النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: حديث الإفك، والإفك المتجدد

  1. #1

    افتراضي حديث الإفك، والإفك المتجدد


    معاشر المؤمنين:
    هل خَطْبٌ أعظم وأفظع من أن يُقذفَ الرجلُ في عِرضه؟! هل بلاءٌ أشدُّ وأشنع من أنْ يُرمى المرء في زوجته؛ لتُصبحَ بعد ذلك حديثَ كل لسان؟! إنَّه والله البلاء الذي يتصاغرُ دونه كلُّ ابتلاء، ويعظمُ الخطبُ ويزداد إذا كان ذلكم العِرْض هو عِرضَ مُحمد - صلى الله عليه وسلم - الذي بعفافِه يتزينُ العفاف، وبطهرهِ يتجمّلُ الطهر، فيا لَلعجب!
    هذا الذي جاء بصيانة الأعراض، يقالُ في عرضه؟!
    هذا الذي أتى بتعظيم الحرمات، تقصدُ حرمته؟!
    هذا البيت الذي طهرَه الله تطهيرًا، وأذهَب عنه الرجسَ إذهابًا - يُرْمَى في عِزَّتِه وعِفَّتِه؟!
    إفكٌ مُبين عاشَ معه المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - شهرًا من المعاناة، تجرع منه الأسى ومُصابرةَ الابتلاء، وشاطرَهُ الضيم والأَلَم، زوجتهُ وأحبُّ الناسِ إلى قلبه، الطاهرةُ المطهرةُ الصديقة، عائشة ابنة الرجل الذي كان أعظمَ الرجالِ وفاءً وحبًّا وودادًا لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولو اتخذ المصطفى خليلاً، لاتخذ أبا بكر خليلاً.
    إنها قصةُ الإفك، ليست حادثةً ماضية، ولكنها سنةٌ باقية، نقف مع حلقاتِها وفصولِها: من صَنعها؟ ما أبرزُ أحداثِها؟ ما عاقبتُها على البيتِ المحمدي؟ هل انتهى الإفكُ بموتِ أهله؟ ثم ما موقفُنا من الإفكِ المتجدد؟
    عباد الله:
    كان من هدي النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه إذا أرادَ سَفَرًا، أقرعَ بين نسائه، فأيتُهنَّ خرجَ سهمُها خَرَجَ بها.
    فِي السنةِ الخامسة للهجرة، وفي شهر شعبان، أجمع النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - على قتال بني المصطلق، فأقرع بين نسائه، فخرج السهم على عائشة، فكانت رفيقةَ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في هذه الغزوة، وهي المرأةُ الصغيرةُ التي لم يتجاوز عمرُها أربعَ عشرةَ سنة.
    خرجت عائشةُ مع الجيش الإسلامي بعدما أُنزل الحجاب، فكانت تُحمَل في هودجٍ خاصٍّ لها طيلةَ السَّفَر.
    حتى إذا فرغ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من هذه الغزوة "غزوة المريسيع"، قفل راجعًا مُيَمِّمًا وجهَه شطرَ المدينة، فبات قبل أن يصلَ إليها، وبات الناسُ معه، حتى إذا كان آخرُ الليل، آذنَ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالرحيل، فقامت أمُّ المؤمنين لقضاءِ حاجتها، فابتعدت حتى توارت عن أعينِ النَّاس، فلما قضت من شأنها وقفلت راجعةً إلى رَحْلِها، جعلت تتلمس صَدْرها، فإذا عقد لها قد انقطع، فرجعت تبحث عنه، وقد أهَمَّها هذا العقد؛ لأَنَّه العقد الذي حفَّلتْ له أُمها في ليلة زفافها من رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.

    تَحَرَّك جيشُ المسلمين بعد الإذن بالرَّحيل، وأقْبَل الرهطُ الذين كانوا يَحملون الهودج، فَحَمَلوه ثم وضعوه على البعير، وهم لا يَشكُّون أنَّ عائشةَ داخلَ الهودج، ولَم يستنكروا خفةَ الهودج، فقد كانت عائشةُ خفيفةَ اللَّحم، صغيرةَ العُمر آنذاك.

    تحرك الجملُ وسار الجيش، وعائشةُ تبحث عن عقدها بعيدًا، حتى رأتهُ يتلألأ في ظلامِ الليل، فأخذته وقد علاها الفرح، فأسرعت نحو الجيش، فوصلت إلى منازلهم، ولكن ليس بها داعٍ ولا مجيب.

    فذهبت نحو مجلسها الذي كانت فيه، وظَنَّت أنَّ القومَ سيفقدُونها، فيرجعون إليها، فجلست وحيدةً في هذا الليل البهيم، وقد علاها الغَمُّ، فلم تَشْعُر إلا وعيناها قد غلبتْها فنامت، وهي لا تدري عن القدرِ المجهولِ الذي ينتظرُها.
    أسفر الصبح وأشرقت الشمسُ بأشعتها مؤذنةً ببلاءٍ وأي بلاء؟! كان أحدُ الصحابة، وهو صفوانُ بنُ المعطَّل السُّلمي، قد تأخرَ عن الجيش، إمَّا لأنه وُكِّل بذلك، فكان يتفقدُ ما يندُّ من الجيش، وإما لأنه كان رجلاً ثقيلَ النومِ فغلبته عيناه.
    مشى صفوانُ في طريقه، وإذا به يرى سوادًا أمامَه، فاقترب منه، فلم يفجأه إلاَّ أنَّ هذا السواد الممتد في الأرض هو عائشةُ زوجةُ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فعرفها، وقد كان يراها قبل الحجاب، فقال وقد علته دهشته: إنا لله وإنا إليه راجعون، قالت عائشة: فاستيقظتُ باسترجاعه، فخمرت وجهي بجلبابي، والله ما كلمني بكلمة، ولا سمعت منه كلمةً غير استرجاعه، عندها أناخ صفوانُ راحِلتَه حتى ركبتها عائشة.
    انطلق الموكب الصامتُ يشقُّ طريقَه نحو المدينة، حتى أدرك الجيشَ عند الظهيرة (ساعات وصفوان لا يلتفت ولا يكلم عائشة؛ إجلالاً لعِرض النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم)، وصل الموكب إلى الجيش والنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وصحابته ما كانوا يظنون إلاَّ أنَّ عائشةَ في هَوْدَجِها، فراعهم هذا المشهدُ، وبلغت بهم الدهشةُ كُلَّ مبلغ.
    والصورة عندما تقع في القلب تتطابق على ما فيه، فكيف قرأ الناسُ هذا المشهدَ وحلَّلُوه؟
    لقد قرأت القلوبُ المريضةُ هذا المشهدَ بعيني شيطان، فرأت فيه فرصةً ثَمينةً لا تفوت للطَّعن في العِرض المحمدي.
    وقرأت القلوبُ السليمةُ ما حصل بتغليب جانبِ حسن الظنِّ، وطرد خطوات الشيطان، فهذه المرأة هي زوجةُ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلا يُمكن أن يزلفَ غِرَّة من شكٍّ في شرفها.
    مر الحدثُ بهدوء، ودخل الجيش المدينةَ، ولكن هل هدأت عاصفةُ هذا المنظر؟ كلاَّ، كلاَّ، لقد تحركت عقاربُ النِّفاقِ في صدور أهلها، فأطلق عبدالله بنُ أُبي بن سلول أولَ قذيفةِ الإفك، فقال قولته الخبيثة: والله ما نَجَتْ منه، ولا نَجَا منها، وقال: امرأةُ نبيكم باتتْ مع رجلٍ حتى أصبحت، ثم جاء يقودها، وتولَّى كِبْرَ هذا الإفك، فجعل يَستحكيه، ويستوشيه، ويُشيعهُ، ويذيعهُ، ويجمعهُ، ويفرِّقه.
    وتحرك الإعلان النفاقي ينشر الإفكَ، ويُزْكيه في المجالس والطُّرقات بين الرِّجال والنساء، حتى وَصَل خَبرُ الإفك كلَّ دارٍ من دور المدينة.
    فاهتزت القلوبُ وامتُحنت، وعَصَمَ الله أناسًا بالتقوى، فكنوا ألسنتَهم، وسارع آخرون نحو الفتنةِ، فهلكوا مع من هلك.
    دخل أبو أيوب الأنصاريُّ دارهُ، فقالت له زوجتُه: أما تسمعُ ما يقولُ الناسُ في عائشة؟! فقال: نعَم، وذلك الكَذِب، ثم قال: أكنتِ فاعلةً ذلك، يا أُمَّ أيُّوب؟ يعني الوقوع في الفتنة، قالت: لا والله، فقال: فعائشة واللهِ خيرٌ منكِ وأطيب.
    يحدث هذا الإفكُ ويتطايرُ في المجالس، وعائشةُ - رضي الله عنها - مريضةٌ غافلةٌ، لا تدري ماذا يقولُه الناسُ في شأنها، وإنما كانت تستغربُ تغيُّرَ معاملةِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لها ولُطْفه تُجاهها، فمَا هو بالرَّجُل الذي كانت تَعْهَدُه قبل مرَضِها.
    وخفَّ على عائشةَ مرضُها، فخرجت مع أمِّ مِسْطَحٍ ليلاً، وكان مسطحُ ممن تأثَّر بالإفكِ وقال به، فعثرت أمُّ مسطحٍ في مِرْطها، فقالت: تَعِسَ مِسْطح! فقالت عائشة: بِئْس ما قُلْتِ، أتَسُبِّين رجلاً شهد بدرًا؟ فقالت: يا هنتاه، أوَلَم تسمعي ما قال؟ قالت: وماذا قال؟ فأخبَرَتْ عائشة بقول أهل الإفك، فازدادَتْ مرضًا إلى مرضها، فرجَعَت إلى بيتها ذاهِلَة غيرَ مصدقةٍ ما يُقال، فلما دخل عليها النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - سلَّم عليها، وسأل عن حالها، ولم يكن يجلس عندها، فقالت: أتأذن لي أن آتِيَ أبوَيَّ، وهي تريد أن تتيقَّن من صِحَّة هذا الخبر، فأذن لها رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فانطلقت إلى بيت أبوَيْها، فسألت أمَّها: ما يتحدَّث الناس؟ فقالت لها الأُمُّ المَكْلُومة: هَوِّني عليك يا بُنيَّة، فقالت عائشة: سبحان الله، وقد تحدث الناس بهذا!
    وكان أكبرُ هَمِّها: هل صَدَّق رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ما يقولُه الأفَّاكون؟ وبدَأَت تسترجع في ذكرياتها مُلاطفةَ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومُلاعبَته لها؛ كيف كانت؟ وكيف هي الآن؟

    لقد بدَّدَ هذا الخبرُ الصَّاعقة كلَّ سعادةٍ عاشَتْها، أو كانت تنتظرها، فتغيَّرَت حياتُها وحالها، أظلمت عليها الدُّنيا، وتغيَّرت عليها المدينة، فما هي بالمدينة التي عرَفَتْها وعاشت فيها؛ حُجْرَتها، وَسَائدها، عرائسها التي كانت تُلاعبها، أضحَتْ غريبة عليها، كلُّ شيء تغيَّر عليها، تجَرَّعت أشدَّ الأحزان، وذاقت أمَرَّ الأسى.

    انطَوَت وانعزَلَت عن الآخَرين أيامًا عدَّة، لا تَعرف إلاَّ الدَّمع، والدَّمع فقط، كانت تقول عن نفسها: كان لا يَرْقأُ لي دمعٌ ولا أكتَحِل بِنَوْم، حتى ظننتُ أن البكاءَ فالقٌ كبدي.

    فيا لله! كيف احتملت فتاةٌ في زهرتها هذا الظُّلمَ الفاحش الذي تخرُّ أمامَه قوَّةُ الرجال؟! يا لله! كيف تطيقُ هذا الإفكَ مُهَجٌ بشرية، وأنفسٌ شفافةٌ زكية؟ أمَا والله لو اشتعلتْ حرقة، أو ذابتْ لوعة، أو ذهبتْ أسفًا لمَا كانت وربِّي مَلُومة.
    أمَّا حال أبي بكر - رضي الله عنه - فلا تسَلْ عن حاله، ما ظنُّكم بحال أبٍ يرى ابنته تتقطَّعُ حزنًا وأسًى، وهو الرجل الأسيف الرَّقيق، كان - رضي الله عنه - في أيام الفتنة قد ابتعَد عن النَّاس، ولزم بيته، فكان - رضي الله عنه - يقرأُ القرآنَ وهو على سطح المَنْزل، فيسمع بُكاء ريحانتِه ونشيجَها، فتتحدر منه الدَّمعات، ويقول: والله ما رُمينا بهذا في جاهليَّة، فكيف نُرمَى به في الإسلام؟!
    وبقيت المدينةُ شهرًا قد خَيَّمَ عليها الحزنُ والأسى، ورسولُ الله ينتظر خبرَ السماء، والفرَجَ من الله، فلما طال انقطاع الوحي، شاور النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - صحابتَه في فراق أهلِه، وبدأ يسأل خاصَّتَه عن حالِ عائشة، وهل ظهر منها يُسْتَراب؟ فقال له أُسامة بن زيد: هُم أهلُك، ولا نعلمُ إلاَّ خيرًا، وسأل أُمَّ المؤمنينَ زينبَ بنتَ جحش، فقالت: أحمي سمعي وبصري، والله ما علمتُ إلاَّ خيرًا، وشاور عليًّا، فقال له عليٌّ، وقد رأى ما رأى من تغيُّرِ حالِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكمَدِه: يا رسول الله، لم يضيِّق اللهُ عليك والنِّساءُ سواها كثير، وإن تسأل الجاريةَ تَصدُقك، فدعا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بريرةَ، فسألهَا: هل رأيتِ من شيء يَريبُك من عائشة؟ فقالَتْ: والذي بعثَكَ بالحقِّ، إنْ رأيتُ عليها أمرًا قطُّ أغمِصُه عليها أكثرَ من أنها جاريةٌ حديثةَ السِّن تنامُ عن عجينِ أهلِها، فتأتي الدَّاجنُ فتَأْكله.

    فهَدَأت نفسُ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأطمأنَّ بعدما سمع ما سمع، ولكنَّه كان يتحيَّن الوحي، فلما استبطأ الوحي قرَّر عندها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يواجه عائشةَ بالإفك، ويَسمعَ قولَها.

    وتأتي أولُ زيارةٍ من النبي - صلَّى الله عليه وسلَّمَ - إلى بيتِ أبي بكر بعد انقطاعٍ دام أيامًا، فرأى منظرًا تَرِقُّ له القلوبُ القاسية، فكيف بقلبِ الرحمةِ المهداة؟!
    رأى زوجَته التي طالما تبادل معها مَشاعر الوُدِّ، تبكي بُكاءً مُرًّا، وحولهَا جاريةٌ من الأنصار تبكي معها، بل بَكت لِبُكائها، فجلس النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقد خيَّم الصمتُ المكان إلاَّ من نشيج عائشةَ - رضي الله عنها - فلَم يقطع هذا الصمتَ إلاَّ تشهُّدُ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثم قال مُخاطبًا عائشة: ((يا عائشة، إنَّه قد بلَغَني عنْكِ كذا وكذا، فإنْ كنتِ بريئة فسيبرِّئك الله، وإن كنتِ ألْمَمتِ بذنب، فاستغفري الله وتوبي إليه؛ فإن العبدَ إذا اعترف بذنبه ثم تاب، تاب الله عليه)).

    قالت عائشة: فلمَّا قضى رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مقالته، قلصَ دمعي حتى ما أحسُّ منه قَطْرة، فقلتُ لأبي: أجِبْ عني رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما قال، فقال: والله ما أدري ما أقولُ لرسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -؟ فقلت لأُمِّي: أجيبِي رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم؟

    فقالت عائشة: والله لقد عرَفتُ أنكم قد سمعتُم بهذا حتى استقَرَّ في نفوسكم، فإنْ قلت لكم: إني بريئة - والله يعلَم أني بريئة - لا تُصَدِّقُونني بذلك، ولئنِ اعترفتُ لكم بأمْرٍ والله يعلم أني بريئة لا تصدقونني، وإني والله ما أجد لي ولكم مثلاً إلاَّ كما قال أبو يوسف: ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 18].

    فلمَّا تَوَقَّفَ أهلُ الأرضِ عن الدِّفاعِ عنها، والذبِّ عن عِرْضها؛ تَوَلَّى الدفاعَ عنها ربُّ الأرضِ والسماء.

    كانت عائشة - رضي الله عنها - تتيقَّنُ أنَّ اللهَ سيُبرِّئُها من هذا الإفك المبين فكانت تقول: وأنا والله أعلَمُ أنِّي بريئةٌ، وأنَّ الله سيبرِّئُني، ولكن والله ما كنت أظنُّ أنْ يَنْزِل في شأني وحيٌ يُتلَى، ولَشَأنِي كان أحقرَ في نفسي من أنْ يتكلمَ اللهُ - عزَّ وجلَّ - فيَّ بأمرٍ يُتلى، ولكني كنت أرجو أن يَرى رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - رُؤيَا يُبرئني الله بها.

    وبعد أنْ قالت عائشةُ ما قالت، انقلبتْ إلى فراشها مُوكلةً أمرَها إلى ربها، وما هي إلا لحظات وينزل الوحي على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من السماء، فيتفصَّدُ العرقُ من جَبِينِ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فعرفوا أنَّ رسالةً سماويَّةً نزلتْ لأهل الأرض، فتلهَّفت القُلُوب، وتاقَت النُّفوس لخبر السَّماء، فلمَّا سُرِّي عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - علَتْ مُحَيَّاه ابتسامةٌ وإشراقةٌ غابَتْ عنه شهرًا كاملاً.

    فكان أوَّل كلمةٍ تكلَّم بها أنْ قال: ((أَبشِري يا عائشة، أَمَّا الله فقد برَّأك)).
    فقالت أمُّ عائشةَ أمُّ رومان: قومي إليه، فقالتْ عائشة: لا أقوم إليه ولا أحمدُ إلاَّ الله، هو الذي أنزَلَ براءتي، فنزل فيها قولُ الحق: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 11].
    بارك الله لي ولكم في القرآن.

    الخطبة الثانية
    أمَّا بعد:

    فيا إِخْوَة الإيمان، هذا خبرُ أمِّكم مع الإفك المُبِين، والبهتان العظيم؛ أظهر اللهُ شأنَها، وأعلى في العالمينَ قدْرَها، وتولَّى - سبحانه - الدِّفاعَ عنها، لقد كانت بحقٍّ مِحْنَةً شديدة، دافَعَتْها أمُّنا بالمصابرة، فزادَها اللهُ بعدها شرفًا وعزًّا، فأصبحت محلَّ التبجيلِ والاحترام.


    وخَنَسَتْ عقاربُ النِّفاق التي لا تُحسن إلاَّ الغدرَ واللسع في الظلام:
    حَصَانٌ أَيُّهَا الأَعْمَى رَزَانُ
    يُشِيرُ إِلَى فَضَائِلِهَا البَنَانُ
    رَآهَا المَجْدُ أَوَّلَ مَا رَآهَا
    مُبَجَّلَةً لَهَا فِي الخَيْرِ شَانُ
    تَرَى فِيهَا الْبَرَاءَةُ مُبْتَغَاهَا
    وَيَعْجَبُ مِنْ بَلاغَتِهَا الْبَيَانُ
    لَهَا فِي قَلْبِ خَيْرِِ النَّاسِ حُبٌّ
    تَضَلَّعَ مِنْ مَنَابِعِهِ الجَنَانُ

    هذا البهتانُ السَّلولي، والإفك النفاقي لم ينتهِ بهَلاكِ رأسِهِ، بل تَوَارَثَتْهُ أحفادٌ وأحفادٌ يبثُّون الإفك والبُهتان في عِرضِ الحَصان الرَّزان؛ ﴿ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ﴾ [آل عمران: 118].

    لقد طمَس اللهُ على قلوب الرافِضة، فلم يَعرِفوا لأمِّ المؤمنين فضلاً، ولم يحفَظُوا لها شرفًا وقدْرًا، وإنما أطلَقُوا ألسنتَهم الحداد، وأقلامَهم الشِّداد عليها إفكًا وزورًا، وبهتانًا وفجورًا، لم يَرقُبوا فيها صِدْقَ الصُّحبة، ولا مكانةَ القُربة، اتَّهَموها في عِرضِها وأخْلاقِها، بل في إسلامِها وإيمانِها!

    وحتى لا يكون الكلامُ تجنيًا ورجمًا بالتُّهَم، نستنطقُ كُتبَ القوم من مَراجِعِهم المعتَمَدِين المعظَّمين، ومن مؤلَّفاتهم المحتَفَى بها،
    لنَعرِف مَن الذي حمَل رَايةَ الإفكِ بعدَ ابن سلول.

    أسند العياشي - وهو من كبار مفسِّريهم - روايةً مكذوبةً عن أبي جعفَر الصادقِ في تفسير قولهِ - تعالى -: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا ﴾ [النحل: 92] قال: هي عائشة نكَثت إيمانَها.

    ونقل ابنُ بابوَيْه القمي الملقَّب عند الشيعة بالصَّدوق، نقل إجماعَ الشيعةِ على وجوبِ التبرُّؤِ من عائشة، واتهمها بأنها كانت تكذبُ على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.
    وجاء في كتاب "البيان الثاقب في معنى الناصب"؛ لعالمهم يوسف البحراني ما نصُّه: "عائشة كانت منافقة، ثم ارتدَّت بعد ذلك".
    محمد بنُ باقر المجلس، صاحب كتاب "بحار الأنوار"، أحد الأصول المعتمَدة عندهم قال في تَفْسِير قوله - تعالى -: ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ﴾ [التحريم: 10]: لا يخفى على الناقدِ البصير ما في الآيات من التعريض بل التصريح بنفاق عائشةَ وحفصةَ وكفرهما.

    وجاء في كتاب "حق اليقين"؛ للمجلس أيضًا ما نصُّه: عائشةُ وحفصة - لعنة الله عليهما وعلى أبويهما - قتلَتَا رسولَ اللهِ بالسمِّ ودبرتاه، وقال في نفس الكتاب: إذا ظهَر المهدي فإنَّه سيُحيي عائشة ويقيمُ عليها الحد.

    أمَّا مرجعُهم وإمامُهم المقدَّس في هذا العصرِ الخميني، الداعي إلى الوحدة الإسلامية كما يُردِّدون، فماذا قال عن أمِّ المؤمنين وحبيبةِ رسولِ الله رب العالمين، وصَفَها في كتابه "الطهارة" 3/457 بأنها أخبث من الكلاب والخنازير.

    هذا غَيْضٌ من فَيْضٍ من إفْكهم وبُغضِهم، ناهيكم عن وصْفها وتَلقِيبها بأمِّ الشرور، وبالشيطانة، وأنها مصدر الفتنة، بل والله لقد قالوا فيها قديمًا وحديثًا كلامًا لا تُطِيق النفوسُ سماعَه، وتعجزُ الأفواه أنْ تنطقَ به خجلاً وحياءً من الفحش والدَّعارة... واللبيب تَكفِيه الإشارة.

    عباد الله:

    يُخطئ مَن يظنُّ أنَّ هذا التراث الشيعي قد دفنَتْه الأيَّام، وكفَّنَه الزمان، كلاَّ والله بل لا يزالُ إعلامهم ومواقعُهم في الإنترنت وغرف البالتوك تنضَح بمثل هذا التراثِ الأسود، الطعن في الصحابة والخُلَفاء لم يعد حديثًا خافتًا عندهم؛ لقد أظهروا مخازيهم وحقدَهم واستِعداءَهم، فهل بعد هذا الدُّخان يمكن أن نُخادعَ بمقالاتٍ وبياناتٍ تقول: إنَّ الشيعةَ لا يسبونَ الصحابةَ ولا أم المؤمنين، وأنَّ السابَّ لا يمثلُ مذهب الشيعة؟!
    لقد مللنا والله لغةَ الكلام، فلم نَرَ بعد الكلام فعالاً.

    إنْ كان الشيعة صادِقين حقًّا في دَعْواهم، فليدفنوا هذه الكتب المَلِيئَةَ بالكفر والزندَقة، وليتبرَّؤوا من مَراجِعهم، ويكفُّوا عن تمجيدِهم وتقديسِهم.
    أمَّا أن يُعيدوا طباعةَ هذه الكتب وينشروها ويمجدوا مؤلفيها، ثم يزعمون أنَّ ما يتضمنُ فيها لا يمثلُ مذهب الشيعة، فهذا لا نجد له إلاَّ تفسيرًا واحدًا، هذا التفسير هو من صَمِيم معتقدهم، وأساس مذهبهم، إنها التقيَّة التي اعتبَرُوها تِسعةَ أعشارِ الدِّين، ولا دِين لِمَن لا تقيَّةَ له!

    وبعدُ:عباد الله:

    فإنَّنا على يقين من ربِّنا أنَّ اللهَ سيتولَّى الدفاعَ عن عِرْضِ نبيِّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - ميتًا، كما دافع عنه حيًّا، وأنَّ عاقبةَ الأفَّاكين إلى صغار، وشأنَهم إلى بوار؛ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا ﴾ [الأحزاب: 57]
    فَأَبْشِرُوا يا أهلَ الإسلام، فسنن ربِّكم لا تتغيَّر؛ ﴿ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ [النور: 11]، فهذا الإفك المتَجَدِّد يحملُ في طيَّاتِه من الخيريَّة التي ما سعَى لها المسلِمون، فكم أزاحَ هذا الإفكُ الجديد الغشاوةَ عن أعينِ كثيرٍ من المسلمين الذين ظنُّوا خيرًا بالمذاهب الباطلة!
    كم انكَمَش التمدُّدُ الشيعيُّ في البلدانِ الإسلاميَّة، وأصبحَ في موقف المُدافِع عن نفسه!

    كم تَعَرَّفَ عوامُّ الشيعةِ وعُقَلاؤُهم على حقيقةِ مذهبهم، فأصبح تحوُّل العشرات بل المئات حديثًا مذاعًا وخبرًا مسموعًا!
    كم صدعت المنابر وسالَت المحابر بذكرِ عائشةَ وفضائِلها!
    كم وكم من الخيريَّة التي حصَلت ورُوِيت آثارُها
    وصدَق الله ومَن أصدق من الله قيلاً؟ ﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾ [الأنفال: 17].
    اللهم صلِّ على محمَّد وعلى آله وصحبِه أجمعين.

    http://www.alukah.net/spotlight/1073...#ixzz2vGDY7sGQ

  2. #2

    افتراضي

    بارك الله فيكم

  3. #3

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة shifk مشاهدة المشاركة
    بارك الله فيكم
    وبارك الله بكم وفيكم

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. تحية للزمن المتجدد ,, بلعم ابن باعوراء القرن الحالي
    بواسطة اخت مسلمة في المنتدى خنفشاريات
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 09-29-2009, 10:56 PM
  2. نظرية الإفك
    بواسطة أبو مريم في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 06-26-2009, 02:18 PM
  3. هل لفق القرآن الكريم حادثة الإفك للسيدة مريم ؟
    بواسطة محمود القاعود في المنتدى قسم الحوار عن الإسلام
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 10-30-2007, 01:50 PM
  4. ***شبهات حول حديث مارية القبطية والإفك عليها***
    بواسطة ومضة في المنتدى قسم السنة وعلومها
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 03-13-2007, 10:37 PM
  5. قصة الإفك.......بين المحنة والمنحة
    بواسطة ومضة في المنتدى قسم الحوار عن الإسلام
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 05-09-2006, 01:57 PM

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء