الأحكام لِمطاردات الحُكَّام
المطاردة والتعقُّب والبحث عن المدَّعى عليه من الموضوعات العميقة التي لم يُشبع الكلام حولها في الفقه الاسلامي المقارن .
ولعل من أسباب ذلك هيمنة السلطة التنفيذية على القضاء ردحاً من الزمن ، ولسطوة بعض الحكام على المخالفين وفتاويهم في كثير من الأحيان في ظل الفِتن السياسية في القرون الماضية .
ولا يخفى أن باب فتح الذرائع كسدِّ الذراع يجب فيه الحزم لا سِّيما في آخر الزمان الذي اختلطت فيه الفتن واضطربت فيه نفوس الناس .

لكن بعض أحكام المطاردة الدقيقة مرقومة في ثنايا أبواب الحدود والجنايات وأحكام قُطَّاع الطريق والمحاربين ، في بعض المصنفات الفقهية وفي بعض كتب الأشباه والنظائر .
ويمكن للبصير بالفقه وأصوله استخراج ما يشفي غليله منها بأيسر سبيل وبلا عناء أو كلفة .
وقد قيَّدتُ على نسختي من الموسوعة الفقهية الكويتية ملاحظات حول هذه المسألة . فقد أغفل المحرِّرون لها تدوين الحكم الإجمالي والتفصيلي لأحكام المطاردة على غير عادتهم ، فلم يتناولوا الناحية الفقهية واقتصروا على التأصيل الأصولي واللُّغوي للحكم . فليُستدرك هذا التنبيه في محلِّه من الموسوعة فإنه مهم .

وكنتُ قد وقفتُ طويلاً عند سيرة الإمام سفيان الثوري (ت: 161هـ) ومطاردة الخليفة العباسي المهدي ( ت: 169هـ) له من مكة إلى البصرة ومن اليمن إلى أذربيجان ومن بغداد إلى بيت المقدس ، وكيف كان يعاني من التشرُّد والخوف من العيون في أسفاره ورحلاته حتى مات مستخفيًا رحمه الله تعالى .
ومن قلَّب صفحات تاريخ الدولة الأموية والعباسية لن يعاني كثيراً من الوقوف على أخبار المطاردين من الفرسان والعلماء وأهل الوقائع . وكلٌّ بحسب نيته .
وفي تاريخ ابن عساكر ( ت: 571 ه ) رحمه الله تعالى أخبار كثيرة بأسانيد حسنة وضعيفة عن المطارَدين والمتوارين عن الحكام ، وفيها من العِبر ما يجعلها كماء العين الذي يشتاق إليه أهل العمى والبصائر .

وفي تاريخ نجد لابن بِشر الحرقوصي ( ت: 1288هـ ) سرد لكثير من الأخبار عن جور بعض الولاة وهروب الصالحين منهم .
وفي العصر الحاضر هروب مسلمي الروهينغا من التطرف البوذي ،وهروب علماء الشام من النصيرية الظالمة المجرمة وهروب مجاهدي فلسطين من الموساد اليهودي الغاشم .

وقد ورد مفهوم الطرد بتعابير مختلفة لهذا المعنى في الولايات وأحكامها مثل: العزل والإقاله والتسريح والاستغناء والإقصاء والإعفاء والفصل والتنحية من المنصب والجاه والمقام . ويشترط لتحقق هذه المعاني لتكون بمعنى الطرد : الزجر والتعنيف والعقاب البدني والمعنوي . نسأل الله العافيه .

والمقصود بالمطاردة البحث والسعي للقبض على متهم ومطلوب للعدالة بتهمة ثابتة عليه أو مقاربة للثبوت أو بسبب وشاية مغرضة .

والمطاردة تتم من السلطة التنفيذية للحاكم أو نائبه في إقليم معين ممن له صولة على غيره .

والمطرود هو المتهم الهارب المختفي عن المحاكمة في مكان قريب أو بعيد أو محتمي بقبيلة أو جماعة أو تنظيم مُسلَّح له القدرة على الإيواء والحماية .
وقد ألمح الكتاب العزيز إلى مفهوم المطاردة كما في قول الله تعالى : "وجاء رجلٌ من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين * فخرج منها خائفاً يترقَّب قال ربِّي نجنِّي من القوم الظالمين " ( القصص :19-20 ) .

ويتضح من المفهوم الأصولي للآية أن الالتفات والترصد والفزع من الناس قرينة على المطاردة والملاحقة البدنية .
والقتل والحبس ملازمان للمطاردة العامة ،كما في قصة الإختباء المشهورة وفرار النبي صلى الله عليه وسلم مع صاحبه عن أعين المشركين . وكما في قصص الصحابة والتابعين مع خصومهم وفي بعض أخبار الفتن التاريخية .

· ومن خلال النقاط الآتية يمكن تأصيل مجموع هذه المسألة :
1- يجوز للحاكم المسلم طلب المتهم الهارب للتحقق من برآءته :
لأن هذا من أوجب حقوق الولاية . وتركه يُفضي للمنازعات . والولاية قضاء والقاضي يتحتم عليه ملاحقة أصحاب الدعاوى ومرتكبيها حتى يتضح الحق فيها . والقاعدة الأصولية نصَّت على أن القاضي لا يجوز أن يحكم بعلمه . بل يلزمه احضار الخصوم وإن تباعدت أماكنهم لسماع بينِّاتهم ، ولا تتحقق هيبة الوالي في الشرع إلا بهذا مع العدل . وفرق بين قضاء القاضي بعلمه وبين قضائه بفتواه . وهذا هو الراجح في هذه المسألة . وقد نص شيخ الاسلام ابن تيمية (ت: 728هـ) رحمه الله تعالى في فتاويه على أن كل حكم حكم به القاضي وكان به ضرر للمسلمين وإثارة للفتن وجب نقضه من الحاكم العادل .

2- يجب على المتواري المتحقِّق من برآءته حماية نفسه :
فلا يجوز تعريض نفسه للمهالك .وقاعدة الشرع في الأقوال أن لازم قول الإنسان قسمان : لازم قوله الحق فهذا حق . ولازم قوله الذي ليس بحق فهذا لا يجب التزامه ولا يجوز محاكمته عليه إن لم يقر به . وعليه فلا يجوز محاكمة شخص بكناية كلامه إلا إذا أقرَّ بقصده ذلك ورضي به. وللإمام أحمد (ت: 241هـ )رحمه الله تعالى رواية في عدم وجوب حضور المدَّعى عليه إذا كان بعيدا طريداً، بدعوى لا أصل لها حتى تثبت شرعاً .

3- طلب الإجارة من الغير للحماية جائز شرعاً :
وهي قائمة على المصلحة الشرعية الخالية من المفسدة الحاضرة والمتوقعة . والضرورة تُقدَّر بقدرها فلا يجوز تعميمها بدعوى التخلص من مظالم الناس وحقوقهم .وفي المرفوع : " ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلا " . أخرجه البخاري . وقد اتفقت المذاهب الأربعة على كراهة عمل المسلم عند الكافر إلا لضرورة . والضرورة تُقدَّر بقدرها .ويقاس عليه طلب الحماية والنجدة منهم .

4- قصر الصلاة للمتواري والهارب من القضاء :
يجوز للمتواري قصر الصلاة إذا كان بقاؤه في مكانه أربعة أيام فأقل . أما إذا كان مستقراً في بلد معين فوق هذه المدة فلا يشرع له القصر بدعوى التعقُّب والطلب . وفي المسألة كلام لأهل العلم والراجح ما قيدتُّه . وقد تقرر عند الأصوليين أن أكثر العمومات مخصوصة فلا يجوز الاحتجاج بالعام لكل عُذر .

5- تسليم المطلوبين للقضاء من المتوارين واجب شرعًا :
فلا يجوز ضمان أحد إلا بشهادة على برآءة أو بكفالة . وعلى مستوى الحكومات فإن الدول ألزمت نفسها بوثائق ومعاهدات موجبة لذلك .
والانتربول الدولي اليوم يقوم بهذه المهمة بالتنسيق مع الدول الموقِّعة على تحقيق ذلك . ومن اللطائف أن التعزير الذي قلَّ العمل به : العقوبة بالنفي وهو الإخراج من البلد وهو ثابت بنص القرآن : " أو يُنفوا من الأرض " ( المائدة : 33 ) وهو تفسير ابن عباس رضي الله عنه للطرد عقوبة لمن أخاف الناس في بلده . فهو عقوبة في بلد الجاني وأثر لعمله بعد وقوع التهمة .

6- التخفِّي في دار الكفر من المسلم المضطهد جائز إن أمن على نفسه ودينه وماله :
لكن يشترط له التحول عنها إلى دار إسلام إن أمن من الظُّلم وانتهاك الحقوق . ويجوز للحاكم المسلم تقيِّيد حق اللجوء السياسي عن الغير من المطاردين تحت قاعدة تقييِّد المباح ، لأنه من حقوقه في الولاية ولردع أهل الجنايات .

7- حماية المسلم المتواري في البلاد الكافرة حق وواجب شرعًا وعقلاً :
حتى يحاكم محاكمة عادلة أو ينتقل لبلد مسلم يُحكم فيه بالعدل . وأدلة الشريعة تنصُّ على عصمة دماء المسلمين وأموالهم في بلادهم وخارجها . والقوانين المعاصرة أكَّدت على هذه الحقوق ومشروعيتها كما في نظام مفوضية حماية اللاجئين الدولية .

8- من ولغ في حدِّ من حدود الله أو ارتكب جناية مالية وجب عليه تسليم نفسه :
ويجب على الحاكم المسلم القصاص منه أو يفدي المتهم نفسه من أهل الحق . وقد تقرر عند الأصوليين أن التحريم المطلق يقتضي تحريم كل جزء منه ، فلا يجوز تحليل العمل مع تحريم أثره .
فإن كان له بيِّنة أقامها ببلده أو بغير بلده أو وكِّل وكيلاً شرعياً للدِّفاع عنه. والأصل براءة ذمة المدَّعى عليه حتى تثبت إدانته .

9- لازم سياحة المطاردة عدم الطمأنينة بطعام أو شراب أو حياة آمنة : وبذلك يحرم المسلم نفسه من الأمن القلبي في الشعائر التعبدية والتنعم بالطيبات . فالواجب الكفُّ عن الأذى وعمارة الأرض والاشتغال بما يصلح النفس . والخلافة الإسلامية لن تعود إلا بالعمل للدِّين ، وتغيِّير السنن الكونية بأمر الله وتدبيره ، لا بخراب المجتمعات وتدمير أهلها . والعمل بضد ذلك يوقع صاحبه في المهالك والمعاطب . والشواهد حولنا لا يحصيها إلا الله .وقد تقرر عند الأصوليين أن الإحتمال البعيد لا يكون دليلاً في محل النِّزاع فلا يجوز اللجوء العمل به .

10- العمل بالقرائن والأمارات واجب في مطاردة المتهمين والمدَّعى عليهم . وفي الفقه الاسلامي ما يُعرف بقاعدة ( اللوث ) وهي القرينة الدالَّة على وقوع الجناية . ولهذا يتحقق في الشرع العمل بالقسامة إذا قُتل قتيل ولم يعرف قاتله ووجد اللوث. واذا وجد اللوث صح توجيه التهمة الى من دلَّ اللوث عليه في داخل البلد أو خارجه .
والمقصود أن أحكام المطاردة يمكن التقاطها من أبواب الحدود والجنايات والدعاوى ، ويكفي استحضار الأدلة وتطبيقها على النوازل بحكمة مع مراعاة مقاصد الشرع .
هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .



أ/ أحمد بن مسفر بن معجب العتيبي
عضو هيئة التدريس بقوات الأمن الخاصة
__________________

مؤسِّس مُدوَّنة المتوقِّد التأصيلية
http://ahmad-mosfer.com/