ما الفرق بين تارك سنة خير الأنام و بين الذي ترك الدين جملة لمجرد أنه لم يوافق عقله و هواه ؟
و ما حجته أمام الله و هو يقرأ آيات الله في فضل خير القرون و يسمع ما تواتر على ألسنة أمة المسلمين و أئمتهم من أحاديث صحيحة صريحة و آثار تخبر عن تمسك الرعيل الأول بسنة النبي صلى الله عليه و سلم كما القرآن، ثم يفتري دعوى أن ذلك من اتباع الآباء .. أولوا كان أولئك الآباء أنبياء و صديقون و شهداء و صالحون أمرنا بالإقتداء بهم ؟
و هل العلماء و المجددون إلا ورثة الّأنبياء أم أن العلماء المسلمين و الجهلة المجرمين سواء ؟
لازم قول المبتدع الضال : رسول الله لا ينطق عن الهوى فقط فيما يتعلق بالوحي القرآني، أنه ناطق عن الهوى فيما دونه بل مشرع من عند نفسه.
لازم قوله إنما أمر الله من عاصر النبي بطاعته دون غيرهم، أن ما جاء به من الحكمة و الشريعة سوى القرآن لا يعني إلا زمانه الذي بعث فيه أي أنه هدي لذاك الزمان و ليس لغيره من الزمان، فأي قول افحش من هذا ؟ و هو ينقض ما قرره من أن طاعة الرسول تزاحم طاعة الله ثم قيدها بزمانه ليفر من ما تقتضيه آيات وجوب اتباع النبي أبدا .. فواعجبا ..
لازم قول المدعي أن الصحابة رضي الله عنهم عملوا بما ليس في القرآن و بما لم يأذن به الله أنهم ابتدعوا في الدين زورا و خانوا الأمانة بالكذب على رسول الله و افتراء الأحاديث و نسبة الأعمال إليه مما لم يرد في القرآن و لازمه أنهم عكس ما أثنى به الله عليهم بل هم كفرة فجرة تقولوا على رسول الله الأقاويل و افتعلوا الأفاعيل .. و لا يبعد لزعمه ذاك أنهم افتروا على الله سورا من القرآن أو حاولوا ذلك كما حاول غيرهم فكبُتوا ..
و لازم قول الجهول بأن الأحاديث و السنة عموما اختلاق و كذب و لو أن معظمها مفسر للقرآن و مبين له أن لكل أن يفسر القرآن على هواه بتفسيره الذي يروق له على غير تفسير من فسره بها (أي بالأحاديث و السنة عموما) من الصحابة كالخلفاء الأربعة الراشدين وابن مسعود، وابن عباس، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم. ثم من جاء بعدهم من التابعين.
فما رأيت و الله أهدم للدين من هؤلاء الرعاع منكري السنة و الأحاديث الصحاح بحجة أن بعضها يناقض فهمهم السقيم أو لا يوافق أهوائهم. فهم قد أوغلوا في البدعة أكثر مما أوغل الخوارج و الشيعة و من شاكلهم. و لمن كفر غلاة الشيعة و الخوارج لا ريب أن تكفير هؤلاء من باب أولى.
حماقة منكري السنة بمخالفتهم عن أمر الله و أمر رسوله صلى الله عليه و سلم باتباع سنته مع اعترافهم بأن الله أمر بطاعته :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - بعد ذكره للآيات التي تحث على اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم - ، قال :
فهذه النصوص توجب اتباع الرسول وإن لم نجد ما قاله منصوصا بعينه في الكتاب ، كما أن تلك الآيات توجب اتباع الكتاب وإن لم نجد ما في الكتاب منصوصاً بعينه في حديث الرسول غير الكتاب .
فعلينا أن نتبع الكتاب وعلينا أن نتبع الرسول ، واتباع أحدهما هو اتباع الآخر ؛ فإن الرسول بلَّغ الكتاب ، والكتاب أمر بطاعة الرسول ، ولا يختلف الكتاب والرسول ألبتة كما لا يخالف الكتاب بعضه بعضاً قال تعالى: ** ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } ، والأحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في وجوب اتباع الكتاب ، وفى وجوب اتباع سنته كقوله : " لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أَمرت به أو نَهيت عنه ، فيقول : بيننا وبينكم هذا القرآن ، فما وجدنا فيه من حلال حلّلناه ، وما وجدنا فيه من حرام حرَّمناه ، ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه ، ألا وإنه مثل القرآن أو أعظم " ، هذا الحديث في السنن والمسانيد مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم من عدة جهات من حديث أبي ثعلبة وأبى رافع وأبي هريرة وغيرهم .
وفى صحيح مسلم عنه من حديث جابر أنه قال في خطبة الوداع : " وقد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده كتاب الله تعالى " ( وللحاكم : " كتاب الله وسنتي " صححه الألباني في صحيح الجامع 2937 ) ، وفى الصحيح عن عبد الله بن أبي أوفى أنه قيل له : هل أوصى رسول الله ؟ قال : لا . قيل : فكيف كُتب على الناس الوصية ؟ قال : أوصى بكتاب الله " . رواه مسلم ( 1634 )
وسنة رسول الله تفسر القرآن كما فسرت أعداد الصلوات وقدر القراءة فيها والجهر والمخافتة وكما فسرت فرائض الزكاة ونصبها وكما فسرت المناسك وقدر الطواف بالبيت والسعي ورمي الجمار ونحو ذلك .
وهذه السنة إذا ثبتت فإن المسلمين كلهم متفقون على وجوب اتباعها وقد يكون من سنته ما يظن أنه مخالف لظاهر القرآن وزيادة عليه كالسنة المفسرة لنصاب السرقة والموجبة لرجم الزاني المحصن فهذه السنة أيضا مما يجب اتباعه عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر طوائف المسلمين .
" مجموع الفتاوى " ( 19 / 84 – 86 ) بتصرف يسير
حماقة منكري السنة بمخالفتهم عمل الصحابة رضي الله عنهم :
لقد كان عمل الصحابة رضي الله عنهم على الاحتجاج بسنته - صلى الله عليه وسلم - والاقتداء بهديه ، وامتثال أوامره ، والرجوع إليه في الدقيق والجليل ، فكانوا أحرص الخلق على ملاحظة أقواله وأفعاله وحفظها والعمل بها ، وبلغ من اقتدائهم أنهم كانوا يفعلون ما يفعل ويتركون ما يترك ، من دون أن يعلموا لذلك أي سبب أو حكمة كما روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : " اتخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتماً من ذهب فاتخذ الناس خواتيم من ذهب ، ثم نبذه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال : (إني لن ألبسه أبداً) فنبذ الناس خواتيمهم " .
وروى أبو داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : " بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره ، فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم ، فلما قضى صلاته قال : ما حملكم على إلقائكم نعالكم ، قالوا : رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذرا) .
حماقتهم بمخالفة إجماع الأمة :
ولو تتبعنا آثار السلف ومن بعدهم من الأئمة ، لم نجد أحداً - في قلبه ذرة من الإيمان وشيء من النصيحة والإخلاص - ينكر التمسك بالسنة والاحتجاج بها والعمل بمقتضاها ، بل على العكس من ذلك لا نجدهم إلا متمسكين بها ، مهتدين بهديها ، حريصين على العمل بها ، محذرين من مخالفتها ، وما ذاك إلا لأنها أصلٌ من أصول الإسلام وعليها مدار فهم الكتاب ، وثبوت أغلب الأحكام ، فعلى حجية السنة انعقد إجماعهم ، واتفقت كلمتهم ، وتوطأت أفئدتهم ، قال الإمام الشافعي رحمه الله : " أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس " ، وقال في الأم : " لم أسمع أحداً نسبه الناس أو نسب نفسه إلى علم ، يخالف في أن فرض الله عز وجل اتباع أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتسليم لحكمه ، وأن الله عز وجل لم يجعل لأحد بعده إلا اتباعه ، وأنه لا يلزم قول بكل حال إلا بكتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وأن ما سواهما تبع لهما ، وأن فرض الله علينا وعلى من بعدنا وقبلنا في قبول الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحد لا يختلف فيه الفرض ، وواجب قبول الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " .
وقال الإمام ابن حزم عند قوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} (النساء: 59) " الأمة مجمعة على أن هذا الخطاب متوجه إلينا وإلى كل من يُخْلَق ويُرَكَّب روحه في جسده إلى يوم القيامة من الجِنَّة والناس ، كتوجهه إلى من كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكل من أتى بعده عليه السلام ولا فرق " اهـ .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولا عاماً يتعمد مخالفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى شىء من سنته دقيق ولا جليل . فإنهم متفقون اتفاقا يقينيا على وجوب اتباع الرسول ، وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله " .
تكفير العلماء لمنكر السنة و تاركها عن علم :
ذكر الإمام السيوطي في كتابه (مفتاح الجنة) كفر منكر السنة أو منكر حجيتها :
" اعلموا رحمكم الله أنَّ مَن أنكر كون حديث النبي صلى الله عليه وسلم -قولا كان أو فعلا بشرطه المعروف في الأصول- حجةً: كفر ، وخرج عن دائرة الإسلام ، وحشر مع اليهود والنصارى أو من شاء من فرق الكفرة "
مفتاح الجنة ص 5 طبعة الجامعة الاسلامية.
قال الإمام ابن حزم رحمه الله : " في أي قرآن وجد أن الظهر أربع ركعات ، وأن المغرب ثلاث ركعات ، وأن الركوع على صفة كذا ، والسجود على صفة كذا ، وصفة القراءة فيها والسلام ، وبيان ما يجتنب في الصوم ، وبيان كيفية زكاة الذهب والفضة ، والغنم والإبل والبقر ، ومقدار الأعداد المأخوذ منها الزكاة ، ومقدار الزكاة المأخوذة ، وبيان أعمال الحج من وقت الوقوف بعرفة ، وصفة الصلاة بها وبمزدلفة ، ورمي الجمار ، وصفة الإحرام وما يجتنب فيه ، وقطع يد السارق ، وصفة الرضاع المحرم ، وما يحرم من المآكل ، وصفة الذبائح والضحايا ، وأحكام الحدود ، وصفة وقوع الطلاق ، وأحكام البيوع ، وبيان الربا والأقضية والتداعي ، والأيمان والأحباس والعمرى ، والصدقات وسائر أنواع الفقه ؟ وإنما في القرآن جمل لو تركنا وإياها لم ندر كيف نعمل فيها ، وإنما المرجوع إليه في كل ذلك النقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكذلك الإجماع إنما هو على مسائل يسيرة... فلا بد من الرجوع إلى الحديث ضرورة ، ولو أن امرءا قال : لا نأخذ إلا ما وجدنا في القرآن لكان كافرا بإجماع الأمة " اهـ .
و قد نقل ابن حزم في الإحكام عن إسحاق بن راهويه أنه قال : "من بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر يقرّ بصحته، ثم رده بغير تقية فهو كافر"
و قال ابن الوزير رحمه الله : " التكذيب لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع العلم أنه حديثه كفر صريح " انتهى.
"العواصم والقواصم"
وهنا نلاحظ أن إسحاق وابن الوزير اشترطا أن يعلم الراد والمنكر أن هذا الكلام كلام رسول الله، ووجه الكفر هنا أن من لازم الإيمان بأن محمدا رسول الله تصديقه في كل ما أخبر به، فمن أنكر ورد شيئا من كلامه وهو يعلم أنه كلامه فإنه لم يلتزم بشهادته أن محمدا رسول الله، وهذا كفر .
وأما كلام السيوطي فالذي يظهر منه أنه عام فيمن أنكر السنة كما هي منقولة إلينا بأسانيدها، بمعنى أنه لو قائل قائل أنا لا أؤمن بشيء من السنة والحديث إلا إذا سمعت النبي من فمه إلى أذني وما سوى ذلك فأرده كله وأنكره فإنه يكفر،
لأن السيوطي قال "بشرطه المعروف في الأصول" والشروط المعروفة في الأصول هي شروط متعلقة بكيفية ثبوت الحديث .
وأصرح من كلام السيوطي في الدلالة على المقصود ما نقله الشيخ ابن باز رحمه الله من الإجماع على كفر منكر السنة بقوله :
"وأن ما تفوه به رشاد خليفة من إنكار السنة والقول بعدم الحاجة إليها كفر وردة عن الإسلام؛ لأن من أنكر السنة فقد أنكر الكتاب ومن أنكرهما أو أحدهما فهو كافر بالإجماع" (الجزء رقم : 7 من أبحاث هيئة كبار العلماء، الصفحة رقم: 139)
ومستند هذا القول -في التكفير- أنه إنكار لقطعي من قطعيات الشريعة وأصل من الأصول المتفق عليها بين المسلمين، وهو أن السنة حجة ومصدر من مصادر التشريع في الإسلام، وإن اختلفوا في صحة أفراد بعض الأحاديث، كما أنه من المعلوم أن كثيرا من أحكام الشريعة القطعية جاءت في السنة ولم تأت في القران كعدد ركعات الصلاة وأنصبة الزكاة وتفاصيل الحج، وقد جاء في القران "فلا وربك لايؤمنون حتى يُحكموك فيما شجر بينهم"
{قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } الحجرات - 16
فتوى لمن رد حديثا صحيحا لرسول الله صلى الله عيه و سلم بدعوى أنه لم يوافق عقله السقيم :
وأما سؤالك عمّن لا يقبل من الأحاديث الصحيحة إلا بما يوافق العقل أو ما في ظاهر خير الإسلام من المسلمين فصاحب هذه المقالة على خطر عظيم، وما ضل من يسمون بالعقلانيين إلا بتقديم ما تستحسنه عقولهم ويوافق أهواءهم على أحكام الشرع، ابتداء بمعتزلة العصور الأولى وانتهاء بعقلانيي العصر، وهؤلاء إنما أُتوا من قبل أنفسهم والشيطان، وإلا فإن العقل الصريح لا يعارض النقل الصحيح أبداً، ومن توهم ذلك فإن الغشاوة والغبش في عقله هو، وقد صنف الشيخ تقي الدين ابن تيمية –رحمه الله- كتاباً حافلاً بين فيه –بجلاء- موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول، سماه (تعارض العقل والنقل)، ثم إن السنة وحي من الله "وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى"، والعقل وصاحبه مخلوقان لله، فكيف تعارض أحكام الله بأحد مخلوقاته؟.
ورحم الله الإمام الشافعي إذ يقول: (إن للعقل حداً ينتهي إليه، كما أن للبصر حداً ينتهي إليه).
ولنذكر مثالاً على هذا قصة الحديبية التي أجاب فيها رسول الله –صلى الله عليه وسلم- خطة قريش مع أن هذه الخطة في ظاهرها شر على المسلمين وهضم لحقوقهم، وقد كره بعض الصحابة بنود هذه الخطة، لكنهم أذعنوا وسلموا لحكم الله ورسوله، وكانت العاقبة أن جعله الله فتحاً للإسلام والمسلمين، والوقائع في هذا كثيرة.
وليعلم قائل هذه المقولة أن قدم الإسلام لا تثبت إلا على الاستسلام والتسليم، وأن القصد الأسمى من التشريع -كما يقول الشاطبي رحمه الله-: (إخراج المكلف عن داعية الهوى؛ حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد الله اضطراراً كما قال النبي –صلى الله عليه وسلم- "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به").
ومن خذلان هؤلاء أنهم ربما عارضوا بعض الأحاديث الصحيحة بعقولهم –كحديث الذباب- لكن إذا أثبت الطب والعلم الحديث مصداق هذا المعنى أذعنوا وسلموا لتجارب البشر، وهذا من قلة التوفيق والحرمان وطاعة الهوى والشيطان، عصمنا الله وإياكم من الضلال بعد الهدى، وثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وصلى الله على نبينا محمد.
Bookmarks