بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
و الصلاة و السلام على محمد عبد الله و رسوله و آله و صحبحه أجمعين
العدل ضد الجور، وهو القصد في الأمور، وما قام في النفوس أنه مستقيم.
والعدل عبارة عن الاستقامة على طريق الحق بالاجتناب عما هو محظور دينًا.
وهو استعمال الأمور في مواضعها، وأوقاتها، ووجوهها من غير سرف، ولا تقصير، ولا تقديم، ولا تأخير .
و الله أرسل رسله وأنزل معهم ميزان العدل؛ ليقوم الناس بالقسط قال تعالى لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) الحديد:25


يقول ابن القيم رحمه الله (إن الله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه؛ ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسموات، فإذا ظهرت أمارات العدل، وأسفر وجهه بأي طريق كان؛ فثم شرع الله ودينه)

والعدل ميزان الله في الأرض قال تعالى(و وضع الميزان ) أي : العدل ، أي وضع في الأرض العدل الذي أمر به بين خلقه ،وهو سبحانه خلق السماوات والأرض بالحق والعدل ، لتكون الأشياء كلها بالحق والعدل فإن بالعدل صلاح الناس ، وقال تعالى : ( وأقيموا الوزن بالقسط ) أي بالعدل وقال تعالى ( ألا تطغوا في الميزان ) أي لا تجاوزوا العدل .

وقد أمر الله بإقامة العدل وحثَّ عليه في آيات كثيرة منها: قال الله تعالى ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) [النحل:90].

قال السعدي رحمه الله (فالعدل الذي أمر الله به، يشمل العدل في حقِّه، وفي حق عباده، فالعدل في ذلك أداء الحقوق كاملة موفرة؛ بأن يؤدي العبد ما أوجب الله عليه من الحقوق المالية والبدنية والمركبة منهما في حقِّه وحقِّ عباده، والعدل هو ما فرضه الله عليهم في كتابه، وعلى لسان رسوله، وأمرهم بسلوكه،) .

وقال الله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا )[النساء:135].

يقول ابن كثير رحمه الله (يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا قوَّامين بالقسط، أي: بالعدل، فلا يعدلوا عنه يمينًا ولا شمالًا).

ولقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم العدل وحث عليه و رغب فيه فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: ((بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكارهنا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالعدل أين كنَّا، لا نخاف في الله لومة لائم)) رواه النسائي ، وقال صلى الله عليه وسلم( إنَّ المقسطين يوم القيامة على منابر من نور، عن يمين الرحمن، -وكلتا يديه يمين- الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وَلُوا )رواه مسلم و أحمد ،وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (سبعة يظلُّهم الله تعالى في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه: إمام عدل، ..) متفقعليه.

قال ابن حزم رحمه الله (أفضل نعم الله تعالى على المرء أن يطبعه على العدل وحبه، وعلى الحقِّ وإيثاره) .
وقال ابن تيمية رحمه الله (العدل نظام كلِّ شيء، فإذا أُقيم أمر الدنيا بعدل قامت، وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل لم تقم، وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة)
والعدل إعطاء الحق إلى صاحبه ،وهو الأصل الجامع للحقوق الذاتية وحقوق المعاملات ، إذ المسلم مأمور بالعدل في ذاته ، قال تعالى ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) ، ومأمور بالعدل في المعاملة وهي معاملة مع خالقه : بالاعتراف له بصفاته وبأداء حقوقه ، ومعاملة مع المخلوقات : من أصول المعاشرة العائلية والمخالطة الاجتماعية ، وذلك في الأقوال والأفعال ، قال تعالى ( وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى )، وقال تعالى ( وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل )
و لمـا كـان اللـه - تعالى - لا مِثْل له ولا نِدَّ له ولا كفؤ له كما قال - سبحانه وتعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: ١١]؛ كان التفريق بين الخالق والمخلوق - وهو التوحيد - من العدل؛ لذا كان توحيد الله - تعالى - وإفراده بالعبادة أعلى مراتب العدل ، وكانت المساواة بين الله - تعالى - وخلقـه مـن أبين صـور الظلـم وأقبحـه.
قـال الله - سبحانه وتعالى - في ذم المشركين: {الْـحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} الأنعام: ١( يعدلـون ) أي يسوون بربهـم ما يعبدون من الأصنام والأوثان وهو الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور

لذا كان الكفر بالله تعالى والشرك أقوى مراتب الظلم، قال الله تعالى {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِـمُونَ} البقرة254، وقال تعالى {إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} لقمان 13
والعدل كما يتناول التوحيد فإنه يتعدى ذلك ليشمل السلوك الإنساني كله: في الفكر والتصورات، وفي القول والعمل، مع الذكر والأنثى، والكبير والصغير، والقريب والبعيد، والموافق والمخالف، والصديق والعدو، والغني والفقير.
قال - تعالى - آمراً بقول الحق {وَإذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} الأنعام: 152، وقال آمراً بالعدل في الصلح بين الفئات المتقاتلة: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا} الحجرات: ٩، وقال في كتابة الدين {وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} البقرة: ٢٨٢، وقال في إملاء الدين {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} البقرة: ٢٨٢، وقال آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم في ما يقوله في دعوته لأهل الكتاب: {وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} الشورى:15، وقال آمراً بالعدل في كل شيء أمراً مطلقاً: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ} النحل: 90.

وبقدر ما أَمَرَ الإسلامُ بالعدل وحثَّ عليه، حَرَّمَ الظلم أشدَّ التحريم، ، سواء ظُلْـم النفس أم ظُلْـم الآخرين، ففي الحديث القدسي: "يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْـمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا" مسلم.

وحقيقة الظلم : وضع الشيء في غير موضعه ، وهذا مناف لكمال الله تعالى وعدله ، فلذلك نزّه الله تعالى نفسه عن الظلم فقال { وما أنا بظلام للعبيد } ق : 29 ، وقال تعالى { وما الله يريد ظلما للعباد } غافر : 31.

ولئن كان الله تعالى قد حرّم الظلم على نفسه ، فقد حرّمه على عباده ، وحذّرهم أن يقعوا فيه ؛ وما ذلك إلا لعواقبه الوخيمة على الأمم ، وما ظهر الظلم بين قوم إلا كان سببا في هلاكهم ، وتعجيل العقوبة عليهم ، كما قال سبحانه في كتابه العزيز : { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد } هود : 102

ومن ثمّ كانت دعوة المظلوم عظيمة الشأن عند الله ، فإن أبواب السماء تفتح لها ، ويرفعها الله فوق الغمام يوم القيامة ، بل إنه سبحانه وتعالى يقول لها ( وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين )رواه الترمذي ، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلملمعاذ: " وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْـمَظْلُومِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ" رواه البخاري ومسلم
ختاما
إن العدل من القيم الأساسية التي جاء بها الإسلام، وجعلها من مُقَوِّمَاتِ الحياة الفردية والأسرية والاجتماعية والسياسية، حتى جعل القرآنُ إقامةَ القسط - أي العدل - بين الناس هو هدف الرسالات السماوية كلها، فقال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ

وَالْـمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25]

والعدل في الإسلام لا يتأثَّر بحُبٍّ أو بُغْضٍ، فلا يُفَرِّقُ بين حَسَب ونَسَب، ولا بين جاهٍ ومالٍ، كما لا يُفَرِّقُ بين مسلم وغير مسلم، بل يتمتَّعُ به جميعُ المقيمين على أرضه من المسلمين وغير المسلمين، مهما كان بين هؤلاء وأولئك من مودَّة أو شنآنٍ.
سبحان ربنا رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .


منقول بتصرف من
1- تفسير القرطبي
2- تفسير ابن كثير
3- تفسير الطبري
4- تفسير البغوي
5- التحرير والتنوير
6- الموسوعة الأخلاقية ( الأَخلاق المحمودة ) - العَدْل
7- العـــدل قيمة إسلامية مُطْلَقة ( محمد بن شاكر الشريف )
8- شرح الأربعين النووية ( اسلام ويب )
9- قيمة العدل في الإسلام د.راغب السرجاني