ولزيادة الفائدة وتأكيدا لما ذهب إليه جماعات من أهل العلم ومما يؤيد موقف الدكتور نجا :
قال ابن القيم: (وقد عُلِم أن صحة الإسناد شرط من شروط صحة الحديث وليست موجبة لصحة الحديث، فإن الحديث الصحيح إنما يصح بمجموع أمور منها: صحة سنده، وانتفاء علته، وعدم شذوذه ونكارته، وألاَّ يكون راويه قد خالف الثقات أو شذ عنهم)
وهنا سؤال من أحدهم ...
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هل من الممكن أن يكون الحديث صحيحاً سنداً وضعيفاً متناً؟ أم أن الحديث بمجرد صحة سنده يكون حجة ولا يقال بضعفه؟ ومن يحكم بضعف المتن؟ وجزاكم الله خيراً.
الفتوى :
أجاب عن السؤال الشيخ/ الشريف حاتم العوني (عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى).
الجـواب:
أقول وبالله التوفيق، لوصف الحديث بالصحة خمسة شروط (كما هو معلوم)، وهي العدالة، وتمام الضبط، واتصال السند، وعدم القدح، بشذوذ، أو علة، فالحديث الذي اجتمعت فيه هذه الشروط الخمسة هو الحديث الصحيح، وسواء وصف الإسناد بالصحة أو المتن، فلا فرق، ما دامت الشروط الخمسة قد اجتمعت في الحديث (بإسناده ومتنه).
والأئمة المطلعون على أئمة النقد المتقدمين إذا وصفوا إسناداً بالصحة دون قيدٍ واستثناء فإنهم يعنون اجتماع شروط الصحة الخمسة فيه لكننا وجدنا الأئمة أحياناً يصفون الإسناد بالصحة، ثم يعقبون هذا الحكم بذكر ما يدعو إلى رد الحديث، من شذوذ أو علة مما دل العلماء (كابن الصلاح وغيره)، أن الحكم على الإسناد بالصحة لا ينافي وجود قادح خفي فيه من شذوذ أو علة، وبنوا على ذلك أن الحكم على الإسناد قد يكون المقصود به الحكم على ظاهر حاله دون أن يكون هذا الحكم متناولاً القوادح الخفية من أنواع الشذوذ أو العلل المقتضية الرد، فيكون وصف الإسناد بالصحة حينها يعني أنه اجتمعت فيه شروط الصحة الظاهرة، وهي العدالة والضبط والاتصال الظاهر، دون الشروط المخفية، وهي انتفاء الشذوذ أو العلة المقتضيين الرد أو بعبارة أخرى يكون المقصود بوصف الإسناد حينها بالصحة أنه هكذا هو ظاهر حال هذا الإسناد وقد يوافق هذا الظاهر حقيقة الحال، فيكون الحديث صحيحاً (سنداً ومتناً)، وقد يخالف حقيقة الحال، فيكون الحديث في الظاهر صحيح الإسناد وفي الحقيقة مردوداً.
وبناءً على ذلك فرق عدد من العلماء بين قول العالم: "حديث صحيح"، وقوله (إسناد صحيح"؛ العبارة الأولى تدل على صحة الحديث سنداً ومتناً (باجتماع الشروط الخمسة)، وأن العبارة الثانية تدل على صحة الإسناد في الظاهر، دون تعرض لشرط انتفاء القدح بالشذوذ والعلة، فلا يجزم بانتفائهما ولا بإثبات القدح بهما.
غير أن ابن الصلاح (وبعض من تبعه) قد تقرر عندهم التفريق بين العبارتين على ما يلي ذكره.
أن الإمام المطلع الذي عنده أهلية نفى وجود القوادح الباطنة (من شذوذ أو علة) إذا حكم على الإسناد بالصحة دون قيد أو استثناء، فإن حكمه هذا يقوم مقام الحكم على الحديث بإسناده ومتنه، فيكون بقوله: "إسناد صحيح" كأنه قد قال: "حديث صحيح"، أي هو حكم منه باجتماع الشروط الخمسة كلها ذلك أن حفظ هذا الإمام وعظيم اطلاعه ونفاذ بصره في العلم يجعل الحكم منه بنفي علمه بوجود قادح خفي قائماً مقام حكمه بالعدم كالرجل الحديد البصر يقال له في المجلس الذي فيه جمع من الرجال يحيط بهم البصر هل ترى فيهم زيداً؟ فيقول لا أراه فيفهم. فنفيه هذا لعدم علمه بالوجود، يتضمن منه الحكم بعلمه بالعدم.
أما العالم الذي لم يصل إلى حد الاطلاع التام، فليس عنده –لذلك - أهليةُ نفي وجود القوادح الباطنة فهذا الذي نعتبر قوله "إسناد صحيح" حكماً على ظاهر الإسناد دون باطنه وحقيقته فيكون قوله "إسناد صحيح" حكماً بوجود الشروط الظاهرة، وهي الثلاثة الأولى، دون أن يتناول هذا الحكم الشرطين الأخيرين بنفي أو إثبات.
غير أن الحكم على ظاهر السند بالصحة، إذا لم يطلع فيه على قادح خفي، لا يخرج الحديث عن أن يكون صالحاً للإحتجاج؛ لأن الأصل في الحديث المتصل برواية الثقات أن يكون صواباً.
وليس هناك فرق في الاحتجاج بين الحديث المحكوم على متنه وإسناده بالصحة والحديث المحكوم على إسناده وحده بها، فكلاهما حجة يلزم قبوله والعمل بمقتضاه والتصديق بخبره إنما يتضح الفرق بينهما من جهة أخرى غير جهة الاحتجاج، متعلِّق بإفادة كل واحدٍ من الحكمين، أو (بلفظ أدق): متعلِّقٍ بمرتبة كل حكم منهما في مراتب الإدراك، ولا أجد أن المجال يتسع هنا لبسط ذلك.
أما السؤال عمن يحكم بضعف المتن، فجوابه له علاقة بالجواب السابق حيث إن هناك فرقاً بين الحكم بالضعف على الحديث بإسناده ومتنه معاً والحكم على الإسناد وحده، من جهة أن الحكم بالضعف على الإسناد والمتن معاً يستلزم اطلاعاً كاملاً على السنة وأسانيدها وعلماً دقيقاً وأهلية تامة؛ لأنه حكم يتضمن نفي وجود ما يعضد ويجبر ضعف ذلك الإسناد المردود، وهذا النفي لا يستطيعه إلا من ذكرناه آنفاً أما الحكم على الإسناد بالضعف، فإنه حكم على الإسناد الذي بين يدي العالم الحاكم بالضعف دون ادعاء منه بعدم وجود ما يجبر ذلك الضعف في أسانيد السنة كلها.
وعليه: فإن الحكم على المتن لا يصح أن يستقل به إلا أئمة النقد المطلعون الذين يحق لهم الحكم بالتفرد وغيره من الأحكام التي لا يستطيع الحكم بها إلا من لم يُفْتهُ من السنة إلا القليل الذي لا ينفك عنه عجز البشر أما من كان غالب شأنه النظر في بعض مظان الحديث، وكان ما لا يحفظه من أسانيد السنة أكثر مما يحفظه بكثير، ولا لديه الفهم والفقه الحديثي الذي عند أئمة النقد، فلا يحق له أن يستقل بالحكم على متن بالضعف، مستبداً بمثل هذا الحكم ، دون إعانة من إمام مطلع، يسد ثغرة عجزه، ويكفيه مؤونة ما لا يستطيعه مما يستلزمه الحكم على المتن ويكفي مثل هذا العالم الذي ليس لديه أهلية الحكم على المتن، إذا لم يجد من يعينه من أئمة النقد أن يحكم على الإسناد بالضعف، فإن مثل هذا الحكم كافٍ لعدم الاحتجاج بذلك الحديث، إلى أن يطلع على جابر يعضده.
ولهذه المسألة وسابقتها شعب وتتمات طويلة، اقتصرت على ما سأل عنه السائل، وعلى خلاصة البحث فيها. والله أعلم.
والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
Bookmarks