القاصّ هو من يتبع الحكايه الماضيه بالحكاية عنها والشرح لها (1) وذلك مع ضرورة وجود جمع من الناس , وهذا في حد ذاته ليس مذموماً طالما أن فيه تحرٍ للحقيقه وسرد الوقائع كما حدثت دون إضافه أو نقصان , بل إن فيه فائده جليله وهي العظه والعبره , قال الله تعالى:" فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴿الأعراف: ١٧٦﴾ وقال تعالى:" وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَـٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ" ﴿هود: ١٢٠﴾ ..
و قد فرّق الإمام إبن الجوزي رحمه الله بين القاصّ والواعظ والمذكِّر فبعد تعريف القاص المذكور أعلاه ذكر أن التَّذْكِير هُوَ تَعْرِيف الْخلق نعم الله - عز وَجل - عَلَيْهِم وحثهم على شكره وتحذيرهم من مُخَالفَته , وعرّف الْوَعْظ على أنه تخويف يرق لَهُ الْقلب (2) والذي يبدو أن التذكير والوعظ يمكن أن تكون لهما طرق أخرى غير القصص فقد ورد الوعظ والتذكيرعن الرسول صلى الله عليه وسلم كما جاء في مسند الإمام أحمد أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ استَندَ إلى بَيتٍ ، فوعظَ النَّاسَ ، وذَكَّرَهُم ، قالَ : لا يُصلِّي أحدٌ بعدَ العَصرِ حتَّى اللَّيلِ ، ولا بعدَ الصُّبحِ .. إلى آخر الحديث ..
وأيضاً في حديث العرباض بن سارية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعظ أصحابه موعظة وجلت منها القلوب .. إلى آخر الحديث.
كما ورد الوعظ عن أبي بكر وعمر وعلي وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين , وكل هؤلاء لم يُعرفوا بإكثار سرد القصص ..
كما ذكرنا مسبقاً فإن سرد القصص في حد ذاته ليس مذموماً ولكن يجب على القاصّ أن يُتحرّى فيه صدق الروايه وصحة السند ..
روى الخلّال عن أحد السلف أنه سُئل عن القصّاصين فقال :
القُصَّاصُ الَّذِينَ يذكرُونَ الْجنَّة، وَالنَّارَ وَالتَّخْوِيفَ، وَلَهُمْ نِيَّةٌ وَصِدْقُ الْحَدِيثِ. فَأَمَّا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَحْدَثُوا وَضْعَ الْأَخْبَارِ وَالْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ، فَلَا أَرَاهُ.
وقال الإمام احمد: ما أحوج الناس إلى قاصّ صدق ..
وقال أيضاً: "يُعْجِبُنِي أَمْرُ الْقُصَّاصِ؛ لِأَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ الْمِيزَانَ وَعَذَاب الْقَبْر"
فقيل له: فَتَرَى الذَّهَابَ إِلَيْهِمْ؟ قَالَ: إِي لَعَمْرِي إِذَا كَانَ صَدُوقًا، لِأَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ الْمِيزَانَ وَعَذَابَ الْقَبْرِ.(3)
لكن الإشكال هنا فيما قد يقدم عليه البعض في سرد القصص , وللأسف الشديد قد وقعت المخالفات من غالب القصَاصين إن لم يكن كلهم , فقد تولى هذه المهمّه قُصَّاصٌ أكثرهم لا يخافون الله. ولا يَهُمُّهُمْ سوى أن يبكي النَّاسُ في مجالسهم، وأن يتواجدوا وأن يعجبوا بما يقولون. فكانوا يضعون القصص المكذوبة وينسبونها إلى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (4) وقد عُدَّ القصّاصون أحد أسباب ظهور الوضع في الحديث إضافة إلى الزنادقة والجهّال وغيرهم من الفرق المخالفه وعلى رأسها الشيعه الروافض , يقول الإمام إبن قتيبه رحمه الله :
وَالْوَجْهُ الثَّانِي"أي لظهور الوضع في الحديث": القُصَّاصُ عَلَى قَدِيمِ الأَيَّامِ، فَإِنَّهُمْ يُمِيلُونَ وُجُوهَ الْعَوَامِّ إِلَيْهِمْ وَيَسْتَدِرُّونَ مَا عِنْدَهُمْ بِالمَنَاكِيرِ، وَالْغَرِيبِ، وَالأَكَاذِيبِ مِنَ الأَحَادِيثِ، وَمِنْ شَأْنِ العَوَامِّ، القُعُودُ عِنْدَ القَاصِّ، مَا كَانَ حَدِيثُهُ عَجِيبًا، خَارِجًا عَنْ فِطَرِ العُقُولِ، أَوْ كَانَ رَقِيقًا يُحْزِنُ الْقُلُوبَ وَيَسْتَغْزِرُ الْعُيُونَ ...(5).
وهذه الروايات لا يخفى على كل من له عقل عرف حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها موضوعه ولا تشبه الحديث الصحيح بأي حال مثل حديث : "مَنْ صَلَّى لَيْلَةَ الأَحَدِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ مرة و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} خَمْسَ عَشْرَةَ مَرَّةً أَعْطَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَوَابَ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ عَشْرَ مَرَّاتٍ وَعَمِلَ بِمَا فِي الْقُرْآنِ وَيَخْرُجُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ قَبْرِهِ وَوَجْهُهُ مِثْلُ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَيُعْطِيهِ اللَّهُ بِكُلِّ رَكْعَةٍ أَلْفَ مَدِينَةٍ مِنْ لُؤْلُؤٍ فِي كُلِّ مَدِينَةٍ أَلْفُ قَصْرٍ مِنْ زَبَرْجَدٍ فِي كُلِّ قَصْرٍ أَلْفُ دَارٍ مِنَ الْيَاقُوتِ فِي كُلِّ دَارٍ أَلْفُ بَيْتٍ مِنَ الْمِسْكِ فِي كُلِّ بَيْتٍ أَلْفُ سَرِيرٍ ... " ويستمر الحديث على الألف(6)
وأيضاً حديث: "مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ خَلَقَ اللَّهُ مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَةِ طَائِرًا لَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ لِسَانٍ لِكُلِّ لِسَانٍ سَبْعُونَ أَلْفَ لُغَةٍ يَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَهُ وَمَنْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا أُعْطِيَ فِي الْجَنَّةِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَدِينَةٍ فِي كُلِّ مَدِينَةٍ سَبْعُونَ أَلْفَ قَصْرٍ فِي كُلِّ قَصْرٍ سَبْعُونَ أَلْفَ حَوْرَاءَ" ..
وهذا الحديث المكذوب ساقه أحد القصّاص لملأ من الناس بعد أن رواه عن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين الذين كانا من الحضور آنذاك , ثم أخذ فِي قصِّه نَحواً من عشْرين ورقة فَجعل أَحْمد بن حَنْبَل ينظر الى يحيى بن معِين وَيحيى ينظر الى أَحْمد فَقَالَ لَهُ أَنْت حدثته بِهَذَا فَقَالَ وَالله مَا سَمِعت بِهَذَا الا السَّاعَة فَلَمَّا فرغ من قصصه وَأخذ القطيعات ثمَّ قعد ينْتَظر بقيتها قَالَ لَهُ يحيى بن معِين بِيَدِهِ تعال فجَاء مُتَوَهمًا لنوال
فَقَالَ لَهُ يحيى: من حَدثَك بِهَذَا الحَدِيث
قال: أحمد بن حنبل ويحيى بن معين
قال: أَنا يحيى بن معِين وَهَذَا أَحْمد بن حَنْبَل مَا سمعنَا بِهَذَا قطّ فِي حَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن كَانَ لابد وَالْكذب فعلى غَيرنَا
فَقَالَ: لَهُ أَنْت يحيى بن معِين
قَالَ: نعم
قَالَ: لم أزل أسمع أَن يحيى بن معِين أَحمَق مَا تحققته الا السَّاعَة
فَقَالَ لَهُ يحيى كَيفَ علمت أَنِّي أَحمَق
قَالَ: كَأَن لَيْسَ فِي الدُّنْيَا يحيى بن معِين وَأحمد بن حَنْبَل غيركما قد كتبت عَن سَبْعَة عشر أَحْمد بن حَنْبَل وَيحيى بن معِين(7)
ولذلك كانوا لا يتورّعون عن الكذب على أئمة الحديث بإسناد الروايات لهم , وبالرغم من أن العلماء تصدّوا لهم إلا أن الغلبة للأسف كانت للقصّاص لأنهم إستطاعوا كسب العامّه إلى جانبهم بحكم ميل هؤلاء إلى الإستماع للقصص والأحاجي , وأمثلة ذلك كثير منها ما رواه جلال الدين السيوطي في سبب كتابة مصنفه "تحذير الخواص من أكاذيب القصّاص" فقد نُقل إليه شيء مما رواه أحد القصّاص فأفتى بأن ذلك لا أصل له ولا تجوز روايته بين الناس ..
فَنقل إِلَيْهِ ذَلِك فاستشاط غَضبا وَقَامَ وَقعد وَقَالَ "مثلي يصحح الْأَحَادِيث على الْمَشَايِخ ..مثلي يُقَال لَهُ فِي حَدِيث رَوَاهُ ..إِنَّه بَاطِل ..أَنا أصحح على النَّاس ...أَنا أعلم أهل الأَرْض بِالْحَدِيثِ ..." ثمَّ أغرى بِه الْعَوام فَقَامَتْ عَليّه الغوغاء وتناولوه بألسنتهم وتوعدوه بِالْقَتْلِ وَالرَّجم فأفتى بوجوب ضربه بالسياط إن لم يرتدع عن رواية الأحاديث الموضوعه , فإزدادت عليه ثورة العوام أكثر (8)..
وقيل أن موقف كهذا حدث مع الإمام الطبري عندما إستنكر تفسير أحد القصّاص لإحدى آيات القرآن الكريم فثار عليه الناس ورجموه بالحجاره (9).
ومن المعروف أن كثرة ملازمة القصّاص تصرف المرء عن تعلّم أمور دينه والتفقّه فيه , إضافة إلى أن الإستماع إلى هؤلاء الذين لا يراعي كثير منهم"إن لم يكن كلهم" تحري صحة الروايات التي يروونها يُعتبر عامل رئيسي في إضلال هذه الأمه ونشر الباطل بينها فيصدّق كل شخص كل ما يُروى دون تفكر وتدبّر حتى لو كان قدحاً في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم , أو تعليم ممارسه أو شعيره ليست من الدين في شيء ..
قال أحد السلف: «مَا أَمَاتَ الْعِلْمَ إِلَّا الْقُصَّاصُ يُجَالِسُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ الْقَاصَّ سَنَةً فَلَا يَتَعَلَّقُ مِنْهُ بِشَيْءٍ، وَيَجْلِسُ إِلَى الْعَالِمِ فَلَا يَقُومُ حَتَّى يَتَعَلَّقَ مِنْهُ بِشَيْءٍ»
وقال السختِيَانّي: «مَا أَفْسَدَ عَلَى النَّاسِ حَدِيثَهُمْ إِلَّا الْقُصَّاصُ»(10) ..
وجود هذه الفئه بالتحديد بهذا المسمى في عصرنا هذا ليس ملحوظاً أو كما كان من قبل , ولكن الممارسات السيئه التي عُرفت عنهم موجوده وبكثره وللأسف كان لهذه الممارسات أثراً واضحاً لعدم إستخدام المعايير الصحيحه للتمييز بين العالم الربّاني الذي يجب أن نأخذ عنه العلم وبين النكرات الذين على شاكلة ذلك المدّعي المعروف في قصة فتوى الخنفشار المعروفه , فأصبح الكثير ممن يسعون إلى الظهور يأخذ ببعض كتب التاريخ ويحفظ ما تيسر له منها ثم يجمع الناس حوله في المساجد بعد كل صلاه ليسرد لهم ما حفظه حتى يعلو شأنه ثم يتصدى للفتوى ثم يقدّموه المصلون إماماً لهم وهو لم يحصّل من علوم الدين أي شيء يُذكر ..
وهناك ممن نحسبه ذو علم يروي للناس دون تحري صحة الروايه مما يمكن أن يُتخذ مطعناً في هذا الدين العظيم , وأظن الجميع قد تابع ما نُشر عن ذلك الشيخ الذي روى تلك الروايه المكذوبه عن خالد بن الوليد رضي الله عنه ومالك بن نويره والتي إستخدمها فيما بعد المنصّر رشيد من قناة الحياه لأغراضه الخبيثه ..
كما أن هناك من ينشر الكذب والباطل عن قصد ومن هؤلاء الروافض عليهم من الله ما يستحقّون , وما يثير الإستفزاز هو ذلك التفاعل الرهيب من الناس مع هذا الضلال والذي يذكرني بقول الله تعالى :" فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ" ﴿الزخرف: ٥٤﴾ ..
ولأن الدين عند الناس إنحصر في زاوية قصّ الحكايات فقد تجرّأ الكثير على الطعن فيه بطريقه أو بأخرى وصرنا نسمع كثيراً عن ما يُسمى بالخطاب الديني وأن هذا الخطاب الديني خطاب ضعيف لا قيمه له ولا يؤثر و و و وما إلى ذلك من كلام عمومات دون الخوض في تفاصيل عن هذا الخطاب وما الذي يعنيه ..
فالإنصات أولى للعالم الذي يحدّث عن القرآن الكريم والسنه وأصول العقيده وسائر علوم الدين أو ما تيسّر له ..
قال الحارث بن يعقوب: «إِنَّ الْفَقِيهَ كُلَّ الْفَقِيهِ مَنْ فَقِهَ فِي الْقُرْآنِ وَعَرَفَ مَكِيدَةَ الشَّيْطَانِ»
وقال إبن الماجشون: «لَا يَكُونُ إِمَامًا فِي الْفِقْهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ إِمَامًا فِي الْقُرْآنِ وَالْآثَارِ وَلَا يَكُونُ إِمَامًا فِي الْآثَارِ مَنْ لَمْ يَكُنْ إِمَامًا فِي الْفِقْهِ» ..
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: «لَا يَكُونُ إِمَامًا فِي الْحَدِيثِ مَنْ تَتَبَّعَ شَوَاذَّ الْحَدِيثِ أَوْ حَدَّثَ بِكُلِّ مَا يَسْمَعُ أَوْ حَدَّثَ عَنْ كُلِّ أَحَدٍ» (11)..
والله أعلم ..
__________________________________________
(1) القصّاص والمذكرين لإبن الجوزي
(2) القصّاص والمذكرين لإبن الجوزي
(3) تحذير الخواص من أكاذيب القصّاص للسيوطي
(4) السنه ومكانتها للسباعي
(5) تأويل مختلف الحديث لإبن قتيبه
(6) المنار المنيف لإبن القيّم
(7) تحذير الخواص من أكاذيب القصّاص للسيوطي
(8) تحذير الخواص من أكاذيب القصّاص للسيوطي
(9) السنه ومكانتها للسباعي
(10) حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني
(11) جامع بيان العلم لإبن عبد البر
Bookmarks