الحمدُ لله ..
من طالع "البداية والنهاية" لابن كثير ونحوه من كتب التاريخ يفزع من الكوارث التي كانت تُصيب البلاد وأرَّخوا لها ، فالزلال والخسف والصيحة والأوبئة والمجاعات وغيرها متكرر بصورة عجيبة !
والمؤمن يُبصر في أي بلاء عاقبة الذنوب "فأهلكناهم بذنوبهم" ، وتخويف الله لعباده ليرجعوا إليه "فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا" .
وكان ما يجري من العقوبات على السابقين من المسلمين مناسبا لأحوالهم ؛ أما اليوم فقد ولَجت على الأمـة ظُلماتٌ هائلة لا كاشف لها إلا الوَلِيّ الحميد ؛ وهذا مُوجِبُ سخطٍ عظيم وعقوبات تناسب الحال ، نسأل الله لُطفه ودفع البلاء عنا وعن المسلمين .
لكن يبدو أن ما نُبتلى به من عقوبات إما أنه ليس من جنس ما عوقب به الأولون ، أو أننا بلغنا مبلغًا عظيمًا حتى صرنا أولى بالاستدراج .
فمن تلك العقوبات أن ضُربت علينا الذلة ، وقد حذرنا صلى الله عليه وسلم من هذه العقوبة ، فقال : " إذا تبايعتم بالعينة ، وأخذتم أذناب البقر ، ورضيتم بالزرع ، وتركتم الجهاد ، سلط الله عليك ذلا لا ينزعه عنكم إلا أن تعودوا إلى ربكم " .
وقد يكون استدراجًا لنا وإملاءً !! وقد بين سبحانه الحكمة من إمهاله الكثير من الكفار والعصاة وعدم أخذه لهم بالعقاب العاجل والعذاب الدنيوي .. قال سبحانه :
= " وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَـرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِـمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَـزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَـذَابٌ مُهِيـنٌ "
= " أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ ۞ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُـرُونَ "
= " ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ "
= " وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ "
= " وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ۞ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ "
= " فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ۞ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ " .
قال ابن كثير على قوله سبحانه" سَنَسْتَدْرِجُهُمْ " : ومعناه أنه يفتح لهم أبواب الرزق ووجوه المعاش في الدنيا حتى يغتروا بما هم فيه ، ويعتقدوا أنهم على شيء ا.هـ
وأخرج الإمام أحمد بإسناد صحيح عن عقبة بن عامر الجهني - رضي الله عنه - عن النبي ﷺ أنه قال : ( إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحبّ فإنما هو استدراج ) .
ولما كان من حكمة هذه العقوبات أن يُفزع الله عباده إليه ويخوفهم منه ، وهذا – والله أعلم – في زماننا لا أثَر له ، إذ انشغل الناس بالحديث عن الأسباب المادية فقط ، حتى أنكر كثيرٌ منهم نسبة هذه الحوادث إلى الله عز وجل ، فتلاشى الخوفُ وبقيَ الإصرار على مساخطه ، بل والزيادة ؛ فصار لا أثر للحكمة في تعجيل العقوبة الذي هو رجوع العباد إلى ربهم بإقلاعهم عن مساخطه .
عن معاذ بن جبل – رضي الله عنه – قال : ( كان في بني إسرائيل رجل عقيم لا ولد لـه ، وكان يخرج ، فإذا رأى غلاماً من غِلْمَان بني إسرائيل عليه حلي يخدعه حتى يدخل بيته فيقتله ويلقيه في مطمورة له ، فبينما هو كذلك إذْ لقي غلاميْن أخويْن عليهما حُلِيّ فأدخلهما بيته ، وقتلهما وطرحهما في مطمورته ، وكانت له امرأة مسلمة تنهاه عن ذلك وتقول لـه : " إني أحذرك عن النقمـة من الله عزَّ وجل " ، فيقـول : " لو أن الله يأخذني على شيء لأخذني يوم فعلت كذا وكذا " ، فتقول له المرأة : " إنَّ صَاعك لم يمتلئ ، ولو امتلأ صاعك لأُخِذْتْ " ، فلما قتل الغلامين خرج أبوهما في طلبهما فلم يجد أحداً يخبره عنهما ، فأتى نبياً من أنبياء بني إسرائيل وذكر ذلك له ، فقال له ذلك النبي : " هل كان معهما لعبة يلعبان بها ؟! " ، فقال أبوهما : " نَعَـم ، كان لهما جِرْو " ، قـال : " فأتني به " ، فأتاه به ، فوضع النبي خاتَمه بين عينيه ، ثم خلى سبيله ، ثم قال : " أول دارٍ يدخلها من دور بني إسرائيل فيها بيان ذلك " ، فأقبل الجرو يتخلل الدُّور حتى دخل داراً من دور بني إسرائيل ، فدخلوا خلفه ، فوجدوا الغلامين مقتولين مع غلمان كثيـرة قد قتلهم وطرحهم في المطمورة ، فانطلقوا به إلى ذلك النبـي – عليه السلام - ، فأمر به أن يصلب ، فلما رُفع إلى الخشبة أتته امرأته وقالت : " قد كنت أحذرك هذا اليوم ، وأخبرك أن الله غير تاركك وأنت تقول : لو أن الله يأخذني على شيء لأخذني يوم فعلت كذا وكذا ، فأُخبرك أن صاعك لم يمتلئ بعد ، أَلاَ وإن صاعك قد امتلأ ! " ) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان .
وفي الصحيحين عن عائشة – رضي الله عنها - أن رسول الله : ( كان إذا رأى غيماً أو ريحاً عُرف في وجهـه ؛ قالت : يا رسول الله .. إن الناس إذا رأوا الغَيْم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر ، وأراك إذا رأيتـه عُرف في وجهك الكراهيـة ؟! ، فقال : يا عائشـة .. ما يُؤمنِّي أن يكون فيه عذاب ؟! .. عُذب قوم بالريح ؛ وقد رأى قوم العذاب ، فقالوا : هذا عارض ممطرنا ) .
والله أعلم .
Bookmarks