روائع المواضيع في ( كتاب الفنون لابن عقيل الحنبلي ):
1 - مقدمة :
أما بعد. فإن خير ما قطع به الوقت ،وشغلت به النفس ، فتقرب به إلى الرب -جلت عظمته- , طلب علم أخرج من ظلمة الجهل إلى نور الشرع، واطلع به على عاقبة محمودة يعمل لها وغائلة مذمومة يتجنب ما يوصل اليها، وليس ذلك إلا العلم الدي يصلح الاعتقاد ويخلصه من الأهواء ويصلح الأعمال ويصفيها من الأدواء.
وهما علمان:علم الاصول، ومبناه على التامل والاعتبار . وعلم الفقه، ومبناه على استخراج معاني الألفاظ الشرعية وأخذ الأحكام من المنطوق به للمسكوت عنه.
وذلك الذي شغلت به نفسي وقطعت به وقتي .فما أزال أعلق ما أستفيده من ألفاظ العلماء ومن بطون الصحائف ومن صيد الخواطر التي تنثرها المناظرات والمقابسات في مجالس العلماء ومجامع الفضلاء...طمعا في أن يعلق بي طرف من الفضل أبعد به عن الجهل، لعلي أصل الى بعض ما وصل اليه الرجال قبلي. ولو لم يكن من فائدته عاجلا إلا تنظيف الوقت عن الاشتغال برعونات الطباع التي تنقطع بها أوقات الرعاع .
وعلى الله قصد السبيل وهو حسبي ونعم الوكيل.
2-في المذاهب :
إذا كانت المذاهب تنتصر بوصلة هي الدولة والكثرة ، أو حشمة الإنعام فلا عبرة بها. إنما المذهب ما نصره دليله ، حتى إذا انكشف بوحدته ساذجا من ناصر محتشم ومال مبذول كان طاهرا بصورته في الصحة والسلامة من الدخل والاعتراضات ، كالجوهر الذي لا يحتاج الى صقالة وتزويق ، و الحسن الذي لا يحتاج الى تحسين. و نعوذ بالله من مذهب لا ينتصر إلا بوصلة. فذلك الذي اذا زال عنه ناصره أفلس الذاهب إليه من الانتصار بدليل أو وضوح تعليل. و الدَّيِّن من خلّص الدلالة من الدولة و الصّحة من النصرة بالرجال ، وقلّما يعوّل في دينه على الرجال .
3- اعتبار :
قال حنبلي له فهم و اطلاع على مناسبة المعاني :
قوله تعالى في أصحاب الجنة : (فانطلقوا و هم يتخافتون أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين ) ، و كان جوابهم من المنعم على كتمهم النعم عن المؤاساة للمحاويج قوله : ( فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون ).
سبق و الله حرمانه إياهم حرمان المساكين، و كان سبقه أيضا بذلك خفية عنهم حال منامهم لإضمارهم الحرمان و عزمهم على إخفاء النعم تركا للاحسان . ف( مكروا مكرا و مكرنا مكرا و هم لا يشعرون ) (فأصبحت كالصريم ) .
قال الخادم : فمن هاهنا طاب إظهار النعم لأرباب الحاجات إيقاظا لهم للطلب بشكر المنعم عليهم ، يشهد لذلك قوله سبحانه : (و أما السائل فلا تنهر.وأما بنعمة ربك فحدث ) ليسمع السائل فيطلب ، فتشكر نعمة ربك بالعطاء ، فانه لا يجوز ان يحمل إلا على هذا الوجه . لأن الحديث بالنعمة بين المسلوبين من غير مؤاساة بها وفيها ، فيها تعريضا لإسخاطهم على المنعم ، حيث حرمهم ما اعطاه غيرهم .
4-كلام الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لأصحابه :
قال حنبلي :
إذا تلمح العاقل كلام الرسول ( صلى الله عليه وسلم) لأصحابه علم أنه أعطى كل واحد على مقداره و ما يصلح به و له . نحو قوله لبلال : أنفق بلال و لا تخش من ذي العرش إقلالا. و قوله لابي بكر : ما تركت لاهلك ؟ قال : الله و رسوله. و قال لابي لبابة لما انخلع من ماله: يجزيك من ذلك الثلث الثلث و الثلث كثير، لئن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس.
فلحظ حال كل واحد منهم و رضي منهم بما علمه من حاله.
فإذا كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يكلم الناس على قدر أحوالهم نظرا إلى مصالحهم ، فمن يعلم ان الاقلال يسخطه فيفسد دينه يقنع منه بترك بعض ماله، أو ينهاه عن إخراج جميع ماله كيلا يعود ذلك بوباله.
فما ظنك بقسم الباري الارزاق بين خلقه بحسب ما علم من أحوالهم . وقد نص على ذلك بقوله : (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض و لكن ينزل بقدرما يشاء). ثم لم يقتصر على إطلاق المشيئة حتى عقب ذلك بقوله : ( إنه بعباده خبير بصير). ووصفه لنفسه بالبصارة والخبرة يعطي أن القسمة بحسب ما علمه من الاصلح توسعة او تقتيرا او توسطا. و أمر بالانفاق على قدر الاصلح . قال سبحانه : ( ولا تجعل يدك مغلولة الى عنقك و لا تبسطها كل البسط ) . ثم بين علة النهي فقال : ( فتقعد ملوما محسورا ) . فالملامة على التقتير كالملامة على التبذير. لان التقتير يحصل به منع الحقوق. و التبذير يورث الاسف و الحسرة و التسخط على الرازق. و ذلك بين تفسيق و تكفير.
5-الإفراط في الإحتياط تضييع :
الافراط في الاحتياط تضييع في الحقيقة ، عقلا و شرعا و عادة :
أما في العقل ، فإن الانسان إذا دقق في تحري الاحتياط كثر شكه واستشعاره في الناس ففاتته الارباح في التجارات و النصرة في الحروب. لأن الإقدام على الذمم و بيع النسيئة والاسفار أسباب لمصادفة الارباح الجمة. ومن تجعّد واستشعر الجنايات والغرق في البحر و قطع الطريق على الظهْر قلت نهضاته فوقفت تجاراته ففاتته الاباح. ومن استشعر في الحرب من قلة العدو كمينا وراء الصف وأعدادا ممدة للعدو في الحرب فانه باستشعاره اختلاس الفرصة في النكاية في العدو مع القلة فصار كمينا عليه من نفسه.
وأما في الفقه ، فمن أودع وديعة في صندوق فقفله بقفلين، فقال أحد أصحاب الشافعي : يضمنه بالسرق ، لانه لما أكد الاحراز أوهم نفاسة المحرز وعظم قيمته ، لأن اللص يعلم أنه لا يُزاد الاحراز إلا على الأنفَس فيكون إغراء له بالاخذ من القافل بزيادة قفل.
وأما في العادة والحس فإن الحزّام إذا شد يده على بعض الحزمات الاخيرة استرخت التي قبلها لأن المحزوم يلطف.
وقد قالت العامة : شدة الشد يُرخي ، وهذا كلام سخيف اللفظ خطير المعنى أتيتُ أنا به في صورة حسنة ، و هي قولي : الافراط في الاحتياط تضييع.
و ذلك أن الوصية للمحارب التحرز من خصمه و بيان فضله في الحرب يوجب إيقاظا له ، لكن إذا أكثر أوجب جورا في الطبع. فإن النفس كما أنها قد تُغلب بترك التحرز قد تقدم مع الجهالة بحال الخصم و تجبن عند التعريف.
و لو لم تعلم ذلك حكماء العرب لما انتسبت عند اللقاء والبراز ، و لا شك انها لم تقصد الا إضعاف قلوب المبارزين . فإن الانسان إذا عرف الصور المبارزة استولى عليه الانخذال والاسترسال واستشعر الهزيمة لما يلحظ من أيام المنتسب ووقعاته و ما تقدم له من سوابق الغلبة.
و من ذلك ما يفعله بعض العقلاء من تهوين بعض الامور فإنما يقصدون الوسط لا الغاية و الافراط ، كتأخرهم لقفز النهر فانه كما يتهيئا للقفز من جانب النهر حتى يفسح وراءه للتحمي ، كذلك لا ينبغي أن يبعد حتى يفزع نفسه و يقطع قلبه عن الاقدام. لأن الانسان كما أنه يحتاج أن يتهيب ليحترز ، يحتاج أن لا يفرط فينقطع.
وتخليص الاعتدال و المقاومة طب العقل. وما أصعب هذا الامر عند من خبر تغالب الاشياء و تقاومها ، و انتهى كل شيء الى ضده.
و ما أحسن ما بين سبحانه سلوك الوسط بقوله ;( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا و لم يقتروا و كان بين ذلك قواما). فهو الذي ركب في الطباع الغالب. و جعل بينهما واسطة تنهى عن الإسراف و الإضاعة و البخل والإمساك ، و هو الشرع المؤدِّب و العقل المجرِّب ، سبحانه وتعالى .
و من فهم هذا الفصل من كلام النبي (صلى الله عليه وسلم ) أيضا كما فهمه من الآية علم أن الأدلة متناصرة ، قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( صادق صديقك هونا ما عسى أن يكون عدوك يوما ما. وعاد عدوك هونا ما عسى ان يكون صديقك يوما ما).
6-أيهما أفضل : الدعة و الراحة أم العمل والحركة ؟ :
قال عالم : ملاك الأمر الرفاهية و الدعة و الراحة ، إذ ليس في الوجود ما يسوي التعب ومداراة الخلق.
وقال آخر : ليس العيش النطقي الخارج عن طباع التراب و الجمادية إلا المخالطة و المعالجة ، والراحة كسب العطلة . وما خُلق الانسان على هذه الصفات الشريفة والاعضاء المهيئة للأعمال النفيسة للتعطل ، فتعطيل الله سبحانه كتعطيل نعمه كلها من الأموال و الحيوان و النبات ، وكتعطيل القلوب عن الأفكار و الاعتبار و التأمل .. ومعلوم أن الله سبحانه ما مدح إلا على الأعمال العائدة بصلاح الأديان و الأحوال . ولو أراد إجمام الناس عن العمل لتولى لهم الجزئيات ، كما تولى لهم الكليات . وكما أنه أراد إظهار حكمته في آثار صنعته ، أراد أن يظهر ما طوى من الجواهر في خليقته .
انظر كم بين سيف في غمده ، وفرس في قيده ، و لسان في فمه ، وقلم في دواته ، وماء في مصنعه ، وبين سيف في يد كميّ يضرب به الهام حماية لجانبه ، ونصرة لعشيرته ، وفرسِ يجول بين الصفين كراً وفراَ بفارس كاشف لكربة قومه ، أو جالبٍ لنفع أهله ، معظما لحرمة الله ، ناصرا لدعوة الله ، ولسانٍ ناطق بحق لا يكشفه إلا بيانه ، أو بمدح ممدوح يهذّبه كرماً أو ذاماً به من ارتكب مفسدة يكسره عنها ذمه أو وعيده، وقلم بخط زجراَ عن فساد ، ويصلح بين طائفتين بما يجريه من لطافة وعذوبة تخرج عن الضمائر الصحيحة في تخاطيط المداد .
فإذا كانت الأعضاء و الأدوات إنما يتضح شرفها بالأفعال ، فكيف بشرف هذا الحيوان الفاضل بالتعطل عن الأعمال ؟
وجملة هذا وتفصيله ، أن الباري سمّى العاطل عبثاً و باطلاً . وذرأ لكل خلق حكمة ليخرجه بها عن حكم التعطل عن الفائدة .
والله إن البحر إذا ركد عُد جوبة . والريح لمّا خلت من لقاح قيل فيها العقيم . والجنة وُصفت بما وصفت ، ثم حُملت حال عطلتها عن التنعم بها بأن قيل أُعدّت فإعدادها تجميلها . وخُلقت الملائكة خلقة الاسقلال عن الأعمال التي يحتاج إليها الآدميون من التسكّع للقوام واللذات و الحاجات . رُبطوا بأعمال بين حمَلة العرش ، وقبض لأرواح الخلق ، وكيْل لماء السحاب ، وتسليطاً على بلاد مسخوطة بأنواع العذاب ، وحفظة لأعمال المكلفين ، وكتَبة للأقدار ، وهابطين بالوحي ، وخزنة للجنان ، وزبانية للنيران .
ولا يحملك حب الراحة لأجل رذيلة الكسل على تفضيل التعطل على الأكساب و العمل ، فإنك لا تجد لذلك شبهة ، فضلاً عن حجة.
اعترض الآخر و قال : والله ما الأعمال في العمال إلا امتهان و ابتذال. وما العامل حال عمله أو استعماله إلا بمثابة هذه الآلات من الرحى و الجاون والمنجل و السيف . والإجمام للأنفس عن الابتذال أفضل .
وإنما فُضلت الصناعة في حق القديم سبحانه لأنه سبحانه فاعل لا ينفعل ولا يبتذل ، والى ذلك أشار سبحانه بقوله ( وما مسّنا من لغوب ) . فأما من كانت الأعمال تنهكه والأفعال تحلله و تهدمه فأيّ فضل له في الأعمال ؟ وإنما المنافع لغيره به . ولذلك لمّا كانت الجنة أكمل ، قال سبحانه : ( لا يمسهم فيها نصب ) . وإنما مُدحت الاعمال لمكان الحاجات ، و الغناء أفضل . ولذلك جعل الباري الحاجة وصمة دلّت على الخلق . قال سبحانه في حق عيسى ومريم : ( كانا يأكلان الطعام). ومدح نفسه بالغناء فقال : ( سبحانهُ هو الغنيّ ).
قال العالم المفضّل للأعمال على البطالات و الراحات :
دعنا من ذكر الغني ، فإن الغناء تمام وكمال . لكن كلامنا في مخلوق على الحاجة ، تمّم نفسه بطلب الغناء . وليس العجب من غني وُجِب له وصف الغناء ، العجب من مخلوق على الحاجة وهو يكتسب الغناء بأفعاله ويسدّ خلله بأعماله و احتياله . فبمثل هذه الأعمال يشرَّف الرجال. وهل يكون أحسن ممن خُلق ناقصا فتمّم نفسه ، ومحتاجا فأغناها؟ وهل أحال الباري المحاويج إلا على الأغنياء ؟ فإذا صان الفقير نفسه عن الحوالة على غيره ، واستعمل جوهره الذي أودعه الله فيه في استغناءه عن المحال عليه ، كان أحسن حالا وأكثر جمالا ممن قنع لنفسه بقبول الحوالة ، وكونه من جملة من تكون يده السفلى ، ويد المعطي هي العليا .
7-شعر لعلي كرم الله وجهه :
قال علي كرم الله وجهه :
اخشوشن الناس علي جدا
إلا أداريهم بقيت فردا
و ما أرى لي من أناس بدا
8-تكشّف الخلق :
قال حنبلي :
يعزّ عليّ -والله - بأقوام التزموا لله سبحانه ما أسقطه عنهم ، وفتحوا على نفوسهم طرقا سدّها عنهم ، وأبوابا أغلقها دونهم . والشريعة من ذلك مملوءة ، وهم عنها غفّل :
الرجل يقول : (زنيتُ) وصاحب الشرع يلتفت عنه ، ولمّا كلّمه عرض له بالرجوع عن التصميم : لعلك نظرتَ ، وقد سمعتني أقول ، العينان تزنيان ، إنك خبل ، استنكهوه . كل ذلك دفع عن تحقيق الإقرار ، وهرب من وقع الأحجار، والحق لله قد ثبت ، قال : ( هلا تركوه ؟ ) . فما زال يدفع الإقرار بجهده ، وهو المستناب لله في استيفاء حقه . ( رميت الراعي بعظم الجمل بعد الهرب ) والراعي ظنَّ أنه مستوف لله حقه ، والقوم يسألون الراعي عن ورود النجاسات عليه والنبي (صلى الله عليه وسلم ) يقول : لا تعلمهم . ويقول للمقِر : ( ما أخالك سرقت؟ ) . مع كون السرقة تتضمن حقيْن : حق الله ، وحق الآدمي . أسرقتَ ؟ قلْ : ( لا تعافوا الحدود فيما بينكم ) . هلا سترته بثوبك ..
عمر بن الخطاب يقول في ماء الميزاب ، حيث سأل عنه الأصحاب : يا صاحب الميزاب لا تعلمهم .
الأصحاب يقولون لمن ارتقى للآذان فقال أرى حاجب الشمس . فيقال له: بغيناك داعيا لا راعيا .
النبي (صلى الله عليه وسلم ) يأمر المستنجئ بكف من الماء على المئزر بعد الاستنجاء ليدفع بلل الماء المحسوس ، توهّم قطر البول المجوّز ، بل المعهود .
فالشرع يتغاضى عن حقوقه . وأنتم تتبعون الناس تتبع أصحاب الأخبار. قد كفى المكلّف ما وكّل به من الرقيب و العتيد . ما قنعتم أنتم بما وضع، وقد رأيتم تغاضيه عن حقوقه حتى جعلتم نفوسكم حفظة له .
تُراكم لا تخافون أن يفضحكم في قعر بيوتكم على أقبح ذنوبكم ؟
صاحب الحق يعفو ، وأنت بسوء طبعك تكشف و تجفو . وصاحب الشرع يقول على علم منه ببواطن الأحوال : من أتى من هذه القاذورات شيئا ، فليستتر بستر الله .
تُراه يريد فليستتر عن الله بستره ، أو عنكم ؟؟؟
فإذا استتر الجاني عنك امتثالا لأمري ، وكشفت أنت ، كانت جريمتك في الكشف على أخيك المسلم أكبر من جريمته ، حيث امتثل بسترها أمر الشرع .
يا جاهل ! أنا صاحب الحق و قد سترت . فيا فضولي ! فما بالك فيما ليس لك ؟ بحثت وكشفت . احذر المقابلة مني بكشفك ، وأنت بين مصدّق ومكذّب فإن مقابلتي كشفك بحيث لا تُقبَل معذرتك ولا يُصَدّق جحدك . نعوذ بالله من التعبد بالجهل . أنت تعتقد أنك منكِر وأنت غير المنكِر ، حيث تطفّلت بما لم تكلّفه بل بما عنه لا توقّرني في الخلوة وتتعاصب لي على غيرك مع توقيه منك بأكثف ستر .
9-أسماء الله عز و جلّ :
ما أكثر المدّعين في الأسماء ، والمتنطعين فيها ، ويلهجون بها ويقولون ( الاسم هو هو ) أو (غيره) أو ( صفة له ) ، ولا يحقّقون القول.
وتحقيق الكلام في هذا الباب أنهم إن كانوا يعنون بالأسماء قول القائل ، فما أبعد هذا ! وهل عاقل يقول إن القول هو القائل؟ وقولنا الله هو الذات الأزلية ، الخالق ، الباري ..وإنما القول التسمية . و القول لقائله ، فإن كان كلام الله ، كان قديما ، بما ثبت من قدم كلامه . وإن كان الاسم كلام آدمي ، مثل تسمية المسميات ، كان محدثا ، من حيث هي كلام محدث . وإنما يتكلم الناس في الاسم هل هو المسمّى ، ويخلطون التسمية بالاسم المسمّى .
فنقول : الأسماء ، من حيث كونها كلاما لله سبحانه سمّى بها نفسه ، صفة لله ، من حيث كونها كلامه . ثم هي منفسمة في معانيها التي تحتها على ثلاثة أقسام :
منها ما يعبَّر به عن الذات : كذات ، وشيء ، وموجود ..فهذا معناه الذات نفسها . وهذا مثل قولهم : الحد هو المحدود ، فقولنا العلم هو معرفة المعلوم على ماهو به ، فمعرفة المعلوم على ماهو به هي العلم . فلا يمكن أن يدّعى في قولنا ذات ، وشيء ، وموجود ، أنه صفة لا غير، لأن من قال ( الاسم صفة للمسمى ) ، لو قال ( الذات صفة للذات ) ، كان قائلا إن الشيء صفة لنفسه ، فالجميع لا يصح . لم يبق إلا أن الاسم الراجع أي نفس الشيء هو الشيء ، كما أن حد الشيء هو الشيء ، و المحدود هو الحد . ولهذا حدّوا الحد بأنه قول وجيز ينبئ عن حقيقة الشيء . فهذا حكم الاسم الراجع الى الذات .
فأما القسم الثاني من الأسماء : فإسم دال على صفة ومشتق منها ، كعالم ، وقادر ، وحي ، مشتق من علم ، وقدرة ، وحياة ..أو من حال هو سبحانه عليها ، على قول من يثبت الأوصاف و الأحوال . فهذا اسم صفة ، إلا أن (عالم) لا يقال هو نفس العلم ، بخلاف ما قلنا في الأول، لأن العالم اسم لمن وصفه العلم ، أو من ثبت كونه عالما . فهو اسم لحال هو عليها أو صفة هو عليها . فهذا يحسن أن يقال اسم صفة للمسمّى .
وأما القسم الثالث من الأسماء : فهو المشتق من فعل ، كخالق ، ورازق ..فهذا مشتق من فعل هو الخلق و الرزق ..والى هذا أشار أحمد رضي الله عنه بقوله ( الله هو الله ) ، يخص هذا الاسم - والله أعلم - لكونه اسما لا مشتقا من فعل ولا من صفة ، بل هو اسم خاص .
10 - فصل في قوله تعالى : ( لقد خلقنا لإنسان في كبد ) :
قال حنبلي :
نقول جملة ، ثم نشرح ذلك تفصيلا يكشف عن ذلك .
فالجملة أنه مخلوق في مكابدة الخروج من الأم الى الفساح ، ثم مكابدة اجتذاب اللبن من البدن ، ثم مكابدة الرضاع و التربية ، ثم مكابدة الأعراض و الأمراض ، ثم مكابدة اللآداب ، وبعد ذلك مكابدة المعاش ..
فبينما تراه في صورة بهيمة يحرث ، ثم يسني و يسدف ، ثم يسمّد و يسقي ، ثم يراعي و ينظر ، ثم يحصد ، ثم يدوس ، ثم يذري و ينقّي ، ثم يطحن ، ثم يعجن ، ثم يخبز ..فلو رآه من لا يعرف الغرض الأقصى لأدهشه ذلك ، وظن أنه من الأغراض الفاخرة ، فإذا به لأكلة غايتها معاجة خروج الأذى وقد سبقها تشكّله وتصوّره بصورة أنواع من البهائم، تارة بصورة بقرة ، وتارة بصورة حمار ، وتارة بصورة سبع ، وتارة بصورة طائر ..وخروجه في أبواب من الحيل و ضروب من الخداع والمصاولة و الذلّ و الضراعة . فهذا نوع من المكابدة في نوع من الأغراض ، وهو الأكل .
فكيف بمقاساة الخلق : بين حاسد و باغض ، وغاصب و ناهب ، ومواثب ومواشي ، وكاذب وخادع ، والبهيم : بين لاسع و ناهش ، ورافس و ناطح ، ومضار الأغدية : بين مسهّل و عاصم وقابض ، ومحمّي ومبرّد ، ومرطّب و مجفّف ، ومورّم ومدقّق ، والأزمنة : بين حارّ و بارد ومعتدل ؟
فهذا مبسوط الكَبَد .
ومجموعه أنها حياة منغّصة ، مشوبة بالأذايا ، ثم إنها منقطعة .
فالعاقل مَن طلب من الله العافية الصافية الدائمة . فلا يغسل هذا الكَبَد ، إلا ذلك العيش الدائم على الأبد . وما هذا إلا كما قال الشاعر :
كمَا قال الحمَام لِقوس رامٍ ...............لقد جمَّعتَ مِن شتّى لأمري
فإنّ الصائد جمّع بين خشب وعصب وعظم وغراً وتُوز ووتر ، والغرض كله صيد حمامة ..
وكما قدّروا من القول أن لو كانت الوحوش قائلة :
(إنّ هذا المَلك الواسع المُلك ، الكثير العساكر ، الشديد البطش ، جمع عساكره ، وأخرج زينته ، وبرّز أكلبه وفهوده وصقوره وبزاته ، وبثّ خيْله و رَجْله ، وملأ الصحاري و الفضاء ، وترك ما وراءه من النعيم و القصور وكثرة الأموال ولذيذ الأطعمة والأغذية وقَصَدَنا ، ونحن حيوان لا نؤذي أحدا ، لا مخلب ولا ظفر ولا ناب ، بل مصوّرون بصور الانعام السائمة ، ولا نضايق في طعام ولا شراب ، نرعى نبات البرّ ونشرب ماء الغدران المجتمع من القطر ..فهل الخروج إلينا بالأسلحة ، وتخريش الجوارح و السباع إلا عين البغي و مض الظلم ؟ )
فإذا عمل أمثال هذه التوبيخات على ألسنة البهائم ، فانقطع العذر ، فكيف بتوبيخات القرآن في العدول عن الأمر الإلهي ؟
وعلى هذا كلّ تصاريفكم ، معاشر الناطقين ، خارجة عن نمط الشرع ومقتضى العقول ، و البهيم معكم متعب لسوء تصاريفكم فيه . ثم لا تقنعون مع هذه التصاريف القذرة و الحياة المشوبة المنغّصة حتى تستكثرون من الأثقال المزيدة في الأذايا والمكثرة من البلايا .
11- ارفق يا هذا ، فالاستقصاء فرقة :
من الظلم الصرف و البغي البحت مطالبتك صفو الود من ممزوج الخلق. إن علمت أن في العالم من هو صرف ، فاطلب منه الصرف . هذه الأطعمة و الأشربة ، حلوها و حامضها ومرّها ، لا يعطيك ما يشهيك أو يشفيك ، إلا ويكسبك ما يمرضك أو يوهنك ، لِما في مطاوي اللذة من الطبع الأصلي و المزج العنصري . فما بالك تطلب من يحلو لك شهيّ مودّته وطيب أنسه و دعة رضاه ، ولا يُمِرّك سورة غضبه و غائلة ملله و قوارص حدّه وفورة سخطه ؟
تريد ما في مزاجه نار و لا يحرق ، وما فيه ماء لا يلين ، و ما فيه طين لا يثقل ، وما فيه هواء لا يبرد .
بلى - والله - إن أهاجته النار و حرّكته السخونة برّده الهواء ، و إن برّده الهواء سخّنته النار ، وإن خفّ بالروح ثَقُل بالجسد ، وإن عدل بالعقل جار بالهوى ، وإن صفا بالجوهر تكدّر بالمدر ، وإن تواضع بالطين تكبّر بالنار .
وليس خيار الناس بأكثر من الأدوية ، ولا شرارهم بأدون من السموم ، ولا متوسّطهم بخارج عن طبع الأغذية . فما خلص من مركّبات النبات و الحيوانات دواء و شفاء أعقب علّة وداء . فالمقبض من الحبوب و النبات ، إن قطع الذرب ، أورث القولَنْج . والمسهل من الحموضات المحتدّة ، إن دفع وسهّل ، أعقب السحوج . و الحار والرطب ، إن أزال التقليص و البنج ، أورث الإرخاء و التمدّد . فإذا كانت الأدوية كذا ، فكيف بالسموم ؟
وأما المتوسط من الأغذية ، فهي من معفّن أو مبرّد أو مسخّن ..فإذا كانت الأغذية كذا ، وهي القوت ، ومنها البناء مع المزج في أصل الخلقة ، فما وجه مطالبتنا بالصفو ؟
وهذا الخالق الكريم المنزّه الذات عن التركيب و الأخلاط ، لأنه واحد ، لكن لا وصلة بيننا وبين ذاته ، وإنما انتفاعنا بأفعاله ، وما خلصت لنا أفعاله ، بينا يغني يُفقر ، وبينا يعافي يُمرض ، وبينا يضحِك يُبكي ، وبينا يحيي .. يميت ، الى أمثال ذلك من أفعاله المختلفة في العالم لسنا منها على ثابت و لا لابث . في زمان الإنشاء في كل يوم تجدّد وصفاً ، وفي أيام الكبر و علو السن في كل يوم تهدّم ساقاً وتحيّل نعتاً وتغيّر وصفاً ..فهذا حكم الصانع الممدّ ، فكيف بالمصنوع المركَّب المستمد ؟
ثم دَع الأغيار وتعالَ الى نفسك . بينما تجود عليها بدراهمك و دينارك تشهّيا وإلذاذا ، وتطعمها الشهي ، وتسمعها الأصوات والنغم ، وتمرحها في سوابغ النعم ، حتى تبخل عليها بالحبة وتكسرها بالبخل والشح عن أيسر شهوة وكأنك بهذه الحال الطارئة غيرٌ لتلك الأفعال الأولى .
ومن كان مع نفسه كذا ، أيحسن أن يطالب غيره له بما لا يجده من نفسه ولا ربّه ولا أبيه ولا إبنه ؟ وأنى لك أن تأخذ صفو الناس عفواً عن كدرهم وتقنع منهم بالمجاملة غير مطالب بصدق ودّهم ، ثم أُنسب التغيير إليك فإن المَلل علة معلومة وطبيعة معروفة .
فإذا وجدت نفسك لا تسمح بعد المسامحة ، ولا تقنع بالمجاملة ، بل تقتضي المخالصة ، فاعلم أن ملَلاً طرأ فاستقصيت بعد أن كنت مسامحاً في ابتداء ودّك . ومن لم يثبت هو مع نفسه على حال ، عذر غيره في تقلّب الأحوال .
وأول الفوائد لك في هذا قلّة المبالاة و المناقشة ، فإنها تنغّص العيش و تمرّه . واعلم أن العيش كل العيش إدراج المودات درجا ، والنغصة كل النغصة البحث و الاستقصاء . فما بقي مع الاستقصاء صديق قطّ .
وما لم تجده من غيرك ، فلا تتشاغل بالتعجب من عدمه حتى تجده من نفسك . فإن لم تجد خلقا تحمده في غيرك ، ووجدت نفسك تطلبه ، فاكتسبه لنفسك : فما أحسن أن تكون الفضائل لك !
فإن عجزت نفسك عن تحصيل ذلك ، فكن عاذرا لمن عدمتها فيه و منه. لأنك تجده قد أجهد نفسه في طلبها ، فعَجَز كعجزك .
واعلم أن المطالب أقل من الطلب . ففي نفوس العقلاء أمور تعتلج واقتضاءات تختلج ، لا يقفون منها على طائل ، و لا يجدون مع توفّر حيلهم وجوْدة آرائهم سبيلا . فكن أسوتهم ، وتسلّ بهم . فما منهم إلا من رام الحياة الدائمة فما حظي ، ورام دوام الوصلة بأحباله فما مُليّ ، وأحب استقامة الأحوال و الصحة والاعتدال فما أُعطي ، فكن واحدا منهم أو كن جانبا عنهم . قال بعض المشايخ : ارفق يا هذا ، فالاستقصاء فرقة .
12-مذاكرة في : هل الجسد بعد الموت منتفع أو مستضرّ ؟
قال بعض القوم :
هو بحكم ما صار جزءاً له ، وهي الأرض . فما يتسلّط على الأرض من إنبات أو يبس أو خصب أو جدب تسلّطَ عليه . وما انتفى عن الأرض ، فهو مُنتفٍ عنه . هذا بحكم البرهان العقلي . حيث وجدنا ما بان من الأطراف حال الحياة مع ما بقي من الجملة ، كحجر بالإضافة الى الإنسان . فلا الإنسان يحس بألم إن ضُرب الحجر أو أُحرق ، ولا بِلذّة إن قرب من الحجر ما يوجب لذة للحيّ . فالعضو البائن مع بقاء الجملة أقرب من الروح الى الجسد مع خروجها من الجثة .
وقال آخر :
ولِمَ نحكم بهذا و لا نسلّم الى الله سبحانه القدرة على إيلامه ، وإن بانت عنه الروح ، ألماً يخصّه ؟
قال :
اعتقاد هذا جهل ، و الجهل يبعد عن الله ، و التقرب الى الله بالحكمة .
وإن جاز أن أعتقد ذلك ، فتحتُ على نفسي تجويز إحساس الأرض . وهل الميّت إلا أرض؟ وهل الأرض إلا أجساد الأموات ؟ فما لنا واعتقاد الجهالات و المحالات ؟
قال له قائل :
الحكيم قد أيّد صادقا بالاعجاز . فقال في القبرين (إنهما يعذبان و ما يعذبان بكبيرة) فتصديقي للصادق في خبره أولى بي من تصديقك في حدسك أو استدلالك .
قال :
صدق الصادق . ولعلّه أراد الحقيقة ، ولعلّه أراد المجاز . فالقول يدخله المجاز ، و العقول لا يدخل عليها المحال . فلعلّه أراد أنهما يعذبان (سيعذبان ) كقوله : ( إنك ميّت ) ، وقوله : ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا ) ومعلوم أن ما أكلوه أطاييب الطعام دون النار ، لكنه لمّا كان مآله الى النار سمّاه نارا .
قال له المعترض :
في الحديث ما ينفي هذا ، لأنه أخذ جريدة فوضعها في القبر ، وقال : سألت الله أن يخفف عنهما العذاب حتى تيبس الجريدة .
قال :
إنما تكلّمتَ مسامحة ، وإلا فنحن في أصول وأدلتها أدلة العقول . فلا نترك الأدلة القاطعة لأخبار مظنونة .
ثم عادوا الى المنافرة بالمعقولات .
فقال الناصر للسّنّة :
وإذا كان الباري يوصل الألام الى المزدوجات و المركّبات فما المانع من إيصالها الى الآحاد و المفردات ؟
قال له المستدل بالمعقولات :
ما قولك هذا إلا كقول من قال ( إذا كان الزامر ينفخ في الزمر فيخرج ذلك الصوت الملهي المشهي ، فلِمَ لا يزمر الزمر بنفسه ؟ ) ولا يتحدد صوت المزمار بنفخ الإنسان بنفسه من غير زمر . وإذا كان لكل حقيقة بنية مخصوصة ، فلا يجوز تصور وجود مانع إخلال البنية .
وهذا يشير الى معنى ، وذلك أنا كما نحرص على إثبات كونه سبحانه قادراً ، نحن أحرص على إثباته حكيما . ولو كانت الآلام و اللذات و الأصوات وغير ذلك مما تتصور من غير هذه الأبنية المخصوصة ، ثم بناها الباري على هذه الصورة ، لكان فعله للصورة عبثاً ، إذ كان المراد يستقل دونها ، وليس العبث إلا ما لم يقتض وجوده حكمة .
قال له المجيب عن شبهة :
قد يفعل الباري ما يستقل الفعل دونه ، ولا يكون عبثاً ، لأنه لا يخلو من حكمة ، إما في الفعل ، أو مصلحةً للمكلفين ، هذا بمثابة خلقه للسماء بغير عمد بحسب القدرة ، ودحو الأرض بأوتاد هي الجبال بيان الحكمة . ولهذا قال : ( أن تميدَ بكم ) وقد قال : ( يمسك السماوات و الأرض أن تزولا ) .
13-تنافر الناس في مقادير الإكرام :
تذاكرنا في بعض المجالس من أين يجيء تنافر الناس في مقادير الإكرام من الهشاشة و القيام ، الى ما شاكل ذلك عند التلاقي .. وما ينبوع التنافس في المجالس و التشاجر في المناصب عند الاجتماع ..
قال عالم : أقول و بالله التوفيق لإصابة الغرض :
إن الناس متفاوتون في الأقدار بحسب أسباب الأقدار ، وكل منهم يرى السبب الذي يمتّ به بعين التعظيم . كالنسيب يرى نسبه فيرفعه في عين نفسه فيمتلئ به ، حتى إنه يرى انحطاط كل مَن دونه ،سيما إن أعانه على ذلك توحّده بالنسب في محلته أو دبه الذي يسكنه ، فيُخاطب بالشريف و السيد ، ويتقاصر له مَن دونه في نسبه تقاصرا يوجبهم انحطاط رتبهم عن نسبه ، فيألف الاكرام من أولئك الأقوام ، فيخرج الى من يرى نفسه بنوع آخر من الفضل كعالم بين جهّال يدأب نفسه في العلوم ويجهدها في تخليص الفهوم ، فيتقاصر عنه جيرته وأهل محلته و عشيرته تقاصر الجهال للعالم ، فيرى لنفسه حقا على من جهل علمه ،وإن كان نسيبا فيخرج الى ذلك النسيب ، وآخر ينقطع إلى عبادة ربه ، ويتصور بإدمان الخلوة أن لا رتبة تستحق الامرام دون رتبته ، ويُخلّ بإدمان آداب المخالطة فيخرج على ما به ، وآخر يتميز بنوع حدة . وغني بين فقراء ربما واساهم فأكرموه لمواساته أو للطمع فيه ، فيضرعون له ضرع الطامعين للمطموع فيه ، فيخرج على ما به ..حتى إذا جمع هؤلاء مجلس ترفّع كل واحد منهم بامتلائه بخصيصته فيقع التنافر بينهم.
والمُعدّل لهذه الأحوال هو العقل الذي يحصل به الانصاف لمن أنصف ، أو المسامحة لمن قصّر في الحق و طفّف . فالعاقل يزن فسه بزنتها ، فإن اجتمع به منصف رضي بما ظهر من إنصافه ، فقد زال الخلاف بينهما . وإن اجتمع به متحيّف متعجرف جاهل بمقدار غيره لامتلائه برؤية نفسه ، ألان له هذا العاقل جانبه و سامحه ، فترك الاقتضاء بحق نفسه ، ووفّى ذلك الجاهل حقه وزاده ما يرضيه به من الإكرام .
فالعقل سكّان كل شِغاب و فسادِ اعتدال .
وأرى العاقل إن كان ذا سلطان ويُدان ، لا يسامح ، بخلاف الأمثال ممن لا سلطان له . وإنما فرّقتُ بين السلطان المتسلّط وبين المماثل لأن المماثل استحببنا له التواضع و المسامحة ، كيلا يقع الخلاف وينشأ الشغب و الفساد . فأما السلطان ، فإنه إذا قوّم المتأوّد ، وحقق على المتعجرف ، وردّ كل إنسان عن استطالته الى حدّه ورتبته ، أُمنت غوائل تحقيقه على رعاياه لقوّته و تسلّطه .
فكما أنه يحقق مقادير الرجال ، يقوّم من تعدى عند تحقيق هذه الحال ، وينتفع بتقويمه جماعة المستطيلين والمستطال عليهم . لأن المستطيل بجهالته لا يخلو من مغالب له ومصاول . وصول السلطان أحب إلينا من صول الرعايا ، لأن صول السلطان يمنع المنافرة بين الرعايا ، وصول بعضهم على بعض يفضي الى التهارج ..
وما أقبح بالعاقل أن يُحوَج الى تقويم السلطان ، لأنه يفضي الى دوام تأديبه . لأن حال الطفولة تحت أدب الوالدين مقوَّم بتقويمهما ، وبعد أن شب وترعرع صار تحت حُجر المعلم والأستاذ ، فإذا كبر وشاب صار تحت حُجر السلطان ، لا يستغني عن تقويمه ..فمتى يخرج هذا عن حجر الرجال ؟ ومن كان كذا لا يكون راعيا لنفسه قط ، بل غيره يرعاه فهذا كالسوائم . فما الذي أفاده العقل ؟ وما الذي هذّب منه الشرع ؟
نعوذ بالله من خذلان يحمل على ترك الانحياش لله ، و الكون تحت تصريفه و تأديبه ، والرضا بالكون تحت حجر المخلوقين و الأمثال !
14- العبودية :
-قيل : العبودية ترك الاختيار و ملازمة الافتقار.
قال حنبلي :
نجز كلامهم. أراد : ترك الاختيار مع الله او على الله ، فإنه الوبال. لأن مثار هذه الرذيلة رؤية النفس و الجهل بحكمة الحكيم. و ملازمة الافتقار معناه أن لا يفقد من ناب الطلب رهبة ورغبة . و متى لم يكن كذا سُلبت مواد الخير.
15-الخوف من الله:
قال حنبلي :
من أدب الخوف من الله أن تخاف من عدله فيك. فان خفت الحيف فبئس الخوف. و إياك أن تخاف مما وراء العدل فان ذلك تجوير لله .و لهذا لو فصح بذلك فقال : ( ما أخاف إلا مما وراء عدل الله ) فكانه يقول : ( أني أخاف الحيف ). و الخوف من غير عدله سبحانه هو سوء الظن به.
16 -حِكم
مبدأ القطيعة التجنّي.
الطمأنينة قبل التجربة ضد الحزم .
أشرف الغنى ترك المنى.
التدبير قبل العمل يؤمن الندامة.
الجزع من إخوان الزمان .
الخوف حارس الاعراض.
قد خاطر من استغنى برأيه.
الصبر جُنة الفاقة.
المودة قرابة مستفادة.
17-سأل سائل عن قوله تعالى : ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه و من خلفه رصدا ):
قال المفضل :
المراد به أن ملائكة كانت تنزل مع جبريل تحفظ ما يورده من الوحي الى محمد صلى الله عليه وسلم عن استراق الجن له و حمله الى كفاتهم .
( ليعلم ان قد ابلغوا رسالات ربهم )
قيل : ليعلم النبي صلى الله عليه وسلم . و قيل : ليعلم الانس والجن ان قد أبلغت الملائكة رسالات ربهم .
( وأحاط بما لديهم ) : أي علم بما عندهم .
18-شعر :
نديمتي جارية ساقية
ونزهتي ساقية جارية
19-قال بعض اهل العلم :
من نازعك في أن القرآن علماً ظاهراً او معجزا باهراً فاعدلْ عن الكلام معه الى الكِلام وعن الحِجاج الى الشِجاج.
وليس جواب من أنكر الحجة الواضحة إلا الشجة الموضحة.
20-عن الشعبي في قوله تعالى : (هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ):
قال :بيان من العمى. و هدى من الضلالة. و موعظة من الجهل.
21- لو كُشفت العواقب سقط التكليف.
قال بعض اهل العلم :
لو كُشفت العواقب سقط التكليف.
قال حنبلي :
و صدق. فانه لو قُطع العبد عن دخول النار ترك العمل.
وأما كشف العاقبة بالجنة فإنه لا يترك العمل لأنه إن سقط العمل لأجل الأمن من العقوبة لم يسقط العمل لشكر المنعم بالجنة.
22- شذرة :
أحسن الوجوه ما تأخذه النفس ويقبله القلب و ترتاح له الروح.
23-في قوله تعالى : ( و تجعلون رزقكم انكم تكذبون ):
قيل في التفسير :
تجعلون جزاء نعمتنا عليكم برزقكم تكذيبكم برسلنا.
24-من كلام علي عليه السلام :
الهيبة خيبة. و الحياء يمنع الرزق. وعليكم بالصبر فان الحازم به يأخذ و الجازع اليه يرجع.
25-في الحديث ان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال :
إن الناس يُعطون أجورهم على قدر عقولهم دون اعمالهم .
26-قال حنبلي :
الحمد لله الذي حفظني بعواصم نعمه عن قواصم نقمه.
27- العقل :
قال عالم :
العقل أفضل ما منحه الله خلقه و امتن به عليهم في استعماله في طاعة مانحه و تعظيم أمره و نهيه ليقع الشكر من النعمة موقعه . و استعمله بعد ذلك في مكارم الاخلاق مع خلق الله فإن من جميل شكره الاحسان الى خلقه. و ثمرة العقل طاعة الله فيما أمرك به و نهاك و عدلك في معاملة الناس في التأدب لهم و الانصاف. فعقل لا يثمر طاعة الحق ولا إنصاف الخلق ، كعين لا تبصر و أذن لا تسمع.
28-يحي و عيسى عليهما السلام :
كان يحي عليه السلام لا يُلقى إلا وهو مقطب. و عيسى عليه السلام لا يُلقى الا وهو مستبشر.
فقال يحي لعيسى : يا ابن خالتي ، ألقاك كأنك آمن.
قال له عيسى : يابن خالتي ، ألقاك كأنك آيس.
فأوحى الله إليهما : أحبكما إلي أبشكما بصاحبه.
29-شذرة :
البِشْر مؤَنّس العقول و من دواعي القبول. والعبوس ضده.
لو كان في العبوس خير ما عتب عليه النبي صلى الله عليه وسلم .
30-شذرة :
ما أحثَّ السائق لو فطِن الخلائق.
31-دين الله واحد:
اجتمع العلماء على أن دين الله واحد الذي عليه الانبياء كافة. يشهد لذلك قوله سبحانه لنبينا صلى الله عليه وسلم ولأمته : ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي أوحينا إليك ). و انظر ما بين نوح ونبينا. قال : ( وما وصينا به إبراهيم و موسى وعيسى أن أقيموا الدين و لا تفرقوا فيه ) و قال تعالى : ( ويهديكم سنن الذين من قبلكم ). وروى البخاري : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يوافق أهل الكتاب فيما لم يوح إليه فيه شيء ).
32- سبعة أشياء محتاجة الى سبعة :
قال الحكيم :
سبعة أشياء محتاجة الى سبعة : المنظر محتاج الى القبول. والحسب محتاج الى الأدب. و السرور محتاج الى الأمن. و القرابة محتاجة الى المودة. و المعرفة محتاجة الى التجربة. و الشرف محتاج الى التواضع. و النجدة محتاجة الى الجِدّ.
33-ذم المشبهة :
قال حنبلي :
أسرع الناس تجنيسا بالرجال ، المشبهةُ الذين توهّموا و تمكّن في نفوسهم أن ربهم على صورة آدمي فلا ينكرونه بالصورة. ثم تظهر على يديه أفعال إلهية من إحياء ميت و إنشاء سحاب في أثر جدب . وإلى أمثال ذلك من الفتن فلا يبقى ما ينكرونه.
قال واحد منهم يكتم ما في نفسه فزعا من الصفع :
فهو أعور . قال النبي صلى الله عليه وسلم : وإن ربكم ليس باعور.
قال له الحنبلي :
يدل على أن الشيخ لو وجد الدجال صحيح العينين دان له و عبده لتكامل سلامة الصورة.
لقد خرج ما في نفسك من أنك لا تمتنع من عبادته إلا لعوره . والباري سبحانه نفى الإلهية في المسيح وأمه بقوله : ( كانا يأكلان الطعام )
وإن هذا الذي اعتذرت به يوجب عليك عبادة عيسى لأنه أحيا ميتا و ليس باعور.
34-روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إنما المؤمن الذي نفسه منه في عناء و الناس منه في راحة .
قيل لحنبلي له تحقيق :
ما معنى هذا ؟
فأجاب بأن نفسه منه في عناء ، لان الإيمان يقيّد الفتك و النفس تطلب من الناس الحظ و تتقاعد عن الحق لما معها من العرامة بالطبع .
و الاوائل قالوا :
أتروض عِرسَك بعدما هرمتْ
ومن العناء رياضة الهرِم
و أنا أقول :
أتروض عِرسَك في حداثَتِها
ومن العناء رياضة العرِم
و أدل عليه بأن العرامة تشرد مع قوة ، والقوي تشتد مقاواته ومعه عدم خبرة . و الهرِم إن صعبتْ رياضته فغايته لاستمرار العادة ، ولكن يُقابِل ذلك ضعف قوته وسلالة استجابته لضعفه عن المقاواة ، وقوة خبرته وتجربته المعينة له على القبول والاستجابة للحق.
35-تقصير الآمال :
ما تصفو الأعمال إلا بتقصير الآمال ، فان كل من عد ساعته التي هو فيها كمرض الموت حسنت اعماله فصار عمره كله صافيا. وإلى هذا أشار صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم حيث قال : وعّد نفسك من الموتى . إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء وإذ أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح .
وهذا قول عارف بأن التسويف يؤخر الأعمال ببسط الآمال . ومن قصّر أمله رآى قلة البضاعة و صيانة العيش الساعة التي هو فيها فجوّد العمل خوفا أن يكون القدر هو المقطع. وليس هذا عندي مجتمعا بالأعمار بل بالأموال. كذلك يجب أن يكون إحسانك من المال الحاضر بحسبه و ان قل و لا تتسوف بكثرة المال في الثاني . و العاقل من لم يحضره قليل الرزق إلا و شكر الله بحسبه . فتعجيل القليل مع حضور الوقت و المهلة خير من التمادي و التأخير انتظارا لكثيره . وليس تأثير الأعمال بالكثرة بل بالخلوص . ولهذا جرى في مدح القرآن على ذلك الخبز الشعير : ( و يطعمون الطعام على حبه ). فاذا سمع القائل هذه المدحة على تلك الأمراض ، اغتنم الشكر بحسب الحاضر من الحال ولم يتسوف بالامال.
36-وجدت في تعاليق بعض العلماء :
لايكون الرجل مؤمنا حتى يندرج في مدارج كل واحدة منها تبين عند معرفته كفرا لكن غير مؤاخذ به لتركه و الخروج عنه. وذلك أن الباحث يترامى به النظر كل مرمى . كإبراهيم قال عند رؤية النجم ( هذا ربي ) وكذلك القمر و الشمس .. حتى انتهى به النظر إلى إثبات الفاطر.
وكفر البحث والزلات مغفورة. وأول الإيمان خطور الباري بالبال بحسب الحال التي تكون في المكلف في أول وهلات نظره بإخطار النظر بباله عليها .
37-قال أصولي :
إن الأشعري لم يترك لنفسه دلالة على الصانع ولا دلالة على صحة الشرائع.
فأما إثبات الصانع فانه مبني على احتياج المحدَث و افتقاره إلى محدِث، وليس في الشاهد عنده محدِث لبناء ولا لشيء. وصحة إرسال الرسل مبني على الثقة بالمعجز ، ووجه الثقة أن الله لا يقيم الإعجاز دلالة إلا على يديْ صادق غير كاذب عليه .
وما ترك لنفسه ثقة بالرسالة حيث قال ( لا يقبَّح شيء صدر من جهة الله من إضلال وسد لباب العلم بمعرفة صحة الرسالة ) فلم يبعد تجويز تأييد الكذب بالمعجز لأن ذلك ليس باكثر من الإضلال.
38-حادثة:
حادثة رجل حلف بالطلاق أنه ليس كل الناس ولد آدم ، لانه قال بعض المفسرين في الآية ( والله أنبتكم من الأرض نباتا) أنه كان في بعض الأزمان يخلق الله من الطين قوما لا بالتوالد.
قال حنبلي: هذا ليس طريقا صحيحا . لأنه لو كان ذلك كذلك ، لكان نسل آدم انقطع و صار هؤلاء المخلوقون آباء من بعدهم حتى انقطع نسل آدم. وهذا أمر يحتاج الى نقل متواتر ، لا يكفي فيه قول بعض المفسرين.
ولكن الخلاص لهذا الحلف من وجه آخر. و هو أن آدم وحواء إنسانان ، وليس واحد منهما ولد لآدم ولا لغيره ، إذ لا والد لهما .فقد خرج من الناس اثنان ليسا بولدين لآدم ، فبرّ في يمينه.
والله أعلم.
39-مذاكرة بين أشعري ومعتزليحول صفة الكلام :
قال أشعري :
الكلام من كمال صفات الحي. والله سح حي, قادر,عالم.. فمن كمال الصفة له أن يكون متكلما..
اعترض معتزلي وقال :
نعم. ولكن المتكلم من كان فاعلا للكلام المخرج ما في النفس من جميع ما يسنح لها. ومتى لم يكن قادرا على ذلك لم يكن متكلما . والباري قادر على إظهار ما يريده من خلقه بما يفعله من الكلام ، فكما القادر منا كذلك. إلا أن الكلام مفعول في أدواتنا من حيث أن أدوات الكلام فينا و ذاتنا قابلة للانفعال من الاصطكاك ، والباري منزه عن ذلك إذ ليس بجسم ، فاختلافنا وإياه من حيث أدوات الكلام . فأما أصل الكلام و الغرض به فحاصل في حقه على ما يليق به ، و حاصل في حقنا على ما يليق بنا . و صار الكلام من جهة كونه مخرجا ومظهرا ما في النفس، كالإشارة باليد والرمز بالعين و الخط بالكتب ...والله سبحانه قادر على إيصال ذلك إلى الأحياء بفعله هذه الأشياء كما أن الواحد منا قادر على ذلك . فقد ثبت الكلام كمالا في حقه . ولم يقف على ما يقوله الأشعري من الكلام القائم في النفس ، والذي لا يحصل به غرض المتكلم في أصل الوضع.
وجعل أقوام يحتجون بذكر الاقدار على عالم حنبلي محقق يدري ما يقول، فقالوا : كلامك كلام قدري لا حنبلي. فقال :
أنا لا أدري من القدر ما يقيم لكم الحجة ويقطع لساني عن خطابكم وعتبكم على إهمال الأعمال. و الذي قدّر القدر هو الذي أمر الانبياء بالبلاغ و يهدد على تركه ، حتى قال : ( وإن لم تفعل فما بلغت ). فلما جاء الى القدر قال : إذا ذكر القدر فأمسكوا. فدل على أنه ليس من العلم النافع .
40-قال قائل : لو أن الله سبحانه عذب الانبياء وأدخل الكفار النار لكان ذلك منه حسنا .
قال له معترض :
يا هذا ! ما تعرف عوار ما تقول و مقدار الكفر الذي تحته ؟ فإن القرآن كلامه . ومن حيث كان كلامه ، يستحيل عليه الكذب . و قد يضمن الخبر عن نعيم أقوام معينين وتخليدهم في الجنة. وتجويز إخلاف الوعد
تجويز للكذب ، و حاشا كلامه من الكذب ، لا محاشاة مدح مستعان ، بل محاشاة إحالة. كما يستحيل على علمه الجهل و حياته الموت وقدرته العجز.. كذلك يستحيل على صفته التي هي الكلام الكذب . وبالتالي لا يجوز إدخال النار من أخبر أنه سيدخل الجنة
41- شذرات :
-قال حنبلي في المعنى :
ما أمر منع البصر عن تلمح الخبر من دلائل العبر . وما أشد عذاب الحصر على أرباب التفسح والتلمح . هذا مما لا يجد كربه الا أرباب الوجد عند الفقد.
42 -قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لو علم المؤمن ماعند الله من العقوبة ما طمع في جنته. ولو علم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من رحمته ) :
قال حنبلي :
وما يحتاج الى ذكر الجنة والنار في هذا الشان..بل إذا رأى بطشاته سبحانه في العالم وألطافه ، كان ذلك مقتضيا بالمؤمن إلى الفزع وبالكافر إلى الطمع.
43 -شذرة :
يقال :
أهلك الناس حب الفخر وفوت الفقر!
44 -في الحديث المسند :
آفة الحديث الكذب . وآفة العلم النسيان. و آفة الحلم السفه. و آفة العبادة الفترة. و آفة الشجاعة البغي. و آفة السماحة المن. وآفة الجمال الخيلاء. وآفة الحسب الفخر. و آفة الطرف الصلف. و آفة الجود السرف. و آفة الدين الهوى.
45 - فائدة :
قيل لابن الحصين : في اي عدة تحب ان تلقى عدوك فيها ، رمح او سيف او قوس وسهام ؟
قال : في أجل متأخر.
قال حنبلي له اطلاع :
هذا من أحسن العدد المختارة .
46 -صفة دار حسنة :
وطن تبيت المكارم فيه بين ماء جار و عود و ريق .
47 -عن الحسن :
يصبح ابن آدم بين نعمة زائلة وبلية نازلة ومنية قاتلة.
48 -في قوله تعالى : ( يوم لا يخزي الله النبي و الذين آمنوا معه ) :
مما يعطي قبول شفاعته في عصاة أمته .لأن رد السؤال خزي عند العرب .
49 -قال حنبلي في نظره لمن قبح ذبح الحيوان في الشرائع :
لا خلاف بين العقلاء ان الإماتة للحيوان تجمع بين إيلام الذبح وإيلام النزع ، ولعله أشد من الذبح. وقد أمر الله الملائكة بنزع أرواحنا ، ونحن أكرم البهيم منزلة ، ولنا حق العبادة وحمل أعباء التكليف. فاحسبوا أن الله جعلنا لقبض أرواح البهائم أو إزهاقها كملائكة قبضت الارواح منا ، ونكون نحن كهم في إزهاق أرواح البهائم .
50 - بشر الحافي :
قيل لبشر الحافي : لم لا تلبس النعل ؟
قال : أستحيي أن أمشي على بساطه بالنعل .
أخذه من قوله : ( والله جعل لكم الأرض بساطا ) .
51 - تجيء الطاعات معاصي :
قال اهل العلم : تجيء الطاعات معاصي.
يعني : الرياء فيها حين العمل والإعجاب بعد عملها.
52 - شذرة :
بينما أنت معجب بالواحد من أهل الدهر حتى يملولح عذبه ، ويكتهل عشبه ، ويضيق رحبه . فالاغترار بهم غباء ، وودهم عند التحقيق هباء، والاعتماد عليهم افلاس.
53 -الاغضاء عن هفوات من كثرت محاسنه :
قد ورد في الأحاديث ما يستحب الإغفال والإغضاء عن هفوات من كثرت حسناته ومحاسنه. فقال (صلى الله عليه وسلم ) : ( إذا ذكر أصحابي فأمسكوا ) ، ثم علل فقال : ( لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ) .
تقدير هذا الكلام : حسناتهم ومتقدمات أفعالهم و طاعاتهم تمنع أمثالكم أن يتكلم فيهم. وكذا وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر ..)
يعني والله أعلم : إن طاعاتهم كثيرة فتغطي إساءاتهم الجزئية .
54 - فصل وعظي :
يا مصنوعا في أحسن تقويم. يا مخصوصا بالاطلاع والتعليم. يا مخاطبا من بين الناطق والبهيم. يا معظما على كل ملك كريم. يا قبلة المسبحين. يا صفوة الخلق اجمعين . لي بين جنبيك عقل هو هبتي. وكتاب هو حجتي. ولي إليك رسول بما كلفتك من عبادتي مؤيد ببرهاني ومعجزتي. فهل مع هذه التحف كلها علقت بك الحكمة ؟ هل شرفت منك الهمة ؟ هل تادبت في الخدمة ؟ هل عرفت وان قصرت مقدار النعمة ؟
افتح عينيك وانظر من أنت وعبد من أنت. فصن نفسك عن الذل و التضرع للخلق. واحملها على الإجمال في الطلب فما زاد الحرص رزقا. والثقة بالله حصن منيع من الضراعة وذخر يوفي على البضاعة. والتوسل الى الخلق في الرزق شناعة . وملاك الأمر مع الله الاستجابة والطاعة.
55 -إن الله إذا أعاد الخلق أعاد أذكارهم :
قال أحد المنتقدين :
إن الله إذا أعاد الخلق أعاد أذكارهم ، حتى أخبر عنهم أن القائل منهم يقول ( إني كان لي قرين ) . لماذا أعاد الأذكار ؟
فال حنبلي بسرعة :
أنه كان وعدهم بالبعث بعد إياسهم و شكوكهم فيه ، فلو أنساهم لما علموا عند البعث صدق الوعد ، واعتقدوا انه ابتداء خلق. وانما طاب العيش بتحقيق الوعد ، ويعذَّب الكفار بحسرة الفوت ، وما سبقوا به من موجبات الوعيد بالتكذيب. فكان ذكر مضافرة لعيون الابرار ، وحسرة في قلوب الكفار.
56 - شذرة :
إذا عجب من أمر أُخبر به عن الله تعجب استبعاد ، كان ذلك قادحا في المعرفة. فإن كان التعجب في حق نفسه بأن يكون الخبر بإكرام وهو يرى نفسه دون ذلك ، فليس بنقص قادح .
مثال الأول : ( أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر ) ( أنى يحيي هذه الله بعد موتها ) هذا كله قادح ، وقد بان من جوابه حيث قبل العجبين من أمر الله . و الثاني : مثل قوله : (أوقد ذكرت هناك! ) .
57 -الأمراض مواسم العقلاء :
الامراض مواسم العقلاء ، يستدركون بها ما فات من فوارطهم وزلاتهم إن كانوا من أرباب الزلات ، ويستزيدون من طاعاتهم إن لم يكونوا أرباب زلات ، ويعتدّونها إن خلصوا منها بالمعافاة حياة بعد الممات . فمن كانت أمراضه كذا ، اغتنم في الصحة صحة ، فقام من مرضه سليم النفس و الدين . و الكامد ينفق على الادوية ويعالج الحمية ويوفّي الطب الاجر ، وليس عنده من علاج دينه خبر ، فذلك ينصرع بالمرض انصراع السكران ، و يفيق من مرضه إفاقة الإعداد لسكر ثان .
58 -شذرة :
هو رب حقيقة . هل كنت أنت عبدا له حقيقة ؟ هل في الوجود من كان لله قط كما كان الله له ؟
59- إن ذممت الدنيا :
إن ذممت الدنيا بالغرور ، فهلا مدحتها بما وعظت به من تصاريفها على مر الدهور . والله لقد تكشفت عن معائب توجب الزهد فيها ، كما أبرزت عن محاسن توجب الرغبة فيها .
60 - ( بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق ) :
قوله تعالى : ( بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق ) يدل ذلك على أن لنا استكبارا بحق ، وهو الاستعلاء و التعاظم على أهل البغي و الكفر والظلم ، فذلك استكبار بحق. ولهذا لما رأى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رجلا يخطر بين الصفين في مشيه قال إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا المقام ) . وكذا من أسماء الله المتكبر ، إسم مدحة ، لأنه عظيم متكبر بالحق ، لأنه يتكبر على العصاة والمجرمين .
61 - حكمة :
قال بعض العقلاء :
الصبر على سفهاء العشيرة والطائفة خير من استئصالهم ، فإنه لا عز لقوم قل سفهاءهم ، فكيف إذا عدموا ؟
والصبر على الصلحاء من العشيرة ، فان الحشمة بهم توجب الصبر عليهم ، فلا حشمة لقوم لا صلحاء لهم . و الجاهل من أفنى سفهاء قومه ضيقاً عن حلمهم ، وكسر صلحاء قومه خوفا من استطالتهم .
62 -عن الحكماء :
الصبي يطلب بطبعه ، والأب يمنعه عما طلب ، ويعطيه ما يراه لا ما طلبه. فكذلك الطبيب ، وكذلك المؤدب. وما كان ذلك إلا لمرتبة المعرفة من الطبيب ، و الأدب من المؤدب ، والإشفاق من الأب .
فحكمة الله جامعة لما يفرق في هؤلاء ، وهو الممد لهؤلاء بالإشفاق و الآداب و الحكم ، فهو أحق بالتسليم وترك التمني عليه و التجني . فمن عاش مع الله كذا ، تعجل الراحة في الدنيا، و سلمت عاقبته في الأخرى .
63 -وحشي :
افتقد الناس على معاوية إكرام وحشي قاتل حمزة ( رضي الله عنه) ، كما افتقدوا على عثمان رضي الله عنه رد طريد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فكان رده له من بعض ما أخذوه عليه من الذنوب...
فهذه الفلتات من بني أمية معدودة عند أقوام من نفاق كان متخمرا معهم.
قال حنبلي :
وهي عندي من غلبات الطباع التي لا تمنع صحة العقائد ، فقد كانت تغلب على الانبياء . فمن ذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قبل إيمان هند ، و كان يكره أن ينظر إليها حتى عاتبه الله فيها و شهد لها بالايمان ، ولم يغلب علمه بإيمانها على طباعه ( صلى الله عليه وسلم ) في كراهية نظره إلى وجهها ، حيث يراها وقد أكلت كبد عمه وبذلت حيلتها في قتله . و كان عمه أبو طالب على ما كان و طبعه يغلب رقة عليه وميلا إليه حتى يكاد يستغفر له ، فعوتب في ذلك بغلبات الطباع لا ينكرها إلا من لا يتأمل حقائق الأحوال . فهذا رق عليه مع الكفر ، وهذه يقسو عليها مع الايمان. فلا ينبغي للعاقل أن يأخذ من فلتات الكلام الصادر عن الطباع نفي الايمان ولا إثبات النفاق، لاسيّما مع شواهد الوحي بإيمان القوم.
فهذا قدر تأويلي وجهدي. والله أعلم وهو الطريق الأسلم .
64 - تحذير من إحسان الظن في هذا الزمان :
قال بعض الخبراء بالزمان وأهله :
إن حسن الظن في هذا الزمان وأهله عجز ، والرجاء لهم طمع ، و الثقة بهم فساد تصور. ومن تكشفت له أحوالهم ، وأنس بهم وإليهم ، فما يُؤتى إلا من قِبل نفسه ، والله سبحانه وتَعالى بريء من عهدة بلائه ومصابه ، لأنه سبحانه قص قصص الاوائل ، و ما تم منهم وإليهم ، وكشف أحوال الثواني بالملابسة لهم ، ممن لم يردعه الخبر ، و لا حذّره النظر ، فهو كالفراشة تطيش في الضياء وتنغمس في اللهبة فتحرق نفسها ، فلا رحم الله من هذه صفته ، يقتحم النار ببصره .
65 -الآية : ( ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصّعد في السماء ) :
وجه السؤال أن التشبيه بالضيق كيف يكون بسلوك أفتح وأوسع طريق ، وهو الفضاء ؟ و السماء لا يُرتقى اليها إلا في بحبوحة الفضاء . وهذا تشبيه الشيء بما يضاده .
قال أحد الفقهاء المغاربة : إنما شبهه بذلك لأن مكابدة الصعود الى أبعد مرتقى ، دع السعة , فإنها لا تغني لجسم طبعه الهبوط بثقله ، ومكابدة ما يضاد الطبع بالصعود لجسم طبعه الهبوط من أعظم التشبيه في الآية من هذا الوجه ، لأن ضيق القلب من المكابدة في الصعود كضيقه من المكابدة في الجحود .
66 -سال سائل عن حالنا مع إبليس كيف يكون لنا به قوة و هو يرانا ونحن لا نراه؟
فأجاب حنبلي بأنه لو كانت معاداته تحتاج إلى مناضلة ومضاربة ، أضرّ بنا عدم رؤيته ، فأما وأذيّته إلقاء الى القلوب ووسوسة في الصدور ، فجواب المسألة منها كما يُقال ، فكما أن سهامه كالخواطر العارضة يلقيها بالأفكار الصحيحة الصادرة عن العقول الصاحية السليمة من الهوى ، فإذا ألقى إلى النفوس ما ليس بصواب ، رده العقل بأحسن جواب .
67 -( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ):
ذهب كثير من الوعاظ والقصاص الى أنها خاصة في صلحاء عباده والأنبياء. وليس على ما وقع لهم ، لأن ظاهر القرءان يشهد بأنه لا سلطان له على الكفار ، حيث قال سبحانه ( وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان ) . ولأن السلطان الذي نفاه يعمّ ، اذ ليس كل مستجيب له يكون له عليه سلطان ، لأن الشيطان يسوّل ويغيّر ويخلف فيكذب ، ومن كان أمره كذا لم يك سلطانا ، إنما السلطان من أمر و كشف امره و حرّمه فأُطيع ، دون أن يدلّس و يلبّس ، فإن من سوّل كان متلصصا و خادعا وغارّا لا سلطانا .
68 -( و اجعلوا بيوتكم قبلة ):
قال الله تعالى : ( و اجعلوا بيوتكم قبلة ). قبلة : جهة للطاعات ومسقبلا لله سبحانه في العبادات .
ومن كان مأمورا أن يجعل بيته قبلة ، وهو موضع الغفلة و مناخ البطالة ، أولى أن يعقل عن الله أن يجعل مواطن العبادات محترمة عن تبديلها بأمور الدنيا.
وأرى أهل زماننا جعلوا مساجدهم متاجر وأسواقا، و جعلوا بيوتهم قبورا.
69 - ذم الانبساط والاسترسال :
اعلم أنه سبحانه قد نبهك على حفظ حرمك ، وإلغاء الثقة عليهم بمن طالت صحبته و حسنت سيرته وتربيته ، حيث أعلمك أن كريما من أولاد خيار الأنبياء كان بين عزيز رباه و سيدة أكرمت مثواه ، حانت منه معها خلوة ، ثارت بينهما همة ، قارب بها حصول الفتنة والمحنة، لولا تدارك الباري له بالعصمة ، وإقامة البرهان لصرف الهمة.
من أين لك اليوم مثل ذلك الكريم ؟ ومن أين لمن يخلو باهلك عصمة تطرد الهمة ؟ وبرهان يحول بينه وبين الفتنة ؟ فالله الله على الثقة بإنسان مع نصح القرآن بهذا البيان.
أما رأيت صاحب شريعتك كيف قال لزوجتين كريمتين خليا بأعمى من كرام الصحابة ، فقال لهما في ذلك ، فقالا : يا رسول الله إنه أعمى، فقال : أفعمياوان أنتما لا تبصرانه. وأمر الغلام الوضيء الوجه أن يدور من وراءه.. فإذا كان الشرع على هذا الاحتياط ، فما هذا الاسترسال منكم والانبساط ؟ يقول الواحد منكم في الركابي والفرّاش إن كان شيخا : هذا ربى أهلي ، وإن كان حدثا: هذا رباه أهلي.
كذا يكون الفطناء ؟! هل قصد الباري الإزراء على أولاد الانبياء حين قص لك قصصهم في المكر والعداوة وإطلاق القول بما كان الباطن خلافه ، لا ، ولكن قصد بذلك إيقاظك عن الإصغاء والاسترسال إلى قول بالبادرة لحسن الثقة ، وأمرك بالتوقف عند كل شبهة ، والتحرز من حسد الحاسدين ، وكتم النعم عن السعاة في إزالتها من المفسدين .
70 -شذرة:
كما لا يحسن في سياسة الملك العفو عمن سعى على الدولة بالخروج على السلطان ، لا يحسن أيضا العفو عمن ابتدع في الأديان . لأن فساد الأديان بالإبتداع كفساد الدول بالخروج على الملك والاستتباع. فالمبتدعون خوارج الشرع.
71 -شذرة:
وليس يجهل العبد أن أوقات الموقف الأشرف المقدس --دام جلاله-كلها مصروفة الى برد غلة ضمئان ، أو سد خلة لهفان ، فلا جرم أن عنايات الله -تعالى -بها تامة.
72 -مناظرة في التلاوة :
قال الأول : هي الصوت .
قال له محقق : صوت الادمي؟
قال : نعم .
قال : فكان يجب أن يكون على الوجه الذي سمعه الانبياء عليهم السلام هذا يقول ( كالرعد الذي لا يترجع ) وهذا يقول(كالصواعق)وهذا يقول( كجر السلسلة ) ونبينا (صلى الله عليه وسلم) يقول (كصوت الجرس ) فإذا سمعنا صوت التالي لا بهذا الوصف ولا على هذا الوجه ، علمنا أنه ليس هذا ذاك.
ثم قال له :
هل تتجاسر أن تقول عند قراءة القارئ ( هذا صوت الله وليس بصوت للقارئ )؟ فإن قلت نعم وركنت ، استفت عليك الفقهاء ، فلا تجد إلا إجماعهم على تخطئتك. ولستَ بحيث يلتفت إلى قولك ، ويترك الإجماع لأجلك ، او ممن يقف الإجماع على موافقتك.
73-مذاكرة في صفات الله عز وجل :
قال معتزلي لسني : أتقول حيث أثبتَّ لله سمعا وبصرا ، هاته الصفات في جهات من ذاته كما في حقنا ؟
قال السني : بالبادرة لا. ولكن أقول كل ذاته سميعة بصيرة.
قال حنبلي لهما : الكلام في الله وصفاته صعب. فقد جاء في كلامكما (كل) والله لا يوصف ب (كل) ، كما لا يوصف بالبعض ، ولا توصف ذاته بالجهات . فهذه كلها ألفاظ هي مخاطرة.
74 - شذرة :
قيل: الغبن غبنان ، غبن الغلاء وغبن الرداءة. فإذا اشتريت فاستجد ، تزح أحد الغبنين.
75 - شذرة :
مع كل منظر حسنٍ رقيبٌ ينقص بهجته وينغص لذته.
76 -التجني :
قيل : التجني رسول القطيعة وداعي الغل وسالب السلو وهو أول منازل الهجران.
77- بزرجمهر:
لم أر ظهيرا على تنقل الدول كالصبر. ولا مذلا للحساد كالتجمل. ولا مجلبة للاجلال كتوقي المزاح. ولا مجلبة للمقت كالكبر والعجب. ولا مخلقة للمروءة كاستعمال الهزل في مواطن الهزل.
78 - شذرة :
قيل : إساءة المحسن منع جدواه..وإحسان المسيء كف أذاه.
79 - فصل :
سيدي ! قد تدبّرتُ الخلق فما رأيت منهم إلا صانعاً أو مصانعاً . ورأيت جلّ غرضهم وأكبر همهم الدنيا . وكل منهم قد اعتمد على ذخيرة ،فهذا يذّخر العقار ، وهذا يقتني الدرهم و الدينار ، وهذا يذّخر معارف الرجال . ورأيت كل منهم عند الموت يفزع الى إسمك وتوحيدك والتعلّق بأذيال عفوك ، فرأيتهم بعين الإفلاس من الرأي ، حيث لم يقدّموا من أمرهم ما أخّروا ، وتعجّلوا من التعلّق بك ما أجّلوا.
فكنتُ إذا فرح الناس بموجودهم منك وعُنوا بما آتيتهم من لدنك ، غنيّاً بوجودك ، معوِّلا على شهودك ، مذّخِراً لك في شدائدي ، معوّلاً عليك في أوابدي ، فما خاب قطّ أملي فيك، ولا رجائي في لطفك ، بل وجدتك في شدائد الدنيا آخذاً بضبعيّ ، إن عثرتُ أنعشتَ ، وان افتقرتُ أغنيتَ ، وإن سقمتُ عافيتَ و شافيتَ، وإن تشردتُ آويتَ ، وإن عطشتُ أرويتَ ، و إن جعتُ أطعمتَ ، وإن ضللتُ هديتَ ..
فأنبأني عنك عاجل أمري ، وحدّثتني آمالي فيك عن تواني أحوالي معك .
فها أنا لا أرجو سواك ، ولا آمل غيرك ، ولا تعبد أطماعي أحداً من خلقك ، وطالما عبدت ، لأنني كنتُ بصورة من استُقرئ طرق الطلب حتى وجدتُ ، وأنِحتُ عن طريق سليم إليك حتى ظفرتُ ،ولم أجد ذلك إلا في خُبري بخلقك وأنهم مفاليس من كل ضرّ ونفع . ومع ذلك فأنا أستغفر الله من وقوفي معهم حال تصفّحي لأحوالهم ، وأنا أشهدُ أن لا إله إلا الله من شركي حال الإعتماد عليهم اختباراً لهم ، وأقطع زنانير الإضافات إليهم .
80 - فصل :
ما أعظم تفاوت الأحوال ! بعض الحكماء الإلهيين يقولون : ( في الحكمة ما يغني عن السفراء ) . فعطّلوا الشرائع واقتنعوا بما تؤدّيهم إليه العقول وتؤدّبهم به الألباب والنهى .
وبعض الفطناء جعلوا العقول مستعبدة للشرع حاكمة على أمر الدنيا وسياساتها التي لم يوجد فيها نصّ من شرع . وبعض السفساف عطّلوا الشرائع طلباً للراحة من الحَجر والتكلّف ، وعطّلوا العقول ، فهم أبداً في الدنيا بين استطالة الشرعيّين عليهم بإقامة الحدود والإهانة بسائر العقوبات ، وبين استطالة العقلاء عليهم في تقويمهم عند شطحهم و خروجهم عن سمت سياسات العقل . فهم كالبهائم ، إن خليت أكلتها الوحوش ، وإن صمدت للأعمال والأثقال أتى عليها الكدّ بالهلاك والاستئصال .
فسبحان القسّام بين الخلق حظوظهم من المنافع و المضارّ !
81 -أهل البيت :
ان أهل بيت الرسول (صلى الله عليه وسلم) من أعلام الدين ، وإليهم قصد المسير ، وفيهم الخلافة. ومن كان كذلك ، لا يُخصّ بالمال لأجل الفقر ، ولكن لأجل الإعانة على التجمل، وتجمل المكلف ونزول الاضياف و الوفود. فلا يكفي في حقهم الإغناء عن الناس ، بل يُصرف إليهم ما يستغني به الناس.
إن قيل : فكان يجب أن يجعلهم وارثين ؟
قيل : إنما لم يورث لئلا يتمنى متمن من أقاربه فيهلك بذلك في دينه وينحبط عمله .
81 -ما أشد شؤم المعاصي !
ما أشد شؤم المعاصي ! أبونا بينا يسمع قول الله لملائكته (اسجدوا لآدم) حتى سمع النداء (إهبطوا منها جميعا ).
بينا يرفل في حلل من السندس والاستبرق ، حتى طفق يخصف على عورته من الورق. وإذا أردت أن تتلمح القدر السابق ، فانظر الى قوله السابق : ( إني جاعل في الارض خليفة ). خليفة في الارض ما يصنع في الجنة؟ ساقته الكلمة السابقة والعلم السابق إلى المستقر. (ولكم في الارض مستقر ومتاع الى حين ).
82- لا تعاشر متلوناً:
احذر ممن إذا غلبت عليه حال من الأحوال ، استحال حتى لم يظهر فيه تقييد العقل عن الشطح ، وإن غضب تأسد ، فلم يبق فيه ما يكفه عن الصول ، وإن اعتراه الهم ، خرج بصورة رخم ساقطاً على ما وجد من المطاعم ، لا يلوي عن تناول المستقذارات في الطبع والمكروهات في الشرع، وإن عرض بها طالب الحق ومقتضى الشرع راغ روغان الثعلب ، لا يمزج روغانه ثبات ، ولا إصغاء على إذعان ، ولا استجابة لهذا الشأن، فهذا لا يدخر عنده الإحسان ، لأنه كالوعاء المخترق ، ولا يرجى منه الخير.فاحذر معاشرة أمثاله ، فإنه من أعظم الأخطار ، ومجموع هذا في كلمة : لا تعاشر متلوناً .
83 - تحذير :
قد عُرف محلّ الاقوال والافعال في حق أقوام عاصروا النبوات . هذا يقول في عظم نخر : ( من يحيي العظام وهي رميم) فينزّل الله تعالى فيه : (وضرب لنا مثلا و نسي خلقه). وهذا يقول : ( (أنى يحيي هذه الله بعد موتها) فيميته الله مئة عام ثم يبعثه ، فيقول : (أولم تؤمن) .وهذا يرفع صوته ، فيُقال : (لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) الى قوله : (أن تحبط أعمالكم ).
فلو كان الوحي متصلا ، لساءك ما ينزل فيك عند فلتاتك و غلطاتك وتهجمك بالاعتراض والقول الذي لا تحتمله الحكمة منك . فإن فاتك الوحي في جواب كلماتك و تصرفاتك ، فلا تفوتك موازنة ما تقول و تفعل بما نزل في مثله العتبى أو العقوبة . فإذا وازنت علمتَ أن لك عند الله جوابا لم يفُتْك إلا تعجيله ، وأنه مؤجّل لك الى وقت يسوءك الموافقة فضلاً عن المقابلة .
ولو أنصفتَ نفسك اليوم ، لكان في حوادث الايام من دلائل القدرة ومتقنات الحكمة ما يكون لك جواباً ولشبهتك مزيلا . فإذا خطر على قلبك أو جرى في قولك : (أنى يحيي) كانت سحائب السماء بوابلها ألسنة ناطقة بالتهجين لك ، حيث حَيَّ بها عشب الأرض ونباتها وزهرها ، حتى عادت عيوناً محدقة و ذواتاً محققة تشهد لصانعها بالقدرة و لمحكمها و متقنها بالحكمة .
وما أغناك عن التدبر بسواك ! يكفيك ما أحيا منك وأمات فيك من أعضاء و صفات و قوى وأخلاق . تمسي على صفة فتصبح بغيرها . وتصبح بخلق فتمسي وقد عدمته . ذاك هو الذي أمات الاشخاص ، وفرّقَ الأجزاء ، وأعدم الصفات ، وهو المعيد لما أمات ، والمفيد لما أفات .
84 - فصل في توديع :
وقد استعجلت الاستيحاش له ..وتسلّفت الاشتياق إليه ..والرِّكاب مُناخة ..والدار بعدُ جامعة ..فكيف حالي إذا انقطعت العلائق ..فضربت النوى بيننا سياجها ..وزحمت بعضاً على بعض بمناكبها .. وتعلّلنا بعد العين بالأثر ..وبعد اللقاء بالخبر ..وإلى الله أرغب في أن يقيّض لك جلباب السلامة راحلاً و نازلاً ..ويجعلك في ضمان الكفاية مقيماً وضاعناً..ويوردك المقصد الذي تقصده .. والمرمى الذي ترمي نحوه ..محفوظاً بيده الطولى..ملحوظاً بعينه اليقظى ..إنه سميع الدعاء ..سابغ النعماء ..
85 -أبو الهذيل العلاّف :
كان أبو الهذيل العلاّف شيخ المعتزلة في وقته يرى أن ليس فعل مباح، بل الاعمال الواقعة منا لا تخلو أن تقع طاعة أو معصية .
فقال له رجل كوفي : ألست تقول إن أفعالك لا تخلو من طاعة أو معصية؟
قال : بلى .
قال : فلُبسك ثيابك هذه الجدد طاعة لله أو معصية له ؟
فقال : إن كنت لبستها لأظهر بها نعمة الله عليّ ، وأؤدي فيها فرائضه ، فذلك داخل تحت قوله : (خذوا زينتكم عند كل مسجد ) (وأما بنعمة ربك فحدّث). وإن كنت لبستها لأباهي بها الأغنياء ، ولأغايظ بها الفقراء فهي معصية .. ولا يمكنني أن أقول مفصحاَ -إني لبستها أريد بلبسي لها الجهة المحمودة - فأكون مزكّيا لنفسي ، والله تعالى يقول : (فلا تزكوا أنفسكم). ولا أقول -لبستها للجهة المذمومة - فأكون قد فضحت نفسي ، وقد نهاني الله عن ذلك بقوله : لا يزال العبد في ستري ما ستر على نفسه ، وقال النبي (صلى الله عليه وسلم ) : من أتى من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله .
قال حنبلي :
قد أخلّ أبو الهذيل في تقسيمه بقسم يخلو من طاعة و معصية . وهو أن يلبسها للذة نفسه : إما لدفع البرد أوالحر ، من غير أن يخطر بباله ستر عورة أو قصد زينة لمسجد أو إظهار نعمة الله أو مباهاة لأحد أو قصدا لمغايظة أحد ..
ولا يمكنه أن يقول إنه ليس لنا فيما يقع من أفعالنا حالة ذهول عن الأمريْن الذيْن ذكرهما . اللهم إلا أن يقول لا يجوز له أن يلبس إلا بنيّة ، وأنه لا يخلو من قصد المباهاة ، فذلك مكاثرة لما نجده من نفوسنا من الحالة الثالثة : وهي حالة غفلتنا عن القسميْن اللذين ذكرهما .
86 - وعظ :
قال حنبلي :
من فتح عينه على هذا الفضاء الفسيح ، ورأى هذه الدار الواسعة العريضة ذات الجبال الراسية و البحار الزاخرة والاشجار الباسقة والأودية العميقة والأنهار العذبة الجارية و الرياح الناشبة و السحب الثائرة ، وفي خلالها البروق اللامعة ، وسمعَ زمجرة الرعود الزاجرة السائقة للعموم الى القيعان الداثرة المنشئة للأزهار المتنوعة ، ورأى المعادن المعدة للحوائج العارضة ، ورفع رأسه الى الأفلاك الدائرة والنجوم الزاهرة ، ثم لا يمعن النظر و يحقق الفكر في هذه الأمور المشحونة بدلائل العبر ، ثم يخرج من هذه الدار الى الأخرى وما علم ولا خبر ، هذا بمثابة طين عُمل لبناء ثم سال عائدا الى المقلع بصوت المطر ،إذ لم يستفد بالوجود فائدة ، بل ذاق مرارة الموت التي لم تقاومها حلاوة الوجود. غاية ما حصل من الدار ما عبلت به بنيته من الطعام و الشراب ، واستعادته إليها مع تطاول العصور والأحقاب .
87 -شبهة :
سأل سائل : إذا كانت جثث الأحياء بعد الموت تعود الى الكلأ ورطوبتها الى الماء وجسميتها اليابسة الى التراب وأنفاسها الهوائية الى الهواء ، يجب أن تعود الروح كلاًّ الى السماء ؟؟؟
قيل : هذه حدوس غير معلومة ، ولا يُعلم هل تعود كلاًّ أم لا . فإن صح لك ذلك ، ففي القدرة الإلهية تخليص الأجزاء وإعادة كل منها للحي جسماً وروحاً ورطوبة ونفساً ، وهذه شبهة إبراهيم حين رأى الجيفة تأكل منها السباع و السمك والطير ، ثم طار الطير عنها و سرح الوحش وغاص السمك ..وكل منهم قدأخذ شيئا من تلك الجيفة ، وتصير من جملة جسم ذلك الحي ، فقال الله له : (خذ أربعة من الطير فصرهن إليك ) الآية ..فدلّ على أنه يُخلِّص الأبعاض من الكليات ثم يعيدها . ولأنه روي في السنّة أنه يحفظ الأرواح بحدثها ، فجاز أن يكون بها من العناية ما لا يصرفه إلى غيرها ، لأنها الجوهر اللطيف النفيس ، فجاز أن تكون محفوظة عن الإختلاط ، بخلاف الأجسام.
88 -شذرة :
نقلت من بعض الكتب : أن غسل الوجه بالماء البارد عقيب الخروج من الحمام يبقي طراوة الوجه مع كبر السن .
89 -مسألة :
قد ورد : (دع ما لا يريبك إلى ما لا يريبك ). وورود المنع من اليقين أو الظن بما يوجب الشك لبيقى على حكم الأصل . فإن قوله (صلى الله عليه وسلم ) لمّا سألوا الراعي عن الماء هل ورد عليه ما ينجّسه : لا تعلمهم. وقال عمر للسائل عن الميزاب : يا صاحب الميزاب لا تعلمهم. وأمر بأخذ كف من الماء للميزر عقب الإستنجاء . كل ذلك دفع للظن ، أو العلم بما يوجب البقاء على الأصل. فكيف الجمع ؟
قال حنبلي : يُحمل قوله الأول على الإستحباب ، أو في المأكول والمشروب و المنكوح ، دون الطهارات و التعبدات التي طريقها المسامحة.
90 -أكبر الكبائر بعد الكفر بالله ، السكر :
قال بعض المحققين : أنا أرى أن أكبر الكبائر بعد الكفر بالله : السكر.
قال له جماعة عجبوا من كلامه : نسمع منك غرائب!
قال : أنتم الغرباء عن الفهم ، ليس كلامي غريبا ، ولئن كان غريبا عرّفه الدليل و البرهان. وما زال الحق غريبا بين المبطلين ، والعلم غريبا بين الجُهال. فاسمعوا برهان ما أقول :
إنّ السكر يعمل عمل الجنون فيما يضر، وهو يغطي العقل ، فيعدم العلم الصالح للعاجلة من سياسات الدنيا وذخائر الآخرة .ولا يخفف عن العبد كما يخفف عن المجنون من إسقاط الحساب ودخول الجنة مجانا من غير عمل ، فيعدم منافع العقل ، ولا يقيم العذر في ركوب الجنايات ، بل يبقى عليه تكليف العقلاء ، حيث كان مُكسباً لتغطية العقل. ولو لم يكن من شؤم السكر إلا انقطاع ما بين صاحبه وبين ربه ، وعدم معرفته بدينه، فالسكران لا يعرف دينه فيعتذر منه و لا ربه فيعتذر ويتوب إليه. فهل في المعاصي ما يبلغ بصاحبه هذا المبلغ ؟
91 - قال النبي (صلى الله عليه وسلم) : ( كفى بالمرء فتنة أن يُشار اليه بالأصابع ).
قيل : ما الفتنة في ذلك ؟
قلتُ - وبالله التوفيق - إشارة الى المثال :
الإشارة الى الإنسان بالزهد تفتنه بالرغبة في الاسم ، وتخرجه عن قانون الزهد ، وتسلخه عن حقيقته ، فإنه يزهو بذلك زهو المتوجِّد ، وذلك قاتل للإنسان من طريق الأنفة من الخلق ورؤية النفس ، ذلك سبب لكل بلاء، وطريق الى كل محنة ، متى تخربق الانسان به قلّ أن يخرج من رأسه .
ترى الواحد من المشار إليهم إذا قيل له : ( هذا فلان مريض نعوده )أو ( مات نصلي على جنازته ) -وقد جاء في العيادة من السنن ما قد جاء وفي صلاة الجنازة قيراط من الأجر - استراح في التقاعد عن أسباب الثواب بقوله : (عادتي ) وبقول أتباعه ( عادة الشيخ ذاك). يا سبحان الله ! ما أقبح عادة خرجت بصاحبها عن سمت السُّنّة ! وهل جاءت الشريعة إلا بدحض العوائد لتحصل الفوائد ؟ وإن عرضت مشكلة من الحوادث الفقهية فسُئل عنها ، أنف أن يقول لا أعلم ، بل قال : ( يقع لي كذا و كذا) ، وهل الشريعة بالواقع ؟ هيهات ، ما كان أحوج هذا المسكين الى نفس طائعة خاضعة منقادة لطاعة الله كيف جاءت ، وسائلة عن أحكام الله عند من كانت ، حتى يعلم أنّ بالعزلة والانقطاع قد تقع . فأما إذا كان ذلك يورث كبراً وأنفة من فوائد الشرع ومقامات الطلب لها ، فما أخبث هذا من طريقة ! إنما الطريقة للرجال هي رياضة النفوس ودعكها للاستجابة لأوامر الله ، والصبر على عباد الله ، وإعطاء الحق من النفس لكل واحد من المساكين .
تجدهم مالو كان على أحدهم دَيْن حتى يستدعيهم رسول الحاكم تعجرفوا، ولو خاشنهم المستحق بالمطالبة صالوا ، فأرباب الأموال عملت فيهم الأموال زهواً ، وأرباب السلطنة أثّرت فيهم السلطنة تسلّطاً ، وأصحاب الزوايا كذّابون والعلماء متجبّرون .
فأين من يرث النبوة بالحمل لأعباء الأمّة وأثقال الخلق وينهض بحقوق الحق ؟ أين من يدعو إلى الله ولا يدعو الى نفسه قاطعاً للخلق عن الله؟ أين من لم يمنعه إكرام الخلق له ورؤيتهم إياه بعين -الكمال -وهو يرى النقص في نفسه وأن يتعلم ممن هو أعلم منه ، ويتبع من هو بقانون الأدب أقوم ..وإن انحط في عيون المتعصبين طلباً للكمال بحقائق العلم، وإن نقص في عيون الخلق الظانّين فيه التمام ؟ أين من خاف النقص في الفضل حسبما يخاف غيره النقص في الفرض ؟
نعوذ بالله من شخص يقنع بسوق الوقت ، وما يصلح لأهل زمانه ، دون ما يتهيأ له من الفضل !
فالرجل كل الرجل من قرر من نعم الله ما يخفى على كثير من خلقه ليشكروا ، ومن قرر حكمة الله ليسلموا البلاية ولا يضجروا. فهذا أبدا يصلح الخلق لله. وهذا مقام النبوة.
92 - شذرة في قوله تعالى : (فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري ) :
(قال يا موسى ما منعك إذ رأيتهم ضلوا) ( ألا تتبعني أفعصيت أمري) (قال يا ابن أمّ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول ) ..فموسى عتب ، وهارون اعتذر ، لا بالقدر . ما جرى على لسان موسى عذر لأخيه بقدر باريه ، ولا جرى على لسان هارون اعتذار بالقدر. والسامري لما قال له : (فما خطبك يا سامري) قال : (وكذلك سوّلت لي نفسي ) .
فتعلّموا من الأنبياء ، ولا تحدّثوا ما لم يُسمَع من ذكر القضاء و القدر .
93 - فصل ;
عجبي ممن ينتحل نحلة الإسلام ، ويزعم أنه على دين محمد (صلى الله عليه وسلم ) ، وهو يعلم محلّ الصدّيق من الدين ، وتأثيره في الإسلام ، بالسبق و التصديق و الإنفاق بالهجرة والنصرة وما أيد الله به هذه الملة ، حتى عجز الأهل عن مقامه و تقاعدوا عن إقدامه ، ثم إنه يقدّم عليه شخصاً أو يفضّل عليه أحداً .
ما هو - والله - إلا الزندقة التي أوجبت بغض من اختبر هذا الأمر. ومحال محبة شخص أو ملة مع التقاصر بقيمهما وناصرهما. ما أثّر - و الله - بغضُه أو تنقّصه إلا بغض ما قام به ، ولا معيار التديّن عندي إلا نُحْل ذلك الشيخ الكريم و الشخص النبيل العظيم ، وما أثق من نفسي بخلّة ربما تكون منجية لي إلا تعظيمه وتوقيره - ولا قويت - و الله -منّتي في أمر ديني وأنست الى معجزات نبيّي ( صلى الله عليه وسلم ) إلا حيث كان ذلك الشيخ ناظراً لي ، وكفاني به ناظراً ومعتبراً ومنتقداً ، فهو - و الله - لي أكثر من نظري وعيني .
94 - فصل تذكير :
من كان عبقا بالأذكار بحيث إن عطس قال ( الحمد لله ) ، وإن مات له ميت قال ( إنا لله ) ، وإن قُدِّم بين يديه طعام ليأكل قال ( بسم الله ) ، وإن أخبر فلم يصدَّق قال ( أقسم بالله ) ، وإن عرضت حاجة قال (يارب)، وإن مسه الضر نادى ، وإن أظلم عليه الليل ناجى ، لا يكون في الأفعال كذا ، بل عن الأوامر متخلف ، وبالنواهي كلف شغف ، ومع الرسم لا يقف .
المؤذن ينادي الى الصلاة وأنت معرِض . وحولُ الزكاة قد حال وأنت في وجه الفقير معبِّس و للزكاة غير مخرِج . وإن اتجه نحوك حق كنت بالتأويل مسقطاَ . وما هذه حال من صدرت تلك الأقوال عنه بحقيقة وجِدّ لكن باستعارة لفظ . وهذا لا يعمل مع الله عملا ، لأنه كالتملّق ، وذلك إنما ينفق على من لا يعوّل إلا على الظاهر، وهو بالعكس في حق الباري ، لأنه لا ينظر إلا الى المقاصد و السرائر .
الظواهر عنده صور منحبطة ، إن لم تصدر عن مقاصد صافية خالصة. ألم تسمعه يقول : ( لن ينال الله لحومها ولا دمائها ولكن يناله التقوى منكم ) ؟
من يسمعك عبق اللسان في القسم والدعاء والأكل و الشرب وعند الحاجة وعند كل حركة وسكنة يحسبك محِباً أو متخصِّصاً ، فإذا خبرك في باب التكليف عرفك .
ليس تعظيم الله كثرة اذّكاره باللسان ، إنما التعظيم لله سبحانه بحسن الاستابة والامتثال . ليس تعظيم شعائر الله أن تسمّن البُدن للهدايا و النحر بمنى ، تعظيم شعائر الله أن تحكّ البَدن في خلوة ، فتخاف بحكّ الموضع قطع شعرة ، فتحكّه بباطن كفّك ، نعم ، وتكون أفعالك مناسبة .
من يحترم لله في الإحرام بحيث لا يشفي نفسه من حكّ جسده ، لا يشتفي من أخيه المسلم حال غضبه ، ولا يشفي النفس من محظورات الشرع في الخلوة . حرمة الاحترام أكد من حرمة الإحرام . من هجر المحيط في الإحرام لا يلبس إذا رجع الى بيته لباس الفجور والآثام : الابريسم المحض ، أو الثوب الغصب ، أو المبتاع بالمال الغصب .
الباري موجود بكل معنى وبكل حال ، ولا تخصَّص حشمته ومواقيته ببعض الأماكن و الأحوال . من يلصق جبهته بالأرض في القبلة ، ويقبّل حجرا في الله ، ويعدو حول بيته من غير أن يظهر له في ذلك حكمة وعلّة ، لا يتعجرف على الحاكم إذا دعاه الى استخلاص حق عبد الله ، ولا يجور ---في أهواء نفسه مع مخالفة الله ، هذه أفعال مصانع أو صانع ، وإلا فالإخلاص يوجب تسوية الأحوال في حق العمّال .
إذا نظرتَ الى حقائق التكليف ، عرفتَ أنه كلّفك ضد ما تميل إليه الطباع بالكلّية . استعبدَ عقلك بالتسليم والتحكيم فيما تحتكُّ عندك فيه الشبه العارضة ، ليخضع العقل له بكونه عبدا حكّمه خالقه وكلّفه الاستدلال عليه بآثار صنعته . وكلّف النفوس الرقة والرأفة أن تذبح الحيوان وتتقرب إليه بإزهاق النفوس في أجل ، فكلّفها الرقة في بعض الحيوان الذي اطمأنت على اصطدياه في كل مكان . وكلّف الأعضاء الخضوع و السجود و الكفّ عما تميل إليه عبثا و تناولا و كمشاً . وأعدّ للطاعة أوفى جزاء وأسبغ عطاء .
95 -تذاكرنا ملازمة أهل الميت لقبره :
فقلت أنا عذراً لهم :
إنهم أحباب فارقوا بمعانٍ ، وهي الأرواح و الأخلاق و النطق و الحس ..ولم يبقَ عندنا منهم أثرٌ سوى الصوَر التي في الحفر ، ولو أمكن تركها على وجه الأرض لتُركت ، ولكنها مُنعت بسوء الرائحة والاستحالات الجثثية فأودعت في التُرَب ، وبه حُفظت . والذي بلغ إليه الجهد والطاقة والوسع ملازمة تلك الوهاد ، التي تضمنت تلك الأجساد ، من الأسلاف و الأولاد . ولا عيب على عاقل ألف كلاًّ ، ففاته معظم ذلك الكلّ ، ووجد بعضه ، فلزم ما وجد لعجزه عما فقد ، و لم يترك ما قدر على وصاله وقربه ، لما عجو عن وصله ببعده .
وكيف لا يُعذَر من تمسّك ببقعة تضمنت قالب الروح و هيكل النفس ، وهو وطن لتلك الجوهرة العجيبة والنكتة الغريبة ؟ ومعلوم تمسّك النفس بآثار الظاعنين ، كالديار و الجدار. وقد شبّبت الشعراء في أشعارها بآثار القدور و الأحواض و تخاطيط البيوت و مراتع النعم ، و ما ذلك إلا لوجدٍ في النفس وشغف في القلب بآثار المألوفين . ومن أنكر ما اصطلح عليه العقلاء ، فقد قال النكر و أبدع في القول .
فأما مذهبي أنا فالملازمة لباب من أخذ المألوف مني و سلبني ، وهو الذي أعطاني في الأول ووهبني ، ملازمة أطلب منه فيها جمع ما شتّ من الشمل ، ووصل ما قطع من الحبل ، تعويلا على ما وعد في دار السلام ، الجامعة لأهل الإسلام . وأقول بدلاً من تعداد المعدّدين على القبور ، ما يسلّي قلبي ويروّح روحي : سيّدي ! لا أعرف بولدي أو والدي سواك ، من عندك جاء وإليك رجع ، وفيما بين وهبتَه و سلبتَه قد ألفتُه وألفني ، وأنستُ به وأنت آنستني . وأنا أعلم قدرتك على الإعادة حسبما ابتدأتَ ، فبعزّتك ألا سكّنت نيران شوقي إليه بجمعي و إياه على ما كنا من طيب العيش ! فطالما كنا نتذاكر الثقة بوعدك حتى تركنا كثيرا من نقود العيش ، ونتذاكر وعيدك حتى خفنا فهجرنا ملذوذ الطبع . فيا كامل الحكمة ! بلّغنا آمالنا فيك . ويا كامل القدرة ! أعدنا إعادة تظفرنا فيها بما رجوناه من فضلك ! وها أنا على بابك أيها الكريم أقتضيك بما لا يعزب عنك ، و لا غناء لي عنه ، فلا تخيّب قصدي في وعدي ، و لا قصد سعيي في عقدي ، واحفظ لي عندك روح هذا المفقود الذي كنتُ بالأنس معه على أكمل لذة و أتمّ نعمة ، وها هو اليوم رهين هذه الحفرة ، وأنا في أثره .
فلا أزال أطالبك بما آتيتني من أدوات الطلب حتى تنفذ أو تقف بي على المطلب . يا ملك الدنيا والآخرة ! ارحم هذه الأعظم النخرة . يا حنّان ، يا منّان ! يا من منّ بالإيجاد قبل الإشاقة بالوعد ! منّ بالإعادة ، فقد شوّقتنا إلى البعث .
96 - فصل كلاميّ على جاحدي النبوات :
إن جاءت الحكماء بما واطأ العقل ، - كقول القائل منهم للتلاميذ استثارة للرأفة و الرحمة : (يا هؤلاء ! لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوان ! ألا تستحيون ؟ هذا الحيوان البهيم أسير في أيديكم ، يحب الحياة كما تحبون ، ويؤلمه من الحجر والحديد والخشب ما منه تألمون ، وأنتم عليه متسلّطون ! ) - فقد قابل ذلك ما جاءت به الرّسل مما أبهر العقل من الأمور الخارقة . وليس حكمة المخلوق بأكثر من حكمة الخالق . والخالق سبحانه قد آلم الحيوان البهيم ولم يطعن ذلك عند الحكماء في حكمته . فتشريعه لإيلام الحيوان لا يكون طاعنا في حكمته ، لأن التعليل لإماتة الحيوان بحكمة إما ظاهرة أو باطنة ، وكذلك تشريع ذبحه . فإذا لم يطعن في الحكمة عندكم إماتة الحيوان بفعله ، لم يطعن في الشرع عندنا تشريع قتل الحيوان وذبحه .
97 - تجارى قوم في ذكر الاستدلال على كون الباري عالما بإحكام أفعاله وإتقان صنائعه :
فوجّهَ عليه بعض الأصوليين أربعة أسئلة :
أحدها : أن بعض الأفعال المحكمة قد تصدر على وجه الإتقان في بعض الأحيان . مثل خروج خط يخرج بحروف صحيحة عن يد غير كاتب ، والإصابة بالسهم من غير رامِ - كما يقال : رمية من غير رامِ -
والثاني : أنه قد تصدر الأفعال المحكمة ممن لا حكمة له . وحقيقة الإحكام مناسبة الأفعال ، والإعداد لما يكون سادّاً من الحاجات في ثاني الحال . مثل العناكب والنحل و النمل ، في إحكام أعشاش وأحجرة وأقوات لأزمان مستقبلة ، كبيوت النمل التي تُحفَظ فيهن أقواتهن عن المياه و العفن ، ونقرِهن موضع نبات الحبة لئلا تنبت ..ومثل عش العقعق ببابيْن ، وبيت اليربوع بباب لخروجه و دخوله ، وباب لفراره وهربه ، والى أمثال ذلك ، ولا حكمة لهذه الحيوانات .
السؤال الثالث : قالوا ; لا يخلو أن يكون الباري قادراً على فعل المثبّط ، أو قادرا على المحكم المتقن فقط ، غير قادر على غير المحكم ، فإن قلتم : ( لا يقدر إلا على المحكم ) صار كالملجأ ، أو كالطبع الذي لا يصدر عنه إلا فعل على وجه واحد ، وإن قلتم ; ( يقدر على المثبّط المحكم ) ، فإذاً صدر غير المحكم عنه ، على أنه عالم .
السؤال الرابع ; أنه قد صدر الى الوجود غير المحكم من الأفعال ، فهلا دلّ المثبّط منها على النقيض ، وهو الجهل أو عدم العلم ؟
أجاب حنبلي فقال :
أما الإتقان ، فليس لنا ، على من أثبت أن أفعال الآدميين خلق فيه . وخروج الفعل المحكم بغير قصد من أحد أدلّتنا على كون الأفعال خلقاً لله سبحانه . ومقالة أهل الإتقان أخسّ المقالات عندنا .
وأما ما يصدر عن الهوام و البهائم ، فإنه يصدر عن أحد طريقين :
إما إلهام من الله وهو الحكيم العالم فما صدرت إلا عنه ، ويشهد لذلك قوله تعالى : ( وأوحى ربك إلى النحل ) ، بمعنى ألهمها ..
وأما قولكم : ( هل ما يصدرمنه المحكم لا يقدرعلى غيره ) ، فكلاّ ! بل الباري قادر على أن يفعل المثبط ، غير أنه إذا فعله لم يصدر عن جهل ولا عدم علم وحكمة ، لكنه قصد به المعنى المحكم ، وإن كانت صورته من طريق الحس مثبطة ، وذلك مثل المرض العارض على الصحة ، والتشويه المضاد للتحسين ، إما محنة وابتلاء ليعوّض عليه بالنعيم الدائم ، أو أو ليعلّم به ضده وهو الإحكام ، ويعرّف العباد مقدار النعمة بالإحكام و الإتقان . ولو لم يكن قادراً على المثبّط لما بان فضل الحكمة وهو المنع منه بالحكمة .
وأما وجود المثبّط وما دلّ على نقيض العلم ، فإنه ما خلا من معنى محكَمٍ متقن ، مثل مصلحة توفي على ذلك في الدنيا ، من الاعتبار و الاختيار وظهور النعمة و الشكر على السلامة في حقّ من سلم من تفاوت الخلق ونقصان الأعضاء ، كما يحصل من تنقيص البنية في حق الطبّ طلباً لسلامة الأصل .
98 - قال حنبلي في قوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا حضرت الصلاة والعشاء فابدأوا بالعشاء ، و إذا حضرت الصلاة والخلاء فابدأوا بالخلاء):
ما أبله قوما قالوا : ( بدأ بحظوظنا قبل حقوقه ) ..فعدٍّوا هذا رفقاً بطباعهم وتقديما لحظوظهم . وكَلاّ أن يكون الشرع قصد ذلك ، وإنما الفقه أنه أحب أن لا يدخلوا الصلاة بقلوب شغولة بطلب الغذاء ، أو دفع الأذى ، فلا يتكامل الخشوع ، ولا تحضر القلوب ، فدَفَع المشغلات توفُّراً على قيام الإنسان بحقوق العبادات ، مثل قوله : ( لا يقضي القاضي حين يقضي وهو غضبان ) طلباً للاعتدال ، لئلا يحصل الميل لمكان نفور الطبع ، لأنه معيار الحق . ونحن نصون معيار الأثمان والمأكولات عن العين التي تُخلّ بحقيقة وزنه ، فكيف بميزان الشرائع و الحقوق ؟
فهذا فقه الحديث ، وعليه قاس الناس صيانة الشاهد عن أن يكون عدوّاً وأن يكون أباً ، لأن تمثّل الغضب غير لابث ، ولكنه نفور يمنع تحقيق النظر ، فكيف بهوى النفس في الأولاد ومحبة إيصال الخير إليهم ؟ فلم يبقَ الشرعُ تُمسِكُه الأديان والعدالات العارضة عن أن يوقع التهمة بأربابها لأجل الطباع الموضوعة فيهم .
فافهم هذا ، فإنه من أحسن فقه الحديث .
99 - حكمة :
لا ينبغي للملك ولا لصدر من الصدرور أن يظهر من الغضب إلا بحسب ما أعدّ له من العقوبة ، فإن كانت بطشته دون غضبه ، حُقّر غضبه ، و استهين بسخطه ، وانكشف عجزه . وقد قال الناس في ذلك : ( إذا ما غضب السّوقيّ ، فالحبة تٌرضيه ).
100 - الأجساد لا تعذَّب إلا وقت إعادة الروح إليها :
استدل حنبلي على أن الأجساد لا تعذَّب إلا وقت إعادة الروح إليها - وهو وقت المساءلة - بآية عجيبة في المعنى ، وهي قوله سبحانه إخبارا عن تعذيبه لأهل النار : ( كلمّا نضجت جلودهم بدّلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ) قال : فوجه الدلالة أن الله سبحانه أخبر أن جلودهم إذا نضجت ، ونضجُها اختلال صفتها التي بتكاملها يحصل الحس ، فإن تجديدها جلودا غير نضيجة فعلٌ لذوق العذاب ، فلو كان ذوق العذاب مع النضج حاصلا لما كان تعليله بذوق العذاب بتجديدها معنى ، فلما ربط التبديل بذكر ذوق العذاب ، دلّ على أن ذلك علة لذوق العذاب، أو شرط لذوقه . وإذا كان النضج يقلّل الذوق للعذاب ، ويختلّ به الحس ، دلّ على أن بعدم الروح وزهوقها عنه أولى أن ينعدم الحس .
Bookmarks