أكثرهم للحقِّ كارهون
(تفكيك الخطاب الديني)
محمد العربي
(أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) سورة المؤمنون, آية 23.
(لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) سورة الزخرف, آية 78.
(وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) سورة الأنعام, آية 116.
(وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا) سورة نوح, آية 7.
لماذا أكثرُ أهل الأرض ليسوا مسلمين؟ الإجابة: أكثرهم للحق كارهون! هذه هي الإجابة المفضلة لدى المسلمين. وما ينطبقُ على المسلمين ينطبق على غيرهم, فلو سألنا المسيحي: لماذا أكثر أهل الأرض ليسوا مسيحيين؟ فسيجيب: أكثرهم للحق كارهون, وهكذا! هل من المعقول أن يكره أحدٌ الحق؟ إنَّ هذا الأمر ممتنع عقلاً؛ فلا أحد يكره الحق إذا علمَ, أو أدركَ أنه حق, من المستحيل أن يكره أحدٌ الحق؛ خصوصاً إذا كان هذا الحق, كما في حالة الأديان السماوية, غير مرتبطٍ بهذه الحياة التي تشهدُ على نفسها بالفناء؛ بل هو الحق الذي يحدثنا عن بعثٍ, وحسابٍ, وخلودٍ سرمديٍ؛ إما في الجنة وإما في النار - إنه الحق الكوني. إنَّ مجرد استحضار هذه الأفكار يثيرُ في النفسِ رهبةً لا تعلوها رهبة: البعث, الحساب, الجنة, النار, العذاب الأبدي.. إنَّ الإنسانَ إذا استحضر هذه الأفكار, وهو غيرُ مقتنعٍ بها, فسيصابُ بالرهبة, فما بالنا بالذي يدركُ أنَّ هذه الأفكار حق؟ فهل يعقل أن يدركَ أنها حق ثمَّ يرفضها؟ لماذا يرفضها؟ ما مصلحته لكي يرفضَ عرضاً بالخلود الأبدي في جنة النعيم مقابل الإيمان بأفكار معينة وتأدية بعض الشعائر؟ ما مصلحته لكي يكفرَ بالحق, وهو يعلمُ أنه حق؛ أي إنه يدركُ أنَّ مصيره جهنم خالداً فيها إلى أبد الآبدين إذا هو كفر؟! من هو العاقل الذي يريد الخلود في نار جهنم؟! إذا كانت الجنة حق, والنَّارُ حق, والناسُ مخيرونَ بينهما, فالجميعُ سيختارُ الجنّة, ولا أحد سيختار النار؛ إلا إذا كانَ غير عاقل, وما دام كذلك؛ فبأيِّ حقٍ يدخل النار؟! ما ذنبهُ ليدخلَ النَّارَ؛ فهوَ لا يعقل, أو لا يعلم, ولو كانَ يعقل, أو يعلم؛ فلن يختارَ إلا الجنَّة, ففي غيرِ هذا استحالةَ, فالعقلُ والعلمُ يوجبانِ عليهِ اختيارَ إلى الجنَّةِ؟!
لا بدَّ أن يتبعَ الإنسانُ الحقَّ, وهو لن يتبعَ الحق إلا في هذه الحالات (وهو معذور فيها جميعاً):
(1) أن يكون مكرهاً, وفي هذه الحالة فهو ظاهراً مع الباطل, وباطناً مع الحق.
(2) أو إذا كان هذا الحقُّ محاطاً بغيومٍ من الباطل تحجبه, فهو لا يرى الحق, ولن يراه, على الوجه الصحيح؛ إلا إذا انقشعت هذه الغيوم.
(3) أو أنه لم يسمع بهذا الحق, أو أنه سمع عنه القليل.
(4) أو أن يكون في طور البحث والتأكد من أدلة وبراهين هذا الحق.
(5) أو أن يكونَ جاهلاً؛ أي أنه جاهلٌ بأنَّ "الحق" حق.
(6) أو أن يكونَ فاقداً للعقل, وفقدانُ العقل لا يعني الجنون فقط؛ بل قد يشمل ذلك بعض الأمراض النفسية.
(7) أو أن يكونَ غير مقتنعٍ بأنَّ هذا "الحق" حق, وهذه الحالة لها تعلق بمسألتين متداخلتين:
- الأولى: النسبية البشرية في التلقي والفهم.
- الثانية: الظروف الحياتية (الاجتماعية, السياسية, الاقتصادية..) للإنسان.
النسبية البشرية في التلقي والفهم
مثال: هل أدلة وبراهين الإسلام نسبية أم مطلقة من حيث الإقناع؟ إذا كانت نسبية, فهذا يعني أنَّ من لم يقتنع بالإسلام فلا ذنب عليه. أما إذا كانت مطلقة (وهذا مستحيل عقلاً, وواقعاً), فهذا يعني: أنَّ كل البشر, اليوم, مسلمون, ولا وجود لدينٍ غير الإسلام. فهذه الأدلة المطلقة, التي تتجاوز مفهوم النسبية, ستكون أشبه بــــــ: 1+1=2؛ بل هي أصدق من ذلك, وهذا يعني لو تدبرنا المسألة جيداً, أنَّ هذه الأدلة المطلقة الإقناع ستجبر الإنسانَ جبراً على اعتناق الإسلام؛ فهي أدلة مطلقة! وكما قلنا فالعقل والواقع يرفضانِ هذا. إذاً فأدلة وبراهين الإسلام نسبية الإقناع, وما دامت كذلك, فلا ذنب على من لم يؤمن بالإسلام. وما يقال عن الإسلام يقال عن غيره من الأديان.
الظروف الحياتية للإنسان
تحولُ الظروف التعليمية, واللغوية, والاجتماعية, والنفسية, والاقتصادية, والسياسية, والبيولوجية..الخ, بينَ الإنسان وبين وصوله إلى طريق الحق, هذه حقيقة لا يستطيعُ أن ينكرها أحد, فالظروف الحياتية تحدد "خيارات" الإنسان, إنَّ الإنسان لن يستطيع القفزَ فوق هذه الظروف إلا إذا تهيأت له ظروف أخرى؛ أي إنَّ الإنسان أسير من ظروف إلى ظروف. والظروف الحياتية تؤسس لمفهوم النسبية في التلقي والفهم.
هذه هي الحالات التي لا يتبع فيها الإنسانُ الحق, أي إذا وجدنا إنساناً يكره, أو يرفض, أو يحارب الحق, فعلينا أن نفتش عن هذه الحالات, وذلك من خلال القيام بعملية مسح شامل لتاريخ هذا الإنسان وحاضره, ولا بدَّ من وجود حالة واحدة على الأقل من هذه الحالات. إذا كان الإنسانُ عاقلاً, وعالماً بالحق, ولم يكن مكرهاً, فلا بدَّ أن يتبع الحق, من المستحيل أن لا يتبع الحق.
وطبعاً فإنَّ الحقَّ الذي يتحدث عنه المسلمونَ, هو الحق من وجهة نظرهم؛ فكل دين, بل وكل مذهب داخل الدين, يظنُّ أهله أنه الحق المطلق, وما سواه هو الباطل, أو الباطل المطلق؛ أي إنهم يفترضون في دياناتهم, كلٌ على حدة, أنها واضحة وضوح الشمس, وأنها تخاطب العقل, وأنها تقيم الحجة على كل البشر.. ومع ذلك فغالبية البشر ترفض الإيمان بها!
إنَّ الدين, أي دين, من حيث المبدأ, غير قابل للتكذيب؛ فإذا أخذنا مثلاً العلوم الطبيعية, كالفيزياء, والكيمياء, فسنجد أنَّ هذه العلوم قابلة للتكذيب؛ فنحن نستطيعُ إجراء اختبار, علمي, محسوس, للتأكد من صدقها, وسواء أصادقة كانت فرضيات ونظريات وقوانين هذه العلوم أم كاذبة, فستظلُّ علماً؛ أي مصنفة في خانة العلم, أما الدين فليس علماً, ولنأخذ الإسلام مثلاً: فالإسلام دين يقدم نفسه على أنه دين سماوي يحدثنا عن اليوم الآخر, والحساب, والجنة, والنار, من خلال كتاب مقدس اسمه القرآن, وقد نزل هذا الكتاب منجماً, من عند الله, عن طريق ملاك من السماء اسمه جبريل, على إنسانٍ عربي اسمه محمد بن عبد الله قبل أكثر من 1400 سنة في مكة والمدينة وما بينهما, ويطلب منا القرآن, ويطلب منا نبي القرآن, ويطلب منا أتباع هذا النبي, أن نؤمن بالإسلام, والقرآن, وإلا كان مصيرنا جهنم, إنَّ من لا يؤمن بالإسلام, فمصيره جهنم, هذا هو أساس الدعوة الإسلامية. ويزعم المسلمون أنَّ دينهم هو الدين الحق, بل هو الحق المطلق, وأنه دعوة لكل البشرية, وأنَّ الأدلة على صدقه لا تحصى ولا تعد, وأنه يخاطب العقل, بل هو دين العقل والعقلانية, بل إنهم يزعمون أنَّ الإنسان يولدُ مسلماً بالفطرة بمعنى من المعاني. حسناً؛ كيف نعرف أنَّ الإسلام حق؟ هل هناكَ طريقة, عقلية, علمية, نستطيعُ من خلالها التأكد من صدق الإسلام؟ كيفَ نتأكدُ من صدق النبي محمد فيما أخبر عنه؟ كيف نتأكد أنَّ القرآن نزل من عند خالق الكون؟ هل يكفي أن يقول شخصٌ ما قبل 1400 سنة إنَّ الوحي ينزل عليَّ من السماء لكي نصدقه؟ إذا افترضنا أنَّ معاصريه قد شاهدوا أدلةً وبراهيناً على صدقه, فماذا عنا نحنُ الذين لسنا متأكدين حتى من وجود النبي محمد وصحابته في ذلك الزمن؟ وطبعاً لا يوجد إجابات عقلية, علمية, عن هذه الأسئلة, لا يوجد سوى الإجابة الإيمانية.
وطبعاً فالمسلمونَ, وغير المسلمين من أصحاب الأديان, يقولون: بما أنَّ الأديان غير قابلة للتكذيب, فهذا يعني أنَّ لا أحدَ يستطيعُ الحكم عليها بالسلب؛ أي هي ترتفع فوق قاعدة القابلية للتكذيب. وهذا الكلام غير دقيق, وهكذا يجب أن تكون العبارة: لا أحد يستطيع الحكم عليها بالسلب أو الإيجاب. فقد نسي أصحابنا, أو تناسوا, نقطة مهمة جداً وهي: كيف نحكم بين أهل الأديان فيما اختلفوا فيه؟ على أيَّ أساسٍ إذاً تتم المفاضلة بين الأديان ما دامت الأديان فوق مستوى العقل؟ لماذا فلان على ذلك الدين وعلان على دين آخر؟ على أيِّ أساس تحول فلان من هذا الدين إلى ذلك الدين؟ كيف نفهم النقاشات الدينية والمذهبية التي لم تنتهِ منذ مئات السنين؟ إنَّ قاعدة القابلية للتكذيب قد تمنح الدين, أي دين, شرعية وجود, وبهذا تستوي الأديان جميعاً, ولكن ماذا بعد؟ هذا ما يعجز أهل الأديان عن الإجابة عنه.
والطريف أنَّ المسلمين (أو بعضهم) يتساهلونَ, كما في بعض خطاباتهم, مع غير المسلمين الذين لم يصلهم الإسلام, أو الذين وصلهم مشوهاً, ولكنهم لا يتساهلون مع الذين وصلهم الإسلام كما هو. وفي هذه الحالة خيرٌ لكَ أن لا يصلك الإسلام من أن يصلك! لأنه إن وصلك الإسلام فأنتَ بين خيارين: الإيمان, أو الكفر, أما إن لم يصلكَ فأنتَ تعتبر في عداد المسلمين! وتعريف المسلمين لوصول الإسلام إلى الإنسان بسيط للغاية: فيكفي أن تسمع عن الإسلام, ونبي الإسلام, ومبادئ الإسلام الرئيسية لكي تقام عليكَ الحجة!
هذا وحاولَ, ويحاولُ, بعض المسلمين الخروج من هذا المأزق عبر البحث عن تفسيرات, أو تأويلات جديدة للنص القرآني, وقد انتشرت دراسات عديدة في هذا الشأن منذ تسعينيات القرن الماضي, مع بدء صعود الحركة القرآنية؛ الحركة التي ترفض الأحاديث النبوية, أو تتحفظ على أكثرها, وأعتقدُ أنَّ رائد هذه الدراسات هو الدكتور محمد شحرور, صاحب الكتاب الشهير (الكتاب والقرآن)؛ فقد قام الدكتور شحرور بتوسيع مفهوم الإسلام ليشمل, تقريباً, كل أهل الأرض! ولا يهمنا هنا أنجح شحرور أم لم ينجح, ما يهمنا أنَّ المسلمين بدأوا يسشعرونَ حرج الموقف!
مزيد من التوضيح: قلنا إنَّ الإسلامَ يحدثنا عن يوم الحساب والجنة والنار.. وأن من يرفض الإسلام, فمصيره جهنم خالداً فيها إلى أبد الآبدين, وأنَّ البشر يعلمونَ أنَّ الإسلام هو الحق. النتيجة: إنَّ البشر يعلمونَ أنَّ الإسلام هو الحق, وأن مصير من لا يؤمن به جهنم خالداً فيها إلى ما لا نهاية؛ ومع ذلك فهم يصرون على الكفر بالإسلام!! إنَّ البشر, بحسب منطق المسلمين, يلقون بأيديهم إلى التهلكة عن علم, إنهم يسعون سعياً إلى النار, يتسابقونَ ليُعذبوا عذاباً سرمدياً!! فكيف نصدق هذا الكلام؟!
اختبار نفسي: إنَّ أصحاب الأديان, تحديداً السماوية, يؤمنونَ بقاعدة "أكثرهم للحق كارهون", سواء أصرحوا بذلك أم لم يصرحوا, فالمسلم بالنسبة للمسيحي كاره للحق, والعكس أيضاً, واليهودي بالنسبة للمسلم كاره للحق, والعكس, واليهودي بالنسبة للمسيحي كاره للحق, والعكس, والملحد بالنسبة للمسلم كاره للحق..الخ, بل إنَّ بعض الملحدين, واللادينيين, الذينَ جعلوا من إلحادهم, ولادينيتهم, وفلسفاتهم, عقيدة شمولية أو مغلقة, يؤمنون بهذه القاعدة, وهكذا!
عزيزي القارئ؛ بغض النظر عن عقيدتك (يهودي, مسلم, مسيحي, ملحد, لاديني..): هل أنتَ كاره للحق كما يقول عنك الآخر؟ هل أنتَ فعلاً تدركُ أنَّ عقيدة الآخر هي الحق وأنَّ عقيدتك هي الباطل؟ هل أنت فعلاً تسعى برجليك إلى نار جهنم؟
ونذكِّرُ بأنَّ الفكر السليم يرفض قاعدة "أكثرهم للحق كارهون", للتوضيح: إنَّ هذه العبارة (الآية), كما فهمها المسلمون (أو بعضهم) تحديداً, تفترض, دائماً وأبداً, أنَّ الأقلية على حق, والأكثرية على باطل, وهذا وهم! فالحق لا يعرف أكثرية وأقلية, فقد يكون الحق مع الأكثرية, وقد يكون مع الأقلية, مثال:
الأقلية على حق, والأكثرية على باطل.
اليهود أقلية, والمسلمونَ أكثرية.
إذاً فاليهود على حق, والمسلمون على باطل!
هل سيوافق المسلمونَ على هذه النتيجة؟! وهكذا فإنَّ هذه "القاعدة" تتعارض مع الفكر السليم إذا ما جعلناها قاعدة عامة, كلية.
الخلاصة: لا أحدَ يكره الحق, ولا أحد يلقي بنفسه إلى التهلكة, محالٌ أن يفعل الإنسانُ ذلكَ, خصوصاً أنَّ هذا الحق غير مرتبطٍ بهذه الحياة الفانية, وأنَّ هذه التهلكة تهلكةٌ عظمى, إنها: خلودٌ أبديٌّ في النار. وطبعاً فإنَّ كل هذه الأسئلة, وكل هذه الملاحظات, لا قيمة لها عند المؤمنين: فهناك حكمةٌ لا نعلمها, وما علينا إلا السمع والطاعة! وما دامَ كل شيءٍ في النهاية سيرتد إلى الإيمان=التسليم=عدم التفكير؛ فسيستوي الخطابُ الإسلامي مع الخطابِ المسيحي مع الخطاب اليهودي.. وتصبحُ المفاضلة بين الأديان, والمذاهب, نوعاً من العبث!
Bookmarks