نقل السيوطي عن الجويني أنه قال: كلام الله المنزّل قسمان:
«قسم» قال الله لجبريل: قل للنبي الذي أنت مرسل إليه، إن الله يقول: افعل كذا وكذا. وأمر بكذا وكذا، ففهم جبريل ما قاله ربه ثم نزل جبريل على ذلك النبي «محمد صلّى الله عليه وسلم» وقال له ما قاله ربه، ولم تكن العبارة تلك العبارة، كما يقول الملك: لمن يثق به: قل لفلان يقول لك الملك: اجتهد في الخدمة، واجمع جندك للقتال، فإن قال الرسول: يقول لك الملك لا تتهاون في خدمتي، ولا تترك الجند يتفرق وحثهم على المقاتلة، لا ينسب إلى كذب ولا تقصير في أداء الرسالة.
«قسم آخر» قال الله لجبريل: اقرأ على النبي صلّى الله عليه وسلم هذا الكتاب، فنزل به جبريل من الله من غير تغيير، كما يكتب الملك كتابا ويسلمه إلى أمين ويقول: اقرأه على فلان، فهو لا يغير منه كلمة ولا حرفا»
اه.
قال السيوطي بعد ذلك: قلت: القرآن هو القسم الثاني: والقسم الأول هو السنة.
كما ورد أن جبريل كان ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن.
ومن هنا جاز رواية السنة بالمعنى؛ لأن جبريل أداها بالمعنى، ولم تجز القراءة بالمعنى لأن جبريل أدى القرآن باللفظ، ولم يبح له أداؤه بالمعنى. والسر في ذلك أن المقصود منه التعبد بلفظه والإعجاز به، فلا يقدر أحد أن يأتي بلفظ يقوم مقامه، وأن تحت كل حرف منه معاني لا يحاط بها كثرة، فلا يقدر أحد أن يأتي بدله بما يشتمل عليه.
والتخفيف على الأمة حيث جعل المنزل إليهم على قسمين: قسم يروونه بلفظ الموحى به، وقسم يروونه بالمعنى. ولو جعل كل مما يروى باللفظ لشق، أو بالمعنى لم يؤمن التبديل والتحريف فتأمل.
اه.
أقول: وهذا كلام نفيس، بيد أنه لا دليل أمامنا على أن جبريل كان يتصرف في الألفاظ الموحاة إليه في غير القرآن. وما ذكره الجويني فهو احتمال عقلي لا يكفي في هذا الباب. ثم إن هذا التقسيم خلا من قسم ثالث للكتاب والسنة، وهو الحديث القدسي الذي قاله الرسول حاكياً عن الله تعالى، فهو كلام الله تعالى أيضا، غير أنه ليست فيه خصائص القرآن التي امتاز بها عن كل ما سواه. ولله تعالى حكمة في أن يجعل من كلامه المنزل معجزا وغير معجز لمثل ما سبق في حكمة التقسيم الآنف، من إقامة حجة للرسول ولدين الحق بكلام الله المعجز، ومن التخفيف على الأمة بغير المعجز؛ لأنه تصح روايته بالمعنى، وقراءة الجنب وحمله له ومسه إياه إلى غير ذلك.
وصفوة القول في هذا المقام أن القرآن أوحيت ألفاظه من الله اتفاقا، وأن الحديث القدسي أوحيت ألفاظه من الله على المشهور، والحديث النبوي أوحيت معانيه في غير ما اجتهد فيه الرسول والألفاظ من الرسول صلّى الله عليه وسلم، بيد أن القرآن له خصائصه من الإعجاز والتعبد به ووجوب المحافظة على أدائه بلفظه ونحو ذلك. وليس للحديث القدسي والنبوي شيء من هذه الخصائص، والحكمة في هذا التفريق أن الإعجاز منوط بألفاظ القرآن، فلو أبيح أداؤه بالمعنى لذهب إعجازه، وكان مظنة للتغيير والتبديل والاختلاف في أصل التشريع والتنزيل، أما الحديث القدسي والحديث النبوي فليست ألفاظهما مناط إعجاز، ولهذا أباح الله روايتهما بالمعنى، ولم يمنحهما تلك الخصائص والقداسة الممتازة التي منحها للقرآن الكريم، تخفيفاً على الأمة ورعاية لمصالح الخلق في الحالين من منح ومنع، إن الله بالناس لرءوف رحيم

______________________________
الكتاب: الحديث في علوم القرآن والحديث
المؤلف: حسن محمد أيوب (المتوفى: 1429هـ)