة كل سماء : ماذا قال ربكم ؟ فيقول قال : الحق...). وقالت الاشاعرة : لا صوت لكلام الله ولا حرف .
    و تشغب على النبي بقوله ( كجر السلسلة على صفوان ) كيف يشبه القديم بالمحدث ؟ و لم يشنعوا عليه حيث قال : (ترون ربكم كما ترون القمر ) . كان أوجب ذكر القمر تشبيها للكلام به . لم يبق إلا تشبيه الرؤيا بالرؤيا و السماع بالسماع لا المرئي و لا المسموع.
    و قال الله سبحانه لنبيه : (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ) . وقالت الاشاعرة: ما ألقي عليه إلا قول الملك. و قال الله سبحانه : (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الارض أو كلم به الموتى ). تقديره : لكان هذا القرآن . وقالت الاشاعرة : ليس الكلام تسير به الجبال ولا تقطع به الارض لانه قائم في نفس الحق.
    و قال سبحانه : (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ). وقالت الاشاعرة : إنه لا يجوز عليه النزول.
    و قال الله سبحانه : (وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الامين على قلبك لتكون من المنذزين ). و قال الله سبحانه: ( إنا أنزلناه في ليلة القدر). و قال الله سبحانه: ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ). و قال الله سبحانه : (قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء ). وقالت الاشاعرة :كلام الله لا ينزل ، ولا ينزل إلا حكايته أو عبارته أو كلام الملك.
    و قال الله سبحانه : ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له و أنصتوا ). وقال الله سبحانه : ( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا ) وقال الله سبحانه : ( قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد ..)
    و قال الله سبحانه : (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ) . و قال الله سبحانه : ( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ) . فأثبت لنفسه كلاما مسموعا . وقالت الاشاعرة : ليس المسموع كلام الله ولا هو القرآن. وزعمت الاشاعرة أن المسموع مخلوق وليس المسموع إلا القرآن .
    وقال النبي (صلى الله عليه وسلم ) : (لاتسافروا بالقرآن إلى أرض العدو). وقال علي (عليه السلام ) : (والله ما حكمت مخلوقا وإنما حكمت القرآن ) وإنماأشار إلى هذا المسموع. وقالت الاشاعرة :لا يصح أن يحكم بالقرآن ولا يسافر به.
    و أجمع المسلمون أن من حلف بالله لا سمعت كلام الله وسمع القرآن كان حانثا في يمينه . و أجمع أهل اللغة أن الكلام ثلاثة أشياء : إسم وفعل وحرف . وقالت الاشاعرة : ليس سوى القائم في النفس .
    وقال الله تعالى إخبارا عن مريم أنها قالت : (فلن أكلم اليوم إنسيا)..فنفت الكلام . وقالت الاشاعرة :إنها كانت تتكلم بما كان في نفسها يتردد من حور الكلام.
    وقال الله تعالى في حق زكريا: (آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام ) . فنفى عنه الكلام لانتفاء الحروف و الاصوات . وقالت الاشاعرة : هو متكلم بما كان في نفسه ولم ينف الكلام بإمساكه .
    فقد خالفت الاشاعرة كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الفقهاء وأهل اللغة. فافهموا ذلك رحمكم الله وتدبروه . واجتنبوا مقالتهم واحذروا بدعتهم وضلالهم تسلموا من خدعهم وأخبروا المسلمين مقالتهم واعتقادهم الفاسد والله ولي معونته وهو حسبنا ونعم الوكيل .

    لله الكلمة الأزلية..
    وأما دعوى الاشاعرة موافقة أحمد بن حنبل رضي الله عنه فباطل. أين هم عن قول أحمد رضي الله عنه من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو كافر) ؟
    قال عبد الله بن احمد :قال أبي : تكلم الله بصوت وقال : لا ينكر هذا الاالجهمية .
    وقال إمامنا أحمد لابي أحمد الاسدي يوجه القرآن على خمس جهات : حفظ بالقلب وتلاوة باللسان وسمع بأذن وبصر بعين وخط بيد) .قال أبو أحمد الاسدي : فأشكل علي قوله وبقيت متحيرا في ذلك . فقال لي ما حالك ؟ القلب مخلوق و المحفوظ به غير مخلوق . و اللسان مخلوق و المتلو به غير مخلوق والاذن مخلوقة والمسموع اليها غير مخلوق. واليد مخلوقة و المخطوط بها غير مخلوق . والعين مخلوقة والمنظور اليها غير مخلوق ) . قال فقلت :يا ابا عبد الله ، العين تنظر الى السواد و الورق . فقال لي :مه. أصح شيء في هذا (لا تسافروا بالقرآن الى ارض العدو ). ولم يذكر حبرا ولا ورقا . وهل نهاهم الا عن الحروف المضمنة فيه ؟
    والاشاعرة تقول : إن جبريل لم يسمع كلام الله من الله . و القراءة عندهم والتلاوة و الكتابة مخلوقة. و القرآن صفة قائمة في نفس المتكلم لا تظهر لاحساس المكلفين . وانما الحروف والاصوات حكايتها . واعتمدوا على نفي الحروف والاصوات بأن الحروف متغايرة مختلفة : الألف غير الجيم والميم غير الغين. و القديم لا يتغير ولا يختلف لانه ذات واحدة . ولان الاصوات تحتاج الى اصطكاك اجرام ، والحروف تحتاج الى مخارج مخصوصة من مجوفات الاجسام ، و الباري تعالى ليس بجسم ولا ذي آلات ولهوت. فبطل أن يكون الكلام الا وصفا قائما بنفس المتكلم .
    وهذا باطل والجواب عنه من وجوه :احدها : من حيث اللغة .و الثاني : القرآن المرتب بظهوره على اللغة .و الثالث : السنة .والرابع : أدلة العقول.
    أما طريق اللغة فإنه إجماع أهل اللسان على أن الممسك عن الحروف والاصوات من غير آفة ساكت وإن كان يمكن أن يكون متفكرا. فلو كان الكلام هو تصوير في النفس لكان المتفكر أحق باسم المتكلم من الذي تظهر منه الحروف والاصوات . ولوجب ألا يسمى القارئ غير المتفكر فيما يقوله متكلما . ولوجب ان يكون المعتبر متكلما ،لانه على أصلهم متكلم . وسقط عنه تسمية الاعتبار و التفكر وإن لم يبد منه النطق وإنما قام فيه فكر في النفس. وأجمع فقهاء شريعة الاسلام على ان من حلف لا يتكلم ثم تفكر لم يحنث. وبخلاف هذا من ظهرت منه الحروف والاصوات سمي متكلما وان لم يكن له فكر ولا اعتبار . ولهذا سمى الله الايدي والارجل متكلمة بقوله : (وتكلمنا ايديهم ) لكونها تنطق بالشهادة عليهم و ان لم يوجد منها فكر ولم يكن لها نفس يقوم بها الكلام الذي يشير اليه الاشاعرة . ولهذا قال الله عز وجل : (ولا يكلمهم الله يوم القيامة ) . ولا يخلو انه عز وجل يريد ألاّ يسمعهم صوته ووليس ألاّ يكون في نفسه كلام لهم . لان عند الاشعري أن كلام الله الذي هو وعيد الكفار وامرهم ونهيهم هو قائم في نفسه اليوم ويوم القيامة وكل يوم من ايام الابد لا يزول عنه. لم يبق إلا انه اراد ألاّ يسمعهم صوته . فثبت أن كلامه تعالى هو الصوت المسموع بالمعاني المخصوصة ليقع به الفهم. فهذا دليل اللغة.
    وأما دليل الكتاب فقوله تعالى : ( حتى يسمع كلام الله ) فسمى الذي سمع من القارئ كلاما له . وعند الاشعري ان المسموع ليس بكلام وانما الكلام هو المعنى القائم بالنفس. وهذا خلاف ظاهر لنصه سبحانه و تعالى.
    وقال تعالى ; ( و إذ نادى ربك موسى ). وقال : ( وانا اخترتك فاستمع لما يوحى ) الى قوله (انني انا الله ). فقرن النداء بالسمع . ومعلوم ان السمع لا يحله شيء سوى الصوت سيما وقد قرن به النداء . و النداء لا يكون إلا صوتا.
    وفي سياق الاية (انني انا الله). ولا يقول غير الله (انني انا الله ) إلا ويكون كاذبا. كيف وقد خص الله ذلك بقوله : (ومن يقل منهم اني اله فذك نجزيه جهنم) ؟ وقد عنَّف نبيا من انبيائه بقوله : (آنت قلت للناس اتخذوني وأمي الهين من دون الله ...) وقال تعالى ; (طسم.تلك آيات الكتاب المبين ). فذكر سبحانه حروفا وكنى عنها بانها آيات الكتاب . وفي الحديث : (لا تسافروا بالقرآن الى ارض العدو ).وما منع السفر به الا الحروف المكتوبة .
    وأما من حيث المعقول : فإن ما ليس بحرف ولا صوت وانما هو في النفس فقد انفرد في الشاهد بتسميته وهو كونه فكراً ووسوسة وخاطرا وغير ذلك مما يهجس في النفس . ولأنه يستغنى بإرادة الأحداث للأصوات المضمنة الامر والنهي عن الكلام القائم في النفس. فإن الذي فإن الذي نشير إليه هو هذه الحروف المخصوصة و الاصوات المسموعة المتضمنة المعاني المفيدة . فلا معنى لتسمية الشيء الواحد بإسميْن وقد يوجد الاجتزاء باحدهما عن الاخر .
    وأما ما ذكروه من أن الحروف تتغاير وتختلف فذلك يوجب حدوثها .يبطل على الاشاعرة بنفس الكلام لكونه أمرا ونهيا ووعدا ووعيدا .وليس الامر هو النهي بل هو ضده ، لان الامر استدعاء الفعل . والنهي استدعاء الترك.فما هربت منه الاشاعرة وقعت فيه .لانها
    هربت من اثبات الحروف خوف التغاير ، وقعت في تغاير الكلام بكونه خبرا و ستخبارا وأمرا ونهيا ووعدا ووعيدا. فإن كابرت الاشاعرة وقالت ليس الامر غير النهي . ساغ ان يقال لهم إن الالف ليس غير الجيم. وهذا ركوب الجهالات.
    ولان الاشاعرة فد أثبتت الصفات من العلم و القدرة والحياة والارادة والكلام و الوجه واليدين والسمع والبصر ، وكل واحد من هذه الصفات ليس هو الاخر ، ولم يدخل فيه التغاير والاختلاف. كذلك هاهنا .
    وأما قول الاشاعرة إن إنكارنا الحروف و الاصوات خوفا أن يؤدي إلى إثبات الجسم و الادوات و المخارج المخصوصات وذلك مستحيل على القديم واستحال ما لا يحتاج إليه إثباته . فغلط .لانه قد لزم الاشعري مثل هذا في إثبات الكلام القائم بالنفس . فإن ما يكون في انفسنا نحن انما هو محتاج الى الى محل يقوم به من آلات تخيل وفكر ، وهو القلب والرأس والشيء المخصوص الذي يتعاهد على إحداث الفكر فإذا أثبته في النفس ولم يخرج الى آلات التفكر في حقنا و ما يقوم بأنفسنا ، هذا ما نثبته كلاما على حد ما نعقله لا بآلات و أدوات . و لا انفصال عن هذا إلا الهوس و التدليس على من يعجز عن إقامة البرهان. و الله الموفق للصواب.

    فصل :
    قالت الاشاعرة بالتهجم على تأويل المتشابه و صرف الاحاديث عن ظاهرها بالرأي و حكم العقل خلاف الشرع . وذلك خطر عظيم و غرر جسيم وإثم موبق و دخول في من قال الله عز وجل في حقه : (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله و ما يعلم تأويله إلا الله ). فمذهب السلف وأئمة الخلف الايمان بالأسماء و الصفات توقيفاً لا يخرج عن ظاهرها إلى تأويل دليل العقول و شواهد النظر و لا يقومون بتفتيش صفاته التي وصف بها نفسه ووصفه بها رسوله وتلقتها الصحابة و القرابة بالإيمان بها و التسليم لها من غير رد و لا تأويل لها كما ابتدعته الاشاعرة والكلابية ومن وافقهما من المبتدعة . و قد علموا بأن النقل لما وصل إليهم أنه سئل عليه السلام عن الروح أهو شيء مخلوق يناله الحدوث ؟ قال الله له : (قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) فلما شذَّ عنهم علم باب صفة الروح من أوصافنا ، فبأن نمنع من تفتيش وصفه أولى و أحرى . فوجب أن نتلقاه تسليما و لا نكيّف فنقول ما اليدان وما النفس وما المجيء وما الإتيان وما الوجه وما السمع وما البصر وما النزول وما الضحك؟ وجميع الصفات التي نقلها الثقات والأئمة الأثبات . فيكون سؤالنا عن أوصافه بعد كتمه هذا وصفا من أوصافنا غباوة وجهلا. بل نقول كما قال و نمسك عما وراء ذلك .
    ولو قدمنا على أخذها بقياس أفعالنا جاء من هذا الكفر المحض .فإن من بنى فأتقن ثم هدم ، وجمع ثم فرّق ، وأمكن من مخالفته فأنظر إبليس مع
    علمه بأن انظاره يعود بفساد أكثر خلقه و مخالفة أكثر أوامره . وهذا جميعه في الواحد منّا سفه وهو جل وعز منه حكمة . فإذا كانت أفعاله كذا لا يقوم لها تأويل ولا يصح في العقل لها تعطيل . كان غاية أمرنا التسليم . فأوصافه أولى لان مفعولاته مخلوقة و أوصافه قديمة.
    ولأن الاشاعرة لا تخلو أن تكون صدقت النقلة فيما روته من أخبار الصفات أو كذبت . فإن كانت صدقت وجب المصير الى ما قالته و نقلته و ترك تأويله وإمراره كما جاء على ما جاء من ظاهره. وإن كانت كذبت وجب ترك ما قالت ولم يجب تأويله .
    ووجدنا رواة أخبار الصفات أئمة المسلمين و صدورهم و المرجوع إليهم في الفتاوى كسفيان الثوري ومالك بن انس و الحمادين وبن عيينة و الاوزاعي والليث بن سعد وعبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل و الشافعي و يحي بن معين وأبي عبيد بن سلام والحميدي وأبي بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه وأبي داود السجستاني والبخاري ومسلم ومحمد بن يحي الذهلي وعبد الله بن أحمد بن حنبل وأبي زرعة الدمشقي وأبي عبد الرحمان النسائي وأبي عيسى الترمذي وإبراهيم الحربي وعثمان الدرامي والمروذي والأثرم وأبي بكر بن أبي عاصم وابن خزيمة وعبد الله بن أبي داود وعبد الرحمان بن أبي حاتم وأبي بكر الأنباري وأبي سليمان البستي والدارقطني وعبد الله الطبري وغير هؤلاء من الحفاظ الأثبات ، هم والله سرج البلاد و نور العباد ، فغير جائز أن يكون خبرهم إلا صحيحا .
    وقد ذكر ابن الانباري عن ابن مسعود و ابن عباس قوله تعالى : (و ما يعلم تأويله إلا الله و الراسخون في العلم يقولون آمنا به ) قالوا كلهم بأجمعم :الواو للإستئناف و ليست عاطفة .وذكر ابو سليمان البستي أن الوقف التام في هذه الآية عند قوله : (إلا الله ) وما بعده استئناف .
    وقال إمامنا أحمد بن حنبل رضي الله عنه : لا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت . وقال ايضا : قلب المؤمن بين اصبعين من اصابع الرحمان . وقال : خلق آدم على صورته وخلق آدم بيده .كل ذلك نقول به لورود الحديث به .
    وذكر ابو عيسى الترمذي في كتابه : (و قد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم روايات كثيرة منها رؤية الرب يوم القيامة وذكر القدم و ما أشبه هذه الأشياء ..والمذهب في هذا كله عند أهل العلم مثل سفيان و مالك و ابن المبارك ووكيع و ابن عيينة و غيرهم أنهم قالوا : أمِّروها و لا تقولوا كيف ؟ و هذا أمر أهل العلم الذي اختاروه و ذهبوا إليه ). و بالله التوفيق .
    و الحمد لله على فضله و أياديه أولاً وآخراً .و صلى الله على سيدنا محمد و آله و صحبه و سلم تسليماً كثيراً.
    اعلم وفقك الله وهداك ، أن من جملة ما ذهبت إليه الاشاعرة واستدلوا على صحته بما رمزوا : من ذلك نفيهم حقائق القرآن ، وقولهم : إنه مجاز .وإنما ذهبوا الى ذلك لأنهم قالوا : ( إن الله تعالى لم يكلم موسى ، وإنما اضطره الى معرفة المعنى القائم بالذات من غير أن يسمع صوتا أو يفهم حرفا). وبنوا على ذلك أصلهم في حد الكلام ، وأنه المعنى القائم بالذات ، وأن كل ما يقرأ و يتلى إنما هو عبارة عما لم يفارق الذات ، وهو المعنى القائم في النفس ، وأنه لا يدرك بشيء من الحواس بحال. وفرعوا على هذا الأصل فروعاً . فمن ذلك : أن قالوا : إن كلام الله تعالى لا يسمع منه ولا يتكلم به غيره ، وإن الله تعالى يتكلم بلا حرف ولا صوت ، وإنه لا يجوز أن يقال : إنه تكلم أو خاطب أو قرأ أو لفظ .ومن قال ذلك عندهم فقد كفر .
    ومن فروعهم الفاسدة وأقوالهم الباطلة أن منعوا نزول القرآن جملة واحدة من غير تفصيل ، وأن القراءة والتلاوة والأصوات والحروف عندهم مخلوقة ، وزعموا بعقلهم الفاسد أن المفهوم من ذلك غير مخلوق ، وأن المقروء و المتلو والمسموع و المكتوب غير مخلوق . وهذا من رموزهم أيضا التي أحادوا بها العامة و أضلوا بها الأمة .
    فأما نفيهم للحقائق : فاستدلوا على ذلك بأن قالوا : ( إذا ثبت أن حد الكلام هو القائم بالذات ، وأن الكلام صفة للذات ، وقد ثبت أن الصفة لا تفارق الموصوف ، وأن الموصوف لا سبيل إلى تكييفه وحدّه وأنه لا يتقسم ولا يتبعض ، ولا يحويه مكان ، عُلمَ أن كلامه بيننا مجاز لا حقيقة. لأننا لو حققنا وجوده بيننا كنا قد حكمنا بأن الصفة تفارق الموصوف ، ويحويها المكان ، وذلك لا يجوز. فلم يبق إلا أن كلام الله سبحانه لا حقيقة له بيننا ، وإنما بيننا العبارة عنه . الدليل على ذلك أن كلام الله تعالى لا يتغير ولا يدخله اللحن ولا يقع عليه المدح والذم ، وكل ذلك يدخل على عبارتنا ، فثبت ما قلنا).
    والجواب على ما استدلوه من وجوه :
    أحدها : أنهم حدوا كلام الله سبحانه بما حدوا به كلام المخلوقين ، وقد أثبتوا أن الباري عز وجل لا يحد ولا يكيف ، فبأن لا يحد كلامه أحرى وأولى . ولما جاز أن يحد المخلوقون جاز أن يحد كلامهم. وخلافنا ليس في كلام المخلوقين ، وإنما هو في كلام الخالق ، فبطل تحديد كلامه بما حدوه به .
    والوجه الثاني من وجوه المنع للحد ، هو : أنه إذا حد الكلام بأنه هو المعنى القائم في النفس ، كان محدودا مدخولا بالفكر والمفهوم والمقروء والمتلو والمسموع والرمز والإشارة . ومعلوم أن الاشتراك في الحد لا يجوز، فبطل ما قالوه .
    الثالث : من وجوه المنع للحد هو : أن الحد من شرطه الطرد والعكس لئلا يتبعض الحد ، وإذا كان حد الكلام : المعنى القائم بالنفس ، فيجب أن يكون حد المعنى القائم بالنفس : الكلام . فيكون الكلام هو الحد وهو المحدود ، وهذا بخلاف الأصول . لأن الحد عندنا : إنما هو بعض المحدود ، ولا يجوز أن يكون الكل ، فبطل ما أصّلوه واعتمدوه . ويجب أن يقال : كل ما في النفس كلام ، ويقال : كل الكلام ما في النفس. فيؤدي هذا إلى أن الكلام لا يسمع بحال ،وهذا باطل .
    والرابع : من وجوه المنع للحد هو : أن الحد إذا كان هو المعنى القائم بالنفس من غير نطق ، فما الفرق بين الساكت و المتكلم ؟ ولأي فائدة وضع أهل اللسان صفة السكوت إذا كان يعد متكلما لأجل أن في
    نفسه كلاما ، وقد يكون في نفس الساكت كلام أيضا ، وما حد السكوت عندهم؟ وليس عن شيء مما ذكرناه انفصال بحال .
    وأما الثاني من وجوه الجواب عن الاستدلال عن نفي حقيقة القرآن بيننا هو :أنا اتفقنا على أن حد الحقيقة استعمال الشيء فيما وُضع له ، وحد المجاز استعمال الشيء فيما وُضع لغيره .فمثال الحقيقة : الله ربنا ، ومحمد نبينا ، و الكعبة قبلتنا. ومثال المجاز : تسميتنا للجد أباً ، وللرجل القوي أسدا . وقد اتفقنا أن الحقيقة لا تنتفي ، والمجاز هو الذي ينتفي . فيقول القائل : لي جد و ليس لي أب ، فلو كان الجد أبا على الحقيقة لم ينتف عنه اسم الأب . ثم اتفقنا على أنا نقول : كلام الله تعالى على الحقيقة مقروء بألسنتنا ، على الحقيقة متلو في محاريبنا ، على الحقيقة مفهوم بقلوبنا ، على الحقيقة محفوظ في صدورنا ، على الحقيقة مسموع بآذاننا ، على الحقيقة مكتوب في مصاحفنا ، غير حالّ في شيء من ذلك ،ولاينفصل عن ربنا عز وجل، ولو كان ما بيننا مجازا لم يثبت به اسم الحقيقة لما ذكرناه ، لأن المجاز لا يعبّر عنه بالحقيقة.
    فإن قيل : لا نُسلّم ، بل يُعبّر عندنا بالحقيقة عن المجاز ، وذلك أن الغايط وهو المكان المطمئن من الأرض ينقله الاستعمال من الحقيقة الى المجاز، فصار المجاز حقيقة ، فيقول القائل : جئت من الغائط ، وحقيقته المكان المطمئن من الأرض ، وإخباره حال عن الحدث ،فيُعبّر بالحقيقة عن المجاز . وكذلك الوضوء والصلاة و الزكاة يُعبّر فيها بالحقيقة عن المجاز لكثرة الاستعمال .
    فالجواب هو: أن هذا الكلام غير صحيح لوجوه :
    أحدها : أن اتفاقنا على أن الحقيقة لا تنتف بحال ، ومما يدل على بطلان هذا السؤال :هو : أن القائل قد يقول : جئت من الغائط ولم أحدث . وفهمت القرآن لأصلي ولم أصل ، وكان يدعو ، أو يصلي على النبي (صلى الله عليه وسلم) ، ويقول كنت أتوضأ ولم أتوضأ ، وكان يغسل يده من الغمر . ولا يصح منه أن يقول : كنت أقرأ القرآن ولم أقرأه ، وكنت أتلو القرآن ولم أتله وحفظت القرآن في صدري ولم أحفظه . وهذا كلام لا يذهب إليه ولا يعول عليه إلا من عدم التحصيل و طلب التعطيل .
    والثالث من وجوه الجواب عن الاستدلال عن نفي حقيقة القرآن بيننا هو : قولهم أن الموصوف وهو الباري سبحانه لا يكيف و لا يحد وأن الصفة لا تفارق الموصوف . نقول لهم وعليه نناظر ، لأنا لا ندعي أن القرآن فارق ربنا عز وجل ، سبحانه وتعالى عن ذلك ، وإنما نقول إنه نور يفرقه الله تعالى في قلوبنا ، وتنطق به ألسنتنا ، وتسمع به أسماعنا ، ونكتبه في مصاحفنا ، غير حالّ في شيء مما ذكرناه . قال الله عز وجل : (بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم )، وقال عز وجل : ( لا تحرك به لسانك لتعجل به ) . والهاء راجعة الى القرآن ، لأنه لا شيء يحرك به لسانه إلا القرآن، لقوله تعالى ( إن علينا جمعه وقرآنه ) ، ولو كان القرآن هو القائم بالذات ، لكان قوله تعالى : ( لا تحرك به لسانك) مستحيلا ، لأنه نهي لا معنى له ، لأن تحريك اللسان بما في الذات معدوم. و قال الله عز وجل : ( وما ينطق عن الهوى . إن هو إلا وحي يوحى . علمه شديد القوى ) فالهاء راجعة الى الوحي ، والوحي راجع الى النطق . وقال تعالى : ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ) ، ولا يسمع إلا القرآن ولا ينصت إلا له . وقال تعالى : ( بل هو قرآن مجيد . في لوح محفوظ ) . وقال تعالى : ( في كتاب مكنون . لا يمسه إلا المطهرون ) .
    فإن قيل : كيف يكون القرآن بما ذكرتم غير حال ؟
    قيل : يلزمكم هذا مثل ما يلزمنا ، لأنكم أثبتم المقروء والمتلو والمكتوب والمفهوم بيننا ، ولم تسألوا كيف أثبتّموه حالّ أو غير حالّ .
    فإن قيل : نحن إنما أثبتناه مجازا لا حقيقة ، وأنتم أثبتموه حقيقة لا مجازا.
    قيل : فما فائدة ذكركم للحقيقة وقد أبطلنا عبارتكم بها عن المجاز ؟
    ثم نقول : إذا نظر أحدكم في الماء وفي المرأة وفي الجسم الصافي الصقيل ، هل هي - أي صورة الرائي - هو ، أم هي غيره ؟ وهل هي صفة الناظر أو صفة غيره ؟
    فإن قالوا : هي صفته ، أخطأوا ، لأنهما مفترقتان رأي العين . وإن قالوا : لا نثبت أن الصفة ترى في غير محل الموصوف عن غير انتقال ولا طول . وإن قالوا : ليس هي صفة الناظر أخطأوا ، لأنها توجد وتعدم بعدمه ، ولا تخالفصفته ، فبطل ما قالوه .
    وإن قالوا : ليست هي هو ، ولا هي غيره .
    قلنا لهم : فما هذا المرئي فيهما ؟ وليس عن هذا انفصال بحال .
    ثم نقول لهم : أخبرونا عن شعاع الشمس إذا حل على الجدار واكتست منه الدنيا : هل انفصل ذلك الشعاع منها ، أم هو متصل بها ؟
    فإن قالوا : انفصل منها ، أخطأوا . وإن قالوا : متصل بها :
    قيل لهم : فهل هو منفصل من الأرض ؟
    فإن قالوا : نعم ، أخطأوا ، لأنه موجود رأي العين .
    وإن قالوا : لا . قيل لهم : فهل هو صفة للشمس أم للدنيا ؟ فإنه متصل بهما جميعا .
    فإن قالوا : هو صفة للشمس . قيل لهم : فقد فارقت الصفة الموصوف من غير انفصال ولا حلول .
    فكذلك نحن نقول : إن القرآن هو حبل ممدود بين الله وبين خلقه ، غير منفصل من الله تعالى ، ولا حالّ في خلقه ، كما قال النبي (صلى الله عليه وسلم ) : (القرآن حبل الله المتين طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم ) والحبل هو السبب ، والسبب هو الحبل .
    والرابع من وجوه الجواب عن الاستدلال عن نفي حقيقة القرآن بيننا هو : أن ذكرهم المكان لامعنى له ، لأن المجاز لا يستغني عن المكان ، كما أن الحقيقة لا تستغني عن مكان ، والذي يلزمنا من ذلك يلزمكم مثله .
    ثم نقول لهم : أخبرونا عن الباري سبحانه ، هل هو معنا أو بيننا ؟ فإن قالوا : لا ، كفروا ، لأنهم نفوا آية من القرآن ، ومن نفى آية من القرآن فقد كفر . وإن قالوا : نعم ، طالبناهم بالمكان . ليس عن هذا انفصال بحال .
    والخامس من وجوه الجواب عن الاستدلال عن نفي حقيقة القرآن بيننا هو: أن العبارة التي أسندوا إليها ظهورهم وعوّلوا عليها وجعلوها لهم أصلا، وموهوا على العالم بها ، فإن حقيقتها غير ما ذهبوا إليه .
    وذلك أنهم قالوا : (إن القارئ إذا قرأ القرآن ، لم يكن متكلما بكلام الله عز وجل على الحقيقة ، كما لا يجوز أن يتكلم بكلام زيد على الحقيقة ، فلم يبق إلا أنه يعبر عن كلام الله سبحانه ) .
    وهذا كلام غير صحيح ، لأنه لا خلاف بين أهل هذا الشأن في أن العبارة لا تكون حقيقة إلا من طريق المعنى فقط ، ثم يجوز أن يعبر الرجل إلا عمن سمع كلامه وفهم معناه ، دون من لم يسمع كلامه ولا فهم معناه ، يدل على ذلك نقل الشهادة ونقل الأخبار . ثم لم يبق إلا أن القارئ إنما عبر عن من سمع كلامه ، وهو الذي علمه، وكذلك صاعداً الى النبي (صلى الله عليه وسلم) ، ثم إن النبي (صلى الله عليه وسلم) عبّر عن جبريل ، وجبريل لم يعبّر عن رب العالمين لأنه لم يسمع كلامه ، ولا عن ميكائيل ولا عن إسرافيل ، لأنهم لم يسمعوا كلام الله تعالى عندهم ، فكيف يجوز أن يقال : عبارة عن كلام الله تعالى والله تعالى لم يسمع كلامه أحد ممن عبر عنه عندهم ؟ فبطل ما ادعوه من العبارة .
    فإن قيل : جبريل عبّر عن ميكائيل ، وميكائيل عن إسرافيل ، وإسرافيل أخذ من اللوح المحفوظ .
    قيل : فتكون العبارة عن اللوح ، واللوح لا يتكلم ، ولو تكلم لنسب الكلام إلى اللوح ولم ينسب إلى الله تعالى ، فلما لم ينسب الكلام إلى اللوح بطل حكم العبارة من كل الوجوه ، وثبت أن قارئ القرآن يتكلم بكلام الله عز وجل على الحقيقة ، لقوله تعالى : (لا تحرّك به لسانك لتعجل به ) ، ولقوله سبحانه : ( وما ينطق عن الهوى . إن هو إلا وحي يوحى ) ، وقوله ( هو ) : راجع إلى النطق الذي نطق به النبي (صلى الله عليه وسلم ) ، فأثبته الله تعالى أنه وحي علمه إياه ، ولم يقل إنه كلام محمد (صلى الله عليه وسلم) .
    وقوله عز وجل : (كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك ) ، فسمى الله تعالى ما يتلوه النبي (صلى الله عليه وسلم) وحياً ، لم يقل إنه كلام النبي (صلى الله عليه وسلم) ، ولا خلاف أن التلاوة والقراءة واحدة .
    فإن قيل : هما اثنان .
    قلتا لهم : ففرقوا بين القراءة والمقروء والتلاوة والمتلو ، ولا فرق ، وقد قال تعالى إخبارا عن من قال إن هذا إلا قول البشر : (سأصليه سقر ) ، فأوجب الله عز وجل بعدله جهنم لما قال إن هذا القرآن كلام محمد .
    وقوله تعالى : (ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) وهذا يدل على أن الميسر هو القرآن وليس هي للقراءة ، ولو كانت القراءة لم يكن لذكر القرآن فائدة .
    وقوله عز وجل : (اتل ما أوحي إليك من الكتاب ) ، فأمره أن يتلو القرآن الذي أوحى الله إليه ، ولو كان لا يمكن أحداً أن يتكلم بكلام الله تعالى لكان الله تعالى قد كلف رسوله ما لا يتأتى وقوعه منه ، وذلك محال .
    وقوله تعالى : (يريدون أن يبدلوا كلام الله ) ، وما كان بذات الله تعالى لا يقدر أحد على تبديله .
    وقوله تعالى قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) ، والإشارة لا تكون لما بذات الله سبحانه لأنه لا يوصف .
    فإن قيل : فإنما تحداهم بالتلاوة والقراءة والفصاحة والبلاغة وحسن التأليف ، ولم يتحداهم بمثل الكلام القائم بالنفس .
    قيل : التلاوة والقراءة لا تسمى عندكم قرآناً ، ولا تعجز عنها فصحاء العرب ،وإنما عجزوا عن الإتيان بمثل المعجزة ، والتلاوة والقراءة ليست عندكم معجزة ، فبطل قولكم .
    فإن قيل : العبارة عندنا إنما تكون عن المعنى دون الصيغة ، كما لو أن رجلا قال لعبده : قل لفلان تعال ، ففال له العبد : بيون - كلمة فارسية معناها تعال - ، لم يحسن من السيد لومه ، لأنه قد أتى على الغرض والمقصود .
    فالجواب ، أن هذا كلام فاسد ، لأن المقصود بقوله قل لفلان تعال أن يجيء ، فلو مضى العبد وأخذ بيد فلان وجاء به من غير أن يكلمه ، لم يحسن من السيد لومه .
    وليس كذلك المقصود بنقل كلام الله تعالى ، وإنما المقصود به معرفة الأحكام منه وإظهار المعجز الذي عجز الخلق عن الإتيان بمثله ، ولو كان المقصود به المعنى لم يعجز أحد عن ذلك ، ثم لم يلزمهم على هذا قراءته بالأعجمية وغيرها من اللغات .
    وأما قولهم (إن اللحن والذم لا يتوجه على كلام الله سبحانه ، وإنما يتوجه ذلك على عبارتنا) . فهذا كلام غير صحيح . لأن من لحن في القرآن عندنا لم يقرأ القرآن ، لقول النبي (صلى الله عليه وسلم) : (من قرأ القرآن باللحن فقد كذب على الله سبحانه ) . واللحن هنا أيضا أردنا به ترك الإعراب دون التطريب و التلحين في القرآن .
    وأما قولهم : ( إن موسى عليه السلام لم يسمع كلام الله بحاسة أذنه ، وإنما اضطره الى معرفة المعنى القائم بالذات ) ، فهذا إنكار لكتاب الله عز وجل وجحد له .
    قال تعالى : (وكلم الله موسى تكليما ) ، وهذا مصدر ومعناه على الحقيقة، وهذا لا خلاف بيننا وبينكم فيه .
    وقولهم (اضطره الى معرفة المعنى القائم بالذات ) خطأ ، لأن الإضطرار إنما هو الإلجاء والإكراه ، وذلك لا ميزة لموسى فيه على غيره .
    فإن قيل : اضطره الى سماع كلامه بلا حرف ولا صوت .
    قيل لهم : هذا ممتنع من كل الوجوه ، لأنا اتفقنا على أن كل ما وقع بقلب الانسان لا يعد كلاما لله ، وكذلك ما ألهمه لا يعد كلاما له ، فبطل ما قالوه . لأنه لا بخلو أن يكون فهم ما سمع ، أو فهم ما لم يسمع ، وأي ذلك كان لا يصح ، لأن السماع لا يكون إلا بالأذن ، كما أن الفهم لا يكون إلا بالقلب ، وهذا إنما هو فيمن تنسب إليه الأذن والقلب ، دون من لا تنسب إليه الأذن ، قال الله تعالى : (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ) ، ومعلوم أن الكافر لا يسمع كلام الله تعالى من الله ، فدل على أنه يسمعه من غيره ، وليس إلا القارئ .
    فإن قيل : فإن الله إنما نصّ على الكافر حتى يسمع كلام الله لا كلام غيره ، فإن قام دليل العقل على منع ذلك وعلى عدم سقوط فائدة الآية، فلم يبق إلا أن الكافر يسمع كلام الله .
    وجواب آخر : وهو أن الله تعالى لا يكلف رسوله ما لا سبيل إليه ، ولا يبعث به ولا يأمره بما لا فائدة له ،وذلك ممتنع بكل حال .
    فإن قيل : إنما أراد حتى يسمع العبارة عن كلام الله تعالى .
    قيل : العبارة معلومة على ما بيّنّاه ، ثم لو وُجدت لم تُسَمّ كلاما لله تعالى، ولم يبق إلا أنه يسمع كلام الله تعالى .
    ثم نقول : إذا كان الله تعالى اضطره الى سماع كلامه من غير صوت ولا حرف ، فما المانع أن يضطره إلى أن يتكلم بكلامه بحرف و صوت؟
    فإن قيل : قام الدليل على المنع من ذلك .
    قيل : وكذلك قام الدليل على منع ما قلتموه أنتم أيضاً . قال الله سبحانه: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم تُرحمون ) فدل على أن المسموع القرآن ، والذي يُنصَت إليه هو القراءة .
    وقال تعالى : (وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ) ومعلوم أن كلام الله لم يسمعوه ، وإنما سمعوا القراءة من القارئ وعقلوها دون كلام الله القائم بذاته الذي لا يصلون الى تحريفه ، كما أنهم لا يصلون الى العلم الذي بذاته ، فثبت أنه الكلام الذي نتلوه .
    وقال تعالى إخبارا عن الجن : ( إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي الى الرشد فآمنا به ) ومعلوم أنهم لم يسمعوا كلام الله من الله، وإنما سمعوه من القارئ .
    وقال الله عز وجل إخبارا عن الجن : ( إنا سمعنا كتاباً أٌنزل من بعد موسى ) ولم يسمعوا الكتاب لأن الكتاب لا يُسمع ، وإنما سمعوا قراءة القرآن .
    وأما قولهم : (إن الله تعالى كلّم موسى بلا حرف ولا صوت ، وإن كلامه لا يجوز أن يقال إنه بحرف وصوت ) ، فخطأ ، لأنه قال تعالى : (وناديناه من جانب الطور الأيمن ) وقوله تعالى : (فلما أتاها نودي ) وقوله تعالى : (فلما جاءها نودي ) ومعلوم أن النداء لا يكون إلا بصوت، والصوت لا يكون إلا بحرف ، فثبت أنه تعالى نادى بصوت وحرف ليس كمثل أصواتنا ولا حروفنا ، لأن أصواتنا لها آلة ، وحروفنا لها مخارج ،والله تعالى لا يوصف بشيء من ذلك .
    فإن قيل : فهذا هو دليلنا عليكم ، لأنكم أثبتتم لأصواتكم آلة ولحروفكم مخارج ونفيتم ذلك عن الله تعالى ، ثم قلتم إن كلامكم بكلامه هو كلامه على الحقيقة ، وذلك لا يجوز ، إلا أن تثبتوا لصوته آلة و لحروفه مخارج ، وإن بلغتم الى هذا فقد كفرتم .
    قيل : يلزمنا من ذلك ما يلزمكم في إثباتكم أن السماوات والأرض قالتا أتينا طائعين ، وذك لا يخلو أن يكون القول بصوت أو بغير صوت ، فإن كان بصوت فيلزمكم أن تثبتوا لذلك الصوت آلة وحروفا ومخارج كما ألزمتمونا فما قلنا ، وإن لم يلزمكم ما قلنا لم يلزمنا ما قلتم ، وكذلك يلزمكم أن تثبتوا الآلة للذراع والأيدي والأرجل ، ولجهنم .
    ويلزمكم أن تثبتوا للباري سبحانه آلة القرآن وآلة النداء وآلة الخطاب ، لأنه تعالى خاطب العالم فقال : ( يا آيها النبي ) و ( يا أيها الناس ) و(يا أيها الذين آمنوا ) ، وخاطب ذرية بني آدم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ؟ قالوا : بلى ، وهم في العدم ، وهل سمع الله تعالى كلامهم ذلك الوقت في حين خطابه لهم أم لا ؟ وآلة القدرة وآلة النظر وآلة المنظور إليه ، لأنكم أثبتتم أن الله تعالى يرى يوم القيامة وأنه يرى ويسمع ، فيلزمكم أن تثبتوا له السمع و البصر ، وكل ذلك لا تلزموه أنفسكم فلم يلزمنا ما قلتموه . ولو جاز أن يقال : إنا لم نجد في الشاهد حروفا إلا ممن له أدوات ، فيجب في الغائب مثله ، لجاز لنا أن نقول : إنا لم نعقل في الشاهد علماً إلا من أحد طريقين : إما ضرورة وإما استدلالا ، فكذلك يجب أن يكون علم الباري سبحانه ، ولك عين الخطأ .
    فإن قيل : إن المانع من أن يكون كلام الله تعالى بحروف ، هو أن الثاني من الحروف متأخر والأول متقدم ، والقديم لا يجوز أن يسبق بعضه بعضاً ، فثبت أن الحروف مخلوقة لأنها مترتبة في الوجود .
    قيل : هذا يبطل عليكم بقول الله سبحانه لآدم وعيسى : (كن) ، ومعلوم أن آدم خلق قبل عيسى .
    فإن قيل : إنما قال لآدم ولعيسى : كن في الأول ، وإنما تقدم الوجود لآدم قبل عيسى ، ولم يتقدم القول بعضه على بعض .
    قيل : هذا باطل ، لقوله تعالى : ( إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ) ، ولا يخلو أن يكون جميع ما في الدارين شيئا واحداً أو أشياء كثيرة ، فإن كان شيئا واحداً فإن دليل الشرع والعقل يمنع ذلك ويثبت أن جميع ما في الدارين أشياء عدة وكل شيء منها قال الله له : كن . ولابد أن يخلق شيئا بعد شيء ، فيكون كن الذي هو القول لكل شيء منفرد من القول للشيء الآخر ، وذلك يمتنع أن يكون في حالة واحدة ، في ساعة واحدة ، لأن الله تعالى خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، وقوله تعالى : ( كن ) لا يستغرق زمان ستة أيام لشيء واحد ، وهذا هو المحال بعينه .
    ويبطل ما قالوه ، بقوله تعالى : ( كهيعص ) . ولا يخلو أن يكون حروفاً متوالية أو غير متوالية ، أو هي قرآن أو غير قرآن ، أو المنطوق به منها غير المفهوم أو هو المفهوم منها .
    فإن كانت متوالية بطل ما قالوه ، وإن كانت غير متوالية فيعكسونها في القرآن وذلك أن يقولوا ( صعيهك ) ، وهذا إن بلغوا ليه كفروا ،لأنها إن كانت قرآنا لم يجز تغييرها ، وإن لم تكن عندهم قرآنا كفروا لأنهم نفوا آية من المصحف المجمع على ما فيه .
    ثم نقول : هل يُفهم من الحروف التي في أوائل السور غير ما ينطق به منها ؟- وهو قراءتها -
    فإن قالوا : المفهوم غيرالمنطوق به لزمهم أن يبينوه ويظهروه لكي نعلمه كما علموه ، وإن كان هو المنطوق به منها فليس ينطق إلا بحروف مقطعة ، فثبت أنها قرآن ، وبطل أن تكون مخلوقة .
    ولأن الله تعالى لا يخلو من أن يكون قال : (ألم) أو لم يقل ، فإن كان قال فهو قوله ، وقوله غير مخلوق ، وإن كان لم يقل ، فيجب أن تمحوها من المصحف وتسقطوها من القرآن ، وإن بلغوا إلى هذا كفروا .
    وأما منعهم لنزول القرآن ، وأنه لم يفارق الذات ، فإنهم استدلوا على ذلك بأن النزول هو الظهور في لسان العرب ، والقرآن هو الجمع في لغتهم ، وإنما سمى بذلك مجازا . وهذا كلام غير صحيح ، لأن النزول إذا كان هو الظهور فالمعنى القائم بالذات لم يظهر ، لأن ظهوره يخرجه عن أن يكون قائما بالذات ، لأن دليل العقل يمنع من ذلك .
    فإن قيل : ما في النفس تسميه العرب كلاماً ، وأنشدوا بيت الأخطل :
    إن الكلام لفي الفؤاد وإنما**جعل اللسان على الفؤاد دليلا
    واستدلوا بقول الله عالى : (فأشارت إليه ) ، والإشارة كلام ، وأن الله تعالى سمى الرمز كلاما ، فكذلك يجب أن يكون المعنى القائم بالذات كلاما .
    فالجواب عن جميع ما أوردوه هو أن الظاهر لا يجوز أن يكون قائما بالذات ، لأن الظاهر هو الذي يدرك بالحواس ، و القائم بالذات لا يدرك بها .
    فإن قيل : لا نسلم أن كلام الله تعالى يدرك بالحواس .
    قيل : هذا يبطل بالمفهوم ، فإنه لا يفهم إلا بالحواس .
    فإن قيل : أخبرونا كيف يكون النزول من غير انتقال وانفصال .
    قيل : يكون كُرُوباَ -دنوا- من غير حصر بكيف ، وكالنداء بغير صوت ولا حرف ولا إلهام ..وجوابكم عن هذا هو جوابنا لكم ..فأما بيت الأخطل فلا حجة فيه لأنه ليس بجميع أهل اللغة .وأما الدليل أن أهل اللغة وافقوه على ما قال ، فيحتاج المحتج بقوله أن يقيم دلالة على أن جميع أهل اللغة وافقوه على ذلك . فإن وضعوا صيغة تدل على ما قالوه -وذلك معدوم من وصفهم - بطل الاحتجاج بقول الأخطل .
    وأما قولهم : إن القرآن هو الجمع ، واستدلوا بقول العرب ، فالجواب عنه كالجواب عن قول الأخطل .
    ثم نقول : يبطل هذا بقول الله تعالى : ( إن علينا جمعه وقرآنه ) فذكر الجمع ذكر القرآن ، فلو كان القرآن هو الجمع ، لم يجز أن يقول إن علينا جمعه وقرآنه ، لأن التأكيد لا يعطف ، ولأن العرب تقول - خرج القوم أجمعون أكتعون ، ولا يعطفون ذلك بالواو ، فثبت أن الجمع معنىً غير القرآن . فأما قوله : (فأشارت إليه ) ، فالإشارة عندنا غير الكلام ، لأن المصلي يحرم عليه الكلام ويبطل صلاته ، وإنما كان ذلك معجزة لمريم وبراءة لها لكي يفهمهم ، لأنها أتت بولد من غير أب ، فكان قوله براءة لها ، فصدقوا ذلك ، فأشارت أن اسألوه . وليس هو عندنا كلاماً ..كما أن الإشارة لا تسمى قراءة ولا تلاوة ، ولأنها قد تفهم وقد لا تفهم ، ولأن الأخرس لا يتكلم وهو يشير وتفهم إشارته ولا يعد متكلماً .
    وأما قوله تعالى : (آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا ) فاستثنى الرمز من الكلام . وقوله : إن المستثى لا يكون إلا من جنس المستثنى منه ، وهذا غير مسلم لأن الاستثناء عندنا يجوز من غير الجنس ، كقوله تعالى : ( فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس ) ، وإبليس ليس من جملة الملائكة ، والرمز عندنا ليس هو من جنس الكلام .
    وقال تعالى : (ألمص. كتاب أنزل إليك ) ، وقال تعالى : (ألر. كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ) ، وقوله تعالى : (وإنه لتنزيل رب العالمين . نزل به الروح الأمين . على قلبك ) ، وقال تعالى: ( إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى ) ، وقال تعالى : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) ، وقال تعالى : ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل) والمعنى القائم بالذات لا يخبر عنه بهذ ا ، ولا يشار إليه بهذا .
    تم الفصل بحمد الله وعونه .
    ( عن خزانة التراث العربي )



    مقالات أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي في كتب متنوعة :

    1-شذرة
    قال ابن عقيل :
    وقد نبهنا على العجز عن ملاحظة العواقب فقال تعالى : وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم .
    ففي عقولنا قوة التسليم وليس فيها قدرة الاعتراض عليه . وقد يدعو الإنسان فلا يجاب فيندم ، وهو يدعى إلى الطاعة فيتوقف ، فالعجب من عبيد يقتضون الموالي اقتضاء الغريم ، ولا يقتضون الغريم ولا يقتضون أنفسهم بحقوق الموالي .

    (الاداب الشرعية)



    2-شذرة
    قال ابن عقيل :
    من أحسن ظني به أنه بلغ من لطفه أن وصى ولدي إذا كبرت فقال : {فلا تقل لهما أف } .
    فأرجو إذا صرت عنده رميما أن لا يعسف ; لأن أفعاله ، تشاكل أقواله ،
    (الاداب الشرعية)





    3-شذرة

    قال ابن عقيل في الفنون : النعم أضياف وقراها الشكر ، والبلايا أضياف وقراها الصبر ، فاجتهد أن ترحل الأضياف شاكرة حسن القرى ، شاهدة بما تسمع وترى .
    (الاداب الشرعية)

    4-شذرة
    قال ابن عقيل :
    زنوا أنفسكم : من المبادئ ماء وطين ، وفي الثواني ماء مهين ، وفي الوسط عبيد محاويج لو حبس عنكم نسيم الهواء لأصبحتم جيفا ، ولو مكنت منكم البقوق عن السباع لأكلتكم ، كونوا متعرفين لا عارفين .
    (الاداب الشرعية)



    5- سبعة علماء :
    قال ابن عقيل :

    وجدت في تعاليق محقق أن سبعة من العلماء مات كل واحد منهم ، وله ست وثلاثون سنة ، فعجبت من قصور أعمارهم مع بلوغهم الغاية فيما كانوا فيه ، فمنهم الإسكندر ذو القرنين وقد ملك ما ذكره الله ، وأبو مسلم الخراساني صاحب الدولة العباسية ، وابن المقفع صاحب الخطابة والفصاحة ، وسيبويه صاحب التصانيف والتقدم في العربية ، وأبو تمام الطائي في علم الشعر ، وإبراهيم النظام في علم الكلام ، وابن الراوندي في المخازي ، وله كتاب الدامغ مما غر به أهل الخلاعة ، وله الجدل انتهى كلامه -
    (الاداب الشرعية)




    6-لا ينبغي الخروج من عادات الناس
    قال ابن عقيل :

    لا ينبغي الخروج من عادات الناس إلا في الحرام فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ترك الكعبة وقال { لولا حدثان قومك الجاهلية } وقال عمر لولا أن يقال عمر زاد في القرآن لكتبت آية الرجم .
    (الاداب الشرعية)



    7-فعل الخير مع الأشرار
    قال ابن عقيل :
    لا ينبغي فعل الخير مع الأشرار تقوية لهم على الأخيار ، كما لا ينبغي أن يحرم الخير أهله ، لا ينبغي أن يحرم الخير حقه ، فإن وضع الخير في غير محله ظلم للخير كما قيل : لا تمنعوا الحكمة أهلها فتظلموهم ، ولا تضعوها في غير أهلها فتظلموها ، كذلك البر والإنعام مفسد لقوم حسب ما يفسد الحرمان قوما ، قال : فهو كالنار كلما أطيب لها مأكلا سطت فأفسدت قال فرقد قال المتنبي :
    ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى
    فالسياسة الكلية افتقاد محال الإنعام قبل الإنعام ، وقال علي رضي الله عنه : كن من خمسة على حذر من لئيم إذا أكرمته ، وكريم إذا أهنته ، وعاقل إذا أحرجته ، وأحمق إذا مازحته ، وفاجر إذا مازجته . ا .
    (الاداب الشرعية)


    8-

    قال ابن عقيل في الفنون :
    قال الحسن من دخل مداخل التهمة لم يكن أجر للغيبة
    (الاداب الشرعية)





    9-شذرة


    في الفنون : يخطر بقلوب العلماء نوع يقظة ، فإذا نطقوا بها وبحكمها نفرت منها قلوب غيرهم ، ولو من العلماء ، ولا أقول العوام ، ومثل بأشياء منها قول أبي بكر رضي الله عنه لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا . وأن رجلا لو صحا ، فقال كلمة ظاهرها يوجب عند العوام الكفر فقال : لست أجد للرقيب ، والعتيد حشمة ولا هيبة حتى لو استفتي عليه جماعة من الفقهاء لقالوا كافر ، فظاهر هذا أنه ليس مصدقا بهما ، وهو يهون بحفظة الله تعالى على خلقه وملائكته ، فلو كان من المحققين ، فكشف عن سر واقعه لاستحيا من جهله ، أو كفره من العلماء فضلا عن العوام ، وكشف السر عن ذلك أنه قال : غلبت علي هيبة ربي وحشمة من يشهدني فسقط من عيني حشمة من يشهد علي ، وكنت أجد الحشمة لهما الغفلة عقبها صحو ، وموجب اليقظة والصحو وزوال الغفلة والسهو السمع { أو لم يكف بربك } { ونحن أقرب إليه منكم } والعقل ، فإن من شهد الحق كان كمن شهد الملك ، ومعه أصحاب أخباره فلا يبقى لأصحابه حكم في قلب من شهد الملك ، وإلا لكان وهنا في معرفته بحكم الملك وسلطانه .
    فاحذر من الإقدام على الطعن على العلماء مع عدم بلوغك إلى مقاماتهم ، واختلاف أحوالهم حتى أنهم في حال كشخص ، وفي حال آخر كشخص آخر ، فإن للعبد عند كشف الحق محوا عن نفسه ، والعالم يتلاشى في عينه ، ولهذا قالت المتصوفة للصغار : يسلم للمشايخ الكبار حالهم ، وكلامهم سم قاتل لهم أولا ، ثم لمن لا يفهم ما تحت كلامهم ، والقاتل قد يكون معذورا ، والمقتول شهيدا ، أما المنكر فإنه جار على الظاهر . وأما القائل فقال بحكم حال كشفت له خاصة وحجب عنها السامع ، ومن هنا " كلموا الناس على قدر عقولهم " . فمن علم أن الخلق لا يستوون في المقال ، ولا في الأحوال لا يعقد الظنون ببادرة الواقع ، فيقع ناقصا .
    (الاداب الشرعية)




    10-شذرة
    قال ابن عقيل :
    متى حدثتك نفسك وفاء الناس فلا تصدق ، هذا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر الناس حقوقا على الخلق إلى أن قال : { قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى } فقتلوا أصحابه وأهلكوا أولاده .

    (الاداب الشرعية)



    11-من صدر اعتقاده عن برهان



    قال أبو الوفاء ابن عقيل في الفنون : من صدر اعتقاده عن برهان لم يبق عنده تلون يراعي به أحوال الرجال . { أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } .
    كان الصديق رضي الله عنه ممن يثبت على اختلاف الأحوال فلم تتقلب به الأحوال في كل مقام زلت به الأقدام إلى أن قال : وقد يكون الإنسان مسلما إلى أن يضيق به عيش ، وإنما ديننا مبني على شعث الدنيا وصلاح الآخرة فمن طلب به العاجلة أخطأه .
    (الاداب الشرعية)



    12-ويل لعالم لا يتقي الجهال بجهده

    قال ابن عقيل :

    ويل لعالم لا يتقي الجهال بجهده .. وكما يجب عليه التحرز من مضار الدنيا الواقعة من جهال أهلها بالتقية ، والواحد منهم يحلف بالمصحف لأجل حبة ، ويضرب بالسيف من لقي بعصبيته ، ويرى قناة ملقاة في الأرض فينكب عن أخذها ، والويل لمن رأوه أكب رغيفا على وجهه ، أو ترك نعله مقلوبة ظهرها إلى السماء ، أو دخل مشهدا بمداسه ، أو دخل ولم يقبل الضريح إلى أن قال :
    هل يسوغ لعاقل أن يهمل هؤلاء ولا يفزع منهم كل الفزع ؟ ويتجاهل كل التجاهل في الأخذ بالاحتياط منهم فإن الذنوب مما تقبل التوبة عنها ولا إقالة للعالم من شر هؤلاء إذا زل في شيء مما يكرهون وينكرون ، وإن ظهر منه هوان ، وأبى إلا إهمالهم ، نظرا إليهم بعين الازدراء لهم ، فقد ضيع نفسه ، فإنه عندهم أهون ، وهم منه أكثر ، وعلى الإضرار به أقدر ، وهل تقع المكاره بالمسلم إلا من هؤلاء وأمثالهم ؟ فإذا احتشم الإنسان أهل العلم والحكمة توقيرا لهم وتعظيما ، أوجب الشرع والعقل احتشام هؤلاء تحدرا واتقاء فتكهم ، وهل طاحت دماء الأنبياء والأولياء إلا بأيدي هؤلاء وأمثالهم ؟ ..حيث رأوا من التحقيق ما ينكرون ، فصالوا لما قدروا عليه ، وغالوا لما لم يقدروا عليه ، فهم بين قاتل للمتقين مكاشفة حال القدرة ، أو غيلة حال العجز ، فاسمع هذا سمع قابل فإنه قول من ناصح خبير بالعالم ، ولا تهون بهم فتهون بنفسك ، ويطيح دمك مما رأيت من جهلهم ، إنهم يعني لا يرون الحيل التي وضعها العلماء على ما دلهم عليها الشرع كبيع الصحاح بفضة قراضة ليخرج من الربا أخذا لذلك من قوله عليه السلام : { بع التمر ببيع آخر ثم اشتر بثمنه } ويقول الواحد منهم هذا خداع لله تعالى ، ويعدل إلى بيع الدينار الصحيح بدينار ونصف قراضة ، ويرى أن الربا الصريح خير من التسيب الحلال بطريق الشرع إلى أن قال إن قوله عليه السلام عن اللحم الذي تصدق به على بريرة : { هو عليها صدقة ، ولنا هدية } طريق مستعمل ، ويتعين في كل عين تحرم في حقنا لمعنى إذا ملكها من تباح له لمعنى مبيح ونقلها ذلك إلينا بطريق شرعي ملكناها ، والعامة لا ترضى ذلك ، وتذم العالم الذي يسلك هذا المسلك .

    (الاداب الشرعية)


    13-الاصابة بالعين


    قال ابن عقيل :
    القول بالعدوى إضافة الداء إلى التولد وأن الفاسد ولد فاسدا وفي الهواء في الذات السليمة . والعين إضافة الفعل إلى صاحب العين إذ لا يمكنه ذلك ولا في الممكن أن يتولد من عينه ونظره فساد صالح ولا موت حي ولا ينسب ذلك إلا إلى الله . والحقيقة أن الله هو الفاعل لكل حادث من فساد الأجساد ومن صلاحها وأنه يحدث ذلك عند وجود شيء أو مقارنته ; لأن ذلك الشيء لا يولد ولا يحدث فسادا ولا صلاحا والله أعلم .
    (الاداب الشرعية)

    14-شذرة
    قال ابن عقيل :
    واكمداه من مخافة الأعيار ، واحصراه من أجل استماع ذي الجهالة للحق والإنكار ، والله ما زال خواص عباد الله يتطلبون لنزوحهم بمناجاتهم رءوس الجبال والبراري والقفار ، لما يرون من استزراء المنكرين بشأنهم من الأغمار ، إلى أن قال : فلا ينبغي للعاقل أن ينكر تضليع أحواله ، وتكدير عيشه .
    (الاداب الشرعية)

    15-مذهب العجائز أسلم
    قال ابن عقيل :
    قد تكرر من كثير من أهل العلم لا سيما أصحابنا قولهم : مذهب العجائز أسلم فظن قوم أنه كلام جهل ، ولو فطنوا لما قالوا لاستحسنوا وقع الكلمة وإنما هي كلمة صدرت عن علو رتبة في النظر ، حيث انتهوا إلى غاية هي منتهى المدققين في النظر ، فلما لم يشهدوا ما يشفي العقل من التعليلات والتأويلات بالاعتراض في أصل الوضع ، وقفوا مع الجملة التي هي مراسم الشرع ، وجنحوا عن القول بالتعليل ، فإذا سلم المسلمون ، وقفوا مع الامتثال حين عجز أهل التعليل فقد أعطوا الطاعة حقها ، ولقد علل قوم فمنعوا العقل عن الإصغاء إلى ذلك الإذعان بالعجز .
    (الاداب الشرعية)


    16-شذرة
    قال ابن عقيل :

    كل يوم تموت منك شهوة ولا تحيا منك معرفة ، واعجبا يختلف الناس في ماهية العقل ولا يدرون ، فكيف يقدمون على الكلام في خالق العقل ،

    (الاداب الشرعية)



    17-وعظ :


    قال ابن عقيل (في أثناء كلام له يتكلم عن الله عز وجل ):
    اعرفني بما تعرفت ، ولا تطلبني من حيث كتمت واقتطعت ، أنا قطعت بعض مخلوقاتي وعن علمك حيث وقفتك : فلما سألتني عن لطيفة فيك فقلت : ما الروح : فقلت مجيبا لك من أمري ، وقصرت عن علمك وعلم من سألك عنها فقلت { وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } . .قلت لرسولي في الساعة : { أيان مرساها } . .فكان جواب السائل والمسئول : { قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو } تجيء بعدها تبحث عني من لم يرضك لإيقافك على بعضك وهو يصفك تبحث عن ذاته وصفاته ، أما كفاك قولي : { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان } . ..فعرفك نفسك ونفسه عند سؤالك عنه بأنه مجيب لدعوتك ، فإياك أن تطلب ما وراء ذلك ، فإنك لا تجد إلا ما يورثك خبالا ، أتطمع أن تكشف حجابا أرخاه ؟ أو تقف على سر غطاه ؟ علم قصره خالقه عن درك بعض مخلوقاته التي فيك تريد أن تطلع به على كنه باريك ، والله إن موتك أحسن من حياتك .

    (الاداب الشرعية)


    18-مناظرة :


    قال معتزلي : لا مسلم إلا من اعتقد وجود الله وصفاته على ما يليق به.
    فقال ابن عقيل : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سهل ما قد صعبته فقنع من الناس بدون ذلك ، ويقول للأمة : " أين الله ؟ " فتشير إلى السماء فيقول : " إنها مؤمنة " فتركهم على أصل الإثبات إلى أن قال : إن مذهب المعتزلة أن من خرج من معتقدهم ليس بمؤمن ، وإن هذا ينعطف على السلف الصالح بالتكفير ، وإنا نحقق أن أبا بكر وعمر وغيرهما رضي الله عنهم لم يكن إيمانهم على ما اعتقده أبو علي الجبائي ، وأبو هاشم فخجل ثم قال : القوم كانوا يعرفون ولا يتكلمون ، فقيل له : القوم كانوا ينهون عن الجدال والجدال شبه المتكلمين .

    (الاداب الشرعية)


    19-شذرة

    قال ابن عقيل في الفنون :
    قال بعض مشايخنا المحققين : إذا كانت مجالس النظر التي تدعون أنكم عقدتموها لاستخراج الحقائق والاطلاع على عوائر الشبه وإيضاح الحجج لصحة المعتقد مشحونة بالمحاباة لأرباب المناصب تقربا ، وللعوام تخونا ، وللنظراء تعملا وتجملا ، فهذا في النظر الظاهر ، ثم إذا عولتم بالأفكار فلاح دليل يردكم عن معتقد الأسلاف والإلف والعرف ومذهب المحلة والمنشأ خونتم اللائح ، وأطفأتم مصباح الحق الواضح ، إخلادا إلى ما ألفتم ، فمتى تستجيبون إلى داعية الحق ؟ ..ومتى يرجى منكم الفلاح في درك البغية من متابعة الأمر ، ومخالفة الهوى والنفس ، والخلاص من الغش ؟ هذا والله هو الإياس من الخير ، والإفلاس من إصابة الحق ، فإنا لله وإنا إليه راجعون من مصيبة عمت العقلاء في أديانهم ، مع كونهم على غاية التحقيق ، وترك المحاباة في أموالهم ، ما ذاك إلا ; لأنهم لم يشموا ريح اليقين ، وإنما هو محض الشك ، ومجرد التخمين .
    (الاداب الشرعية)



    20-شذرة

    قال ابن عقيل في الفنون :
    قال بعض أهل العلم قولا بمحضر من السلطان في الاحتداد عليه وأخذ بعض من حضر يترفق ويسكن غضبه ولم يك محله بحيث يشفع في مثل ذلك العالم ، فالتفت العالم فقال للشافع يا هذا غضب هذا الصدر وكلامه إياي بما يشق أحب إلي من شفاعتك إليه ، فإن غضبه لا يغض مني وهو سلطاني ، وشفاعتك في غضاضة علي وكان القائل حنبليا فأفحم الشافع وأرضى السلطان .
    و غضب بعض الصوفية على الأمير في طريق الحج فقال حنبلي بلسان القوم . قبيح بنا أن نخرج ونرجع مطاوعة للنفوس وهل خرجنا إلا وقد قتلنا النفوس ؟ فرجع معه وأطاعه فقال سبحان الله لو خوطبوا بلسان الشريعة من آية أو خبر ما استجابوا فلما خوطبوا بكلمتين من الطريقة أسرعوا الإجابة فما أحسن قول الله عز وجل { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم }
    (الاداب الشرعية)



    21-الدعاء :
    قال ابن عقيل :
    قد ندب الله تعالى إلى الدعاء ، وفي ذلك معان :
    أحدها : الوجود ، فإن من ليس بموجود لا يدعى .
    الثاني : الغنى ، فإن الفقير لا يدعى .
    الثالث : السمع ، فإن الأصم لا يدعى .
    الرابع : الكرم ، فإن البخيل لا يدعى .
    الخامس : الرحمة ، فإن القاسي لا يدعى .
    السادس : القدرة ، فإن العاجز لا يدعى .
    ومن يقول بالطبائع يعلم أن النار لا يقال لها : كفي ! ولا النجم يقال له : أصلح مزاجي ! ! لأن هذه عندهم مؤثرة طبعا لا اختيارا ، فشرع الدعاء وصلاة الاستسقاء ليبين كذب أهل الطبائع .
    (الاداب الشرعية)


    22-شذرة

    قال ابن عقيل :
    الطباع الردية أبالسة الإنسان ، والعقول والأديان ملائكة هذا الشأن . وفي خلال تعتلج ولها أخلاق تتغالب والشرائع من خارج هذا الجسم لمصالح العالم وما دام العبد في العلاج فهو طالب ، فإذا غلب العقل واستعمل الشرع فهو واصل .
    (الاداب الشرعية)


    23- وعظ :
    قال ابن عقيل :

    أما تستحيي وأنت تعلم كلب الصيد يأخذ إبقاء عليك فيقبل تعلمك وتكسر عادية طبعه وتكلب نفسه عن الفريسة وهو جائع مضطر إليها ، حتى إذا أخذت الصيد إن شئت أطعمته وإن شئت حرمته ، ينتهي حالك معي وأنا المنعم الذي أنشأتك وغذيتك وربيتك إنني كلفتك أن تمسك نفسك عن البحث فيما يسخطني ، لم تضبط نفسك بل غلبتك على ارتكاب ما نهيت وعصيان ما أمرت ، بلغت الصناعة من هذا الحيوان الخسيس أن يأتمر إذا أمر ، وينزجر إذا زجر ، علقت الآداب بالبهيم وما تعلق بقلبك طول العمر وكمال العقل ، تنشط لزرع نواة وغرس فسيلة وتقعد منتظرا حملها ، وينع ثمرها ، وربما دفنت قبل ذلك ولو عشت كان ماذا وما قدر ما يحصل منها ؟ وأنت تسمع قولي { ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة } وقولي : { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة } هذا وأمثاله من آي القرآن لا تنشط أن تزرع عندي ما تجني ثماره النافعة على التأبيد ، هذا لأنك مستبعد ما ضمنت في الأخرى ، قوي الأمل في الدنيا ، ألم تسمع قوله تعالى { من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه } وتسمع : { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم } . وأنت تحدق إلى المحظورات تحديق متوسل أو متأسف كيف لا سبيل لك إليها ، وتسمع قوله تعالى { وجوه يومئذ ناضرة } . تهش لها كأنها فيك نزلت ، وتسمع بعدها { وجوه يومئذ باسرة }فتطمئن أنها لغيرك . ومن أين ثبت هذا الأمر ، ومن أين جاء الطمع ، الله الله هذه خدعة تحول بينك وبين التقوى .
    (الاداب الشرعية)



    24-شذرة
    قال ابن عقيل :
    والله ما أعتمد على أني مؤمن بصلاتي وصومي بل أعتمد إذا رأيت قلبي في الشدائد يفزع إليه ، وشكري لما أنعم علي ، وقال قد صنتك بكل معنى عن أن تكون عبدا لعبد وأعلمتك أني أنا الخالق الرازق فتركتني وقبلت على العبيد ، كلكم تسألوني وقت جدب المطر ، وبعد الإجابة يعبد بعضكم بعضا .
    { أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار }

    (الاداب الشرعية)

    25-التكشف

    قال ابن عقيل :

    للإيمان روائح ولوائح لا تخفى على اطلاع مكلف بالتلمح للمتفرس ، وقل أن يضمر مضمر شيئا إلا وظهر مع الزمان على فلتات لسانه وصفحات وجهه .
    وقد أخذ الفقهاء بالتكشف على مدعي الطرش والعمى عند لطمه ، أو زوال عقله عند ضربه ، أو الخرس وما شاكل ذلك مما لا تعلم صحته إلا من جهته ولا تمكن الشهادة به .
    وأن من أراد التكشف عن رجل خطب منه فإنه لا يزل يذكر المذاهب ويعرض بها ويذكر الأفعال المزرية في الشرع التي يميل إليها الطبع وينظر هشاشته إليها وتعبسه عند ذكرها وما شاكل ذلك ، فإنه لا يزال البحث بصاحبه حتى يوقفه على المطلوب بما يظهر من الدلائل ، فافهم ذلك بطريق مريح من كل إقدام على ما لا تسلم من عاقبته ، ويعصم من كل ورطة وسقطة يبعد تلافيها ، وذلك دأب العقلاء ، فأين رائحة الإيمان منك وأنت لا يتغير وجهك فضلا عن أن تتكلم ، ومخالفة الله سبحانه وتعالى واقعة من كل معاشر ومجاور فلا تزال معاصي الله عز وجل والكفر يزيد ، وحريم الشرع ينتهك ، فلا إنكار ولا منكر ، ولا مفارقة لمرتكب ذلك ولا هجران له .
    وهذا غاية برد القلب وسكون النفس وما كان ذلك في قلب قط فيه شيء من إيمان ; لأن الغيرة أقل شواهد المحبة والاعتقاد . قال حتى لو تحجف الإنسان بكل معنى وأمسك عن كل قول لما تركوه ويفصح لأنهم كثرة وهو واحد والكلام شجون ، والمذاهب فنون ، وكل منهم ينطق بمذهب ويعظم شخصا ، وآخر يذم ذلك الشخص والمذهب ويمدح غيره ، ولا يزال كذلك حتى يهش لمدح من يهوى ، ويعبس لذمه ، وينفر من ذم مذهب يعتقده فيكشف ذلك .
    فالعاقل من اجتهد في تفويض أمره إلى الله عز وجل في ستر ما يجب ستره وكشف ما يجب كشفه ، ولا يعتمد على نفسه فإنه يتعب ولا يبلغ من ذلك الغرض . قال لأنه إذا لم يهش بخلافة أبي بكر ولا علي رضي الله عنهما إن كانت المناظرة فيهما ، ولا إلى القدر ولا إلى نفيه ولا حدوث العالم ولا قدمه ، ولا النسخ ولا المنع من النسخ ، والسكون إلى هذا وبرد قلبه يدل على أنه كافر لا يعتقد إذ لو كان لهذا اعتقاد بحركة لهش إلى ناصر معتقده ، ولأنكر على مفسد معتقده .
    فالويل للكاتم من المتكشفين ، وإرضاء الخلق بالمعتقدات وبال في الآخرة ، ومباغتتهم فيها ومكاشفتهم بها وبال في الدنيا وتغرير بالنفس ، ولا ينجو منهم المشارك لهم في الحيل . والأحرى بالإنسان أن يتماسك عما فيه ويترك [ فضول الكلام ، وإذا توسط اعتمد على الله في إصلاح دنياه، وإذا قصد إظهار الحق لأجل الله عز وجل فالله تعالى يعصمه ويسلمه وما رأينا من رد البدع إلا السلامة .
    (الاداب الشرعية)



    26-شذرة
    قال ابن عقيل :

    إنك لو علمت أن إكرام الخلق لك رياء سقطت من عينك ، أفأقنع أنا منك أن تجعلني في العادة جزءا من كل بعضا من جماعة ؟ وقال : ما يحلو لك العمل حتى تحلو لك تسميتهم بعابد وزاهد ، فارث لنفسك من ذلك فإنه رياء وسمعة وليس لك منه إلا ما حظيت به من الصيت ، تدري كم في الجريدة أقوام لا يؤبه لهم إلا عند القيام من القبور ، وكم يفتضح غدا من أرباب الأسماء من الخلق بعالم وصالح وزاهد نعوذ بالله من طفيلي تصدر بالوقاحة .
    (الاداب الشرعية)





    27-الإعجاب

    قال ابن عقيل :
    الإعجاب ليس بالفرح والفرح لا يقدح في الطاعات لأنها مسرة النفس بطاعة الرب عز وجل ، ومثل ذلك مما سر العقلاء وأبهج الفضلاء ، وكذلك روي في الحديث { أن رجلا قال يا رسول الله : إني كنت أصلي فدخل علي صديق لي فسرني ذلك . فقال : لك أجران أجر السر وأجر العلانية } وإنما الإعجاب استكثار ما يأتي به من طاعة الله عز وجل ورؤية النفس بعين الافتخار ، وعلامة ذلك اقتضاء الله عز وجل بما أتى الأولياء وانتظار الكرامة وإجابة الدعوة ، وينكشف ذلك بما يرى من هؤلاء الجهال من إمرار أيديهم على أرباب العاهات والأمراض ثقة بالبركات وما شاكل ذلك من الخدع حتى أن الواحد منهم لو كسر له عرض قال على سبيل الاقتضاء لله ؟ أليس قد ضمنت نصر المؤمنين ، ولا يدري الجاهل من المؤمن المنصور ؟ وما النصر ؟ وماذا شرط النصرة ؟ وذكر كلاما كثيرا إلى أن قال : إن العجب يدخل من إثبات نفسك في العمل ونسيان ألطاف الحق ومن إغفال نعمه التي لا تحصى ، وإلا فلو لحظ العبد اتصال النعم لاستقل عمله وإن كثر أن يقابل النعم شكرا ويدخل من الجهل بالمطاع ، فلو عرف العبد من يطيع ولمن يخدم لاستكثر لنفسه منه سبحانه ذلك ، واستقلها أن تكون داخلة مع أملاك سبع سموات يسبحون الليل والنهار لا يفترون .
    ويدخل أيضا عن طرق الجهالة بكثرة الخلل والعلل ، التي ينبغي أن يكون معها على غاية الخجل ، والخوف من أن يقع الطرد والرد ، فإن الفيء مستوحش ، ويدخل أيضا من النظر إلى الخلق بعين الاستقلال ، وإدمان النظر إلى العصاة المتشردين ، ولو أنه نظر إلى العمال لله عز وجل لاستقل نفسه . فهذه معالجة الأدواء ، وحسم مواد الفساد في الأعمال .

    (الاداب الشرعية)




    28-الفيروزبادي
    قال ابن عقيل :
    شهد شيخنا ومعلمنا المناظرة أن أبا إسحاق الفيروزبادي لا يخرج شيئاً إلى فقير إلا أحضر النية ، ولا يتكلم في مسألة إلا قدم الاستعانة بالله وإخلاص القصد في نصرة الحق دون التزين والتحسين للخلق ، ولا صنف مسألة إلا بعد أن صلى ركعات فلا جرم شاع اسمه. واشتهرت تصانيفه شرقاً وغرباً هذه بركات الإخلاص .
    (الاداب الشرعية)




    29-الزهد

    قال ابن عقيل :
    هجران الدنيا في عصرنا هذا ليس من الزهد في شيء ، إنما المنقطع أنف من الذل فإن مخالطة القدري والتخلي عنهم تراعة ومن طلق عجوزا مناقرة فلا عجب وقال ما قطع عن الله وحمل النفس على محارم الله فهو الدنيا المذمومة وإن كان إملاقا وفقرا وما أوصل إلى طاعة الله فذاك ليس بالدنيا المذمومة وإن كان إكثارا وقال الواجب شكرها من حيث هي نعمة الله وطريق إلى الآخرة وذريعة إلى طاعة الله ، وكل خير يعود بالإفراط فيه شر ، كالسخاء يعود إسرافا ، والتواضع يعود ذلا ، والشجاعة تعود تهورا.
    (الاداب الشرعية)




    30-من مخض الرأي كانت زبدته الصواب :


    قال ابن عقيل :
    كان ملوك فارس يعتبرون أحوال الحواشي بإيفاد التحف على أيدي مستحسنات الجواري ويأمرونهن بالتدريج حتى إذا أطالوا الجلوس فتدب بوادي الشهوة قتلوا أولئك ، وإذا أرادوا مطالعة عقائد الفساد دسوا من يتابعهم على ذم الدولة فإذا أظهروا ما في نفوسهم استأصلوهم قال ابن عقيل في الفنون : فينبغي الحذر من هذه الأحوال ، ومن مخض الرأي كانت زبدته الصواب .
    (الاداب الشرعية)


    31- الخلاعة


    قال ابن عقيل :
    لما رأينا الشريعة تنهى عن تحريكات الطباع بالرعونات ، وكسرت الطبول والمعازف ، ونهت عن الندب والنياحة والمدح وجر الخيلاء فعلمنا أن الشرع يريد الوقار دون الخلاعة ، فما بال التغيير والوجد ، وتخريق الثياب والصعق ، والتماوت من هؤلاء المتصوفة؟
    وكل مهيج من هؤلاء الوعاظ المنشدين من غزل الأشعار وذكر العشاق فهم كالمغني والنائح ، فيجب تعزيرهم ; لأنهم يهيجون الطباع ، والعقل سلطان هذه الطباع فإذا هيجها صار إهاجة الرعايا على السلطان أما سمعت : ( ياأنجشة ) رويدك سوقا بالقوارير وما العلم إلا الحكمة المتلقاة مع السكون والدعة واعتدال الأمزجة ، أما رأيته عزل القاضي حين غضبه ، وكذلك يعزل حال طربه أما سمعت : { فلما حضروه قالوا أنصتوا } .
    فأين الطرب من الأدب ؟ والله ما رقص قط عاقل ، ولا تعرض للطرب فاضل ، ولا صغى إلى تلحين الشعر إلا بطر ، أليس بيننا القرآن ؟ وقد قال : طلبنا العلم لغير الله فأبى ، وذلك أن بداية الطلب صعبة فهو كلعبة المفطوم ثم يستغني عنها بقوة النهم فيدع الثدي تقذرا واستقذارا .
    (الاداب الشرعية)



    32- شذرة

    قال ابن عقيل :
    قال المأمون وهو صاحب الزيج المأموني لو صح الكيمياء ما احتجنا إلى الخراج : ولو صح الطلسم ما احتجنا إلى الأجناد والحرس ، ولو صحت النجوم ما احتجنا إلى البريد .
    (الاداب الشرعية)

    33-المنافقون

    قال ابن عقيل :
    قال تعالى { كأنهم خشب مسندة } أي مقطوعة ممالة إلى الحائط لا تقوم بنفسها ولا هي ثابتة ، إنما كانوا يستندون إلى من ينصرهم وإلى ما يتظاهرون به { يحسبون كل صيحة عليهم } لسوء اعتقادهم { هم العدو} للتمكن من الشر بالمخالطة والمداخلة .
    (الاداب الشرعية)



    34-الشكوى

    قال ابن عقيل :
    قوله تعالى : { لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا)
    يدل على جواز الاستراحة إلى نوع من الشكوى عند إمساس البلوى ونظيره { يا أسفى على يوسف } { مسني الضر } { ما زالت أكلة خيبر تعاودني }
    (الاداب الشرعية)




    35- شذرة

    قال ابن عقيل :
    قال عالم يوما لكرب دخل عليه : ليتني لم أعش لهذا الزمان ، فقال متحذلق يدعي الزهد يريد أن يظهر اعتراضه على أهل العلم : لا تقل هذا وأنت إمام تتمنى على الله تعالى ، ما أراده الله بك خير مما تتمناه لنفسك ، وهذا اتهام لله ، فأجابه : من أين لك لسان تنطق بما لا نكير على العلماء ؟ كأنك تعلمهم ما لا يعلمون ، وتوهم أنك تدرك [ عليهم ] ما يجهلون . أليس الله قد حكى عن مريم { يا ليتني مت قبل هذا } وقال أبو بكر الصديق : يا ليتني كنت مثلك يا طائر .
    (الاداب الشرعية)






    36-قال أبو الوفاء ابن عقيل رحمه الله :
    ( احذره ولا تغتر به ، فقد عذَّب امرأة في هرة حبستها ، واشتعلت الشملة على الشهيد نارا لما غلَّها )
    ولهذا قال بعض السلف ( رُبَّ مستدرج بنعم الله وهو لا يعلم وربَّ مفتون بستر الله وهو لا يعلم ، وربَّ مغرور بثناء الناس عليه وهو لا يعلم )
    (الاداب الشرعية)




    37-الوزير أبو شجاع

    قال أبو الوفاء ابن عقيل :
    ان الوزير أبو شجاع كثير البر للخلق، كثير التلطف بهم، فقدم من الحج وقد اتفق نفور العوام نفوراً أريقت فيها الدماء، وانبسط حتى هجموا على الديوان، وبطشوا بالأبواب والستور، فخرج من الخليفة إنكار عليه، وأمره أن يلبس أخلاق السياسة لتنحسم مادة الفساد، فأدَّب وضرب وبطش، فانبسطت فيه الألسنة بأنواع التهم، حتى قال قوم: ها هو إسماعيلي وهبط عندهم ما تقدم من إحسانه. قال ابن عقيل: فقلت لنفسي: أفلس من الناس كل الإفلاس، ولا تثقي بهم، فمن يقدر على إحسان هذا اليهم وهذه أقوالهم عنه. قال ابن عقيل: وقد رأيت أكثر أعمال الناس لا يقع إلا للناس إلا مَنْ عصم الله من ذاك، إني رأيت في زمن أبي يوسف كثيراً من أهل القرآن والمنكرون لإكرام أصحاب عبد الصمد، وكثر متفقهة الحنابلة، ومات فاختل ذلك فاتفق ابن جهير، فرأيت مَنْ كان يتقرب إلى الشيخ بالصلاح يتقرب إلى ابن جهير برفع أخبار العاملين، ثم جاءت الدولة النظام، فعظم الأشعرية، فرأيت مَنْ كان يتسخط علي بنفي التشبيه غلواً في مذهب أحمد، وكان يظهر بغضي يعود عليّ، بالغمض علي الحنابلة، وصار كلامه ككلام رافضي وصل إلى مشهد الحسين فأمن وباح، ورأيت كثيراً من أصحاب المذاهب انتقلوا ونافقوا، وتوثّق بمذهب الأشعري والشافعي طمعاً في العز والجرايات، ثم رأيت الوزير أبا شجاع يدين بحب الصلحاء والزُّهاد، فانقطع البطالون إلى المساجد، وتعمد خلق للزهد، فلما افتقدت ذلك قلت لنفسي: هل حظيت من هذا الافتقاد بشيء ينفعك? فقالت البصيرة: نعم، استفدت أن الثقة خيبة، فالغنى بهم إفلاس وليس ينبغي أن يعول على غير اللّه.

    (المنتظم)



    38-أبو القاسم النحوي

    قال ابن عقيل:
    كان يختار مذهب المرجئة المعتزلة، وينفي خلود الكفار، ويقول: قوله: "خالدين فيها أبداً" أي: أبداً من الآباد، وما لا غاية له، لا يجمع ولا يقبل التثنية، فيقال: أبدان، وآباد. ويقول: دوام العقاب في حق من لا يجوز عليه التشفي لا وجه مع ما وصف به نفسه من الرحمة، وهو إنما يوجد من الشاهد لما يعتري الغضبان من غليان دم قلبه طلباً للانتقام، وهذا مستحل في حقه سبحانه وتعالى.
    قال ابن عقيل: هذا كلام يرده على قائله جميع ما ذكره، وذلك أنه أخذ صفات البارىء في صفات الشاهد، وذكر أن المثير للغضب ما يدخل على قلب الغضبان البارىء في صفات الشاهد، وذكر أن المثير للغضب ما يدخل على قلب الغضب من غليان الدم طلباً للانتقام، وأوجب بذلك منع دوام العقاب حيث لا يوجد في حقه سبحانه التشفي، والشاهد يرد عليه ما ذكره، وذلك أنه أخذ صفات البارىء في صفات الشاهد، وذكر أن المثير للغضب ما يدخل على قلب الغضبان من غليان الدم طلباً للانتقام، وأوجب بذلك منع دوام العقاب حيث لا يوجد في حقه سبحانه التشفي، والشاهد يرد عليه ما ذكره؛ لأن المانع من التشفي عليه الرأفة والرحمة، وكلاهما رقة طبع، وليس البارىء بهذا الوصف، وليس الرحمة والغضب من أوصاف المخلوقين بشيء، وهذا الذي ذكره من عدم التشفي كما يمنع الدوام يمنع ابتداء العقوبة إذا كان المحيل الدوام من عدم التشفي، وفورة الغضب وغليان الدم، كما يمنع دخوله في الدوام يمنع دخول ه عليه، ووصفه به، فينبغي بهذه الطريقة أن يمنع أصل الوعيد، ويحليه في حقه سبحانه كسائر المستحيلات عليه لا يختلف نفس وجودها ودوامها، فلا أفسد اعتقاداً ممن أخذ صفات الله تعالى من صفاتنا، وقاس أفعاله على أفعالنا، وأي أوصافه تلحق بأوصافنا.

    (المنتظم)




    39-الناس لا يعصمهم من الظلم إلا العجز


    قال أبو الوفاء ابن عقيل :
    رأيت الناس لا يعصمهم من الظلم إلا العجز، ولا أقول: العوام بل العلماء. كانت أيدي الحنابلة مبسوطةً في أيام ابن يوسف، فكانوا يتسلطون بالبغي على أصحاب الشافعي في الفروع؛ حتى لا يمكنوهم من الجهر والقنوت، وهي مسألة اجتهادية. فلما جاءت أيام النَّظَّام ومات ابن يوسف، وزالت شوكة الحنابلة، استطال عليهم أصحاب الشافعي استطالة السلاطين الظلمة، فاستعدوا عليهم بالسجن، وآذوا العوام بالسعايات، والفقهاء بالنبز بالتجسيم)، فكانوا يعيرون الحنابلة بذلك؛ لأنهم كانوا يثبتون الأسماء والصفات.
    فتدبرت أمر الفريقين، فإذا بهم لم تعمل بهم آداب العلم، وهل هذه إلا أفعال الأجناد؛ يصولون في دولتهم ويلزمون المساجد في بطالتهم.



    40- عن معنى قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ( إن الكلب الأسود شيطان )، ومعلوم أنه مولود من كلب، و( أن الإبل خلقت من الشياطين) مع كونها مولودة من الإبل.
    قال أبو الوفاء ابن عقيل :
    هذا على طريق التشبيه لها بالشياطين، لأن الكلب الأسود أشرّ الكلاب وأقلعها نفعاً، والإبل تشبه الجن في صعوبتها وصولتها، كما يقال: فلان شيطان ؛ إذا كان صعباً شريراً .


    ( يُتبع إن شاء الله )

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jun 2013
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    33
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    مقالات أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي في كتب متنوعة ( تابع ) :

    41- كن بالله كاليتيم مع الولي الحميم :

    قال ابن عقيل :
    الله سبحانه ينبهك على الاحتياط لنفسك وسرك ومالك ، بالاحتياط لمال غيرك ، لقد أوجب عليك ذلك التحرز والتحفظ والارتياد والمبالغة في الانتقاد لكل محل تودعه سرا أو مالا أو ترجع إليه ، أو مشورة تقتبس بها رأيا ، ونبهك على ما هو أوكد من ذلك وهو أن تعلم بأنك وإن بلغت الغاية من الفهم والعقل والتجربة يجوز أن يعلم الباري سبحانه تقصيرك عن تدبير نفسك ، فإذا بالغت في الدعاء المحبوب نفسك جاز له سبحانه أن يعطيك بحسب ما طلبت ، ولا يرخي لك العنان بحكم ما له أردت ، بل يحبس عنك لصلاحك ، ويضيق عليك ما وسعه على غيرك نظرا لك ; لأنه في حجر الربوبية ما دمت عبدا .
    فإذا أخرجك عن ربقة التكليف سرحك تسريحا ، ولا تطلب التخلية حال حبسك ، ولا التصرف بحسب مرادك حال حجرك ، فلست رشيدا في مصالحك ، فكن بالله كاليتيم مع الولي الحميم ، تسترح من كد التسخط ، وتنجو من مأثم الاعتراض والتحير ، وليس يمكنك هذا إلا بشدة بحث ونظر في حبك وقدرك .
    فإذا علمت أنك بالإضافة إلى الحكمة الربانية والتدبير الإلهي دون اليتيم بالإضافة إلى الولي بكثير ، صح لك التفويض والتسليم ، واسترحت من كد الاعتراض ومرارة التسخط والتدبير . وقد أشار إلى ذلك بقوله : {وكفى بربك وكيلا } .
    واعلم أنه في أسر الأقدار تصرف فإن اعترضت صرت في أسر الشيطان ، فلأن تكون في أسر من لا يتهم عليك خير من أن تكون في أسرين أحدهما لا محيص لك عنه ، والآخر أنت أوقعت نفسك فيه . ولا أقبح من عاقل حماه الله وحجر عليه حميمه نظرا له أدخل على نفسه عدوا بقبح آثار وليه عنده ، ويسخطه عليه ليفسد عليه مع الولي
    (الاداب الشرعية)

    42-شذرة :

    قال ابن عقيل :
    قال حنبلي : كم من أقوال وأفعال تخرج مخرج الطاعات عند العامة وهي مأثم وبعد من الله سبحانه عند العلماء ، مثل القراءة في أسواق يصيح فيها أهل المعاش بالنداء والبيع ولا أهل السوق يمكنهم السماع ، ذلك امتهان .
    قال حنبلي : أعرف هو ، ولعل أهل السوق يسمعون النهي عن مراءات أو معصية فيتركونها.
    (الاداب الشرعية)


    43-لا ينبغي لعاقل أن يعرف بعادة :

    قال ابن عقيل :
    لا ينبغي لعاقل أن يعرف بعادة فيدهى منها مثل أن يصعب عليه أمر فيقصد به ويؤذى ، أو يعرف أنه يحب أمرا فيؤاخذ به .
    وحكي أن رجلا كان معروفا بأخذ الفأل فاشترك جماعة على حيلة يأخذون بها ماله ، فقصده واحد منهم على دفعه بضاعة أو قرضا وجلس الشركاء في الحيلة على بعد ، فنادى أحدهم صاحبه استخر الله فهذه جهة مباركة ، وقال الآخر نعم ما هو إلا صواب ، فلما سمع ذلك قويت عزيمته على دفعه .. وكان آخر يأكل ما يجده من الفتات ، فجعل له في فتاته سم فأكله فمات ، فاحذر من اغتفال الأعداء .
    (الاداب الشرعية)

    44- التأدب :

    قال ابن عقيل :
    ما أخوفني أن أساكن معصية فتكون سببا في سقوط عملي وسقوط منزلة إن كانت لي عند الله تعالى بعدما سمعت قوله تعالى { لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } . وهذا يدل على أن في بعض التسبب وسوء الأدب على الشريعة ما يحبط الأعمال ، ولا يشعر العامل إلا أنه عصيان ينتهي إلى رتبة الإحباط ، هذا يترك الفطن خائفا وجلا من الإقدام على المآثم ، ثم خوفا أن يكون تحتها من العقوبة ما يشاكل هذه .
    أليس بيننا كتاب الله عز وجل وهو كلامه الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتزمل ويتدثر لنزوله ، والجن تنصت لاستماعه وأمر بالتأدب بقوله : { فاستمعوا له وأنصتوا } ؟
    فعم كل قارئ ، وهذا موجود بيننا . فلما أمرنا بالإنصات إلى كلام مخلوق كان أمر الناس بالإنصات إلى كلامه أولى . والقارئ يقرأ وأنتم معرضون ، وربما أصغيتم إلى النغمة استثارة للهوى ، فالله الله لا تنس الأدب فيما وجب عليك فيه حسن الأدب ، ما أخوفني أن يكون المصحف في بيتك وأنت مرتكب لنواهي الحق سبحانه فيه فتدخل تحت قوله : { فنبذوه وراء ظهورهم } .
    فهجران الأوائل كلام الحق يوجب عليك ما أوجب عليهم من الإبعاد والمقت ، فقد نبهك على التأدب له من أدبك للوالدين ، والتأدب للأبوين يوجب التأدب لله عز وجل ; لأنه المبتدئ بالنعم ، فالله الله في إهمال ما وجب لله تعالى من الأدب عند تلاوة القرآن ، والإنصات للفهم والنهضة للعمل بالحكم ، إيفاء للحقوق إذا وجبت ، وصبرا على أثقال التكاليف إذا حضرت ، وتلقيا بالتسليم للمصائب إذا نزلت ، وحشمة للحق سبحانه في كل أخذ وترك ، حيث نبهك على سبب الحشمة فقال : { والظاهر والباطن } { أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } .
    (الاداب الشرعية)

    45-جموع في المساجد :

    قال ابن عقيل :
    أنا أبرأ إلى الله تعالى من جموع أهل وقتنا في المساجد والمشاهد ليالي يسمونها إحياء ، لعمري إنما لإحياء أهوائهم وإيقاظ شهواتهم ، جموع الرجال والنساء ، مخارج الأموال فيها أفسد المقاصد ، وهو الرياء والسمعة وما في خلال كل واحد من اللعب والكذب والغفلة ، ما كان أحوج الجوامع أن تكون مظلمة من سرجهم منزهة عن معاصيهم وفسقهم ، مردان ونسوة وفسق .
    الرجل عندي من وزن في نفسه ثمن الشمعة فأخرج بها دهنا وحطبا إلى بيوت الفقراء ، ووقف في زاوية بيته بعد إرضاء عائلته بالحقوق فكتب في المتهجدين صلى ركعتين بحزن ، ودعا لنفسه وأهله وجماعة المسلمين ، وبكر إلى معاشه لا إلى المقابر ، فترك المقابر في ذلك عبادة .
    يا هذا انظر إلى خروجك إلى المقابر كم بينه وبين ما وصفت له قال : " تذكركم الآخرة " ما أشغلك بتلمح الوجوه الناضرة في تلك الجموع لزرع اللذة في قلبك ، والشهوة في نفسك عن مطالعة العظام الناخرة ، تستدعي بها ذكر الآخرة ؟ كلا ما خرجت إلا متنزها ، ولا عدت إلا متأثما ، ولا فرق عندك بين القبور والبساتين مع الفرحة ، إلا أقل من أن تكون المعاصي بين الجدران .. فعلى من فطن لقوله في رجب وأمثاله : { فلا تظلموا فيهن أنفسكم }.
    عز علي بقوم فاتتهم أيام المواسم التي يحظى فيها قوم بأنواع الأرباح، وليتهم خرجوا منها بالبطالة رأسا برأس ، ما قنعوا حتى جعلوها من السنة إلى السنة خلسا لاستيفاء اللذات ، واستسلام الشهوات والمحظورات ، ما بال الوجوه المصونة في جمادى هتكت في رجب بحجة الزيارات ؟ { أفحكم الجاهلية يبغون } ؟ { ما لكم لا ترجون لله وقارا } .
    ترى بماذا تحدث عنك سواري المسجد في الظلم وأفنية القبور والقباب بالبكاء ومن خوف الوعيد والتذكر للآخرة بنظر العبرة ؟ إذا تحدثت عن أقوام ختموا في بيوتهم الختمات وصانوا الأهل ، اتباعا للنبي صلى الله عليه وسلم حيث انسل من فراش عائشة رضي الله عنها إلى المسجد لا شموع ولا جموع ، طوبى لمن سمع هذا الحديث فانزوى إلى زاوية بيته ، وانتصب لقراءة جزء في ركعتين بتدبر وتفكر ، فيالها من لحظة ما أصفاها من أكدار المخالطات وأقذار الرياء . غدا يرى أهل الجموع أن المساجد تلعنهم والمقابر تستغيث منهم ، يبكر أحدهم فيقول أنا صائم ، قد أفلح عرسك حتى يكون لك صبحه ، قل لي يا من أحياه في الجامع بأي قلب رحت ؟ مات والله قلبك .. ما أخوفني على من فعل هذا الفعل في هذه الليالي أن يخاف في موطن الأمن ويظمأ في مقامات الري .
    (الاداب الشرعية)


    46-شذرة :

    قال ابن عقيل :
    قال حنبلي : الخير بالتعود ، والشر طبعي ، وانظر إلى وضع الشرع { مروهم بالصلاة لسبع } ، فلما جاء إلى الشر { فرقوا بينهم في المضاجع } لعلمه أن ذلك أكثر في المجتمعين .
    (الاداب الشرعية)


    47-شذرة :

    قال ابن عقيل :
    عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : من كان هاربا من عدوه فليكتب بسوطه بين أذني دابته : { لا تخاف دركا ولا تخشى } أمنه الله من ذلك الخوف إن شاء الله.
    (الاداب الشرعية)


    48- شذرة :

    قال ابن عقيل :
    انظر كيف اختار لمرضه بيت البنت ، واختار لموضعه من الصلاة الأب .
    فما هذه الغفلة المستحوذة على قلوب الرافضة عن هذا الفضل والمنزلة التي لا تكاد تخفى عن البهيم فضلا عن الناطق !؟
    (الاداب الشرعية)

    49- إنتقاد :

    قال ابن عقيل :
    قال بعض المحققين - يعني نفسه- :
    ما أدري ما أقول في هؤلاء المتشدقين في شريعة بما لا يقتضيه شرع ولا عقل ، يقبحون أكثر المباحات ويبجلون تاركها حتى تارك التأهل والنكاح ، والعبرة في العقل والشرع إعطاء العقل حقه من التدبر ، والتفكر ، والاستدلال ، والنظر ، والوقار ، والتمسك ، وبالإعداد للعواقب ، والاحتياط بطريقة هي العليا يخص بها الأعلى الأعز الأكرم ، ومعلوم أنه قال { من كان له صبي فليتصاب له } .
    وكان عليه السلام يرقص الحسن والحسين ويداعبهما وسابق عائشة ، ويداري زوجاته .. والعاقل إذا خلا بزوجاته وإمائه ترك العقل في زاوية كالشيخ الموقر ، وداعب ومازح وهازل ،ليعطي الزوجة والنفس حقهما ، وإن خلا بأطفاله خرج في صورة طفل ، ويهجر في ذلك الوقت .
    (الاداب الشرعية)


    50-تمسك الناس بالخرافات :

    قال ابن عقيل :
    لو تمسك الناس بالشرعيات تمسكهم بالخرافات لاستقامت أمورهم ، لأنهم لا يقدمون إدخال مسافر على مريض ، ولا ينقب الرغيف من غير قطع حرفه ، ولا يكب الرغيف على وجهه ، ولا يتزوج في صفر ، ولا يترك يديه مشبكة في ركني الباب، ولا يخيط قميصه عليه إلا ويضع فيه ليطة ، ولعل الواحد منهم لو عوتب على ترك الجمعة أو الجماعات أو لبس الحرير لأهون بالعتبة .
    فهذا قدر الإسلام عندهم يدعون أنهم من أهله . ولعل أحدهم يقول : لا يحل طرح الرغيف على وجهه ثقة بما يسمع من النساء البله والسفساف .
    (الاداب الشرعية)


    51-من عجيب ما نقدت أحوال الناس

    قال ابن عقيل :
    من عجيب ما نقدت أحوال الناس كثرة ما ناحوا على خراب الديار وموت الأقارب والأسلاف ، والتحسر على الأرزاق بذم الزمان وأهله، وذكر نكد العيش فيه ، وقد رأوا من انهدام الإسلام ، وتشعث الأديان ، وموت السنن ، وظهور البدع ، وارتكاب المعاصي ، وتقضي العمر في الفارغ الذي لا يجدي ، فلا أحد منهم ناح على دينه ، ولا بكى على فارط عمره ولا تأسى على فائت دهره ، ولا أرى لذلك سببا إلا قلة مبالاتهم بالأديان وعظم الدنيا في عيونهم ، ضد ما كان عليه السلف الصالح : يرضون بالبلاغ وينوحون على الدين.
    (الاداب الشرعية)


    52-البخل :

    قال ابن عقيل :
    البخل يورث التمسك بالموجود ، والمنع من إخراجه لألم يجده عند تصور قلة ما حصل وعدم الظفر بخلفه ، والشح يفوت النفس كل لذة، ويجرعها كل غصة .
    (الاداب الشرعية)


    53-حث على الإمساك:

    قال ابن عقيل :
    أقسم بالله لو عبس الزمان في وجهك مرة لعبس في وجهك أهلك وجيرانك .
    (الاداب الشرعية)


    54- شذرة :

    قال ابن عقيل :
    إن أبا بكر بن داود الظاهري وأبا العباس بن شريح والمبرد اجتمعوا في موضع .
    فتقدم أبو بكر بن داود وقال : العلم قدمني .
    وتأخر ابن شريح وقال : الأدب أخرني .
    فنسبهما المبرد إلى الخطإ وقال : إذا صحت المودة سقط التكلف .
    (الاداب الشرعية)


    55-تمام المروءة

    قال ابن عقيل :
    تمام المروءة أن تراعي ورثة من كنت تراعيه وتخلفه بزيادة على ما كنت تراعيهم حال حياته لتكون الزيادة بإزاء إرعائه ، ولا توهمهم أن المنزلة سقطت بموت كاسبهم ، وفرِ الإكرام على الأيتام لتشوب مرارة يتمهم حلاوة التحنن .
    كان السلف رحمهم الله يذهبون حزن الأيتام والأرامل ، ويزيلون ذل اليتيم بأنواع البر حتى صاروا كالآباء والأمهات لليتيم ، لا يتركونه يضام ويتناضلون عنه .
    وفي الجملة الكرام لا يبين بينهم يتم أولاد الجيران ولا النازل من القاطنين .
    (الاداب الشرعية)


    56- مجلس مذاكرة :

    قال ابن عقيل :
    جرى في مجلس مذاكرة فقال قائل : إني لا أجد في نفسي ضيقا وإن قصرت يدي بل طيب النفس كأني صاحب ذخيرة .
    فقال رئيس فاضل قد جرب الدهر وحنكته التجارب :
    هذه صفة إما رجل قد أعدت له الأيام سعادة شعرت نفسه بها ، لأن في النفوس الشريفة ما يشعر بالأمر قبل كونه . أو يكون ذلك ثقة بالله لكل حادث لعلمه أنه من عند حكيم لا يضع الشيء إلا في موضعه ، فيستريح من تعب الاعتراض وعذاب التمني .
    وبالضد من هذا إذا كان باكيا شاكيا حزينا لا لسبب ، بل نعم الله عليه جمة ، فذلك شعور النفوس بما يئول حاله إليه ، وهذا من جنس الفأل، والطيرة ، والزجر ، والهاتف ، وذلك كله إنما هو اطلاع الله تعالى للنفوس على عقباها ، ومن ذلك المنامات ، فهذه شواهد الخير ، والشر .
    وقديما رأينا المشايخ يقولون : لا بد أن يكون مقدمة النحس وزوال السعادة كسوف البال ، وتكاثف الهم وضيق الصدر وتغير الأخلاق . قال الله تعالى : { ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } فجعل عنوان تغير النعم تغير النفوس لعادتهم من تنكدها .
    (الاداب الشرعية)


    57-سؤال عن قوله : { فلا تزكوا أنفسكم } :

    قال ابن عقيل :
    كيف ساغ لعمر أن يزكي نفسه حين سأله رجل عن صيد قتله فقال : اصبر حتى يأت حكم آخر . فيحكم لنفسه أنه أحد العدلين ؟
    قيل : إنما نهى عن تزكية النفس بالمدح والإطراء المورث عجبا وتيها ومرحا ، وما قصد عمر رضي الله عنه ذلك ، إنما قصد فصل حكم وهو من نفسه على ثقة من ذلك ، فصار كقوله عن الملائكة عليهم السلام : { وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون } ، فدل على أنه لا يتناول إلا من أخرجه مخرج الافتخار .
    ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : { أنا سيد ولد آدم ولا فخر } فنفى الفخر الذي هو الإعجاب .
    (الاداب الشرعية)


    58- { وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم } :

    قال ابن عقيل :
    وكان ذلك ممتنعا من جهة الخلقة والصورة ، وعدما من جهة المنطق والمعرفة ، فوجب أن يكون منصرفا إلى المماثلة في الطباع والأخلاق، وإذا كان كذلك فاعلم أنك إنما تعاشر البهائم فخذ حذرك. ولذلك رأى الحكماء أن السلامة من آفات السباع الضارية أمكن من السلامة من شر الناس.
    (الاداب الشرعية)


    59-شذرة :

    قال ابن عقيل :
    يا علماء ، ما نقنع منكم بما أنتم عليه من زي تصاريفكم ، فإن طبيبا به مثل مرضي فضيق علي الأغذية ولا يحتمي مشكوك في صدقه عندي ، فالحظوا حال من أنتم من ورثته كيف غفر له ، ثم قام حتى تورمت قدماه .
    يا سباع ، يا قطاع الطريق ، لا ترون إلا على مطارح الجيف . نبيكم صلى الله عليه وسلم قنع من المرأة بإشارتها إلى السماء وأنتم تشككون الناس في العقائد ، انفتح بكلامكم البثق العظيم ، وهو كلام الدهرية والملحدة .
    (الاداب الشرعية)


    60-ريح الخمر:

    قال ابن عقيل :
    ريح الخمر كصوت الملاهي ، حتى إذا شم ريحها فاستدام شمها كان بمثابة من سمع صوت الملاهي وأصغى إليها ، ويجب ستر المنخرين والإسراع كوجوب سد الأذنين عند الاستماع ، وعلى هذا يحرم النظر إلى الحرير وأواني الذهب والفضة إن دعت إلى حب التزين بها والمفاخرة .
    ويحجب ذلك عنه ونزيد فنقول : التفكر الداعي إلى استحضار صور المحظور محظور ، حتى لو فكر الصائم فأنزل أثم وقضى ، وكان عندي كالعابث بذكره فيمني ، وأدق من هذا لو استحضر صورة المعشوق وقت جماعه أهله .
    (الاداب الشرعية)



    61- شذرة :

    قال ابن عقيل :
    كان أحمد رضي الله عنه يمشي في الوحل ويتوقى، فغاصت رجله فخاض وقال لأصحابه : هكذا العبد لا يزال يتوقى الذنوب فإذا واقعها خاضها .
    (الاداب الشرعية)



    62-أصحاب الزمان:

    قال ابن عقيل :
    إن حدثتك نفسك بوفاء أصحاب الزمان فقد كذبتك الحديث ما صدقتك الخبر ، هذا سيد البشر مات وحقوقه على الخلق أجمعين لحكم البلاغ ، والشفاعة في الأخرى .
    وقد قال تعالى : { قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى }، وقد شبع به الجائع ، وعز به الذليل ، فقطعوا رحمه وضل أولاده بين أسير ، وقتيل ، وأصحابه قتلى : عمر في المسجد وعثمان في داره، هذا مع إسداء الفضائل وإقامة العدل والزهد ، اطلب لخلفك ما كان لسلفك .
    (الاداب الشرعية)


    63-الدعاء وزيارة القبور يوم الأربعاء :

    قال ابن عقيل:
    كنت أرى الناس يكثرون الدعاء وزيارة القبور يوم الأربعاء ولا أعلم هل يرجعون إلى شيء ، فوجدت في سماع القاضي أبي الطيب عن الغطريفي بإسناده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : { دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد الأحزاب يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء فاستجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين الظهر والعصر فعرفنا السرور في وجهه } قال جابر : فما نزل بي أمر مهم عارض إلا توخيت تلك الساعة من ذلك اليوم فدعوت فعرفت الإجابة .
    (الاداب الشرعية)


    64- الحسد:

    قال ابن عقيل :
    افتقدت الأخلاق فإذا أشدها وبالا على صاحبها الحسد ،فإنه التأذي بما يتجدد من نعمة الله ، فكلما تلذذ المحسود بنعم الله تعالى تأذى الحاسد وتنغص ، فهو ضد لفعل الله تعالى ، ساخط بما قسمه ، متمن زوال ما منحه خلقه ، فمتى يطيب بهذا عيش ونعم تنثال انثيالا ، وهذا المدبر لا يزال بأفعال الله متسخطا ؟ وما زال أرحم الناس للنظر في عواقبهم ، ولو لم يكن إلا النزع وحشرجة الروح ، فكيف بمقدمات الموت من البلى والضنى ؟ فمن شهد هذا فيهم لم يحسدهم والله سبحانه أعلم .
    (الاداب الشرعية)


    65-كمال الآداب :

    قال ابن عقيل :
    من كمال الآداب تلمح النفس وإزالة كل ما يكره منها ويؤذي عند المخالطة ، وإن أمكن ذاك ، وإلا فإراحة الناس بالانفراد والاعتزال. فالثقيل المخالط سقم في الأبدان ومؤنة على القلوب ، وتضييق للأنفاس وحصر للحواس ، والألم يعري الأرواح فضلا عن الأشباح، والقذر نقضة المجالس ، والمستعلم عما يستره الناس مكشف لأستار التجمل ، والأرعن مرتعد الطباع المغلوبة بالحكمة ، والأحمق مفسد للقوانين ومحوج إلى سوء أخلاق المعلمين ، ومزر على أهل الدنيا والدين ، والمهازل مسقط لوقار المجالس ، مذهب لحشمة المنازل ، وما حط شرفا مثل هزل . وقطع الروائح الكريهة ، والبعد عن مجالس الأنس ، فكم من أنيس بين جلساء أوحشه مداخلة ثقيل يجهل ثقل نفسه على الناس ، وتقليل الكلام من حسن الإصغاء والإنصات ، والبعد عن العاملين ذوي النشاط إذا اعتراك التثاؤب والنعاس فذلك يكسل العمال ويفتر الصناع ، وانتقاد الألفاظ قبل إخراجها إلى الأسماع ، فكم من نم أراق دماءكم من حرف جر حنقا، وإياك والكلام فيما ليس من مجارك فذاك يحط قدرك ، ويكشف عن محلك ، وأنت مع سكوتك مخبوء تحت لسانك تترامى ظنون الناس فيك بين من يعتقدك بذلك عالما ، فإذا ظهر مقدارك من لفظك تعجل سقوط قدرك .
    لا تواكلن جائعا إلا بالإيثار ، ولا تواكلن غنيا إلا بالأدب ، ولا تواكلن ضيفا إلا بالنهمة والانبساط ، ولا تلقين أحدا بما يكره وإن كنت ناصحا فإن ذلك ينفره عن القبول لنصحك ، ولا تدعه من الأسماء إلا بأحبها إليه ، وتغافل عن هفوات الناس فذلك داعية لدوام العشرة ، وسلامة الود ، وخفف مؤنتك بترك الشكوى ، وإذا كرهت من غيرك خلقا فلا تأته ، وإذا حمدته فتخلق به ، ولا تستصغر كبير الذنب فتعرى ، ولا تستكبر صغيرها فتيأس ، وأعط كل ذنب حقه من عقوبته إن قدرت ، ومن اللائمة والهجران إن عن العقوبة عجزت ، ولا تقتض الناس بجزاء إحسانك اقتضاء البائع بثمن سلعته ، ولا تمنن عليهم فالمن استيفاء لمعروفك أو تكدير لبرك ، فإن قدرت على هذه الخلائق في معاشرتك وإلا فالعزلة خير لك وخير للناس ، فإنك بستر نفسك تستريح من احتقاب الآثام بإسقاط جرم الأنام ، والسلام .
    (الاداب الشرعية)


    66- ( ادفع بالتي هي أحسن ) :

    قال ابن عقيل :
    سأل سائل-: أسمع وصية الله عز وجل يقول : { ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم }
    وأسمع الناس يعدون من يظهر خلاف ما يبطن منافقا ، فكيف لي بطاعة الله تعالى والتخلص من النفاق ؟
    النفاق هو : إظهار الجميل ، وإبطال القبيح ، وإضمار الشر مع إظهار الخير لإيقاع الشر ، والذي تضمنته الآية إظهار الحسن في مقابلة القبيح لاستدعاء الحسن . فخرج من هذه الجملة أن النفاق إبطال الشر وإظهار الخير لإيقاع الشر المضمر ، ومن أظهر الجميل والحسن في مقابلة القبيح ليزول الشر فليس بمنافق لكنه يستصلح ، ألا تسمع إلى قوله سبحانه وتعالى { فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم }
    فهذا اكتساب استمالة ، ودفع عداوة ، وإطفاء لنيران الحقائد ، واستنماء الود وإصلاح العقائد ، فهذا طب المودات واكتساب الرجال .
    (الاداب الشرعية)


    67- الرضا بالكفر:

    قال ابن عقيل :
    الرضا بقضاء الله تعالى واجب فيما كان من فعله تعالى كالأمراض ونحوها .
    فأما ما نهى عنه من أفعال العباد كالكفر والضلال فلا يجوز إجماعا، إذ الرضا بالكفر والمعاصي كفر وعصيان .
    (الاداب الشرعية)



    68-أبناء الزمان :

    قال ابن عقيل :
    إن أبناء الزمان لا بقاء لهم على حال ، بينما ترى أحدهم على المحبة والشغف ، حتى تراه على ضد ذلك من الملل والضجر ، فالعاتب لهم ظالم ، كما أن الواثق بهم خائب ، لأنهم إذا حقق النظر في أحوالهم يراهم في أسر المقادير مسلطات الأقضية والتصريف ، ثم الدهر موصوف بالاستحالة فكيف أبناؤه ، فإذا أوقع الله سبحانه الوحشة بينك وبين الخلق فإنما يصرفك إليه ويندبك إلى التعلق به ، فاحمد إساءتهم إليك ، فإنهم لو أحسنوا معك الصنيع لقطعوك عنه ، لأنك ابن لقمة وابن كلمة طيبة أدنى شيء يقتطعك إليهم .
    (الاداب الشرعية)


    69-حد الصداقة :

    قال ابن عقيل :
    أنا أقول الذي ينبغي أن يكون حد الصداقة اكتساب نفس إلى نفسك ، وروح إلى روحك ، وهذا الحد يريحك عن طلب ما ليس في الوجود حصوله ، لأن نفسك الأصلية لا تعطيك محض النفع الذي لا يشوبه إضرار ، فالنفس المكتسبة لا تطلب منها هذا العيار ، وقد بينت العلة في تعذر الصفو الخالص وهي تغاير الأمزجة ، وتغليب الأخلاط ، واختلاف الأزمنة والأغذية .
    فإن رطب وراق بالماء ورق بالهواء ثقل ورسب بالتراب ، وإن شف وصفا بالروح كثف وكدر بالجسد ، وإن استقام بالعقل ترنح بالهوى، وإن خشع بالموعظة قسا بالغرور ، وإن لطف بالفكر غلظ بالغفلة ، وإن سخا بالرجاء بخل بالقنوط .
    فإذا كانت الخلال في الشخص الواحد بهذه المشاكلة من التنافر ، كيف يطلب من الشخصين المتغايرين بالخلقة والأخلاق الاتفاق والائتلاف؟ فإذا ثبتت هذه القاعدة أفادت شيئين : إقامة الأعذار وحسن التأويل الحافظ للمودات ، والدخول على بصيرة بأن ما يندر من الأخلاق المحمودة إذا غلب على أخلاق الشخص مع الشخص فهما الصديقان ، فأما طلب الدوام والسلامة من الإخلال في ذلك والانخرام فهو الذي أوجب القول لمن قال : إن الصديق اسم لمن لم يخرج إلى الوجود، وإن تبع ذلك في الأسماء كلها وجب إفلاس المسميات .
    فأما تسمية الإنسان نفسه عبدا مع ارتكاب المخالفة فهي بعيدة عن الحقيقة ، إنما أنت عبد من طريق شواهد الصنعة التي تنطق بوحدته فيها بغير شريك له في إخراجه إلى الوجود ، فأما من طريق إجابة عادة العبد المعبود فلا ، فمن لا يصفو له اسم عبد لرب أبدأه وأنشأه ، ولا يصفو لنفسه في اسم ناصح لها بطاعة عقله وعصيان هواه يراد منه أن يصفو فيه اسم صديق ، فاقنع من الصداقة بما قنع الله سبحانه منك في العبودية ، مع أنك ما صفوت في الاسم ، فأنت إلى أن تكون عبد هواك وشيطانك أقرب ، لأن موافقتها فيه أكثر..
    ولا أقتصر في ذاك على الآدمي ، بل كل موجود صدر عن الفاعل جلت عظمته لم يصف من شوب ، حتى الأغذية والأدوية ذات المضار والمنافع ..
    وإذا كان الأمر كله كذا فطلب ما وراء الطباع طلب ما لا يستطاع ، وذلك نوع من العنت والتنطع ، ومن طلب العزيز الممتنع عذب نفسه وجهل عقله وضلل رأيه ، وقبيح بالعقل أن يعتمد إضرار نفسه وإتعابها فيما لا يجدي نفعا بتعجيل التعب ضررا، ومع كون النفس تطلب الكمال في الصداقة وفي العيش وغير ذلك مما قد ظهر إلى الوجود ناقصا فلا بد أن يكون في طي القدرة والعلم الإلهي ذلك ويستخرجه إلى الوجود وقت الإعادة وإرادة الحياة الدائمة ومنحه النعيم الباقي .
    يقطع الكلام في هذا المقام أن يقال : إن وجدت من نفسك خلال الصداقة وشروطها مع النقد والاختبار من الهوى لم تجد لنفسك ثانيا، فقل ما شئت من اللوم والعذل والتوبيخ ، ونح على أبناء الزمان بالوحدة في هذا المقام ، فأما إذا لم تجد ذاك في نفسك لعجز البنية عنه فاقطع القول في ذلك ، فلا مؤاخذة على ما لا يدخل تحت القدرة ..
    (الاداب الشرعية)


    70- دعوة الى الحذر :

    قال ابن عقيل :
    حكي لي بعض الأصدقاء ، أن امرأة جلست على باب دكان بزار أعزب إلى أن أمست ، فلما أراد غلق الدكان تراءت له ، فقال لها: ما هذا المساء ؟ فقالت : والله مالي مكان أبيت فيه .. فقال لها: تمضين معي إلى البيت . فقالت : نعم . فمضى بها إلى بيته وعرض عليها التزويج فأجابت فتزوجها ، وبقيت عنده أياماً.. وجاء في اليوم الرابع رجل ومعه نسوة فطلبوها ، فأدخلهم وأكرمهم ، وقال : من أنتم منها؟ فقالوا أقاربها ، ابن عم وبنات عم وقد سررنا بما سمعنا من الوصلة غير أنا نسألك أن تتركها تزورنا لعرس بعض أقاربنا . فدخل إليها فقالت : لا تجبهم إلى ذلك وأحلف بطلاقي إنك لا خرجت من داري شهر ليمضي زمن العرس فأنه أصلح لي ولك وإلا أخذوني وأفسدوا قلبي عليك فإني كنت غضبى وتزوجت إليك بغير مشاروتهم ولا أدري من قد دلهم إليك .. فخرج فحلف كما ذكرت له ، فخرجوا مأيوسين وأغلق الباب وخرج إلى الدكان وقد علق قلبه بالمرأة فخرجت ، ولم تستصحب من الدار شيئاً فجاء فلم يجدها ..
    فقال قائل : ترى ما الذي قصدت ؟
    قال أبو الوفاء : لعلها مستحلة به لأجل زوج طلقها ثلاثاً . فليتخوف الإنسان من مثل هذا وليطلع به على غوامض حيل الناس.


    71- لا تستبطئ الإجابة من الله تعالى لأدعيتك :

    قال ابن عقيل :
    تستبطئ الإجابة من الله تعالى لأدعيتك في أغراضك التي يجوز أن يكون في باطنها المفاسد في دينك ودنياك ، وتتسخط بإبطاء مرادك ، مع القطع على أنه سبحانه لا يمنعك شحا ولا بخلا ولا نسيانا ، وقد شهد لصحة ذلك مراعاته لك . .ولا لسان ينطق بدعاء ، ولا أركان لعبادته ، ولا قوة تتحرك بها في طاعة من طاعاته ، فكيف وجملتك وأبعاضك وقف على خدمته ولسانك رطب بأذكاره ؟ لكن إنما أخر رحمة لك وحكمة ومصلحة ، وقد تقدم إليك بذلك تقدمة ، فقال سبحانه : { وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون } . .وأنت العبد المحتاج تتخلف عن أكثر أوامره ، ولا تستبطئ نفسك في أداء حقوقه . هل هذا إنصاف أن يكون مثلك يبطئ عن الحقوق ولا تنكر ذلك من نفسك ، ثم تستبطئ الحكيم الأزلي الخالق في باب الحظوظ التي لا تدري كيف حالك فيها هل طلبها عطب وهلاك ، أو غبطة وصلاح ؟!
    (الاداب الشرعية)


    72-شذرة :

    قال ابن عقيل :
    العقلاء يعلمون أن الاحتراز لا يقدح في التوكل، وأن دقيق الحيل من الأعداء يدفع بلطيف التحرز والمبالغة في التحفظ.
    (الاداب الشرعية)


    73-القناعة:

    قال ابن عقيل :
    لو علمت قدر الراحة في القناعة والعز الذي في مدارجها علمت أنها العيشة الطيبة . لأن القنوع قد كفي تكلب طباعه ، والطبع كالصبي الأرعن ، ومن بلي بذلك أذهب وقته في أخس المطالب وفاتته الفضائل فأصبح كمربي طفل يتصابى له ويجتهد في تسكين طباعه، تارة بلعبة تلهيه وتارة بشهوة ، وتارة بكلام الأطفال ، ومن كان دأبه التصابي متى يذوق طعم الراحة ؟ ومن كان في طبعه كذا فمتى يستعمل عقله ؟
    والحياة الطيبة التفويض إلى الله ، كالصبي حال التربية يفوض أمره إلى والديه ويثق بهما مستريحا من كد التخير ، فلا يتخير لنفسه مع تفويضه إلى من يختار له . المفوض وثق بالمفوض إليه.
    وعندي أنها في الجنة أعني الحياة الطيبة ، لأن الطيب الصافي والصفاء في الجنة .
    (الاداب الشرعية)


    74-شذرة:

    قال ابن عقيل :
    الجهال يفرحون بسوق الوقت ، حتى لو اجتمع ألف أقرع يزعقون على بقرة هراس لقوي قلبه بما يعتقد أولئك ، وينفر قلبه من أدلة المحققين . بهيمة في طباع الجهال لا تزول بمعالجة !
    (الاداب الشرعية)


    75- توضيح :

    قال ابن عقيل :
    من القبيح ما يقبح من كل مكلف على وجه دون وجه ، كالرمي بالسهام واتخاذ الحمام والعلاج بالسلاح .. لأن تعاطي ذلك لمعرفة الحراب والتقوي على العدو ، وليرسل على الحمام الكتب والمهمات لحوائج السلطان والمسلمين ، حسن لا يجوز إنكاره . وإن قصد بذلك الاجتماع على الفسق واللهو ومعاملة ذوي الريب والمعاصي فذلك قبيح يجب إنكاره . ومن ترك ما يلزمه فعله بلا عذر.. وجب الإنكار عليه، وللنساء الخروج للعلم ، وينكر على من ترك الإنكار المطلوب مع قدرته عليه .
    (الاداب الشرعية)

    76 - وعظ :

    قال ابن عقيل :
    عندك ذخائر وودائع بالله لا تضعها في الترهات ، ودموع ودماء ونفوس ، بالله لا تجري الدموع إلا على ما فات ويفوت، ولا ترق الدماء ، إلا في مكافحة الأعداء ، وإعلاء كلمتنا ، وأنفاس من نفائس الذخائر ، فبحقنا لا تتنفس الصعداء إلا في الشوق إلينا ، والتأسف علينا .
    كم نخلع عليك خلعة نفيسة تبذلها في الأقذار ، وتخلقها في خدمة الأغيار ، اشتغلت بالصور ، شغل الأطفال باللعب ، فاتتك أوقات لا تتلافى ..
    فإن كسرنا عليك لعبة مثل أن نسلبك ولدا منحناه ، أخذت تضيع الدموع وتخرق الجيوب ، وا أسفا على أوقات فاتت ، أما رأيت المتداركين هذا يقول : هلكت وأهلكت وهذا يقول : زنيت فطهرني؟ زاهدا في مصاحبة نفس خائنة فيما عاهدت ، وصاحب الشرع يقيم لها التأويل ويقول : " لعلك قبلت " وذاك مصر على التشفي من النفس المخالفة للحق ، أتراه سلط هذه البلاوي إلا ليظهر هذه الجواهر في الصبر عليه والغيرة ؟
    ترى لو دام الخليل والذبيح في كتم العزم ، كان وجد لأخذ قدم ..فصار الولد كالشاة المعدة للذبح .
    أخجل والله هذا الجوهر الذي أظهره الامتحان ملائكة الرحمن ، {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح } أين التسبيح من عزم الذبح وبذل الذبيح ؟ لقد تركت هذه المكارم رءوس الكل منكسة خجلا ببخلهم شاة من أربعين ، ونصف دينار من عشرين ..
    (الاداب الشرعية)


    77- جهل العوام :

    قال ابن عقيل :
    الواحدمن العوام إذا رأى مراكب مقلدة بالذهب والفضة ، ودورا مشيدة مملوءة بالخدم والزينة قال : انظر إلى ما أعطاهم مع سوء أفعالهم ، ولا يزال يلعنهم ويذم معطيهم ويسقف حتى يقول : فلان يصلي الجماعات والجمع ، ولا يذوق قطرة خمر ، ولا يؤذي الذر ، ولا يأخذ ما ليس له ، ويؤدي الزكاة إذا كان له مال ، ويحج ويجاهد ، ولا ينال خلة بقلة ، ويظهر الإعجاب كأنه ينطق عن تخايله أنه لو كانت الشرائع حقا لكان الأمر بخلاف ما نرى ، وكان الصالح غنيا والفاسق فقيرا .
    ما ذاك إلا لأنه لحظ أن الله أعطى هذا أموال الأيتام والوقوف ، بأن يأكل الربا ويفاسد العقود ، وهذا افتئات وتجوز وسخط في غير موضعه . فإن لله كتابا قد ملأه بالنهي وحرمان أخذ المال الحرام وأكله بغير حق ، فلو كان منصفا لقال له : تدبر هذا كتاب الله مملوء بالنهي والوعيد ، فصار الفريقان ملعونين ، هذا بكفره وهذا بارتكاب النهي . ومن الفساد في هذا الاعتقاد أنه لا يبقي في العقل ثقة إلى دلالة قامت على شريعة أو حكم .
    فإن ينبوع الثقة ومصدرها إنما هو من قبيل أنه سبحانه لا يؤيد غير الصادق ، ولا يلبس الحق بالباطل .
    فإذا لم تستقر هذه القاعدة فلا ثقة .
    (الاداب الشرعية)


    78- تأمل أفعال الخلق في مقابلة إنعام الحق :

    قال ابن عقيل :
    إذا تأمل المتدين أفعال الخلق في مقابلة إنعام الحق استكثر لهم شم الهواء ، واستقل لهم من الله سبحانه أكثر البلاء ، إذا رأى هذه الدار المزخرفة بأنواع الزخاريف ، المعدة لجميع التصاريف واصطباغا وأشربة وأدوية ، وأقواتا وإداما وفاكهة ، إلى غير ذلك من العقاقير ، ثم إرخاء السحاب بالغيوث في زمن الحاجات ثم تطييب الأمزجة وإحياء النبات ، وخلق هذه الأبنية على أحسن إتقان ، وتسخير الرياح والنسيم المعد للأنفاس ، إلى غير ذلك من النعم ، ثم نعمة العقل والذهن ثم سائر الآيات الدالة على الصانع ، ثم إنزال الكتب التي تحث على الطاعات وتردع عن المخالفة ، ثم اللطف بالمكلف ، وإباحة الشرك مع الإكراه ، وأمر بالجمعة فضايقوه في ساعة السعي بنفس ما نهى عنه من البيع في أنواع العبادات ، وعظموا كل ما هونه وارتكبوا كل ما هونه حتى استخفوا بحرمة كتابه ، فأنا أستقل لهم كل محنة .
    (الاداب الشرعية)




    79- رد على جاهل :

    كان في زمن ابن عقيل رجل رأى بهيمة على غاية من السقم فقال : وا رحمتي لك ! وا قلة حيلتي في إقامة التأويل لمعذبك !
    فقال له ابن عقيل : إن لم تقدر على حمل هذا الأمر لأجل رقتك الحيوانية ، ومناسبتك الجنسية ، فعندك عقل تعرف به تحكم الصانع ، وحكمته توجب عليك التأويل ، فإن لم تجد استطرحت لفاطر العقل ، حيث خانك العقل عن معرفة الحكمة في ذلك .
    (الاداب الشرعية)

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jun 2013
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    33
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    مقالات أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي في كتب متنوعة ( تابع ) :



    80-ذم العشق :

    قال ابن عقيل :
    العشق مرض يعتري النفوس العاطلة والقلوب الفارغة والمتلمحة للصور لدواع من النفس ، ويساعدها إدمان المخالطة فتتأكد الألفة ، ويتمكن الأنس ، فيصير بالإدمان شغفا . وما عشق قط إلا فارغ ، فهو من علل البطالين وامراض الفارغين من النظر في دلائل العبر وطلب الحقائق المستدل بها على عظم الخالق . ولهذا قل ما تراه إلا في الرعن البطرى وأرباب الخلاعة النوكى . وما عشق حكيم قط ، لأن قلوب الحكماء أشد تمنعا عن أن تقفها صورة من صور الكون مع شدة تطلبها فهي ابدا تلحظ وتخطف ولا تقف . وقل أن يحصل عشق من لمحة وقل أن يضيف حكيم إلى لمحة نظرة ، فإنه مار في طلب المعاني . ومن كان طالبا لمعرفة الله لاتقفه صورة عن الطلب لأنها تحجبه عن المصور . وحوشيت قلوب الحكماء الطالبين فضلا عن الواصلين العارفين من أن تحبسهم الصور أو تفتنهم الأشكال عن الترقي في معارج مقاصدهم أو تحطهم عن مراكزهم إلى محل الأثقال الراسية ، بل هم أبدا في الترقي هاتكون للحجب والأستار بقوة النظر .
    (ذم الهوى)


    81-شذرة :
    كان شيخنا أبو القاسم بن برهان الأسدي يقول لأصحابه: إياكم والنحو بين العامة فإنه كاللحن بين الخاصة.
    قال ابن عقيل:
    وتعليل هذا أن التحقيق بين المحرفين ضائع، وتضييع العلم لا يحل، ولهذا روي: حدثوا الناس بما يعقلون أتحبون أن يكذب على الله ورسوله؛ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا عمير ما فعل النغير" ولعب مع الحسن والحسين، وإنما نسب المعلمون للحماقة لمعاملتهم الصبيان بالتحقيق .

    82- عمن له من أهل الجنة أقارب في النار هل يبقى على طبعه ؟
    قال ابن عقيل : :
    قد أشار إلى تغير الطبع بقوله : { ونزعنا ما في صدورهم من غل } فيزيل التحاسد والميل إلى اللواط ، وأخذ مال الغير .


    83-كيف يعذب إبليس بالنار وهو مخلوق منها ؟


    قال أبو الوفاء بن عقيل :
    " أضاف الشياطين والجان إلى النار حسب ما أضاف الإنسان إلى التراب والطين والفخار ، والمراد به في حق الإنسان أن أصله الطين ، وليس الآدمي طيناً حقيقة ، لكنه كان طيناً ، كذلك الجان كان ناراً في الأصل .

    84 -النجاة من كمـين الشبهات :

    قال ابن عقيل :
    «الفقهاء والمحدِّثون يقصِّرون عن إزالة الشبه؛ لأنهم عن النقل يتكلمون، وللخوف على قلوب العوام من الشكوك يقصرون القول ويقلِّلون، فهم حال الأجوبة عنها ينظرون في العاقبة، والمبتدعة يتهجمون، فعلومهم فرح ساعة، ليس لعلومهم ثبات..»].

    85-قصة :

    قال ابن عقيل :
    كان عندنا بالظفرية دار، كلما سكنها أصبحوا موتى، فجاء مرة رجل مقرئ، فاكتراها، وارتضى بها، فبات بها وأصبح سالما، فعجب الجيران، وأقام مدة، ثم انتقل، فسئل، فقال: لما بت بها، صليت العشاء، وقرأت شيئا، وإذا شاب قد صعد من البئر، فسلم علي، فبهت، فقال: لا بأس عليك، علمني شيئا من القرآن، فشرعت أعلمه، ثم قلت: هذه الدار، كيف حديثها ؟ قال: نحن جن مسلمون، نقرأ ونصلي، وهذه الدار ما يكتريها إلا الفساق، فيجتمعون على الخمر، فنخنقهم، قلت: ففي الليل أخافك، فجئ نهارا، قال: نعم، فكان يصعد من البئر في النهار، وألفته، فبينما هو يقرأ، إذا بمعزم في الدرب يقول: المرقي من الدبيب، ومن العين، ومن الجن، فقال: أيش هذا ؟ قلت: معزم، قال: اطلبه، فقمت وأدخلته، فإذا بالجني قد صار ثعبانا في السقف، فعزم الرجل، فما زال الثعبان يتدلى حتى سقط في وسط المندل، فقام ليأخذه ويضعه في الزنبيل، فمنعته فقال: أتمنعني من صيدي ؟ ! فأعطيته دينارا وراح، فانتفض الثعبان، وخرج الجني، وقد ضعف واصفر وذاب، فقلت: مالك ؟ قال: قتلني هذا بهذه الاسامي، وما أظنني أفلح، فاجعل بالك الليلة، متى سمعت في البئر صراخا، فانهزم.
    قال: فسمعت تلك الليلة لنعي، فانهزمت.
    قال ابن عقيل: وامتنع أحد أن يسكن تلك الدار بعدها .


    86 - هندسة:

    قال ابن عقيل :
    نقلت من كتاب الهندسة: ذكر علماء الهندسة أن الأرض على هيئة الكرة على تدوير الفلك، موضعه في جوف الفلك كالمحة في جوف البيضة، وأن النسيم يحيط بها كالبياض من البيضة حول المحّة، وأن الفلك يحيط بالنسيم كإحاطة القشرة البيضاء بالبياض المحيط بالمحة، والأرض مقسومة نصفين بينهما خط الاستواء، وهو من المشرق إلى المغرب، وهو طول الأرض، وهو أكبر خط في كرة الأرض كما أن منطقة البروج أكبر خط في الفلك، وعرض الأرض من القطب الجنوبي الذي تدور حوله بنات نعش. واستدارة الأرض في موضع خط الاستواء ثلاثمائة وستون درجة، والدرجة خمسة وعشرون فرسخاً، والفرسخ اثنا عشر ألف ذراع، والذراع أربعة وعشرون إصبعاً، والإصبع ست حبات من شعير مضمومة، فتكون جميع ذلك تسعة آلاف فرسخ، وبين خط الاستواء وبين كل واحد من القطبين تسعون درجة، واستدارتها عرضاً مثل ذلك، إِلا أن العمارة بعد خط الاستواء أربع وعشرون درجة، ثم الباقي قد غمره البحر الكبير، فنحن على الربع الشمالي من الأرض. والربع الجنوبي خراب لشدة الحر والنصف الذي تحتنا لا ساكن فيه، وكل ربع من الشمالي والجنوبي سبعة أقاليم، والاقليم هو البلدان التي يتفق عرضها في مسير الشمس وارتفاع درجها..
    (المنتظم)


    87-النظَّام :

    قال ابن عقيل:
    قلت مرة في وصفه : ترك الناس بعد موتى أهل العلم والفقراء ففقدوا العيس بعده بانقطاع الأرزاق، وأما الصدور والأغنياء فقد كانوا مستورين بالغنا عنهم، فلما عرضت الحاجات إليهم عجزوا عن تحمل بعض ما عود من الإحسان، فانكشفت معايتهم من ضيق الصدور، فهؤلاء موتى بالمنع وهؤلاء موتى بالذم، وهو حي بعد موته بمدح الناس لأيامه، ثم ختم له بالشهادة فكفاه الله أمر آخرته كما كفى أهل العلم أمر دنياهم، ولقد كان نعمة من الله على أهل الإسلام فما شكروها فسلبوها.
    (المنتظم)

    88- أبو يوسف القزويني :

    قال ابن عقيل:
    كان رجلاً طويل اللسان، يُعلِّم تارة ويُسفِّه أخرى، ولم يكن محققاً في علم، وكان يفتخر ويقول: أنا معتزلي، وكان ذلك جهلاً منه، لأنه يخاطر بدمه في مذهب لا يساوي، قال: وبلغني عنه أنه لما وكل به الأتراك مطالبة بما اتهموه به من إيداع بني جهير الوزراء عنده أموالاً، قيل له: ادع اللّه. فقال: ما للّه في هذا شيء، هذا فعل الظلمة.
    قال ابن عقيل:
    و هذا قول خرف، لأنه إن قصد بذلك التعديل ونفي الجور فقد أخرج اللّه سبحانه وتعالى عن التقدير، ثم هب أنه ليس هو المقدر لذلك أليس بقادر على المنع والدفع.
    (المنتظم)


    89 - رؤية الله عزوجل يوم القيامة :

    قال ابن عقيل:
    الصورة على الحقيقة تقع على التخاطيط والأشكال وذلك من صفات الأجسام ، والذي صرفنا عن كونه - سبحانه - جسما من الأدلة النطقية قوله ( ليس كمثله شيء ) . ومن أدلة العقول أنه لو كان جسما لكانت صورته عرضا ، ولو كان جسما حاملا للأعراض لجاز عليه ما يجوز على الأجسام واحتاج إلى ما احتاجت إليه من الصانع ، ولو جاز قدمه مع كونه جسما لما امتنع قدم أحدنا .
    فليس لله سبحانه عندها ولا القوم الذي أنكروا في القيامة صورة من صور الذوات ينكرونها ويأنسون بما سواها ، فأحوجتنا لذلك الأدلة إلى تأويل صورة تليق إضافتها إليه سبحانه ويصح عليها التغير والتعريف والتنكير ، وما ذلك إلا الحال التي يوقع عليها أهل اللغة اسم صورة فيقولون كيف صورتك مع فلان وفلان على صورة من الفقر.
    والحال التي أنكروها العسف والتي يعرفونه بها هي اللطف وما وعد به من حسن الجزاء . ولذلك قال ( ( فتجلى لهم كاشفا عن ساقه ) ) يعني عن شدة القيمة التي صدرت عنه ، والتغيرات أليق بفعله الذي هو إحالات الأعيان وتغييرات الزمان ، وأما ذاته ووصفه فتعالى عن ذلك. فيكشف لهم عما وعدهم به فيخرون سجدا لنعمته شاكرين له على إنجاز وعده ، فيقع الخبر مقبولا ، ولو حمل - ونعوذ بالله - على ما قالت المجسمة من صورة ترجع إلى ذاته لكان ذلك تجويزا لتغيير صفاته وخروجه في صورة ، فإن كانت حقيقة فهو استحالة ، وإن كانت تخيلا فليس ذاك هو وإنما يريهم غيره .
    فما أشنع مقالة من يصدر قوله عن الجهالة ويتعلق بالظواهر كما تعلقت النصارى في المسيح وقالوا هو روحه حقيقة.
    ( كشف المشكل )

    90 -الحديث (أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك) :

    قال ابن عقيل :
    معنى الكلام : أعوذ بك من الصادر منك من الأفعال التي هي العذاب والبطشة .
    ( كشف المشكل )


    91 -في الحديث (إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة ) :

    قال ابن عقيل :
    كان يترقى من حال إلى حال فتصير الحالة الأولى بالإضافة إلى الثانية من التقصير كالذنب فيقع الاستغفار لما يبدو له من عظمة الرب وتتلاشى الحال الأولى بما يتجدد من الحال الثانية. والمعنى الثاني أن التغطية على قلبه كانت لتقوية الطبع على ما يلاقي فيصير بمثابة النوم الذي تستريح فيه الأعضاء من تعب اليقظة . وذلك أن الطاعة على الحقائق ومواصلة الوحي تضعف قلبه وتوهن بدنه. وقد أشار عز وجل إلى هذا في قوله ( إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ) وقوله ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ) فلولا أنه كان يتعاهد بالغفلة لما عاش بدنه لثقل ما يعرض له ، وشاهد هذا ما يلحقه من البرحاء والعرق عند الوحي . وقد كان عليه السلام يتعرض لهذه التغطية بأسباب يلطف فيها طبعه كالمزاح ومسابقة عائشة وتخير المستحسنات وكل ذلك ليعادل عنده من قوة اليقظة . فإن قيل على هذا فكيف يتعرض بشيء ثم يستغفر منه ؟ قلنا لأنه يرى تلك الحالة بالإضافة إلى الجد تقصيرا إلا أن الحاجة تدعو إليها فتكون بمثابة زمن الأكل والنوم والغائط.
    ( كشف المشكل )

    92 -( عن أنس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال : أنا أول الناس خروجا إذا بعثوا وانا خطيبهم إذا وفدوا وانا مبشرهم إذا يئسوا لواء الحمد بيدي وانا اكرم ولد ادم على ربي ولا فخر ) :

    قال ابن عقيل :
    إنما نفي الفخر الذي هو الكبر الواقع في النفس المنهي عنه الذي قيل فيه ( لا يحب كل مختال فخور ) ولم ينف فخر التجمل بما ذكره من النعم التي بمثلها يفتخر ومثله قول ( لا يحب الفرحين ) يعني الاشرين ، ولم يرد الفرح بنعمة الله تعالى.
    ( كشف المشكل )

    93 -عن وضع كلمات وآيات من القرآن في آخر فصول خطبة وعظية :

    قال ابن عقيل :
    تضمين القرآن لمقاصد تضاهي مقصود القرآن لا بأس به تحسينا للكلام، كما يضمن في الرسائل إلى المشركين آيات تقتضي الدعاية إلى الإسلام، فأما تضمين كلام فاسد فلا يجوز ككتب المبتدعة وقد أنشدوا في الشعر :
    ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنينا
    ولم ينكر على الشاعر ذلك لما قصد مدح الشرع وتعظيم شأن أهله ، وكان تضمين القرآن في الشعر سائغا لصحة القصد وسلامة الوضع .
    ( كتاب الاداب الشرعية )

    94 -عما يعتري المتصوفة عند سماع الوعظ والغناء هل هو ممدوح أو مذموم ؟

    قال ابن عقيل :
    لا يجوز أن يجيب عنها مجيب حتى يبين تحقيق السؤال ، فإن الصعق دخيل على القلب وغما لا عزما غير مكتسب ولا مجتلب ، وما كان بهذه الصفة لا يدخل تحت حكم الشرع بأمر ولا نهي ولا إباحة ، وأما الذي يتحقق من سؤالك أن نقول : هذا التصدي للسماع المزعج للقلوب المهيج للطباع الموجب للصعق جائز أو محظور ؟ وهو كسؤال السائل عن العطسة هل هي مباحة أو محظورة ؟ والجواب أن هذه المسألة لا يجاب عنها جملة ولا جوابا مطلقا ، بل فيها تفصيل وهو أن يقال : إن علم هذا المصغي إلى إنشاد الأشعار أنه يزول عقله ويعزب رأيه بحيث لا يدري ما يصنع من إفساد أو جناية فلا ينبغي أن يتعمد ذلك ، وهو كالمتعمد لشرب النبيذ الذي يزيل عقله ، وإن كان لا يدري لاختلاف أحواله فإنه تارة يصعق وتارة لا ، فهذا لا يحرم عليه ، ولا يكره ، ويتوجه كراهته بخلاف النوم فإنه وإن غطى على العقل فإنه لا يورث اضطرابا تفسد به الأموال ، بل يغطى عقل النائم ثم يحصل معه الراحة .
    وإذا استولى على العبد معرفة الرب ، وسمع تلاوة القرآن لم يسمع التلاوة إلا من المتكلم بها فصعق السامع خضوعا للمسموع عنه .. فهو الصعق الممدوح يعطل حكم الظاهر ، ويوفر درك الناظر ، لو رأيتموهم لقلتم مجانين ، والظاهر من خارج أحوالهم ، خلى مما يلوح لهم .
    والأصل في تفاوت هذا صفاء المدارك واختلاف المسالك ، فالقلوب تسمع الأصوات وترجيع الألحان فيحركهم طرب الطباع ، وما عندهم ذوق من الوجد في السماع ، والخواص يدركون بصفاء مداركهم أرواح الألفاظ وهي المعاني ، ومن غلب عليه الإيهام البراني يتعجب مما يسمع من القوم ، وقد قال الواجد :
    لو يسمعون كما سمعت كلامها خروا لعزة ركعا وسجودا
    وقال بعض المشايخ : الناظر إلى القوم من خارج حالهم يتعجب دهشا ، والملاحظ يذوق المناسبة يتلظى عطشا ، كما قال القوال :
    صغير هواك عذبني فكيف به إذا احتنكا
    هذه فتن ومحن دخلت على العقول من غلبة الطباع والأهواء ، وهل يحكم على العقول حق قط ؟ وهل رأيتم في السلف أو سمعتم رجلا زعق أو خرق ؟ بل سماع صوت وفهم واستجابة ، فدل على أن ذلك التخبط ليس من قانون الشرع ، لكن أمر بخفض الصوت وغضه ، وأما التواجد والحركة والتخريق فالأشبه بداعية الحق الخمود ، ثكلت نفسي حين أسمع القرآن ولا أخشع ، وأسمع كلام الطرقيين فيظهر مني الانزعاج ، هذا أدل دليل على أن الطباع تورث ما تورث من التغييرات ، وإن ذلك الكلام صدر عن طبع فأهاج طبعا ، وللحق ثقل ، فلا يغرنكم تحرك الطباع بالأسجاع والألحان فإنما هو كعمل الأوتار والأصوات ، وهل نهت الشريعة عن سكر العقار إلا لما يؤدي إليه من هذا الفساد.
    ( كتاب الاداب الشرعية )

    95 -تشميت الكافر :

    قال ابن عقيل :
    لا يستحب تشميت الكافر ، فإن شمته أجبه ب(آمين يهديكم الله ) فإنها دعوة تصلح للمسلم والكافر .
    ( كتاب الاداب الشرعية )

    96 -هل للطف من علامة ؟

    قال ابن عقيل:
    سألني رجل فقال: هل للطف من علامة ؟
    فقلت: أخبرك بها عن ذوق، كانت عادتي التنعم فلما فقدت ولدي تبدلت خشن العيش ونفسي راضية.
    ( الاداب الشرعية )

    97 -الرجل إذا دعا إلى بدعة ثم ندم :

    قال ابن عقيل:
    الرجل إذا دعا إلى بدعة ثم ندم على ما كان وقد ضل به خلق كثير وتفرقوا في البلاد وماتوا فإن توبته صحيحة إذا وجدت الشرائط ، ويجوز أن يغفر الله له ويقبل توبته ويسقط ذنب من ضل به بأن يرحمه ويرحمهم وبه قال أكثر العلماء .
    ( الاداب الشرعية )

    98 -التوبة من سائر الذنوب مقبولة :

    قال ابن عقيل:
    التوبة من سائر الذنوب مقبولة ، خلافا لإحدى الروايتين عن أحمد ( لا تقبل توبة القاتل ولا الزنديق) .
    الزنديق إذا ظهر لنا هل يجب أن نحكم بإيمانه الظاهر وإن جاز أن يكون عند الله عز وجل كافرا ؟
    ولأن الزندقة نوع كفر فجاز أن تحبط بالتوبة كسائر الكفر من التوثن ، والتمجس والتهود ، والتنصر وكمن تظاهر بالصلاح إذا أتى معصية وتاب منها . وليس الواجب علينا معرفة الباطن جملة وإنما المأخوذ علينا حكم الظاهر. فإذا كان لنا في الظاهر حسن طريقته وتوبته وجب قبولها ولم يجز ردها لما بينا وإن جميع الأحكام تتعلق بها ، ولم أجد لهم شبهة أوردوها إلا أنهم حكوا عن علي أنه قتل زنديقا ولا أمنع من ذلك ، وإن الإمام إذا رأى قتله لأنه ساع في الأرض بالفساد ساغ له ذلك .
    فأما أن تكون توبته لم تقبل بدلالة أن قطاع الطريق لا يسقط الحد عنهم بعد القدرة ويحكم بصحتها عند الله عز وجل في غير إسقاط الحد عنهم فليس من حيث لم يسقط القتل لا تصح التوبة .
    ولعل أحمد رضي الله عنه عنى بقوله : لا تقبل في غير إسقاط القتل فيكون ما قبله هو مذهبه رواية واحدة .
    وهو معنى ما ذكره الأصحاب لعل أحمد تعلق بأن فيه حق آدمي وذلك لا يمنع صحة التوبة لأنه تعلق به حق فالتوبة تسقط ما يثبت في معصية الله عز وجل ، ويبقى ظلم الآدمي ومطالبته على حالها وذلك لا يمنع صحة التوبة ..
    ( الاداب الشرعية )

    99 -لا تصح التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره :

    قال ابن عقيل:
    لا تصح التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره ، فإن الإنسان لو قتل لإنسان ولدا ، وأحرق له بيدرا ثم اعتذر عن إحراق البيدر دون قتل الولد لم يعد اعتذارا ، وهذا ظاهر على مذهب أحمد ، ويجب أن يكون هو المذهب ، لأن أحمد قال إذا ترك الصلاة تكاسلا كفر وإن كان مقيما على الزكاة والحج وغير ذلك .
    ( الاداب الشرعية )


    100 -قول النبي صلى الله عليه وسلم { أيما مسلم شتمته أو لعنته ، أو سببته أو جلدته فاجعل ذلك له صلاة وزكاة وقربة تقربه إليك يوم القيامة }

    قال ابن عقيل:
    إن المراد عند فورة الغضب لأمر يخصه ، أو لردع يردعه بذلك الكلام عن التجرؤ إلى فعل المعصية لا لعنه في الخمر لأنه تشريع في الزجر، إلا أن يكون أراد رحمة فإنه يحتمل احتمالا حسنا ، لأن لعنته عند من لعنه غاية في المنع من ارتكاب ما لعنه عليه وتوبته فسمى اللعنة رحمة حيث كانت آيلة إلى الرحمة .
    ( الاداب الشرعية )


    101 - الندم توبة :

    قال ابن عقيل:
    الدلالة على أن الندم توبة مع شرط العزم أن لا يعود ، ورد المظلمة من يده خلافا للمعتزلة في قولهم : الندم مع هذه الشرائط هو التوبة ، وليس فيها شرط بل هي بمجموعها توبة لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { : الندم توبة } وليس لهم أن يقولوا : أجمعنا على احتياجها إلى العزم ; لأن ذلك شرط ولا يوجب أن يكون هو التوبة كما أن الصلاة من شرطها الطهارة ، ولا تصح إلا بها وليست هي الصلاة ، لأن التوبة هي الندم والإقلاع عن الذنب ، فمن ادعى الزيادة على ما اقتضته اللغة يحتاج إلى دليل انتهى كلامه .
    ( الاداب الشرعية )


    102 - أحكام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :

    قال ابن عقيل:
    من لم يعلم أن الفعل الواقع من أخيه المسلم جائز في الشرع أم غير جائز فلا يحل له أن يأمر ولا ينهى .
    و قال ابن عقيل:
    من شروط الإنكار أن يعلم أو يغلب على ظنه أنه لا يفضي إلى مفسدة .
    ( الاداب الشرعية )

    103 -من الدليل على صحة نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم:

    قال ابن عقيل:
    من الدليل على صحة نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم أنه كاتَبَ كسرى وقيصر وغيرهما، وأمْرُه مع قومه كلهم ما استتبَّ، فضلاً عن عامة العرب، ولولا أنه مدفوع إلى المكاتبة من جهة مَن إليه حفظُ العاقبة لم يفعل ذلك، فإن ذلك لا يَصْدر عن رأيِ ذي رأيٍ قط.
    ثم أفْضَى الأمرُ إلى أن قُسمت غنائم كسرى في مسجده، وإنما كان يتكلم على ما اطلع عليه من انتشار دعوته وعُلوّها على كل الملْك، فذاك الذي أطالَ لسانَه على الكل.
    فهل يكون في الاطلاع على الغيب أوْحَى من هذا ومن الثقة بالمرسِل له.
    فهذا الذي لِلْعالم أن يستدلّ به .
    ( كتاب الوفا بأحوال المصطفى )


    104 - نومُ نبينا صلى الله عليه وسلم :

    إن قال قائل: إذا كان نومه يساوي نومَنا في انطباق الجفن وعدم السماع، حتى أنه نام عن الصلاة فما أيقظه إلا حَرُّ الشمس، فما وَجْه الفَرْق؟

    فقد أجاب عنه ابن عقيل، فقال:
    النومُ يتضمَّن أمرين:
    أحدهما: راحة الجسد، وهو الذي يشاركنا فيه.
    الثاني: غفلةُ القلب. وقَلْبُه كان متيقظاً سليماً من الأحلام، مُتلقياً للوحي في المنام، متفكراً في المصالح على مثل ما يكون المتنبِّه، فما يَغْفل قلبُه بالنوم عما وضِع له، وقد كان يُغْشَى عليه عند نزول الوحي ويستطرح، وهي حالةٌ لو أصابت بعضَ أمته انتفض وضوءه، وهو كان في تلك الحالة حافظاً محفوظاً من غَلَبات الطبع واسترخاء مخارج الحدَث، فهو غائب عنا حينئذ بحال. فالله سبحانه يسيِّر إليه ما يشاء.
    ( كتاب الوفا بأحوال المصطفى )

    105 -الصدقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم:
    عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أُتي بطعام سأل عنه: «أهديةٌ هو أَمْ صَدَقَةٌ؟» فإن قيل: صَدَقة قال لأصحابه: «كُلوا» ولم يأكل. وإن قيل: هدية. ضرب بيده فأكل معهم.

    قال أبو الوفاء بن عقيل:
    أنه إنما حُرِّمت الصدقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبيحت له الهدية؛ لأن الهدية تحيّة، والتَّحايَا معَرَّضة للمقابلة بأحسن منها، وبيتُ النبوة بيتُ المكَارم، والرغبات إليهم في الاستزادة.
    ( كتاب الوفا بأحوال المصطفى )


    106 - نصرة الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم :

    قال ابن عقيل:
    ان الله سبحانه يُمْهل الكذاب يسيراً ثم يستأصله بالعذاب.
    فيجوز أن يُمَّهل من يكذب عليه سنين، ثم يثبِّت شريعته بعده؟
    وقد أقدم على نسخ شريعتين قبله، وحلَّل السَّبْت، ثم ينصر أتباعه على الأمم ويؤيد حكمته بالإِعجاز؟
    حاشاه أن يفعل ذلك، إذ لو فعله لم يُتَبين الصدقُ من المحال.
    ألم تسمعه تعالى يقول: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأٌّقَاوِيلِ }..
    فمن طعن في صدقه طعن في عدل الباري وحكمته؛ لأن الطعن يتوجه على المعِين.
    ولقد فاضت أشعةُ معجزاته على أصحابه، فكتب عمر إلى نيل مصر ونادى ساريةَ فأسمعه، وجيء بكنوز كسرى فقسِّمت في مسجده صلى الله عليه وسلم.
    ( كتاب الوفا بأحوال المصطفى )


    107 -الصِّرْفة :
    كان المرتضَى العَلَوي يقول بالصِّرْفة، وأن الله تعالى صرف العرب عن الإِتيان بمثل القرآن، لا أنهم عجزوا.

    قال ابن عقيل:
    الصَّرْفُ عن الإِتيان بمثله دالٌّ على أن القدرة لهم حاصلة، فإن كان في الصَّرْف نوعُ إعجاز، إلا أن كونَ القرآن في نفسه ممتنعاً على الإِتيان بمثله لمعنىً نعود إليه أكبرُ في الدلالة وأعلَمُ لفضيلة القرآن.
    وما قولُ مَنْ قال بالصِّرْفة إلا بمثابة مَنْ قال: إن عيون الناظرين إلى عصى موسى تخيَّل لهم أنها حية وثعبان، لا أنها في نفسها انقلبت
    والتحدِّي للمصروف عن الشيء لا يَحْسُن، كما لا يُتَحدَّى العَجم بالعربية.
    ( كتاب الوفا بأحوال المصطفى )


    108- لمَ لم يولد النبي (صلى الله عليه وسلم ) مطهَّر القلب من حظ الشيطان، حتى شُقَّ صدره وأخرج قلبه؟

    قال ابن عَقِيل:
    لأن الله سبحانه أخفى أدْون التطهيريْن الذي جرت العادة أن تفعله القابلة والطبيب....، وأظهر أشرَفهما وهو القلب، فأظهر آثار التجمل والعناية بالعصمة في طرقات الوحي.
    ( كتاب الوفا بأحوال المصطفى )


    109-عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم» .

    قال ابن عقيل:
    لما كان الراعي يحتاج إلى سِعَة خلق وانشراح صدر للمداراة، وكان الأنبياء مُعَدِّين لإِصلاح الأمم حَسُن هذا في حقهم.
    ( كتاب الوفا بأحوال المصطفى )


    110 -الباطنية والظاهرية:

    قال ابن عقيل:
    هلك الإسلام بين طائفتين بين الباطنية والظاهرية .
    فأما أهل البواطن فإنهم عطلوا ظواهر الشرع بما أدعوه من تفاسيرهم التي لا برهان لهم عليها حتى لم يبق في الشرع شيء إلا وقد وضعوا وراءه معنى ، حتى اسقطوا إيجاب الوجب والنهي عن المنهي.
    وأما أهل الظاهر فإنهم أخذوا بكل ما ظهر مما لا بد من تأويله فحملوا الأسماء والصفات على ما عقلوه.
    والحق بين المنزلتين ، وهو أن تأخذ بالظاهر ما لم يصرفنا عنه دليل، ونرفض كل باطن لا يشهد به دليل من أدلة الشرع.
    ( تلبيس إبليس)


    111 - الرافضة :

    قال ابن عقيل:
    الظاهر أن من وضع مذهب الرافضة قصد الطعن في أصل الدين والنبوة ، وذلك أن الذي جاء به رسول الله أمر غائب عنا وإنما نثق في ذلك بنقل السلف وجودة نظر الناظرين إلى ذلك منهم ، فكأننا نظرنا إذ نظر لنا من نثق بدينه وعقله .
    فإذا قال قائل أنهم أول ما بدأوا بعد موته بظلم أهل بيته في الخلافة وابنته في إرثها وما هذا إلا لسوء اعتقاد في المتوفى، فان الإعتقادات الصحيحة سيما في الأنبياء توجب حفظ قوانينهم بعدهم لا سيما في أهليهم وذريتهم ، فإذا قالت الرافضة أن القوم استحلوا هذا بعده خابت آمالنا في الشرع لأنه ليس بيننا وبينه إلا النقل عنهم والثقة بهم .
    فإذا كان هذا محصول ما حصل لهم بعد موته خبنا في المنقول وزالت ثقتنا فيما عولنا عليه من اتباع ذو العقول ، ولم نأمن أن يكون القوم لم يروا ما يوجب اتباعه فراعوه مدة الحياة وانقلبوا عن شريعته بعد الوفاة ولم يبق على دينه إلا الأقل من أهله ، فطاحت الإعتقادات وضعفت النفوس عن قبول الروايات في الأصل وهو المعجزات فهذا من أعظم المحن على الشريعة .
    ( تلبيس إبليس)

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jun 2013
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    33
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    مقالات أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي في كتب متنوعة ( تابع ) :



    112 - قلوب أهل الإلحاد :

    قال أبو الوفاء علي بن عقيل رضي الله عنه:
    صبئت قلوب أهل الإلحاد لانتشار كلمة الحق وثبوت الشرائع بين الخلق والإمتثال لأوامرها ، كابن الراوندي ومن شاكله كأبي العلاء .. ثم مع ذلك لا يرون لمقالتهم نباهة ولا أثرا ، بل الجوامع تتدفق زحاما والاذانات تملأ أسماعهم بالتعظيم لشأن النبي صلى الله عليه وسلم ، والإقرار بما جاء به وإنفاق الأموال والأنفس في الحج مع ركوب الأخطار ومعاناة الأسفار ومفارقة الأهل والأولاد ، فجعل بعضهم يندس في أهل النقل فيضع المفاسد على الأسانيد ويضع السير والأخبار ، وبعضهم يروي ما يقارب المعجزات من ذكر خواص في أحجار وخوارق العادات في بعض البلاد وأخبار عن الغيوب عن كثير من الكهنة والمنجمين ويبالغ في تقرير ذلك ، حتى قالوا أن سطيحا قال في الخبيء الذي خبىء له حبة بر في إحليل مهر ، والأسود كان يعظ ويقول الشيء قبل كونه ، وههنا اليوم معزمون يكلمون الجني الذي في باطن المجنون فيكلمهم بما كان ويكون وما شاكل ذلك من الخرافات .
    فمن رأى مثل هذا قال بقلة عقلة وقلة تلمحه لقصد هؤلاء الملحدة وهل ما جاءت به النبوات إلا مقارب هذا؟ وليس قول الكاهن حبة بر في إحليل مهر وقد أخفيت كل الاخفاء بأكثر من قوله ( وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ) ؟ وهل بقي لهذا وقع في القلوب وهذا التقويم ينطق بالمنع من الركوب اليوم ؟ وهل ترك تلمح هذا إلا النبي ؟
    والله ما قصدوا بذلك إلا قصدا ظاهرا ولمحوا إلا لمحا جليا ، فقالوا تعالوا نكثر الجولان في البلاد والأشخاص والنجوم والخواص فلا يخلو مع الكثرة من مصادفة الاتفاق لواحدة من هذه فيصدق بها الكل ، ويبطل أن يكون ما جاء به الأنبياء خرقا للعادات .
    ثم دس قوم من الصوفية أن فلانا أهوى بانائه إلى دجلة فامتلأ ذهبا، فصار هذا كالعادة بطريق الكرامات من المتصوفين ، وبطريق العادات في حق المنجمين ، وبطريق الخواص في حق الطبايعين ، وبطريق الكهانة في حق المعزمين والعرافين ، فأي حكم بقي لقول عيسى عليه السلام وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ؟ وأي خرق بقي للعادات ؟ وهذا العادات إلا استمرار الوجود وكثرة الحصول !
    فإذا نبههم العاقل المتدين على ما في هذا من الفساد ، قال الصوفي أتنكر كرامات الأولياء ؟ وقال أهل الخواص أتنكر المغناطيس الذي يجذب الحديد والنعامة تبلع النار ؟ فتسكت عن جحد ما لم يكن لأجل ما كان ، فويل للمحق معهم .
    هذا والباطنية من جانب والمنجمون من جانب مع أرباب المناصب لا يحلون ولا يعقدون إلا بقولهم . فسبحان من يحفظ هذه الملة ويعلي كلمتها حتى أن كل الطوائف تحت قهرها إقبالا من الله عز وجل على حراسة النبوات وقمعا لأهل المحال .
    (تلبيس إبليس )


    113 - ذم علم الكلام :

    قال أبو الوفاء بن عقيل لبعض أصحابه :
    أنا أقطع ان الصحابة ماتوا وما عرفوا الجوهر والعرض ، فإن رضيت أن تكون مثلهم فكن ، وإن رأيت أن طريقة المتكلمين أولى من طريقة أبي بكر وعمر فبئس ما رأيت .
    وقد أفضى الكلام بأهله إلى الشكوك ، وكثير منهم إلى الإلحاد ، تشم روائح الإلحاد من فلتات كلام المتكلمين . وأصل ذلك أنهم ما قنعوا بما قنعت به الشرائع وطلبوا الحقائق ، وليس في قوة العقل إدراك ما عند الله من الحكمة التي أنفرد بها ، ولا أخرج الباري من علمه لخلقه ما علمه هو من حقائق الأمور .
    وقد بالغت في الأول طول عمري ثم عدت القهقري إلى مذهب الكتب. وإنما قالوا إن مذهب العجائز أسلم لأنهم لما انتهوا إلى غاية التدقيق في النظر لم يشهدوا ما ينفي العقل من التعليلات والتأويلات فوقفوا مع مراسم الشرع ، وجنحوا عن القول بالتعليل ، وأذعن العقل بأن فوقه حكمة إلهية فسلم .
    وبيان هذا أن نقول أحب أن يعرف ، أراد أن يذكر ، فيقول قائل: هل شغف باتصال النفع ؟ هل دعاه داع إلى إفاضة الإحسان ؟ ومعلوم أن للداعي عوارض على الذات وتطلبات من النفس ، وما تعقل ذلك إلا الذات يدخل عليها داخل من شوق إلى تحصيل ما لم يكن لها وهي إليه محتاجة ، فإذا وجد ذلك العرض سكن الشغف وفتر الداعي ، وذلك الحاصل يسمى غنى ، والقديم لم يزل موصوفا بالغني منعوتا بالاستقلال بذاته الغنية عن استزادة أو عارض .
    ثم إذا نظرنا في إنعامه رأيناه مشحونا بالنقص والآلام وأذى الحيوانات ، فإذا رام العقل أن يعلل بالإنعام جاء تحقيق النظر فرأى أن الفاعل قادر على الصفاء ولا صفاء ، ورآه منزها بأدلة العقل عن البخل الموجب لمنع ما يقدر على تحصيله ، وعن العجز عن دفع ما يعرض لهذه الموجودات من الفساد ، فإذا عجز عن التعليل كان التسليم أولى . وإنما دخل الفساد من أن الخلق اقتضاؤه الفوائد ودفع المضار على مقتضى قدرته ، ولو مزجوا في ذلك العلم بأنه الحكيم لاقتضت نفوسهم له التسليم فعاشوا في بحبوحة التفويض بلا اعتراض .
    (تلبيس إبليس )


    114 -الرد على السوفسطاءية :

    قال ابن عقيل :
    إن أقواما قالوا كيف نكلم هؤلاء -السوفسطاءية - ؟ وغاية ما يمكن المجادلة أن يقرب المعقول إلى المحسوس ويستشهد بالشاهد فيستدل به على الغائب ، وهؤلاء لا يقولون بالمحسوسات فبم يكلمون ؟
    وهذا كلام ضيق العطن ، ولا ينبغي أن يوئس عن المعالجة هؤلاء فإن ما اعتراهم ليس بأكثر من الوسواس ، ولا ينبغي أن يضيق عطننا من معالجتهم ، فإنهم قوم أخرجتهم عوارض انحراف مزاج ، وما مثلنا ومثلهم إلا كرجل رزق ولدا أحول فلا يزال يرى القمر بصورة قمرين ، حتى إنه لم يشك أن في السماء قمرين ، فقال له أبوه القمر واحد وإنما السوء في عينيك غض عينك الحولاء وأنظر ، فلما فعل قال أرى قمرا واحدا لأني عصبت إحدى عيني فغاب أحدهما، فجاء من هذا القول شبهة ثانية ، فقال له أبوه إن كان ذلك كما ذكرت فغض الصحيحة ، ففعل فرأى قمرين ، فعلم صحة ما قال أبوه .
    (تلبيس إبليس ).


    115 -التسبب لا يقدح في التوكل :

    قال ابن عقيل :
    التسبب لا يقدح في التوكل ، لأن تعاطى رتبة ترقى على رتبة الأنبياء نقص في الدين ، ولما قيل لموسى عليه السلام ( إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك ) خرج ، ولما جاع واحتاج إلى عفة نفسه أجر نفسه ثمان سنين . وقال الله تعالى ( فامشوا في مناكبها ) ، وهذا لأن الحركة استعمال بنعمة الله وهي القوى ، فاستعمل ما عندك ثم أطلب ما عنده ، وقد يطلب الإنسان من ربه وينسى ما له عنده من الذخائر ، فاذا تأخر عنه ما يطلبه يسخط ، فترى بعضهم يملك عقارا وأثاثا فاذا ضاق به القوت واجتمع عليه دين فقيل له لو بعت عقارك قال كيف أفرط في عقاري وأسقط جاهي عند الناس ، وإنما يفعل هذه الحماقات العادات ، وإنما قعد أقوام عن الكسب استثقالا له فكانوا بين أمرين قبيحين إما تضييع العيال فتركوا الفرائض ، أو التزين باسم انه متوكل فيحن عليهم المكتسبون فضيقوا على عيالهم لأجلهم وأعطوهم ، وهذه الرذيلة لم تدخل قط إلا على دنيء النفس الرذيلة، وإلا فالرجل كل الرجل من لم يضيع جوهره الذي أودعه الله إيثارا للكسل أو لإسم يتزين به بين الجهال ، فان الله تعالى قد يحرم الانسان المال ويرزقه جوهرا يتسبب به إلى تحصيل الدنيا بقبول الناس عليه.
    (تلبيس إبليس)


    116 - الاحتياط مع التوكل :

    قال ابن عقيل :
    يظن أقوام ان الاحتياط والاحتراز ينافي التوكل ، وإن التوكل هو إهمال العواقب وإطراح التحفظ ، وذلك عند العلماء هو العجز والتفريط الذي يقتضي من العقلاء التوبيخ والتهجين ، ولم يأمر الله بالتوكل الا بعد التحرز واستفراغ الوسع في التحفظ ، فقال تعالى (وشاورهم في الأمر ) ( فإذا عزمت فتوكل على الله ) ، فلو كان التعلق بالاحتياط قادحا في التوكل لما خص الله به نبيه حين قال له (وشاورهم في الأمر ) ، وهل المشاورة الا استفادة الرأي الذي منه يؤخذ التحفظ والتحرز من العدو؟ ولم يقنع في الاحتياط بأن يكله إلى رأيهم واجتهادهم حتى نص عليه وجعله عملا في نفس الصلاة وهي أخص العبادات فقال ( فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم ) وبين علة ذلك بقوله تعالى ( ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ) . ومن علم أن الإحتياط هكذا لا يقال أن التوكل عليه ترك ما علم لكن التوكل التفويض فيما لا وسع فيه ولا طاقة . قال عليه الصلاة والسلام ( اعقلها وتوكل) ، ولو كان التوكل ترك التحرز لخص به خير الخلق صلى الله عليه وسلم
    في خير الأحوال وهي حالة الصلاة ، وقد ذهب الشافعي رحمه الله إلى وجوب حمل السلاح حينئذ بقوله ( وليأخذوا أسلحتهم ) .
    فالتوكل لا يمنع من الإحتياط والاحتراز ، فإن موسى عليه السلام لما قيل له ( إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك) خرج ونبينا صلى الله عليه وسلم خرج من مكة لخوفه من المتآمرين عليه ، ووقاه أبو بكر رضي الله عنه بسد أثقاب الغار ، وأعطى القوم التحرز حقه ثم توكلوا .
    وقال عز وجل في باب الإحتياط (لا تقصص رؤياك على إخوتك ) وقال ( لا تدخلوا من باب واحد ) وقال ( فامشوا في مناكبها ) وهذا لأن الحركة للذب عن النفس إستعمال لنعمة الله تعالى، وكما أن الله تعالى يريد إظهار نعمة المبدأة يريد إظهار وداعه فلا وجه لتعطيل ما أودع اعتمادا على ما جاد به ، لكن يجب استعمال ما عندك ثم أطلب ما عنده .
    وقد جعل الله تعالى للطير والبهائم عدة وأسلحة تدفع عنها الشرور كالمخلب والظفر والناب وخلق للآدمي عقلا يقوده إلى حمل والأسلحة ويهديه إلى التحصين بالأبنية والدروع ، ومن عطل نعمة الله بترك الاحتراز فقد عطل حكمته، كمن يترك الأغذية والأدوية ثم يموت جوعا أو مرضا . ولا أبله ممن يدعي العقل والعلم ويستسلم للبلاء، إنما ينبغي أن تكون أعضاء المتوكل في الكسب وقلبه ساكن مفوض إلى الحق منع أو أعطى لأن لا يرى إلا أن الحق سبحانه وتعالى لا يتصرف إلا بحكمة ومصلحة ، فمنعه عطاء في المعنى ، وكم زين للعجزة عجوزهم وسولت لهم أنفسهم أن التفريط توكل فصاروا في غرورهم بمثابة من اعتقد التهور شجاعة والخور حزما ، ومتى وضعت أسباب فاهملت كان ذلك جهلا بحكمة الواضع ، مثل وضع الطعام سببا للشبع والماء للري والدواء للمرض . فإذا ترك الإنسان ذلك إهوانا بالسبب ثم دعا وسأل فربما قيل له قد جعلنا لعافيتك سببا فإذا لم تتناوله كان إهوانا لعطائنا فربما لم نعافك بغير سبب لإهوانك للسبب ، وما هذا إلى بمثابة من بين قراحة وماء الساقية رفسه بمسحاة فأخذ يصلي صلاة الاستسقاء طلبا للمطر فإنه لا يستحسن منه ذلك شرعا ولا عقلا .
    (تلبيس إبليس )


    117 -في قول الصوفية : لا نخاف من رؤية الصور المستحسنة :

    قال ابن عقيل :
    قول من قال لا أخاف من رؤية الصور المستحسنة ليس بشيء، فان الشريعة جاءت عامة الخطاب لا تميز الأشخاص وآيات القرآن تنكر هذه الدعاوى . قال الله تعالى ( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ) وقال ( أفلا ينظرون إلا الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت) فلم يحل النظر إلا على صور لا ميل للنفس اليها ولاحظ فيها ، بل عبرة لا يمازجها شهوة ولا تعتريها لذة ، فأما صور الشهوات فانها تعبر عن العبرة بالشهوة ، وكل صورة ليست بعبرة لا ينبغي أن ينظر اليها لأنها قد تكون سببا للفتنة ، ولذلك ما بعث الله تعالى امرأة بالرسالة ولا جعلها قاضيا ولا إماما ولا مؤذنا ، كل ذلك لأنها محل فتنة وشهوة ، وربما قطعت عما قصدته الشريعة بالنظر ، وكل من قال أنا أجد من الصور المستحسنة عبرا كذبناه ، وكل من ميز نفسه بطبيعة تخرجه عن طباعنا بالدعوى كذبناه ، وإنما هذه خدع الشيطان.
    ( تلبيس إبليس )


    118 -تحريم الرقص :

    قال أبو الوفاء بن عقيل:
    قد نص القرآن على النهي عن الرقص ، فقال عز وجل ( ولا تمش في الأرض مرحا) ، وذم المختال فقال الله تعالى : ( إنه لا يحب كل مختال فخور) والرقص أشد المرح والبطر. أو لسنا الذين قسنا النبيذ على الخمر لاتفاقهما في الاطراب والسكر ، فما بالنا لا نقيس القضيب وتلحين الشعر معه على الطنبور والمزمار والطبل لاجتماعهما في الاطراب ؟ وهل شيء يزري بالعقل والوقار ويخرج عن سمت الحلم والأدب أقبح من ذي لحية يرقص ؟ فكيف اذا كانت شيبة ترقص وتصفق على وقاع الألحان والقضبان خصوصا إذا كانت أصوات نسوان ومردان ؟ وهل يحسن بمن بين يديه الموت السؤال والحشر والصراط ثم هو إلى إحدى الدارين صائرا أن يشمس بالرقص شمس البهائم ويصفق تصفيق النسوة ؟ والله لقد رأيت مشايخ في عصري ما بان لهم سن في تبسم فضلا عن ضحك مع إدمان مخالطتي لهم كالشيخ أبي القاسم بن زيدان وعبد الملك بن بشران وأبي طاهر بن العلاف والجنيد والدينوري حالات الطرب الشديدة لدى الصوفية .
    ( تلبيس إبليس )


    119 -رقص الصوفية احتجاجا بقوله تعالى لأيوب ( أركض برجلك ) :

    قال ابن عقيل:
    أين الدلالة في مبتلى أمر عند كشف البلاء بأن يضرب برجله الأرض لينبع الماء إعجازا من الرقص ؟ !
    ولئن جاز أن يكون تحريك رجل قد أنحلها تحكم الهوام دلالة على جواز الرقص في الإسلام ، جاز أن يجعل قوله تعالى لموسى (اضرب بعصاك الحجر ) دلالة على ضرب الجماد بالقضبان . نعوذ بالله من التلاعب بالشرع.
    ( تلبيس إبليس )


    120 -ما يدعيه الصوفية من العشق لله :

    سمع ابن عقيل بعض الصوفية يقول أن مشايخ هذه الطائفة كلما وقفت طباعهم حداها الحادي إلى الله بالأناشيد .
    فقال ابن عقيل :
    لا كرامة لهذا القائل ، إنما تحدى القلوب بوعد الله في القرآن ووعيده وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، لأن الله سبحانه وتعالى قال (وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا ) وما قال وإذا أنشدت عليه القصائد طربت ، فأما تحريك الطباع بالألحان فقاطع عن الله ، والشعر يتضمن صفة المخلوق والمعشوق مما يتعدد عنه فتنه ، ومن سولت له نفسه التقاط العبر من محاسن البشر وحسن الصوت فمفتون . بل ينبغي النظر إلى المحال التي أحالنا عليها الإبل والخيل والرياح ونحو ذلك ، فانها منظورات لا تهيج طبعا بل تورث استعظاما للفاعل.وإنما خدعكم الشيطان فصرتم عبيد شهواتكم ولم تقفوا حتى قلتم هذه الحقيقة ، وأنتم زنادقة في زي عباد ، شرهين في زي زهاد ، مشبهة تعتقدون أن الله عز وجل يعشق ويهام فيه ويؤلف ويؤنس به وبئس التوهم ، لأن الله عز وجل خلق الذوات مشاكلة لأن أصولها مشاكلة ، فهي تتوانس وتتألم بأصولها العنصرية وتراكيبها المثلية في الأشكال الحديثة ، فمن ههنا جاء التلاوم والميل وعشق بعضهم بعضا، وعلى قدر التقارب في الصورة يتأكد الأنس .
    والواحد منا يأنس بالماء لأن فيه ماء ، وهو بالنبات آنس لقربه من الحيوانية بالقوة النمائية ، وهو بالحيوان آنس لمشاركته في أخص النوع به أو أقربه إليه ، فأين المشاركة للخالق والمخلوق حتى يحصل الميل إليه والعشق والشوق ؟ وما الذي بين الطين والماء وبين خالق السماء من المناسبة ؟ وإنما هؤلاء يصورون الباري سبحانه وتعالى صورة تثبت في القلوب ، وما ذاك الله عز وجل ، ذاك صنم شكله الطبع والشيطان ، وليس لله وصف تميل إليه الطباع ولا تشتاق إليه الأنفس، وإنما مباينة الإلهية للمحدث أوجبت في الأنفس هيبة وحشمة، فما يدعيه عشاق الصوفية لله في محبة الله إنما هو وهم اعترض ، وصورة شكلت في نفوس فحجبت عن عبادة القديم فتجدد بتلك الصورة أنس ، فاذا غابت بحكم ما يقتضيه العقل أقلقهم الشوق اليها فنالهم من الوجد وتحرك الطبع والهيمان ما ينال الهائم في العشق، فنعوذ بالله من الهواجس الرديئة والعوارض الطبيعية التي يجب بحكم الشرع محوها عن القلوب كما يجب كسر الأصنام.
    ( تلبيس إبليس )


    121 -معاقبة أبي يزيد نفسه بترك الماء :

    قال ابن الجوزي : معاقبة أبي يزيد نفسه بترك الماء سنة فانها حالة مذمومة لا يراها مستحسنة إلا الجهال.
    قال ابن عقيل :
    وليس للناس إقامة العقوبات ولا استيفاؤها من أنفسهم ، يدل عليه أن إقامة الإنسان الحد على نفسه لا يجزئ ، فان فعله أعاده الإمام ، وهذه النفوس ودائع الله عز وجل ، حتى ان التصرف في الأموال لم يطلق لأربابها الا على وجوه مخصوصة.
    ( تلبيس إبليس )


    122 - إنسان من الباطنية :

    قتل إنسان باطني على باب النوبي أتى من قلاعهم بخوزستان، وشهد عليه بمذهبه شاهدان دعاهما هو إلى مذهبه، فأفتى الفقهاء بقتله منهم ابن عقيل وكان من أشدهم عليه .
    فقال له الباطني: كيف تقتلوني وأنا أقول لا إله إلا اللّه ؟
    قال ابن عقيل: أنا اقتلك.
    قال: بأي حجة ؟
    قال: بقول اللّه عز وجل: "فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين . فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا".
    (المنتظم )


    123 -الخبيث ابن الريوندي :

    قال ابن عقيل :
    كان الخبيث ابن الريوندي قد سمى كتابه الذي اعترض به على الشريعة الإسلامية المعصومة على اعتراض مثله من الملحدين كتاب الزمرد، فأخذ أبو علي الجبائي يعيبه في تسميته بالزمرد، ويذهب إلى أنه أخطأ وجهل في تلقيب العلم بالجواهر، وأن أهل العلم لا يعيرون العلوم أسماء ما دونها والجواهر ناقصة بالإضافة إلى العلوم، فأزرى عليه بذلك ظناً منه أنه قصد تلقيبه بالزمرد إعارة له اسم النفيس من الجواهر.
    فوجدنا في بعض كلامه من كتاب أخر ما أبان به عن غير ذلك مما هو أخبث مما ظنه أبو علي، فقال: إن للزمرد خاصة هي أنه إذا رآه الأفعى وسائر الحيات عميت . قال: فكان قصدي أن الشبهة التي أودعتها الكتاب تعمي حجج المحتجين ! فاعتقد ما أورده عاملاً في حجج الشرع حسب ما أثر الزمرد في حدق الحيات، فانظروا إلى استقصائه في الازدراء بالشرائع.
    قال ابن عقيل:
    وعجبي كيف عاش وقد صنف الدامغ، يزعم أنه قد دمغ به القرآن، والزمرد يزري به على النبوات، ثم لا يقتل ! وكم قد قتل لص في غير نصاب ولا هتك حرز، وإنما سلم مدة وعاش، لأن الإيمان ما صفا في قلوب أكثر الخلق بل في القلوب شكوك وشبهات، وإلا فلما صدق إيمان بعض الصحابة قتل أباه.
    ومن بلهه تتبعه للقرآن وقد مر على مسامع سادات العرب، فدهش الكل منه وعجز الفصحاء عنه، فطمع هو من جهله باللغة أن يستدرك عليهم، فأبان عن فضيحته.
    (المنتظم )



    124 -شذرة :

    قال ابن عقيل:
    لا ينبغي أن يُتعجَّب من حنين الجذع ومجيء الأشجار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن مَنْ جَعل في المغناطيس خاصيةً تجذب الحديد إليه، يجوز أن يجعل في الرسول خاصية تجذب إليه.
    (الوفا بأحوال المصطفى)



    125 -حديث( لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه ) :

    قال أبو الوفاء بن عقيل:
    تعالى الله أن يكون له صفة تشغل الأمكنة هذا عين التجسيم ، ثم إنه لا يعمل في النار أمره وتكوينه حتى يستعين بشيء من ذاته ، وهو القائل للنار ( كوني بردا وسلاما ) . فمن أمر نارا - أججها غيره - بانقلاب طبعها عن الإحراق لا يضع في نار أججها بأن يأمرها بالإنزواء حتى يعالجها بصفة من صفاته ، ما أسخف هذا الإعتقاد وأبعده عن المكون للأفلاك والأملاك ، وقد نطق القرآن بتكذيبهم فقال تعالى ( لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها ) فكيف يظن بالله تعالى أنه وردها ؟
    تعالى الله عن تخاييل المتوهمة المجسمة .
    ( كتاب كشف المشكل)


    126 - الحديث ( بعثت إلى الخلق كافة ) :

    قال ابن الجوزي : وجدت بخط ابن عقيل قال :
    جاءت فتوى من دمشق ما تقولون في هذا الحديث ( بعثت إلى الخلق كافة ) ، والنظر والتأمل يمنع صحة هذا ، لأنه إذا كان النبي مبعوثا إلى قوم يبلغ من تعدته إلى غيرهم ، لأن صفة التخصص في الإرسال لا تقتضي العموم ، كما لو قال القائل لرسوله اذهب إلى بني تميم فإنه إذا تعدى إلى بني عدي كان مخالفا ، فلو كان موسى مخصوصا ببني إسرائيل ثم جاءه غيرهم من الأمم يسألونه عما جاء به لم يجز له كتمانه عنهم ولا أن يقول إني غير مبعوث إليكم ، بل كان الواجب عليه إجابة الترك والفرس والعرب وكل من سأله عن الأحكام التي جاء بها بما بعث به إلى بني إسرائيل ، بل كان لا يجوز له أن يجيب أحدا من هؤلاء إذا كان مبعوثا إلى بني إسرائيل خاصة. قال السائل : وأيضا إذا قال له مر بني إسرائيل بالصلاة ومن زنى من بني إسرائيل فعاقبه على زناه لم يجز أن يعاقب غيرهم على الزنا، وهذا كالحكم إذا علق على غاية لا يتعدى إلى غيرها ، فإن قلنا إنه منع من إرشاد من جاء إليه للإسترشاد من أنواع الخلق لم يجز ذلك ، وإذا بطل هذان القسمان ثبت أن كل رسول إنما بعث إلى جميع الخلق ، وليس لقائل أن يقول أنه أرسل إلى بني إسرائيل خاصة والناس بالخيار بين اتباعه وتركه .
    قال السائل : وطريقة أخرى وهو أن الله تعالى رفع العذاب عن الخلق مع عدم الرسل بقوله ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) ، وأثبت الحجة على الخلق ببعثه الرسل ، وقد ثبت أن الله تعالى أهلك جميع أهل الأرض بالطوفان وما ذلك إلا لمخالفة نوح فلو لم يكن مرسلا إلى جماعتهم لما أهلكهم بمخالفته ودعا عليهم ، وليس لقائل أن يقول : فقد قال في حق نوح ( إنا أرسلنا نوحا إلى قومه ) ( وإلى مدين أخاهم شعيبا ) فقد خصص مثل ذلك نبينا بقوله ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) فامتن على قريش بذلك .
    فأجاب حنبلي محقق في الأصول - يعني ابن عقيل نفسه - فقال :
    إن خصيصة النبي {صلى الله عليه وسلم} حاصلة من جهة خفية عن كثير من العلماء ، وذلك أن شريعة نبينا {صلى الله عليه وسلم} جاءت ناسخة لكل شريعة قبلها ، فلم يبق يهودية ولا نصرانية ولا دين من سائر الأديان التي جاءت بها النبوات إلا أمر بتركها ودعا إلى شريعته ، ومعنى قوله ( ( كل نبي بعث إلى قومه ) ) المراد أنه قد كان يجتمع في العصر الواحد نبيان يدعو كل واحد منهما إلى شريعة تختصه ولا يدعو الأمة التي بعث فيها غيره إلى دينه ولا يصرف عنه ولا ينسخ ما جاء به الآخر ، فهذه خصيصة لم تكن لأحد قبله ، حتى إن نوحا لم ينقل أنه كان معه نبي فدعا إلى ملته ملة ذلك النبي ولا نسخها وهذا يدفع ما قالوا وقدروه من الأسئلة وعقبوه بالأجوبة، ويوضح هذا أنه لما وجد ورقة من التوراة بيد عمر قال ( ( ألم آتكم بها بيضا نقية والله لو أدركني موسى لما وسعه إلا اتباعي ) ) لأنه لا يقدر عيسى أن يقول في التوراة ولا في حق موسى هذه المقالة، فعلم أن هذه الخصيصة التي امتاز بها عن جميع الأنبياء دون ما توهمه السائل من البعثة العامة إلى جميع الناس ودون أرباب الشرائع والله أعلم.
    ( كتاب كشف المشكل)



    127 -حديث (ان ربكم ليس بأعور) :

    قال أبو الوفاء بن عقيل :
    يحسب بعض الجهال أنه لما نفي العور عن الله تعالى أثبت من الخطاب أنه ذو عينين ، وهذا بعيد من الفهم ، إنما نفي عن الله تعالى العور من حيث نفي النقائض ، وهذا مثل ما نفي الولد عنه لا يريد به
    ( لم يلد ) لأنه ذكر وليس بأنثى ولا أنه يتأتى منه ، لكن لم يلد لأنه مستحيل عليه التجزؤ والانقسام ، ولو كانت الإشارة بالحديث إلى صورة كاملة لم يكن في ذلك دليل على الإلهية ولا القدم فإن الكامل في الصورة كثير وما يشارك فيه المحدث لا يكون خصيصة القدم والإلهية، ولو كان العور دلالة على نفس الإلهية لكان الكمال في الصورة دلالة على إثباتها ، أتراه لم يجد في الدجال ما يستدل به على نفي الإلهية إلا العور ، حاشاه أن يقصد ذلك وفي الدجال من النقلة والتحرك وركوب الحمار وأكل الطعام وغير ذلك ما يدل على الحدث، فلما عدل إلى ذكر العور دل على أنه أراد أن الإله لا تلحقه النقائض، وأما المكتوب بين عيني الدجال فلزيادة فضيحته وتسليط المؤمن على القراءة لذلك المكتوب وإن لم يكن قارئا أكرم له بكشف الشبهات عن وجهه.
    ( كتاب كشف المشكل)


    128 -حديث(لا كسرى ولا قيصر) :

    قال ابن الجوزي : إن قال قائل قدروا صحة هذا في كسرى فكيف بقيصر ومملكة الروم إلى اليوم باقية ؟
    فقد أجاب عن هذا أبو الوفاء بن عقيل فقال :
    كانت العرب بين هذين الملكين كالكرة يلعبان بهم ويحملون إليهما الهدايا ، فلما جاء الإسلام صارت كلمة العرب العليا ، فلا كسرى ولا قيصر من حيث المعنى ، إنما هو اسم فارغ من المعنى.
    ( كتاب كشف المشكل)



    129 -حديث ( ولا أحد أحب إليه المدح من الله) :

    قال ابن عقيل:
    قال بعض العامة : إذا كان الله عز وجل يحب المدح فكيف لا نحبه نحن ؟
    وهذا غلط ، لأن حب الله للمدحة ليس من جنس ما يعمل من حبنا للمدح ، وإنما الله سبحانه أحب الطاعات ومن جملتها مدحه ليثيب على ذلك فينتفع المكلف ولا ينتفع هو بالمدح ، ونحن نحب المدح لننتفع به ويرتفع قدرنا في قومنا .
    ( كتاب كشف المشكل)



    130 - ما فائدة نسخ رسم آية الرجم من المصحف مع كون حكمها باقيا ولو كانت في المصحف لاجتمع العمل بحكمها وثواب تلاوته؟

    قال ابن عقيل :
    إنما كان ذلك ليظهر به مقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن من غير استقصاء لطلب طريق مقطوع به، فيسرعون قنوعا بأسرع شيء ، كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام والمنام أدنى طرق الوحي.
    ( كتاب كشف المشكل)



    131 -الحديث ( كان رسول الله يعطيني العطاء فأقول أعطه من هو أفقر إليه مني ، فقال خذه وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف له ولا سائل فخذه ومالا فلا تتبعه نفسك) :

    قال علي بن عقيل:
    معنى الحديث ما جاء بمسألتك فإنك اكتسبت فيه الطلب والسؤال، ولعل المسئول استحيا أو خاف ردك فأعطاك مصانعة ، ولا خير في مال خرج لا عن طيب نفس ، وما استشرفت إليه نفسك فقد انتظرته وارتقبته فلنفسك فيه نوع استدعاء ، وما جاء من غير ذلك فإنما كان المزعج فيه للقلوب نحوك والمستسعي للإقدام إليك الخالق سبحانه فمتى رددته رددت في الحقيقة على المعطي ، لأن المعطي هو الذي أهاج نحوك القلوب وحنن عليك النفوس ، فلما كان هو الذي تولى سوقه إليك كان ردك له ردا عليه.
    ( كتاب كشف المشكل)



    132 -الحديث( خلق الله آدم على صورته ) :

    قال ابن الجوزي :
    أن - الهاء - ترجع إلى الله سبحانه فهي مضافة إضافة ملك لا إضافة ذات كما أضاف الروح التي نفخت في آدم إليه فقال ( ونفخت فيه من روحي ) وهذا مذهب ابن عقيل .
    قال ابن عقيل :
    وإنما خص آدم بإضافة الصورة إليه لخصيصة فيه ، وهي السلطنة التي تشاكل الإلهية استعبادا وسجودا واستخداما وأمرا نافذا وسياسات يعمر بها البلاد ويصلح بها من أمر العباد ، وليس في الجن والملائكة من يجتمع على طاعته نوعه وقبيله سوى الآدمي ، وهذه الصورة هي حال ، والصورة قد تقع على الحال ، فهذا موضع حمل الصورة على الصورة وهي حمل حال الخلافة والمملكة والسلطنة على حال الإلهية.
    ( كتاب كشف المشكل)


    133 - الحديث(ما كذب إبراهيم قط إلا ثلاث كذبات ، قوله إني سقيم وقوله بل فعله كبيرهم هذا وقوله عن سارة أختي ) :

    قال ابن الجوزي : اعلم أن الكذب لا يجوز على الأنبياء بحال فهذا أصل ينبغي أن يعتقد ولا يناقض بأخبار الآحاد فإنه ثابت بدليل أقوى منها ، وإنما المعنى أن إبراهيم قال قولا يشبه الكذب ..
    قال ابن عقيل:
    دلالة العقل تصرف ظاهر هذا اللفظ ، وذاك أن العقل قطع بأن الرسول ينبغي أن يكون موثوقا به ليعلم صدق ما جاء به عن الله ، ولا ثقة مع تجويز الكذب عليه فكيف مع وجود الكذب منه ، وإنما استعير ذكر الكذب لأنه بصورة الكذب فسماه كذبا مجازا ولا يجوز سوى هذا.
    ( كتاب كشف المشكل)



    134 -الحديث ( لقد عجب الله من صنيعكما ) :

    قال ابن عقيل :
    العجب في الأصل استغراب الشيء ، والإستغراب حقيقة علم ما لم يعلم ، وإلا فكل شيء أنس به لا يتصور العجب منه ، كما لو رأى إنسان حجر المغناطيس يجذب الحديد ولم يكن رآه قبلها فإنه يعجب ، أو رأى النعام تزدرد الجمر ..
    وإذا كان البارئ سبحانه لا يعزب عن علمه شيء ولا يصدر شيء إلا عن فعله وخلقه فأين العجب منه ؟ فلم يبق للحديث معنى إلا أن يكون فعل في حق هذا من الثواب والجزاء فعل من أعجبه فعله .
    وكذلك قوله ( ( ضحك الله ) ) لأن الضحك لا يصدر إلا عن راض غير ساخط فيكون المعنى يصدر عنه فعل الراضي الضاحك وإثابته.
    ( كتاب كشف المشكل)

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jun 2013
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    33
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    أركان الإسلام الخمسة على مذهب الإمام أحمد ابن حنبل ( من كتاب التذكرة في الفقه لأبي الوفاء بن عقيل الحنبلي ) :


    كتاب الطهارة :

    قال الله سبحانه : (وأنزلنا من السماء ماءً طهورا ) .
    الماء ي أصل خلقته طاهر مطهر يزيل الأحداث والأنجاس ما لم يخالطه شيء ..

    فصل :
    مسنون الطهارة عشرة :
    غسل اليدين قبل إدخالهما في الاناء ثلاثا ، والدلك والمبالغة في الاستنشاق ، وتخليل اللحية ، وتخليل ما بين الأصابع ، وغسل الميامين قبل المياسر ، والدفعتان العامة لجميع العضو بعد تعميمه بالأولى بين الغسلات ، ومسح العنق ، وأخذ ماء جديد للأذنين ، وغسل داخل اليدين.

    فصل :
    وفرائضها عشرة :
    النية ، والتسمية ، والمضمضة ، والاستنشاق ، وغسل الوجه ، وغسل اليدين الى المرفقين ، ويدخلهما في الغسل ، ومسح جميع الرأس في أصح الروايتين ، وغسل الرجلن الى الكعبين ، ويدخل الكعبين في الغسل، والترتيب ، والموالاة .

    فصل :
    في موجبات الغسل :
    خروج المني ، وانتقاله عن محله المعتاد ، والتقاء الختانين ، وإسلام الكافر ، والطهر من الحيض والنفاس ، والولادة إذا تعرت عن دم ..

    فصل : في صفة الغسل :
    وله حالتان : حالة كمال ، وحالة إجزاء :
    فحالة الكمال أن يبدأ بغسل الأذى ، ويتوضأ وضوءه للصلاة ، ثم يفرغ على رأسه ثلاثا ، وعلى يمينه ثلاثا ، وعلى يساره ثلاثا ، ويغسل مغابنه، وهو ما تحت إبطيه وحالبيه ، وغضاريف أذنيه ، وأصول شعره ، ثم يغسل قدميه في غير مقامه الأول .
    وصفة الإجزاء : أن يعم بالماء سائر بدنه ويدخل فيه باطن فمه وأنفه، ويستحب للمرأة أن تحل شعرها لغسل الحيض ، وتغسل مجاري الدم بطيب ..

    فصل : في الاستنجاء

    الاستنجاء واجب في الجملة ، فإذا كان النجو على نفس المخرج فهو مخير بين تخفيفه بالأحجار أو إزالته بالماء ، فإن كان بالأحجار اعتبر الإنقاء بالثلاث ، فإن لم ينق بهن زاد حتى ينقي ، وإن أنقى بدونهن أكمل الثلاث ولم يقنع بالإنقاء .
    وإن كان بالماء فسبع منقية ، فإن لم يحصل الإنقاء وجب أن يزيد حتى ينقي ليجتمع العدد والإنقاء .

    فصل :
    ويعتبر فيما يستجمر به ست خصال :
    أن يكون جامدا ، طاهرا ، منقيا ، غير مطعوم ، لا حرمة له ، ولا متصل بحيوان ، ولا يختص ذلك بالحجر بل يقاس عليه الخشب والخرق وكلما أنقى به .

    فصل :
    ويشمل قضاء حاجة الإنسان على آداب شتى :
    يقدم اليسرى في حال دخوله الخلاء ، ويؤخر اليمنى ، ويقدم اليمنى حال خروجه ، ويغطي رأسه ، ويعتمد على يسرى رجليه ، ويخلع ما عليه اسم الله من خاتم وما شاكله ، ولا يرفع رأسه الى السماء ، ولا يكشف عن حاجته حتى يقرب من مكان حاجته ، ولا يبول في حجر ولا على موضع صلب ولا في ماء دائم ، ويقول حال دخوله ( أعوذ بالله من الخبث والخبائث .. ) ، ويقول حال خروجه ( الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني ) .


    فصل : في التيمم :

    وشروط التيمم لصلاة الوقت :
    طلب الماء وإعوازه بعد طلبه ، أو تعذر استعماله مع وجوده لمرض في بدنه أو لغلي ثمنه ، ودخول الوقت ، والنية ويعينها لصلاة الفرض وحدث الجنابة ، فإن نسي الجنابة وتيمم للحدث لم يجزئه .
    وفروضه سبعة أشياء :
    النية ويعينها ، والتسمية ، ومسح الوجه ، ومسح اليدين إلى الكوعين ، والترتيب ، والموالاة .
    ويشتمل الجامد المستعمل فيه على ثلاثة أصناف :
    أن يكون ترابا ، طاهرا ، ذا غبار .

    فصل :
    ويبطل التيمم بما تبطل به طهارة الماء ، ويبطل أيضا بالقدرة على استعمال الماء ، وبخروج الوقت ، ولا فرق بين وجود الماء قبل الاحرام بالصلاة وبعد دخوله فيها ، ويبطل بخلع العمامة أو الخفين فيمن تيمم وهما عليه ، فأما إن كان لبسهما بعد التيمم لم يبطل التيمم بخلعهما .

    باب : في المسح على الخفين :

    ويجوز المسح على أربع حوائل :ثلاث منها على وجه الرخصة ، وواحد على وجه العزيمة .
    فحوائل الرخصة : الخفان ، والعمامة ، والجوربان .
    وحائل العزيمة : الجبائر .
    ويختلفان في أحوال أربعة :
    أن مسح الرخصة يتقدر بالأيام ، للمقيم يوما وليلة ، وللمسافر ثلاث أيام بلياليهن ، ومسح الجبائر لا يتقدر بل يمسح الى حين حلها .
    ويجزئ في تلك مسح البعض ، ويجب استيعاب الجبيرة بالمسح .
    يجب أن يتقدم لبس حوائل الرخصة طهارة كاملة ، ولا يجب ذلك في الجبيرة .
    ولا يستبيح المسح على حوائل الرخصة في سفر المعصية ، ويستبيح ذلك في الجبيرة .
    ويتفقان في إبطال الطهارة بالخلع ، وفي اعتبار طهارة العضو قبل الستر، وفي اعتبار الطهارة والاباحة فلل يجوز أن يكون حوائل الرخصة نجسة ، ولا غصبا ، وكذلك الجبيرة ، ولا يكون حريرا .



    كتاب الصلاة :

    قال الله سبحانه وتعالى : ( وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة ).
    وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ليس بيننا وبينهم إلا ترك الصلاة فمن تركها فقد كفر ).
    والصلوات على أربعة أضرب :
    فرض على الأعيان ، وهي الصلاة المؤقتة والجمعة منها .
    وفرض على الكفاية ، وهي صلاة العيدين والجنازة.
    وسنة راتبة ، وهي التابعة للمؤقتة ، كركعتي الفجر ، والمغرب، وصلاة الكسوف ، والاستسقاء.
    ونفل يفعله الإنسان ، كصوم نفسه كيف أحب ، وأفضل أوقات التطوع ما كان جوف الليل بعد الهجوع ، وهي الناشئة .
    ..


    فصل :

    ويبيح السفر الجمع بين أربع صلوات : بين الظهر والعصر ، ويكون مخيراً بين تقديم الأخيرة إلى الأولى ، أو تأخير الأولى الى الثانية ، والمغرب والعشاء كذلك ، والفجر لا تجمع بما قبلها ولا بما بعدها ، لأن وقتها منقطع عن التي قبلها وعن التي بعدها من الصلوات ، وبعيد عن التي تليها والتي قبلها فلا يشق النزول لها .
    ...

    فصل : في الأذان :

    الأذان فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين ، وليس بشرط في الصلاة .
    والصلوات على أربعة أضرب :
    صلاة شرع لها الأذان والإقامة ، وهي صلاة الوقت المؤداة.
    وما شرع لها الإقامة دون الأذان ، وهي الفائتة من الفوائت ، والثانية من صلاتَيْ الجمع .
    وما شرع لها الدعاء الى الصلاة مثل قوله : الصلاة جامعة ، وهي صلاة العيدين ، والكسوف ، والاستسقاء.
    وصلاة لم يشرع لها أذان ولا إقامة ولا دعاء ، وهي صلاة الجنازة والتراويح.
    ..

    فصل :

    وتشتمل على شرائط و آداب ، فالشرائط تنقسم بعضها في المؤذن ، وبعضها في الأذان، وبعضها في محلّ الأذان.
    فأما المؤذن فمن شرطه أن يكون مسلماً ، فإن أذن كافر حكم بإسلامه ، ويحتاج إلى إعادة الأذان ..
    وألا يلحن لحناً يحيل معنى الأذان ، مثل أن يقول : الله و أكبر ، أشهد و أن لا إله إلا الله كعادة أهل وقتنا .
    وألا يكون محدثا الحدث الأكبر ، فإن أذن جنباَ أعاد ..
    وروي عن أحمد اعتبار العدالة ، فإن كان فاسقاً لم يصح أذانه ، كما لا تصح إمامته ، ولأنه أمين على الأوقات ومع الفسق لا يعلم دخول الوقت بقوله ، ولا يؤمن على العبادة .
    ومن شرط الأذان أن يكون مكاناً حلالا ، فإن كان غصباً لم يصح على قياس المذهب في الصلاة .
    ووقت صحته بعد دخول وقت الصلاة ، فإن قدمه على الوقت أعاد إلا أذان الفجر .
    ويعم الجهر به بحيث يسمع الناس ، فمتى أسر به أعاده ، لأته فوت المقصود وهو الإعلان ..
    ولا يرفع رأسه إلا عند شروعه في كلمة الإخلاص ، ويدير وجهه عن يمينه إذا قال : حي على الصلاة ، وعن شماله إذا قال : حي على الفلاح.
    ..
    ويستحب أن يقول خفية كما يقول جهرة..
    ولا يستحب إكثار عدد المؤذنين إلا عند الحاجة .
    ويستحب أن يتولى الإقامة مَن أَذَّن ..
    ويستحب أن يفصل بين الأذان و الإقامة بركعتين مقدار ما يتوضأ السامع.
    ويجعل الجلسة بين الأذان و الإقامة للمغرب مقام الركعتين ..

    فصل : في استقبال القبلة :

    الناس في القبلة على أربعة أضرب :
    من فرضه المشاهدة ، وهو من كان بمكة من أهلها أو من غير أهلها إلا أنه مقيم فيها ، فهذا فرضه مشاهدة البيت ، أو القطع على أنه متوجه إلى البيت.
    ومن فرضه الاجتهاد ، وهو من كان عارفاً بدلائل القبلة ففرضه الاجتهاد في استقبالها .
    ومن فرضه الاخبار ، وهو من كان بينه وبين الكعبة حائل ، كجبل ، أو تل عال ففرضه أن يخبره مخبر ثقة بأنه في مقامه متوجه إلى البيت.
    ومن فرضه التقليد على الإطلاق ، وهو الأعمى ، والعامي الذي لا معرفة له بدلائلها ، فمتى صلى أحد هؤلاء قبل فعل ما يجب عليه من اجتهاد ، أو دليل ، أو مخبر ، أو متبع يقلده أعاد ..
    ويسقط استقبال القبلة في صلاتين : النافلة على الراحلة ، وفي شدة الخوف ، فإنه يبتدئ التكبيرة إلى القبلة ثم يصلي كيف أمكنه .
    ..

    فصل : ويتقدم الصلاة خمسة أشياء :

    الطهارة ، والستارة ، والبقعة الطاهرة ، واستقبال القبلة ، والعلم بدخول الوقت ، أو يغلب على ظنه دخوله ، ويجب استدامتها جميعا ، إلا أن يكون ضرر فيسقط اعتبار الاستدامة ، وحكم هذه الشرائط أن الصلاة لا تنعقد إلا بها .
    وتشتمل الصلاة بنفسها على أربعة أشياء : أركان ، وواجبات ، ومسنونات ، وهيئات.
    فالأركان :
    النية ، وتكبيرة الإحرام ، والقيام ، والقراءة ، وهل يتعين بالفاتحة ؟ على روايتين . والركوع وطمأنينته ، والرفع منه حتى يطمئن في رفعه ، والسجود وطمأنينته ، والجلسة بين السجدتين وطمأنينتها ، والسجدة الثانية ، والتشهد الأخير ، والسلام .
    وحكم هذه أنها لا تتم الصلاة مع تركها عمداً ولا سهواً .
    والواجبات :
    تكبيرات الخفض والرفع ، والتسبيحة الأولى في الركوع والسجود ، وقول( رب اغفر لي) ، والتشهد الأول ، والصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم) في التشهد الأخيرفي إحدى الروايتين ، وقول ( سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ) في حق الإمام والمنفرد ، و ( ربنا ولك الحمد ) في حق المأموم.
    وحكم هذه أنها تبطل الصلاة بتركها عمداً ، وتجبر بالسجود إذا تركت سهواً .
    وأما المسنونات :
    فالاستفتاح ، والاستعاذة ، وقول آمين ، وقراءة السورة بعد الفاتحة ، والتسبيحات الثواني والثواليث في الركوع والسجود ، وقول ( رب اغفر لي) ثانية وثالثة بين السجدتين ، وقوله عند الرفع من الركوع : ( ملء السماء وملء الأرض ومل ما شئت من شيء بعد ) .
    وأما الهيئات :
    فما كان وصفاً في غيره من الأفعال و الأقوال ، كالجهر بالقراءة في موضع الجهر ، والإخفات في موضعه ، والخشوغ ، وهو قصر النظر على موضع السجود ، ووضع اليمين على الشمال ، والافتراش في التشهد الأول ، والتورك في الثاني ، والتجافي في الركوع و السجود ، هو نشر أعضائه بعضها عن بعض .
    فهذه الهيئات ، وما تقدمها من المشنونات حكمها أن تركها نقصان فضيلة، ولا يؤثر بطالا ، ولا يوجب جبراً بسجود السهو .

    فصل : في صفة الصلاة :

    يستقبل القبلة ناوياً لها بالنية ، يبتدئ بتكبيرة الإحرام رافعاً يديه مضمومتي الأصابع ، أعني غير مفرجة ، ولا مفرقة مبسوطة منقبضة إلى حذو منكبيه، أو إلى فروع أذنيه ، ويكون الرفع مع ابتداء افتتاحه بالتكبيرة منتهى به إلى حين ، ويحطهما ساذجتين من ذِكر ، فيضع اليمنى على كوع اليسرى قابضاً له بها ويقول : (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك ، ولا إله غيرك ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم بسم الله الرحمان الرحيم ، ثم يقرأ الفاتحة معربة ، ويأتي بالتشديد في مواضعه ، وتتضمن إحدى عشرة تشديدة متى ترك واحدة منها مع القدرة لم تصح قراءته ، فإذا قال : (ولا الضالين) ، جهر ب(آمين) الإمام والمأموم ، ثم يعقبها بقراة سورة يفتتحها بسم الله الرحمان الرحيم ويطيل في الأولى ويقصر في الثانية، ولا يقرأ سورة من الطوال بحيث يشق بقراءتها على المأمومين إذا كان إماما ، ولا بحيث يخرج الوقت إن كان منفرداً ، وتكون قراءته مرتلة محققة ليفهم السامع معاني القرآن ، قال سبحانه : ( ورتّلِ القرآن ترتيلا). والأفضل للمأموم الصمت وترك القراءة وراء إمامه إذا كان يجهر ، فإن خافت قرأ الفاتحة فقط ، وتشاغل بسماع قراءة إمامه لقوله تعالى : (وإذا قُرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ) .
    ثم يكبر فيكون ابتداء تكبيره مع ابتداء انحطاطه إلى ركوعه ، وانتهاؤه عند استواءه راكعاً ، ويكون معتدلاً فيجافي عضديه عن جنبه ، ويفرج أصابعه على ركبتيه قابضاً لهما ، ويمد ظهره ، ولا يرفع رأسه ولا يخفضه ، ويقول: (سبحان ربي العظيم ) ثلاثا .
    ثم يرفع قائلاً : (سمع الله لمن حمده) .الى أن ينتهي الى قوله ربنا لك الحمد ملء السماء وملء الأرض ومل ما شئت من شيء بعد) ، والمأموم يرفع بعد رفع إمامه قائلا (ربنا لك الحمد ) ليقع قوله بعد قول إمامه (سمع الله لمن حمده) .
    ثم ينحط مكبراً ، ويكون ابتداء تكبيره مع ابتداء انحطاطه وانتهاؤه مع انتهاء انحطاطه ، فأول ما يقع منه على الأرض ركبتاه ، ثم يداه ، ثم جبهته وأنفه ، ويكون على أطراف أصابعه ، ويجافي عضديه عن جنبيه ، وثقل بطنه عن فخذيه ، وفخذيه عن ساقيه ، ويكون على أطراف أصابع رجليه باسطاً لراحته على الأرض مستقبلا برؤوس أصابع يديه القبلة غير مفرج لها ، ثم يقول في سجوده: (سبحان ربي الأعلى ) ثلاثا إن أحب ، وإن اقتصر على مرة أجزأه ، وإن زاد كان أفضل إلا أن يكون إماما فالاقتصار على الثلاث أولى به لئلا يشق على من خلفه .
    ثم يرفع رأسه مكبرا فيكن ابتداء تكبيره مع ابتداء رفعه ، وانتهاؤه مع استوائه جالسا ، ويكون جلوسه على صفة جلوس تشهده الأول يفترش رجله اليسرى تحت اليته اليسرى ، وينصب رجله اليمنى ويضع يده اليمنى ، على فخذه اليمنى ، و يده اليسرى ، على فخذه اليسرى مضمومة أصابعها مستقبلا بها القبلة ، ويقول : (رب اغفر لي ) ثلاثا إن أحب ، وإن اقتصر على مرة أجزأه .
    ثم يعود فينحط مكبرا كما وصفنا إلى السجدة الثانية فيفعل كما فعل في الأولى ، فإذا فرغ من سجدة الركعة الثانية رفع رأسه مكبرا فجلس للتشهد الأول إذا كان في صلاة رباعية ، كجلوسه بين السجدتين مفترشا، ويضع يده اليمنى على فخذه اليمنى قابضا أصابعها كعقد ثلاثة وستين ، ويبسط السبابة نحو القبلة ، ويبسط يده اليسرى على فخذه اليسرى ويقول : (التحيات ، والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمداَ عبده ورسوله ).
    ثم يقوم إلى الثانية على صدور قدميه معتمداُ بيديه على ركبتيه إلا أن يشق ذلك عليه فيعتمد على الأرض ويكون حال قيامه مكبراً على ما وصفنا يكون ابتداء تكبيره مع ابتداء قيامه وانتهاؤه مع استوائه قائماً، ثم يستعيذ فيقول : ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم).
    ويقرأ ولا يستفتح ، لأن الاستعاذة للقراءة ، والقراءة تتكرر ، والاستفتاح الابتداء ، وذلك لا يتكرر ، ويفعل في الثانية كما فعل في الأولى ، فإن كانت الصلاة رباعية قرأ في الأخرتين بالفاتحة من غير سورة ، ويتورك في التشهد الأخير ، فيجعل اليته على الأرض ، ويترك باطن رجله اليسرى تحت فخذه اليمنى ، وينصب رجله اليمنى ، ويأتي بما أتى به في التشهد الأول ، ويزيد عليه الصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم) ، فيقول : (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم و آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، اللهم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم و آل إبراهيم إنك حميد مجيد ). ويتعوذ فيقول : (أعوذ بالله من عذاب جهنم ، و أعوذ بالله من عذاب القبر، وأعوذ بالله من فتنة المسيح الدجال ، أعوذ بالله من فتنة المحيا والممات ). وإن أحب أن يدعو بما ذكر في السنن فلا بأس ..
    ثم يسلم عن يمينه ، ويشير بوجهه إلى القبلة في ابتداء سلامه ..ويسلم الثانية عن يساره ، ويكون إدارة وجهه في التسليمة الثانية أوفى ..

    فصل : في سجود السهو :

    فإن دخل على صلاته نقصان بترك واجب من قول أو فعل فعليه سجود السهو داخل الصلاة بعد استيفاء التشهد ..

    فصل : السنن الراتبة لصلاة الوقت ثلاث عشرة ركعة :
    ركعتان قبل الفجر ، وركعتان قبل الظهر ، و ركعتان بعدها ، ركعتان بعد المغرب ، وخمس بعد العشاء يوتر بواحدة ..

    فصل :صلاة الجمعة :
    وصلاة الجمعة واجبة على الأعيان ، ولا تجب إلا على من اجتمعت فيه سبع شرائط : البلوغ ، والعقل ، والإسلام ، والصحة ، والحرية ، والذكورية ، والوطن .
    ..
    وتشتمل على أربعة أشياء : حمد الله والثناء عليه ، والصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم)، وقراءة آية من القرآن ، والموعظة ، والثانية منها كالأولى إلا أنها أقصر وأخصر ، ويجلس بينهما جلسة خفيفة للفصل ..
    ويجب الإنصات لسماعها على من حضرها ممن قرب من الإمام.
    ومن دخل والإمام على المنبر صلى ركعتين يتجوز فيهما .
    ومن سلم لم يرد عليه الحاضرون إلا بالإشارة ، ويجوز للخطيب أن يرد علية ويتكلم ، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) فعل ذلك ، ولأن كلامه لا يمنع الاستماع.
    ويحرم البيع وما في معناه من العقود في وقت النداء .
    ومن أدرك ركعة من الجمعة فقد أدركها ، ومن أدركهم في التشهد نوى متابعتهم في الجمعة وصلى أربعاً .

    فصل : في صلاة القصر :

    وصلاة القصر ركعتان إلا المغرب والفجر على حكم أصلها لا يقصران ، والمقصورات ثلاث صلوات : الظهر ، والعصر ، والعشاء .
    والسفر الذي يبيح القصر ستة عشر فرسخا ، ولا يباح إلا في السفر المباح، فأما سفر المعصية فلا يبيح رخصة لا قصراً ، ولا فطراً ، ولا مسحاً ..
    ويحتاج القاصر إلى نية القصر :
    فينوي أنه يصلي الظر مفروضة مجموعة إماماً أو مأموماً ..
    ويجوز للمقيم أن يأتم بالمسافر ، فإذا سلم إمامه قام فأتم .
    ويجوز للمقيم أن يؤم بالمسافرين، ويجب عليهم الاتمام اتباعاً له .
    وإذا خرجت بهم السفينة من الحضر إلى الموضع الذي يبيح القصر ، وهو إذا ترك البلد وراء ظهره ، وقد أحرم بالصلاة في الحضر لم يجز له القصر ، ولو خرج وقد نوى الصوم وشرع فيه جاز له الفطر ، لأن الصلاة يلزمه حكم الاتمام لها بالنية والمتابعة ، والصوم والسفر لا يلزم إتمامهما بالنية ، بل يجوز له الفطر بعد أن شرع فيه .
    ..

    فصل : في الجمع :

    والأعذار المبيحة للجمع بين الصلاتين : السفر ، والمرض ، والمطر ، والوحل ، وهو مخير بين تقديم الأخيرة إلى وقت الأولى ، وتأخير الأولى إلى وقت الثانية ، كثير حاجة بأن يعلم أن القافلة تسير في وقت العصر فيقدمها الى الظهر ، أو يعلم أنها تنزل في وقت العصر ويبعد نزولها في وقت الظهر ، فيؤخر الظهر الى وقت العصر ، وهذا لما يلحقه من الانزعاج بالنزول ، وفوات القافلة باشتغاله بها .
    وأما المرض ، فإذا علم أنه تجيئه نوبة الحمى وقت العصر قدّمها الى صلاة الظهر، وإن جاءته وقت الظهر أخّرها الى وقت العصر.
    فأما المطر ، فيبيح الجمع بين المغرب والعشاء ، وأما الظهر والعصر فلا.

    فصل :

    والصلوات التي تجمع أربعة : الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء ..
    ويحتاج إلى نية الجمع في الأول ، ويُعلم المأمومين لينووا.

    فصل : صلاة العيدين :

    وأما صلاة العيدين ....ويعقبها بسورة الأعلى ، ويقرأ في الثانية ب(هل أتاك حديث الغاشية ).
    ومن فاتته صلاة العيدين قضاها ..
    ويستحب تأخير الفطر وتقديم الأضحى ، ليرجع الناس فيأكلوا من أضاحيهم ، وأما في الفطر فإنهم يفطرون قبل الصلاة .
    ..

    فصل : في صلاة الخوف :

    اعلم أن الخوف على ضربين :
    خوف يمكن معه قسم الجيش قسمين طائفة تصلي مع الإمام ، وطائفة تحرس المصلين وتقاتل ، فإذا صلت الطائفة مع الإمام ركعة وقام إلى الثانية أتمت الطائفة الأولى لنفسها بركعة أخرى ، وسلمت ، وخرجت والإمام يطيل قيام الثانية إلى أن تجيء الطائفة التي كانت تحرس فتصلي معه الركعة التي أدركته فيها فإذا جلس للتشهد أطال حتى تقضي الركعة وتسلم معه فتدرك الأولى فضيلة التحريم ، والثانية فضيلة التسليم.
    فأما شدة الخوف فهو عند التحام الحرب ، واختلاط القوم بعضهم ببعض وانغماسهم في العدو ، وعدم إمكان الانقسام فإنه يستقبل بوجهه للقبلة عند التحريمة ، ويكون مصلياً على حسب حاله مقبلاً ومدبراً إلى القبلة وغيرها ، ويومئ بالركوع والسجود إيماء ، إلا أن سجوده أخفض من ركوعه .

    فصل : في صلاة الكسوف :

    إذا كسفت الشمس ، أو خسف القمر فزع الناس إلى الصلاة ...خوفاً أن يكون عذاباً ...
    الزلازل لا يصلى لها ..لسنا نريد : لايتنفل ، بل لا يرسم لذلك صلاة تخصه ..
    وفي صفة صلاة الكسوف : ركعتان في كل ركعة ركوعان ، وهي أصح رواية .
    فيطيل القراءة في الأولى ، ثم يركع فيطيل الركوع ، ثم يرفع فيطيل القيام ، ويكون دون القيام الأول ، فيقرأ فيه ، ثم يعود ، فيركع فيطيل الركوع هو دون لركوع الأول ، ويفعل في الثانية كذلك ويسجد فيهما أربع سجدات .

    فصل : في صلاة الاستسقاء :

    الصلاة للاستسقاء مشروعة وتتضمن طلب الرزق من الله سبحانه عقيب الجدب بانقطاع ماء السماء .. وهي على صفة صلاة العيد ، إلا أنه يكون في دعائه مستقبل القبلة ، ويحول رداءه .
    ويستحب أن يخرج إلى الصحراء ، ويكثر لها الجمع ..وأن يكونوا في خروجهم على غاية الذل ، والتضرع ، والانكسار ..ويقدموا على خروجهم التوبة ، والخروج من المظالم ، ويكثرون في دعائهم الاستغفار، لأن الله سبحانه وتعالى قرن سائل السماء بذلك ، فقال سبحانه : ( استغفروا ربكم إنه كان غفارا . يرسل السماء عليكم مدرارا)

    فصل : صلاة الجنازة :

    فأما صلاة الجنازة ففرض على الكفاية ، وتفعل بعد الغسل ولا تصح قبله ، ويجب لها ما يجب لسائر الصلوات من الشروط ، وتخالفها في الأركان ، فتشمل أربع تكبيرات يرفع يديه مع كل تكبيرة إلى حذو منكبيه .. ، ويقول عقيب الأولى : ( سبحانك اللهم وبحمدك ..الى آخر الاستفتاح) ، ويستعيذ ، ويقرأ الفاتحة ولا يعقبها سورة ، ثم يكبر الثانية فيدعو لنفسه ، وللمسلمين ، وللميت ، فيقول : ( اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا ، وغائبنا ، وصغيرنا وكبيرنا ، وذكرنا وأنثانا ، إنك تعلم منقلبنا ومثوانا إنك على كل شيء قدير ، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان ، اللهم عبدك ابن أمتك نزل بك وأنت خير منزول به ، ولا نعلم إلا خيراَ -إن كان يعلم الخير، وإلا أمسك عن هذا - اللهم إن كان محسنا فجازه بإحسانه ، وإن كان مسيئا فتجاوز عنه ، لا تحرمنا أجره ، ولا تفتنا بعده ، وكن لنا وبه رؤوفا رحيماً .
    ومن فاته شيء من تكبيراتها قضاها متتابعاً ، ومن فاتته الصلاة عليه صلى على القبر إلى شهر منذ الموت .

    فصل :

    ويبطل جميع هذه الصلوات المقدم ذكرها عشرة أشياء :
    الحدث ، والكلام ، والقهقهة ، والعمل الكثير لغير الضرورة ، والسلام عامداً ، والقدرة على استعمال الماء في حق المتيمم، ورؤية الستارة -أي ما يستر به عورته إذا كان عاريا في صلاته-اوهي بالبعد منه ، وانقطاع دم المستحاضة ، وسلس البول ، وظهور قدم الماسح من الخف الممسوح عليه ، والإخلال بشيء من الشرائط و الأركان.

    فصل :
    ويكره ما نهي عنه في الصلاة من السدل -إسبال الثوب-، والتخضر ، وفرقعة الأصابع، والقرن- إلصاق كعبيه- ، والإقعاء -قعوده على عقبيه-، واشتمال الصماء - الاشتمال بالثوب الواحد على بدنه- ، ونفخ موضع السجود، وتقليب الحصى ، والتروح ، وعمل كثير يخرجه عن هيئة الخشوع.

    فصل :
    ويحرم النافلة في خمس أوقات :
    بعد طلوع الفجر حتى تطلع الشمس ، وبعد طلوعها حتى تبيض ، وحين الزوال ، وبعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس ، وحين غروبها حتى يتكامل غروبها .

    فصل :

    كل فائتة من الفرائض يجوز قضاؤها في كل هذه الأوقات ، فأما النوافل التي لا سبب لها فلا يجوز أداؤها واحدة .
    وأما التي لها سبب ..عندي أنه يجوز فعلها مقضية مع الفرائض ، ولا تجوز مفردة ، كم تجوز ركعتا الطواف تبعاً .
    ويجب قضاء الفوائت ..على الترتيب ، فإن أخل بالترتيب لم يجزئه ، والترتيب أن يصلي فجرا ، ثم ظهرا، ثم عصرا ..
    والوسطى صلاة العصر ، قال النبي (صلى الله عليه وسلم) يوم الخندق : ( شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ).

    فصل : التراويح :

    التراويح سنة النبي (صلى الله عليه وسلم) ، وليست مما أحدثها عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وهي من أعلام الدين الظاهرة ، وهي عشرون ركعة ، ينوي عند ابتداء كل تسليمة صلاة سنة التراويح .
    ولها آداب منها : أن يبدأ في أول ركعة منها من أول ليلة من ليالي شهر رمضان بسورة ( إقرأ باسم ربك الذي خلق ) لأنها أول ما أنزل من القرآن..
    ولا يستحب الزيادة لئلا يشق على المأمومين ، ولا يقصر عنه لئلا يبقى شيء من القرآن لا يسمع في شهر رمضان ، لأن في سماع جميعه اتعاظا بمواعظه ، وتدبرا بآياته .
    ويصلي قبل التراويح وبعد العشاء ركعتين هي سُنّة العشاء، فإذا مرّت به آية سجدة سجد وسجدوا معه ، ويصلي بعدها ثلاث ركعات يوتر بواحدة منفصلة عما قبلها ، ويقرأ في الأولى منها ب (سبح اسم ربك الأعلى) وفي الثانية ب (قل يا أيها الكافرون ) ، ويقنت في الوتر بعد الركوع ، ودعاء القنوت بما رواه الحسن بن علي كرم الله وجهه وهو اختيارنا : (اللهم اهدنا فيمن هديت ، وتولنا فيمن توليت ، وعافنا فيمن عافيت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا شر ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت) .

    فصل :

    ولا يقرأ ، لأن هذا موطن دعاء لا موطن قراءة .
    والمأموم يقول عقيب كل دعوة (آمين آمين ) ، ولا يقول كما يقول إمامه.
    والقنوت مشروع في جميع السُنّة في أصحّ الروايتين ..

    فصل :

    ولا تصح هذه الصلوات كلها في تسع بقاع :
    المقبرة، والمجزرة ، والمزبلة ، والحمام ، والحش ، وقارعة الطريق، وسطح بيت الله الحرام ، والبقعة المغصوبة ، وأعطان الإبل ..
    وأما أرض بيت الله الحرام فيصح فيها صلاة النفل في أصحّ الروايتين ، ولا يصح الفرض رواية واحدة ..

    فصل : في الإمامة :

    هذه الصلوات جميعها تصح الإمامة فيها والإتمام ، ويعتبر شرائط لا تصح إمامته إلا بها : أن يكون عاقلا ، مسلما ، عدلاَ . فمن لم تجتمع فيه هذه الشرائط الثلاثة لم تصح إمامته في شيء من الصلوات .
    فأما البلوغ فمعتبر في إمامة الفرض دون النفل ..
    وأما الذكورية فمعتبرة في الصلاة بالذكور ، فأما الإمامة بالنساء فيصح من المرأة .
    وأما الحرية فمعتبرة في الإمامة في صلاة الجمعة دون غيرها من الصلوات في إحدى الروايتين..
    ويعتبر أن يكون قارئا إذا أمّ القراء ، فإن أمّ الأميين صحت إمامته.
    ويعتبر أن يكون قادرا على القيام إذا أمّ القادرين ، فإن كان زمنا لم يصح أن يؤم إلا الزمنين ..
    ..
    ويصح أن يأتم الرجال بالمرأة في التراويح إذا كانت قارئة ، وكانوا أميين ، فإنهم يصلون بقراءتها وتكون وراءهم تتبعهم في الموقف ويتبعونها في القراءة لحديث أم ورقة الأنصارية . فهذه الشروط المعتبرة.
    فأما تقديم الاستحباب الفضيلة :
    فيستحب أن يؤم القوم قرأهم ، فإن استووا في القراءة فأفقههم ، فإن استووا في الفقه فأسنهم ، فإن استووا في السن فأشرفهم ، فإن استووا في الشرف فأقدمهم هجرة لدار الحرب الى دار الإسلام، فإن استووا في جميع ذلك فصاحب البيت ، فإن استووا في في جميع ذلك بأن كانوا جميعهم أهل دار واحدة ، وهم على هذه الصفات متساويين فيها قدم السلطان ، وهو الإمام ، أو القاضي ، قاضي القضاة مقدم على سائر القضاة .
    ويقدم على جميع هؤلاء من وصى الميت أن يصلي عليه ، لأن الصحابة قدموا صهيباً على جنازة عمر بن الخطاب .
    والمخالفون في المذهب على ضربين :
    من خالف ي الفروع التي يسوغ فيها الاجتهاد ، وهم الفقهاء ، فتجوز الصلاة وراءهم إلا أن يتركوا ما يعتقده ركناً مثل : أن يتركوا تكبيرة الإحرام ، أو الفاتحة ..ويجوز للحنبلي أن يصلي وراءهم ، فإن صلى وجبت الإعادة .
    وأما المخالفون في الأصول فإمامتهم باطلة .
    ويعتبر أن يكون موقف الإمام في مكان ليس بينه وبين المأموم طريق ولا نهر جار ..
    ويكره أن يكون أعلى من المأموم .
    ويستحب أن تقع أفعال المأموم بعد أفعال الإمام .
    ويكره للإمام أن يطيل إطالة تشق على المأمومين ، بل يصلي بهم بصلاة أضعفهم .
    ومتى كبر المأموم مع الإمام لم تنعقد صلاته معه حتى يكبر بعد فراغ الإمام من التحريمة ، ولا يسبقه بشيء من الأفعال ..
    قال شيخنا : تبطل في الركوع خاصة ، فأما السجود فلا تبطل حتى يسبقه بالسجدتين معاً ، لأن الركوع أعظم أركانها ، فهو كالوقوف في الحج ، ولذلك يحصل به الإدراك ، وبفواته الفوات .
    ويصح أن يأتم المتوضئ بالمتيمم ، والمتمم بالقاصر .
    فأما المفترض بالمتنفل ، والعصر خلف من يصلي الظهر ، على روايتين أصحهما : لا تصح ، لاختلاف النيتين .
    ولا يقطع صلاة المصلي شيء مر بين يديه إلا الكلب الأسود الذي لا يغادر لونه غير الاسوداد ..
    ويكره لكل أحد أن يمر بين يدي المصلي ..
    وما دامت سترة الإمام محروسة فصلاة المأموم صحيحة ، وإن بطلت سترة الإمام بطلت سترة المأموم .

    فصل :

    والسجود المفعول خارج الصلاة على ثلاثة أضرب : سجود التلاوة ، و سجود الشكر ، وسجود السهو - سبق الحديث عنه -
    فأما سجود التلاوة فمستحب .
    ويكبر مستقبل القبلة إذا سجد ، ويسلم إذا رفع ، ولا يسجد السامع حتى يسجد القارئ ، ولا يسجد في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها .
    وسجود الشكر عند بشارته بالنعمة لما روي أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يسجد إذا بشر بما يسره.


    فصل :

    ويخاطب الصي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين ، ويضرب عليها إذا تم له من عمره عشر سنين ، ليمرن عليها ويعتاد ، وليس بخطاب إيجاب يوجب عقابا ، لأنه لم يجر عليه القلم .

    فصل :

    من ترك الصلاة وهو بالغ عاقل لم يخل من ثلاثة أحوال :
    إما أن يكون قريب عهد بالإسلام فيعرف ذلك ولا يقتل قبل تعريفه .
    أو يكون معتقدا تركها فيقتل مرتدا بعد عرض الإسلام عليه ثلاثا .
    الحالة الثالثة : أن يتركها تكاسلا ، فيعرف بما يجب عليه من القتل يدعى إليها ثلاث صلوات ، فإن صلى وإلا قتل في آخر وقت الرابعة من الصلوات كافرا في أصح الروايتين .



    كتاب الزكاة :

    قال الله سبحانه : ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ) .
    وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا ) .

    فصل :

    الناس في الزكاة على ثلاثة أضرب :
    من يعتقد وجوبها ويؤديها ، فهذا مأجور مشكور.
    ومن يعتقد وجوبها و لا يؤديها ، فهذا على ثلاثة أضرب : من يجهل وجوبها لقرب عهده بالإسلام ، فيعرف ذلك . ومن يتباخل بها ولكنه في قبضة الإمام يأخذها الإمام منه قهرا ، وتقوم نية الإمام مقام نيته .ومن يتباخل بها وهو خارج عن قبضة الإمام متحيزا إلى فئة أو عصبة ، فإن قاتل الإمام عليها قاتله الإمام وقتله ، ويُقتل كافرا في أصح الروايتين .
    ومن تجب في ماله ويخاطب بإخراجها غيره ، وهو المحجوز عليه لصغر أو جنون ، وتقوم نية الولي مقام نيته .

    فصل :

    والأموال الزكاتية على ضربين : ما تجب الزكاة في عينه ، وما تجب في قيمته .
    فما تجب في عينه أربعة أموال : الزروع ، والثمار ، والمواشي ، والأثمان.
    وما تجب في قيمته : العروض المعدة للتجارات وطلب الأرباح ، فأما بقية الأموال من باب البذلة ، وعبيد الخدمة ، ولا زكاة فيها ، ولا في العقار سواء كان للكرى أو للسكنى .

    فصل :

    في الأصناف المدفوع إليهم الزكاة :
    وهم ثمانية أصناف :
    الفقراء ، والمساكين ، والعاملون عليها وهم الجباة لها ، والمؤلفة قلوبهم وهم الكفار ، وفي الرقاب وهم المكاتبون يدفع إليهم ما يدفعونه الى ساداتهم في فكاك رقابهم ، والغارمون وهم العاجزون عن قضاء ديونهم، وفي سبيل الله وهم الغزو والحج ، وابن السبيل وهو الجائز بنا وإن كان له اليسار ببلده .

    فصل : في زكاة الفطر :

    وهي طهرة للصائم من الرفث ، وتجب عن كل حر ، وعبد ، وذكر ، وأنثى، وصغير ، وكبير من المسلمين ، ويستحب إخراجها عن الجنين ، وتجب عن المكاتب في ماله ، لأنها تابعة للنفقة ، ونفقته في ماله.
    والأصناف التي تخرج منها الصدقة ستة أصناف :
    الحنطة ، والشعير ، ودقيقهما ، والتمر ، والزبيب ، والإقط .
    وقدر المخرج من كل واحد صاعاً قدره خمسة أرطال وثلث بالعراقي .
    ووقت الوجوب ما لم تغب شمس اليوم الأخير من رمضان ، فلو ملك عبدا أو ولدا ولد له قبل غروب الشمس وجبت فطرته .
    ووقت الإجزاء قبل العيد باليوم واليومين ، ووقت الفضيلة يوم العيد قبل الصلاة ليحصل له الغنى عن السؤال وقت الصلاة .
    وأفضل الأجناس التمر ..
    ولا تسقط بالدين إلا أن يكون به مطالبا .



    كتاب الصيام :

    صيام شهر رمضان واجب بأصل الشرع ، قال الله سبحانه : (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ) إلى قوله تعالى : ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ).
    ويجب بأحد ثلاثة أشياء : إما رؤية الهلال ، أو شهادة برؤيته ، أو إكمال شعبان ثلاثين يوما .
    ويفتقر صومه في كل يوم إلى نية من ليلته وتكون معينة . والامساك من الفجر الثاني إلى غروب الشمس مع إفاقته في جميع النهار ، أو بعضه، فإن طبق به الاغماء جميع النهار لم يكن صائما ، لأنه ليس بممسك.
    وإذا شهد برؤية الهلال رجل واحد قبلت شهادته ..
    وإذا رآه أهل بلد ولم يره أهل بلد آخر لزم من لم يره حكم من رآه .
    وإذا أصبح صائما فسافر ، جاز له الفطر .

    فصل :

    ومحظورات الصوم على ضربين : ما يفسده ، و ما لا يفسده .
    فما يفسده على ضربين : ما يفرق بين عمده وسهوه ، وما يستوي في الإبطال بين عمده وسهوه .
    فالمحظور الذي يفسده عمدا وسهوا : الوطء ، والإنزال بالاستدعاء بقلبه كان ، أو استمنى ، أو غير ذلك مما يمكن الاحتراز منه ، فأما الاحتلام، والفكر فلا يفسد وإن انضم إليه الإنزال لعدم إمكان الاحتراز منه ، والحجامة .. ، والردة عن الإسلام ، وقطع استدامة النية .
    وأما ما يفسد عمده ولا يفسد سهوه : فالأكل لا يفسد الصوم مع النسيان ، ولا مع الإكراه ، وكذلك القيء يبطل ما استقاه منه إذا كان ملء فمه في أصح الروايات .
    وأربعة أشياء تبطل الصوم وليست من فعل المكلف فلا توصف بالحظر: الحيض ، والنفاس، والإغماء إذا أطبق في جميع النهار ، والموت فمتى مات في أثناء النهار بانت فائدة فساد صومه إذا كان نذرا في وجوب القضاء على ورثته ، ووجوب الكفارة في ماله إذا كان صوم كفارة شرع فيه، وكانت كفارة كبيرة .
    وأما المحظور الذي لا يفسد وهو مختص بالصوم : فالقبلة في حق الشاب مباحة للشيخ الهرم الذي لا تحرك شهوته ، واستدامة النظر لزوجته وأمته لشهوة ، واللمس لهما .
    وكل ما دعا إلى فساد الصوم وأمكن دفعه حرم فعله .
    والمبيح للإفطار على ضربين : عذر يحصل به الفطر من حيث الحكم فيبيح الأكل ، وهو الحيض والنفاس .
    وعذر يبيح الفطر مع صحة الصوم مع بقاءه : وهو السفر ، والمرض ، وحد السفر ستة عشر فرسخا ، وحد المرض ما خشي زيادته بالصوم ..، والإكراه على الفطر بالضرب .
    والعلم بإكمال شهر رمضان بالعدد ، أو الشهادة برؤية هلال شوال .

    فصل : في الكفارات :

    والموجب للكفارات مختلف ، فكفارة الوطء في رمضان واجبة سواء كان الواطء عامدا أو ناسيا ، وهي على الترتيب : عتق رقبة ، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا .
    ويجب عن كل يوم كفارة ، ويجب على الحامل والمرضع الفدية إذا أفطرتا خوفا على جنينيهما ، والفدية إطعام مسكين عن كل يوم ، فإن كان خوفا على نفسهما فلا فدية ، كفطر المريض ، والشيخ الهرم الذي لا يطيق الصوم يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينا .


    فصل :

    ويستحب التعجيل بالإفطار ، وتأخير السحور .
    وإذا زالت أعذار المكلف في أثناء النهار وجب عليه الإمساك ، والصحيح من المذهب أنه يجب عليه القضاء .
    ويستحب أن يتبع رمضان بصوم ستة أيام من شوال .
    ويستحب أن يقول عند إفطاره : اللهم لك صمت ، وعلى رزقك أفطرت ، سبحانك وبحمدك ، اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم .
    وللزوج منع زوجته من صوم التطوع ، لأنه مستحق للاستمتاع ليلا ونهارا إلا ما استثناه الشرع من بيان الفرض .



    كتاب الحج :

    قال الله سبحانه : ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا).
    ولا يجب إلا على من كملت فيه خمسة شرائط : البلوغ ، والعقل، والإسلام، والحرية ، ووجود الزاد والراحلة .فهذه في حق الرجل ، وتزيد المرأة باعتبار المحرم ، فإن لم تجد محرما فلا حج عليها ..
    وأما تخلية الطريق وإمكان السير فهما شرطان للزوم السعي ، والفرق بين شرط الوجوب وشرط لزوم السعي إنما كان شرطا للوجوب أنه إذا مات قبل حصوله لم تجب الحجة في ماله ، وإذا كان شرطا للزوم السعي إذا مات قبل حصوله كانت الحجة في تركته.
    فأما إمكان المسير فإن يكون الوقت متسعا لمسيره من إكمال شرائط الوجوب فيه .
    والتخلية ألا يكون في الطريق مانع ، ولا ما يحتاج فيه إلى خفاير.
    .
    فصل :

    فإن وجدت هذه الشرائط كلها إلا أن الشخص معضوب سقط عنه الحج بنفسه ، ووجبت عليه استنابة غيره ، ويجب أن يكون ذلك الغير ممن أسقط الحج عن نفسه ، ويكون ما يأخذه نفقة طريقه ، لا أجرة، وإن فضل شيء رده إلا أن يهبه منه ، فإن استناب ضرورة وقع الحج عن الحاج دون المحجوج عنه في أصح الوجهين ..
    ويصح حج الصبي ، ولا يسقط فرضه بذلك ، وكذلك العبد .

    فصل :

    وللحج ميقاتان ، ميقات مكان ، و ميقات زمان .
    فميقات الزمان لا يختلف باختلاف البلدان ، بل هو في ثلاثة أشهر : شوال ، وذو القعدة ، وعشرة أيام من ذي الحجة ، آخرها يوم النحر ، ووضعت هذه لترك التقدم عليها .
    ويجوز الإحرام في جميع السنة إلا أن المستحب فعله في أشهره .
    و ميقات المكان وضع لئلا يتجاوز عنه ، ويجوز التقدم عليه إلا أن المسنون أن يحرم منه ، لأنه لا يأمن أن يطول عليه الإحرام فيواقع محظوراته .
    و مواقيت المكان خمسة : ميقات أهل العراق ، وخراسان ، والمشرق ذات عرق وبينه وبين مكة ليلتان..، وميقات أهل المدينة من ذي الحليفة .. وميقات أهل مصر والشام ، والمغرب ، وتلك النواحي من الجلفة ، و ميقات أهل اليمن يلملم ...

    فصل :

    ويكره الإحرام بأحد ثلاثة أنساك :
    إما التمتع ، أو القران، أو الإفراد .
    فالتمتع أفضلها عندنا ، وصفته : أن يحرم بالعمرة من الميقات ، ثم يمضي إلى مكة معتمرا فيقضي نسكه، وهو طواف ، وسعي، وحلاق ، ثم يخرج مع أهل مكة من جرف مكة بالحج على صفة المكيين.
    وصفة الإفراد : أن يحرم بالحج من الميقات .
    وصفة القران : أن يحرم بالحج والعمرة معا من الميقات ، فيدخل أفعال إحداهما في أفعال الآخر، وهل يجزئه لهما طواف واحد وسعي واحد ؟ على روايتين ، أحدهما : يجزئه ، والثانية : لا يجزئه إلا طوافان وسعيان .

    فصل :

    والذي يفعله عند إحرامه يغتسل ويلبس ثوبين نظيفين ، ويصلي ركعتين ، ثم يقول : اللهم إني أريد الحج ، إن أراد الإفراد ، أو أريد العمرة ، إن أراد التمتع ، أو أريد العمرة والحج . إن أراد القران فيسرهما لي وتقبلهما مني ، فإن حبسني حابس دون بيتك الحرام فمحلي حيث حبستني ، ويفيده هذا الشرط سقوط دم الحصار إن حصر عن البيت ، ويلبي فيقول : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك . وليست التلبية واجبة .

    فصل :

    و التلبية في ثمانية مواطن :
    عقيب الصلوات ، وإذا أشرف على نشر ، أو هبط واديا ، وبالأسحار ، وإذا التقت الرفاق ، وإذا تلبس بمحظور ناسيا رفضه وفزع إلى التلبية ، وإذا رأى البيت .

    فصل :
    ويشتمل الحج على خمسة أشياء :
    شرائط ، وأركان ، وواجبات ، ومسنونات ، وهيئات .
    فالشرائط ما وجب لها قبلها ، وهي الخمسة التي ذكرناها : البلوغ ، و العقل ، والإسلام ، والحرية ، والزاد ، والراحلة .
    والأركان ثلاثة : الإحرام ، والوقوف ، والطواف ، وفي السعي روايتان .
    والواجبات طواف الوداع ، والبيتوتة بالمزدلفة ليالي منى ، ورمي الجمار أيام منى ، ودم التمتع ، والحلاق إذا قلنا إنه نسك في إحدى الروايتين .

    فصل :

    ولا يجب دم التمتع إلا بستة شرائط :
    أن يحرم بالعمرة من الميقات ، وأن يكون إحرامه في أشهر الحج وأن يحج من سنته ، وألا يكون من حاضري المسجد الحرام ، وألا يسافر بين الحج والعمرة سفرا يقصر في مثله الصلاة ، وأن يحرم بالحج من مكة ، فمتى لم تكتمل هذه الستة شرائط فلا دم عليه
    والهدي شاة ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام آخرها يوم عرفة ، وسبعة إن شاء صامهن في طريقه ، وإن شاء إذا رجع إلى أهله .

    فصل : المسنونات :
    وأما المسنونات فطواف القدوم ، والأدعية عند الميزاب ، وعلى الصفا والمروة ، وعند الملتزم ..

    فصل : الهيئات :

    فأما الهيئات ، فالكرمل ، والاضطباع في الطواف ، والهرولة في السعي من الميل الأخضر إلى الميل الخضر، ويمشي من الصفا إلى الميل الأول ، ومن الميل الثاني يمشي إلى الميل ، ومن الميل إلى المروة ، وكلما كان صفة في غيره فهو هيئة .
    فحكم الشرائط أنه لا يحصل وجوب الحج إلا بتقدمها على فعل الإحرام ، وحكم الأركان أنه لا يتم الحج إلا بها ، وينفرد الوقوف بحكم يختصه يفضل به على سائر الأركان وهو فوات الحج بفواته.
    وحكم الواجبات أنه يجب بتركها دم ، والحج صحيح تام .
    وحكم المسنونات والهيئات أنها تسقط لا إلى جبران ..

    فصل :

    فأما محظورات الإحرام فعلى ثلاثة أضرب : إتلاف ، وترفة ، وما لا يليق به من الكلام . قال سبحانه: ( فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) . فالرفث : الجماع ودواعيه ، والفسوق : السباب، والجدال : المماراة فيما لا يعني .
    وقال سبحانه: ( لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ) .
    ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لبس المخيط في حق الرجال دون الرجال ، وتضليل المحرم ، وتغطية الرأس كله أو بعضه ، وتطييب عضو أو بعضه ، والتعمد لشم الطيب ، أو صبغ ثوبيه ، والوطء ودواعيه ، كالنظر ، واللمس ، وعقد النكاح ، فإن عقد لم ينعقد ، ولا يتولاه لغيره ، وفي ارتجاع زوجته المطلقة روايتان ، أصحهما : الجواز ، لأنه استدامة إمساك ، وليس بابتداء عقد ، لأنها مباحة له ، والنكاح إنما حظر لأنه يدعو إلى الوطء ، وتتوق النفس به إلى الجماع .
    ..
    فأما التنظف ، كالغسل ، والقطع للروائح الكريهة ، مثل الصنان ، والعرق ، والسواك فلا يحرم ، ولا يكره .
    وملبوسان يباح لبسهما إذا عدم غيرهما ولا دم عليه الخف إذا عدم النعل ، ولا يقطعه ، والسراويل إذا عدم الإزار ، ولا يشقه .
    فأما الكلام الذي يحرم ، فالسباب ، وهو يحرم في غير الإحرام لكنه متغلظ في الإحرام ، ومثل ذلك القتل محظور في غير الحرم و الإحرام ، لكنه مغلظ بهما .
    وأما الإتلاف : فقطع الشعر ، والظفر ، وقتل الصيد ، وإمساكه ، والإشارة إليه ، والدلالة عليه، و ذلك يختص بصيد البر ، ويباح صيد البحر .
    وللصيد تحريمان ، تحريم لأجل الإحرام ، و تحريم لأجل الحرام ، وكل واحد منهما بمجرده كاف في التحريم ، فيحرم قتل الصيد على المحل في الحرم ، وعلى المحرم في الحل ، فإذا اجتمعا تأكد حظرهما بعلتين .
    وأما المحرمة الصائمة يحرم وطئها بالصوم الإحرام .
    والثوب المغصوب إذا كان حريرا حرمت الصلاة فيه لعلتين
    ويباح قتل سباع البهائم وجوارح الطير ، نص النبي على خمس فقال : ( خمس لا حرج على من قتلهن في حل ولا حرم : الحدأة ، والغراب ، والحية ، والعقرب ، والفأرة ، والكلب العقور ) .وقسنا عليه كلما كان مؤذيا للأنفس ، أو متلفا للأموال ، وما لا يكون مؤذيا في الأصل فتحقق منه الأذى بالصول أبيح قتله ، وصار كالجارح المؤذي بطبعه .
    وكذلك الشعر ، والظفر إذا كانا مؤذيين بأن انكسر الظفر ، أو نبت الشعر في العين .
    ... الخ .

    فصل : في كفارته ودمائه :

    وهي على ضربين : على الترتيب ، وعلى التخيير .
    فكفارة الأذى على التخيير ، قال سبحانه : ( فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ) تقديره : فحلق ..
    و كفارة الصيد على التخيير ، قال سبحانه : ( ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم ) الآية .
    ودم التمتع على الترتيب شاة ، فإن لم يجد فالصوم ، قال سبحانه : ( فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم ).
    ودم الإحصار على الترتيب أيضا ، قال سبحانه : ( فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ) إلا أنه يتحلل إذا عدم الهدي إلا بعد صوم العشرة
    .
    فصل : المناسك وشرح الأفعال في الأماكن المختلفة :

    فصل :
    الذي يفعل في الميقات سبعة أشياء :
    الغسل إن أمكن ، فإن تعذر فالوضوء ، فإن تعذر فالتيمم ، ويأخذ من شعره ، ويتطيب ، ويلبس ثوبين نظيفين ليس فيهما مخيط ، ويصلي ركعتين يعقد عقيبهما الإحرام ، ويستحب أن ينطق به ، فيقول : اللهم إني أريد الحج ، أو العمرة ، أو الحج و العمرة حسب ما يحرم به من الأنساك .

    فصل : ذكر ما يفعله المعتمر :

    يحرم ويطوف ويسعى بين الصفا والمروة ويحلق أو يقصر ، فهذه أربعة أشياء لا تتم العمرة إلا بها.

    فصل : ذكر ما يفعله إذا رأى البيت :

    وإذا رآه لبى ، ثم قال : اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما ، ومهابة ، وزد من قصده ممن حج واعتمر تشريفا وتعظيما ، ومهابة .

    فصل : ما يفعل في الموقف :

    يستحب أن يقف على جبال الرحمة ، وعرفات كلها موقف إلا وادي عرنة ، ويجمع بين الظهر والعصر بأذان وإقامتين ، ولا يتنفل بينهما ، ويدعو ويبتهل إلى الله ، وليس في الدعاء توقيت .

    فصل :

    ثم يدفع الإمام بعد غروب الشمس إلى مزدلفة ، فيجمع فيها بين المغرب والعشاء الآخرة بأذان وإقامتين ، ثم يأخذ حصى الجمار ، وهو سبعون حصاة ، فيغسله ، ويكون أكبر من الحمص ، ودون البندق .

    فصل :

    ثم يأتي المشعر الحرام قبل طلوع الشمس ، فيدعو ويجتهد في الدعاء ، ثم يأتي منى ، فيقف عند العقبة الأولى قبل زوال الشمس فيرمها بسبع حصيات ، ويقطع التلبية مع أول حصاة ، ويكبر مع كل حصاة ، فينتقل إلى التكبير .

    فصل : في صفة المرمى :

    أين ترمي الحصى ؟ عن يمينك ، وشمالك ، وتلقاء وجهك ، وتكبر وتقول : الله أكبر . الله أكبر . لا إله إلا الله . و الله أكبر . الله أكبر ولله الحمد . تكبر كذلك مع رميك ، وتقول : أرضي بك الرحمان ، وأسخط بك الشيطان . ولا يقف عندها .

    فصل :

    ثم ترجع إلى منى فتذبح ما كان معك من هدي نفلا كان أو فرضا ، أو فدية ، أو نسكا ، ولا تأكل مما تذبحه إلا من الأضحية ، وهدي القران ، والمتعة ، وما سوى ذلك لا يأكل منه ، ثم تحلق رأسك ، أو تقصر شعرك . والحلق أفضل .
    وقد حللت من حجك التحلل الأول ، وأبيح لك كل محظور حظره الإحرام سوى الوطء ، والتلذذ بالنساء ، والتحلل الثاني يبيح ذلك ، وهو إذا طفت طواف ( الإفاضة ) .
    وإذا حلقت رأسك فقل : اللهم اكتب لي بكل شعرة حسنة ، وامح عني سيئة ، وارفع لي درجة ، واغفر لي وللمحلقين ، والمقصرين ، يا واسع المغفرة .

    فصل :

    والذي يفعله المحرم في يوم النحر الرمي ، والذبح ، والحلاق ، وطواف الإفاضة ، وهو الركن ، ويحل له كل المحظورات .
    وإذا وطء بين التحللين فقد فعل محظورا ، وحجه صحيح . وإذا أخل بالترتيب ففيه روايتان ، إحداهما: يجب عليه دم . والثانية لا دم عليه ، لقول النبي (صلى الله عليه وسلم ) : ( لا حرج لا حرج ) .

    فصل :

    وإذا دخل المسجد الحرام فليكن دخوله من باب بني شيبة ، فيصلي ركعتين تحية المسجد ، ثم يتقدم إلى الحجر الأسود فيقبله إن أمكنه ، وإلا وقف حياله ، وأومأ إليه بيده وقبّلها ، وقال : اللهم إيمانا بك ، ووفاء بعهدك ، واتباعا لسنة نبيك (صلى الله عليه وسلم) .الله أكبر . الله أكبر . إلى آخر التكبير الذي شرحته لك ، ثم يأخذ عن يمينه في الطواف ، فإذا أتى الركن العراقي وقف حياله، وقال : اللهم إني أعوذ بك من الشقاق ، والنفاق ، وسوء الأخلاق ، وسوء المنقلب في الأهل والمال والولد . ثم تسير وأنت مكبر وتقف بإزاء الميزاب من خارج الحجر ، وتقول : اللهم أظلني تحت عرشك يوم لا ظل إلا ظلك ، اللهم أروني يوم يعطشون ، وآمني يوم يفزعون ، ثم تسير حتى تأتي بإزاء الركن الشامي ، فيقول : اللهم تقبل مني كما تقبلت من إبراهيم خليلك وموسى كليمك ، وعيسى كلمتك ، ومحمد نبيك صلى الله عليهم أجمعين .
    وتسير حتى تأتي الركن اليماني فتقف بإزاءه ثم تقول : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار . ثم تأخذ عن يمينك وتأتي الملتزم ، وهو ما بين الحجر الأسود وما بين البيت فتلصق به صدرك إن أمكنك ، وتدعو بما شئت ، ثم تأتي البيت ، فتقول : اللهم إن البيت بيتك ، والحرم حرمك ، والعبد عبدك ، وهذا مقام العائذ المستجير بك من النار ، وتأتي الميزاب وتقول كما قلت في الأول عنده وعند كل ركن ، وليس في الدعاء توقيت ، فيطوف سبعا بالبيت ، ويكون الحجر داخل في الطواف ، لأن الحجر من البيت ، ويكون من البيت ثلاثة أشواط ، وأربعة يمشي فيها ولا يرمل ، ويضطبع بردائيه من تحت يده اليمنى ، ويجعل طرفيه على عاتقه اليسرى ، وكلما طاف قبل الحجر الأسود إن أمكنه ، وإلا يشير إليه بيده ويقبلها ، ويفعل في جميع طوافه كما فعل في الدفعة الأولى ، ويكثر الدعاء ، وذكر الله ، والتهليل ، والتسبيح ، والتحميد في طوافه .
    ولا يطوف بالبيت إلا وهو طاهر ساتر لعورته ، لأن الطواف كالصلاة .
    فإذا فرغ من الطواف صلى عند المقام ركعتين يقرأ في الأولى بالحمد وقل يا أيها الكافرون ، والثانية بالحمد وسورة التوحيد .

    فصل : ما يقوله عند الصفا :

    ثم يخرج إلى الصفا من بابه ، فيبدأ بالصفا ، فيصعد عليه حتى يرى البيت ، فيكبر الله ويهلله ، ويدعو ويقول : لا إله إلا الله أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، اللهم اعصمني بدينك ، وجنبني حدودك ، واغفر لي خطيئتي ، واستجب لي إنك لا تخلف الميعاد .
    ثم ينزل منها حتى يأتي العلم الأول ، وهو مابين الصفا والمروة ، فيهرول من عنده حتى يأتي العلم الآخر فيمشي من عنده إلى المروة ، فيصعد عليها ويقف حيث يرى البيت ، ويقول كما قال على الصفا، ثم ينزل فيمشي حتى يأتي العلم ويهرول ما بين العلمين ، ويمشي إلى الصفا ، وعلى هذا يبدأ سبعة أشواط ، يبدأ بالصفا ويختم بالمروة ، ويعد الذهاب سعيه ، والرجوع سعيه ، ثم يعود ، فيخرج من مكة ، ولا يبيت بها ، فإن بات فعليه دم ، وقد تحلل التحللين جميعا ، وأبيح له كل شيء حتى النساء.

    فصل :

    فأما إذا أتى منى بات بها ، فإذا كان من الغذ وزالت الشمس أتى الجمرة الأولى ، وهي أقربهن إلى مسجد الخيف فليرمها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ، ثم يقف عن يسارها حيث يقف الناس وقوفا طويلا ويدعو بما شاء ، ثم يأتي الجمرة الوسطى فليرمها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ، ثم يقف عن يسارها فيدعو نحو دعائه الأول ، ثم يأتي الجمرة الثالثة فليرمها بسبع حصيات ويكبر مع كل حصاة ولا يقف عندها ، ثم يرجع إلى منى فيبيت بها ، فإذا كان من الغذ وهو يوم النفير الأول إذا زالت الشمس فليأخذ من الحصى إحدى وعشرين فيأتي الجمرة الأولى فيرمها بسبع حصيات ، وكذلك الثانية ، ويقف عندها كما فعل بالأمس ، ثم الثالثة فيرمها ولا يقف عندها .

    فصل : في تعجيل النفر :

    فإذا أردت أن تعجل بالنفر من يومك ، فانفر إن أردت أن تنفر من الغذ وهو يوم النفر الثاني فخذ باقي الحصى ، وهو إحدى وعشرون حصاة ، فارم بهن بعد الزوال كما رميت في اليومين و قف عند الأولى والثانية ، ولا يقف عند الثالثة .
    فإذا أردت أن تنفر في النفر الأول فشغلك شغل حتى غابت الشمس فلا تنفر حتى تزول من الغذ وترمي الجمار .
    وإن تم نفرك في اليوم الأول فقد بقيت معك إحدى وعشرون حصاة فلا ترم بها وادفنها ،فذلك معنى قوله : ( فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ) يعني تأخر حتى ينفر في النفر الثاني .

    فصل :

    فإذا نفرت فأت الأبطح فانزله ، فإذا أردت الخروج من مكة فأت المسجد الحرام فادخله على الصفة التي تقدم ذكرها ، وطف طواف الوداع ، وهو الطواف الواجب الذي ليس بركن ، ولا يرمل فيه ولا يضطبع ، وصلي عند المقام ركعتين ، وقبل الحجر ، والصق صدرك بالملتزم ، ثم ابتهل في الدعاء،وقل : اللهم لا تجعله آخر العهد من بيتك الحرام . ثم اخرج ، ولا تول ظهرك البيتحتى يغيب عنك ويكون ذلك آخرعهدك بالبيت .

    فصل :
    ويستحب قدوم مدينة الرسول صلوات الله عليه ، فيأتي مسجده فيقول عند دخوله : بسم الله اللهم صل على محمد وآل محمد ، وافتح لي أبواب رحمتك ، وكف عني أبواب عذابك . الحمد لله الذي بلغ بنا هذا المشهد ، وجعلنا لذلك أهلا . الحمد لله رب العالمين .
    ثم يأتي حائط القبر فلا تمسه ولا تلصق به صدرك ، لأن ذلك عادة اليهود ، واجعل القبر تلقاء وجهك، وقم مما يلي المنبر ، وقل السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، اللهم صل على محمد ، وعلى آل محمد إلى آخر ما تقوله في التشهد الأخير ، ثم تقول : اللهم اعط محمدا الوسيلة و الفضيلة والدرجة الرفيعة ، والمقام المحمود الذي وعدته ، اللهم صل على روحه في الأرواح ، وجسده في الأجساد كما بلغ رسالاتك ، وتلا آياتك ، وصدع بأمرك حتى أتاه اليقين . اللهم إنك قلت في كتابك لنبيك (صلى الله عليه وسلم) : ( ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما ) وإني قد أتيت بنبيك تائبا مستغفرا فأسألك أن توجب لي المغفرة كما أوجبتها لمن أتاه في حياته ، اللهم إني أتوجه إليك بنبيك صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة ، يا رسول الله إني أتوجه بك إلى ربي ليغفر لي ذنوبي ، اللهم إني أسألك بحقه أن تغفر لي ذنوبي .
    اللهم اجعل محمدا أول الشافعين ، وأنجح السائلين ، وأكرم الأولين والآخرين . اللهم كما آمنا به ، ولم نره ، وصدقناه ، ولم نلقه فأدخلنا مدخله ، واحشرنا في زمرته ، وأوردنا حوضه واسقنا بكأسه مشربا صافيا رويا سائغا هنيئا لا بعده أبدا غير خزايا ولا ناكبين ، ولا مارقين ، ولا مغضوب علينا، -ولا- ضالين ، واجعلنا من أهل شفاعته .
    ثم تقدم عن يمينك فقل : السلام عليكما يا صاحبي رسول الله ورحمة الله وبركاته . السلام عليك يا أبا بكر الصديق . السلام عليك يا عمر الفاروق . اللهم أجزهما عن نبيهما وعن الإسلام خيرا .اللهم : ( اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ) الآية ، ويصلي بين القبر والمنبر في الروضة ، وإن أحببت أن تمسح بالمنبر ، والجنانة وهو الجذع الذي كان يخطب عليه صلى الله عليه وسلم فلما اعتزل عنه حن إليه كحنين الناقة .
    وتأتي مسجد قباء فتصلي ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصده فيصلي فيه .
    وإن أمكنك فأت قبور الشهداء وزرهم وأكثر من الدعاء في تلك المشاهد حتى كأنك تنظر إلى مواقعهم، واصنع عند الخروج ما صنعت عند الدخول للوداع .
    وإذا كان قد حج عن نفسه وأحب الحج عن أبويه فليفعل ويبدأ بالحج عن أمه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بها في البِرّ .

    ( من كتاب التذكرة في الفقه لأبي الوفاء بن عقيل الحنبلي )

    ....

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. فصول من كتاب الواضح في أصول الفقه لابن عقيل الحنبلي :
    بواسطة سين عقيل في المنتدى قسم العقيدة والتوحيد
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 03-12-2014, 01:57 PM
  2. روائع المواضيع في ( كتاب الفنون لابن عقيل الحنبلي ):
    بواسطة سين عقيل في المنتدى قسم العقيدة والتوحيد
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 11-30-2013, 01:30 PM
  3. كتاب (فصول في الآداب و مكارم الأخلاق المشروعة لابن عقيل الحنبلي) :
    بواسطة سين عقيل في المنتدى قسم السنة وعلومها
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 10-30-2013, 10:14 AM
  4. فوائد وفتاوى للعلامة ابن عقيل الحنبلي :
    بواسطة سين عقيل في المنتدى قسم العقيدة والتوحيد
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 10-29-2013, 12:44 PM
  5. إعلان: رائعة ابو الوفاء الحنبلي في مسألة الحكمة من التعذيب الأبدي !
    بواسطة أبو عثمان في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 27
    آخر مشاركة: 04-28-2012, 03:45 PM

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء