النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: روائع المواضيع في ( كتاب الفنون لابن عقيل الحنبلي ):

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jun 2013
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    33
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي روائع المواضيع في ( كتاب الفنون لابن عقيل الحنبلي ):

    روائع المواضيع في ( كتاب الفنون لابن عقيل الحنبلي ):


    1 - مقدمة :

    أما بعد. فإن خير ما قطع به الوقت ،وشغلت به النفس ، فتقرب به إلى الرب -جلت عظمته- , طلب علم أخرج من ظلمة الجهل إلى نور الشرع، واطلع به على عاقبة محمودة يعمل لها وغائلة مذمومة يتجنب ما يوصل اليها، وليس ذلك إلا العلم الدي يصلح الاعتقاد ويخلصه من الأهواء ويصلح الأعمال ويصفيها من الأدواء.
    وهما علمان:علم الاصول، ومبناه على التامل والاعتبار . وعلم الفقه، ومبناه على استخراج معاني الألفاظ الشرعية وأخذ الأحكام من المنطوق به للمسكوت عنه.
    وذلك الذي شغلت به نفسي وقطعت به وقتي .فما أزال أعلق ما أستفيده من ألفاظ العلماء ومن بطون الصحائف ومن صيد الخواطر التي تنثرها المناظرات والمقابسات في مجالس العلماء ومجامع الفضلاء...طمعا في أن يعلق بي طرف من الفضل أبعد به عن الجهل، لعلي أصل الى بعض ما وصل اليه الرجال قبلي. ولو لم يكن من فائدته عاجلا إلا تنظيف الوقت عن الاشتغال برعونات الطباع التي تنقطع بها أوقات الرعاع .
    وعلى الله قصد السبيل وهو حسبي ونعم الوكيل.


    2-في المذاهب :

    إذا كانت المذاهب تنتصر بوصلة هي الدولة والكثرة ، أو حشمة الإنعام فلا عبرة بها. إنما المذهب ما نصره دليله ، حتى إذا انكشف بوحدته ساذجا من ناصر محتشم ومال مبذول كان طاهرا بصورته في الصحة والسلامة من الدخل والاعتراضات ، كالجوهر الذي لا يحتاج الى صقالة وتزويق ، و الحسن الذي لا يحتاج الى تحسين. و نعوذ بالله من مذهب لا ينتصر إلا بوصلة. فذلك الذي اذا زال عنه ناصره أفلس الذاهب إليه من الانتصار بدليل أو وضوح تعليل. و الدَّيِّن من خلّص الدلالة من الدولة و الصّحة من النصرة بالرجال ، وقلّما يعوّل في دينه على الرجال .


    3- اعتبار :

    قال حنبلي له فهم و اطلاع على مناسبة المعاني :
    قوله تعالى في أصحاب الجنة : (فانطلقوا و هم يتخافتون أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين ) ، و كان جوابهم من المنعم على كتمهم النعم عن المؤاساة للمحاويج قوله : ( فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون ).
    سبق و الله حرمانه إياهم حرمان المساكين، و كان سبقه أيضا بذلك خفية عنهم حال منامهم لإضمارهم الحرمان و عزمهم على إخفاء النعم تركا للاحسان . ف( مكروا مكرا و مكرنا مكرا و هم لا يشعرون ) (فأصبحت كالصريم ) .
    قال الخادم : فمن هاهنا طاب إظهار النعم لأرباب الحاجات إيقاظا لهم للطلب بشكر المنعم عليهم ، يشهد لذلك قوله سبحانه : (و أما السائل فلا تنهر.وأما بنعمة ربك فحدث ) ليسمع السائل فيطلب ، فتشكر نعمة ربك بالعطاء ، فانه لا يجوز ان يحمل إلا على هذا الوجه . لأن الحديث بالنعمة بين المسلوبين من غير مؤاساة بها وفيها ، فيها تعريضا لإسخاطهم على المنعم ، حيث حرمهم ما اعطاه غيرهم .


    4-كلام الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لأصحابه :

    قال حنبلي :
    إذا تلمح العاقل كلام الرسول ( صلى الله عليه وسلم) لأصحابه علم أنه أعطى كل واحد على مقداره و ما يصلح به و له . نحو قوله لبلال : أنفق بلال و لا تخش من ذي العرش إقلالا. و قوله لابي بكر : ما تركت لاهلك ؟ قال : الله و رسوله. و قال لابي لبابة لما انخلع من ماله: يجزيك من ذلك الثلث الثلث و الثلث كثير، لئن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس.
    فلحظ حال كل واحد منهم و رضي منهم بما علمه من حاله.
    فإذا كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يكلم الناس على قدر أحوالهم نظرا إلى مصالحهم ، فمن يعلم ان الاقلال يسخطه فيفسد دينه يقنع منه بترك بعض ماله، أو ينهاه عن إخراج جميع ماله كيلا يعود ذلك بوباله.
    فما ظنك بقسم الباري الارزاق بين خلقه بحسب ما علم من أحوالهم . وقد نص على ذلك بقوله : (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض و لكن ينزل بقدرما يشاء). ثم لم يقتصر على إطلاق المشيئة حتى عقب ذلك بقوله : ( إنه بعباده خبير بصير). ووصفه لنفسه بالبصارة والخبرة يعطي أن القسمة بحسب ما علمه من الاصلح توسعة او تقتيرا او توسطا. و أمر بالانفاق على قدر الاصلح . قال سبحانه : ( ولا تجعل يدك مغلولة الى عنقك و لا تبسطها كل البسط ) . ثم بين علة النهي فقال : ( فتقعد ملوما محسورا ) . فالملامة على التقتير كالملامة على التبذير. لان التقتير يحصل به منع الحقوق. و التبذير يورث الاسف و الحسرة و التسخط على الرازق. و ذلك بين تفسيق و تكفير.


    5-الإفراط في الإحتياط تضييع :

    الافراط في الاحتياط تضييع في الحقيقة ، عقلا و شرعا و عادة :
    أما في العقل ، فإن الانسان إذا دقق في تحري الاحتياط كثر شكه واستشعاره في الناس ففاتته الارباح في التجارات و النصرة في الحروب. لأن الإقدام على الذمم و بيع النسيئة والاسفار أسباب لمصادفة الارباح الجمة. ومن تجعّد واستشعر الجنايات والغرق في البحر و قطع الطريق على الظهْر قلت نهضاته فوقفت تجاراته ففاتته الاباح. ومن استشعر في الحرب من قلة العدو كمينا وراء الصف وأعدادا ممدة للعدو في الحرب فانه باستشعاره اختلاس الفرصة في النكاية في العدو مع القلة فصار كمينا عليه من نفسه.
    وأما في الفقه ، فمن أودع وديعة في صندوق فقفله بقفلين، فقال أحد أصحاب الشافعي : يضمنه بالسرق ، لانه لما أكد الاحراز أوهم نفاسة المحرز وعظم قيمته ، لأن اللص يعلم أنه لا يُزاد الاحراز إلا على الأنفَس فيكون إغراء له بالاخذ من القافل بزيادة قفل.
    وأما في العادة والحس فإن الحزّام إذا شد يده على بعض الحزمات الاخيرة استرخت التي قبلها لأن المحزوم يلطف.
    وقد قالت العامة : شدة الشد يُرخي ، وهذا كلام سخيف اللفظ خطير المعنى أتيتُ أنا به في صورة حسنة ، و هي قولي : الافراط في الاحتياط تضييع.
    و ذلك أن الوصية للمحارب التحرز من خصمه و بيان فضله في الحرب يوجب إيقاظا له ، لكن إذا أكثر أوجب جورا في الطبع. فإن النفس كما أنها قد تُغلب بترك التحرز قد تقدم مع الجهالة بحال الخصم و تجبن عند التعريف.
    و لو لم تعلم ذلك حكماء العرب لما انتسبت عند اللقاء والبراز ، و لا شك انها لم تقصد الا إضعاف قلوب المبارزين . فإن الانسان إذا عرف الصور المبارزة استولى عليه الانخذال والاسترسال واستشعر الهزيمة لما يلحظ من أيام المنتسب ووقعاته و ما تقدم له من سوابق الغلبة.
    و من ذلك ما يفعله بعض العقلاء من تهوين بعض الامور فإنما يقصدون الوسط لا الغاية و الافراط ، كتأخرهم لقفز النهر فانه كما يتهيئا للقفز من جانب النهر حتى يفسح وراءه للتحمي ، كذلك لا ينبغي أن يبعد حتى يفزع نفسه و يقطع قلبه عن الاقدام. لأن الانسان كما أنه يحتاج أن يتهيب ليحترز ، يحتاج أن لا يفرط فينقطع.
    وتخليص الاعتدال و المقاومة طب العقل. وما أصعب هذا الامر عند من خبر تغالب الاشياء و تقاومها ، و انتهى كل شيء الى ضده.
    و ما أحسن ما بين سبحانه سلوك الوسط بقوله ;( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا و لم يقتروا و كان بين ذلك قواما). فهو الذي ركب في الطباع الغالب. و جعل بينهما واسطة تنهى عن الإسراف و الإضاعة و البخل والإمساك ، و هو الشرع المؤدِّب و العقل المجرِّب ، سبحانه وتعالى .
    و من فهم هذا الفصل من كلام النبي (صلى الله عليه وسلم ) أيضا كما فهمه من الآية علم أن الأدلة متناصرة ، قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( صادق صديقك هونا ما عسى أن يكون عدوك يوما ما. وعاد عدوك هونا ما عسى ان يكون صديقك يوما ما).


    6-أيهما أفضل : الدعة و الراحة أم العمل والحركة ؟ :

    قال عالم : ملاك الأمر الرفاهية و الدعة و الراحة ، إذ ليس في الوجود ما يسوي التعب ومداراة الخلق.
    وقال آخر : ليس العيش النطقي الخارج عن طباع التراب و الجمادية إلا المخالطة و المعالجة ، والراحة كسب العطلة . وما خُلق الانسان على هذه الصفات الشريفة والاعضاء المهيئة للأعمال النفيسة للتعطل ، فتعطيل الله سبحانه كتعطيل نعمه كلها من الأموال و الحيوان و النبات ، وكتعطيل القلوب عن الأفكار و الاعتبار و التأمل .. ومعلوم أن الله سبحانه ما مدح إلا على الأعمال العائدة بصلاح الأديان و الأحوال . ولو أراد إجمام الناس عن العمل لتولى لهم الجزئيات ، كما تولى لهم الكليات . وكما أنه أراد إظهار حكمته في آثار صنعته ، أراد أن يظهر ما طوى من الجواهر في خليقته .
    انظر كم بين سيف في غمده ، وفرس في قيده ، و لسان في فمه ، وقلم في دواته ، وماء في مصنعه ، وبين سيف في يد كميّ يضرب به الهام حماية لجانبه ، ونصرة لعشيرته ، وفرسِ يجول بين الصفين كراً وفراَ بفارس كاشف لكربة قومه ، أو جالبٍ لنفع أهله ، معظما لحرمة الله ، ناصرا لدعوة الله ، ولسانٍ ناطق بحق لا يكشفه إلا بيانه ، أو بمدح ممدوح يهذّبه كرماً أو ذاماً به من ارتكب مفسدة يكسره عنها ذمه أو وعيده، وقلم بخط زجراَ عن فساد ، ويصلح بين طائفتين بما يجريه من لطافة وعذوبة تخرج عن الضمائر الصحيحة في تخاطيط المداد .
    فإذا كانت الأعضاء و الأدوات إنما يتضح شرفها بالأفعال ، فكيف بشرف هذا الحيوان الفاضل بالتعطل عن الأعمال ؟
    وجملة هذا وتفصيله ، أن الباري سمّى العاطل عبثاً و باطلاً . وذرأ لكل خلق حكمة ليخرجه بها عن حكم التعطل عن الفائدة .
    والله إن البحر إذا ركد عُد جوبة . والريح لمّا خلت من لقاح قيل فيها العقيم . والجنة وُصفت بما وصفت ، ثم حُملت حال عطلتها عن التنعم بها بأن قيل أُعدّت فإعدادها تجميلها . وخُلقت الملائكة خلقة الاسقلال عن الأعمال التي يحتاج إليها الآدميون من التسكّع للقوام واللذات و الحاجات . رُبطوا بأعمال بين حمَلة العرش ، وقبض لأرواح الخلق ، وكيْل لماء السحاب ، وتسليطاً على بلاد مسخوطة بأنواع العذاب ، وحفظة لأعمال المكلفين ، وكتَبة للأقدار ، وهابطين بالوحي ، وخزنة للجنان ، وزبانية للنيران .
    ولا يحملك حب الراحة لأجل رذيلة الكسل على تفضيل التعطل على الأكساب و العمل ، فإنك لا تجد لذلك شبهة ، فضلاً عن حجة.
    اعترض الآخر و قال : والله ما الأعمال في العمال إلا امتهان و ابتذال. وما العامل حال عمله أو استعماله إلا بمثابة هذه الآلات من الرحى و الجاون والمنجل و السيف . والإجمام للأنفس عن الابتذال أفضل .
    وإنما فُضلت الصناعة في حق القديم سبحانه لأنه سبحانه فاعل لا ينفعل ولا يبتذل ، والى ذلك أشار سبحانه بقوله ( وما مسّنا من لغوب ) . فأما من كانت الأعمال تنهكه والأفعال تحلله و تهدمه فأيّ فضل له في الأعمال ؟ وإنما المنافع لغيره به . ولذلك لمّا كانت الجنة أكمل ، قال سبحانه : ( لا يمسهم فيها نصب ) . وإنما مُدحت الاعمال لمكان الحاجات ، و الغناء أفضل . ولذلك جعل الباري الحاجة وصمة دلّت على الخلق . قال سبحانه في حق عيسى ومريم : ( كانا يأكلان الطعام). ومدح نفسه بالغناء فقال : ( سبحانهُ هو الغنيّ ).
    قال العالم المفضّل للأعمال على البطالات و الراحات :
    دعنا من ذكر الغني ، فإن الغناء تمام وكمال . لكن كلامنا في مخلوق على الحاجة ، تمّم نفسه بطلب الغناء . وليس العجب من غني وُجِب له وصف الغناء ، العجب من مخلوق على الحاجة وهو يكتسب الغناء بأفعاله ويسدّ خلله بأعماله و احتياله . فبمثل هذه الأعمال يشرَّف الرجال. وهل يكون أحسن ممن خُلق ناقصا فتمّم نفسه ، ومحتاجا فأغناها؟ وهل أحال الباري المحاويج إلا على الأغنياء ؟ فإذا صان الفقير نفسه عن الحوالة على غيره ، واستعمل جوهره الذي أودعه الله فيه في استغناءه عن المحال عليه ، كان أحسن حالا وأكثر جمالا ممن قنع لنفسه بقبول الحوالة ، وكونه من جملة من تكون يده السفلى ، ويد المعطي هي العليا .


    7-شعر لعلي كرم الله وجهه :

    قال علي كرم الله وجهه :
    اخشوشن الناس علي جدا
    إلا أداريهم بقيت فردا
    و ما أرى لي من أناس بدا


    8-تكشّف الخلق :

    قال حنبلي :
    يعزّ عليّ -والله - بأقوام التزموا لله سبحانه ما أسقطه عنهم ، وفتحوا على نفوسهم طرقا سدّها عنهم ، وأبوابا أغلقها دونهم . والشريعة من ذلك مملوءة ، وهم عنها غفّل :
    الرجل يقول : (زنيتُ) وصاحب الشرع يلتفت عنه ، ولمّا كلّمه عرض له بالرجوع عن التصميم : لعلك نظرتَ ، وقد سمعتني أقول ، العينان تزنيان ، إنك خبل ، استنكهوه . كل ذلك دفع عن تحقيق الإقرار ، وهرب من وقع الأحجار، والحق لله قد ثبت ، قال : ( هلا تركوه ؟ ) . فما زال يدفع الإقرار بجهده ، وهو المستناب لله في استيفاء حقه . ( رميت الراعي بعظم الجمل بعد الهرب ) والراعي ظنَّ أنه مستوف لله حقه ، والقوم يسألون الراعي عن ورود النجاسات عليه والنبي (صلى الله عليه وسلم ) يقول : لا تعلمهم . ويقول للمقِر : ( ما أخالك سرقت؟ ) . مع كون السرقة تتضمن حقيْن : حق الله ، وحق الآدمي . أسرقتَ ؟ قلْ : ( لا تعافوا الحدود فيما بينكم ) . هلا سترته بثوبك ..
    عمر بن الخطاب يقول في ماء الميزاب ، حيث سأل عنه الأصحاب : يا صاحب الميزاب لا تعلمهم .
    الأصحاب يقولون لمن ارتقى للآذان فقال أرى حاجب الشمس . فيقال له: بغيناك داعيا لا راعيا .
    النبي (صلى الله عليه وسلم ) يأمر المستنجئ بكف من الماء على المئزر بعد الاستنجاء ليدفع بلل الماء المحسوس ، توهّم قطر البول المجوّز ، بل المعهود .
    فالشرع يتغاضى عن حقوقه . وأنتم تتبعون الناس تتبع أصحاب الأخبار. قد كفى المكلّف ما وكّل به من الرقيب و العتيد . ما قنعتم أنتم بما وضع، وقد رأيتم تغاضيه عن حقوقه حتى جعلتم نفوسكم حفظة له .
    تُراكم لا تخافون أن يفضحكم في قعر بيوتكم على أقبح ذنوبكم ؟
    صاحب الحق يعفو ، وأنت بسوء طبعك تكشف و تجفو . وصاحب الشرع يقول على علم منه ببواطن الأحوال : من أتى من هذه القاذورات شيئا ، فليستتر بستر الله .
    تُراه يريد فليستتر عن الله بستره ، أو عنكم ؟؟؟
    فإذا استتر الجاني عنك امتثالا لأمري ، وكشفت أنت ، كانت جريمتك في الكشف على أخيك المسلم أكبر من جريمته ، حيث امتثل بسترها أمر الشرع .
    يا جاهل ! أنا صاحب الحق و قد سترت . فيا فضولي ! فما بالك فيما ليس لك ؟ بحثت وكشفت . احذر المقابلة مني بكشفك ، وأنت بين مصدّق ومكذّب فإن مقابلتي كشفك بحيث لا تُقبَل معذرتك ولا يُصَدّق جحدك . نعوذ بالله من التعبد بالجهل . أنت تعتقد أنك منكِر وأنت غير المنكِر ، حيث تطفّلت بما لم تكلّفه بل بما عنه لا توقّرني في الخلوة وتتعاصب لي على غيرك مع توقيه منك بأكثف ستر .


    9-أسماء الله عز و جلّ :

    ما أكثر المدّعين في الأسماء ، والمتنطعين فيها ، ويلهجون بها ويقولون ( الاسم هو هو ) أو (غيره) أو ( صفة له ) ، ولا يحقّقون القول.
    وتحقيق الكلام في هذا الباب أنهم إن كانوا يعنون بالأسماء قول القائل ، فما أبعد هذا ! وهل عاقل يقول إن القول هو القائل؟ وقولنا الله هو الذات الأزلية ، الخالق ، الباري ..وإنما القول التسمية . و القول لقائله ، فإن كان كلام الله ، كان قديما ، بما ثبت من قدم كلامه . وإن كان الاسم كلام آدمي ، مثل تسمية المسميات ، كان محدثا ، من حيث هي كلام محدث . وإنما يتكلم الناس في الاسم هل هو المسمّى ، ويخلطون التسمية بالاسم المسمّى .
    فنقول : الأسماء ، من حيث كونها كلاما لله سبحانه سمّى بها نفسه ، صفة لله ، من حيث كونها كلامه . ثم هي منفسمة في معانيها التي تحتها على ثلاثة أقسام :
    منها ما يعبَّر به عن الذات : كذات ، وشيء ، وموجود ..فهذا معناه الذات نفسها . وهذا مثل قولهم : الحد هو المحدود ، فقولنا العلم هو معرفة المعلوم على ماهو به ، فمعرفة المعلوم على ماهو به هي العلم . فلا يمكن أن يدّعى في قولنا ذات ، وشيء ، وموجود ، أنه صفة لا غير، لأن من قال ( الاسم صفة للمسمى ) ، لو قال ( الذات صفة للذات ) ، كان قائلا إن الشيء صفة لنفسه ، فالجميع لا يصح . لم يبق إلا أن الاسم الراجع أي نفس الشيء هو الشيء ، كما أن حد الشيء هو الشيء ، و المحدود هو الحد . ولهذا حدّوا الحد بأنه قول وجيز ينبئ عن حقيقة الشيء . فهذا حكم الاسم الراجع الى الذات .
    فأما القسم الثاني من الأسماء : فإسم دال على صفة ومشتق منها ، كعالم ، وقادر ، وحي ، مشتق من علم ، وقدرة ، وحياة ..أو من حال هو سبحانه عليها ، على قول من يثبت الأوصاف و الأحوال . فهذا اسم صفة ، إلا أن (عالم) لا يقال هو نفس العلم ، بخلاف ما قلنا في الأول، لأن العالم اسم لمن وصفه العلم ، أو من ثبت كونه عالما . فهو اسم لحال هو عليها أو صفة هو عليها . فهذا يحسن أن يقال اسم صفة للمسمّى .
    وأما القسم الثالث من الأسماء : فهو المشتق من فعل ، كخالق ، ورازق ..فهذا مشتق من فعل هو الخلق و الرزق ..والى هذا أشار أحمد رضي الله عنه بقوله ( الله هو الله ) ، يخص هذا الاسم - والله أعلم - لكونه اسما لا مشتقا من فعل ولا من صفة ، بل هو اسم خاص .


    10 - فصل في قوله تعالى : ( لقد خلقنا لإنسان في كبد ) :

    قال حنبلي :
    نقول جملة ، ثم نشرح ذلك تفصيلا يكشف عن ذلك .
    فالجملة أنه مخلوق في مكابدة الخروج من الأم الى الفساح ، ثم مكابدة اجتذاب اللبن من البدن ، ثم مكابدة الرضاع و التربية ، ثم مكابدة الأعراض و الأمراض ، ثم مكابدة اللآداب ، وبعد ذلك مكابدة المعاش ..
    فبينما تراه في صورة بهيمة يحرث ، ثم يسني و يسدف ، ثم يسمّد و يسقي ، ثم يراعي و ينظر ، ثم يحصد ، ثم يدوس ، ثم يذري و ينقّي ، ثم يطحن ، ثم يعجن ، ثم يخبز ..فلو رآه من لا يعرف الغرض الأقصى لأدهشه ذلك ، وظن أنه من الأغراض الفاخرة ، فإذا به لأكلة غايتها معاجة خروج الأذى وقد سبقها تشكّله وتصوّره بصورة أنواع من البهائم، تارة بصورة بقرة ، وتارة بصورة حمار ، وتارة بصورة سبع ، وتارة بصورة طائر ..وخروجه في أبواب من الحيل و ضروب من الخداع والمصاولة و الذلّ و الضراعة . فهذا نوع من المكابدة في نوع من الأغراض ، وهو الأكل .
    فكيف بمقاساة الخلق : بين حاسد و باغض ، وغاصب و ناهب ، ومواثب ومواشي ، وكاذب وخادع ، والبهيم : بين لاسع و ناهش ، ورافس و ناطح ، ومضار الأغدية : بين مسهّل و عاصم وقابض ، ومحمّي ومبرّد ، ومرطّب و مجفّف ، ومورّم ومدقّق ، والأزمنة : بين حارّ و بارد ومعتدل ؟
    فهذا مبسوط الكَبَد .
    ومجموعه أنها حياة منغّصة ، مشوبة بالأذايا ، ثم إنها منقطعة .
    فالعاقل مَن طلب من الله العافية الصافية الدائمة . فلا يغسل هذا الكَبَد ، إلا ذلك العيش الدائم على الأبد . وما هذا إلا كما قال الشاعر :
    كمَا قال الحمَام لِقوس رامٍ ...............لقد جمَّعتَ مِن شتّى لأمري
    فإنّ الصائد جمّع بين خشب وعصب وعظم وغراً وتُوز ووتر ، والغرض كله صيد حمامة ..
    وكما قدّروا من القول أن لو كانت الوحوش قائلة :
    (إنّ هذا المَلك الواسع المُلك ، الكثير العساكر ، الشديد البطش ، جمع عساكره ، وأخرج زينته ، وبرّز أكلبه وفهوده وصقوره وبزاته ، وبثّ خيْله و رَجْله ، وملأ الصحاري و الفضاء ، وترك ما وراءه من النعيم و القصور وكثرة الأموال ولذيذ الأطعمة والأغذية وقَصَدَنا ، ونحن حيوان لا نؤذي أحدا ، لا مخلب ولا ظفر ولا ناب ، بل مصوّرون بصور الانعام السائمة ، ولا نضايق في طعام ولا شراب ، نرعى نبات البرّ ونشرب ماء الغدران المجتمع من القطر ..فهل الخروج إلينا بالأسلحة ، وتخريش الجوارح و السباع إلا عين البغي و مض الظلم ؟ )
    فإذا عمل أمثال هذه التوبيخات على ألسنة البهائم ، فانقطع العذر ، فكيف بتوبيخات القرآن في العدول عن الأمر الإلهي ؟
    وعلى هذا كلّ تصاريفكم ، معاشر الناطقين ، خارجة عن نمط الشرع ومقتضى العقول ، و البهيم معكم متعب لسوء تصاريفكم فيه . ثم لا تقنعون مع هذه التصاريف القذرة و الحياة المشوبة المنغّصة حتى تستكثرون من الأثقال المزيدة في الأذايا والمكثرة من البلايا .


    11- ارفق يا هذا ، فالاستقصاء فرقة :

    من الظلم الصرف و البغي البحت مطالبتك صفو الود من ممزوج الخلق. إن علمت أن في العالم من هو صرف ، فاطلب منه الصرف . هذه الأطعمة و الأشربة ، حلوها و حامضها ومرّها ، لا يعطيك ما يشهيك أو يشفيك ، إلا ويكسبك ما يمرضك أو يوهنك ، لِما في مطاوي اللذة من الطبع الأصلي و المزج العنصري . فما بالك تطلب من يحلو لك شهيّ مودّته وطيب أنسه و دعة رضاه ، ولا يُمِرّك سورة غضبه و غائلة ملله و قوارص حدّه وفورة سخطه ؟
    تريد ما في مزاجه نار و لا يحرق ، وما فيه ماء لا يلين ، و ما فيه طين لا يثقل ، وما فيه هواء لا يبرد .
    بلى - والله - إن أهاجته النار و حرّكته السخونة برّده الهواء ، و إن برّده الهواء سخّنته النار ، وإن خفّ بالروح ثَقُل بالجسد ، وإن عدل بالعقل جار بالهوى ، وإن صفا بالجوهر تكدّر بالمدر ، وإن تواضع بالطين تكبّر بالنار .
    وليس خيار الناس بأكثر من الأدوية ، ولا شرارهم بأدون من السموم ، ولا متوسّطهم بخارج عن طبع الأغذية . فما خلص من مركّبات النبات و الحيوانات دواء و شفاء أعقب علّة وداء . فالمقبض من الحبوب و النبات ، إن قطع الذرب ، أورث القولَنْج . والمسهل من الحموضات المحتدّة ، إن دفع وسهّل ، أعقب السحوج . و الحار والرطب ، إن أزال التقليص و البنج ، أورث الإرخاء و التمدّد . فإذا كانت الأدوية كذا ، فكيف بالسموم ؟
    وأما المتوسط من الأغذية ، فهي من معفّن أو مبرّد أو مسخّن ..فإذا كانت الأغذية كذا ، وهي القوت ، ومنها البناء مع المزج في أصل الخلقة ، فما وجه مطالبتنا بالصفو ؟
    وهذا الخالق الكريم المنزّه الذات عن التركيب و الأخلاط ، لأنه واحد ، لكن لا وصلة بيننا وبين ذاته ، وإنما انتفاعنا بأفعاله ، وما خلصت لنا أفعاله ، بينا يغني يُفقر ، وبينا يعافي يُمرض ، وبينا يضحِك يُبكي ، وبينا يحيي .. يميت ، الى أمثال ذلك من أفعاله المختلفة في العالم لسنا منها على ثابت و لا لابث . في زمان الإنشاء في كل يوم تجدّد وصفاً ، وفي أيام الكبر و علو السن في كل يوم تهدّم ساقاً وتحيّل نعتاً وتغيّر وصفاً ..فهذا حكم الصانع الممدّ ، فكيف بالمصنوع المركَّب المستمد ؟
    ثم دَع الأغيار وتعالَ الى نفسك . بينما تجود عليها بدراهمك و دينارك تشهّيا وإلذاذا ، وتطعمها الشهي ، وتسمعها الأصوات والنغم ، وتمرحها في سوابغ النعم ، حتى تبخل عليها بالحبة وتكسرها بالبخل والشح عن أيسر شهوة وكأنك بهذه الحال الطارئة غيرٌ لتلك الأفعال الأولى .
    ومن كان مع نفسه كذا ، أيحسن أن يطالب غيره له بما لا يجده من نفسه ولا ربّه ولا أبيه ولا إبنه ؟ وأنى لك أن تأخذ صفو الناس عفواً عن كدرهم وتقنع منهم بالمجاملة غير مطالب بصدق ودّهم ، ثم أُنسب التغيير إليك فإن المَلل علة معلومة وطبيعة معروفة .
    فإذا وجدت نفسك لا تسمح بعد المسامحة ، ولا تقنع بالمجاملة ، بل تقتضي المخالصة ، فاعلم أن ملَلاً طرأ فاستقصيت بعد أن كنت مسامحاً في ابتداء ودّك . ومن لم يثبت هو مع نفسه على حال ، عذر غيره في تقلّب الأحوال .
    وأول الفوائد لك في هذا قلّة المبالاة و المناقشة ، فإنها تنغّص العيش و تمرّه . واعلم أن العيش كل العيش إدراج المودات درجا ، والنغصة كل النغصة البحث و الاستقصاء . فما بقي مع الاستقصاء صديق قطّ .
    وما لم تجده من غيرك ، فلا تتشاغل بالتعجب من عدمه حتى تجده من نفسك . فإن لم تجد خلقا تحمده في غيرك ، ووجدت نفسك تطلبه ، فاكتسبه لنفسك : فما أحسن أن تكون الفضائل لك !
    فإن عجزت نفسك عن تحصيل ذلك ، فكن عاذرا لمن عدمتها فيه و منه. لأنك تجده قد أجهد نفسه في طلبها ، فعَجَز كعجزك .
    واعلم أن المطالب أقل من الطلب . ففي نفوس العقلاء أمور تعتلج واقتضاءات تختلج ، لا يقفون منها على طائل ، و لا يجدون مع توفّر حيلهم وجوْدة آرائهم سبيلا . فكن أسوتهم ، وتسلّ بهم . فما منهم إلا من رام الحياة الدائمة فما حظي ، ورام دوام الوصلة بأحباله فما مُليّ ، وأحب استقامة الأحوال و الصحة والاعتدال فما أُعطي ، فكن واحدا منهم أو كن جانبا عنهم . قال بعض المشايخ : ارفق يا هذا ، فالاستقصاء فرقة .


    12-مذاكرة في : هل الجسد بعد الموت منتفع أو مستضرّ ؟

    قال بعض القوم :
    هو بحكم ما صار جزءاً له ، وهي الأرض . فما يتسلّط على الأرض من إنبات أو يبس أو خصب أو جدب تسلّطَ عليه . وما انتفى عن الأرض ، فهو مُنتفٍ عنه . هذا بحكم البرهان العقلي . حيث وجدنا ما بان من الأطراف حال الحياة مع ما بقي من الجملة ، كحجر بالإضافة الى الإنسان . فلا الإنسان يحس بألم إن ضُرب الحجر أو أُحرق ، ولا بِلذّة إن قرب من الحجر ما يوجب لذة للحيّ . فالعضو البائن مع بقاء الجملة أقرب من الروح الى الجسد مع خروجها من الجثة .
    وقال آخر :
    ولِمَ نحكم بهذا و لا نسلّم الى الله سبحانه القدرة على إيلامه ، وإن بانت عنه الروح ، ألماً يخصّه ؟
    قال :
    اعتقاد هذا جهل ، و الجهل يبعد عن الله ، و التقرب الى الله بالحكمة .
    وإن جاز أن أعتقد ذلك ، فتحتُ على نفسي تجويز إحساس الأرض . وهل الميّت إلا أرض؟ وهل الأرض إلا أجساد الأموات ؟ فما لنا واعتقاد الجهالات و المحالات ؟
    قال له قائل :
    الحكيم قد أيّد صادقا بالاعجاز . فقال في القبرين (إنهما يعذبان و ما يعذبان بكبيرة) فتصديقي للصادق في خبره أولى بي من تصديقك في حدسك أو استدلالك .
    قال :
    صدق الصادق . ولعلّه أراد الحقيقة ، ولعلّه أراد المجاز . فالقول يدخله المجاز ، و العقول لا يدخل عليها المحال . فلعلّه أراد أنهما يعذبان (سيعذبان ) كقوله : ( إنك ميّت ) ، وقوله : ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا ) ومعلوم أن ما أكلوه أطاييب الطعام دون النار ، لكنه لمّا كان مآله الى النار سمّاه نارا .
    قال له المعترض :
    في الحديث ما ينفي هذا ، لأنه أخذ جريدة فوضعها في القبر ، وقال : سألت الله أن يخفف عنهما العذاب حتى تيبس الجريدة .
    قال :
    إنما تكلّمتَ مسامحة ، وإلا فنحن في أصول وأدلتها أدلة العقول . فلا نترك الأدلة القاطعة لأخبار مظنونة .
    ثم عادوا الى المنافرة بالمعقولات .
    فقال الناصر للسّنّة :
    وإذا كان الباري يوصل الألام الى المزدوجات و المركّبات فما المانع من إيصالها الى الآحاد و المفردات ؟
    قال له المستدل بالمعقولات :
    ما قولك هذا إلا كقول من قال ( إذا كان الزامر ينفخ في الزمر فيخرج ذلك الصوت الملهي المشهي ، فلِمَ لا يزمر الزمر بنفسه ؟ ) ولا يتحدد صوت المزمار بنفخ الإنسان بنفسه من غير زمر . وإذا كان لكل حقيقة بنية مخصوصة ، فلا يجوز تصور وجود مانع إخلال البنية .
    وهذا يشير الى معنى ، وذلك أنا كما نحرص على إثبات كونه سبحانه قادراً ، نحن أحرص على إثباته حكيما . ولو كانت الآلام و اللذات و الأصوات وغير ذلك مما تتصور من غير هذه الأبنية المخصوصة ، ثم بناها الباري على هذه الصورة ، لكان فعله للصورة عبثاً ، إذ كان المراد يستقل دونها ، وليس العبث إلا ما لم يقتض وجوده حكمة .
    قال له المجيب عن شبهة :
    قد يفعل الباري ما يستقل الفعل دونه ، ولا يكون عبثاً ، لأنه لا يخلو من حكمة ، إما في الفعل ، أو مصلحةً للمكلفين ، هذا بمثابة خلقه للسماء بغير عمد بحسب القدرة ، ودحو الأرض بأوتاد هي الجبال بيان الحكمة . ولهذا قال : ( أن تميدَ بكم ) وقد قال : ( يمسك السماوات و الأرض أن تزولا ) .


    13-تنافر الناس في مقادير الإكرام :

    تذاكرنا في بعض المجالس من أين يجيء تنافر الناس في مقادير الإكرام من الهشاشة و القيام ، الى ما شاكل ذلك عند التلاقي .. وما ينبوع التنافس في المجالس و التشاجر في المناصب عند الاجتماع ..
    قال عالم : أقول و بالله التوفيق لإصابة الغرض :
    إن الناس متفاوتون في الأقدار بحسب أسباب الأقدار ، وكل منهم يرى السبب الذي يمتّ به بعين التعظيم . كالنسيب يرى نسبه فيرفعه في عين نفسه فيمتلئ به ، حتى إنه يرى انحطاط كل مَن دونه ،سيما إن أعانه على ذلك توحّده بالنسب في محلته أو دبه الذي يسكنه ، فيُخاطب بالشريف و السيد ، ويتقاصر له مَن دونه في نسبه تقاصرا يوجبهم انحطاط رتبهم عن نسبه ، فيألف الاكرام من أولئك الأقوام ، فيخرج الى من يرى نفسه بنوع آخر من الفضل كعالم بين جهّال يدأب نفسه في العلوم ويجهدها في تخليص الفهوم ، فيتقاصر عنه جيرته وأهل محلته و عشيرته تقاصر الجهال للعالم ، فيرى لنفسه حقا على من جهل علمه ،وإن كان نسيبا فيخرج الى ذلك النسيب ، وآخر ينقطع إلى عبادة ربه ، ويتصور بإدمان الخلوة أن لا رتبة تستحق الامرام دون رتبته ، ويُخلّ بإدمان آداب المخالطة فيخرج على ما به ، وآخر يتميز بنوع حدة . وغني بين فقراء ربما واساهم فأكرموه لمواساته أو للطمع فيه ، فيضرعون له ضرع الطامعين للمطموع فيه ، فيخرج على ما به ..حتى إذا جمع هؤلاء مجلس ترفّع كل واحد منهم بامتلائه بخصيصته فيقع التنافر بينهم.
    والمُعدّل لهذه الأحوال هو العقل الذي يحصل به الانصاف لمن أنصف ، أو المسامحة لمن قصّر في الحق و طفّف . فالعاقل يزن فسه بزنتها ، فإن اجتمع به منصف رضي بما ظهر من إنصافه ، فقد زال الخلاف بينهما . وإن اجتمع به متحيّف متعجرف جاهل بمقدار غيره لامتلائه برؤية نفسه ، ألان له هذا العاقل جانبه و سامحه ، فترك الاقتضاء بحق نفسه ، ووفّى ذلك الجاهل حقه وزاده ما يرضيه به من الإكرام .
    فالعقل سكّان كل شِغاب و فسادِ اعتدال .
    وأرى العاقل إن كان ذا سلطان ويُدان ، لا يسامح ، بخلاف الأمثال ممن لا سلطان له . وإنما فرّقتُ بين السلطان المتسلّط وبين المماثل لأن المماثل استحببنا له التواضع و المسامحة ، كيلا يقع الخلاف وينشأ الشغب و الفساد . فأما السلطان ، فإنه إذا قوّم المتأوّد ، وحقق على المتعجرف ، وردّ كل إنسان عن استطالته الى حدّه ورتبته ، أُمنت غوائل تحقيقه على رعاياه لقوّته و تسلّطه .
    فكما أنه يحقق مقادير الرجال ، يقوّم من تعدى عند تحقيق هذه الحال ، وينتفع بتقويمه جماعة المستطيلين والمستطال عليهم . لأن المستطيل بجهالته لا يخلو من مغالب له ومصاول . وصول السلطان أحب إلينا من صول الرعايا ، لأن صول السلطان يمنع المنافرة بين الرعايا ، وصول بعضهم على بعض يفضي الى التهارج ..
    وما أقبح بالعاقل أن يُحوَج الى تقويم السلطان ، لأنه يفضي الى دوام تأديبه . لأن حال الطفولة تحت أدب الوالدين مقوَّم بتقويمهما ، وبعد أن شب وترعرع صار تحت حُجر المعلم والأستاذ ، فإذا كبر وشاب صار تحت حُجر السلطان ، لا يستغني عن تقويمه ..فمتى يخرج هذا عن حجر الرجال ؟ ومن كان كذا لا يكون راعيا لنفسه قط ، بل غيره يرعاه فهذا كالسوائم . فما الذي أفاده العقل ؟ وما الذي هذّب منه الشرع ؟
    نعوذ بالله من خذلان يحمل على ترك الانحياش لله ، و الكون تحت تصريفه و تأديبه ، والرضا بالكون تحت حجر المخلوقين و الأمثال !


    14- العبودية :

    -قيل : العبودية ترك الاختيار و ملازمة الافتقار.
    قال حنبلي :
    نجز كلامهم. أراد : ترك الاختيار مع الله او على الله ، فإنه الوبال. لأن مثار هذه الرذيلة رؤية النفس و الجهل بحكمة الحكيم. و ملازمة الافتقار معناه أن لا يفقد من ناب الطلب رهبة ورغبة . و متى لم يكن كذا سُلبت مواد الخير.


    15-الخوف من الله:

    قال حنبلي :
    من أدب الخوف من الله أن تخاف من عدله فيك. فان خفت الحيف فبئس الخوف. و إياك أن تخاف مما وراء العدل فان ذلك تجوير لله .و لهذا لو فصح بذلك فقال : ( ما أخاف إلا مما وراء عدل الله ) فكانه يقول : ( أني أخاف الحيف ). و الخوف من غير عدله سبحانه هو سوء الظن به.


    16 -حِكم

    مبدأ القطيعة التجنّي.
    الطمأنينة قبل التجربة ضد الحزم .
    أشرف الغنى ترك المنى.
    التدبير قبل العمل يؤمن الندامة.
    الجزع من إخوان الزمان .
    الخوف حارس الاعراض.
    قد خاطر من استغنى برأيه.
    الصبر جُنة الفاقة.
    المودة قرابة مستفادة.


    17-سأل سائل عن قوله تعالى : ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه و من خلفه رصدا ):

    قال المفضل :
    المراد به أن ملائكة كانت تنزل مع جبريل تحفظ ما يورده من الوحي الى محمد صلى الله عليه وسلم عن استراق الجن له و حمله الى كفاتهم .
    ( ليعلم ان قد ابلغوا رسالات ربهم )
    قيل : ليعلم النبي صلى الله عليه وسلم . و قيل : ليعلم الانس والجن ان قد أبلغت الملائكة رسالات ربهم .
    ( وأحاط بما لديهم ) : أي علم بما عندهم .


    18-شعر :

    نديمتي جارية ساقية
    ونزهتي ساقية جارية


    19-قال بعض اهل العلم :

    من نازعك في أن القرآن علماً ظاهراً او معجزا باهراً فاعدلْ عن الكلام معه الى الكِلام وعن الحِجاج الى الشِجاج.
    وليس جواب من أنكر الحجة الواضحة إلا الشجة الموضحة.


    20-عن الشعبي في قوله تعالى : (هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ):

    قال :بيان من العمى. و هدى من الضلالة. و موعظة من الجهل.



    21- لو كُشفت العواقب سقط التكليف.

    قال بعض اهل العلم :
    لو كُشفت العواقب سقط التكليف.
    قال حنبلي :
    و صدق. فانه لو قُطع العبد عن دخول النار ترك العمل.
    وأما كشف العاقبة بالجنة فإنه لا يترك العمل لأنه إن سقط العمل لأجل الأمن من العقوبة لم يسقط العمل لشكر المنعم بالجنة.


    22- شذرة :

    أحسن الوجوه ما تأخذه النفس ويقبله القلب و ترتاح له الروح.



    23-في قوله تعالى : ( و تجعلون رزقكم انكم تكذبون ):

    قيل في التفسير :
    تجعلون جزاء نعمتنا عليكم برزقكم تكذيبكم برسلنا.


    24-من كلام علي عليه السلام :

    الهيبة خيبة. و الحياء يمنع الرزق. وعليكم بالصبر فان الحازم به يأخذ و الجازع اليه يرجع.


    25-في الحديث ان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال :
    إن الناس يُعطون أجورهم على قدر عقولهم دون اعمالهم .


    26-قال حنبلي :
    الحمد لله الذي حفظني بعواصم نعمه عن قواصم نقمه.


    27- العقل :

    قال عالم :
    العقل أفضل ما منحه الله خلقه و امتن به عليهم في استعماله في طاعة مانحه و تعظيم أمره و نهيه ليقع الشكر من النعمة موقعه . و استعمله بعد ذلك في مكارم الاخلاق مع خلق الله فإن من جميل شكره الاحسان الى خلقه. و ثمرة العقل طاعة الله فيما أمرك به و نهاك و عدلك في معاملة الناس في التأدب لهم و الانصاف. فعقل لا يثمر طاعة الحق ولا إنصاف الخلق ، كعين لا تبصر و أذن لا تسمع.


    28-يحي و عيسى عليهما السلام :

    كان يحي عليه السلام لا يُلقى إلا وهو مقطب. و عيسى عليه السلام لا يُلقى الا وهو مستبشر.
    فقال يحي لعيسى : يا ابن خالتي ، ألقاك كأنك آمن.
    قال له عيسى : يابن خالتي ، ألقاك كأنك آيس.
    فأوحى الله إليهما : أحبكما إلي أبشكما بصاحبه.



    29-شذرة :

    البِشْر مؤَنّس العقول و من دواعي القبول. والعبوس ضده.
    لو كان في العبوس خير ما عتب عليه النبي صلى الله عليه وسلم .


    30-شذرة :

    ما أحثَّ السائق لو فطِن الخلائق.



    31-دين الله واحد:

    اجتمع العلماء على أن دين الله واحد الذي عليه الانبياء كافة. يشهد لذلك قوله سبحانه لنبينا صلى الله عليه وسلم ولأمته : ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي أوحينا إليك ). و انظر ما بين نوح ونبينا. قال : ( وما وصينا به إبراهيم و موسى وعيسى أن أقيموا الدين و لا تفرقوا فيه ) و قال تعالى : ( ويهديكم سنن الذين من قبلكم ). وروى البخاري : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يوافق أهل الكتاب فيما لم يوح إليه فيه شيء ).


    32- سبعة أشياء محتاجة الى سبعة :

    قال الحكيم :
    سبعة أشياء محتاجة الى سبعة : المنظر محتاج الى القبول. والحسب محتاج الى الأدب. و السرور محتاج الى الأمن. و القرابة محتاجة الى المودة. و المعرفة محتاجة الى التجربة. و الشرف محتاج الى التواضع. و النجدة محتاجة الى الجِدّ.



    33-ذم المشبهة :

    قال حنبلي :
    أسرع الناس تجنيسا بالرجال ، المشبهةُ الذين توهّموا و تمكّن في نفوسهم أن ربهم على صورة آدمي فلا ينكرونه بالصورة. ثم تظهر على يديه أفعال إلهية من إحياء ميت و إنشاء سحاب في أثر جدب . وإلى أمثال ذلك من الفتن فلا يبقى ما ينكرونه.
    قال واحد منهم يكتم ما في نفسه فزعا من الصفع :
    فهو أعور . قال النبي صلى الله عليه وسلم : وإن ربكم ليس باعور.
    قال له الحنبلي :
    يدل على أن الشيخ لو وجد الدجال صحيح العينين دان له و عبده لتكامل سلامة الصورة.
    لقد خرج ما في نفسك من أنك لا تمتنع من عبادته إلا لعوره . والباري سبحانه نفى الإلهية في المسيح وأمه بقوله : ( كانا يأكلان الطعام )
    وإن هذا الذي اعتذرت به يوجب عليك عبادة عيسى لأنه أحيا ميتا و ليس باعور.


    34-روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إنما المؤمن الذي نفسه منه في عناء و الناس منه في راحة .

    قيل لحنبلي له تحقيق :
    ما معنى هذا ؟
    فأجاب بأن نفسه منه في عناء ، لان الإيمان يقيّد الفتك و النفس تطلب من الناس الحظ و تتقاعد عن الحق لما معها من العرامة بالطبع .
    و الاوائل قالوا :
    أتروض عِرسَك بعدما هرمتْ
    ومن العناء رياضة الهرِم
    و أنا أقول :
    أتروض عِرسَك في حداثَتِها
    ومن العناء رياضة العرِم
    و أدل عليه بأن العرامة تشرد مع قوة ، والقوي تشتد مقاواته ومعه عدم خبرة . و الهرِم إن صعبتْ رياضته فغايته لاستمرار العادة ، ولكن يُقابِل ذلك ضعف قوته وسلالة استجابته لضعفه عن المقاواة ، وقوة خبرته وتجربته المعينة له على القبول والاستجابة للحق.



    35-تقصير الآمال :

    ما تصفو الأعمال إلا بتقصير الآمال ، فان كل من عد ساعته التي هو فيها كمرض الموت حسنت اعماله فصار عمره كله صافيا. وإلى هذا أشار صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم حيث قال : وعّد نفسك من الموتى . إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء وإذ أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح .
    وهذا قول عارف بأن التسويف يؤخر الأعمال ببسط الآمال . ومن قصّر أمله رآى قلة البضاعة و صيانة العيش الساعة التي هو فيها فجوّد العمل خوفا أن يكون القدر هو المقطع. وليس هذا عندي مجتمعا بالأعمار بل بالأموال. كذلك يجب أن يكون إحسانك من المال الحاضر بحسبه و ان قل و لا تتسوف بكثرة المال في الثاني . و العاقل من لم يحضره قليل الرزق إلا و شكر الله بحسبه . فتعجيل القليل مع حضور الوقت و المهلة خير من التمادي و التأخير انتظارا لكثيره . وليس تأثير الأعمال بالكثرة بل بالخلوص . ولهذا جرى في مدح القرآن على ذلك الخبز الشعير : ( و يطعمون الطعام على حبه ). فاذا سمع القائل هذه المدحة على تلك الأمراض ، اغتنم الشكر بحسب الحاضر من الحال ولم يتسوف بالامال.


    36-وجدت في تعاليق بعض العلماء :

    لايكون الرجل مؤمنا حتى يندرج في مدارج كل واحدة منها تبين عند معرفته كفرا لكن غير مؤاخذ به لتركه و الخروج عنه. وذلك أن الباحث يترامى به النظر كل مرمى . كإبراهيم قال عند رؤية النجم ( هذا ربي ) وكذلك القمر و الشمس .. حتى انتهى به النظر إلى إثبات الفاطر.
    وكفر البحث والزلات مغفورة. وأول الإيمان خطور الباري بالبال بحسب الحال التي تكون في المكلف في أول وهلات نظره بإخطار النظر بباله عليها .


    37-قال أصولي :

    إن الأشعري لم يترك لنفسه دلالة على الصانع ولا دلالة على صحة الشرائع.
    فأما إثبات الصانع فانه مبني على احتياج المحدَث و افتقاره إلى محدِث، وليس في الشاهد عنده محدِث لبناء ولا لشيء. وصحة إرسال الرسل مبني على الثقة بالمعجز ، ووجه الثقة أن الله لا يقيم الإعجاز دلالة إلا على يديْ صادق غير كاذب عليه .
    وما ترك لنفسه ثقة بالرسالة حيث قال ( لا يقبَّح شيء صدر من جهة الله من إضلال وسد لباب العلم بمعرفة صحة الرسالة ) فلم يبعد تجويز تأييد الكذب بالمعجز لأن ذلك ليس باكثر من الإضلال.


    38-حادثة:

    حادثة رجل حلف بالطلاق أنه ليس كل الناس ولد آدم ، لانه قال بعض المفسرين في الآية ( والله أنبتكم من الأرض نباتا) أنه كان في بعض الأزمان يخلق الله من الطين قوما لا بالتوالد.
    قال حنبلي: هذا ليس طريقا صحيحا . لأنه لو كان ذلك كذلك ، لكان نسل آدم انقطع و صار هؤلاء المخلوقون آباء من بعدهم حتى انقطع نسل آدم. وهذا أمر يحتاج الى نقل متواتر ، لا يكفي فيه قول بعض المفسرين.
    ولكن الخلاص لهذا الحلف من وجه آخر. و هو أن آدم وحواء إنسانان ، وليس واحد منهما ولد لآدم ولا لغيره ، إذ لا والد لهما .فقد خرج من الناس اثنان ليسا بولدين لآدم ، فبرّ في يمينه.
    والله أعلم.



    39-مذاكرة بين أشعري ومعتزليحول صفة الكلام :

    قال أشعري :
    الكلام من كمال صفات الحي. والله سح حي, قادر,عالم.. فمن كمال الصفة له أن يكون متكلما..
    اعترض معتزلي وقال :
    نعم. ولكن المتكلم من كان فاعلا للكلام المخرج ما في النفس من جميع ما يسنح لها. ومتى لم يكن قادرا على ذلك لم يكن متكلما . والباري قادر على إظهار ما يريده من خلقه بما يفعله من الكلام ، فكما القادر منا كذلك. إلا أن الكلام مفعول في أدواتنا من حيث أن أدوات الكلام فينا و ذاتنا قابلة للانفعال من الاصطكاك ، والباري منزه عن ذلك إذ ليس بجسم ، فاختلافنا وإياه من حيث أدوات الكلام . فأما أصل الكلام و الغرض به فحاصل في حقه على ما يليق به ، و حاصل في حقنا على ما يليق بنا . و صار الكلام من جهة كونه مخرجا ومظهرا ما في النفس، كالإشارة باليد والرمز بالعين و الخط بالكتب ...والله سبحانه قادر على إيصال ذلك إلى الأحياء بفعله هذه الأشياء كما أن الواحد منا قادر على ذلك . فقد ثبت الكلام كمالا في حقه . ولم يقف على ما يقوله الأشعري من الكلام القائم في النفس ، والذي لا يحصل به غرض المتكلم في أصل الوضع.
    وجعل أقوام يحتجون بذكر الاقدار على عالم حنبلي محقق يدري ما يقول، فقالوا : كلامك كلام قدري لا حنبلي. فقال :
    أنا لا أدري من القدر ما يقيم لكم الحجة ويقطع لساني عن خطابكم وعتبكم على إهمال الأعمال. و الذي قدّر القدر هو الذي أمر الانبياء بالبلاغ و يهدد على تركه ، حتى قال : ( وإن لم تفعل فما بلغت ). فلما جاء الى القدر قال : إذا ذكر القدر فأمسكوا. فدل على أنه ليس من العلم النافع .


    40-قال قائل : لو أن الله سبحانه عذب الانبياء وأدخل الكفار النار لكان ذلك منه حسنا .

    قال له معترض :
    يا هذا ! ما تعرف عوار ما تقول و مقدار الكفر الذي تحته ؟ فإن القرآن كلامه . ومن حيث كان كلامه ، يستحيل عليه الكذب . و قد يضمن الخبر عن نعيم أقوام معينين وتخليدهم في الجنة. وتجويز إخلاف الوعد
    تجويز للكذب ، و حاشا كلامه من الكذب ، لا محاشاة مدح مستعان ، بل محاشاة إحالة. كما يستحيل على علمه الجهل و حياته الموت وقدرته العجز.. كذلك يستحيل على صفته التي هي الكلام الكذب . وبالتالي لا يجوز إدخال النار من أخبر أنه سيدخل الجنة


    41- شذرات :

    -قال حنبلي في المعنى :
    ما أمر منع البصر عن تلمح الخبر من دلائل العبر . وما أشد عذاب الحصر على أرباب التفسح والتلمح . هذا مما لا يجد كربه الا أرباب الوجد عند الفقد.


    42 -قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لو علم المؤمن ماعند الله من العقوبة ما طمع في جنته. ولو علم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من رحمته ) :

    قال حنبلي :
    وما يحتاج الى ذكر الجنة والنار في هذا الشان..بل إذا رأى بطشاته سبحانه في العالم وألطافه ، كان ذلك مقتضيا بالمؤمن إلى الفزع وبالكافر إلى الطمع.


    43 -شذرة :

    يقال :
    أهلك الناس حب الفخر وفوت الفقر!


    44 -في الحديث المسند :

    آفة الحديث الكذب . وآفة العلم النسيان. و آفة الحلم السفه. و آفة العبادة الفترة. و آفة الشجاعة البغي. و آفة السماحة المن. وآفة الجمال الخيلاء. وآفة الحسب الفخر. و آفة الطرف الصلف. و آفة الجود السرف. و آفة الدين الهوى.


    45 - فائدة :

    قيل لابن الحصين : في اي عدة تحب ان تلقى عدوك فيها ، رمح او سيف او قوس وسهام ؟
    قال : في أجل متأخر.
    قال حنبلي له اطلاع :
    هذا من أحسن العدد المختارة .


    46 -صفة دار حسنة :
    وطن تبيت المكارم فيه بين ماء جار و عود و ريق .


    47 -عن الحسن :

    يصبح ابن آدم بين نعمة زائلة وبلية نازلة ومنية قاتلة.



    48 -في قوله تعالى : ( يوم لا يخزي الله النبي و الذين آمنوا معه ) :
    مما يعطي قبول شفاعته في عصاة أمته .لأن رد السؤال خزي عند العرب .



    49 -قال حنبلي في نظره لمن قبح ذبح الحيوان في الشرائع :

    لا خلاف بين العقلاء ان الإماتة للحيوان تجمع بين إيلام الذبح وإيلام النزع ، ولعله أشد من الذبح. وقد أمر الله الملائكة بنزع أرواحنا ، ونحن أكرم البهيم منزلة ، ولنا حق العبادة وحمل أعباء التكليف. فاحسبوا أن الله جعلنا لقبض أرواح البهائم أو إزهاقها كملائكة قبضت الارواح منا ، ونكون نحن كهم في إزهاق أرواح البهائم .


    50 - بشر الحافي :
    قيل لبشر الحافي : لم لا تلبس النعل ؟
    قال : أستحيي أن أمشي على بساطه بالنعل .
    أخذه من قوله : ( والله جعل لكم الأرض بساطا ) .


    51 - تجيء الطاعات معاصي :

    قال اهل العلم : تجيء الطاعات معاصي.
    يعني : الرياء فيها حين العمل والإعجاب بعد عملها.

    52 - شذرة :

    بينما أنت معجب بالواحد من أهل الدهر حتى يملولح عذبه ، ويكتهل عشبه ، ويضيق رحبه . فالاغترار بهم غباء ، وودهم عند التحقيق هباء، والاعتماد عليهم افلاس.


    53 -الاغضاء عن هفوات من كثرت محاسنه :

    قد ورد في الأحاديث ما يستحب الإغفال والإغضاء عن هفوات من كثرت حسناته ومحاسنه. فقال (صلى الله عليه وسلم ) : ( إذا ذكر أصحابي فأمسكوا ) ، ثم علل فقال : ( لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ) .
    تقدير هذا الكلام : حسناتهم ومتقدمات أفعالهم و طاعاتهم تمنع أمثالكم أن يتكلم فيهم. وكذا وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر ..)
    يعني والله أعلم : إن طاعاتهم كثيرة فتغطي إساءاتهم الجزئية .


    54 - فصل وعظي :

    يا مصنوعا في أحسن تقويم. يا مخصوصا بالاطلاع والتعليم. يا مخاطبا من بين الناطق والبهيم. يا معظما على كل ملك كريم. يا قبلة المسبحين. يا صفوة الخلق اجمعين . لي بين جنبيك عقل هو هبتي. وكتاب هو حجتي. ولي إليك رسول بما كلفتك من عبادتي مؤيد ببرهاني ومعجزتي. فهل مع هذه التحف كلها علقت بك الحكمة ؟ هل شرفت منك الهمة ؟ هل تادبت في الخدمة ؟ هل عرفت وان قصرت مقدار النعمة ؟
    افتح عينيك وانظر من أنت وعبد من أنت. فصن نفسك عن الذل و التضرع للخلق. واحملها على الإجمال في الطلب فما زاد الحرص رزقا. والثقة بالله حصن منيع من الضراعة وذخر يوفي على البضاعة. والتوسل الى الخلق في الرزق شناعة . وملاك الأمر مع الله الاستجابة والطاعة.


    55 -إن الله إذا أعاد الخلق أعاد أذكارهم :

    قال أحد المنتقدين :
    إن الله إذا أعاد الخلق أعاد أذكارهم ، حتى أخبر عنهم أن القائل منهم يقول ( إني كان لي قرين ) . لماذا أعاد الأذكار ؟
    فال حنبلي بسرعة :
    أنه كان وعدهم بالبعث بعد إياسهم و شكوكهم فيه ، فلو أنساهم لما علموا عند البعث صدق الوعد ، واعتقدوا انه ابتداء خلق. وانما طاب العيش بتحقيق الوعد ، ويعذَّب الكفار بحسرة الفوت ، وما سبقوا به من موجبات الوعيد بالتكذيب. فكان ذكر مضافرة لعيون الابرار ، وحسرة في قلوب الكفار.


    56 - شذرة :

    إذا عجب من أمر أُخبر به عن الله تعجب استبعاد ، كان ذلك قادحا في المعرفة. فإن كان التعجب في حق نفسه بأن يكون الخبر بإكرام وهو يرى نفسه دون ذلك ، فليس بنقص قادح .
    مثال الأول : ( أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر ) ( أنى يحيي هذه الله بعد موتها ) هذا كله قادح ، وقد بان من جوابه حيث قبل العجبين من أمر الله . و الثاني : مثل قوله : (أوقد ذكرت هناك! ) .


    57 -الأمراض مواسم العقلاء :

    الامراض مواسم العقلاء ، يستدركون بها ما فات من فوارطهم وزلاتهم إن كانوا من أرباب الزلات ، ويستزيدون من طاعاتهم إن لم يكونوا أرباب زلات ، ويعتدّونها إن خلصوا منها بالمعافاة حياة بعد الممات . فمن كانت أمراضه كذا ، اغتنم في الصحة صحة ، فقام من مرضه سليم النفس و الدين . و الكامد ينفق على الادوية ويعالج الحمية ويوفّي الطب الاجر ، وليس عنده من علاج دينه خبر ، فذلك ينصرع بالمرض انصراع السكران ، و يفيق من مرضه إفاقة الإعداد لسكر ثان .


    58 -شذرة :

    هو رب حقيقة . هل كنت أنت عبدا له حقيقة ؟ هل في الوجود من كان لله قط كما كان الله له ؟


    59- إن ذممت الدنيا :

    إن ذممت الدنيا بالغرور ، فهلا مدحتها بما وعظت به من تصاريفها على مر الدهور . والله لقد تكشفت عن معائب توجب الزهد فيها ، كما أبرزت عن محاسن توجب الرغبة فيها .


    60 - ( بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق ) :

    قوله تعالى : ( بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق ) يدل ذلك على أن لنا استكبارا بحق ، وهو الاستعلاء و التعاظم على أهل البغي و الكفر والظلم ، فذلك استكبار بحق. ولهذا لما رأى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رجلا يخطر بين الصفين في مشيه قال إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا المقام ) . وكذا من أسماء الله المتكبر ، إسم مدحة ، لأنه عظيم متكبر بالحق ، لأنه يتكبر على العصاة والمجرمين .


    61 - حكمة :

    قال بعض العقلاء :
    الصبر على سفهاء العشيرة والطائفة خير من استئصالهم ، فإنه لا عز لقوم قل سفهاءهم ، فكيف إذا عدموا ؟
    والصبر على الصلحاء من العشيرة ، فان الحشمة بهم توجب الصبر عليهم ، فلا حشمة لقوم لا صلحاء لهم . و الجاهل من أفنى سفهاء قومه ضيقاً عن حلمهم ، وكسر صلحاء قومه خوفا من استطالتهم .


    62 -عن الحكماء :

    الصبي يطلب بطبعه ، والأب يمنعه عما طلب ، ويعطيه ما يراه لا ما طلبه. فكذلك الطبيب ، وكذلك المؤدب. وما كان ذلك إلا لمرتبة المعرفة من الطبيب ، و الأدب من المؤدب ، والإشفاق من الأب .
    فحكمة الله جامعة لما يفرق في هؤلاء ، وهو الممد لهؤلاء بالإشفاق و الآداب و الحكم ، فهو أحق بالتسليم وترك التمني عليه و التجني . فمن عاش مع الله كذا ، تعجل الراحة في الدنيا، و سلمت عاقبته في الأخرى .


    63 -وحشي :

    افتقد الناس على معاوية إكرام وحشي قاتل حمزة ( رضي الله عنه) ، كما افتقدوا على عثمان رضي الله عنه رد طريد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فكان رده له من بعض ما أخذوه عليه من الذنوب...
    فهذه الفلتات من بني أمية معدودة عند أقوام من نفاق كان متخمرا معهم.
    قال حنبلي :
    وهي عندي من غلبات الطباع التي لا تمنع صحة العقائد ، فقد كانت تغلب على الانبياء . فمن ذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قبل إيمان هند ، و كان يكره أن ينظر إليها حتى عاتبه الله فيها و شهد لها بالايمان ، ولم يغلب علمه بإيمانها على طباعه ( صلى الله عليه وسلم ) في كراهية نظره إلى وجهها ، حيث يراها وقد أكلت كبد عمه وبذلت حيلتها في قتله . و كان عمه أبو طالب على ما كان و طبعه يغلب رقة عليه وميلا إليه حتى يكاد يستغفر له ، فعوتب في ذلك بغلبات الطباع لا ينكرها إلا من لا يتأمل حقائق الأحوال . فهذا رق عليه مع الكفر ، وهذه يقسو عليها مع الايمان. فلا ينبغي للعاقل أن يأخذ من فلتات الكلام الصادر عن الطباع نفي الايمان ولا إثبات النفاق، لاسيّما مع شواهد الوحي بإيمان القوم.
    فهذا قدر تأويلي وجهدي. والله أعلم وهو الطريق الأسلم .


    64 - تحذير من إحسان الظن في هذا الزمان :

    قال بعض الخبراء بالزمان وأهله :
    إن حسن الظن في هذا الزمان وأهله عجز ، والرجاء لهم طمع ، و الثقة بهم فساد تصور. ومن تكشفت له أحوالهم ، وأنس بهم وإليهم ، فما يُؤتى إلا من قِبل نفسه ، والله سبحانه وتَعالى بريء من عهدة بلائه ومصابه ، لأنه سبحانه قص قصص الاوائل ، و ما تم منهم وإليهم ، وكشف أحوال الثواني بالملابسة لهم ، ممن لم يردعه الخبر ، و لا حذّره النظر ، فهو كالفراشة تطيش في الضياء وتنغمس في اللهبة فتحرق نفسها ، فلا رحم الله من هذه صفته ، يقتحم النار ببصره .


    65 -الآية : ( ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصّعد في السماء ) :

    وجه السؤال أن التشبيه بالضيق كيف يكون بسلوك أفتح وأوسع طريق ، وهو الفضاء ؟ و السماء لا يُرتقى اليها إلا في بحبوحة الفضاء . وهذا تشبيه الشيء بما يضاده .
    قال أحد الفقهاء المغاربة : إنما شبهه بذلك لأن مكابدة الصعود الى أبعد مرتقى ، دع السعة , فإنها لا تغني لجسم طبعه الهبوط بثقله ، ومكابدة ما يضاد الطبع بالصعود لجسم طبعه الهبوط من أعظم التشبيه في الآية من هذا الوجه ، لأن ضيق القلب من المكابدة في الصعود كضيقه من المكابدة في الجحود .


    66 -سال سائل عن حالنا مع إبليس كيف يكون لنا به قوة و هو يرانا ونحن لا نراه؟

    فأجاب حنبلي بأنه لو كانت معاداته تحتاج إلى مناضلة ومضاربة ، أضرّ بنا عدم رؤيته ، فأما وأذيّته إلقاء الى القلوب ووسوسة في الصدور ، فجواب المسألة منها كما يُقال ، فكما أن سهامه كالخواطر العارضة يلقيها بالأفكار الصحيحة الصادرة عن العقول الصاحية السليمة من الهوى ، فإذا ألقى إلى النفوس ما ليس بصواب ، رده العقل بأحسن جواب .


    67 -( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ):

    ذهب كثير من الوعاظ والقصاص الى أنها خاصة في صلحاء عباده والأنبياء. وليس على ما وقع لهم ، لأن ظاهر القرءان يشهد بأنه لا سلطان له على الكفار ، حيث قال سبحانه ( وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان ) . ولأن السلطان الذي نفاه يعمّ ، اذ ليس كل مستجيب له يكون له عليه سلطان ، لأن الشيطان يسوّل ويغيّر ويخلف فيكذب ، ومن كان أمره كذا لم يك سلطانا ، إنما السلطان من أمر و كشف امره و حرّمه فأُطيع ، دون أن يدلّس و يلبّس ، فإن من سوّل كان متلصصا و خادعا وغارّا لا سلطانا .


    68 -( و اجعلوا بيوتكم قبلة ):

    قال الله تعالى : ( و اجعلوا بيوتكم قبلة ). قبلة : جهة للطاعات ومسقبلا لله سبحانه في العبادات .
    ومن كان مأمورا أن يجعل بيته قبلة ، وهو موضع الغفلة و مناخ البطالة ، أولى أن يعقل عن الله أن يجعل مواطن العبادات محترمة عن تبديلها بأمور الدنيا.
    وأرى أهل زماننا جعلوا مساجدهم متاجر وأسواقا، و جعلوا بيوتهم قبورا.


    69 - ذم الانبساط والاسترسال :

    اعلم أنه سبحانه قد نبهك على حفظ حرمك ، وإلغاء الثقة عليهم بمن طالت صحبته و حسنت سيرته وتربيته ، حيث أعلمك أن كريما من أولاد خيار الأنبياء كان بين عزيز رباه و سيدة أكرمت مثواه ، حانت منه معها خلوة ، ثارت بينهما همة ، قارب بها حصول الفتنة والمحنة، لولا تدارك الباري له بالعصمة ، وإقامة البرهان لصرف الهمة.
    من أين لك اليوم مثل ذلك الكريم ؟ ومن أين لمن يخلو باهلك عصمة تطرد الهمة ؟ وبرهان يحول بينه وبين الفتنة ؟ فالله الله على الثقة بإنسان مع نصح القرآن بهذا البيان.
    أما رأيت صاحب شريعتك كيف قال لزوجتين كريمتين خليا بأعمى من كرام الصحابة ، فقال لهما في ذلك ، فقالا : يا رسول الله إنه أعمى، فقال : أفعمياوان أنتما لا تبصرانه. وأمر الغلام الوضيء الوجه أن يدور من وراءه.. فإذا كان الشرع على هذا الاحتياط ، فما هذا الاسترسال منكم والانبساط ؟ يقول الواحد منكم في الركابي والفرّاش إن كان شيخا : هذا ربى أهلي ، وإن كان حدثا: هذا رباه أهلي.
    كذا يكون الفطناء ؟! هل قصد الباري الإزراء على أولاد الانبياء حين قص لك قصصهم في المكر والعداوة وإطلاق القول بما كان الباطن خلافه ، لا ، ولكن قصد بذلك إيقاظك عن الإصغاء والاسترسال إلى قول بالبادرة لحسن الثقة ، وأمرك بالتوقف عند كل شبهة ، والتحرز من حسد الحاسدين ، وكتم النعم عن السعاة في إزالتها من المفسدين .


    70 -شذرة:

    كما لا يحسن في سياسة الملك العفو عمن سعى على الدولة بالخروج على السلطان ، لا يحسن أيضا العفو عمن ابتدع في الأديان . لأن فساد الأديان بالإبتداع كفساد الدول بالخروج على الملك والاستتباع. فالمبتدعون خوارج الشرع.


    71 -شذرة:

    وليس يجهل العبد أن أوقات الموقف الأشرف المقدس --دام جلاله-كلها مصروفة الى برد غلة ضمئان ، أو سد خلة لهفان ، فلا جرم أن عنايات الله -تعالى -بها تامة.



    72 -مناظرة في التلاوة :

    قال الأول : هي الصوت .
    قال له محقق : صوت الادمي؟
    قال : نعم .
    قال : فكان يجب أن يكون على الوجه الذي سمعه الانبياء عليهم السلام هذا يقول ( كالرعد الذي لا يترجع ) وهذا يقول(كالصواعق)وهذا يقول( كجر السلسلة ) ونبينا (صلى الله عليه وسلم) يقول (كصوت الجرس ) فإذا سمعنا صوت التالي لا بهذا الوصف ولا على هذا الوجه ، علمنا أنه ليس هذا ذاك.
    ثم قال له :
    هل تتجاسر أن تقول عند قراءة القارئ ( هذا صوت الله وليس بصوت للقارئ )؟ فإن قلت نعم وركنت ، استفت عليك الفقهاء ، فلا تجد إلا إجماعهم على تخطئتك. ولستَ بحيث يلتفت إلى قولك ، ويترك الإجماع لأجلك ، او ممن يقف الإجماع على موافقتك.


    73-مذاكرة في صفات الله عز وجل :
    قال معتزلي لسني : أتقول حيث أثبتَّ لله سمعا وبصرا ، هاته الصفات في جهات من ذاته كما في حقنا ؟
    قال السني : بالبادرة لا. ولكن أقول كل ذاته سميعة بصيرة.
    قال حنبلي لهما : الكلام في الله وصفاته صعب. فقد جاء في كلامكما (كل) والله لا يوصف ب (كل) ، كما لا يوصف بالبعض ، ولا توصف ذاته بالجهات . فهذه كلها ألفاظ هي مخاطرة.


    74 - شذرة :
    قيل: الغبن غبنان ، غبن الغلاء وغبن الرداءة. فإذا اشتريت فاستجد ، تزح أحد الغبنين.


    75 - شذرة :

    مع كل منظر حسنٍ رقيبٌ ينقص بهجته وينغص لذته.


    76 -التجني :

    قيل : التجني رسول القطيعة وداعي الغل وسالب السلو وهو أول منازل الهجران.


    77- بزرجمهر:

    لم أر ظهيرا على تنقل الدول كالصبر. ولا مذلا للحساد كالتجمل. ولا مجلبة للاجلال كتوقي المزاح. ولا مجلبة للمقت كالكبر والعجب. ولا مخلقة للمروءة كاستعمال الهزل في مواطن الهزل.


    78 - شذرة :

    قيل : إساءة المحسن منع جدواه..وإحسان المسيء كف أذاه.


    79 - فصل :

    سيدي ! قد تدبّرتُ الخلق فما رأيت منهم إلا صانعاً أو مصانعاً . ورأيت جلّ غرضهم وأكبر همهم الدنيا . وكل منهم قد اعتمد على ذخيرة ،فهذا يذّخر العقار ، وهذا يقتني الدرهم و الدينار ، وهذا يذّخر معارف الرجال . ورأيت كل منهم عند الموت يفزع الى إسمك وتوحيدك والتعلّق بأذيال عفوك ، فرأيتهم بعين الإفلاس من الرأي ، حيث لم يقدّموا من أمرهم ما أخّروا ، وتعجّلوا من التعلّق بك ما أجّلوا.
    فكنتُ إذا فرح الناس بموجودهم منك وعُنوا بما آتيتهم من لدنك ، غنيّاً بوجودك ، معوِّلا على شهودك ، مذّخِراً لك في شدائدي ، معوّلاً عليك في أوابدي ، فما خاب قطّ أملي فيك، ولا رجائي في لطفك ، بل وجدتك في شدائد الدنيا آخذاً بضبعيّ ، إن عثرتُ أنعشتَ ، وان افتقرتُ أغنيتَ ، وإن سقمتُ عافيتَ و شافيتَ، وإن تشردتُ آويتَ ، وإن عطشتُ أرويتَ ، و إن جعتُ أطعمتَ ، وإن ضللتُ هديتَ ..
    فأنبأني عنك عاجل أمري ، وحدّثتني آمالي فيك عن تواني أحوالي معك .
    فها أنا لا أرجو سواك ، ولا آمل غيرك ، ولا تعبد أطماعي أحداً من خلقك ، وطالما عبدت ، لأنني كنتُ بصورة من استُقرئ طرق الطلب حتى وجدتُ ، وأنِحتُ عن طريق سليم إليك حتى ظفرتُ ،ولم أجد ذلك إلا في خُبري بخلقك وأنهم مفاليس من كل ضرّ ونفع . ومع ذلك فأنا أستغفر الله من وقوفي معهم حال تصفّحي لأحوالهم ، وأنا أشهدُ أن لا إله إلا الله من شركي حال الإعتماد عليهم اختباراً لهم ، وأقطع زنانير الإضافات إليهم .


    80 - فصل :

    ما أعظم تفاوت الأحوال ! بعض الحكماء الإلهيين يقولون : ( في الحكمة ما يغني عن السفراء ) . فعطّلوا الشرائع واقتنعوا بما تؤدّيهم إليه العقول وتؤدّبهم به الألباب والنهى .
    وبعض الفطناء جعلوا العقول مستعبدة للشرع حاكمة على أمر الدنيا وسياساتها التي لم يوجد فيها نصّ من شرع . وبعض السفساف عطّلوا الشرائع طلباً للراحة من الحَجر والتكلّف ، وعطّلوا العقول ، فهم أبداً في الدنيا بين استطالة الشرعيّين عليهم بإقامة الحدود والإهانة بسائر العقوبات ، وبين استطالة العقلاء عليهم في تقويمهم عند شطحهم و خروجهم عن سمت سياسات العقل . فهم كالبهائم ، إن خليت أكلتها الوحوش ، وإن صمدت للأعمال والأثقال أتى عليها الكدّ بالهلاك والاستئصال .
    فسبحان القسّام بين الخلق حظوظهم من المنافع و المضارّ !


    81 -أهل البيت :

    ان أهل بيت الرسول (صلى الله عليه وسلم) من أعلام الدين ، وإليهم قصد المسير ، وفيهم الخلافة. ومن كان كذلك ، لا يُخصّ بالمال لأجل الفقر ، ولكن لأجل الإعانة على التجمل، وتجمل المكلف ونزول الاضياف و الوفود. فلا يكفي في حقهم الإغناء عن الناس ، بل يُصرف إليهم ما يستغني به الناس.
    إن قيل : فكان يجب أن يجعلهم وارثين ؟
    قيل : إنما لم يورث لئلا يتمنى متمن من أقاربه فيهلك بذلك في دينه وينحبط عمله .


    81 -ما أشد شؤم المعاصي !

    ما أشد شؤم المعاصي ! أبونا بينا يسمع قول الله لملائكته (اسجدوا لآدم) حتى سمع النداء (إهبطوا منها جميعا ).
    بينا يرفل في حلل من السندس والاستبرق ، حتى طفق يخصف على عورته من الورق. وإذا أردت أن تتلمح القدر السابق ، فانظر الى قوله السابق : ( إني جاعل في الارض خليفة ). خليفة في الارض ما يصنع في الجنة؟ ساقته الكلمة السابقة والعلم السابق إلى المستقر. (ولكم في الارض مستقر ومتاع الى حين ).


    82- لا تعاشر متلوناً:

    احذر ممن إذا غلبت عليه حال من الأحوال ، استحال حتى لم يظهر فيه تقييد العقل عن الشطح ، وإن غضب تأسد ، فلم يبق فيه ما يكفه عن الصول ، وإن اعتراه الهم ، خرج بصورة رخم ساقطاً على ما وجد من المطاعم ، لا يلوي عن تناول المستقذارات في الطبع والمكروهات في الشرع، وإن عرض بها طالب الحق ومقتضى الشرع راغ روغان الثعلب ، لا يمزج روغانه ثبات ، ولا إصغاء على إذعان ، ولا استجابة لهذا الشأن، فهذا لا يدخر عنده الإحسان ، لأنه كالوعاء المخترق ، ولا يرجى منه الخير.فاحذر معاشرة أمثاله ، فإنه من أعظم الأخطار ، ومجموع هذا في كلمة : لا تعاشر متلوناً .


    83 - تحذير :

    قد عُرف محلّ الاقوال والافعال في حق أقوام عاصروا النبوات . هذا يقول في عظم نخر : ( من يحيي العظام وهي رميم) فينزّل الله تعالى فيه : (وضرب لنا مثلا و نسي خلقه). وهذا يقول : ( (أنى يحيي هذه الله بعد موتها) فيميته الله مئة عام ثم يبعثه ، فيقول : (أولم تؤمن) .وهذا يرفع صوته ، فيُقال : (لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) الى قوله : (أن تحبط أعمالكم ).
    فلو كان الوحي متصلا ، لساءك ما ينزل فيك عند فلتاتك و غلطاتك وتهجمك بالاعتراض والقول الذي لا تحتمله الحكمة منك . فإن فاتك الوحي في جواب كلماتك و تصرفاتك ، فلا تفوتك موازنة ما تقول و تفعل بما نزل في مثله العتبى أو العقوبة . فإذا وازنت علمتَ أن لك عند الله جوابا لم يفُتْك إلا تعجيله ، وأنه مؤجّل لك الى وقت يسوءك الموافقة فضلاً عن المقابلة .
    ولو أنصفتَ نفسك اليوم ، لكان في حوادث الايام من دلائل القدرة ومتقنات الحكمة ما يكون لك جواباً ولشبهتك مزيلا . فإذا خطر على قلبك أو جرى في قولك : (أنى يحيي) كانت سحائب السماء بوابلها ألسنة ناطقة بالتهجين لك ، حيث حَيَّ بها عشب الأرض ونباتها وزهرها ، حتى عادت عيوناً محدقة و ذواتاً محققة تشهد لصانعها بالقدرة و لمحكمها و متقنها بالحكمة .
    وما أغناك عن التدبر بسواك ! يكفيك ما أحيا منك وأمات فيك من أعضاء و صفات و قوى وأخلاق . تمسي على صفة فتصبح بغيرها . وتصبح بخلق فتمسي وقد عدمته . ذاك هو الذي أمات الاشخاص ، وفرّقَ الأجزاء ، وأعدم الصفات ، وهو المعيد لما أمات ، والمفيد لما أفات .


    84 - فصل في توديع :

    وقد استعجلت الاستيحاش له ..وتسلّفت الاشتياق إليه ..والرِّكاب مُناخة ..والدار بعدُ جامعة ..فكيف حالي إذا انقطعت العلائق ..فضربت النوى بيننا سياجها ..وزحمت بعضاً على بعض بمناكبها .. وتعلّلنا بعد العين بالأثر ..وبعد اللقاء بالخبر ..وإلى الله أرغب في أن يقيّض لك جلباب السلامة راحلاً و نازلاً ..ويجعلك في ضمان الكفاية مقيماً وضاعناً..ويوردك المقصد الذي تقصده .. والمرمى الذي ترمي نحوه ..محفوظاً بيده الطولى..ملحوظاً بعينه اليقظى ..إنه سميع الدعاء ..سابغ النعماء ..


    85 -أبو الهذيل العلاّف :

    كان أبو الهذيل العلاّف شيخ المعتزلة في وقته يرى أن ليس فعل مباح، بل الاعمال الواقعة منا لا تخلو أن تقع طاعة أو معصية .
    فقال له رجل كوفي : ألست تقول إن أفعالك لا تخلو من طاعة أو معصية؟
    قال : بلى .
    قال : فلُبسك ثيابك هذه الجدد طاعة لله أو معصية له ؟
    فقال : إن كنت لبستها لأظهر بها نعمة الله عليّ ، وأؤدي فيها فرائضه ، فذلك داخل تحت قوله : (خذوا زينتكم عند كل مسجد ) (وأما بنعمة ربك فحدّث). وإن كنت لبستها لأباهي بها الأغنياء ، ولأغايظ بها الفقراء فهي معصية .. ولا يمكنني أن أقول مفصحاَ -إني لبستها أريد بلبسي لها الجهة المحمودة - فأكون مزكّيا لنفسي ، والله تعالى يقول : (فلا تزكوا أنفسكم). ولا أقول -لبستها للجهة المذمومة - فأكون قد فضحت نفسي ، وقد نهاني الله عن ذلك بقوله : لا يزال العبد في ستري ما ستر على نفسه ، وقال النبي (صلى الله عليه وسلم ) : من أتى من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله .
    قال حنبلي :
    قد أخلّ أبو الهذيل في تقسيمه بقسم يخلو من طاعة و معصية . وهو أن يلبسها للذة نفسه : إما لدفع البرد أوالحر ، من غير أن يخطر بباله ستر عورة أو قصد زينة لمسجد أو إظهار نعمة الله أو مباهاة لأحد أو قصدا لمغايظة أحد ..
    ولا يمكنه أن يقول إنه ليس لنا فيما يقع من أفعالنا حالة ذهول عن الأمريْن الذيْن ذكرهما . اللهم إلا أن يقول لا يجوز له أن يلبس إلا بنيّة ، وأنه لا يخلو من قصد المباهاة ، فذلك مكاثرة لما نجده من نفوسنا من الحالة الثالثة : وهي حالة غفلتنا عن القسميْن اللذين ذكرهما .


    86 - وعظ :

    قال حنبلي :
    من فتح عينه على هذا الفضاء الفسيح ، ورأى هذه الدار الواسعة العريضة ذات الجبال الراسية و البحار الزاخرة والاشجار الباسقة والأودية العميقة والأنهار العذبة الجارية و الرياح الناشبة و السحب الثائرة ، وفي خلالها البروق اللامعة ، وسمعَ زمجرة الرعود الزاجرة السائقة للعموم الى القيعان الداثرة المنشئة للأزهار المتنوعة ، ورأى المعادن المعدة للحوائج العارضة ، ورفع رأسه الى الأفلاك الدائرة والنجوم الزاهرة ، ثم لا يمعن النظر و يحقق الفكر في هذه الأمور المشحونة بدلائل العبر ، ثم يخرج من هذه الدار الى الأخرى وما علم ولا خبر ، هذا بمثابة طين عُمل لبناء ثم سال عائدا الى المقلع بصوت المطر ،إذ لم يستفد بالوجود فائدة ، بل ذاق مرارة الموت التي لم تقاومها حلاوة الوجود. غاية ما حصل من الدار ما عبلت به بنيته من الطعام و الشراب ، واستعادته إليها مع تطاول العصور والأحقاب .


    87 -شبهة :

    سأل سائل : إذا كانت جثث الأحياء بعد الموت تعود الى الكلأ ورطوبتها الى الماء وجسميتها اليابسة الى التراب وأنفاسها الهوائية الى الهواء ، يجب أن تعود الروح كلاًّ الى السماء ؟؟؟
    قيل : هذه حدوس غير معلومة ، ولا يُعلم هل تعود كلاًّ أم لا . فإن صح لك ذلك ، ففي القدرة الإلهية تخليص الأجزاء وإعادة كل منها للحي جسماً وروحاً ورطوبة ونفساً ، وهذه شبهة إبراهيم حين رأى الجيفة تأكل منها السباع و السمك والطير ، ثم طار الطير عنها و سرح الوحش وغاص السمك ..وكل منهم قدأخذ شيئا من تلك الجيفة ، وتصير من جملة جسم ذلك الحي ، فقال الله له : (خذ أربعة من الطير فصرهن إليك ) الآية ..فدلّ على أنه يُخلِّص الأبعاض من الكليات ثم يعيدها . ولأنه روي في السنّة أنه يحفظ الأرواح بحدثها ، فجاز أن يكون بها من العناية ما لا يصرفه إلى غيرها ، لأنها الجوهر اللطيف النفيس ، فجاز أن تكون محفوظة عن الإختلاط ، بخلاف الأجسام.


    88 -شذرة :

    نقلت من بعض الكتب : أن غسل الوجه بالماء البارد عقيب الخروج من الحمام يبقي طراوة الوجه مع كبر السن .


    89 -مسألة :

    قد ورد : (دع ما لا يريبك إلى ما لا يريبك ). وورود المنع من اليقين أو الظن بما يوجب الشك لبيقى على حكم الأصل . فإن قوله (صلى الله عليه وسلم ) لمّا سألوا الراعي عن الماء هل ورد عليه ما ينجّسه : لا تعلمهم. وقال عمر للسائل عن الميزاب : يا صاحب الميزاب لا تعلمهم. وأمر بأخذ كف من الماء للميزر عقب الإستنجاء . كل ذلك دفع للظن ، أو العلم بما يوجب البقاء على الأصل. فكيف الجمع ؟
    قال حنبلي : يُحمل قوله الأول على الإستحباب ، أو في المأكول والمشروب و المنكوح ، دون الطهارات و التعبدات التي طريقها المسامحة.


    90 -أكبر الكبائر بعد الكفر بالله ، السكر :

    قال بعض المحققين : أنا أرى أن أكبر الكبائر بعد الكفر بالله : السكر.
    قال له جماعة عجبوا من كلامه : نسمع منك غرائب!
    قال : أنتم الغرباء عن الفهم ، ليس كلامي غريبا ، ولئن كان غريبا عرّفه الدليل و البرهان. وما زال الحق غريبا بين المبطلين ، والعلم غريبا بين الجُهال. فاسمعوا برهان ما أقول :
    إنّ السكر يعمل عمل الجنون فيما يضر، وهو يغطي العقل ، فيعدم العلم الصالح للعاجلة من سياسات الدنيا وذخائر الآخرة .ولا يخفف عن العبد كما يخفف عن المجنون من إسقاط الحساب ودخول الجنة مجانا من غير عمل ، فيعدم منافع العقل ، ولا يقيم العذر في ركوب الجنايات ، بل يبقى عليه تكليف العقلاء ، حيث كان مُكسباً لتغطية العقل. ولو لم يكن من شؤم السكر إلا انقطاع ما بين صاحبه وبين ربه ، وعدم معرفته بدينه، فالسكران لا يعرف دينه فيعتذر منه و لا ربه فيعتذر ويتوب إليه. فهل في المعاصي ما يبلغ بصاحبه هذا المبلغ ؟


    91 - قال النبي (صلى الله عليه وسلم) : ( كفى بالمرء فتنة أن يُشار اليه بالأصابع ).

    قيل : ما الفتنة في ذلك ؟
    قلتُ - وبالله التوفيق - إشارة الى المثال :
    الإشارة الى الإنسان بالزهد تفتنه بالرغبة في الاسم ، وتخرجه عن قانون الزهد ، وتسلخه عن حقيقته ، فإنه يزهو بذلك زهو المتوجِّد ، وذلك قاتل للإنسان من طريق الأنفة من الخلق ورؤية النفس ، ذلك سبب لكل بلاء، وطريق الى كل محنة ، متى تخربق الانسان به قلّ أن يخرج من رأسه .
    ترى الواحد من المشار إليهم إذا قيل له : ( هذا فلان مريض نعوده )أو ( مات نصلي على جنازته ) -وقد جاء في العيادة من السنن ما قد جاء وفي صلاة الجنازة قيراط من الأجر - استراح في التقاعد عن أسباب الثواب بقوله : (عادتي ) وبقول أتباعه ( عادة الشيخ ذاك). يا سبحان الله ! ما أقبح عادة خرجت بصاحبها عن سمت السُّنّة ! وهل جاءت الشريعة إلا بدحض العوائد لتحصل الفوائد ؟ وإن عرضت مشكلة من الحوادث الفقهية فسُئل عنها ، أنف أن يقول لا أعلم ، بل قال : ( يقع لي كذا و كذا) ، وهل الشريعة بالواقع ؟ هيهات ، ما كان أحوج هذا المسكين الى نفس طائعة خاضعة منقادة لطاعة الله كيف جاءت ، وسائلة عن أحكام الله عند من كانت ، حتى يعلم أنّ بالعزلة والانقطاع قد تقع . فأما إذا كان ذلك يورث كبراً وأنفة من فوائد الشرع ومقامات الطلب لها ، فما أخبث هذا من طريقة ! إنما الطريقة للرجال هي رياضة النفوس ودعكها للاستجابة لأوامر الله ، والصبر على عباد الله ، وإعطاء الحق من النفس لكل واحد من المساكين .
    تجدهم مالو كان على أحدهم دَيْن حتى يستدعيهم رسول الحاكم تعجرفوا، ولو خاشنهم المستحق بالمطالبة صالوا ، فأرباب الأموال عملت فيهم الأموال زهواً ، وأرباب السلطنة أثّرت فيهم السلطنة تسلّطاً ، وأصحاب الزوايا كذّابون والعلماء متجبّرون .
    فأين من يرث النبوة بالحمل لأعباء الأمّة وأثقال الخلق وينهض بحقوق الحق ؟ أين من يدعو إلى الله ولا يدعو الى نفسه قاطعاً للخلق عن الله؟ أين من لم يمنعه إكرام الخلق له ورؤيتهم إياه بعين -الكمال -وهو يرى النقص في نفسه وأن يتعلم ممن هو أعلم منه ، ويتبع من هو بقانون الأدب أقوم ..وإن انحط في عيون المتعصبين طلباً للكمال بحقائق العلم، وإن نقص في عيون الخلق الظانّين فيه التمام ؟ أين من خاف النقص في الفضل حسبما يخاف غيره النقص في الفرض ؟
    نعوذ بالله من شخص يقنع بسوق الوقت ، وما يصلح لأهل زمانه ، دون ما يتهيأ له من الفضل !
    فالرجل كل الرجل من قرر من نعم الله ما يخفى على كثير من خلقه ليشكروا ، ومن قرر حكمة الله ليسلموا البلاية ولا يضجروا. فهذا أبدا يصلح الخلق لله. وهذا مقام النبوة.


    92 - شذرة في قوله تعالى : (فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري ) :

    (قال يا موسى ما منعك إذ رأيتهم ضلوا) ( ألا تتبعني أفعصيت أمري) (قال يا ابن أمّ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول ) ..فموسى عتب ، وهارون اعتذر ، لا بالقدر . ما جرى على لسان موسى عذر لأخيه بقدر باريه ، ولا جرى على لسان هارون اعتذار بالقدر. والسامري لما قال له : (فما خطبك يا سامري) قال : (وكذلك سوّلت لي نفسي ) .
    فتعلّموا من الأنبياء ، ولا تحدّثوا ما لم يُسمَع من ذكر القضاء و القدر .


    93 - فصل ;

    عجبي ممن ينتحل نحلة الإسلام ، ويزعم أنه على دين محمد (صلى الله عليه وسلم ) ، وهو يعلم محلّ الصدّيق من الدين ، وتأثيره في الإسلام ، بالسبق و التصديق و الإنفاق بالهجرة والنصرة وما أيد الله به هذه الملة ، حتى عجز الأهل عن مقامه و تقاعدوا عن إقدامه ، ثم إنه يقدّم عليه شخصاً أو يفضّل عليه أحداً .
    ما هو - والله - إلا الزندقة التي أوجبت بغض من اختبر هذا الأمر. ومحال محبة شخص أو ملة مع التقاصر بقيمهما وناصرهما. ما أثّر - و الله - بغضُه أو تنقّصه إلا بغض ما قام به ، ولا معيار التديّن عندي إلا نُحْل ذلك الشيخ الكريم و الشخص النبيل العظيم ، وما أثق من نفسي بخلّة ربما تكون منجية لي إلا تعظيمه وتوقيره - ولا قويت - و الله -منّتي في أمر ديني وأنست الى معجزات نبيّي ( صلى الله عليه وسلم ) إلا حيث كان ذلك الشيخ ناظراً لي ، وكفاني به ناظراً ومعتبراً ومنتقداً ، فهو - و الله - لي أكثر من نظري وعيني .


    94 - فصل تذكير :

    من كان عبقا بالأذكار بحيث إن عطس قال ( الحمد لله ) ، وإن مات له ميت قال ( إنا لله ) ، وإن قُدِّم بين يديه طعام ليأكل قال ( بسم الله ) ، وإن أخبر فلم يصدَّق قال ( أقسم بالله ) ، وإن عرضت حاجة قال (يارب)، وإن مسه الضر نادى ، وإن أظلم عليه الليل ناجى ، لا يكون في الأفعال كذا ، بل عن الأوامر متخلف ، وبالنواهي كلف شغف ، ومع الرسم لا يقف .
    المؤذن ينادي الى الصلاة وأنت معرِض . وحولُ الزكاة قد حال وأنت في وجه الفقير معبِّس و للزكاة غير مخرِج . وإن اتجه نحوك حق كنت بالتأويل مسقطاَ . وما هذه حال من صدرت تلك الأقوال عنه بحقيقة وجِدّ لكن باستعارة لفظ . وهذا لا يعمل مع الله عملا ، لأنه كالتملّق ، وذلك إنما ينفق على من لا يعوّل إلا على الظاهر، وهو بالعكس في حق الباري ، لأنه لا ينظر إلا الى المقاصد و السرائر .
    الظواهر عنده صور منحبطة ، إن لم تصدر عن مقاصد صافية خالصة. ألم تسمعه يقول : ( لن ينال الله لحومها ولا دمائها ولكن يناله التقوى منكم ) ؟
    من يسمعك عبق اللسان في القسم والدعاء والأكل و الشرب وعند الحاجة وعند كل حركة وسكنة يحسبك محِباً أو متخصِّصاً ، فإذا خبرك في باب التكليف عرفك .
    ليس تعظيم الله كثرة اذّكاره باللسان ، إنما التعظيم لله سبحانه بحسن الاستابة والامتثال . ليس تعظيم شعائر الله أن تسمّن البُدن للهدايا و النحر بمنى ، تعظيم شعائر الله أن تحكّ البَدن في خلوة ، فتخاف بحكّ الموضع قطع شعرة ، فتحكّه بباطن كفّك ، نعم ، وتكون أفعالك مناسبة .
    من يحترم لله في الإحرام بحيث لا يشفي نفسه من حكّ جسده ، لا يشتفي من أخيه المسلم حال غضبه ، ولا يشفي النفس من محظورات الشرع في الخلوة . حرمة الاحترام أكد من حرمة الإحرام . من هجر المحيط في الإحرام لا يلبس إذا رجع الى بيته لباس الفجور والآثام : الابريسم المحض ، أو الثوب الغصب ، أو المبتاع بالمال الغصب .
    الباري موجود بكل معنى وبكل حال ، ولا تخصَّص حشمته ومواقيته ببعض الأماكن و الأحوال . من يلصق جبهته بالأرض في القبلة ، ويقبّل حجرا في الله ، ويعدو حول بيته من غير أن يظهر له في ذلك حكمة وعلّة ، لا يتعجرف على الحاكم إذا دعاه الى استخلاص حق عبد الله ، ولا يجور ---في أهواء نفسه مع مخالفة الله ، هذه أفعال مصانع أو صانع ، وإلا فالإخلاص يوجب تسوية الأحوال في حق العمّال .
    إذا نظرتَ الى حقائق التكليف ، عرفتَ أنه كلّفك ضد ما تميل إليه الطباع بالكلّية . استعبدَ عقلك بالتسليم والتحكيم فيما تحتكُّ عندك فيه الشبه العارضة ، ليخضع العقل له بكونه عبدا حكّمه خالقه وكلّفه الاستدلال عليه بآثار صنعته . وكلّف النفوس الرقة والرأفة أن تذبح الحيوان وتتقرب إليه بإزهاق النفوس في أجل ، فكلّفها الرقة في بعض الحيوان الذي اطمأنت على اصطدياه في كل مكان . وكلّف الأعضاء الخضوع و السجود و الكفّ عما تميل إليه عبثا و تناولا و كمشاً . وأعدّ للطاعة أوفى جزاء وأسبغ عطاء .


    95 -تذاكرنا ملازمة أهل الميت لقبره :

    فقلت أنا عذراً لهم :
    إنهم أحباب فارقوا بمعانٍ ، وهي الأرواح و الأخلاق و النطق و الحس ..ولم يبقَ عندنا منهم أثرٌ سوى الصوَر التي في الحفر ، ولو أمكن تركها على وجه الأرض لتُركت ، ولكنها مُنعت بسوء الرائحة والاستحالات الجثثية فأودعت في التُرَب ، وبه حُفظت . والذي بلغ إليه الجهد والطاقة والوسع ملازمة تلك الوهاد ، التي تضمنت تلك الأجساد ، من الأسلاف و الأولاد . ولا عيب على عاقل ألف كلاًّ ، ففاته معظم ذلك الكلّ ، ووجد بعضه ، فلزم ما وجد لعجزه عما فقد ، و لم يترك ما قدر على وصاله وقربه ، لما عجو عن وصله ببعده .
    وكيف لا يُعذَر من تمسّك ببقعة تضمنت قالب الروح و هيكل النفس ، وهو وطن لتلك الجوهرة العجيبة والنكتة الغريبة ؟ ومعلوم تمسّك النفس بآثار الظاعنين ، كالديار و الجدار. وقد شبّبت الشعراء في أشعارها بآثار القدور و الأحواض و تخاطيط البيوت و مراتع النعم ، و ما ذلك إلا لوجدٍ في النفس وشغف في القلب بآثار المألوفين . ومن أنكر ما اصطلح عليه العقلاء ، فقد قال النكر و أبدع في القول .
    فأما مذهبي أنا فالملازمة لباب من أخذ المألوف مني و سلبني ، وهو الذي أعطاني في الأول ووهبني ، ملازمة أطلب منه فيها جمع ما شتّ من الشمل ، ووصل ما قطع من الحبل ، تعويلا على ما وعد في دار السلام ، الجامعة لأهل الإسلام . وأقول بدلاً من تعداد المعدّدين على القبور ، ما يسلّي قلبي ويروّح روحي : سيّدي ! لا أعرف بولدي أو والدي سواك ، من عندك جاء وإليك رجع ، وفيما بين وهبتَه و سلبتَه قد ألفتُه وألفني ، وأنستُ به وأنت آنستني . وأنا أعلم قدرتك على الإعادة حسبما ابتدأتَ ، فبعزّتك ألا سكّنت نيران شوقي إليه بجمعي و إياه على ما كنا من طيب العيش ! فطالما كنا نتذاكر الثقة بوعدك حتى تركنا كثيرا من نقود العيش ، ونتذاكر وعيدك حتى خفنا فهجرنا ملذوذ الطبع . فيا كامل الحكمة ! بلّغنا آمالنا فيك . ويا كامل القدرة ! أعدنا إعادة تظفرنا فيها بما رجوناه من فضلك ! وها أنا على بابك أيها الكريم أقتضيك بما لا يعزب عنك ، و لا غناء لي عنه ، فلا تخيّب قصدي في وعدي ، و لا قصد سعيي في عقدي ، واحفظ لي عندك روح هذا المفقود الذي كنتُ بالأنس معه على أكمل لذة و أتمّ نعمة ، وها هو اليوم رهين هذه الحفرة ، وأنا في أثره .
    فلا أزال أطالبك بما آتيتني من أدوات الطلب حتى تنفذ أو تقف بي على المطلب . يا ملك الدنيا والآخرة ! ارحم هذه الأعظم النخرة . يا حنّان ، يا منّان ! يا من منّ بالإيجاد قبل الإشاقة بالوعد ! منّ بالإعادة ، فقد شوّقتنا إلى البعث .


    96 - فصل كلاميّ على جاحدي النبوات :

    إن جاءت الحكماء بما واطأ العقل ، - كقول القائل منهم للتلاميذ استثارة للرأفة و الرحمة : (يا هؤلاء ! لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوان ! ألا تستحيون ؟ هذا الحيوان البهيم أسير في أيديكم ، يحب الحياة كما تحبون ، ويؤلمه من الحجر والحديد والخشب ما منه تألمون ، وأنتم عليه متسلّطون ! ) - فقد قابل ذلك ما جاءت به الرّسل مما أبهر العقل من الأمور الخارقة . وليس حكمة المخلوق بأكثر من حكمة الخالق . والخالق سبحانه قد آلم الحيوان البهيم ولم يطعن ذلك عند الحكماء في حكمته . فتشريعه لإيلام الحيوان لا يكون طاعنا في حكمته ، لأن التعليل لإماتة الحيوان بحكمة إما ظاهرة أو باطنة ، وكذلك تشريع ذبحه . فإذا لم يطعن في الحكمة عندكم إماتة الحيوان بفعله ، لم يطعن في الشرع عندنا تشريع قتل الحيوان وذبحه .


    97 - تجارى قوم في ذكر الاستدلال على كون الباري عالما بإحكام أفعاله وإتقان صنائعه :

    فوجّهَ عليه بعض الأصوليين أربعة أسئلة :
    أحدها : أن بعض الأفعال المحكمة قد تصدر على وجه الإتقان في بعض الأحيان . مثل خروج خط يخرج بحروف صحيحة عن يد غير كاتب ، والإصابة بالسهم من غير رامِ - كما يقال : رمية من غير رامِ -
    والثاني : أنه قد تصدر الأفعال المحكمة ممن لا حكمة له . وحقيقة الإحكام مناسبة الأفعال ، والإعداد لما يكون سادّاً من الحاجات في ثاني الحال . مثل العناكب والنحل و النمل ، في إحكام أعشاش وأحجرة وأقوات لأزمان مستقبلة ، كبيوت النمل التي تُحفَظ فيهن أقواتهن عن المياه و العفن ، ونقرِهن موضع نبات الحبة لئلا تنبت ..ومثل عش العقعق ببابيْن ، وبيت اليربوع بباب لخروجه و دخوله ، وباب لفراره وهربه ، والى أمثال ذلك ، ولا حكمة لهذه الحيوانات .
    السؤال الثالث : قالوا ; لا يخلو أن يكون الباري قادراً على فعل المثبّط ، أو قادرا على المحكم المتقن فقط ، غير قادر على غير المحكم ، فإن قلتم : ( لا يقدر إلا على المحكم ) صار كالملجأ ، أو كالطبع الذي لا يصدر عنه إلا فعل على وجه واحد ، وإن قلتم ; ( يقدر على المثبّط المحكم ) ، فإذاً صدر غير المحكم عنه ، على أنه عالم .
    السؤال الرابع ; أنه قد صدر الى الوجود غير المحكم من الأفعال ، فهلا دلّ المثبّط منها على النقيض ، وهو الجهل أو عدم العلم ؟
    أجاب حنبلي فقال :
    أما الإتقان ، فليس لنا ، على من أثبت أن أفعال الآدميين خلق فيه . وخروج الفعل المحكم بغير قصد من أحد أدلّتنا على كون الأفعال خلقاً لله سبحانه . ومقالة أهل الإتقان أخسّ المقالات عندنا .
    وأما ما يصدر عن الهوام و البهائم ، فإنه يصدر عن أحد طريقين :
    إما إلهام من الله وهو الحكيم العالم فما صدرت إلا عنه ، ويشهد لذلك قوله تعالى : ( وأوحى ربك إلى النحل ) ، بمعنى ألهمها ..
    وأما قولكم : ( هل ما يصدرمنه المحكم لا يقدرعلى غيره ) ، فكلاّ ! بل الباري قادر على أن يفعل المثبط ، غير أنه إذا فعله لم يصدر عن جهل ولا عدم علم وحكمة ، لكنه قصد به المعنى المحكم ، وإن كانت صورته من طريق الحس مثبطة ، وذلك مثل المرض العارض على الصحة ، والتشويه المضاد للتحسين ، إما محنة وابتلاء ليعوّض عليه بالنعيم الدائم ، أو أو ليعلّم به ضده وهو الإحكام ، ويعرّف العباد مقدار النعمة بالإحكام و الإتقان . ولو لم يكن قادراً على المثبّط لما بان فضل الحكمة وهو المنع منه بالحكمة .
    وأما وجود المثبّط وما دلّ على نقيض العلم ، فإنه ما خلا من معنى محكَمٍ متقن ، مثل مصلحة توفي على ذلك في الدنيا ، من الاعتبار و الاختيار وظهور النعمة و الشكر على السلامة في حقّ من سلم من تفاوت الخلق ونقصان الأعضاء ، كما يحصل من تنقيص البنية في حق الطبّ طلباً لسلامة الأصل .


    98 - قال حنبلي في قوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا حضرت الصلاة والعشاء فابدأوا بالعشاء ، و إذا حضرت الصلاة والخلاء فابدأوا بالخلاء):

    ما أبله قوما قالوا : ( بدأ بحظوظنا قبل حقوقه ) ..فعدٍّوا هذا رفقاً بطباعهم وتقديما لحظوظهم . وكَلاّ أن يكون الشرع قصد ذلك ، وإنما الفقه أنه أحب أن لا يدخلوا الصلاة بقلوب شغولة بطلب الغذاء ، أو دفع الأذى ، فلا يتكامل الخشوع ، ولا تحضر القلوب ، فدَفَع المشغلات توفُّراً على قيام الإنسان بحقوق العبادات ، مثل قوله : ( لا يقضي القاضي حين يقضي وهو غضبان ) طلباً للاعتدال ، لئلا يحصل الميل لمكان نفور الطبع ، لأنه معيار الحق . ونحن نصون معيار الأثمان والمأكولات عن العين التي تُخلّ بحقيقة وزنه ، فكيف بميزان الشرائع و الحقوق ؟
    فهذا فقه الحديث ، وعليه قاس الناس صيانة الشاهد عن أن يكون عدوّاً وأن يكون أباً ، لأن تمثّل الغضب غير لابث ، ولكنه نفور يمنع تحقيق النظر ، فكيف بهوى النفس في الأولاد ومحبة إيصال الخير إليهم ؟ فلم يبقَ الشرعُ تُمسِكُه الأديان والعدالات العارضة عن أن يوقع التهمة بأربابها لأجل الطباع الموضوعة فيهم .
    فافهم هذا ، فإنه من أحسن فقه الحديث .


    99 - حكمة :

    لا ينبغي للملك ولا لصدر من الصدرور أن يظهر من الغضب إلا بحسب ما أعدّ له من العقوبة ، فإن كانت بطشته دون غضبه ، حُقّر غضبه ، و استهين بسخطه ، وانكشف عجزه . وقد قال الناس في ذلك : ( إذا ما غضب السّوقيّ ، فالحبة تٌرضيه ).


    100 - الأجساد لا تعذَّب إلا وقت إعادة الروح إليها :

    استدل حنبلي على أن الأجساد لا تعذَّب إلا وقت إعادة الروح إليها - وهو وقت المساءلة - بآية عجيبة في المعنى ، وهي قوله سبحانه إخبارا عن تعذيبه لأهل النار : ( كلمّا نضجت جلودهم بدّلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ) قال : فوجه الدلالة أن الله سبحانه أخبر أن جلودهم إذا نضجت ، ونضجُها اختلال صفتها التي بتكاملها يحصل الحس ، فإن تجديدها جلودا غير نضيجة فعلٌ لذوق العذاب ، فلو كان ذوق العذاب مع النضج حاصلا لما كان تعليله بذوق العذاب بتجديدها معنى ، فلما ربط التبديل بذكر ذوق العذاب ، دلّ على أن ذلك علة لذوق العذاب، أو شرط لذوقه . وإذا كان النضج يقلّل الذوق للعذاب ، ويختلّ به الحس ، دلّ على أن بعدم الروح وزهوقها عنه أولى أن ينعدم الحس .

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jun 2013
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    33
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    روائع المواضيع في ( كتاب الفنون لابن عقيل الحنبلي ) (تابع ) :


    1 - فصل في استخراج حكمة الله و قدرته :

    أنظر إذا أردنا نحن أن نؤلم الفيل لم يمكنا ذلك ، إلا أن نعمل له آلة كبيرة لنوصل بها الألم ، كالدافوقة الكبيرة والمطرقة الغليظة والعاقوس الكبير المسقيّ . و الباري إذا أراد إيلامه خلق البقّة و الجرسسة ،والجرسسة حيوان لا يتحصل لنا منه شكل نقدر أن نصوره ولا نشكله ، بل يصغر عن أن نعمل برأس القلم مثله . فوصّل الألم به الى تلك الخلقة العظيمة و الجثة الجافية الكبيرة . ليعلم العالمون أنّا نقوى بالعمل لا بالآلات ، وإنما الآلات علامات ظاهرة ، ولو كانت أعمالنا بها لكانت بحسبها، فلما كبُرت عليها عُلم أنها بنا جاءت ، لا بها .والله أعلم .


    102 - سأل سائل عن قول النبي ( ص) : (خيركم القرن الذي بعثت فيه، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم يبقى قوم لا خلاق لهم ). وقوله : (أمتي كالغيث أو كالمطر ، لا يُدرى أوله خير أم آخره ) .
    كيف يُجمع بين هذيْن ؟

    فأجاب حنبلي بأنه لا شك لم يرد كل القرن الذي بُعث فيه ، بل يخرج منهم المنافقون و الكفار و يبقى الأخيار ..فكذلك خير أمته الذين أشار إليهم هم الذين قال فيهم : ( واشوقاه الى إخواني ! ) قالوا : ( ألسنا إخوانك ؟ ) قال : ( أنتم أصحابي، إخواني ، قوم يأتون من بعدي ، يؤمنون بي ولم يروني ) . -وروي : (يصلحون إذا أفسد الناس )- الهراب بذنبهم من شاهق الى شاهق ، فهؤلاء الذين يدعون الى الصلاح عند فساد الناس ، وهم الذين لا يٌدرى أهم خير ، أم الذين كانوا يقاتلون على أن تكون كلمة الله هي العليا .


    103 - فصل :

    أنت أبدا تنسى نفسك وقدارك عند كلامك في الله و اعتراضك عليه ، ولو ذكرت مقدارك بالإضافة إليه تكلمتَ كلاما صغيرا بحسبك ولا تتكلم كبارا بقول (لمَ) و(كيف) و( لو صنع هذا كان أحسن وأتقن ) و( لو قال هذا كان أفصح ).
    العامة تقول : ( لعن الله صبيا أكبر من أبيه ) ، ولكن ما أوقع اللعن في حق عبد أكبر من سيده ، ومخلوق يتكبر على خالقه ، ومحكَّم يتحاكم على محكِّمه !
    ما بلغ علمك الى الحد الذي يزري على علوم الشرع ، وتدابير هذا الرب سبحانه ، ولكن هذا كله وأمثاله دخل من باب جهلك بنفسك ، ولو علمتَ مقدارك لعلمتَ صانعك ، إما تعظيما لنفسك فعظِّم من صنعها ، أو استزراءً لها فلا تتحاكم على محكِّمها ، فأنت في كلا الحالين معظِّما لنفسك أو مقلِّلا لها ، لا ينبغي أن تبدو منك بادرة اعتراض عليه ولا تحكّم، لكن يجب عليك بحكم الصيغة أن تسلّم لأفعاله وتحكّم حكمته .



    104 -ما أعجب شأن العارف !

    ما أعجب شأن العارف ! وأعجب شأن الخلق معه ! تبذّلَ التجار منهم في طلب الأموال و تعبئة الأرباح ولم يعابوا ، وتبذّلَ العشاق و المحبون و المتيّمون في محبة الأشخاص ولم يلاموا ، و تبذّلَ قوم في محبة الخيل و الطير و الصيد ولم يعابوا . تبذّلَ قوم في عبادة باريهم فكثُر اللوّام والعذّال واستُهجنت منهم الأحوال و الأقوال وقيل فيهم كل مقول ونُسبوا الى كل عظيم من الخطأ و مهُول وقيل : ما لهم عقول.
    ومعلوم أنّ المتبذِّل في الله لا يلام عقلًا ، لأنه ليس فوق إنعامه إنعام ، ولا على إحسانه إحسان ، نعمه تنهال ، وبره لم يزل ولا يزال ، يمدح على القليل وهو المعطي ، ويرضى باليسير وهو الموفّي. إنكم لفي قول مختلف. لا أرى لك ثبات قدم على ندم ، ولا وجود ولا موجود . ما لهذا خلقت ، ولا بذا أمرت ، فارجع وأنب ، واستغفر وتب ، فقد رحل إخوانك سابقين ، و بقيت أنت مع المتخلّفين !



    105 - روعة المنام :

    سأل سائلٌ حنبلياً :
    ما بالنا نجد للمنام روعة وحشمة ليست لليقظة ؟ حتى أن أحدنا يقطع أن اليقظة أوفى ، ويجد من المنام ما يوفي على اليقظة .
    قال الحنبلي :
    للمنامات روعة ، إذ كان فيها ما هو إشعار من جهة الله تعالى ، وجزء من الوحي و النبوة ، وفيها رموز وإشارات مضمرات ، ولهذا يُعبَّر عنها بغير ما يُرى . وفي اليقظة لا يُعبَّر بالبقرة السمينة عن سنة خصبة ، ولا بالبقرة العجفاء عن سنة جدبة ، ولا بأكل الطير من حامل خبز على رأسه بأنه مصلوب يأكل الطير من رأسه . وعلى هذا أبدا ، لا يُعبَّر عما يشاهد بأنه خلاف ما شاهد .
    فاعترض السائل على الحنبلي المجيب بأن الاقتضاء الصريح من نص الكتاب المقطوع بأنه كلام الله يقول : (لا تقربوا الزنا) (لا تأكلوا الربا) (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة و البغضاء في الخمر و الميسر) ، والناس على ذلك مصرّون ، و للمخالفة مرتكبون ، لا يتوبون ولا يقلعون ، فإذا رأى أحدهم مناما كأن خيال نبي يعاتبه ، أو ملٌكا يوبّخه ، أو شخصا يقول له : (ما هذا الإصرار على هذه الذنوب الكبار ؟ ) أصبح متوجّعا متفزّعا ، ونهض الى جاره الصالح أو العالم بالتوبة على يده مسرعا ، ولازم المحراب، وتخشّنَ بعد التنعّم ، واجتمع بعد التبسّط ، وخشع بعد الأشر و البطر، أليس هذا من عظيم المحن أن لا تعمل فيه القطعيات ، وتعمل فيه التخيّلات ، مع توحّد القرآن بالحق الذي لا يشوبه تغيير ولا تبديل ولا يعتريه شك ؟ والمنام يدخله التخاليط بين وقوعه عن سوداء ومرة و بلاغم، وبين شياطين تخيَّل إليه ، و النجوى من الشيطان !
    فأجاب بأن الخطاب العام يهون على كثير من الناس ، كالواحد في الزحام . و المنام تخصيص للرأي . وللتخصيص من التأثير و الوقع ما ليس للخطاب العام . ولهذا كثير من الصحابة لمّا أخبرهم النبي (صلى الله عليه وسلم ) بذكر من جهة الله كالداهش : (أَو قد ذكرت هناك؟ ) وقد علم أن الخطاب قد تناوله حيث قيل : ( يا أيها الناس ) الخطاب الجملي الذي يدخل فيه المسلم و الكافر ، و الخطاب الذي تحته ( يا أيها الذين آمنوا) ..فإذا جاء خاصِّ في شخص بعينه ارتاع حتى قال : (أَو قد ذكرت هناك) ، وأيضا فإنه يكون مسوّفاً نفسه بالتوبة والاعتذار ، فإذا جاء المنام استشعر الازعاج والإزهاق والتخويف من سرعة اللقاء و قرب الأجل .


    106 - ما بال الملائكة شغلوا بالتسبيح و التقديس ؟

    سأل سائل حنبليا له قدم في التحقيق :
    ما بال الملائكة شغلوا بالتسبيح و التقديس ؟
    وهل هم مع ذلك أفضل من الأدميين أم لا ؟
    فقال الحنبلي :
    أمّا علة تسبيحهم و استدامة تقديسهم فإنهم أمة لا شغل لهم يقطعهم و لا حاجات تمنعهم ، قد كُفّوا مؤونة الأغذية والأدوية و التكسب لتحصيلها. والآدميون مغموسون في الاشتغال بالصنائع و الاعمال التي يكتسبون بها الأموال لتحصيل الأقوات التي لا قوام لهم إلاّ بها ، والأدوية لما يعرض من الأمراض و العلل وغير ذلك مما لا يستغنى فيه عن الأدوية التي لا يظفرون بها إلا بالأموال المحصّلة لهم بالكد والاجتهاد ، ثم في تناولها أكدّ شغل وأطول زمان ثم طلب الراحة بعد ذلك التعب بالاستطراح للمنام ..ومع ذلك كله فلا يخلّون بالطاعات في أوقاتها ووظائف الأعمال و المناسك وإخراج الأموال في وجوه الإخراج .
    و الملائكة مع خلوهم من الاعمال وتعطلهم من الأشغال ، يشهدون من جلال الله وعظمته وملكوت السماوات ما يوجب لهم التسبيح والتهليل والتقديس.
    والآدميون مع ما ذكرنا من انقطاع أزمانهم بأشغالهم لو لمع برق أو دمدم رعد أو عصف ريح أو تحركت أرض أو انقض كوكب أو خسف قمر أو كسفت شمس فزعوا الى التسبيح والتهليل و الصلاة والتوبة من الذنوب، ثم ما يعانونه من المصائب بفقد الأولاد ، بعد تَمكُّن محبتهم من القلوب والأكباد ، ومجاهدة الأعداء في ذات الله و لإعلاء كلمة الله، وهجران ما تتوق اليه النفوس لأجل نهي الله .. ولمّا امتحن بعضهم بما سلّط على بني آدم من تكليف بترك ما تميل اليه الطباع في حقّ هاروت وماروت ، أفلسوا عمّا صُمخ عليه بنو أدم .
    فقد تضمن هذا الجواب بيان علة دوام تسبيحهم وأن فضل الآدميين عليهم. والله أعلم .



    107 - فصل :

    قال حنبلي - وسمع واعظا يزري على الدنيا و نعيمها ، ويزعم أنها كالميتة ، و أهلها كالكلاب عليها ، وأغرق في هذا و أمثاله - :
    بيني وبين هذا المزري على أبناء الدنيا ، و المستخفّ بخير منها ، جوعة تذلّه و تصرعه ، حتى أوقفت الخليل عليه السلام يقول في ظلّ شجرة : (رب إني لما أنزلتَ إلي من خير فقيرٌ ).
    ويُترَك أمثالنا اليوم على أبواب أرباب الأموال الأنذال ، بذلّ الطلب ، مع التحجّب عنا ، والإيقاف لنا على الدهاليز ، كالأيتام على أبواب الأوصياء .
    وأدنى شبق و عشق يبذّلنا بقول العزل ، والوقوف على أقبية البيوت و الروازن ، والتّيم والهيمان و اللهج بالنساء والمردان ، حتى يخلع العذار ، ويرفض الوقار ، ويكشف الأسرار ، في النثر والأشعار .
    وأدنى مصاب يصيبنا في الأموال والأولاد يجعلنا كالنسوة الثواكل ، نتفاً للشعور ، وتخريقاً للجيوب ، و صكاً للخدود .
    وأيسر شبهة تعرض ، إما من طريق الأفعال ، أو الإشتباه في الأقوال،
    ننطق بالاعتراض ، ونخرج عن طريق الاستسلام والتسليم ، الى التسخّط على من ليس لنا طريق الى الاعتراض عليه . يشهد لذلك يوم عمر، والقضايا دأب الصحابة ، وطرحهم في الشكوك الموبقة بما كان تحته شبهة تزيلها كلمة ( أقال لكم العام ؟)
    وحشوة من خمر ، ونفخة في مزمار ، يختلّ الوقار ، ويُقلَب خلاعة .
    وأدنى غضب يعترض ، يهيّج من غليان دم القلب ، طلب الانتقام على الذنب ، حتى يصير كالسبع الضاري ، والأسد الصائل ، ممن تحيله الحاجات ، كيف يزري على الدنيا ؟
    كان لنا شيخ بدرب الديوان ، يُعرَف بابن زيدان ، له حلقة بجامع المهدي، يتكلم فيها بالمعاريف و المجاويد ولسان التصوّف ، وكان شطاحاً بالاضافة الى أصحاب الأحوال . والى جنب حلقته حلقة الشيخ الدباب من أصحاب عبد الصمد ..فقال له ابن زيدان : أقوام الجواري ، عندهم كهذه السواري ؟ فقال الدباب : واللهِ إنّ ذاك بُلي بعشق مغنية ، حمل وراءها طبلها ..
    أمَا رأيت صاحب الشرع كيف عزل و أبعد عن مقامات الرأي والعقل و التعبّد للربّ ؟ ، فقال : (إذا حضرت الصلاة والعشاء ، فابدأوا بالعشاء )، ليس هذا لما يعتقده البُلْه من أنه تقديم لحظ النفس على حق الربّ ، لكن لعلمه بأن الجائع لا يصلح لخدمة الحق . فاشتغال الشيء الذي يحتاج الى إجتماعه بتلك الكسرة ، هو الذي أبعده عن الحضرة ، ليكون همه مجموعا في تلك اللحظة . فإن الدواعي المتوثِّبة مشوّشة للهمّ .
    وكذلك قوله : ( لا يقضي القاضي حين يقضي وهو غضبان ) ، كرامة للمنصب أن يقوم فيه مشوّش الأدوات ، وعلى هذا أبداً . حتى إنه عزل الآباء عن شهادتهم للأبناء ، لمكان شغفهم بالأولاد . ومغلوب بالطبع لا يُجعَل معياراً في الشرع .
    فعلى هذا كل مُهوَّن في الشرع عظيم في الطبع . وتهوين الشرع له علاج ومداواة ، فلا ينبغي للواعظ و الناهي أن يُدخل فيه مدخل المقاواة ، فإنّ الحمية مقاومة للطبيعة ، ولا تقاوَم إلا بما هو أقوى منها ، وليس عند هؤلاء من اليقين ما يهوِّن عندهم المحسوسات العاجلة ، فينبغي أن يُسلَك معهم مسلكُ اللطف و المداراة ، وتعظيم أمر الآخرة ، ولذاتها الموفية على لذات الدنيا ، فأما أن تُحقَّر اللذات ، و تُجعَل كالمزابل و الميتات ، و يُجعَل أهلها كالكلاب ، فهذا لا يقوله إلا من أتلفته الحمية و جعلته شِلواً.
    فأما من يزاحمهم على اللذات ، والاستكثار بما يوفي على الكفايات ، لا يحسن به أن يستخِف و يستزري بمن يطلب ما يطلب ، ويرغب فيما يرغب .
    إذا رَآنا العوام على أبواب أرباب الأموال مطَّرَحين ، ولعل أكثرهم بما يقتنعون به من أجور أعمالهم وأكسابهم عنهم يتعفّفون ، فإذا لم يزروا علينا ، فأولى أن لا نزري عليهم . لأن العلوم توجب علينا ظلف النفوس عن الدنايا ، فإذا لم تقيّدنا العلوم عن طلب العلوم ، فأولى أن لا نزري على العوام الذين لا رابط لهم و لا ضابط .


    108 - سأل سائل عن قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : إن الله سبحانه يقول ادخلوا الجنة برحمتي ) :

    كيف يقول ذلك ، ولهم الأعمال السابقة وقد كان ابتلاهم بالتكاليف الشاقة؟ وقال : ( ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون) (تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون ).كيف يُجمع بين الخبر وهذا ؟
    أجاب حنبلي بأن من رحمته مجازاتهم على الأعمال ، وإلا فكثير لهم أن يكونوا عبيد عمل بقوت و كسوة وسكنى و مؤونة . ليس في أعمالكم أن يٌستحقّ عليها أكثر من مؤونتكم . كثير لك أن تكون عبد استخدام بالكسوة والطعام ، فمن أين لك جنةٌ لولا الرحمة ؟ على أن معاملته لك و متابعته رحمة . أنت معه كالمكاتب مع سيّده اشترى نفسه منه بما له عليه من الكسب ، فصار بائع ماله بماله ، فجعله منعما يستحق عليه بذلك الولاء لمّا كان نفس معاملته برحمة إنعاما .



    109 - فصل :

    من أعظم الذنوب و أقبحها أن تغرّ أخاك بفعل ، حتى إذا فعله عدتَ بفعله ذامّاً ومعيّراً ، وهذا عقوبته من الله عظيمة ، و مقابلته سريعة . لأن الله سبحانه جعلك أهدى الى الخير والشر بقوة الرأي ، فصرفتَ القوة التي هي نعمة الله عليك الى إغواء أخيك وغروره ، حتى إذا وقع في ورطته ، واستحكمت مصيبته بما دلّست عليه من أمره ، زدته بالمعيرة بلاءً ، والله مطّلع ، وهو المعطي السالب ، ومن أحد عقوباته استرجاع نعمته وتركك تتعثر في أمورك وتتخبط عشواء في أرائك . فالله الله في أذية عباده ! فإنه بالمرصاد .





    110 - شبهة :

    قال بعض الخلعاء يوماً معترِضاً بحضرة قوم خلعاء :
    قادر على نفعي ، لمَ يؤخره ولا يضره أن ينفعني ؟
    قلتُ - وبالله التوفيق - :
    إن كانت قدرته سبحانه متأتّية ، فحكمته مطلقة . فلمَ تعترض عليه وأنت مقيّد الجهل بمصالحك ؟ ثم إن كانت المنافع لا تضرّه ، فقد كانت مضرّة بك إذا عُجِّلت ، ومصلحتك حالُك التي أنت عليها. وقد رأيت أحوال أقوام عُجّلت لهم منافعهم كيف تسلّطوا و انبسطوا.


    111- قال حنبلي متكلم محقق يوما :
    إنما اشتد جحد الناس أو تأكّدت شبهتهم في البعث لمحبتهم لنفوسهم ولحب الحياة ، وكل ضنين بشيء إذا خرج عن يده لا يصدّق أنه يعود، وإن استعارة الثقة لا تكذيب جحد عن عقد ، لكن تخوّفاً من الفقد ، وتمسّكا من النفس ، واستعجالا للردّ ، هذا إذا كان الأخذ نقلا مع السلامة. ألا ترى الشقيق الأول كيف قال في حق المحبوب ، وهو مع الإخوة بني الأب : (وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون ) أخرجه وما يحدّث نفسه بالرجوع ، وقال في الأخير : (بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل ) . فكيف إذا رأى الناس هدم البنية وبشاعة النقلة ، مع تقطيع الأوصال و التلاشي والانهدام ؟ فمن هاهنا كثرت شبههم في البعث .
    فينبغي أن يعالج هذا الشك بترك النظر الى التحلّل وفساد المادة ، وينظر الى قوة الفاعل وما صنعه في المبدأ ، كيف دفع إلينا صوراَ محبوبة من تراب ، بحكم النظر الفكري ، ومن نطفة وعلقة ، بحكم النظر الحسّي . فمن أهدى لنا من نطفة أولاداً قرة أعينٍ قادر أن يردّ علينا من رمم قرة أعينٍ ، بل الرجعة أولى ، لأن اكريم تبرّع بالهبات ، فأما الرجعة فوعداً عليه حقاً ، كما قال : ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعداً عليه حقاً ولكن أكثر الناس لا يعلمون ).
    فينبغي للعاقل إذا غلب عليه الإياس من الرجعة ، أو خامره فيها شك ، أن يفزع من مطالعة البنية المهدومة الى القوة البانية لها في أول وهلة ، ويستحضر المني المستحيل في الرحم وينظر حاله ، فإن رأى استبعاد تصويره ، نظر الى بنية الأطفال من ذلك الماء الذي كاد أن يظن أنّ تصويره محال ، فإذا رأى تسلّط القدرة على البدأة ، سهل عليه الإيمان بالرجعة ، والله أعلم بدواء كل شبهة .
    سبحان ( الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) .
    (أعطى كل شيء خلقه) أقام الصورة والبنية ، ثم أخطر بالبال عند الكمال السبب في الإيجاد تطلّب المصوّر الخالق ، فوجده بآثار الصنعة ..فهدايته تقويم ، ثم تعليم إيجاد ، ثم إيجاد تركيب ، ثن تهذيب تصفية ، ثم تعلية .
    (أعطى كل شيء خلقه) ، صورته . (ثم هدى) الى الجهة التي سالت منها الصور وجاءت من عندها الخلق .( كل شيء خلقه) خلقه ، إقامة الصحة والأدوات . (ثم هدى) ، لطرق الاستدلالات .
    ( أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) منه البداية ، ومنه الهداية . فالطلب من غيره ضلال ، والإجابة من سواه محال .



    112 - في قوله سبحانه : ( ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون) :

    انتقد أهل المسكنة و الضعف عن المال لبقية كانت معه من القوى لفقد المال ، فوجد من دون تلك الأمّة إمرأتين معهما ذود من الغنم في أواخر الناس ( قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء ) إذا شرب أهل السقاية و صدروا عنها رووا ( وأبونا شيخ كبير ). كذا من ضَعُف ناصرُه ، وغاب آخره عن بلوغ الأغراض والآداب . حرّكتهُ أخلاق النبوة ، فرفع الصخرة ومدّ واستقى فأمدّ ، ( ثم تولى إلى الظل ) فاستمد طلباً للكسر ، وما عنده من البعثة خبر ، فلما رجعتا إلى الشيخ قبل أوانهما ، أنكر شأنهما ، فلما وصفاه ، عرفه بالوصف ، وشهده بالنعت فاستدعاه ، فلما أضافه وأدناه وخطبه واصطفاه وقضى الأجل فوفاه سار بأهله وناداه، مفاجأة من غير مواعدة ولا مواطأة : ( يا راعي غنم كنعان ! يا موسى بن عمران ! ) وما دار بخلده ما جرى من ذلك الشان .
    سبحان من يختص برحمته من يشاء ، ولا يضيع أجر المحسنين !
    سبحان من تحجّب بنعوت جلاله عن أن ينال و يتحلى بأفعاله وتأثيراته بكل حال !
    قلّب العصا ، ودكّ الجبل ، وقلّب اليد بيضاء ، وأظهر ناراً حمراء على عوسجة خضراء ، ليعلم وسى أن الكلام لمن هذه أفعاله .

    113 -فصل :

    ذكر قوم من أهل الفطنة القضاء والقدر ، وكاد يجري مخاشنة .
    فقال لهم حنبلي من أهل العلم :
    يا هؤلاء ! أنا أكشف لكم القدر من علومكم ، وما لا تزالون تلهجون به في كلامكم ، وهو ما جاء لا بمقدار قدركم ، ولا بزنة اجتهادكم وجنائكم ، وهو الذي يسمّونه في حق النساء بختا ، و في حق التجار رزقا ، و في حق السلاطين نصرا .. وما يجيء بمقدار الاستطاعة و اطّراد العلة لا تسمّونه بشيء يقتضي الإضافة الى الله ..فإذا جاء الحظ من الزوج لوحشة الخلق ، بلا جهاز ولا رشوة ، قلتَ ( بختها ). وما يجيء من الأرباح ، بغير سفر ولا موسم ولا جودة سلعة ولا تصنيعها ولا تحسينها ، قلتم ( رزقا ). وما يجيء من ظفر من مقلّ بمكثر قويّ ، تقولون ( هذا نصر ). وما يجيء من سلامة ، مع سقطة من شاهق وجراح خارق وغرق وحرق ، قلتم (رزق الله لا يقدر أحد يمنعه ، وأجل لا يقدر أحد يقطعه ). فهذا قدر وقضاء تنطقون به بألسنتكم ، ثم إذا قيل لكم ( ما القدر ؟ ) قلتم ( لا ندري ما القدر ).
    فاستحسن الجماعة ذلك وأذعنوا له .
    ثم قال : هذا منثور في سور القرآن و آياته بأحسن نطق و أفصحه و أبينه .




    114 - فصل في قوله تعالى : ( فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ) ( وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل )

    فأخبر سبحانه وتعالى أنه يحرّم المباحات في زمان النبوات ، عقوبة على أكل المحرّمات . والآن ، فلم يبق طريق للنسخ فيحرّم عليك .
    لكن احذر لا يحرِمك ، فإنه كما يمنع بالتحريم منعاً شرعيا ، يمنع بالفقر تارة ، مع وجود المشتهيات و تعذّر الأثمان ، وتارة يوجد المال ، ثم يسلّط على الأبدان أنواع الأمراض المانعة مع تأتّي الأثمان و إباحة الشرائع ..هذا من بعض عقوباته الآجلة .
    احذر لا يوقع فيك علّة تستقذرك الزوجات و الأولاد . من بعض أجناده الجذام القاطع بينك و بين سائر الآنام .
    قال سبحانه : ( يمحق الله الربا ) . ومِن محقه إخراج المال في غير وجهه بجمعه ، وبثمنه بالربا يخرجه من يدك على أحلى ما يكون في قلبك الى العطارين والصيادلة و الأطباء ..لا في مستحلى ، ولكن في حشائش مُرّة وتقطيع العروق وفتح الدبل ..وتخرج ما جمعتَ منه في أكره مكروه ، هذا من بعض محقه للربا ، وإلا فيقلب الأسعار حتى لا يعود إليك رأس المال . هو إذا محق محق ، كما أنه إذا بارك بارك .
    تطلب الزيادة بالطريق الذي نهاك عنه ، يحرِمك الزيادة من حيث جرت العادة به ، لا زرع يزكو ، ولا بضاعة تربح . هذا جزاء عبد خالف مولاه بشهوة ، لا حاجة .




    115 -سأل سائل : كيف ساغ لعيسى أن يقول : ( والسلام عليّ يوم ولدتُ ويوم أموت ويوم أبعث حيا ) ؟

    قيل له : أولا ، هذا ليس نطقه ، وإنما نطق ، لأنّ لسان مثله في السنّ التي كان فيها ليس بآلة للنطق . وإنما هو كاليد و الرجل التي تُستنطَق يوم القيامة . وإن ان مستنطقا ، كان الباري هو الذي أخبر عن حله في المستقبل ، وأنه يموت ، ويوم يُبعث يكون على حال السلامة ، وما هو إلا كقول النبيّ نطقا من طريق الوحي : أنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر ، وبيدي لواء الحمد ولا فخر ..هذا نطق عن الوحي ، إذ لا اطّلاع له بنفسه ، ولا استدلال له على حاله يوم البعث .




    116 - احتج بعض من لا يرى الكرامات بأن قال :

    معلوم أن الأعصار لاتخلو من صلحاء , فإذا شاعت الكرامات , وهي ما يخرج عن العادات , صارت بكثرتها وشيوعها عاداتٌ , فطعنت في المعجزة ، لأن عماد العجز هو الخرق للعادة ، فما يصير عادة ، يخرج عن كونه خارقا .
    قال له حنبلي :
    هذا باطل بالمعجزات نفسها . فإنها كثرت بكثرة الأنبياء عليهم السلام ، ثم لم تصر عادات ، بل كانت مع كثرتها قبيلاً خارقا ونمطاً خارجا عن العادات .
    قال له المتكلم الأول : هذا القبيل ، وهو المعجز ، لا يجيء إلا بالتحدّي، و الكرامة تجيء من عير تحدّ ..فإذا كثرت ، صارت عادة مستقرة ، فتطعن في المعجزات ، إذ تصير صادرة عن وجود مستمر ، لا تخرج عن كونها عادة بذلك الاستمرار .
    ووجدتُ لبعض من جحد الكرامات أنها متى وُجدت أفسدت اعتقاد المكرم وغيره ، فإنه يزول تعظيم المعجزات من النفوس ، لأنها تصير مألوفة ، ومتى صارت مألوفة ، خرجت عن الدهش بها و التعظيم لها .



    117 -
    قال حنبلي :
    كل ما يرد من وراء القدر و العادات فهو منبّه على الله سبحانه وألطافه . و لقد رُوي أن البقر ، حيث أجدبت أرض بيت المقدس ، خارت نحو السماء ، فأنبع الله لها العين المعروفة بعين البقر . وروي فيما صحّت به الروابة أن سليمان عليه السلام خرج للإستسقاء ، فوجد نملة رافعة قوائمها نحو السماء وهي تقول : اللهم ! إنا خلقك ، ليس بنا غناء عن رزقك ، فاسقِنا . فقال : ارجعوا ، فقد سُقيتم بدعوة غيركم .
    فإذا كان الله سبحانه يأتي بالألطاف بطلب البهائم ، فلا يحسن إنكار ألطافه بالخواص من عباده ، إيقاظا للقلوب وتنبيهاً للإيمان في النفوس .



    118 - (حكي أنه قال قائل في أيام عبد الملك ):

    .... إن قلتم ( أطيعوا أمرنا واقبلوا نصيحتنا ) فكيف ينصح غيره من غش نفسه ؟ أم كيف تجب الطاعة لمن لم تثبت عدالته ولا تجوز في الإسلام شهادته ؟
    وإن قلتم (خذوا الحكمة حيث وجدتموها ، واقبلوا العظة ممن سمعتموها ) فعلامَ قلّدناكم أزمّة أمورنا ، وحكّمناكم في أموالنا ودمائنا ؟ أوَما تعلمون أنّ فينا من هو أفصح بصنوف العظات ، و أعرف بوجوه اللغات منكم؟
    فإن كانت الإمامة تُستحقّ بذلك ، فتحلحلوا عنها ، أو اطلقوا أعقالها وخلّوا سبيلها ، يبتدرها أهلها الذين شرّدتموهم في البلاد ، وقتلتموهم في كل واد ..أما لو ثبتت في أيديكم باستيفاء المدة وبلوغ الغاية . إذ لكل قائم منكم يوماً لا يعدوه ، وكتابا بعده يتلوه (لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ).( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ).
    قال حنبلي :
    وهذا إن لم يكن للإمساك عنه علّة ، وإلا فهو بعيد عندي أن يتم في أيام عبد الملك ، لاسيما إن كان في صحبته الحجاج ، وإلا فالسياسة مع القدرة تمنع من سماع هذه المقالة الشنيعة مع إبلاع قائلها ريقه . فإن كانت صحيحة ، وإلا فهي موعظة صحيحة ، واعتراضات على بني مروان لازمة .(والله يقضي بالحق ) يوم ( تجزى كل نفس بما كسبت).

    119 - ذم التشبيه لله بخلقه :

    قال حنبلي :
    إني لأعجب من قوم ينتمون الى مذهبٍ تسميةً ثم يخرجون منه معنىً ، فيدّعون السنة والظاهر ، فيقولون : ( نحن لا نتخطى النطق الى تأويل ولا تفسير ) . حتى إنهم تحرّجوا من تسميته سبحانه سخيّا ، وإن سمى نفسه كريما ، مِن حيث علموا أن العرب عنوا بالسخاء الرخاوة من قولهم : ( أرض سخية كالسبخة ) فإنها لا تتسك بما يقع فيها من الماء . وتحرّج بعضهم من تسميته ذاتاً ، وقالوا ( هو اسم تأنيث) ، بل يسميه (ذو ) وإن كان قد جاء بمعنى ( الذي ).
    قال الفرّاء لرجل سأل عنه في مجمع فقال ( أين الفراء؟ ). فقال الفراء : ( أنا الفراء ذو سمعتَ ) . وأكثر ما يجيء ( ذو) مضافا ، مثل قوله سبحانه : ( رفيع الدرجات ذو العرش ) ( ذو العرش المجيد ). أنا الله ذو ثِلة . ( ذو القوة المتين ) . ولم تجئ ( ذات ) كذا إلا في الأنثى ( أسماء ذات النطاقين ) وكان الإسكندر يخاطب أمه ( ذات الحلم ).
    وإن كان يقال (ذو) للمذكر و ( ذات ) للمؤنث ، لا يحسن أن نقول في الباري (ذات) لأنه إسم ناقص ، واسم التأنيث بالإضافة الى اسم التذكير اسم ناقص . ولهذا تأول ابن عباس قوله تعالى : ( تعلم ما في نفسي) قال : ( في علمي ).
    وقد اعتَرَض على هذا ، الحنبليٍّ الذي أنشأ هذا الفصل فقال .
    من دخل على هذا يجب عليه ألاّ يقول : ( لله صفة هي قدرة وحياة ) لأنهما مؤنثان ، كما أنه لا يجوز عليه نقص لا يجوز على صفاته نقص .
    قال الحنبلي :
    وهذا الفصل أخرجته مخرجا يخرج القوم عن التوسّع في الأسماء . وإنما عرض لي في الكلام في (ذو) و ( ذات ) فلم أغفل عن سطر لئلا يشذّ عني .
    فإذا ثبت هذا ، كيف يحسن بهذه الطائفة أن تتوسع في قوله سبحانه : (ثم استوى على العرش ) ، (استقر) أو (جلس) فقالت : استواء استقرار؟ وهذا يصرف من أخذ الاستواء في حقه ما اعتقده من استواء الملك على سريره ، ونوح على سفينته ، استواء السفينة على الجودي ، والراكب على مطيته وسرجه ..
    وهذا بعينه هو التشبيه الذي لا يليق بمذهب من تجعد عن التصرف في الأسماء بالمعنى .
    وحيث تجاسروا هذا التجاسر ، كان ينبغي ألا يتجعدوا عند تصريفهم لقوله تعالى : ( فإذا سويته ونفخت فيه من روحي ) أن يقولوا : ( نفخ بفيه في ذات آدم المجوفة صفته التي هي الروح ، وكذلك نفخ في فرج آدم ، إذ لا يعقل من النفخ إلا ذاك ، بدليل نفخ عيسى في الطائر إذ قال : ( وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير ) ، فينفخ فيه فيكون طيرا، فلما وجب أن لا ينصرف في النفخ المضاف إليه ، ولا الروح التي أضافها إليه ، أنه إخراج هواء وبعثه من فم الى مجوّف ، ولا أن الروح المنفوخ منها أو المنفوخة ، صفة لله أولجها بذلك النفخ في جثة آدم ولا فرج مريم .
    لكن تفسير هذا ما جمعه الباري في كلمة تليق به فقال : (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم ) ، ثم ذكر المماثلة في المادة التي خلق منها وهي التراب ، ثم ذكر معنى الخلق أو ما خلقه به أو عنده فقال : (ثم قال له كن فيكون ) ( الحق من ربك ) : أي هذا هو الحق من ربك ، (فلا تكن من الممترين ) في أن بيني وبين عيسى الوصلة التي توهمتها النصارى من أن كلمتي حلّت ، أو صفتي ولجت ، أو أنه تولّد عن كلمتي ، أو أنه تعلق عليّ تعلقا يزيد على آدم .
    فوجب على من سلك طرقة التحرّج وفهم ما تحت قوله : ( ثم استوى على العرش) (استقر) ولا ( لما خلقت بيدي ) (عجنت طينة بجارحتين ذات أصابع فانسل الطين من بين أصابعي )على ما توسعوا به .
    وتوسع الهروي الأنصاري في قوله : (بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ) ( في كتاب مكنون ) أنه حالّ في الصدور والمصاحف ، وكان هذا من أعظم التحرؤ على القديم سبحانه.
    وإني لأعجب من هؤلاء القوم يدعون أنهم سنّة ، لا يتعدون من اسم الى غيره مما هو مثله في المعنى ، ثم ينبسطون في صف الله تعالى بما يوجب إضافة الحوادث اليه ، ويتنصلون من التشبيه ، وهم بهذه المقالة مضاهين للنصارى ومربين عليهم ، حيث جعلوا كلمة الله حالّة في كل أعمى وكل جلد وكاغد ..والنصارى كفروا بالقول بحلول كلمته في مريم وعيسى .


    120 -الجزية :

    قال حنبلي :
    عقوبة تجب بالكفر ، فسقطت بالإسلام ، كالقتل .
    قال الإمام جمال الإسلام أسعد :
    إن أردت أنها في الأصل عقوبة ، مسلَّم ، وأما إن أردت أنها تستوفى عقوبة ، فلا. وكيف تكون عقوبة ، وقد جعلت الذمي محقون الدم ، مبسّطا في دارنا ، محمي الجانب بيننا. فكيف تدعيها عقوبة وقد جلبت هذه الكرامة ؟
    فأجاب الحنبلي المحقق عن هذه الجملة :
    أنا أرثي له من هذه الكرامة . فإنك إذا خلفتَ إقامته في دار الإسلام ، رأيته مذلة لا كرامة .
    فأقول :
    نصراني جاء من بلاد الروم ، من دار الحرب ، وهو حرب ، فأُعطي الأمان ، وكان معه تجارة ، وله قريب ذمي في دارنا . فقال : ( كيف أنت هاهنا ؟ حتى إذا كان مقامك كريما عقدتٌ معهم الذمة وقمت عندك)
    وأنا أوازن ما ذكرتَ وما أذكرُه ، هل هو مخرج لما ذكرتَ من كونه كرامة أم لا .
    فقال : ( حدثني ..أنا رجل أتجرهناك في الخمر والخنازر ، وأنجر الصلبان ..هل هنا سوق أبيع فيها هذا ؟ )
    قال : لا ، ومتى أظهرتها لتتجر فيها أهرِقت ، وقُتلت الخنازير ، وكُسرت الصلبان ، وصٌفعت الصفع الوجيع .
    قال : هذه واحدة في المال . حدثني ، فإن أردتُ أن أقعد على دكاني لبيع البقالة لا الخمر ، أتلو الانجيل بصوتي ، أقَرّ على ذلك ؟
    قال له : في نية الذمي لا . بل تُصفع الصفع الوجيع .
    قال : أردت أن أخرج من فواضل أموالي ما أبني الى جنب بيعتكم هذه بيعة أخرى ، أو في محلة أخرى . أمكَّن من ذلك ؟
    قال : بل تُصفع وتُضرب ويُهدم ما بنيت .
    قال : أنا رجل أضرب بالناقوس هناك . فهل إن ضربت به هاهنا أمكَّن من ذلك ؟
    قال : بل تُصفع وتُضرب ويُكسر الناقوس على رأسك .
    قال : فإن مات لي صديق فأخرج جنازته بالقرابين والشموع نهارا . أمكَّن من ذلك ؟
    قال : وأيّ منعٍ ! صفع ، و ضرب ، وتكسير الشموع ، وتفريق الجموع ، وصفع القرابين .
    قال : فإن كنت على دكاني ، فأردت أن أتناول قدحا من خمر، كما أتناول قدح سكنجبين . أُمنَع من ذلك ؟
    قال : وتُصفَع ، ويكسر قدحك على رأسك .
    قال : فإن أردت أن أدفن ميتتي في مقبرة من مقابرهم ، أو أبني قبة في تلك المقبرة . أُمنَع من ذلك ؟
    قال : وأيّ منعٍ ! يُنبش ميتك فيُرمى به عليك ، وتُصفع أنت وتٌضرب .
    قال : فإن دخلت الى دار كتبهم ، فوجدت قوما يتفاوضون ويتناظرون في المذاهب ، فأفضت في نصرة التثليث ، أمكَّن من ذلك ؟
    قال : تُصفع . وربما رأى بعض المسلمين قتلك ، وبعهم نفيك الى دار الحرب .
    فإنه إذا كان صحيح العقل ، قال : هذه الكرامة التي أشرت إليها :
    إما أنك ضعُف عقلك فتمنيتَ الحبس و الحصر و الذل والإهانة كرامة ،
    أو أنك رجل رأيت نفسك قد سلّت من السيف ، يسهل عندك ضنك العيش . وإلا فجميع ما ذكرتَ مما سألتك عنه فهو الحصر و الكمد ونغصة العيش . واللهِ لقد ضيقتَ أنفاسي ، فضاق عليّ المقام الى حين خروجي بهذا العيش الذي وصفته .

    121 - بين نبي كريم كليم وبين وليّ عليم :

    قال حنبلي :
    جمع بين نبي كريم كليم وبين وليّ عليم ، ونبذ من حكمه الصميم ثلاث فعلات يضيق عن حملها العقل السليم : تشعيث مركب صحيح لمساكين لم يظهر منه إلا الافساد ، بغير إحماد . وشفعه بقتل نفس زاكية ، بغير سبب ولا جناية ظاهرة . ثم تلاه بالاستطعام مع القدرة على الاكتساب . فلما تتابع الاعتراض مع ما تقدم من العهد على الاتباع من غير إنكار ، قُوبل بالمفارقة بعد بيان المصالح المنطوية في تلك المفاسد . وكفى ذلك الكليم عليه السلام في اقتضائه فيما بعد بالإمساك عن الاعتراض على أفعال الحكيم . وقصّ علينا القصة ، فأوجب ذلك علينا الإمساك عن الاعتراض على ما يصدر عنه سبحانه وإن آلم الطباع وأنكرته العقول بظاهر الحال ، لتجويزنا أن يكون في مطاويه أمثال تلك المصالح . فإذا أمات لنا ولداً على شبيبة ، وقطع آمالنا فيه ، فآلم طباعنا و خيّب آمالنا، وجب علينا نقل تلك القصة الى هذه الحاثة المؤثرة أمرّ نغصة ، فنقول : علم أنه لو جاوز هذا لسن ، لتعدّى الى طريقة توجب فساد العاقبة ، وكنا بمثل هذا التأويل عاملين بما ندَبَنا إليه ، وحثنا عليه ، بقوله تعالى : ( ليدّبروا آياته و ليتذكّر أولوا الألباب ).
    فإن حاكت في النفوس اعتراضات بمطالبة غير إقناعية ، بل شافية للعقل بحسب ما سبق فيه من إثبات القدرة المطلقة ومنع الفساد الآخر بغير الفساد الأول .
    لأن الإفساد لا يحسّنه العقل وإن قلّ ، إلا مع العجز عن دفع أكثر الفساديْن بدون الإفساد الأقلّ ، كالطبيب منا الذي حسن منه قطع جارحة لحفظ الجملة ، لعجزه عن حفظ الجملة دون إفساد بعضها .
    فادفع هذا الاعتراض الأقصى لما أثبتَّه من القدرة المطلقة بالتسليم للفعل والتعليل لِما علمتَه من الحكمة البالغة التامّة ، ولا تطلب منه بحسب ما عُرف من القدرة ، إلا مع الاقتضاء لنفسك بالتسليم لما عرفتَ من الحكمة .
    فكم قصّ عليك من مبادئ أفعال مزعجة للطباع و العقول ، كان مآلها لى أمور للطباع و العقول ، وإشعارات مبهجة كان عقيبها أمور مبهجة ، كمنام يوسف في إسجاد النيران له عقبه محن مؤلمات رَمَتْه في الجبّ ، وإخراجه من الرقّ ، ثم ترويعه بالتهمة بأفحش ذنب ، ثم تعذيبه بالسجن، ومنام الخليل ترويع بذبح إسحاق أو إسماعيل ، ثم عقّبه بالنسخ الى ذبح البهيم ، ثم الدحو به في حبال المنجنيق نحو نار كالجحيم ، ثم يتزيّدها عنه بالتكوين ترويع نبيّنا (صلى الله عليه وسلم ) بمخافة القتل ، و الهرب الى الغار ، والشقاء بالأسفار ، والمخافة من الوطن الى دار غربة ، ثم الصدّ عن الكعبة في عمرة القضاء ، ومعاناة الذل في محو الاسم ومنع الهدى وردّ المستجير ، ثم عقّب ذلك بالمنام والوعد بصريح الفتح بما نزّل من الوحي ، ثم عقّب ذلك كله بالفتح ..
    فوجب بهذا وأمثاله أن لا نأنس ببادرة خير ولا بادرة شر ، بل نكون مع بادرة الشر على رجاء عاقبة خير ، ونكون مع بادرة الخير خائفين من عاقبة شر . فكتم العواقب دأب الحقّ ، ليكون العبد معتمدا عليه في الأمريْن ، هذا هو التكليف ، ولو كشف العواقب سقط التكليف بالكلّية . لكن ترك الخلق بين الخوف و الرجاء ، ليكون العبد أبداً على باب اللجاء .

    122 -ظواهر الصفات في القرآن و التوراة :

    سأل سائل حنبليا ، فقال :
    يأتي في التوراة مثل ما أتى في حديثكم من ظوار توهم التجوير في أفعال الله وأحكامه والتشبيه في أوصافه ، وهو أكثر من أن يتعدّد ..لكن مثاله و أنموذجه يكفي ، وليس مما يُتّهم فيه متديّن بدين آية مختلفة ، لأن ظاهره ينفّر عن الدين الذي ورد فيه .
    فمثله من التجوير في الأفعال قوله في التوراة : أنا التنّين الذي يخرج من مناخري النيران ، أخذ الأبناء بذنوب الآباء ، وهو الى سبع بطون . وقوله واتقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصة ) . وهذا تصريح بما ظاهره التجوير .
    وأما التشبيه فمثل قوله : جاء الله من القديس ، وأشرقَ من ساعير ، واستعلن من جبال فاران . ومثل قوله في إسرائيل : صارعني عند الصخرة فصرعني فسمّيته إسرائيل ، بمعنى آسر الرب ، لأن (الايل) هو الرب في اللغة . (لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ) . وفي كتابنا : (وجاء ربك والملك ) (يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه ) (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ) . وفي الأخبار : أين كان ربنا قبل أن خلق السماوات والأرض ؟ كان في عماء ما فوقه هواء و ما تحته هواء . فكيف المخلص من هذه الظواهر ؟
    فأجاب الحنبلي فقال :
    إن الله ابتلى بالتكليف للأبدان ما تطيقه ، وإن ثقل عليها ، من الأعمال الشاقة صوتا ، وصلاة ، وأغسالا ، وتحشيرا في الأموال بما فرضه من الصدقات و الكفّارات ، وإتعابا للأجساد بالحج و العمرة ، و مخاطرة بالنفوس ، و احتمالا لوقع الأسلحة في جهاد الأعداء ..كل ذلك طاعة لله، وإعلاءً لكلمة الله .
    ثم كلّف العقول تخليص الاعتقاد من هذه المشكَلات التي بدّدها في كتبه، وعلى ألفاظ رسله ، بصرفها عن التجوير والتشبيه ، بما وضع في العقول من وجوب تنزيهه عن التجوير في أفعاله و التشبيه في أوصافه . وما قنع لنا بمجرد ما توجبه العقول حتى جاء في كتبه بما يوجب حمل المشتبه بالتأويل على ما أوجبه من ذلك التنزيل ، فقال : (ليس كمثله شيء ) (ولم يكن له كفؤا أحد ) ، فنحّى من توهمات الضعفاء ما حصل من التشبيه .
    وقال : (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه ) تمرساً و قضية عند الاستقراء و النظر والاستدلال : (فلما جنّ عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي ) الى قوله (فلما أفل قال لا أحب الآفلين ) ، وكرّر ذلك في الطوالع كلها ، وعقب أفولها بإخراجها عن القِدم بأفولها وانتقالها ، فدلت هذه الآيات على أن ما ذكره من المجيء الذي أضافه إليه ليس بنقلة ولا حركة .
    وأزال الشبهة في نفي التجوير بقوله : (ولا تزر وازرة وزر أخرى ) (وما الله يريد ظلما للعباد ) (من يعمل سوءاً يجز به ) (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها )..فإذا نفى سبحانه مؤاخذة الجاني بزيادة على فعله ، يخبر عن نفسه بأنه يأخذ الجاني بجناية غيره ؟
    فلا مخلص إلا بدفع المشتبه بالنص الذي لا اشتباه فيه ، وبالتأويل الذي تحتمله اللغة ، وصرفه عن ظاهره الذي لا يليق بالقديم ، الى ما يجوز عليه ، أو إضافته الى بعض ملائكته و رسله ..فيكون مجيئه من الجبال و البقاع مجيء ريله و كتبه .
    وهذا سائغ في اللغة بلا خفاء : ( ينزل الأمير ببلد كذا ) إذا نزل عسكره و أجناده ..وكذلك (جاء) و(سار) و (ترك) ..وكذلك المصارعة إما لملك، أو لمكافحة ، بلى بها بصرَه ، فغلب صبرُه البلاء ، فسمّاه صارعاً و آسِراً .
    والله أعلم .

    123 -محنة التقليد :

    ما دخلت البدع على الاديان إلا من طريق سلكه عوامّم الاديان، فهلكوا . والواجب على من خبره أن يعدل عن سلوكه ، ليسلم مما وقع فيه ممن اغتر به . وذلك الطريق هو تعظيم الرجال و ترك الأدلة ، وهو التقليد .
    فأول من سلكه الشيطان ، حيث نظر الى نفسه بنوع من أنواع التعظيم لها ، وترك النظر الى الدلالة القاطعة . فالله سبحانه يقول : (اسجدوا لآدم ) وقد سبق في علمه بنظره واستدلاله على أنّ هذا القائل هو الإله القدير الحكيم المبدئ لخلقه من أنواع شتى ..وهو الأعلم بمقادير العباد التي ابتدع خلقه منها ، النار و الطين و الهواء و النور و الماء .ولو لم تسبق له المعرفة بأن الآمر له على هذه الصفة ، وأنه الإله القديم الحكيم
    العالم بمقادير ما خلق ، ومراتب ما خلق ، لما رسخ بالمجادلة في فرع وما ثبت عنده أصله ، فلو لم يثبت عنده الأصل لا مادة الخلق لقال أولا : (ومتى ثبت عندي أنك - أيها القائل :اسجدوا -أمر ، فأنا تحت طاعة أمرك ) لأن الشكوك في الأصول تمنع الرد بالفروع .ومعلوم أن العلماء كلهم من أهل الاديان لا يشكّون أن إبليس لم يشاهد الآمر له ، ولا سبقت له مشاهدة ، ولا له في ذات الله سبحانه علامة ، فبطل أن يكون عرفه بالمشاهدة . وأكثر العلماء من أهل السنّة يقولون : ولا كلّمه بذاته ، لكن صدّر الكلام له على حدّ كلامه لموسى . فإن الله سبحانه نفى تكليمه للكفار ، وهم دون إبليس ، فقال ( لا يكلّمهم الله ) ، ثم عمّ فقال : (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء ) (وكذلك أوحينا إليك ). فإذا أخبر بصيانة كلامه عن المكالمة به لخواص خلقه من بني آدم الذين شرّفهم ، يكون متكلما لهم كفاحا ، فإذا ثبت هذا عُلم أنه إنما سبق له العلم بأنه سبحانه هو الآمر له و للملائكة بالسجود استدلالاً و نظراً سبق سماعه له بالسجود ، فلذلك لم يتعرض لجحد ما سبق العلم به فيقول : حتى يثبت عندي أن الآمر لي الخالق الذي ابتدعني ، فأُجيب الى ما أمرني ، والذي يشهد لسبق ذلك قوله وهو في مقام الجدال ( فبعزتك لأغوينهم أجمعين ) وهذا قسَم عارفٍ بأن الآمر له هو صاحب الأمر الموصوف بالعزة المستحق للقَسَم به .
    الشاهد الثاني لمعرفته أنه خطف منه الإنظار . فلو لم يسبق له العلم بأنه الحكيم ، لمَا سأل البقاء ، لأن الإبقاء الى من كان منه أصل الإيجاد ، والإبقاء فرع على الإيجاد .
    فلما ثبت ذلك في حق إبليس ، وجب عليه الائتمار للحق سبحانه ، ترك هذا جميعه ، وأخلد الى تعظيم نفسه بمادة خلقه ، فقال : (خلقتني من نار). وهذا أيضا مما قدّمناه من تخمّر معرفته في عقده أن الخطاب بالأمر من جهة من ثبت له الخلق ، وهذه الرذيلة التي دخلت على المتّبعين له من أهل التقليد ، حيث قالوا للأنبياء : (أهذا الذي بعث )؟ (أنؤمن لك واتبعك الأرذلون )؟ وقال فرعون : (أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين ) ، اعتمادا على دناءة اللبسة و قصور الحال بقوله : ( فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب ). وقالوا في حق نبينا (لولا أنزل عليه كنز ) وتارة يقولون : (يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم ) هذا كله عميٌ عن الحجة والبرهان ، ونظر الى الأشخاص . فهذا محنة التقليد .
    جئنا الى ما نحن فيه ، وجدنا السلف الصالح كلهم ، الذين هم أرجح ممن ينتمي إليه أرباب المذاهب اليوم ، الذين قال النبي (صلى الله عليه وسلم ) عنهم ; (أصحابي كالنجوم ، بأيّهم اقتديتم , اقتدوا باللذيْن من بعدي أبو بكر وعمر ) وجدناهم على أصل و فرع ، فالأصل أنهم لم يسلكوا مسلك تقليد بعضهم لبعض ، ولا أنكروا بأجمعهم مخالفة الأدنى للأعلى في مسائل الفقه و الفرائض .
    فأبو بكر الصدّيق ، الذي أجمعوا عليه ، أقدم على خلافة من لم يبلغ رتبته ، لأنه لم يذكَر في العشرة ، و لا ذُكِر في الخلافة يوم السقيفة ، ولا ذُكِر في الشورى مع الستة ، زيد بن ثابت ورّث الإخوة مع الجدّ ، وقد قضى أبو بكر بإسقاطهم بالجدّ ، وجعله كالأب ، فلم يُجبَر في ذلك من جهة الصدّيق ، و لا أخِذ في حق زيد تهجين ولا عتب .
    واختلفوا على لفظة الحرام ، على ستة أو سبعة مذاهب ، و ما أنكر أحد نفس الخلاف ، وإنما فزعوا الى الأدلة ، و لا أحد منهم نظر في مسائل الاجتهاد الى السابقة ، ولا الشجاعة ، و لا البلاء في الجهاد ، و لا الايفاء في نصرة الاسلام ، بخلاف نظرهم الى ذلك في الخلافة . فأما مسائل الاجتهاد ، فانقطعت ألسنة التفضيل ، و التفتوا الى نفس الدليل ، هذه نبذة مثال في الفروع .
    جئنا الى ما جرى في عصرهم من الأصول . خاضوا ولم يُسأَل عن المثبت و النافي ، بل ساق الكل الى الدليل ، وهو أن الكلام فيها أهلك من كان قبلهم . ختلفوا بعده صلى الله عليه و سلم في رؤيته لله تعالى ليلة الاسراء ، ففالت عائشة (رضي اللله عنها ) : لقد وقف شعري مما قال ابن عباس ، يقول إن محمداً رأى ربه ليلة الاسراء ، والله تعالى يقول : (لا تدركه الأبصار) ، و ابن عباس يقول إنه رأى ربه بعينيْ رأسه مرتين ، ويتلو كما تليت (ولقد رآه نزلة أخرى .عند سدرة المنتهى ). واختلفوا في آيات من كتاب الله ، رواها ابن مسعود على صيغة ، و خالفوه فيها ، ولم يوجب ذلك أن يقال : هذا الذي شهد له النبي صلى الله عليه و سلم في القراءة خاصة ، فقال : من أحب أن يسمع القرآن غضا كم أنزِل ، فليسمعه من ابن أم معبد ، قال لهم : سمعتُ ( فامضوا الى ذكر الله ) وكذا أقرأني رسول الله . لم يقطعهم تعظيمه عن محاجّته و مخالفته ، و اجتمع رأيهم على الدليل ، وهو حسم مادة التغيير والتبديل ..وخرقوا مصحفه نظرا الى الحجة ، وهي إجماعهم ودليلهم ، ولو عاشوا الى ما تجدّد من الاختلاف ، لمَا عدلوا عن الفرع الى الحجة، دون تقليد البعض للبعض ، ولا الأدنى للأعلى .هذا حكم السلف الأول الذين نفتخر بهم ، أحمد ، و الشافعي ، ومن سبقهم من فقهاء التابعين .
    جئنا الى أحمد - رضي الله عنه وأرضاه - وهو إمام السنّة ، لم في اعتقاده تعظيم الرجال ، ولا تقليد الأكابر ، ولم ينظر سوى الدليل ، فيجب أن لا نخالفه ، كما لم يخالف مَن قبله ، وأنتم تدعون الى وفاقه تقليدا له ، و نظرا الى أنه الأقدم الأكبر ، وهذا دعاء منكم لنا الى ترك مذهبه و أنتم لا تعلمون ، وذلك أنه خالف ابا بكر الصدّيق في مسألة الجدّ ، فلم يجعله كالأب ، ووافق زيدا في ذلك . فلو كان قد نظر الى رتبة التقدّم و السبق ، لكان اتباعه للصدّيق أولى من زيد ، فلما لم يفعل ذلك اتباعا للدليل دون التفضيل للأشخاص ، وجب الآن النظرُ الى الأدلة في عصرنا دون تعظيم المشايخ ، اقتداءً بالسلف الصالح من آدم الى الآن ، على ما قدّمنا من البرهان ، ولو لزمنا هذا لَلزم مَن قبلنا .
    فإذا قيل :أنتَ ، أيها الحدث ، تخالف مشايخك في توجيه هذا بعينه على من ذكرنا من كلّ أدنى خالف أعلى .
    فيقال لأحمد : أنت تخالف الصدّيق في توريث الإخوة مع الجد ، وأبو بكر جعله في إسقاطهم كالأب ، وتتبع زيد .
    وترتفع المعتبة الى زيد ، فيقال له : أنت ، ولا لك رتبة ابي بكر ، تخالف من هو المقدّم بسبقه في الاسلام ، و الهجرة ، و التفقه و الخلافة ؟
    فيبطل أصل عظيم بهذا النوع من التعظيم ، وهو إجماع الصحابة ، وما اجتمعت الصحابة على اطّراحه لا يجوز التمسك به ، وهو اطّراحهم للأشخاص في باب الأحكام ، واتباع الأدلة خاصّة .
    الدلالة على إبطال ما أنتم عليه ، يا معاشر العوام ، هو دخولكم في البحث عن الله ، والخوض في كل شيء أضافه الى نفسه ، وقولكم إنه صفة ، حسبما تسمعون ممن لا يفرق بين الصفة و الفعل و الحال ، وما حسن أن يمرّ على سنن لأنه حجة الإجماع ، وإنما تجعد عنه من خوف مؤاخذة الإجماع بأخذه به فيما أقدم عليه مما خالف به نص القرآن وأدلة العقول التي ثبت بها الخالق -جلّت عظمته - وبها ثبت صدق الرسول .
    فمن ذلك قوله تعالى : (إنّي خالق بشراً من طين ) (فإذا سوّيته ونفختُ فيه من روحي فقعوا له ساجدين ) فتضمنت هذه الآية إثبات نفخ أضافه إلى نفسه ، وروح أضافها إلى ذاته . وأيّد ذلك أيضاً بقوله في حقّ مريم : ( والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها مِن روحنا ) . فأثبت له نفخاً وروحاً نُفِخت في فرج صينَ عن الزنا، وأضاف النفخ الى عيسى في الطائر الذي شكّله من طين فقال : ( وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني).
    فهلْ أحدٌ من أهل السنّة ذهب الى ما ضلّت به الحُلولية ، وأنّ الروح قديمة ، وأنّ لله صفة تُسمّى بالروح ، ولله صفة تُسمّى بالنفخ ، وأنّها حلّت في آدم وفي فرج مريم ؟
    فمِن قول الظاهرية : ( لا ) .
    قلنا : فما الذي صرفكم ومنعكم عن وصفه بأنه نافخ ، وأنّ لذاته صفة تسمى النفخ ، وأنها على ظاهرها مِن إخراج هواء أو ريح من فم مجوّف إلى إنسان مجوّف وهو آدم ، وشخص آخر مجوف وهي مريم ؟
    فستقولون لأن الله سبحانه قديم ، ولا يجوز لقديم أنْ يحلّ في محدَث ، ولأنه قال سبحانه : ( إنّ مَثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كنْ فيكون ) وقوله : (ليس كمِثله شيءٌ ) . والنافخ والمنفوخ بظاهر اللفظ كلُّه أمثال و أشكال .
    قلنا : فهذا بعينه هو الذي يوجب عليكم أن تنهوا عن الله ، وصفة من صفاته، أن يعجن الطين وينسلّ من بين أصابعه كما ينسلّ من يد الكوّاز..ويوجب عليكم أن تنفوا أن تَلِج صفة الله ، وهي الرِّجل والقدم ، في النار..
    فتارة تجعلونه عاجناً للطين بيد هي صفة لذاته ، وتارة تجعلونه دائساً للنار برِجله .والباري كشف ستره في ذلك ، وهتك ستر هؤلاء المتوهّمة بقوله : ( يا نارُ كوني برداً وسلاماً على إبراهيم ) فالقَدم خرجت عن الاحتراق .
    ومن ذلك قوله تعالى : ( ذلك عيسى ابن مريم قول الحق ) ، ( رسول الله وكلمتُه ألقاها إلى مريم ) . ولو اعتقد معتقِد أن عيسى ، الذي هو جسم مؤلَّف ، كلمة الله القديم ، لَكُفِّر ، وقد كفّرنا النصارى بهذا .
    فلِم لم تقل : إنه كلمة الله حقيقة ؟
    فإن قلتَ : لأنّ صفة الله لا تستحيل لحماً ودماً .
    قيل : فصار تقديره : الكائن بكلمة الله ، الناطق المبلّغ بحكمة الله
    فهذا هو التأويل بالدليل ، لنفي التشبيه .
    فيلزمك ذلك في كل إسم أضيف إليه أن يُحمَل بالتأويل على ما يليق به سبحانه مما ينفي المعهود من صفاتنا وأسمائنا .
    وكذلك قوله : ( من ذا الذي يقرض الله ) ( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ) (إن الذين يؤذون الله) :
    صَرَفَ ذلك كله عن ظاهره المعقول من صفاتنا أدلةُ العقول الدالة على غناء الحق عن الاقتراض نصّاً وعقلاً . فالنص : ( وإن من شيء إلا عندنا خزائنه ) ، ومَن هذا وصفُه كيف يصح عليه حقيقة الاقتراض من خلقه ؟ وكيف تناله الأذايا مِن خلقه ؟ وكيف تثبت له المصالحة لخلقه؟
    فلَم يبق إلا أنه أقام نفسه مقامهم في اقتراض الاغنياء لفقراء خلقه ، فيكون كأنه اقتراض منه حيث أقام نفسه مقامهم في الاقتراض لهم .
    و(إن الذين يؤذون الله ) رُسله وأولياءه ..وعلى هذا في جميع ما يوهم التشبيه .
    وهذا مبني كله على أن الباري سبحانه - من حيث سُمّى موجوداً وذاتاً وحيّاً ومتكلماً وجائياً بقوله : (وجاء ربك ) ، وآتياً، بقوله: (يوم يأتي )-ليس يجبُ أن يكون في ذاته حسبما نحن عليه ، أو مثلنا ، كذلك جميع ما يضاف إنما يكون مجازاً .
    وقد شهد لهذه الاستعارات ما ورد في الخبر أن الله سبحانه يقول لعبده : ( مرضت فلم تعدني ) فيقول : (وكيف وأنت رب العزة؟ ) فيقول : (مرض عبدي فلان ولم تعده ، ولو عدته لوجدتني عنده ) .
    فاتقوا الله في حمل كل ما أضيف الى الله أنه صفة الله ، وصفات الله سبحانه ما لم يفارقه ، كالعلم والقدرة ، فأما ما تجدّد وزال ، فلا يجوز أن يكون ، كالاستواء ، ورؤيته لخلقه ، وسماع كلام خلقه ، هذه أحوال ، وليست صفات ..فلم يزل بصيراَ سميعاً لكلّ مسموع ومرئي ، فلما تجدّدت الأصوات ، سمع تلك الأصوات ، ولما خلق المرئيات ، كان سامعا لها رائيا لها ، وعلى هذا..فاعتقِد ، تسلم من هوّة التشبيه والسلام.


    124 -قال بعض أهل العلم :

    ليس بيننا وبين البهائم إلا عدم الفهم لما ينطق به وفهم ما ينطَق به . وإلا فلو وضح لنا منطقها ووضح لها منطقنا ، لكانت لنا كما يكون بعضنا لبعض ، وصدر عنها ما يصدر عنا من الأفعال المحكمة .
    والدلالة على ذلك أنه لما كُشف لسليمان عن معاني مرادها بما أوزعه الله سبحانه من فهم منطقها أخبرنا بما لا يستطيع الواحد منا ، بل الحكيم منا .
    فمن ذلك قوله سبحانه : ( وحُشر لسليمان جنودُه من الجن و الإنس و الطير فهم يوزعون ) ، ( قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم ) - أمرٌ لهنّ - ( لا يحطمنّكم سليمان وجنوده ) - بيان علة الأمر ، وهي توْقيَتُهُنّ من الضرر .
    وقوله عن الهدهد : ( ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين ) - وهذا صرف الآية إليه بتأخّره عما ندب له . ثم قال ( لأعذّبنّهُ ) - وهذا وعيد ، و الوعيد لا يلحق إلا بمكلّف لأمر يمتنع منه ( أو ليأتيني بسلطان مبين ) - وهذا يعطي أن ليس بيننا و بينهم إلا إيهام الألفاظ ، فيصير كالعجمة في حق الآدمي ، وإذا لم يكن بيننا و بينهم إلا العجمة ، ثبت أنهم مكلَّفون . ولهذا قال سليمان للهدهد : ( إذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تولّ عنهم ) - يعني تَوار . وهذه أوامر مصروفة نحو الهدهد و مناهٍ .
    وقد قال الله تعالى ما يدل على ذلك ، وهو قوله : ( وما مِن دابة في الأرض و لا طائر يطير بجناحيه إلا أمَم أمثالُكم ) . ومعلوم أنه لم يرد أمثالا في الصور ، لم يبق إلا أنها في خاصّ من خصائص الانسانية ، وهي الفهوم والفطن . وقال : ( وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ) . وقال النبي (صلى الله عليه وسلم ) : لولا أن الكلاب أمة لأمرت بقتلها .
    قال حنبلي :
    هذا كلام يفوح منه القول بالتناسخ . وما تعلّقتم به من هدهد سليمان فذاك يجوز أن يخصّ به كرامة له و تسخيرا له، كنا قال في حق داود : ( يا جبال أوّبي معه ) . وقال : ( إنا سخّرنا الجبال معه يسبّحن بالعشيّ و الإشراق ) . وقال : ( وألنّا له الحديد ) . فإذا كانت الأشياء تخرج عن طباعها تسخيرا جاز أن يخصّ بعض الحيوان البهيم بأن يخلع عليه ما يخرجه عن البهيمة تسخيرا و كرامة ، كما سبّح الحصا في يد نبيّنا (صلى الله عليه وسلم ) ، وحنّ إليه الجذع ، وجاءته النخلة منقادة ..ولا يدلّ ذلك على أنّ جنس النخيل مُكلّف مستجيب مأمور ، ولا الأجذاع حنّانة كلها .
    قال الحنبلي :
    وقد نطق الكتاب العزيز بذلك ، فقال : ( فسخرنا له الريح تجري بأمره ) . تُرى صارت الريح مكلّفة ، أم مسخّرة ، خارجة عن سمت النار و الماء الذي لم يسخّر له ؟ و التسخير هو أن الباري يتولى إجراءها عند أمره فيتبع أمر سليمان تكوين الرحمان لجريها ، كذلك في حقّ البهائم . والله أعلم .



    125 - مذاكرة في السلف الصالح مع الخلف الصالح :

    قال رجل :
    النبي (صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( خيركم القرن الذي بعثت فيهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ) ، فطبّقهم طبقات ، فدلّ على أن السلف أفقه ، وأعلم ، و أصلح ، وأخير ..وما بقّى الأول للآخر شيئا . وهؤلاء فقهاؤنا من بحار أولئك اغترفوا -وكاد يغلي في الصحابة ، ويزدري بفقهائنا و صلحائنا.
    فقال حنبلي محقق :
    اعلم أنك أغفلت حقوق المتأخرين و فضائلهم . أما سمعت قوله (صلى الله عليه وسلم ) : ( رُب حامل فقه غير فقيه ، ورب حامل فقه الى من هو أفقه منه ) ولا شك أن الحامل قد يكون صحابياً ، والمحمول اليه تابعياً ، أو الحامل تابعياً ، والمحمول اليه تابعي التابعي ، وقد شهد له بأنه أفقه و أرجح . وقال : ( واشوقاه الى إخواني ! ) قالوا له : (ألسنا إخوانك ؟ ) قال لا ، أنتم أصحابي ، إخواني قوم يأتون من بعدي ، يؤمنون بي ولم يروني ، يؤمنون بالورق المعلق ، يصلحون إذا فسد الناس ، الهاربون بدينهم من شاهق الى شاهق ) . فلا تلتفت عن هذه الفضائل وتقتصر على أولئك .
    ثم قال :
    إذا حققنا النظر ،وجدنا أن الذي ترك السلفُ الأول وهجروه لا يُفتَخَر بتركه . فإن غاية ما هجروا صوراً في حجر أو شجر كاللات والعزّى ..وأيّ مجاهدة للنفس في ترك هذه وهجرانها ، واعتقاد نفي الإلهية عنها، والمشاركة لله بها ، وغاية ما كان من الشبهة أنها معبودات أسلافهم ؟ وإذا كشفوا ما تركوا من اعتقادهم و افتخروا بذلك افتضحوا .
    وأما الأواخر ، فإنهم بلوا بفلاسفة وطب منجمين وأباب بدع تحيّرت العفول فيها من تخيّل الشبه ، ثم في الفقه نظروا الى ما قال السابقون وعرفوه تدبروه ، وبحثوا وكشفوا ما كان يستره التقليد وتعظيم الأكابر ، وأمعنوا في المقاييس ، وميّزوا الشبهة عن الحجة ، ودحضوا التخيلات بالبراهين ، وأسقطوا حكم الظواهر المخيّلة لإثبات الأعضاء لله سبحانه و الصورة والنُّقلة بالنصوص الماحية لتوهّم المتوهمة من المجسّمة .
    فإذا قال الله : ( ويبقى وجه ربك ) ، جاء بقوله : ( ليس كمثله شيء ) ، (و لم يكن له كفؤا أحد ) ، ( فلما أفل قال لا أحب الآفلين ) ، واستحضر قوله في الكتب الأٌوَل : جاء الله من طور سينا ، وأشرق من جبال ساعير ، واستعلن من جبال فاران ..وكان مجيئه من طور سينا المراد به التوراة وموسى ، وإشراقه من جبال ساعيرالإنجيل و عيسى ، وكان استعلانه من جبال فاران القرآن ومحمد ..والدلالة الصارفة ل(مجيء) دلالة العقل التي أوجبت حدث كل جسم ، وإنكار الإلهية عن النجوم بالأفول ، وهو الهبوط بعد العلو ، و الأفول بعد الإشراق .
    فهذا كله أين كان من الأوائل الذين لم .......الأدلة عندهم ولا انتشرت بينهم المناظرات الكاشفة لأسرار المعاني ؟ فأين قاطع الشبهة الى دافع الهمّة للصورة في الصخرة ؟ وأين علاج هؤلاء العقلاء الفطناء المحققين من مجادلة قوم يقولون في حق محمد (صلى الله عليه وسلم ) : ( أهذا الذي بعث الله رسولا) ؟ وقولهم ( أهذا ) كلمة استقلال ، فاستقلوا عربياً ناطقاً أصيلا صادقاً كريما صيّناً وقوراً ، لا يسمر مع السامرين ، و لا يعبد الأصنام مع العابدين بفطرة عقله وحسن نظره ، فاستنكفوا أن يكون مثله لله رسولا ، وجاؤوا الى صخرة مصوّرة لم يستنكفوا أن يجعلوها لله شريكاً ..ومعلوم أن الشريك أكبر و أعظم رتبة من الرسول . ومن كانت هذه عقولهم ، وهذا مقدار نظرهم ، لا تحتاج دعايتهم الى معالجة ، إذ ليس حجة بنظر ولا شبهة تحكّماً . وتذكّر غاية قولهم : ( أجعل الآلهة إلها واحدا ) ، ( يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم ).
    أين أنتم الى معالجة الأواخر ممن نصر الطفرة ، ودقّق في إثبات الطبع ، أو دقّق في نفي الأقدار ، وخلق الأفعال ، ومقاساة لمن أثبت الأكساب ، لمن قال بمحض الأخبار ، وتعلق بالتشابهات من الآيات في إثبات الأبعاض و الأعضاء ، والى أمثال ذلك من الكلام في الحقائق؟ فأين من بلي بدفع من أشرك بالله لعيّه الى من دقق في الشبهة وخيّلها بصورة الحجة بأعذب لفظ وأملح إيراد ؟
    فأمسك الحاضرون إمساك إفحام عن الخوض فيما سبق لهم من الكلام .

    126- (وَمَنْ يُوق شُحّ نفسه فأولئك هم المفلحون) :

    قال حنبلي :
    أرى أهل الحضر و الأمصار ، إذا نبس أحدهم بوصف طعام اصطنعه، جاءته المحن من كل مكان ، حتى صنّفوا (دعوة التجّار ) وجعلوها مثلاً و سمراً ، وهذا ما قد سمعتم من صفات العرب للأطعمة و الذبائح وأكثروا ، حتى ضمّنوه الإفتخار و ذم البخلاء .
    فلِمَ خُصّ أهل الحضر بذمّهم على وصفهم لأطعمتهم وهم يبلغون في تحسين الأطعمة ما لا يبلغه أهل البادية ؟ ثم لو تكلّم من عمل طعاماً أنفق عليه ألف دينار بكلمة تتضمن مدح الطعام ونهوضه الى ذبح الذبائح ووزن أثمان الأطعمة الفاخرة ، لأتته المعائب من كل مكان ، حتى صنّفوا معائب لقّبوها ب(دعوة التجّار ) ، وقبّحوا فيها آثارهم بذم الطعام ، وذكر كيفية الحال .
    لا بد أن يكون بينهما فرق أوجب لهؤلاء المدح أو الإمساك عن القدح ، وأوجب لهؤلاء القدح فيما اعتمدوه من الوصف . فإن لم تكن علة توجب الفرق ، فهو الظلم الصرف و البغي البحت .
    وأصل هذه الرذيلة في أهل الحضر وعلّتها إنما هي تكدير الأطعمة بالنظر إليها بعين التعظيم الذي لا يخلو من نوع افتخار بذلك ، وامتنان على الآكلين لذلك الطعام . وهذه علة لا تختص أهل الحضر ، فلمَ خُصّوا بالذم عليها دون أهل البدو ؟
    قال الحنبلي :
    وأنا أخرج معنى كلامهم هذا الى الوجود ، وأعرضع على العقول ، فإن أبَته فهو رذيلة ، وإن استحسنته فهو فضيلة . فأقول :
    رجل في الحضر أتاه مسافر قريب عهد بشقاء السفر ، فأخذ يصف تغيّر وجهه وجسمه ونحافته ، وذكر حسن استقباله ، و مبادرته بالكلام المقوّي لنفسه ، ثم عدل عن ذكر ما ظهر من تغيّر وجهه الى المسرّة بكلام ..ثم عاد يذكر غنماً له ، ويصف شاة اختارها للذبح لضيافة ذلك الضيف ، وشحمها ولحمها ، ثم أخذ في وصف الشفرة التي اعتمد على تناولها ، وذكر لوم الراعي له على ذبحها ، وتأسّفه على إراقة دمها ، و الأسف بها ، وودّه بأن يفديها بنفسه وأهله .
    فلو سمع الحضريّ و أهل الحضر ذلك ، لتعيّر بذلك العار الذي لا يغسله الماء ، و لا يبليه الدهر ، ولودّ ذلك الضيف أنه مات جوعا ولم يتعرّض للنزول به وعليه .
    هذا هو الذي نجده من طباعنا ، ومن كابر في ذلك ان خارجاً عن طباعنا وعادتنا . وما صدر هذا الكلام إلا عن استعظام الطعام ، وما هذه سجيّة الكرام . وما هٌتكت أستار القوم وكشفت عن شحهم في أنفسهم بأوضح من هذا ، فكلّ خلة ذكرها هذا المضيف ، لو لم يكن لها وقع في نفسه و طبعه الشحيح ، لما ذكرها ، وما هي واللهِ عندي إلا كالنياحة على ميّت ذكر في نياحته النائحُ عليه علّتَه و مرضه وآلامه و أدويته التي سُقيَها ، وكيف جاء ملك الموت قبضَ روحه ، وكيف استهال الجيرة و الأهل صبره على فقدان ميّته ، واستهالوا قلة جزعه .
    وأحسن كشف لأحوالهم ، التي هي وراء كلامهم ، قول الباري لهم ، مع تمدّحهم بالضيافة ، وتعظيمهم للمسرة بالصبيان ، وبذلهم للطعام مع السغب و القحط ، وعقرهم لمراكبهم التي لا غناء بهم عنها ، فقال لهم مع هذا كله :
    الذي أدركته منكم من جناياتكم المكتومة المستورة بحسن عملكم ، أريدكم ألا تعتمدوا قتل الأولاد خشية الاملاق (نحن نرزقكم وإياهم ) (نحن نرزقهم وإياكم) -وكذا : لا تقتل ولدك ، خشية أن يأكل معك - ، فهتك والله بهذا أستارهم ، ألا يعلم من خلق ، فطاح التمدح بالكرم مع هذا من الله المطّلع على جِنّات القلوب و ما تطنه الصدور ، وبان عيب الكلام بما ظهر من استقباح أهل الحضر فيما بينهم واتفاقهم على أن المبالغة في وصف الطعام لا يصدر إلا عن اللئام ، والسلام .
    فلا يبقى نوع يفتَخر به مع هذه الاطالة منهم إلا ما أنبأ الله سبحانه به من قوله ، وهو الخالق - جلت عظمته -( وأُحْضِرَت الأنفُسُ الشُّح ) ، فتكون الفضيلة لهم بذلك على كافة من لم يتجمّل على الاضياف والسؤال بمكابدة طبعه ، ومعالجة شحه ، وإخراج المحبوب وهو المال ، وهذه لعمري فضيلة صادقة ، وهي أفضل من مبذول طبعاً ، ومِن بذل مَن وجد من نفسه مسامحة بالمال .

    127 - تذاكرنا في مجالس بعض الفضلاء :

    غلام بلغ من خدمة سيّد كان يخدمه بجهده ، ثم وقع سيده في ورطة ، وكان يتهافت ويخاطر في محبته وخدمته بنفسه وماله وولده ، ولا يتستر ولا يراقب ..وآخر من غلمانه كان يخدمه ويتعهده في شدته وحال طلبه له ، غير أنه كان يتستر ويتصاون ، ولا يظهر ما يفعله . ثم إن السيّد زالت عنه الشدة ، وعادت إليه النعمة ، أيهما ينبغي أن يزيد في إكرامه : المتهافت ، أم المتماسك ؟
    فقلتُ : المتماسك .. لأنه أنبأ تماسكه في الخدمة عن عقل و حكمة ، حيث أكرم غيره ، وحفظ نفسه . وهذا القول اختياري . والحكمة والعقل يوجبان إكراما بحسبهما .
    وقال غيري : ينبغي أن يكرم المتهافت ، ويزيده إكراما على المتماسك . وعلّل من نصر هذه الطريقة بأن تهافته أنبأ عن إفراط محبته له ، وحصل في طيّ ذلك المخاطرة بنفسه ، ومن خاطر بعصمته قي حقه وجب له بحسب ما بذل .
    فبينما نحن كذلك ، إذ دخل الموضعَ حشويٌ جاهل ، فحكينا له ما جرى ، بعد أن سأل ( فيم أنتم ؟ )
    فقال : عندي غير ذلك .
    فقلنا : أفدنا .
    فقال : اتركوا الناس مع الله فإنهما جميعا فضوليّان ، الذي تهافت و الذي تماسك ، والله المنعم بما يشاء ، المانع ما يشاء ، يقضي الآجال متى يشاء . فطلبُ المفاضلة فيما أدخلا أنفسهما فيه طلب باطل ، إذ لا فضل فيما فعلاه جميعا .
    فدهشنا من كلامه . وسكتوا ، فبادرت أنا لأعلمه مقداره من الحمق ، لئلا يظن أنه قال شيئا ، ولئلا يغتر بكلامه بعض الحاضرين ممن يناسب عقله فيوهمه كلامه أنه صالح أن يُعَدَّ جوابا ثالثا ، فقلتُ :
    يا شيخ ! هذا كلام ن يسقط الخطاب الشرعي و الحكم العقلي ، وبرى أن الأمر سدى ، ولا عقل يرجّح به بين فضل الفاضل و نقص الناقص ، ولا حقيقة يميّزها العقل بفضل أو نقص . فما أشبه أن تكون مسفسطا ! وإلا فأين الرأي عن أبي بكر وتركه لنبي الله مع الله ، لا يحرسه ، ولا يحوطه ، ولا يهاجر ، ولا يدخل معه الغار، ولا يسد وّة الحَريش معه برجله ، ولا يذبّ عنه ؟ وأين هذا الرأي عن الأنبياء حيث بلّغوا و ألحّوا ، وطالت مدة بلاغهم ؟ وأين الله سبحانه عن هذه الحكمة حيث أنزل الكتب ، و أرسل الرسل ، وحذّر وأنذر ، ونهى وأمر ، وفضّل السابقين بالإنفاق والقتال على الذين لحقوا في ذلك بمن تقدّمهم فيه حيث يقول : (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح و قاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد الفتح و قاتلوا ) ؟ وقدّم العقلاءُ أهلَ الفضل و التفضّل ، وأخّروا أهل التقصير و التعطّل .
    وهلاّ تركتنا مع الله في حالنا ، ولم تسل عما كنا فيه ؟ ولعل كلامك في هذا فضول ، وأنت فيه منقوص مفضول .
    فتفرّقنا لرقاعته عن المجلس ، لئلا ينقطع بما لا ينفع .
    وقلتُ لمّا نهضنا : سبحان من لا يخلي مجلساً من ثقيل ينغّصه ، أو أحمق يفسده ، أو محتشم يقبض أهله عن الانبساط .
    فقال لي قائل طيّب : المجالس عندك على الحقيقة ما هي ؟
    قلتُ : هي المجالس الجامعة للعقلاء المتحابين المتناصفين ، حتى إذا جرت مذاكرة ، أو حدثت حادثة ، لم يَشُبها ضغينة فتفسد ، ولا تحاسد فتخرج عن التحقيق و تبعد ، وإنما اعتبرتُ العقل لأنه أداة التمييز ، وإنما اعتبرتُ التحابّ لأنه يزيل العنت و العناد ، فخرج الكلام صافياً .
    قالوا : فهل وجدتَ ذلك قط ، أم تقوله بالاستدلال دون الوجدان ؟
    قلتُ : لا يجوز أن يصح هذا في الدنيا ، لأنها دار الشوائب والنوائب ، وإنما هي أمنية لأمر لا يستحيل كونه . وما أحق بذلك أهل العلم الذين يتطلّبون الحقائق و يرومون رضا الخالق !

    128 - في تعاليل القائسين للأحكام و المعلّلين للأفعال :

    ذكر بعض أهل العلم أن تعاليل القائسين للأحكام و المعلّلين للأفعال ، أفسدت من الشريعة أكثر مما أصلحت ، ونبّهت العقول على ما لم تكن به شعرت . ولم يكُ في القياس و التعليل ما يرضي العقول من هذه الإقناعيات التي قامت بإزائها اعتراضات الأوائل و جدل المتكلمين .
    قال له قائل : فما الحيلة في ذلك ؟
    قال حنبلي :
    يكفي أن يكون الإنسان مستطرحا على باب التسليم للحكيم الأزلي - جلّت عظمته - بلا اعتراض يحوِج الى الاعتلال .
    قال له العالم :
    يا هذا ، تطلبون من الناس الإمساك عما لم يستطع الأنبياء الإمساك عنه!
    أليس هذا الكليم يقول لعالم قد أعلمه الباري أنه آتاه علما من لدنه : ( أخرقتها لتغرق أهلها ) (أقتلت نفسا زاكية بغير نفس ) . ليس في العقول أن تصبر عن الاعتراض وهي معايير التحسين و التقبيح . و الباري سبحانه لم يقل له : ( ليس لك هذا ، ولا جواب لاعتراضك ) ، بل عدل الى إجابته بمثل ما نطق به العلماء من التعاليل الاقناعية التي لا ترضي هؤلاء الذين زعمتَ أنهم يعترضون .
    فإنا إذا قلنا لهم : ( كسر السفينة لئلا تؤخذ في الصخرة ) (وقتل الغلام لئلا يبلغ فيكفر ويكفر أهله) تضاحكوا بهذه التعاليل ، وأخلدوا الى التعطيل ، وقالوا : ( أليس كان في سعة القدرة منع الفساد بغير فساد ؟ فما بال هذا العلاج بالإفساد ؟ )
    ومعلوم أن الله سبحانه قنع به بياناً لحكمة الكسر و القتل ، وموسى قنع به عذرا لما وقع ، فإذا لم يقنع به آحاد أهل وقتنا ، كان ذلك تعطيلا لتعاليل الشرع .
    فإذا عاد الواحد بعد هذا الرد للتعليل يقول أنا أرجع الى الرضا و التسليم ) قلنا له إنما يكون هذا منك حسنا إذا كان اطّراحك لكل علة نطق بها مخلوق و استخرجها متكلم ، فأما إذا كنت تقول (أنا لا أرضى بهذا التعليل الذي صرّح به الشرع ) ، وكان عدم رضاك ، لأنه عذر غير شاف في العقل ، فلا فرق بين قولك هذا لرد تعليل الشرع و بين قولك هذا في أفعاله التي لم يكشف عن التعليل لها ، فإما أن تسلم الكل ، الأفعال المعللة بعلل الشرع و الغير معللة ، وترضى بعلل الشرع وبيان وجه الحكمة التي بيّنها ، وإما أن لا ترضى بالكل ، ثم تقول ( أنا أسلم )، فلا تسليم مع ردك التعليل ، كما لا تسليم مع ردك للأخبار ، لأن الجميع منه سبحانه ، فأما أن تقول ( أنا أسلم أفعاله ، وأرضى بها كيف كانت ، ولا أرضى بتعليله ) ، فلا فرق بين ردك لفعله ، أو لمصلحة فعله التي بيّنها وكشف عنها ورضي بها ).
    ومثال أذكره لإبطال هذا المذهب :
    إن قائلا لو قال : ( أنا أثق الى حكمة هذا الطبيب ، فأيّ شيء طبني به من دواء أو فصد سلّمته لحكمته ) حَسُن هذا القول منه ، فإذا فصده ذلك الطبيب فصدة منكرة فقال له هذا المسلِّم : ( لمَ فصدتي هذه الفصدة؟ ) فقال : ( لكذا وكذا ) - أمرٌ ذكره من الأمراض وادعى أنه يصلح له الفصدة المنكرة ..فقال المدّعي الثقة الى حكمته ( ما هذا تعليل يرضي ولا يقوم لك به عندي العذر) ، لَعُدَّ متناقضا في قوله ، حيث ادعى جملة الحكمة و التسليم لها ، ثم إنه اعترض على التعليل الصادر عن الفاعل بالحكمة ، فيعطي هذا أن من وجبت الثقة به في الفعل وجبت أن تحصل الثقة به في تعليل الفعل . والله أعلم .
    وهذا كثيراً مما يجيء في اعتراضات أهل الظاهر المبطلين للمعاني و الأقيسة . فإذا قال القائل : ( إن الله أوجب قطع القلفة لئلا تجتمع تحتها النجاسات ) فيقول الواحد منهم : ( أليس قولنا نحن إن هذا ابتلاء أحسن من قولكم هذا ؟ ، من جهة أنكم إذا عللتم بمثل هذا ، تطرّق عليكم قول المعترض بالعقول ( فقد كان يعلم ذلك ، فهلا خلق البشرة مكشوفة بدون قلفة ، أو الجلدة مقلّصة كمن طهّرته القمرة ؟) فبقيتم ولا جواب لكم ..ثم يؤكد ذلك عليهم بأن يقول ( أليس غاية ما كان لنا من الاستدلال على أن الله تعالى عالم هو إعداد كل شيء من الأشياء لحاجة ؟ فمن اعتدّ الأشياء بحسب الحاجات المركّبة في الأحياء لا يغرب عنه إعدام أشياء تحتاج الأحياء الى إزالتها ) .
    فيقال لهذا الظاهري العاتب على المعنوي:
    أليس قد صحّ في الآثار أن النبي (صلى الله عليه وسلم ) فلق صدره وأخرج قلبه و غسله و أخرج منه مثل النكتة السوداء وقيل ( هذا حظ الشيطان منك ) ؟ أوليس يمكن أن يقال - وقد كان عالما قادرا : فلِمَ خلق ما احتيج الى إزالته ؟ وكذلك ورد في تفسير ( فمحونا آية الليل ) أن القمر كان كالشمس في الإشراق ، فأمر جبريل فمسحه برائشة من جناحه ، فذلك قوله ( فمحونا آية الليل ) ، وهذا هو النمش الذي يوجد في بهجة القمر ، يقال ( فهلا خلقه قبل ذلك على صفة لا تؤذي أهل الليل ؟ ) فإذا كان هذا وأشباهه مما رُوي وصح ، حسُن أن يقال في القلفة ما قيل ويعلَّل فيها بما عُلّل ، ولا ينبغي أن يمتنع من تعليل قد ورد بمثله الكتاب.
    على أنه قد قيل إن البشرة محل لذة الجماع ، واللطافة فيها تورث لطافة الحس ، ولو كانت مشوفة منذ خُلقَت لحَشّت وخشُنت فتعذر الإدراك فيها ..ولذلك قيل إن الرةم ألذ جماعا من غيرهم ، لأنهم يجدون لذة الجماع بكمرة لم تنكشف لمباشرة الهواء ، فهي ألطف إدراكا ..والله أعلم .


    129- شذرة :


    قال سفيان بن عيينة :
    الناس كلهم يحبون أن يموتوا فجأة ولا يدرون . ألا تراهم كلهم يعلم أنه يموت ولا يحب أن يمرض؟
    قال حنبلي :
    صدق. لأنّ الموت بغير مرض هو الفجاءة .




    130 - في تفضيل الطاعات على نعيم الجنات :

    من علم أن الآخرة إمّا بلى الأبدان وخراب البنية أو دار مجازاة , اغتنم عبادة الله في هذه اللمحة. لأن بين قوله اليوم (الحمد لله ) وبين قوله غذا في دار السلام (الحمد لله ) ما لا يستدرك مفاوتة بمعنى. لأن حمد المنعم في دار التكليف عبادة وشكر , وغذاً شكر بلا عبادة.
    واللهِ لقد تحقّق العارفون أن جمال الأركان بطاعات الإيمان أكثر من جمالها باستيفاء اللذات في دار المجازاة , واحتماءها عن الحرام في هذه الدار مراقبة لطاعة الله وحذراً من سخط الله , أكثر وأكبر من تناولها هناك وانبساطها في جوار الله. ولولا بقايا من الخدم في دار النعم , لما وازن ذلك البقاء السرمد هذا البقاء الذي عن قليل ينفذ. لكن المعارف هناك تقوى وعوارض الشكوك تنحسم باليقين.
    وقد قال الرجال قبلي -كيحي بن معاذ- واللهِ إنهم اليوم في قراطق الخدمة أحسن منهم غذا في غلائل النعمة) . وأنا أقول : الخدم أوجبت لهم مدحة الحق , والنّعَم أوجبت منّة الحق , وبين المدحة والمنة بون.
    قال فيهم على سبيل المدحة : (رجال صدقوا) (رجال لا تلهيهم ) (رجال يحبون أن يتطهروا) (يوفون بالنذر ويخافون يوما) (سيماهم في وجوههم من أثر السجود) (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص)..هذا أنبل وأجل في مسامع العقلاء المميّزين من أوصافهم باستيفاء اللذات : (وفاكهة مما يتخيرون) (ولحم طير مما يشتهون) (وحور عين) (متكئين فيها على الأرائك ) (ويطوف عليهم ولدان مخلدون) (بأكواب وأباريق وكأس من معين ) ..لأن هذه أوصاف نعمته عليهم , وتلك أوصاف خدمتهم له. وأحسن حالتيْ العبيد حال الخدم وزيّ التبتّل لا الإستناد والتعطّل. لكن تجمّلت الجنة على الدنيا بعلم اليقين.




    131- قرأ قارئ : (إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم) :


    فقال حنبلي :
    عظُمَت والله عقوبة الإستبدال ، وأربت على العذاب ، لأن الإستبدال صرف مؤيس من الردّ الى الإستخدام. واللهِ لا خرجت مرارة قول الباري للأب الأول : (اهبطوا منها جميعا. بعضكم لبعض عدو) لولا مزجها بقوله : (ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ) ، كأنه عُقل من قوله (إلى حين) إضمار وكمين : وهو ثم تُعادون إلى المسكن الأول ، بعد إذاقة مرارات الإبعاد. وخفّت مصيبة آدم وحواء بالإضافة الى مصيبة سليمان، سُلب الخاتم والكرسي وبُلي بالإستبدال ، (ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب ) ، الأب الأول أُخرج من الجنة ولم يُبدَّل بمكانه غيره ، ومزج لفظ إبعاده بلفظ رجائه بقوله (ومتاع إلى حين)، فكان في ذكر الغاية كمين. فإن كل عذاب مؤجّل ، يمزجه رجاء ما بعد الأجل ، وإنّما قاصمة الظهر الإبعاد ثم الإستبدال ، فإذا لم يصل ، تعاقب بما شئت ، ولا يجعل العقوبة هجراً عن العبيد التعلُّقُ ولو في حبوس ساداتهم ، أنظر كيف قالت المشفِقة في طيّ الإغراء (ما جزاء من أراد بأهلك سوء إلا أن يُسجن أو عذاب أليم )، ولم تقلْ يُقتل ، لأن في السجن يُرجى إطلاق.
    حُكيَ أنّ زمِناً زحفَ مع النفير ، فقيل له : إلى أين ؟ قال : سمعته يقول: ((إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم) ، لو كان العذاب بغير استبدال هان ، ولكنّ عذاب الاستبدال لا صبر عليه .
    ما أذلّ العبيد على غير أبواب الموالي ! ... واللهِ إنّ الزبانية يدفعون أرباب المواخير الى النيران ، وقلوبهم مُتلفتة الى المُعَذِّب بالآمال ، بعد سماع قوله : (ورحمتي وسعت كل شيء) ، وإن قال ساكنوها للذين يتقون، فقد سمعوه يقول : (يمحو الله ما يشاء ويثبت). وقد فطن عمر لهذا فقال : (إن كنت كتبتني شقيا فامحني واكتبني من جملة السعداء) ، لمّا سمع حصول المحو بالكَتْب بالمشيئة المطلقة طلب والله لا جانب الآمال منه ولو ردّنا الى العدم ، لأنّ له في الكلام رموزا ، وفي الوعيد أسراراً ، وفي العسوف ألطافاً. هو الذي روّع الخليل بذبح إسحاق أو إسماعيل ، وأدرج في هواجم البلاء عواقب النعماء، كتومه للعواقب يقوّي آمالنا فيه مع تعاظم النوائب وأليم المصائب ، من عرفه حقّ المعرفة لم ييأس من لطفه ، ولم يأمن من وقوع بطشه وهجوم عسفه. السلطان لا يُؤْنَسُ إليه ، ولا يُعَوَّل في الشدائد إلا عليه.
    والله ما يتبذل بك إلا إذا تبذلتَ ، ومعنى (تبذلتَ) ، خرجت من حكم العبودية الى طوارق الخوارج عليه ، ليس معنى الخروج أن تدّعي الإلهية، لأن عجزك يمنعك من تلك الدعوى ، لكن خرجتَ بحسب ما أمكنك ، أو أمرهُ إياك يملأ الآفاق، ونواهيه ووعيده يزعج السبع الطباق : (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) (لا تأكلوا الربا) (ولا تقربوا الزنا) ..
    فإذا صعد الملَكان بأعمالك وعرضت ، فقالت الملائكة السماوية للحفظة:
    (أين كان صاحبكم اليوم ؟ وما الذي رفعتم من عمله؟ ). قالا : (كان في السوق يربي ، وفي الزنقات يزني ، وفي الخانات يشرب ويسقي ، وعن المساجد يلفت ويلوي ، وفي المساطب يغتاب ، وفي مجامع الدعوات لعّاب ، وعلى الضعفاء من الخلق بطاش ، وفي المكيال والميزان بخاس..) هذا غاية جهدك في المخالفة ، فهل ينتهي الخارجي على سلطانه أكثر من هذا ؟ فأما دعوى أنك تأتيه في الربوبية فالعجز أقعدك عنه ، فقد خرجت عليه بحب وسعك ، ليس في قوتك أن ترخي السحاب، ولا تحيي الأموات ، ولا تقول للمعدوم (كن) فيكون ، ولو أمكنكَ لزاحمتَ، بدليل أنك بالسحر قد وهمتَ أنك تقلب الصور، وتفرق بين الزوجين بدقيق للحِيَل ، وتتلهى بنفسك فتقول : (أنا عبد)، متى كنتَ عبداً بفعلك؟ لا طاعة ولا استجابة ، ولولا أنك سحب صنائعه لأنكرتَ العبودية رأساً، لكن شواهد صنعته فيك تمنع جحود رقّك.
    يا مسكين ! أنتَ تتشرد عليَّ بإخراجك من العدم هذا التشرد ! ثم تتعبد لأقل عبيدي بلقمة ، بخرقة ، بدينار، بدرهم..تُرى لا تأنف من نفسك وأنت تُرى على عبد من عبيدي تعبده يطعمك ؟ وتحب جارية حسناء تعبدها لفرط شهوتك ؟ وتريد مع هذا التشرد والتبدّد أن تنبسط غذا في داري ، وتتشرف في جواري ؟ هذا هو الطمع المردي لا الأمل. يا سيء الأدب بكل معنى. كيف تطمع في التبسط في داري ، وتجاور السادات من أحبائي الذين قطعوا الكلّ فيّ ، وهجروا كل قاطع يقطعهم عني ؟ إن تليَ كتابي اقشعرّت منهم الجلود ، وإن جرى ذكري وجلت منهم القلوب ، وإن ذُكِر وعيدي استعرت فيهم نيران القلوب بالخوف المزعج ، وإن سمعوا آي وعيدي هيّجهم الشوق الى لقائي.. حُوشيتُ أن أجمع بين أوليائي وأعدائي في دار كرامتي ! وامتازوا اليوم أيها المجرمون ! فضرب بينهم بسور له باب . غذاً تبيَّن المقادير ، وعنوان منزلتك غذا عندي منزلة أوامري ونواهيّ اليوم في دار التكليف. اترك الأماني الكاذبة : (من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا).





    132- آيات في القرآن تفزعني :


    أرى في القرآن آيات تفزعني ، وأراهم يطمئنون بها ، فأنا وهم فيها طرفي نقيض. يقول الله سبحانه وتعالى : (الكافرون هم الظالمون) ويقول من الوعيد ما تقشعر منع الجلود (لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون) (بل تأتيهم بغتة فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون) وهذه كلمة تحتمل كفر الإلهية ، وكفر هو الجحد بالبعث ، وكفر هو كفران النعمة .
    ما يؤَمّنني أن يكون واقعا علي كفران النعمة ؟ فما وجه فرحي بتصوّري أنها ترجع إلى كفر الجحد ؟ ليس هذا من الحزم أن أجتهد في مجانبة كفران النعم ، خوفا أن يكون الوعيد راجعا إلي بكوني كافراً للنعمة ، وكما أن كفر الجحد كفر وجحد للمنعم ، أيضا تغطية النعم واستعمالها فيما يسخِّط هو كفر . لا آمن والله أن يكون قوله : ( لا يكفون عن وجوههم النار) راجعاً إلى من كان لا يلوي وجهه عن البهت والنظر الحرام (ولا عن ظهورهم) راجعا إلى من لم يتجنب ظهره الحرام ، والى من كان يلتجئ إلى الظلمة في استيفاء الحقوق ، والإستقصاء بما يزيد على الحقوق ، الى أمثال ذلك..ألا تراه قال في الآية الأخرى في مانع الزكاة : (يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم و جنوبهم وظهورهم )لأن الجبهة تنزوي بالتعبيس في وجه الفقير ، والظهر يُستدبَر به الفقير ، ولكل عضو من هجران الحقوق حظ ، فله من الوعيد مثله.



    133- حكمة :


    قال بعض الحكماء :
    الظنون مفاتيح العقول ، وبالظن يُفتتح اليقين .



    134- شذرة :


    قيل : غرة الغضب تورث ذل الاعتذار .



    135- سياسة :


    قال رجال الحرب :
    كن بحيلتك أوثق منك بشدتك ، وبحذرك أفرج منك بنجدتك . وحازم واحد في الحرب أمثل من ألف فارس ، لأن الفارس يقتل العشرة والعشرين ، والحازم قد يقتل جيشا بحزمه وتدبيره .


    136- نصيحة :


    قال علي كرم الله وجهه :
    لا تدعون أحدا إلى البراز ، ولا يدعونك أحد إلا أجبته ، فإن الداعي باغ، والباغي مصروع .


    137- لغة :

    قال أبو زيد : قلت للخليل :
    لِم قالوا في تصغير واصل أُوَيْصل ولم يقولوا أُووَيْصل ؟
    قال : كرهوا أن يشبه كلامهم نبح الكلاب .



    138- حديث نبوي :


    سمعت في بعض الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب ، فإن الله يطعمهم ويسقيهم ) وهذا محمول على الأغنى ، كما قال صلى الله عليه وسلم : (لست كأحدكم ، إني أضل عند ربي فيطعمني ويسقيني ).



    139- في الاستنجاء :

    قال النبي صلى الله عليه وسلم من استنجى من ريح فليس منا).



    140- حكمة :

    قال عالم ينطق بالحكمة :
    لنا أمران ، أحدهما لا تحمد عقباه إلا بالكثرة والشركة ، والآخر لا يصلح إلا بالوحدة ، وتفسده الشركة .
    فالأول : الرأي ، فإن المشورة أمر بها القرآن ، واتفق العقلاء أجمع على الاجتماع لها والمشاركة فيها .
    والثاني : الإمارة والملك ، لا يتم صلاحه ويؤمن فساده إلا بالوحدة .
    والقرآن شهد بذلك حيث قال : ( لم كان فيهما ألهة إلا الله لفسدتا ) . وقال قائلهم يوم السقيفة ، لما قالت الأنصار : ( منا أمير ومنكم أمير) : ( سيفان في غمد لا يصطلحان أبدا ) .



    141- فصل كلامي على جاحدي النبوات :

    إن جاءت الحكماء بما واطأ العقل ، - كقول القائل منهم للتلاميذ استثارة للرأفة والرحمة : ( يا هؤلاء ! لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوان ! ألا تستحيون؟ هذا الحيوان البهيم أسير في أيديكم ، يحب الحياة كما تحبون، ويؤلمه من الحديد والحجر والخشب ما منه تألمون ، وأنتم عليه متسلطون؟ - فقد قابل ذلك ما جاءت به الرسل مما أبهر العقل من الأمور الخارقة . وليس حكمة المخلوق بأبهر من حكمة الخالق . والحكيم سبحانه قد آلم الحيوان البهيم ولم يطعن ذلك عند الحكماء في حكمته . فتشريعه لإيلام الحيوان لا يكون طاعنا في حكمته ، لأن التعليل لإماتة الحيوان بحكمة إما ظاهرة أو باطنة ، وكذلك تشريع ذبحه . فإذا لم يطعن في الحكمة عندكم إماتة الحيوان بفعله ، لم يطعن عندنا في الشرع قتل الحيوان وذبحه .



    142- فصل :

    أستشعر أنك غير منفك من تحمل أثقال الخلق . في حال الشبيبة مكابدة الآداب للمشايخ ، وفي حال كبرك تحمل أثقال الصبر على الأصاغر . وهل وجد الصدور حلاوة التصدر إلا بالصبر على مرارة التخلق بالحكمة ؟ وهل حلوّ الحكمة إلا تجرع مرارة الأدب في الصغر ، ومكابدة غصص الحلم عن السفهاء حال الكبر ؟ وقل أن تحصل الرئاسة لمن لا يتحمل أثقال السياسة .
    وفي الجملة والتفصيل ، لا مستفاد إلا بإنفاق حاصل ، وإنما يترجح الحاصل على الإنفاق بنوع من ربح فيسهل ، وإلا فالعلوم المكتسبة إنما تتحصل بإنفاق الأعمال ، كما أن الرئاسة تتحصل ببذل الدرهم والدينار . وما نالت النفس قط لذة إلا بنوع نغصة . ولو علم العقلاء ما في الزهد من الراحة ، لكسدت سوق الدنيا عن راغب ، وتعنست بهجتها عن خاطب . وما أخذ بالعزم ولا الحزم من خاطر بنفيس ما تحصّل فيما عساه لا يتحصل . وإن كانت المخاطرة علو همة ، فالبخل بالحاصل نوع من الحزم .



    143- فصل :

    إن امرءاً لو تتحصل له العبرة بين منازل الأسلاف والأحباب الدائرة ، وبين رممهم في التراب عظاما ناخرة ، لكشف الحجاب عن الدنيا والآخرة .
    لو كان الحزن مكتسبا ، لكان هذا من آكد أسباب الإكتساب ، فكيف وهو طبع غريزي ، وخلق طبعي، ولا يحركه مثل هذا المزعج المهول ؟ نعم ، هذا ولا خلَف به يتسلى ، ولا عوض عنهم به يتعزى ، بل ديار من الأهلين خالية ، وأجساد في أعماق الأرضين بالية ، وآثار تستحضر للنفوس وتشكّل للقلوب شخوصهم ماثلة .
    فواهاً على عمر مضى ليس له رجوع ، وذنب ثابت ما عنه نزوع. أف لحسرة وعَبرة ، لا تعقب يقظة وعِبرة .



    144- قوله صلى الله عليه وسلم عند العقبة : ( إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السماوات والأرض) ما معناه؟

    قال العلماء :
    إنما أراد ما شهد به سياق الخبر . وهو أنه قال إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله ، منها أربعة حرم ، فأخبر أن اثنا عشر شهرا ، وأن منها أربعة حرم . والجاهلية بدلت وغيرت بما كانوا وضعوه من النسيء ، وغيروا شهرا ، فكان شهر . فلما جاءت شريعته صلى الله عليه وسلم أزال تغييرهم وأعاد تحريم ما حرمه الله من غير تبديل ولا تغيير . فعادت الشهور على ما كانت يوم خلق الله السماوات والأرض .- والله أعلم .


    145- فصل جرى في القدر :

    قال قدري :
    إذا كان القدر موجبا فعل المقدور في حق الخلق ، فإنه على ما تحقق بين العلماء ، ما علمه الله من أفعال العباد . وكما أنه علم ذلك ، كتبه في اللوح ليظهر لملائكته علمه للأمر قبل كونه ، فتسبح بحمده وتعلم مقدار ما اتصف به سبحانه وتكلم به في التوراة والإنجيل والقرآن . وكلامه صفة ، ومن صفته الصدق الذي لا يجوز عليه سواه . وكما أنه لا يمكّن الخلق أن يفعلوا خلاف ما علمه لئلا ينقلب عليه سبحانه جهلا ، ولا يفعلوا خلاف ما أخبر به لاستحالة أن يعود خبره كذبا ، كذلك لا يجوز أن يفعل هو ما علم سواه ولا يفعل إلا ما أخبر به فيفضي إلى أنه ما تم له الوصف إلا بالخلق ، وأن فعله في حجر علمه وخبره . فالقدر قاضٍ على أفعاله وأفعال خلقه .




    146- .فصل :

    ما أجودك من معلم غير متعلم ! وما أجودك من مؤدب ، لكن لا يتأدب ! تعلّمُ الكلاب مع نهمتها وتكلبها على الصيود وفرط حاجتها ، بأن تمسك عليك ولا تأكل من صيدها ، وكذلك جوارح الطير والسباع . وتروض المهارة والحجورة حتى تتأدب لركوب الملوك . وأنت عاقل ناطق ، الرسالة إليك، وكتاب الله ينزل عليك ، والآباء ، والمعلمون، والعلماء ، والوعاظ ، والمُفتون ، والقصاص ، والقرآن يتلى ، والعبر تُتربى ، وآثار الأمم البائدة والقرون الخالية، كما تسمع وترى . فلا الآداب بأخلاقك عبقت ، ولا التعاليم بطباعك علقت . فسبحان من سخرالأشياء لك وجعلها طوع يدك وأمرك ؛ وأنت تتشرد عليه كذا .


    147- شذرة :

    الصامتة من الجامدات والنبات ناطقة بشهادة الصنعة للصانع والحكمة للخالق .


    148- تذاكرنا في بعض المجالس أمر المُصاب ، هل الأفضل تخفّره عن الناس واعتزاله ، أو تكشّفه وظهوره ؟


    فقال بعض الحاضرين :
    بل ظهوره ، ليتسلى بكلام المعزّين له ، ويتشاغل عن أن يخلو به الحزن فيعمل في نفسه وينكي قلبه ، خير من الانفراد ، فإن المنفرد يخلو بمصابه ويتشكل له المصاب به نصب عينيه ، فلا يزال يعمل في صفاته حتى يأتي على مقاتله .
    وقال آخر :
    بل انفراده ، ليستريح من كلفة التجمّل و التعمّل ، لأنه ربما أراد إظهار التجلد لحاسد ، والتعمّل لحكيم ناه له عن الجزع ، والتباكي في غير أوان البكاء ، وخوفَ عيّاب له على الصبر ، فإن كما في الناس عائب على الحزن والجزع - وهم أعداد من أهل الشرع والحكمة - كذلك فيهم عياب على التماسك ، لأنهم يعدّون ذلك قلة وفاء وألف وحباسة طبع وقساوة قلب ، وكلاهما عيب .
    وما أشغل المصاب المحزن بحزنه عن تكلف هذه الأمور وتحمل هذه الأثقال ! نعم ، وفي خلال ذلك إن قصّر بحقّ قاصد ، فالويل له من القاصد ، ينسبه في ذلك إلى الكبر والخيلاء و العجرفة .
    وجرى بين الفريقين تخليط كثير ومداخلة وشغب ..
    فقالت الجماعة لي : ماذا تقول أنت ؟
    قلت - وبالله التوفيق :
    أنا أفصّل تفصيلاً يُصلح بين الفريقين ، لا يقتضي الجواب سواه ، وإنما يقتضي الجواب تفصيلا لاختلاف أحوال الناس في ذلك ، وجواب الإجمال فيما يقتضي التفصيل ، كالتفصيل لِما لا يقتضي التفصيل ، فأقول :
    مَن علمَ من نفسه الجزع ، وعلم من القاصدين له إعانة النفس على الجور والجزع دون إعانة الدين على الصبر والسلوة ، فالاعتزال أولى به، لأن العزلة تقطع عادته تثوير التسخط على الله سبحانه وإنهاض النفس على جزعها .
    ومن علم أنه إن خلا ، خلا به الشيطان وهاجت أحزانه ، كان اجتماعه بمن يعلم منه التسلية والتعزية أحرى من وحدته ، لأن المخالطة لبعض الناس دواء ، ولبعض الناس ادواء ، وفي الجملة ، العزلة عن الأخيار مذمومة ، وعن العلماء مشؤومة ، والاجتماع بهم بركة واستشفاء .




    149- قال حنبلي :

    إنّ من عرف محلّ نعمة الله تعالى على خلقه بالعقل ، حرس النعمة بجهده ، وشكر عليها بمبلغ وسعه وجدِّه . وأرى السواد الأعظم قد بخسوه حقه ، فإنهم ينوحون حال كبرهم نياحة بالغة ، نظماً ونثراً ، على زمان الصبا ، حتى قال قائلهم :
    فإن تولى فزمان المدام حيث تردّى بردا الغلام .
    ومعلوم أنهم حال الكبر قد صحا العقل عن شببه حال الشبيبة ، لأنّ حال الصبوة و النزاقة الطبع غالب ، والغباوة عن مطالعة العواقب ودواعي الشهوات واللذات ورعونات الطباع القاطعة للوقت بما يوجب المقت. حالُ الكبر قد ظفر العقل بتصفّح الأحوال ، وتدرّبَ بالتجارب ، وصحا له جوّ الأراء ، فتكشّفت له العواقب ، واكتسب الوقار ، وزالت عنه خلاعة الصبا، وذاق طعم العرفان بمراشد العقل المهدي له الى حقائق ما تضمّنه النقل بتدبير الآيات ، والتذكّر بأنواع الدلالات ، ووقف عما كان عنه غافلًا ، وعن البحث عنه عاطلًا . فيحسن بمن بلغ بكبر السنّ هذه الرتبة ، أن يتذكّر حال انحطاطه عنها بالتأسّف والتشوّق الى حال كان محجوباً عن درك غاية المطالب وأكبر الرغائب ، كذا يكون العقلاء ،
    وما هذا عندي إلا بمثابة من وصل الى المنزل و الوطن ، فتشوّقَ الى وعثاء السفر وعناء الطريق وكلفة النقل . أو بمثابة من بلغ من العلم غاية امتاز بها ، فأخذ في التشوّق الى أيام الطلب ، وأوقات النظر والفكر و البحث ، وزنقات الطرق ، ومرارات التردد ، ومعاناة الشكوك ، ولم يغلب عليه درك حلاوة الوقوع على المطلب ، حتى يرى أيام الطلب أيام عناء و شقاء ، فيقول كما قال أهل الجنة : (الحمد لله الذي أذهب عنّا الحزن ) أو كما قال أهل الأديان بعد عبادة الأوثان : (الحمد لله الذي هدانا لهذا ). فهذا دأب كل واجد بعد أن كان طالباً .
    فاعترض هذا الحنبليَّ خاطرٌ كأنه سائل يقول :
    قد خفي عليك شيء لا ينكره العقل ، بل يسنده ويقيم العذر فيه لمن صدر عنه التأسّف و التشوّق الى أيام الصبا والغباوة . وذلك لِما يدخل على العاقل من ثقل التكليف ، حتى قال خواص السلف : ليتني كنتُ شجرة تعضد ! ليتني كنتُ مثلك يا طائر ! ليتني كنتُ نسياً منسياً! وتَمنّي الجمادية و البهمة أقصى من التأسّف على زمان الغباوة والصبوّة، أو رأوا أنّ الأجسام مراكب الأرواح و العقول ، فطلبوا ما يقيمها ، ولا يقيمها إلا الغفلة ، دون الصحو و اليقظة ، فلذعوا الأجساد بذلك حتّى طلب بعضهم الغفلة ، لِما يعتريهم من انهدام مركب العقل . فالغفلة كالزاد لمراكب العقول ، وهي الأجساد ، فكان طلبهم لها لأجل العقل أيضاً ، وإن دخل عليه نوع ذهول عاجل ، لكنه لاستدامة الأجل ، فتصير الغفلات كالأغذية المبقية لمحلّ العقل ، وهي الأجساد .




    150- -جرى في مسألة : هل يحسن في العقل تكليف من يعلم أنه يخالف و لا يطيع ؟

    قال متكلم محقق : إنه يحسن . لأن المعلوم تابع للعلم، فبحسب المعلوم يُدرَك العلم . فأما أن يقع المعلوم بحسب العلم فلا. وما العلم في المثال إلا بمثابة المرآة لإظهار صورة الوجه ، إن كان حسنا أظهرته حسناً، وإن كان قبيحا ظهر فيها قبيحا. فأما أن يقع الحسن والقبح لأجلها فلا. وكذلك المصباح الكاشف عمّا سترته الظلمة : هو تابع لما يظهره، حسنا كان أو قبيحا.
    اعترض عليه معترض فقال : هذا لا يحسن لأجل ما ذكرت . ألا ترى أن إنسانا لو هوى في بئر ، فعلم مَنْ خارج البئر أنه إذا دلّى إليه حبلا خنق به نفسه ، فدلى إليه الحبل فخنق نفسه ، لم يكن مدلّي الحبل على الصفة المذكورة محسناً ، بل كان مسيئاً. فالحبل كالشرع ، والخنق كالكفر.
    قال المستدل : فهذا قد كان في الشرع . فإن كنت متكلماً على الشرع فلا وجه لكلامنا في هذا الفرع ، بل تعالَ نتكلم في أصل الشرع ، لأن من خالف في أصل الشرع لا يحسن أن يتكلم في هذه المسألة .
    على أن العالم -جلّت عظمته -إنما يفعل بقدرة وعن إرادة. فإذا قلت بأنه لا يحسن الأمر بما علم بخلافه ، لأنه إذا وجب المعلوم بوجوب العلم فلا أثر للقدرة والإرادة ، فهذا ليس بصحيح ، لأنا لو قدّرنا رفع العلم لم يتعطّل لما ارتفع الفعل مع وجود مصحّحه وهوالقدرة والإرادة. على أنه ينقلب هذا في الباري سبحانه لأنه إذا أوجب ما علم كونه لم يدخل تحت قدرتنا فيصير العلم هو المؤثّر دون الله تعالى و دوننا.
    قال المعترض : والعلم مؤثّر. بدليل أنّ الفعل المحكم إنما يصدر عنه و لا حكمة ، ولولا العلم لصدرت الأفعال مثبّطة .


    151- -فصل :

    لو عرفت قبل الأعمل لسهلت عليك ، لكنك لم تتقن المعارف ، فثقلت عليك التكاليف. وما استعمل قط إلا المعارف. فينبغي لك أن تتقن عرفان المكلِّف ، وتنظر كيف التكليف على أركانك ، ثقيلا أم خفيفا.
    إذا فتحت عينيك و نظرت ، ثم أمعنت فكرك ، فخبرت حال هذا الدائر المرصّع ، وتصاريف هذا الكون المجنَّس المنوَّع ، وتقلبَ هذا المبدَّد المجمَّع ، وشهدت بعقلك ما وراءه من المؤثر العظيم ، الذي خلق وأبدع ، فبصَّر و أسمع .
    ثم تنظر في حال السفير الذي أبهرت معجزاته العقول : إن انتقل عن الخطبة على جذع حنَّ إليه ، وإن تناول حصيَّات سبحن في يديه ، وإن أشار إلى القمر انشق، وإن ترك يده في إناء فار بالماء و جاش، ون استدعى شجرة أسرعت ، وإن كلّم ظبياً أجاب ، وإن استدعى ببعير سجد ، وإن برّك يده على صدر ضال اهتدى ، وإن تفل على ملدوغ برئ ، وإن أشار إلى جو قد أجدب والتهب عاد بالغمام محتجباً، و بالغيث هاطلا ساكبا . ومن طوِّعت له الأشياء كذا، وجبت طاعته على سائر الورى.
    فإذ خبرت ونظرت إلى المعنى الذي يشير إليه ، وعرفت مقدار الداعي إليه- سبحانه -والسفير ، تذللت لك نفسك بطاعته فيما إليه دعاك ، ولم تعبد بعد الهدى والإيمان هواك، فهنالك-والله-هان عليك ما بذلت ، وعظم عندك قدر من أطعت ، وإليه بطاعتك تقربت.



    152- -فصل :

    أمّا ما كلّفك من الفرض فقد آتاك قدرة عليه و استطاعة له ، وأمّا ما ندبك إليه من الفضل فقد أعدّ لك بإزائه ألطافا ، فإذا أدّيْتَ الفروض أمدّك بالألطاف ليكمل بفعل الزيادات من الفضائل . وأنتَ إذا أهملتَ الفروض ، وقصّرتَ في الحقوق ، سوّلت لك نفسك أن تعتذر بعدم التوفيق و الإعانة ، فتقول : (لو وفّقني! لو أعانني ! ). ما أغفلك عن الحجة له ! وما أجرأك على الاحتجاج عليه بما لا يورثك إلا بعداً من الله !
    ما استزاد الله سبحانه إلا متقاعد بحقوقه أة محتكر شره في حظوظه ، وإلا فما أعدم الله أحدا ما يوصله إلى طاعته . خُذْ إنصاف الحق من قوله لرسوله : (قم فأنذر)(وأنذر عشيرتك الأقربين)..ثم قال له من طريق الحثّ و استخراج ما عنده من الوُسع : (بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته ) وعلمَ أن في الطبع نوع انحباس من الناس ، فقال : (والله يعصمك من الناس).
    فلما زال ما في النفس من الضعف بالخوف من الجنس بضمان العصمة منهم ، حينئذ اشتطّت النفس وثابت القوة . وإذا كان الحق لا يكلّف إلا بالإعانة وإزالة العوائق ، صار من خداع النفس طلبها للتكليف معاني زائدة على ما آتى، لأنّ ذلك نوع من التسويف بالتكليف لإنتظار ما لا يلزم.



    153- -فصل :

    لو لم يكن من بركات مجاهدة النفس في حقوق الله ، والإنتهاء عن محارم الله ، إلا أنه يعطف عليك فيسخّرها لك و يطوّعها لأمرك حتى تنقاد لك ، و يُسقط عنك مؤونة النزاع لها و المجاهدة حتى تصير طوع يدك و أمرك ، تعاف المستطاب إذا كان عند الله خبيثا ، وتؤثر العمل لله وإن كان عندها بالأمس كريهاً ، وتستخفّه وإن كان عليها ثقيلاً ، حتى تصير رقّاً بعد أن كانت تسترقّك. وكذا كل من حقق العبودية لسيّده استعبد له من كان يملكه ، وألان له ما كان يعجزه ، قال سبحانه : (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ) ، بعد إخباره (وأحضرت الأنفس الشح ). فقد أبان عن أن له أقواما يوفيهم و يقيهم ما أحضرته النفوس ، وقال : (وأصلحنا له زوجه ) ، وهو الذي قال : (إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم ).
    ما أبرك طاعة الله على المطيع ! قوم سخّر لهم الرياح و المياه و الحيوانات ، و قوم أعاق عليهم الحوائج كسرها في صدورهم ، وجعل كرامتهم مسامحة النفس بما أعاق ، ورُبّما علت طبقة أقوام ، فتلذّذوا بالقضايا والأحكام.




    154- في العزبة :

    كرّه العلماء ترك النكاح في حق الصلحاء ، خوفاً عليهم من الرهبانية المبتدعة ، وكرّهوه في حق المتحرّمين المتبذلين ، خوفا عليهم من مواقعة الزنى ، و طلباً لتحصينهم عنه . فلا خير في العزبة إذاً إلا لرجل لا شهوة له يتخفّف بالعزبة كيلا يتموّن بحقوق لا قدرة له على الوفاء بها.
    ؤفي الحديث ان الصحابة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أنقضي شهواتنا ونثاب عليها ؟ فقال : نعم )-يعنون في باب النكاح -وهذا منه (صلى الله عليه وسلم ) يشير إلى معنى ، لا الى نفس قضاء وطر الفرج و شهوة النفس ، لكن لأنّ في طيّ النكاح و المباضعة فيه اتباع سنّة و ايثار إكثار لعبيد الله في هذه الأمة. ومعلوم أن من دعا الى الله عبدا موجودا ، فكان جهبذا في دعايته و هدايته ، كان ممدوحاً بذلك مثاباً ، فكيف بمن سعى في ايجاد عبد من عبيد الله يكثر به أمة رسول الله ، حيث قال : تناكحوا تناسلوا أكاثر بكم الأمم ؟
    وما أقدر المكلّف أن يجعل جميع حركاته طاعات لله ، كالنفقة على عياله ، وأكل الطعام لإحياء نفسه و تقويتها على طاعة ربه .
    لو قصد قاصد بنومه تقليل معاصيه ، أو تنفير نفسه عن شر اليقظة ، لكان في نومه طائعا. فاجتهد أن تجعل جميع أفعالك طاعات ، حتى اللذات ونيل الشهوات ، يقصَد به تحلية الحمد لله الى النفس و العيال والأهل ، وتحبيب المنعم الى الخلق.


    155- فصل:

    إذا كان كل مخلوق يشتمل على نقائص و فضائل ، فما أغنى المادح و الذام عن الكذب إذا سخط أو رضي ؟ فإذا غضب وجد نقائص يكون بذكرها صادقا ، فما باله وإلحاق النقص بنفسه بكذبه ؟ وإذا رضي وجد فضائل ، فما باله يكذب بذكر ما لا يجد مع وجود ما يمكنه المدح به و يكون صادقا ؟ فما باله ألحق المدحة بغيره و النقيصة بنفسه حيث زاد بما لم يجد ؟ ألا ترى أن الله سبحانه لمّا ركّب عيسى ما بين فضل هو النبوة و إظهار المعجز على يديه بإحياء الميّت و إبراء الأكمه و الأبرص ، و غلا فيه قومه فقالوا إنه إله ، قال فيه : (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة ) وهذا مدح يقتضي النبوة ، ثم قال ( كانا يأكلان الطعام ). وهذا نقص في الكمال يقتضي التغذية ، وهي في الحقيقة قيام الذات بغيرها ، وحاجتها إلى التقويم بسواها ، وهذه سمة تنافي عنّا الإلهية، فإن الاله ما احتاجت إليه الأشياء ، واستغنى بذاته عن الأشياء ، وأراد بذكر هذا النقص نفي الغلوّ فيه بدعوى الإلهية . فما من شيء إلا وقد ضمّنه الله نقصا و كمالا ، فما أغناك عن الكذب بالتزيّد في النقائص أو الفضائل و الخصائص ؟


    156- -قال بعض أهل العلم في قوله تعالى: (وعلّم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين ):

    معلوم أن الصور والأشكال لا تدل على أسمائها إلا بفهم معانيها ، ومعانيها هي ما وُضِعت له . فإن كان قد عرض عليهم أشكال الأشياء وصورها ، فيكون الإمتحان لهم لا شيء يصلح حتى يُعطى الإمتحان حقه ، إذ لا يعطي الفهم الإسم ، و الإمتحان بما لا طريق إليه تكليف ما ليس في الوسع ولا عليه دليل. وإن كان العرض للأسماء ، فالسؤال لماذا يصلح من الصور ؟




    157- فصل :

    العذر لا يقوم إلا لقصور في المعتذر ، بأن يقول إن جنى : (ما علمت ) أو تقاعد عن حق : (لم أعلم بتوجهه عليّ) أو (علمت لكن ما استطعت).
    قال هذا القائل : (وأرى الرزق عني كالمتقاعس ، والحظ في حقي وسنان أو ناعس ، والدنيا والآخرة نُعْماً ، وأنا وأمثالي نتدبق قوماً ، والمالك يقول : (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه ) و يقول : (وله كل شيء). فإذا سدّ باب العذر ببيان قدرته وغنائه وسلطانه ، لم يبق عندي إلا السخط يمنعني. فكيف أداوي هذا الداء العضال في إزالة السخط عن مانعي مع الغناء والكمال ؟
    قال حنبلي : قد دخل عليك السهو عن قسم هو الدواء لمثل هذا الداء ، فظننتَ أنه لا يقوم العذر إلا بالعجز من جهة المانع، ونسيتَ أنّ أجدّ ما يقوم به العذر الحكمة البالغة التي هي عائدة بالمنع لمكان إصلاح الممنوع . ألا تراه لو أفصح بالقول بذلك فقال : (ما منعتُك عن إعواز منّي ، لكن لمصلحة لك ). فإن فات القصور في المانع لم يفت القصور في الممنوع ، كالأب الغني يمنع ولده الحلوى والزهزمات تطبُّباً فلا يلام ، و الأب الفقير يمنع فلا يلام ، فيجتمعان في عدم اللوم، ويختلفان في العلة التي لأجلها قام العذر. فمن هذه الغلطات يُدهى الناس.
    والخليع العامّي لسرعة جرأته على الله وقلة مبالاته ، يتسخّط لمكان أنه لم يلحظ إلا الغناء والمنع ، والقدرة والمنع. فجعل أوصاف الله عز وجل عللاً لتسخُّطه ، ولم يتعرض للوصف الأعظم ، وهو الحكمة ، ليداوي سخطه أو يعدمه.
    وصفة المداواة أنه إذا سولت له النفس أنه ممنوع من الغناء فما العذر؟ قال لها : (هو حكيم في منعه لي فمن أين يجيء الإعتراض مني واللوم ؟)
    هذا هو قانون العقلاء المتمسّكين بالأديان ، إذا صح منهم العرفان. فهو بوصف الغناء أهل لئن يُطلبَ منه كل شيء ،وبوصف الحكمة أهل لئن يُسلَّم له كل شيء .




    158- فصل :

    قال رجل من أهل العلم : الباري سبحانه أخبر أنهم بلغوا من العناد الغاية التي لا رجاء لراجٍ معها استجابة ، فقال سبحانه : (ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فضلوا فيه يعرجون. لقالوا إنما سكّرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ). ومع ذلك الكشف لما أدركه من أحوالهم و عاقبة أمرهم ، بعلمه الذي لا يتغير ولا يختلجه شك ، ولا يتطرق عليه ريب ، أمره بالبلاغ ، وحثه على الإنذار لهم ، واللطف بهم ، و العفو عنهم . وكذلك أمر موسى باللين في القول لفرعون مع العلم بعاقبة أمره ، فما أبطنوا التكليف على العلم ، ولا حسّن بمقتضى تحسين العقل ، فإن خطاب من قطع الشاهد بعدم استجابته للمخاطِب يجعل الخطاب لغواً ، و البلاغ عبثاً و إتعاباً ، ليس فيه ولا وراءه فائدة ، ويجعل المخاطِب بذلك كالمترجّي لخلاف ما وقع له . و ليس العلم من هذا القبيل ، بل العلم هو الكاشف عن المعلوم ، المدرك له على ما هو به ، و العلم كشَف عن عدم الإستجابة ، و الخطاب استدعاء ظاهره الترجّي للإستجابة . فعُلم أنه قد حسن من الله تعالى في باب التكليف ما لا يحسن في الشاهد .



    159- فصل :

    قال حنبلي :
    إن سوّل لك مسوّل من شياطين الإنس أو الجن أن ( لا انتفاع بالعمل مع القدر ) ، فقل له : (ولا توقٍّ مع الأجل ) ، فإن قال : (وكذاك هو )
    قل : (فهل تستطرح للأعداء ؟ وهل تطرح عند الأمراض العلاج و الدواء؟ ) فإن قال : ( لا ، فإن حبي لنفسي يحملني على مكابدة المؤذي ومدافعته عنها ) ، فجواب المسألة منها : أن النفس محبوبة ، و الوعيد على ترك الواجبات وفعل المحظورات قد جاءت به النبوات، و التحرّز واجب في العقل ، وحب النفس حرّكك في التداوي ودفع الصائل ، فليحملك خوف فساد العاقبة على النفس على الاستجابة لِما جاءت به النذر .
    ثم صاحب القدر أمرك بالتحرز ، فيحسن أن تطرح التحرز ممّن لا خبرة له بالقدر إلا من طريق السماع والخبر ، فقال لك : (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) (وأعدوا لهم ) (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك ) الآيات..هاجرْ الى المدينة فإن قومك قد عزموا على قتلك وهو القائل : (قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل ).
    فإذا كان هذا هو قول صاحب القدر ، تلقّيت أنت قول الجهال بقولهم : ما ينفع التحرز والعمل ؟ اعقل أمرك واعمل ، وتشاغل بما كتب إليك ، ولا تشتغل بما كتب عليك ، فما عطّل خطاب التكليف وما جاءت به الرسل باطلاً بسهو الباطل العاطل.
    قال الإمام علي كرّم الله وجهه لرجل آية في القرآن قوله تعالى : (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ) كأنه يقول : المصيبة عقوبة ، وما عفا الله عنه في الدنيا فهو أمجد وأكرم و أجود من أن يعود في شيء عفا عنه .
    قال حنبلي : فهذه أرجأ آية في كتاب الله. وقد ورد في الخبر : حتى الشوكة يشاكها ، إذا انقطع شسع نعل أحدكم فليسترجع ، فإنها مصيبة. ومعلوم كثرة اللواذع والمصائب في المال والأهل والنفس والعرض، فإذا أخبر الله تعالى أنها مقابلات وعقوبات ، وضمن على نفسه العفو عن كثير، فما قصرت المصائب في الدنيا عن مقابلته سقط بالعفو الذي ضمنه سبحانه . فهذه الآية تُهوّن مصائب الدنيا عند العقلاء .



    160- صكّة موسى لملك الموت :

    كان قد سبق السؤال لحنبلي عن صكّة موسى لملك الموت ، وقلع عينه ، وكيف يكون التأويل له حتى يسلم من الفسق والخروج من حكم النبوة ، حيث فعل بملك من ملائكة الله ، جاء بأمر الله، لما قدّره الله ، ولو فُعل هذا برسول قاض من الخلق ، لفُسّق فاعله.
    وخطر لي جواب حسن يخلّص موسى من المعصية ، وذلك أنه أتاه بصورة آدمي ، فاستشعره صائلا ، فدفعه دفع الصائل. ومعلوم أن الملائكة ، إذا تصوّروا بصورة الأدمي ، لم يبقَ للأنبياء دلالة على أنهم ملائكة ، فلا بدّ من دلالة تدل على أن ذلك الرجل ملك من عند الله..كما لم تعلم أمّة كل نبي أن رسولهم رسول من عند الله إلا بعلامة، فالنبي مع الملك كآحادنا مع مدّعي الرسالة ، لا سيّما إذا كانت صورته كصورة النبي الذي جاء إليه ، وادّعى أنه رسول الله إليه ، فكما لا يثبت عندنا صدق رسولنا إلا بدلالة هي المعجزة ، فلا بدّ لنبينا (صلى الله عليه وسلم ) من دلالة ، وتلك الدلالة هي إشعار بالغيب أو إثباته بسورة من الكتاب الذي ثبت أنه معجز لنا وله (صلى الله عليه وسلم ) . فإذا ثبت هذا ، عُلم بأنه يجوز أن تكون تلك الفعلة والصكة كانت من موسى عليه السلام قبل أن يثبت عنده أنّ الرسول من عند الله تعالى جاء لقبض روحه.
    فهذا تأويل يدفع الكبيرة العظيمة عنه.



    161- قال حنبلي :

    لو لم يسبق في العقل حسن وقبيح سبق العلم بالشرائع ، لمَا حسن في الشرع توبيخ ولا تعنيف على فعل ، إلا أن يكون قد سبق به أمر من الشرع فتُرِك ، أو نَهي ففُعِل ، فلّما قال : (أتعبدون ما تنحتون ) (أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين ) (واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار.ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا ) فهذه كلها توبيخات عقلية. فوبّخ الشرع أرباب العقول التي سبق فيها القبح والحسن. وقوله : (أرايتم إن كان من عند الله وكفرتم به ) وهذا توبيخ على ترك التحرز من المضار ، وهو من قضايا العقول. وقوله : (وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم ). كل ذلك إيجاب التحرز ، وما أوجب التحرز إلا العقل.



    162- عن قصة شعيب ولوط كيف اقتصروا على الإنذار على فرعين هما النهي عن الزنا واللواط ، وتركا ذكر الكفر :

    سأل سائل عن قصة شعيب ولوط كيف اقتصروا على الإنذار على فرعين هما النهي عن الزنا واللواط ، وتركا ذكر الكفر ، وجعل الله الوعيد والتقبيح لهذين الفعلين ، وأمسك عن ذكر الشرك ، وهذا إن لم يدل على أن هاتين المعصيتين أكبر ، فلا أقل من أن يكونا سواء ، حيث أكبرَ أمرَهما وقابلهما بالإستئصال والنكاية في الدنيا ، وهذا يعطي مساومتهما والكفر في إيجاب الوعيد.
    فقال حنبلي : إن الأمر فيما يتعلق بالوعيد وإيقاع الإستئصال لا الى نفس ارتكاب المعصيتين ، لكن الى الكفر ، لأنهم كذّبوا بتحريم ذلك ، وكذّبوا رسولهما فيم أخبرا به عن الله ، ولو صدّقا الرسولين وارتكبا النهيين لإفراط شهوة وغلبة طبع في محبة الزنا واللواط ، ما عرفنا كيف يكون الحال ، فقد بان بهذا أنّ الإستئصال كان بتكذيب الرسوليْن، وقد صرّح القرآن بذلك حيث قالوا : (أتنهانا أن نعبد ما كان يعبد أباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ) ، فأكبروا نهيه عن اتباع آبائهم في الشرك ، ويكفي ذلك. ثم قالوا : (أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء) من زيادة نعطيها لمن اقترضنا منه ، أو نقصان نرضي به من أقرضناه. وهذان يدلان على استباحة ذلك واستحسانه ، وتكذيب من جاء بتحريمه، وهذا ايضاح وإفصاح بما يوجب الكفر.




    163- فصل في قوله تعالى : (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون) :

    دلت هذه الآية على أن خلقه لو وقع من غير رجعة لكان عبثا. وقال في أصل الخلق : (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) وقال في البعث : (إن الساعة آتية أكاد أخفيها ) ثم أبان عن علة الرجعة فقال : (لتجزى كل نفس بما تسعى) وقال في بيان المجازاة : (ليجزي الذي أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ). فلا سلوة عن الموت إلا إثبات البعث .




    164- قوله تعالى حكاية عن إبليس : (ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم ) ..وساق الجهات الأربع ، ولم يذكر جهة فوق ولا جهة تحت.

    قال حنبلي : قد قلنا في ذلك قولا ، وقد لاح لي الآن أملح من الأول ، وهو أن جهات الملتقى المعتاد ، ليس إلا هذه الجهات الأربع ، ولو جاءهم من غير هذه الجهات ، فإنّ جهة العلو ما جرت العادة بمن يجيء منها ، ولا من جهة تحت ، كما أنه لا يأتي في صورة ينكرونها. كما جاء أهل بدر وقال إني جار لكم ..وقال ما قال .






    ( تم بحمد الله وعونه ).

    .....

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jun 2013
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    33
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    روائع المواضيع في ( كتاب الفنون لابن عقيل الحنبلي ) (تابع ) :

    165- كتب معاوية الى مروان لمّا ورد عليه مقتل عثمان :

    (إذا قرأت كتابي هذا ، فكنْ لا تصطاد إلا بغيلة ، ولا تبارَز إلا عن حيلة، وكالثعلب لا تُغلب إلا روغاناً . واخف نفسك بينهم إخفاء القنفذ رأسه عند لمس الأكف ، وامتهن نفسك منهم امتهان من يئس اليوم من نصرة ، وابحث عن أخبارهم بحث الدجاجة عن حب الدخن عند نفاسها).



    166- الرجال ثلاثة :

    -قيل :
    الرجال ثلاثة : فارس وبطل وشجاع.
    فالفارس :الذي يشدّ إذا شدّوا.
    والشجاع : الدعي الى البراز والمجيب داعيه.
    والبطل :الحامي لظهورهم إذا انهزموا.






    167- فصل :

    قل حنبلي :
    ما بلغ مِن محلّ عبد مع سيّده أن يكشف له عن أسرار أفعاله فيه . بل غاية محلّ العبد فيكم ولكم أن يحترم أمره ونهيه جزماً : (لا تأكل من الأطعمة هذا ..) (لا تغرف لنفسك من هذا القدر ) و(كلْ من هذه )(اشربْ هذا القدح وإن كان مرّاً) (لا تمض في هذا الطريق وامض في الآخر) (مُدَّ يدك اليوم الى الطبيب وانفصد). ولا في أدب العبودية تقتضي المَلَكة أن ينطق العبد في ذلك بِ( لمَ ؟) ولا (كيف ؟) هذا حكمكم مع عبيد ما خلقتموهم ، ولا لكم فيهم سوى حبس الرّقّ ، ولا يثبت لك عند العبيد والاماء من الحكمة مع الملكة ما يوجب حسن التأويل لتصاريفك فيه .
    أنتَ مُخرَج من العدم ، مبنيّ ببنائه ساقاً ساقاً، قد أحكم صناعته فيك إحكاماً يشهد له عندك بالحكمة البالغة ، لم تقنع بما وضعه فيك من الفطنة بحكمته بشواهد صنعته حتى كاتبك وراسلك ، وأخذ بحكم كلامك لك مخرج الإعتذار كاعتذار النظير ، يقول لك فيما خفي عليك ألّا يعتريك نفور أو اعتراض باطن : (ولكم في القصاص حياة) (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر) (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) إنّ تقسيم الغنائم على خمسة أصناف (ولو بسط الله لعباده لبغوا في الأرض). فبيّن لك وجوه منعه وإعطائه وإيقاع العقوبة ، ومن الذي أوجب عليه هذا ؟
    وأنتَ مع عبيدك لا خالق ولا بانٍ ولا منشئ لهم ، ليس لك فيهم إلا حبس الحبس الذي هو جعله لك ، وأنتَ لا ترى العبد أهلاً أن تقول له : (إنما تقدمتُ بفصدك وحجامتك وحميتُك من الطعام الفلاني لمصلحتك ) ولو نطقتَ بذلك لأزرى عليك أمثالك من سادة العبيد ، فقالوا : (فلان يعتذر الى عبده. هذا إطماع له وإفساد لحكم السيادة مع للعبودية . ما للعبد وما إليه حتى يقول له سيّده : (إنما فعلتُ كذا لكذا؟ ). ولو كاتَبه أو أرسل إليه رسولاً لقيل : (هذا غاية الإستفساد. هذا مما لا يُسمح به للعبد فيعدو طوره ). وأنتَ متى أخفى عنك علة فِعلٍ فعله فيك ، أو أمرٍ أمرك به ، تشرّدتَ وتوانيتَ عن فعله ، وكذاك فيما نهاك ، تطَلُّباً لعلّة ذاك ، فتعدّيتَ طورك.تُرى ما سمعتَ قوله : (ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء ) ما ينبّهك هذا على الإنتهار والاستنكار لما أبداه ، حتى يوجب عليك إمّا التأويل له فيما أخفاه ، وحمل ما سكت عن الإعتلال فيه لما أبداه ، أو الإستسلام لما ثبت له من الملكة والحكمة ، وبيان علل الإشفاق عليك فيما علّله لك ؟؟؟
    أنا أقول قولا لم يمتدّ إليه نظر غيري ، وهو أنّكم تلعنون من أشرك به بضم إله آخر إليه ، وتُكفّرون ذلك القائل ، وأفعالكم وأقوالكم تُعطي أنّكم أثبتتم نفوسكم إثبات الشركة له ، إذ ليس انتقادكم على أفعاله وأقواله انتقاد النظير فقط ، بل ربّما كان ذلك انتقاد من فاقت حكمته ، وعلت رتبته ، وعبد يرى نفسه نظير سيّده ، آبقٌ أعلى الأبّاقين، لأنّ الهارب أسقط حقّ سيّده من الخدمة ، والمقيمُ المعترض زاحم سيّده في أحكام الملكة ، فهذا يَعُدّه الملوك أكبر خارجي. لأنك تقول ملء فيك : (لمَ فعل كذا ؟ لمَ فعل كذا ؟ ) و(لم حكم بكذا ؟ ). ويلك !والويل لك ! أنتَ تزعق على التلال والأشراف : (أشهد أن لا إله إلا الله ) ، وفي الحقيقة تقول : (أنا معترض على الله. مدبّر لملك الله . معترض على فعل الله) أين التوحيد مِنك ؟ والله إنّ من أشرك به سواه لأنواع شك أو شبهة ، أحسن حالاً منك ، فإنك لا تجد في نفسك ما يوجب لك أن تكون خارجاً من العبودية مع معرفتك بنفسك ، وكيف ابتداك ، ومن أيّ شيء ابتداك ، وكيف بناك وربّاك. فما مِنْ حَدِّك وقَدْرِك أن تكون عليه مشيراً ، أو تكون معه مدبِّراً.


    168- قال حنبلي في تفضيل اجتهاد الأواخر على الأوائل :
    ( هاتم حتى نشرع في تخليع المسألة . فنقول : هل يحسن في العقول أن يمتنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم على عُبَّاد الأصنام من الجاهلية فيقول : (أنا الذي استنقذتكم من الحجارة و الشجر ، ودعوتكم الى عبادة الله تعالى الصافية من كلّ شرك بشوب أو كدر . أنا الذي نبّهتكم على تقبيح عبادتكم لما نحتته أيديكم ، وصوّرته جوارحكم ، وقد كان الأقرب أن تستعبدوا ما صنعتم ، فأما أن تعبدوا وتتذرّعوا لما صنعتموه فقبيح نبّهتكم عليه ! ) ؟؟؟ ولا يحسن منهم الإمتنان بأن يقولوا له حين اتبعوه : ( نحن الذين هجرنا عبادة الأصنام ، واطّرحنا آلهتنا المشكّلة في الأحجار ، التي لا تسمع ولا تُبصر ، ولا تنفع ولا تضر ، واتبعناك في عبادة الله وحده ، الذي يجيب المضطر إذا دعاه، الذي يؤاخذ الظالم ، وينتصف للمظلوم ، ويكشف السوء ، فيجب أن تتقلد لنا المنّة في اتّباعك ).
    هل عاقل يوازن بين المنّتَيْن ، ويشتبه عليه حكم القوليْن ؟
    فإذا جئنا الى الأواخر . حَسُنَ أن يفتخر أحمد بن حنبل (رضي الله عنه بأن يقول : ( أنا الذي بُليتُ بزمان باتباع الأئمة و الخلفاء كالمعتصم و الواثق ، يحملونني على القول بخلق القرآن ، ونفي رؤية الرحمان ، ويضربونني بالسياط ، وأنا أقول لهم : (كيف أقول ما لم يُقَلْ ؟) - يعني ما لم يقوله السلف - حتى إنّ جعفر الصادق يقول فيه (ليس بمخلوق ولا خالق ))
    فبثل هذا يحسن الإفتخار والإمتنان . فهل بان فضل الأواخر ؟ وغاية ما احتج به عبدة الأصنام قولهم : (أنْ نتركَ ما يعبد آباؤنا )، أجابهم الله تعالى فقال : ( أوَ لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون ).فانقطع لسان التقليد للأسلاف.


    169- .لأبي العلاء المعري الأبيات المطبوعة التي تغنّى بها ، ويعجبني معناها. وطال ما تواجد عليها شيوخ الصوفية. وهي قوله :
    منكِ الصدود ومني بالصدود رضى
    من ذا عليّ بهذا في هواك قضى
    بي منكِ ما لو غذا بالشمس ما طلعتْ
    من الكآبة أو بالبرق ما ومضَا
    إذا الفتى ذم عيشا في شبيبته
    فما يقول إذا عصر الشباب مضى
    وقد تعوّضتُ من كلٍّ بمشتبَه
    فما وجدتُ لأيام الصبا عوضا
    وقد غرِضتُ من الدنيا فهلْ زمَني
    معطٍ حياتي لغرٍّ بعدُ ما غرِضا
    وليلة سرتُ فيها وابن مزنتها
    كميّت عاد حياً بعد ما قبضا
    كأنما هي إذ لاحتْ كواكبُها
    خَوذٌ من الزنج تُجلى وُشِّحتْ خضضا
    كأنما النسر قد قُدتْ قوائمه
    فالضعف يكسر منه كلما نهضا
    والبدر يحتثُّ نحو الغرب أينُقه
    فكلما خاف من شمس الضحا ركضا
    ومنهلٍ تِرد الجوزاء غمرتَه
    إذا السِّما كان شطر المغرب اعترضا
    وردتُهُ و نجوم الليل وانيةٌ
    تشكو إلى الفجر أن لم تطعم الغَمَضا
    طال ما وجد الواجدون على البيت الأول من كبار القوّالات المحسنات، ومُزِّقت الأطمار ، وانكشفت الأسرار . حيث استعاروا لما سُمّي من الخلق صدوداً ما ورد من بلاوي الحق المقابلة برضا أهل العرفان، حيث امتلأوا بعرفانه مسرّة ، فلم يجدوا بإيلام طباعهم مضرة ، نظروا الى المبلي في البلى ، فعذُبَ العذاب عندهم وحلا ، أما سمعتَ قول الحق في السحَرة في حال الغفلات : (أئنّ لنا أجرا) وقولهم عند طلوع شموس العرفان : (فاقض ما أنت قاض .إنما تقضي هذه الحياة الدنيا ) فكان ذلك موجباً خطبة تعجيل البلاء . والآخر لمّا أحياه بعد القتل ، وكلّمه كفاحا ً ، قال له : تمنّ علي ّ ، قال : أتمنى عليك أن تعيدني الى الدنيا ، فأقتَلَ دفعة أخرى.
    وأما قول ابي العلاء (فما وجدتُ لأيام الصبا عوضا) :
    قال حنبلي :
    هذه طريقة سلكها الأوائل ، واحتذاها بعدهم الأواخر ، وهي طريقة من لم يشمّ رائحة العرفان ، ولا ذاق طعم الوجد الذي يعقبه الوجدان . فإن الصغر مطية الغباوة و الغفلة ، وعلو السن حال يقظة ، وقوة مزيدة على الفطرة السليمة بالتجربة ، وما طلبَ من طلبَ الغفلة أو السكر المغطي على العقل إلا لثقل التكليف وتعاظم العرفان ، وللطباع حظها ، كما أن للمعارف حظها ، ومُركّب من أشتات لا يعيش إلا باختلاف الأحوال ، غفلة تعيش بها طباعه ، ويقظة يصفو بها اطلاعه . ولهذا كان بلوغ السفير عليه السلام بالإعانة في خلال أحواله لعيش طباعه ، ويظل عند ربه ، فيغنيه عن القوام في وقت اجتذابه الى ذلك المقام .


    170- مسكين ابن آدم !

    قال قائل :
    مسكين ابن آدم ! الشيطان يأتيه بالإغواء من أربع جهاته ، ومعه قرين من الجن لا يفارقه ، وملكان عن يمينه و شماله يحفظان عليه أعماله ، ومن داخلٍ الطبع و الهوى ودواعيهما ، وفي المخالطات مداراة هذا العالم المعاملات مغابنة و مخاطرة ومعاناة العيال في البيوت . فأي صُبابة تبقى له مع هذه المحن ؟
    أجابه حنبلي يدقّق في المعاني فقال:
    إنّ من ترك لك جهتين : جهة فوقٍ للتلاجي ، فإذا مسّتكَ هذه القوارص، وأحاطت بك هذه الدواهي ، تلاجَيْت ، وجهة الأرض التي إذا سجدتَ عليها ناجَيْت .، لقد وسّع لك ما ضاق ، ودفع عنك ثقل الإرهاق ، لاسيما وقد منحك النور ، الذي به يضيء لك طريق الهداية ، ويعرّفك مِن جلال الله ما يُمِدّك به من العواصم ، المانعة لك من أعدائك ، ويعيذك من القواصم . وكفى بالله مانعاً وإنْ كثرَ الطالبون لك ، وقامعاً لمكائد الأعداء وإن تظافروا عليك ، وأما الحفظة عليك أعمالك ، فإنك إذا راعيتَ نظر الحق و شهوده إياك بقوله : (أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ) سقطَا من عينيك ، وتحققَ لك العمل لمن شهِدَك ، دون من يشهد عليك ، فصفت الأعمال عن أن تتدلّس بما يسوءك تسطيره عنك و عليك ، وصارت الشهادة لا لك ولا عليك .
    وقد سلك بعض المفسرين مجازات ، مثل حملهم : (لما بين أيديهم:التشكيك في مستقبل أحوالهم من أمر أخرتهم )و(من خلفهم:التشكيك فيما سبق من القصص والأخبار التي يجب الإيمان بها).



    171- فصل :

    المخاصمة موازنة ، فمتى خاصم الإنسان قبل موازنة الحال بالحال ، غُلب وخسر . فمن أشكال الرجال ما يكون مخاصمة عنه ، ومن أشكالهم ما يكون وبالا عليه . فمن الناس من يكون له سمت وعليه مسحة من توضع وذل ، فمتى خاصمه من عليه سيماء الجلادة ، كان الناس كلهم مع صاحب السمت ، لما يغلب على ظنهم من ضعف ذلك السميت ووقاره ، وفورة ذلك الجَلَد وتسلطه ، فمخاصم ذلك السميت معين على نفسه ، حيث حمل الناس بخصومته على ظهره . ومن خاصم الناس خُصم . ومن اعتمد على ما يعلمه من نفسه وبراءته ، لم يكد ينفعه علمه ، مالم يجعل عليه شاهدا من براءته . وكم وقعت التهم بالصور والأشكال ، وبعدت عن المجرمين لصور وأشكال .
    فالعاقل من لم يقنع في الأحكام بفراسته ، وقد خوّفنا الله سبحانه من الحكم بالفراسة و الظاهر بما ذكره لنا من قصة صواع العزيز ، ودم قميص يوسف ، وبكاء إخوته عند دعواهم أنه أكله الذئب . فأيّ حكم يبقى عند العاقل لهذه الظواهر مع إيقاف الباري لنا على مخالفة الباطن؟
    ولقائل أن يقول : إن كانت هذه القصص تمنع من الحكم بالظواهر ، فالحكم بتخريق القميص من دبر ، يحمل ويحث على أخذ الجنايات من الأمارات و الدلائل الظاهرة ، ولو سلم لأحد الحكم بم
    يقع له ، لكان رسول الله يحكم بها ، وقد قال : إنكم لتختصمون إليّ ، ولعل أحدكم ألحن بقصته من صاحبه ، فمن قطعت له بشيء فلا يأخذه، إنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذ .


    172- فصل تذكار :

    إعلم أنه لا تكمل العبودية فيك إلا بما كملت به الربوبية فيه سبحانه . وكمال الإلهية أنه عظيم ، مستوجب التعظيم ، وعلى تعظيمه يدور التكليف ، يُطاع أمره فلا يُعصى ، ويُذكر إنعامه فلا يُنسى ، ويُسلّم حكمه ، فلا يُعترض بِ(لِمَ) قولاً ولا إضماراً ، مطلق التصرف بكل معنى ، لا لكونه قاهراً فقط ، بل لأنه حكيم غير مختلّ الصنع ، فكما أن الأركان كلها خلقه يجب أن يُتعبّد له بالسجود تارة إذا أمر ، وبالركوع أخرى، وبالاتتصاب أخرى ، وبالكف عن الشهوات ، وبتناولها في بعض الأوقات ، كذلك العقل خلقه يقضي لأفعاله وأحكامه، ولا يقضي عليها بالتحكّم الخارج عن التسليم ، إن جمع ، فحكمة ورحمة ، وإن فرّق ، فحكمة وقدرة ، فكما أن قدرته لا تُقاوى بالمدافعة ، حكمته لا تُقاوى بالمعارضة .
    كل شيء خلقه تحت تدبير العقل ، و العقل تحت تدبير الرب ، فإن أذعن العقل بالربوبية له ، فينبغي أن يذعن بالتسليم ، لأنّ مربوبا لا يَرُبّ ، كما أن الرب لا يُرَبّ .
    يا ناقصاً في التكليف بكل معنى ! يا مفلساً من العبودية بكل حقيقة ! أنت عبدٌ مِن طريق الخلق قهراً ، هل كنت عبداً من طريق التخلّق طوعاً ؟
    ما أشد طاعتك للهوى مع كثرة جناياته عليك ! وما أشد تجنّيك على الخالق مع كثرة إتقاناته فيك !
    هل أجارك الهوى قطّ مِن ورطة ؟ هل أخذ بيدك من سقطة ؟ أليس غوائله كلها و عواقبه فسادا ؟ أليس حلاواته مرارات ؟ أليس هو الذي يجمع على دعوة ، ويفرّق عن عربدة ؟ أليس هو الذي يحمل على بِطنة ونهمة تكون غائلتها نغصة بتخمة ؟ أليس هو الذي يحمل على إغفاءة تكون غائلتها البيات ؟ كم حلا لك أوّلُه ، وأمرّ عيشك أخِرُه ؟
    تعال إلى فعل الحق فيك ، إن أمرّك حلاّك ، وإن منعك فعن دائك حماك ، وإن ناولك شفاك ، وإن أظمأك سقاك ، وإن دعوته بعد التشرد عليه لبّاك .
    وربما قبل أن تدعوه بادأك : يا عبد هواه ! اعبدني ، أستعبد لك الهوى . يا أسير الشهوة ! فكّ نفسك بالحمية . يا أسير الجهل ! افكك علمك باليقظة . يا أسير العمل بالربا ! افكك عملك بالإخلاص . يا أسير الطمع ! فكّ رجاءك بالمعرفة بمقادير الخلق . لا تعبد بطمعك جهات الرزق ، ولكن اعبد الموجّه ، أنا واللهِ الموجه ، وهم الجهات . أنا المحرّك للقلوب المعطية ، وهم أدوات . إنْ أردتَ أن تشكرهم دوني ، فاشكر السحاب والمطر والزرع والشجر ، فإن الجميع منّي ، والكل خلقي ، ولهم عندي شكر التكليف .
    يا سبحان الله ، ما أعجب أمرك ! تُعافى بشربة أو بمفصدة ، تشكر الدواء وتبجّله ، وتمدح المِبضع وتعظّمه .
    تُرى ما لي في فعل المبضع وخاصية الدواء فعل ولا صُنع أستحق به بعض الشكر ؟
    هذا شرك عسى غذا يصير توحيداً ، أنت لا تجعل لي قسماً من الشكر.
    فليتك كنتَ طبائعيا خالصاً فتعرف بالطبيعة ، فإن أفلحتَ ونجوتَ من ذا ، وقعتَ في بحر النجوم ، فلا تعقد ولا تحلّ إلا بالمنجّم ، حتى صار دأبك : (مُطرنا بالسرطان ) ، و(وُفّقت أموري بزُحل ) ، و (المريخ ما يدع لي السنة عيشاً صافياً ، ولا أَمْراً ساكناً ، قد أوقع بيني وبين الناس الفتن ) ، أو تقول : (السنة معيشتي جيدة وعيشي طيّب ، لأن طالعي الزُّهرة ، وفي بيت مالي المشتري ).
    تُرى ما تقول عبَدة النجوم ؟ حدثني بماذا يمتازون عنك ، وبماذا تخرج من الشرك ؟ أين الإثبات منك فضلا عن التوحيد ؟
    تعالَ اسمع مني تخليع إيمانك ، وانصف في استماعك . تضيف الضرر الواقع بك الى النجوم والأنواء ، والمنافع الواصلة إليك إلى الطبيب و الدواء . فإذا وقع منك المكروه ، وتركتَ المفروض ، تلهّيت بنفسك في إضافته الى قدر ربّ السماء ، كأنك ما خصّصته إلا بما عنه نهاك ، حتى جعلته في الإثبات لإقامة عذرك في جفاك ، وعذرك هذا لما أفلحتَ وأثبتّ . فإن لحقك من غيرك جفاء ، أو نالك منه أذى ، حنقتَ عليه حنق من ليس وراء فعله قدر ولا قضاء ،
    تُرى هذه الأقدار التي أثبتّها ، وهذه القضايا التي اعتقدتها ، لا تحتكّ إلا فيك ؟ أمَا هي على غيرك جارية ؟ فإذا قامت لك الأعذار بها ، هلاّ أقمتها لغيرك في الإساءة عذرا ؟
    ما يخلو في هذا من أمرين : إما أن تكون ساخراً بدينك ، أو مسخوراً بك، وإلا فمحال أن تكون تعتقد أنّ القدر مؤثّر فيك شرا دون غيرك ، فلو أيقنتَ بالقدر حسبما ذكرتَ لعذرتَ غيرك في إساءته إليك ، كما به عن نفسك اعتذرت.
    ما أكشف حال زندقتك للمنتقد عليك ! تضيف المنافع والمضار الى الكواكب والطباع ، والأرزاق والإساءات الى المُعطين والمسبّبين ، كل ذلك لتخرج الباري عن الصنع ، وتجيء الى ما بقي من خطاب الشرع ، من أداء فرض أو ترك ذنب ، فتحيل بترك الواجب عليك ، وفعل المحظور عليك ، الى قدر الله ، ما ذكرت الله إلا هنا ، لتردّ الأمر حيث جاء .
    أمّا أنا ، فلا أعرف إيمانك من كفرك ، تارة تضيف الفقر والبلاء الى نزول الذنب في بيت المال ، وتارة تشقّق عتباً على الإله الذي لا يخطر منك في حال غنائك وسكونك ببال ، فما يتخلص لي كفرك من إيمانك ، ولا توحيدك من شركك ، ولا نفيك من إثباتك .
    هذا ، وأما أعمالك فعنوان الجحود والإنكار ، ولا أرى عليك عنوانا للإثبات والإقرار .
    ينخرق من ثوبك مكان عقدة ، أو تنجذب فيه هدبة ، لا تسكن عن الحركة والمال ، حتى تدفع الى الرقّاء أوفى الأجور والأغراض ، ليعود الى ما كان ، وهذا فرضك يختل بأنواع الخلل ، لا تتحرك في سدّ خلله ، ولا تلافي علله ، لا بسجود سهو ولا تكفير حنث ، ولا إقامة حدّ ، ولا توبة عن ذنب ، ولا ندم على فارط جرم .
    واللهِ ما للإيمان فيك علامة ، سوى كلمة تعوّدتها من الصغر ، لا ثقل فيها على النفس ولا مؤونة ، وهي كلمة قد عصمت الدم وحرست المال ، وقد عرفت ما في تركها من الوبال .
    وإلا فانصف وعيّن لي عملاً من أعمالك تتوسل بها الى الباري عند ضرورتك واختلال أحوالك ، عيّن لي عملاً يصلح أن يكون مقطع الأجل ورأس الرزمة في العمل ، وانتقده نقداً يصلح لرؤية الحق ، بلا تفريط فيه ولا خلل ، فإن رأيت ذلك ووجدتَ ، وإلا فابكِ على نفسك من إفلاسك من معنى تسمّيتَ به عمرَك ودهرك لمّا تحقْقت الحقيقة ، ما أنسبك منه صحّة تصلح لرؤية الخليقة ، قد أنستَ الى الاعتذار بالرجاء والإرجاء والشفاعة ممن أطاع فيمن عصى .
    تُرى ثبت ذلك عنك بقولي وقول رسولي ، والوعيد ممن جاء ، ومن القائل له ، ومن المتواعد به ؟
    إنْ أبهجك وعدي ، فهلا أزعجك وعيدي ؟ وإن كان وعدي يُطمِع ، فما بال وعيدي لا يوجع ؟ عن أيّ الأنبياء سمعتَ ، أو الأولياء ، أنه أسقط حكم الوعيد ، حتى ظهر عليه الاعتماد على الرجاء و الشفاعة ؟ أما رأيتهم يحذّرون ، وهم أحذر ، ويفزّعون ، وهم من الله أفزع ؟
    ما أفزعني من طمأنينتك أن تكون خدعة من الشيطان ! إما لنفي وجحود ، أو اغترار بالمعبود .




    173- قوله تعالى : ( كونوا قردة خاسئين ) ،هذا أمر تكوين لقلب الضرر ، يخرجهم عن التكليف ، أو ينفيهم مع قلب الضرر على التكليف .
    وما معنى: (خاسئين ) ؟ وما معنى : ( فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها ) ؟ وما معنى: ( موعظة ) ؟ وما وجه التخصيص بالمتقين ؟
    قيل - وبالله التوفيق - :
    أمّا قوله تعالى : ( كونوا قردة ) ، فليس بأمر حقيقة ، لأن الأمر هو الاستدعاء من الأعلى للأدنى ، والانخلاق فعل الخالق - جلّت عظمته - ليس إلى المخلوق منه شيء ، مكلّفاً كان أو غير مكلّف ، حيواناً كان أو جماداً .
    لكن ( كُنْ) حرفان يظهرهما الباري لملائكته ، فيكون عقيبهما ما يكوّنه بقدرته . هذا إذا حُمل الكلام على حقيقته ، وهو الأصل . فقلب صورة الإنسان إلى صورة قرد كقلب الماء إلى علقة ، الى مضغة ، الى عظام، الى لحم ، على ما ورد من التارات السبع .
    والدليل على أنه جُوّز وليس باستدعاء حقيقة ، أنه قد أضافه سبحانه الى المعدوم ، ثم ذكر تكوّنه والإيجاد ، لا يسأل عاقل أنه إخراج من كتم العدم ، وذلك مما ينفرد به الباري سبحانه . والأشياء بعد وجودها لا ينصرف الأمر إليها إلا بعد إكمال أدوات الاستدعاء .
    فإذا ثبت هذا في التكوين عقيب (كُن ) ، كان قول الله تعالى : (قلنا لهم) قلبنا صورهم من الإنسانية الى القِردية ( خاسئين ) مبعدين ، (اخسئوا فيها )ابعدوا ، وصورة القردية تبعيد عن الصورة الحسنة الى صورة مشوّهة ، ( فجعلناها نكالا ).
    وقوله في الأول : (كونوا ) خطاب مذكّر . وقوله (فجعلناها ) راجع الى تأنيث المسخة ، وهي الصورة المشوهة ، وعظاً وزجراً ، ( لما بين أيديها ) ، لِما قدّمت من ذنوبها ، ( وما خلفها ) ، لِما يُعمَل به بعدها ليَخاف مَن بعدها أن يعمل مثل عملها ، فيؤخَذ بما عمل كما أُخذت به ..
    قال الحسن : ( لما بين أيديها ) ، لما قدّموا من الأعمال السابقة ، (وما خلفها ) ، خلف الأعمال السالفة ، وهو صيدهم الحيتان يوم السبت .
    قال حنبلي :
    وقد بان من صيد الحيتان بالرواية أنهم قدّموا نثب الشباك قبل السبت، فوقعت الحيتان فيها يوم السبت ، فأخذوها يوم الأحد ، فأخذهم الله بالنصب الذي كان قبل السبت ، لمّا كان سبباً باقياً مؤثّراً لوقوع الحيتان يوم السبت ، فصاروا بآثار أفعالهم كالصائدين يوم السبت .
    وقوله (وموعظة للمتقين ) ، إنما خص المتقين لأنهم العاملون بحكم الموعظة ، وإلا فالموعظة بالنكال والمسخ موعظة عامّة لكل مكلف ، هذا من أخوات قوله سبحانه : (إنما أنت منذر من يخشاها ) ، وهو منذر الكل ممن يخشى ولا يخشى ، لكن خص بذلك من انتفع بالإنذار، ومثل قوله : (لينذر من كان حيا ) ، يعني من انتفع بإنذارك فحيّ بالإيمان ، ( ويحق القول على الكافرين ) ، الذين هم كالأموات ، الذين لم ينتفعوا بالحياة ، كما سمّاهم (صمّاً وعمياناً ) ، حيث لم يستعملوا الأبصار والأسماع في الاستبصار الذي به غرض المدارك الموضوعة للانتفاع ، فإذا لم ينتفع بها ، صار عدم الانتفاع بها كَعَدمها .



    174- ذكر بعض العلماء في أحكام القرآن ، في قوله تعالى : (ذلك ومن يعظّم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ) (لكم فيها منافع إلى أجل مسمّى ثم محلّها إلى البيت العتيق ) :

    قال : فذكرها بكونها شعائر ، ثم أثبت المنافع بها ، وهذا يدل على جواز الانتفاع بها مما يفضل عن ولدها .





    175- فصل في تأديب معترض بجهل :

    ترى آحاد هؤلاء العوام الطغام يتقاعد عن الأعمال و يتكاسل ، حتى إذا ضاق به الرزق ، ووقفت عليه الأمور، وتشعثت أحواله ، رمق علجاً من علوج الأجناد ، أو غاصباً للأموال ، قد احتشد الغصوب والنهوب ، وجحد الودائع ، ومد يده إلى مال اليتيم ، وباع الربا ، وقامر ، وقد عُبل لحمه ، وخرجت بطنه، وترفّل في حلل الديباج والحرير ، مخالفاً للباري في الأثمان ، متعدّياً على الشرع في باللباس، وقد علا مركبه ، وقلّد فضته وذهبه ، فشفع توانيه في الإكتساب بصرف اللوم على باريه فيما جناه ذاك من الإغتصاب : (قد أعطى هذا المتمرّد ومنعني ، وأشبعه وما أشبعني ، ومتّعه وما متعني، وأعطاه وحرمني ).
    فيا سبحان الله ! ما أبخسكم لحقوق الله ! وإلا فمعلوم أنه قد أمرك بالإرتياد لتحصيل الرزق وما حصّلت ، ونهى ذاك عن أخذ ما ليس بحق ، فلم يصرف اللائمة الى العاصي الطاغي الخارج عن أمر الله ، العاتي ، وأنتَ تسمع ما ورد في القرآن من الوعيد لمن ارتكب ما ارتكب ، واحتقب من الإثم ما احتقب ، فلا صرفت اللوم إليه ، ولا عتبت في التشرّد على الله عليه ، عدتَ باللوم على الكريم الحكيم الناهي عن جميع ما ارتكب ، فليتك لمّا ضاق بك الرزق ، لمتَ نفسك في تقصيرك ، حيث أقدرك وما تسكّعت ، وقوّاك وما تصرفت ، ولمت ذاك الظالم عل قبيح ما ارتكب ، فأمّا أن تصرف الذم الى الله تعالى ، فما أطلق ألسنتكم بالذم لأفعاله والاعتراض على مقاله ! أعاذنا الله من الاعتراض على مقاديره !

    176- الشيب مرض الموت :

    الشيب مرض الموت ، لولا أنه مألوف ، وإلا فسل عنه الطب فقل : ما هذا العارض ؟ هل هو زائل أم لا ؟ فإذا أجمع الكل على أنه ذبول يتزايد ، وتحلّل يترادف و يتتالى ، فاعلم أنه مرض الموت . انظر ما تفعله في مرض الموت ، يقول لك الطّب : ما لهذا برء ولا شفاء ، ولا يُرجى له علاج ، ولا يُوجد له دواء فافعله إذا ابيضت لحيتك ورأسك ، فما بعد ابيضاض اللحية و الرأس إلا الانحلال والانعكاس . تأهّبْ للنقلة فقد استحكمت العلّة . أليس قد جرت
    عادتكم بتوزيع الأموال وتحسين الأعمال و تأكيد الوصيّة ، وتجديد التوبة و مجالسة الاصدقاء والمعاملين ، مع تجويز خطأ الطب في القول وذهابهم عن الصواب ، لأن العلل مختلفة ؟ فهل يختلف اثنان أن المشيب طلائع الموت وعنوان الفوت ، وعلة لا تتزايل ، و مرض لا يفارق ؟
    وحياتِك إني لك ناصح ، وإني لعيبك كاشف و لك فاضح ، لا لأني لك عدو ولا كاشح ، و لكن أؤلمك لأبرئك ، وآمرك لأخليك . وحياتِك يا أخي ، ما غسلت سيئة بأحسن من دمعةِ حسرةٍ على فائت من عمرك في غير ما خُلقتَ له ، وحقِّك أيها الصديق ما تردد في قلب ولا حاك في خاطر أجلّ من حزن وأسىً ، على عمر انقضى في سَوْفَ و لَعَلّ وعَسى.



    ( تم بحمد الله وعونه ).

    .....

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jun 2013
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    33
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    178-
    .. أيها الشيخ الصالح ! لا لقيتَ الكرامة في السماء ، ولا حيّاك بالتسليم المسبحون والسفراء ، إذا ما أكرمت أوامر الحق ، وعظمتَ شعائره في هذه الحياة الدنيا . تُرى ما تفطن لمعنى قوله لك ولستَ يهوديا : ( وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ) ( فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية ) . قص عليك صفة قوم كلفهم الاحترام للسبت فاعتدوا ، فلعنهم . وجعل من شعار دينك الاحترام للجمعة . وجعل الاحترام إجابة الداعي ، وهجران البيع في وقت النداء ، والإنصات لسماع الخطبة ، وصلاة الجمعة.
    تراك ما تعلم أن في طي قوله ( لعناهم ) لما اعتدوا في سبتهم : وإنك إن اعتديت في جمعتك لعنتك وجعلت قلبك قاسيا . هذه ثمرة كل عدوان في أوامري وشرائعي . أنا الذي ذكرت لك عني أني خسفتُ بقرية وأخرجت نبيها بقطع من الليل متعثرا لأجل اللواط ، وخسفت بمدن شعيب لأجل التطفيف في الميزان ، وأهلكت ثمودا لعقر ناقة ، وحصبت بالحصا ، وأغرقت بالطوفان ، وأضرمت النيران ، وأخربت الديار . كل ذلك لذنوب حذرتك من أمثالها . لم أقنع بذلك حتى أتبعتُ ذلك بوعيد الآخرى .
    تبطل حكمة كتابي وتسقط حكم خطابي بمجرد الاغترار والتمني بالحكايات ومزوّرات الأخبار وتطميع المتزيين بزي العلماء وهم فجّار . الله الله في الطمع فيّ ! فالعرش وما دونه خائف من سطواتي ونقماتي ، وما تقرب المتقربون إليّ بأجلّ من الخوف والتعظيم لأوامري والانقياد لطاعتي ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) .
    من قال لك غير هذا فقد غرك ، واللهُ وُصف بأنه يعز ولا يطمع ، كلامه ينقسم إلى وعد ووعيد ، وهو الصادق فيها . فأين الطمع فيه وأفعالُه منقسمة بين إعطاء وسلب ، وبناء وهدم ، وخصب وجدب ، وجمع وتفريق ، وإغناء وفقر ؟ حتى إن النحلة في فمها الشهد ، وفي حتمها السم ، والنحلة بين شلاً موجع ، وجنىً محلى مشبع . والنسيم تارة بارد مروّح ، وتارة سموم محرّق . فما الذي من أفعاله تطمع إلا وفي طيه ما يفزع ؟ العاقل من خلّص من هذه الأمور المختلفة صفاء يصلح للقاء الله، وإخلاصا يصلح لرؤية الله ، لأنه القائل سبحانه : ( وأن سعيه سوف يرى ) ، ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ) .



    179 - فصل :

    قال حنبلي :
    المطالب مبثوثة في هذا العالم الواسعة أقطاره ، وهي بين ظاهرة مشهورة ، وخافية مستورة ، والدواعي في الطباع طالبة ، والعقول عن المطالب باحثة، والوجدان متفاوت بين واجد بعسر وتعب ، وبين مفاض عليه مطلوبه ، فوجدانه بغير تعب ولا نصب . والمراد يسيل سيلاً من جهة الممدّ، المفيض جوده عن قدرة مطلقة ، القاسم بحكمة تامة . فعطاؤه عن غنى وقدرة مطلقة ، وقسمته من خلقه بحكمة . والطالبون بحكم دواعيهم وطباعهم كالصبيان ، دأبهم طلب ما يشهّيهم فقط ، لجهلهم بما يصلح وما يفسد . وليس عطاء الحق بحسب قدرته المطلقة ، ولا بحسب جوده الفائض ، ولا بحسب دواعي الطباع الشرهة ، لكن عطاؤه بحسب حكمته القاسمة على قدر الصالح .
    فهذا أصل يجب إتقانه ، والخلق فيه طبقات ، فطبقة تتناول المطلوب بحسب دواعيها الشهوية ، إذا كانت غير مربوبة ، كالأيتام العادمين للآباء والأمهات والحواضن والدايات والأطباء والمعلمين، فهم كالسوائم بغير راع يجنبها المراتع الوخيمة ويتحرى لها المراعي السليمة ، فناشئة هؤلاء هم الهمج الرعاع ، فإذا انبسطوا في مطالبهم بحسب ما نشأوا عليه من تخلّيهم ، أدّبهم أرباب التسلّط ، فهم بين مصفوع بدِرّة المحتسب فيما صغر من الذنوب ، وبين مضروب بسياط الشُّرَط ، وبين محصود بسيف السلطان ، وذلك غلّ التخلية وعدم التربية .
    ومن رأى جنايات التشرد ، فاستيقظ لنفسه من جانب فطنته وتلمّحه ومزيّته بعقله ، ورأى فساد أحوال المتشردين فتحرّى يلقط الآداب من المتميزين بالعقول والتجارب والصنائع، فهو أبدا يستشير المشايخ ، ويتعلم من أرباب الصنائع ، ويحتمي بقول الأطباء ، ويتوقف عن الإقدام على ما يجهل مغبّته بما يستفيده من آراء الألبّاء ، فإذا سلك هذا المسلك السليم، انتقل به إلى ما هو أعلى وأوفى ، وهو تأدية الشرائع الصادرة عن الخالق الصانع ، فسلمت له العواقب ، وبلغ بذلك الرغائب ، وعلت طبقته ، فسلّم لله سبحانه أفعاله فيه من جميع ما يتشاوش ، كما انخرط في سلك أحكامه ، استطرح بالتسليم والتفويض لمختلفات أقداره ، ورضي بأقسامه ، واعتمد في مطالبه على الدعاء ، وتأدّب في الدعاء بأن لا يطلب الإجابة بنفس ما طلب وعين ما سأل ، بل يثق بالإجابة بحسب ما يصلحه ، لا ما يصلح له ، وحسب ما يُرى له ، لا بحسب ما يراه لنفسه ، ويكون على يقين بأن المنعَ لعين ما سأل إجابةٌ . فكم من منع هو عين العطاء ! ويأخذ ذلك الأولاد مع المشفقين من الآباء والمتعلمين من المعلّمين والمطبوبين ..


    180- سأل سائل في الحديث وأن عمر رضي الله عنه خرج وقد جمعهم على قارئ واحد .. فقال : نِعم البدعة ، والتي تنامون عنها خير من التي تقومون . فما مراده بذلك وصلاة الجماعة خير من صلاة الفرادى؟

    قال حنبلي :
    إنما أراد بذلك أن صلاة الليل أفضل ، وهي الناشئة بعد الهجعة ، ويحصل فيها تاليا ، والتالي بنفسه أفضل من السامع لتلاوة غيره .


    181- حادثة :

    سئلتُ عن نسوة يغزل بعضهم لبعض ، يسمونه ( نوبة وروزجار) ، وصفته أن تخرج كل واحدة قطنا تفرقه عليهن ، فتحصل مبادلة العمل.
    قلت - بالله التوفيق :
    يجوز ، لأن الأعمال لا يدخلها الربا ، فأكثر ما فيه أن يكون غزل واحدة أجود من الأخرى ، فهو ارتفاق بالأعمال . وقد جاز مثل ذلك في أعيان يدخلها الربا ، وهو قرص الخبز والعجين ..


    182- شذرة :

    قال بعض أهل العلم لقوم تضجروا بشدة الحر : ما لكم ؟ من أراد أن يأكل من نضيج هذا المطبوخ من بالغ الثمار ، صبر على حر المطبخ .


    183- لما بلغ المنصور خبر من قتله عبد الله بن علي بن الحسين ، قال :
    قاتله الله ، ألا تركههم حتى يرغبون إلينا كما كنا نرغب إليهم ، ويرون من دولتنا وملكنا ما رأينا من دولتهم وملكهم ؟ فلقد عاشوا ملوكا وماتوا شهداء


    184- شعر في العين :

    يا من تشكّى وجع العين حاشى لعينيك من الشين
    عين من الناس أصابتهما ما أسرع العين إلى العين


    185- شعر للأبي الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني :

    إذا شئتَ أن تستقرض المال منفِقا على شهوات النفس في زمن العسر
    فسل نفسك الإقراض من كنز صبرها عليك وإنظارا لى زمن اليسر
    فإن فعلتْ كنتَ الغني ون أبتْ فكل ممنوع بعدها واسع العذر


    186- حديث نبوي :

    روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
    ثلاث ضمنهن الله أن لا يفعل ، قال جل وعلا : ( إن الله لا يهدي كيد الخائنين ) ، ( إن الله لا يضيع أجر المحسنين ) ، ( لا يصلح عمل المفسدين ) .


    187- قيل لصاحب معاوية : كيف حالك ؟
    قال : كيف حال مَن صلاحه مِن فساد أمور الناس ؟


    188- شذرة :

    اللذات المعدودة لذة ساعة :
    لذة الجماع ، ولذة الراحة بعد الاستحمام ، وفرحة العرس ، وفرحة بالمولود الذكر . ولذة تعم الدهر كله : محادثة الإخوان .



    189- فصل :

    حرّم الشرع الخلوة بالأجانب من النساء و التعرض و التحرش بالإماء والزوجات في نهار رمضان ، ولم يمنع الخلة بطعام الغير المشتهى مع الجوع الذي بلغ الغاية والمنتهى ، ولا الخلوة بالماء البارد مع الحر والعطش .
    وما ذلك إلا لأن هوائج الطبع عند شهوة الجماع لا يُقنَع فيها بضابط الحظر ، حتى ينضم إليه زاجر من خارج ، وهو تخيُّر في مال أو عقوبة في بدن .
    ولذلك تيم العشاق وقالوا في هذا الشأن الأشعار ، وجُنَّ به مجنون بني عامر ولم يشاهَد ، وما سمعنا برجل تاه في القفار وبالغ في الأشعار، لشمه لرائحة كبيس او هريس او سكباج او بطيخ ، ولا نصب الله على أكل ذلك رادعاً ولا قامعاً.


    190-
    ... الايمان قول وعمل ، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. ولو كان يزول لما كان لقولنا (ينقص) معنى.
    قال تعالى : ( وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما )
    فسماهم مؤمنين مع البغي والخروج عن الامام ، وذلك معصية كبيرة.
    فالايمان اقوال واعمال ، منها الاسلام..


    191- في الازدواج :

    الازدواج فيه صلاح العالم و سبب لبقائه الى يوم القيامة و صلة بين الاقارب.وتاسيس للقرابات المحترمة ، بدليل قوله تعالى : ( فجعله نسبا و صهرا ) ، وتكثير عباد الله و امة الرسول ، وتحقيق مباهات الرسول بهم الى يوم القيامة . فيكون الاشتغال به اولى من التخلي للعبادة حكما و شرعا ، إلا ان يخاف الجور فيدعه فرارا عن المعصية ، كالخلافة والحكومة ونحوها من امور العامة . و الله سبحانه
    علق بقاء العالم الى يوم القيامة بالتناسل ، و لا نسلَ إلى ما شرع الله إلا بملك ، و لا ملك على اصل ما خلق الله تعالى من الحرية إلا بالنكاح، فيكون النكاح هو سبب بقاء العالم شرعا، لأنه غير منهي عنه شرعا .


    192- هل تجب كفارة القتل على الصبي ؟

    قال حنفي : الكفارة جزاء عن فعل ، وفعل الصبي لا يجازى عليه .
    رد حنبلي فقال : يكفيني أن الصبي من أهل الغرامة ، وكما وجبت الغرامة للآدمي وجبت لله سبحانه .
    قال الحنفي : الغرامة لمن فُوّت عليه ملكه ، والله لايقدر أحد على تفويته شيئا من أملاكه .
    رد الحنبلي : ولم لا يقع التفويت من العبد لله سبحانه ، وهو يقتل عباده المسبحين له ، ويهلك الصيود في حرم الله، ويتلف أموال الزكاة والغنائم التي هي لله. ، فان نزهت الله سبحانه عن إتلاف الآدمي وتفويته عليه ، نزهته عن معصيته له وعتوه عن أمره ..

    ( تم بحمد الله وعونه ).


    ...

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. فصول من كتاب الواضح في أصول الفقه لابن عقيل الحنبلي :
    بواسطة سين عقيل في المنتدى قسم العقيدة والتوحيد
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 03-12-2014, 01:57 PM
  2. جزء في مقالات أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي :
    بواسطة سين عقيل في المنتدى قسم العقيدة والتوحيد
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 11-30-2013, 07:36 PM
  3. كتاب (فصول في الآداب و مكارم الأخلاق المشروعة لابن عقيل الحنبلي) :
    بواسطة سين عقيل في المنتدى قسم السنة وعلومها
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 10-30-2013, 10:14 AM
  4. فوائد وفتاوى للعلامة ابن عقيل الحنبلي :
    بواسطة سين عقيل في المنتدى قسم العقيدة والتوحيد
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 10-29-2013, 12:44 PM
  5. أخبار الملاحده واللادينيين لابن الحنبلي
    بواسطة عبدالرحمن الحنبلي في المنتدى قسم الاستراحة والمقترحات والإعلانات
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 11-19-2011, 04:34 AM

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء