بسم الله الرحمان الرحيم ، وصلى الله على نبينا محمد إلى يوم الدين :

فصول من كتاب الواضح في أصول الفقه لابن عقيل الحنبلي :



-فصل : معنى قولنا: أصول الفقه :


الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية بطريق النظر و الاستنباط.
وأصوله ; هي ما تبنى عليه الاحكام الفقهية من الأدلة على اختلاف أنواعها ومراتبها : كالكتاب و مراتب أدلته ..من نص .. وظاهر..وعموم .. ودليل خطابه ..وفحوى خطابه ..والسنة و مراتبها ..والقياس ..وقول الصحابي - على الخلاف -..واستصحاب الحال مع انقسامه ..فهذه أصول تنبني عليها الأحكام .
ولا ينصرف إطلاق الفقه الى العلم جملة ..بدليل علم النحو والطب و اللغة والهندسة والحساب ..فإن العلماء المبرزين فيها لا يقع عليهم اسم الفقهاء ..ولا على علومهم اسم الفقه .. وكذلك العلماء بأصول الدين ..العارفون بالجواهر و الأعراض و الأجناس و الأنواع و الفصل والخاصة ..والاستدلال بالشاهد على الغائب .. لا يقع عليهم اسم فقهاء ..لعدم علمهم بأحكام الشرع ..ولا تسمى علومهم أصولا للفقه ..وإن كانت الأدلة التي ذكرنا بالأصول تنبني على العلوم التي يبنى عليها إثبات أصول الدين ..من حدث العالم ..وإثبات الصانع .. وأنه واحد .. وما يجب له ..وما يجوز عليه ..وما لا يجوز عليه ..وبعثة الرسل وصدقهم ..الى امثال ذلك ..ولكن لما كانت أخص بكونها أصولا للدين ..لم يطلق عليها ما انبنى على ما دونها من الأصول ..ما لا يقال في اللغة أصول الدين ..وإن كانت الأحكام الشرعية مبنية على الالفاظ اللغوية .
لكن العلماء علّقوا الأسماء على الاقرب و الاخص دون الابعد و الاعم ..كما فعلوا ذلك في الأنساب والدلائل ..فلم يحيلوا بدلالة الإجماع على الإعجاز الذي هو دليل صدق النبوة ..لكن أحالوا بحجة الإجماع على قول الصادق لأنها أقرب ..دون دلالة صدق الصادق لأنها أبعد .
...والمعوّل عليه عند علمائنا أن الفقه هو العلم لا الفهم ..لأن الفهم قد اشترك فيه العامي و المجتهد ..وانفرد أهل الإجتهاد بكونهم علماء ..وليس كل فهِم عالماً..وكل عالمٍ فهمٌ ..والله أعلم.



-فصل : العلم :
قد اختبطت في تحديد حقيقة العلم أقوال العلماء ..
فقال قوم : العلم معرفة المعلوم على ما هو به :
اعتُرضَ قوله بأنه صرّف من اللفظة قبل بيان معناها ..وقولنا (معلوم) مصرّف من (عَلِمَ) ..كمضروب من ضرب ..ومن لا يعرف الأصل لا يعرف المصرَّف منه ..وما هذا إلا بمثابة من حدَّ السواد بما سود الجسم ..ونحن لم نعلم سوادا فكيف نعرفه بما صرِّف منه ؟
وقال قوم : العلم معرفة الشيء على ما هو به :
معترَض بأنه يخرج منه العلم بالمعدوم ..فإنه علم ..وليس بمعرفة بشيء..وإن بناه على ذلك الأصل ..فهو فاسد بالأدلة القاطعة في أصول الدين ..ولو كان ذاتاً في العدم لكان مستغنياً بذاته عن القديم ..وهذا نفس القول بقِدَم العالم ..وموافقةٌ لأصحاب الهوى .
وقال قوم : العلم تَبيُّن المعلوم على ما هو به :
والحد للحقيقة ينتظمها شاهداً وغائباً ..والله سبحانه يتعالى عن أن يوصف بأنه مُتَبَيِّنٌ..لما في طبع هذه الكلمة و جوهرها من العثور على الشيء بعد خفائه ..والظهور بعد استبهامه ..وهو بالعثور بعد الخفاء أخص منه بالمعرفة المطلقة .
وقال قوم : العلم اعتقاد الشيء على ما هو به مع سكون النفس الى معتقَده :
واعتُرِض بأن ما تعتقده العامة من الجهالات ..وتسكن اليه من التقاليد ..ليست علوما ..وسكونها الى ما تعتقده يمكن إزالته بالتشكيك فيه بأنواع الحجج و البراهين ..فضلا عن الإزاحة عنه .
وقال قوم : العلم إدراك المعلوم او الشيء على ما هو به :
و(إدراك ) لفظ عام يشترك بين درك الحواس ة العلوم ..والحد بالمشترك لا يجوز ..وإنما يُحد الشيء بخصيصة .
وقال الشيخ ابو القاسم بن برهان : هو قضاء جازم في النفس ..
قلتُ : والقضاء بالحكم أخص منه بالعلم .
وأحسن ما وجدته لبعض العلماء أنْ قال : هو وِجدان النفس الناطقة للأمور بحقائقها .
في العلم ، نخص الحد بعلم الضرورة وعلم القديم سبحانه ،.
والعلم ينقسم قسمان : قديم ومحدث :
فالقديم : علم الله سبحانه ..صفة من صفاته ..ولازم من لوازم ذاته ..دلَّ على إثباته إتقان أفعاله ..ونصّ كتابه ..وهو علم واحد يتعلق بالمعلومات على حقائقها ..لا يتعدّد بتعدّد المعلومات .. ولا يتجدّد بتجدّد المُحدَثات ..ولا يوصف بكسبي ولا ضروري .
والعلم المحدَث : وهو ضربان : ضروري.. ومكتسب :
فالضروري : ما لزم نفس للمخلوق لزوما لا يمكن دفعه و الخروج عنه ..وقولنا : (نفس المخلوق) تحرّزٌ عن العلم القديم .. وهو ضربان :
بديهي لا يحتاج الى مقدمات ..ولا سياقاتٍ نظرية ..كالعلم بنفسه و أحوالها .
وما يحصل بوسائط و مقدمات ..كعلم الهندسة و مسائلها .
وأما الاستدلالي الكسبي : فهو العلم المكتسب بالنظر والاستدلال ..كالاستدلال بالشاهد على الغائب ..و الصنعة على الصانع...
والنظر هو طريق العلم الاستدلالي ..يقع بالبحث و الفكر ..
والاستدلال : طلب مدلوله .. وذلك انما يقع بالفكر و البحث ..
والعلم الاستدلالي يتطرق عليه الشك والشبهة ..
واعلم : أن علم الاكتساب كله مردود الى علم الاضطرار ..وقد يكون مردوداً بمقدمات و مراب ..فمِن ذلك أنه قد يكون عشر مقدمات في عشر مراتب ..فتُردّ العاشرة الى التاسعة ..و التاسعة الى الثامنة..و الثامنة الى السابعة ..ثم على ذلك الى الأولى ..
مثاله : الإجتهاد مردود الى الإجماع ..و الإجماع مردود الى النبوّة ..و النبوّة مردودة الى المعجزة.. المعجزة مردودة الى أحد أمريْن :
إما حكمة الله عزّ وجل التي دلْ عليها إتقان صنائعه و شرائعه ..فعندها تحصل الثقة بأنه لا يؤيد بمعجزة كذاباً ..ولا يزين قبحاً ..ولا يصدُّ عن حقّ ..ولا يحول بين المكلَّف وبينه .. وإذا لم يجد الإعجاز هذا المُستَنَد ..لم تحصل دلالته على صدق من قام على يديه ..
أو الى حُكمه وإرادته المطلقة و مشيئته لملكه .. على اختلاف المذهبيْن : مذهب أهل السنة ..ومذهب أهل المعتزلة ..فتتم العشرة على مذهبهم بردّ حُكمه الى غناه عن القبيح مع علمه به ..و غناه عن القبيح مع علمه به مردود الى دلالة أفعاله ..و دلالة أفعاله مردودة الى التغَيُّر ..والتغَيُّر ضرورة .
ومِن شَرَف العلم أنه يدّعيه من لا يحسنه ..ويفرح إذا نُسبَ إليه ..




-فصل:طرق العلوم


طرق العلوم ستة لا سابع لها ..منها : العلوم الحاصلة بالمعلومات عن درك الحواس..وهي خمس:حاسةالبصر..والسمع..والشم..والذوق..واللمس..والس ادس من الطرق ..ضربان :هاجم على النفس ..وهو الضروري .. ومستحضر لها بالكسب ..وهو الاستدلال بالمحسوس على غير المحسوس ...
وما يحصل بطريق دلالة الحال من خجل الخجِل ..ووجَل الوجِل ..وبر البارّ..وعقوق العاق ..وما شاكل ذلك.
وأما ..ما يدخل هاجما على النفس ..كوجود الريّ والعطش و الشبع و الجوع ..وما يجده الإنسان من نفسه ..من صحته و سقمه ولذته وألمه ..وهو السادس من الطرق .
فصل :
وهذه الحاصلة عن الطرق التي ذكرناها غير متولّدة من هذه الطرق..وإنما هي حاصلة من الله فعلا عقيْبَ وجود الطرق التي ذكرناها ..التي بعضها كسبي ..كالتأمل و الاعتبار..والبحوث والافكار ..و بعضها تدخل دخول غلبة ..مثل العلم الحاصل عن أخبار التواتر ..وما يدخل على العيان وسائر الحواس ..فيُحد
فيُحدث اللهُ العلمَ عقيْبه ..كما يُحدث الموت عقيب الجراح ..والجزع عند رؤية الأسد ..والمسرة عند تجدّد الظفر ..وقدوم الغائب .. وإيلاد الولد .. إذ كان القول بالتولٍّل قولاً يضاهي قول أهل الطبع الذي قام بفساده دليل العقل.. وكذّبه الشرع ..وذلك هو المانع لنا مِن القول بخَلق الأفعال مُضافة الى غير الله سبحانه ..وكما قامت الدلالة بفساد قول أهل الطبع قامت بفساد القول بإثبات شريك في الخلق .
وإنما أنس كثير من المستأنسين بالحواس المحطوطين عن درجة النظر بجري العادات..فأضافوا الى غير الله ما لا يكون إلا من الله..كالولد يوجد عند الجماع .. والزرع يوجد عن فعل الزّرّاع .. والموت يوجد عند جَرح الجرّاح .. وذلك أثر وُجِد عنده و عقيْبه لا عنه ..وكذلك وجود الكون عند وجود الجوهر لا محالة ..وليس بمتولِّد عنه .. بما ثبت لله تعالى من دلالة الوحدة في الصنع ..وهذا أصل كبير .


-فصل : العقل :


العقل ضربٌ من العلوم الضرورية .
وهو العلم بوجوب واجبات ، واستحالة مستحيلات ، وجواز جائزات ..
وبيان هذه الجمل ، مثل العلم بأنّ الضديْن لا يجتمعان ، وأن الإثنيْن أكثر من واحد ، وأن المعلوم لا يخرج عن أن يكون موجودا أو غير موجود ، وأن الموجود لا ينفك عن أن يكون عن أوّل أو لا عن أوّل ، ومن ذلك حصول العلم عن الأخبار المتواترة ، فمن حَصلت له هذه العلوم عُدّ عاقلاً .


فصل : التحسين والتقبيح
المعوّل في التحسين والتقبيح على الشرع لا على العقل ..فالعقل محكوم عليه لا حاكم في هذه القضايا ..
والدلالة على ذلك أن القائلين بتقبيح العقل -كالبراهمة -..قبّحوا إيلام الحيوان وإتعابه ..وحسّنوا منه ما لا يمكن دفع الأضر عنه والألم إلا به ..وهو الأقل الذي يضطرّ إليه لدفع الأكثر ..كالفصد والحجامة ..وقطع المتآكل .. وأجمعوا على تقبيح ما استُغني عنه .
ثم إنّ الشرع أباح الإيلام لا موقوفاً على هذا .. إذ لا ضرورة الى الإيلام بل هو غنيّ عنه ..وأجمعنا على أن الشارع يؤلم مِن غير حاجة ..وأنّ ذلك حسن ..فبطل تحسين العقل و تقبيحه .



-فصل : محلّ العقل :


محلّه القلب ..لقوله تعالى : ( أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها ) ..وقال : ( فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب )..وقال عمر في ابن عباس : له لسان سؤول وقلب عقول .. وإضافة العرب الشيء الى الشيء إما لكونه هو هو ..أو مكانَه .. وليس القلب عقلا بإجماع .. لم يبق إلا أنه محلّ العقل ..بإضافة الشيء الى محله .. ومن خلق العقل أعلم بمحله .. ( ألا يعلم من خلق )..فلا التفات الى قول من يقول (إن محله في الرأس).



-فصل : النظر :


ه التأمل والاعتبار بمعرفة الحق من الباطل ، والفصل بين الحجة و الشبهة ، وهو فكرة القلب .
وللنظر ألة وغرض :
فالآلة : هي المطلوب من أجل غيره .
والغرض : هو المطلوب من أجله في نفسه .
فالغرض ، كالمعرفة بالله ورسوله ، فإن حاجة المكلَّف الى ذلك مناسبة ، إذ كانت المعرفة بالله ورسوله فريضة واجبة ، ولا يوصل إليها إلا بالبرهان ، والبرهان ألة يُتوصل به الى حصول المعرفة.
وقد يظفر الطالب - وهو الناظر - بدليل هو آلة لحكم ، ثم يكون على نظره لطلب آلة أخرى في طيّ تلك الآلة تكون لغرض آخر ، وهو حكم تعدية للحكم .
وتتفاوت أذهان المجتهدين في التعدية والجمود على محل النص ..فقد يُقْدم على التعدية مُقدم لقصوره عن الخصيصة التي توجب وقوف الحكم على موضع النص ، وقد يَجمَد عن التعدية مُقصَر لم ينكشف له وجه التعدية والإلحاق ، وهذا مزلّة الأقدام ، وبيان مقادير الرجال في إلحاق الأشباه بالأشباه ، وقطع المتّحِدات عن التعدية والإلحاق .
مثال ذلك : قَطعُ أصحاب أبي حنيفة النبيذ عن الخمر ..مع استوائهما في الاشتداد والإطراب .
ومثلُ قَطعُ أصحاب مالك وأصحابنا جِماع الناسي في رمضان عن أكله وشربه ، مع تساوي إسقاط الحرج والمؤاخذة فيهما .
..
وما ذاك إلا لتفاوتهم في قوة النظر في الإلحاق والقطع .
فالنظر الأول : في فهم مخارج الشرع .
والنظر الثاني : في استخراج العلل إن كانت ، وإسقاط التعليل إن لم يكن .
والنظر الثالث : في الجمع والقطع .
فالأول : مثل ما توهّم أصحاب أبي حنيفة في قول النبي ; ( لا ربا في دار الحرب ) ، توهّموا : لا ربا ، بمعنى دار إباحة ، فلا يحرم فيها الربا .
وإنما خصّها بالنهي لئلا يظنوا أنها دار إباحة تبيح المحظور من الربا.
ومثال الثاني : استخراج أصحابنا و الشافعية التعليلَ على النهي عن شرب الخمر ، ..بأنها ذات شدة مُطربة ، وتعدّيتهم بهذه العلة للحكم الى ما قامت به الشدة وهي الأنبذة .
والثالث : مثل إلحاق الطعام بالمنصوصات أو إلحاق المكيلات بها من حيث هي مكيلات ، وقطع الطعام عنها ، أو إلحاق المُقتات بها ، وقطع المكيلات والمطعومات عن المُقتاتات .
والنظر الذي نحن فيه يُثمر العلم إذا كان صحيحا واقعا موقعه ، مستوفاة شروطه ، لا من طريق التولّد ، لكن من جهة جري العادة ، بأن الله يُحدِث العلم عقيبه ، على ما بيّنا من فساد القول بالتولّد .


-واعلم أنّ الخطأ يدخل على الناظر من وجهين :
أحدهما : أن ينظر في شبهة ليست دليلاً ، فلا يصل الى العلم .
والثاني : أن ينظر نظرا فاسداً .
وفساد النظر بوجوه :
منها : أن لا يستوفيه ، ولا يستقصي فيه ، ولا يستكمله ، وإن كان نظرا في دليل .
ومنها : أن يَعدل عن الترتيب الصحيح في نظره ، فيُقَدِّم ما حقُّه أن يُؤَخَّر ، ويؤخّر ما من حقه أن يقدَّم .
ومنها : أن يجهل بعض صفات الدليل التي لا يتم كونه دليلا على الحكم إلا بحصولها ، وحصوله عليها ، وحصول علم المستدل بها.
ومنها : أن يضم الى وصف الدليل وصفاً يُفسده ..نحو أن يقول :
إنما يدل خبر النبي على تحريم الخمر ، لأنه خبر عن تحريم الخمر ..فإن ذلك يؤدي الى أن يكون خبره عن تحريم الميتة والدم ليس بدال على تحريمها ، لأنه ليس خبر عن تحريم الخمر ، ولو لم يدل خبره عن الميتة والدم على كونهما حرامين ، لما دلّ خبره عن كون الخمر حراماً على كونه حراماً ، ولبطلت دلالة جميع أخباره عن سائر الأحكام .
فهذه الزيادة وأمثالها مفسدة للإستدلال ..
وصورة ذلك أن يسمع المكلَّف خبر النبي عن تحريم الخمر ، ولا يعلم مع ذلك أنه خبر لرسول الله ، فلا يعلم - لجهله قصدَ الله سبحانه - كونه ليلا .
وكذلك لو شاهد ما يظهر على يده من إحياء الميت ، وقلب العصا ثعبانا ، وفلق البحر ، ولم يعلم أنه من فعل الله سبحانه مقصودا به الى تصديقه ، لم يعلم كونه دليلا على ثبوته في أمثال هذا ...



-فصل :


جميع أحمام الأمارات والعلل الشرعية ثابتة بالسمع دون العقل ، لأن العقل لا يوجب حكما من أحكام العبادات والعقود ..






-في معنى التكليف :


اعلم أن حدّ التكليف : إلزام ما على العبد فيه كُلفة ومشقة ، إما في فعله أو تركه ..


فإن قيل : ليس ينضبط الحد بما ذكرتم ، فإن إفطار العيد من أيام التشريق ، والطيب ، والاغتسال ، وأخذ الزينة من اللباس للجُمع والأعياد ، وإزالة الأنجاس ، هذه كلها من جملة تكاليف الشرع ، وهي مُساعدة للطبع ، وملائمة للنفس ، فلا تكلفة فيها ، فبطل أن يكون تكليف الشرع مأخوذا من الكُلفة والمشقة .
قيل : لا يخرج لأن كل من أخرج الأمر والنهي عن مشيئته المُطْلقة إلى دخول تحت رسم ، فإنه تكليف ، حتى إنه يحسن أن يقول العربي : كنتُ بنية الصوم ، فكلّفني صديقي الإفطار ، وكنتُ على شعت السفر فكلفني دخولَ الحمام . فإلزام الرسم تكليف وإن وافق الطبع ، وإلزام الطبيب من جهة العلاج أكل المرورة وشرب الأدوية الحلوة كتكليف الحمية من حيث إنه رسم وحدّ يوجب الاتباع.



-فصل :


واعلم - وفقك الله - أن أفعال العقلاء على ضربين :
ضرب منها : لا يصح دخوله تحت التكليف ، وهي ما يقع منهم حالَ الغفلة والسهو والنوم والغلبة والسكر ، وكل ما يقع عن عزوب العقل والتمييز .
..والدلالة على إبطال القول بتكليف العازب العقل ، أو الذكر من الساهي والذاهل ، ما هو ساه عنه ، وذاهل عنه ، أن الله سبحانه إنما كلّف من كلّفه فعلاً ، أن يقع ذلك الفعل منه على وجه التقرب إليه والطاعة له ، أو كلفه اجتنابا يقع منه على وجه بقصد التقرب ، ولا يصح أن يقع التقرب إليه بالفعل أو الترك إلا بعد أن يقع وهو عالم به حتى يصح القصد إليه دون غيره ، والساهي لا يصح أن يكون مع سهوه عالما ، فكيف يصح أن يكون بالفعل أو الترك متقرّبا ؟ فثبت بهذا أنه غير داخل تحت التكليف.
...وأما الدلالة على إحالة تكليف النائم والسكران ..فهو الدليل الذي دلّ على نفي تكليف البهيمة ، والطفل الذي لا يعقل ، والمجنون ، لاشتراك جميعهم في زوال العقل والتمييز ..
...فأما توهّم من توهم أن حد السكران إنما وجب عليه بسبب أدخله على عقله وهو السكْر ، فإنه باطل ، لأن السكر من فعل الله تعالى ، وليس من كسب العبد ومقدوراته مباشَرا و لا مُتولَّدا ، فأما استحالة ابتدائه لفعل السكر في نفسه فباطل باتفاق ، وأما امتناع كونه مولِّدا لفعل السكر بسبب كان منه فظاهر البطلان ، لأنه لم يكن منه إلا الشرب ، وشربه للماء وسائر المائعات من جنس شربه الخمر العتيق ، فلو ولّد أحد الشربين لولّد الآخر ، لأن الشيء إذا ولّد عند أصحاب التولد ولّد مثله، ولو ساغ القول بأن الشرب يُولّد السكر ، لساغ أن يقال : إن الأكل والشرب يولدان الشبع والريّ ، وأن الوجْبة تولد الموت ، وكل هذا باطل.
وأصل القول بالتوليد عند أهل السنة باطل ، خلاف المعتزلة وأهل الطبع، فإنه لا تولد في فعل الله سبحانه ولا فعل الخلق ، فسقط ما طلبوه، ولا يسوغ أيضا لأحد أن يقول : إن السكر إنما وجب وتولّد عن ذات الشراب ، لأنه جسم من الأجسام ، والأجسام لا تولِّد شيئا ، ولأنه لو تولد السكر عن ذات الشراب ، لكان فعلا لله سبحانه ، لأنه فاعل الجسم الذي هو الشراب ، وإذاً لم يحد السكران بسبب كان منه وأمرٍ أدخله على نفسه .
ولو قيل : إنما حُدّ لأنه شرب ، وأنه قد أجرى الله العادة بفعل السكر عند تناوله . لكان أولى ، إلا أنه لم يكن محدودا إلا على شيء فعله مع العقل لا مع زوال العقل ، لأنه يشرب وهو عاقل مُميز .



-فصل :


واعلم أن المُكرَه داخل تحت التكليف ، على أن فيه اختلافا بين الناس ، وذلك أن المكره لا يكون مكرها إلا على كسبه وما هو قادر عليه ، نحو المكره على الطلاق والبيع وكلمة الكفر ، وكل ذلك إذا وقع فهو كسبٌ لمن وقع منه ، وواقع مع علمه به وقصده إليه بعينه ، فيصح لذلك تكليفه، كتكليف ما لا إكراه عليه فيه .
وزعمت القدرية أنه لا يصح دخوله تحت التكليف ، لأنه لا يصح منه غير ما أُكره عليه .
وهذا قول باطل من وجهين :
أحدهما : أنه قد يصح منه خلاف ذلك ، لأنه عندهم قادر على أُكره عليه وعلى ضده وتركه ، فلو شاء فعل ضده والانصراف عنه ، ولَتَحمل الضرر وكفّ عنه ، فسقط ما قالوه . وغاية ما فيه أنه يشق عليه ، ويتكلف ما يضادّه ويثقل ، وهذا مما يجانس التكليف ، فأما أن يضاده فلا ، لأن التكلّف أبدا إنما هو لفعل ما يثقل و يشق.
الوجه الثاني : أنه ليس كل من لا يصح منه الانصراف عن الفعل يمتنع تكليفُه ، لأن القادر عندنا على الفعل من الخلق لا يصح منه الانصراف عن الفعل في حال قدرته عليه ، لوجوب وجودها مع الفعل ، وإن كان ذلك يصح منه ، بمعنى صحة نيته ، وأنه لا يصح كونُه قادرا على ضده بدلا منه ، ومع ذلك فإن تكليفه صحيح .
..........

-فصل :


واعلم أن جميع أفعال المكلف الداخلة تحت التكليف - دون ما يقع منه حال الغلبة وزوال التكليف - ينقسم قسمين لا ثالث لهما ، ولا واسطة بينهما :
أحدهما : ما للمكلف فعله .
والآخر :ما ليس للمكلف فعله .
ولا يجوز أن يقال : إن منها ما لا يقال له فعله ، ولا ليس له فعله ، وذلك معلوم بضرورة العقل ، كما يُعلم بأدلته ، أن المعلوم لا يخرج عن عدم أو وجود ، وأن الموجود لا يخرج عن قِدم أو حدوث .
والذي له فعله منها حسن كله ، وهو ينقسم إلى : مُباح وندب وواجب .
والذي ليس له فعله : هو القبيح المحرم الاقدام عليه .
وكل مكلف له فعل شيء مما ذكرنا ، فلا يجوز أن يكون له بحق الملك والاختراع وإنشاء الأعيان ، كالذي لله سبحانه من التصرف فيها بحق الربوبية ، واستحقاق العبادة ، وإنما يكون للمكلَّف الفعلُ على وجه ما حدّه له مالك الأعيان ، وأذِنَ له فيه .
ومتى قيل : إن للمكلف وغيره من الخلق شيئا من الذوات نحو الأَمَة والعبد والدار والثوب ، فإنما معنى ذلك أنه له التصرف فيه ، والانتفاع به بقدر ما أذن له المالك للأعيان عز وجل ، وما عدا ذلك ظلم وعدوان ومحظور عليه .




-فصل: الجنس :


الجنس جملة متفقة متماثلة .. و الجنس الواحد ما سدَّ بعضه مسد بعض ..و قام مقامه ..أو بأن لا يجوز على أحدهما شيء إلا جاز على الآخر مثلُه و نظيره ..ولذلك لم يجز أن يكون الله مثلا لشيء ..ولا شيء مثلا له ..إذ لو شابه المحدَث من وجه ..لجاز عليه من ذلك الوجه ما يجوز على المحدَث من ذلك الوجه .
مثاله عند الأصوليين : الجوهر جنس واحد من حيث هو جوهر على الحقيقة ..فما جوهر إلا ساد مسد جوهر في خصائصه من شغل الحيز وحمل العرض كاللون و الحركة و السكون
.


-فصل : في النوع :


وهو تحت الجنس بنوع فضل وخاصة ، وإن قلتَ : هو ما انفصل عن الجنس بمعنى ، كان أخصر ، والاختصار للحد واجب في طريقة المحققين. وما لم ينفصل من الجنس بمعنى ، فهو جزء فيه وليس بنوع...



-فصل: الطبع :


الطبع عند الفائلين بإثباته : هو الخاصة التي يكون الفعل بها من غير جهة القدرة ..وليس عند أهل الإسلام حادث يحدث من غير جهة القدرة ..لأن الحوادث خلق الله سبحانه ..فلم يبق لغيره حادث يصدر عنه.
وإنما قلنا : من غير جهة القدرة ..لأن ما يقع بالقدرة يقع بالتمييز ..لأن القدرة لا تقوم الا بمحل فيه اختيار..أو تكون صفة لمختار .. وقد أكذب الله سبحانه أهل الطبع بقوله : ( وفي الأرض قطع متجاورات..) الى قوله : (يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل )..ولو كان الماءُ يعطي النباتَ الطوباتِ بالطبع الذي أثبتوه، لأعطاها رطوبة خاصة ذات طعم خاص ..لاستواء أجزاء الماء في نفسه ..فلما اختلفت الطعوم مع اتحاد الماء و التربة ..عُلم أنه لم تأت النبات من جهة الطبع ..لكن من جهة اختيار الصانع الطابع ..ولأن الطبائع تتباين لتضادِّها ..وقد اجتمعت في الحيوان ..ولا يجمع المتنافِر إلا قاسر قاهر..وليس إلا المختار القادر سبحانه .
إذا ثبت أن لا طبع ..فلا بد أن نكشف عن وجوه الاضافات ..ونعطي كل شيء حظه ..حتى لا يعطى ما ليس بفاعل منزلة الفاعل ..ولا تعطى الآلات حقَّ الأسباب .. و لا يُبخَس الفاعل حقه من الفعل ..فهذه مهاوي هام الكفرة الى هوّة الإلحاد ..ومزلّة أقدام المهملين لأصل الاعتقاد ..
فاعلم أن إضافة الفعل الى الشيء تكون من وجوه كثيرة :
أحدها : إضافة الفعل الى وقته..وهو ظرف زمانه..كقولك : نبتَ المرعى في الربيع..
وإضافته الى المكان : كقولك : أرض زكية مُنبتة..
وإضافته الى الآلة : كقولك : نحتَ الخشبةَ القدّومُ..فهذا المفعول به ..فالمحل منحوت..
والمحل المفعول شرط أيضا لايقاع النحت فيه ..وهو الرابع..
والخامس : السبب ، وفيه وقع الخلاف ..فلا فاعل للريّ ولا للشبع ،ولا إخراج الصفراء، و لا تبريد ولا تسخين، و إحداث طَعم ،وإنشاء لون، وإيجاد خاصة، إلا الله سبحانه .
فصل في اختلافهم في الطبائع :
منهم من جعلها موجبة للفعل ، كالاعتماد الذي في الحجر يوجب ذهابه الى جهة ، والفاعل غيرُها في الحقيقة .
ومنهم من جعلها فاعلة في الحقيقة ، وهم أهل الطبع .
ومنهم من جعلها مفعولا بها ..مثل : ما يفعل القطعُ بالسكين .
ومنهم من جعلها مفعولا عندها ، وهو مذهب أهل السنة ، وهو مذهبُنا.
وقد أشار الله سبحانه الى المذهب الأخيرفي كثير من الأفعال..واكتفى بذلك بياناً للعاقل ..وتنبيهاً له على باقيها ..فقال في حق عيسى: ( وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طائرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني )..وإذا أخرج عيسى أن يكون فاعلاً ..وجعل له الفعل سبحانه..فلا موجود إلا عن فعله وخلقه..لأنه لو اختص شيءٌ من خلقه بفعل يكون منه وعنه..لكان الأخص بذلك الأنبياء عليهم السلام الذين أيّدهم بما خصهم به من خرق العادات شهادةً لهم بالصدق..وقال سبحانه : (الله خالق كل شيء ) ..فلم يبق شيء من جسم ولا عرَض يضاف خلقُه الى أحد سواه..ولأنه أضاف الى الأشياء إضافات ..وأضاف الى نفسه مثلها ..فقال في العسل : (فيه شفاء للناس ) ..وقال : (وإذا مرضت فهو يشفين )..فالأحقّ أن يكون الشفاء حقيقةً مضافاً الى الخالق سبحانه ..والعسلُ يكون عنده الشفاءُ ..والماء يوجَد عند نزوله الإنباتُ ..والمُنبِتُ حقيقةً هو الله سبحانه ..فإنه سبحانه يقول : (فأحيينا به ) ..(ينبت لكم به الزرع والزيتون ) .. ( فأنبتنا به) ..يعني : أنبتنا لكم عنده ..وقد أضاف الله سبحانه الإضلال الى الأصنام والسامريّ..والضلالُ فيهم لا بهم .
ومن دلائل العقول..أن الطبائع عندهم هي الفاعل الأول..وليس فوقه عندهم من هو أعلى..وقد وجدنا هذه الطبائع مقهورة مكسورة ..حيث جُمِعَ المتنافرُ منها والمتضاد في الحيوان والنبات ..وكما أن أهل الطبع أثبتوا له الفعل .. فقد أثبتوا له المضادة والمنافاة ..فإذا اجتمع مع أضداده في هياكل الحيوان والنبات ..عُلِمَ أن المضادّة فيه لا من طريق الطبع ..وإنما هو بوضعِ واضعٍ..تارة يفرّق بينها بالانحلال..وتارة يجمع بينها إذا أراد الاجتماع..والله أعلم.


- فصل : في القرآن مجازات واستعارات :


وبه قال أكثر الفقهاء والأصوليين .
في أدلتنا :
قد جمع القرآن أقسام المجاز :
فمنها : الزيادة التي إذا حُذفت استقل الكلام ، كقوله تعالى : ( ليس كمثله شيء ) ، فإذا حذفت الكاف استقل المعنى ، وهو أنه يبقى : ليس مثله شيء ، وإذا كانت بحالها ، اقتضى أن يكون له مثل ، وليس لمثله شبه ولا مثل ، ولا بد من حذفه لحصول المعنى المقصود بالنفي .
ومنها : النقصان ، مثل قوله : ( وأشربوا في قلوبهم العجل ) ، وإنما هو حُب العجل ، فحُذف الحب وذكر العجل ، وذات العجل لم تُشرب في قلوبهم ، ولا يُتصور ذلك .
وكذلك قوله في عيسى : (قول الحق ) ، (وكلمتُه ) ، والمراد به : الكائن بكلمة الله ..
ومن أدلتنا :
قوله تعالى : (بلسان عربي مبين ) ، وإذا ثبت أنه عربي ، فإن لغة العرب مشتملة على الاستعارة والمجاز ، وهي بعض طرق البيان والفصاحة ..
وأما الدلالة على جوازه عقلا :
أنه ليس في ذلك ما يحيل معنى ، ولا يوجب مناقضة ، ولا اختلافا ، ولا يُخل بمقصود ، فلا وجه للمنع منه عقلا .
وأما الدلالة على من منع المجاز من أصحابنا :
أن مذهبهم قِدم الكلام ، والباري قد أخبر بإرسال الأنبياء ، وأنهم قالوا ، وفعلوا ، ونودوا ، وأوذوا، وقيل لهم ، وهذا كله لم يك بعد ، ولا وُجد ، فلا تفصِّي لهم عن المجاز ، وأضاف إلى ذاته بظاهر اللفظ : الحب والغضب ، والإتيان والمجيء ، وهم بين مذهبين :
إما تأويل يصرف عن الحقيقة ، بمعنى : سيقول ، كما قال : ( ونادى أصحاب النار ) ، بمعنى : سينادي ، وجاءت ملائكة الله ، وأمر الله ، وعقاب الله ، وهذا صورة المجاز .
أو يكون غير معلوم لا يعلمه إلا الله ، فلا يمكن أن تكون حقيقةٌ موضوعةٌ لا تكون معلومة ، فلم يبق إلا المجاز ، ومتى كان حقيقة ، كان الخطابُ والمخاطبون قديميْن ، وذلك محال .


-فصل : ليس في القرآن غيرُ العربية :
وبه قال جمهور الفقهاء والعلماء والمتكلمين ، خلافا لابن عباس وعكرمة أن فيه غير العربية كمشكاة ، وقسطاس ، وسجيل ، وإستبرق .
في أدلتنا :
فمنها : قوله تعالى : ( قرآنا عربيا غير ذي عوج ) ، (بلسان عربي)، ( ولو جعلناه أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته آاعجمي وعربي ) ، وهذه صفة لجميع الكتاب العزيز ، ونفي للقول بأن فيه أعجميا وعربيا، وهذا القول يتطرق عليه إذا كان بعضه غيرَ عربي .
ولأنه تحداهم به سبحانه ، والقوم لا يقدرون على الأعجمي ، فلا يتحداهم بما لا قدرة لهم عليه ولا هو من صناعتهم ، وإنما يتحداهم باللسان الذي يقدرون عليه ، ثم يعجزون عن نظمه وأسلوبه ، ألا ترى أنه سبحانه لم يتحداهم بالطب ، كما تحدى قوم عيسى ، ولا بما يتوهمونه سحرا ، كما تحدى قوم موسى ، فكل قوم تحداهم بما كان من صناعتهم ، وأبان عن عجزهم عنه ، استدلالا على تأييد نبيهم بما يخرق عاداتهم ، ولهذا لم تُتحدّ العبرانية والسريانية بالكلام العربي .
في شبههم :
فمنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الى الخلق كافة ، فجمع في كتابه سائر اللغات ..
ومنها : أنه قد وجدنا في القرآن ما ليس بالعربية كمشكاة وهي كلمة هندية ، وسجيل وإستبرق وهما كلمتان بالفارسية ، وطه وهي بالنبطية.
في الأجوبة :
فأما أنه بعث الى الخلق كافة ، فليس يعطي هذا أنه قد أعطى الكافة حقهم من الخطاب ، لأن البلاغ إذا قُصد به تعميم الكل ، وجب أن يستوعب كل أمة بجميع ما شرع لهم ، كما أن العرب استوعبت بخطابهم بالأوامر كلها والنواهي والوعد والوعيد ، ..فأما أن يُبعث الرسول إلى الهند فيقول لهم : (مشكاة ) ، فمحال في الأوامر والنواهي ..ويبعث الى الفرس ، فلا يخاطبهم بما يخصهم به ، إلا أن يقول لهم : (سجيل) و( إستبرق ) ، ويبعث الى النبط فيقول لهم : (طه ) ، هذا من أهجن المقالات .
والمحققون من أهل اللغة قالوا : إنها هذه كلمات تواطأت ، فسارت ، فكانت في العربية كهي في غيرها من اللغات ، مثل تنورٌ ، بكل لغة تنور ، وتواطأ لسان والعرب في ( سجيل ) و (إستبرق ) ، والنبط والعرب في ( طه ) ..




- فصل : في تفسير القرآن بالرأي والاجتهاد :
لا يجوز عند أصحابنا ، بل لا يجوز إلا نقلا ، لقوله تعالى : ( لتبيّن للناس ما نزِّل إليهم ) ، فردّ البيان إليه صلى الله عليه وسلم ، فلا يجوز أن يُسمع من غيره .
فصل :
فأما نقل التفسير فقربة وطاعة ، وقد فسر أحمد وأوَّل كثيرا من الآي على مقتضى اللغة ، من ذلك : ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ) ، فقال : بعلمِه ..
والدلالة على جواز ذلك والتقرب به :
قوله تعالى : ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته ) .
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لابن عباس ، فقال : ( اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ) ، ولو لم يكن فضيلة ، لما دعا له بها ، وقرنَه إلى الفقه في الدين .
ولأن القرآن نزل بلغتهم ، فوجب تفسير ما أُغلق منه على غيرهم بشواهد لغتهم من نثرهم وأشعارهم وخطبهم .





- فصل : المُحكم و المُتشابه :
المُحكم : ما استقل بنفسه..وكان أصلا لا يحتاج الى بيان بغيره .. ولذا اتفقت الأمة على معناه و حكمه ..لاتفاقهم في علمه لمّا كان ظهور حكمه من لفظه ..
و المُتشابه : ما لم يستقل بنفسه ..واحتاج الى البيان بغيره ..ووقع الخلاف فيه..لاشتباه المعنى فيه ..وغموض المقصود به ..
وذلك في الأصول و الفروع :
ففي الأصول : المحكم : قوله : ( ليس كمثله شيء ) : يعطي بنصه و صريحه نفي التشبيه عنه سبحانه ..(قل هو الله أحد) : يعطي نفي التثنية و الشركة بنصه و صريحه ..
والمتشابه من هذا القبيل قوله : ( ونفختُ فيه من روحي )..(فنفخنا فيها من روحنا)..(لما خلقت بيدي )..( ولتصنع على عيني ) .. ( والسماوات مطويات بيمينه ) ..(ثم استوى على العرش )..(ذلك عيسى ابن مريم قولَ الحق )..(رسولُ الله وكلمتُه ) ..فهذا يوهم الأعضاء و التشبيه بظاهره ..
واختلف فيه الناس الخلاف المعلوم ..فقوم سكتوا عن تفسيره .. وقوم أقدموا على تأويله ..وقوم قالوا بحمله على ظاهره ، ولا ظاهر منه إلا ما وُضع له في اللغة .. و ما وُضع له في اللغة معلوم ..وقوم صرَّحوا بالتشبيه ..
فأما المحكم من هذا القبيل ..فقوله تعالى : ( ليس كمثله شيء ) ..(فلمّا أفل قال لا أحب الآفلين ) ..(إنّ مثل عيسى عند الله ممثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ).
فقوله: ( ليس كمثله شيء ) ..أزال الإشتباه من قوله (عيني)..و (يديَّ)..وأنها ليست جوارحاً ولا أبعاضاً .
وقوله : (لا أحب الآفلين ) ..أزال الإشتباه من قوله : (وجاء ربك )..(يوم يأتي)..(أو يأتي ربك )..وأنه كالانتقال المشاكل لأفول النجوم ..
وأما المحكم من الآي في الفروع : فما عُلم حكمُه من نطقِه ..ولم يُرفع بنسخه ..مثل قوله (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة )..
والمتشابه : ما احتاج الى البيان من غيره ..مثل قوله : (وآتوا حقه يوم حصاده )..فلا يُعلم الحق الواجب إيتاؤه إلا من غيره ..
فالمحكم في الأصول : يجب اعتقاده ..وهو نفي التثنية والتشبيه ..والمحكم في الفروع : جب اعتقاده و العمل به ..لمكان وضوحه ..والاتفاق على حكمه ..فلا وجه لتأخير اعتقاده و العمل به ..إذ لا عائق ولا مانع ..
وحكم المتشابه في الفروع : وهو المُتردِّد : أن يُردّ الى المحكم المتفق عليه ..فنحملُ اليد و الروح والاستواء والوجه والسمع والبصر ..على ما ينحَفظ بن المحكم المتفق عليه ..ولا ينحفظ قوله : ( ليس كمثله شيء ) إلا بقدر أن يُنفى عن هذه الأسماء ما تحتها من الأعضاء و الجوارح ..وما يُشكل في النفس عند إطلاق اللفظ من صفات الآدميين ..لذا لم يُتخلَّص من اطراح المحكم إلا بهذا لنفي ..بقي الإثبات ..فانقسم الناس فيه :
فمن قائل : أُثبتُ تحت هذه الأسماء شيئا ..لكن لا أعيّنه ..وأقول : الله أعلم به ..وهو مذهب أكثر السلف من الصحابة والتابعين رحمة الله عليهم ..ولا يصح هذا القول إلا ممن يقول : ليس اللفظ ظاهراً ..لأن المشتبه و الظاهر اسمان ضدان ..لأن الظاهر ما ترجّح الى أحد محتَمَليْه ..وما يقدر أحد يقولُ عن السلف الصالح : إنهم ذلك بما يظهر في اللغة من معاني هذه الأسماء ..و المتشابه : ما اشتبه أمرُه ..ولهذا قال سبحانه في المتشابه : ( وما يعلم تأويله إلا الله ) ..فمن قال : له ظاهر عندنا فقد كذّب نص القرأن ..ونقضَ أصلَه بأصلِه ..فإنّ أصل هذه الطائفة : أنّ الوقف في هذه الآية على قوله : ( وما يعلم تأويله إلا الله) ..وأنّ العلماء لا يعلمون ..لكنْ يقولون ..فإذا عاد بعد هذا الأصل المحفوظ عنه وعليه يقولُ : أحملُ هذه الآيات و الأسماء و الإضافات على ظاهرها ..قلنا له : وأيّ ظهور ؟ ..وماذا ظهر لك مع تسمية الله لها متشابهات ..ومع إفراد نفسه بعلمها ..وما أفرد نفسَه بعلمه كيف تقولُ : له ظاهر عندي أحمله عليه ! ؟ ..فهذا أصل يجب أن يعتَمد على اعتقاده ..فليس غيرُه ما يُعتمَد عليه ..ولا يُلتَفَت إليه ..سيّما في هذا المذهب المنزَّه عن الابتداع ..فإذا ثبت بطلان قول من يدّعي في المتشابه ظاهراً بنفس قوله : إنه لا يعلم تأويلَه أحد من العلماء ..لم يبق إلا أن يكون أحدَ رجلين :
إمّا أن يقول : لا أدري ..ولا أعلم ..والله هو المستأثر بعلم هذه الأسماء المضافة إليه ..فهذا رجل أخبر بالتقصير عن علم ما استأثرالله بعلمه .
أو يقدِم على التأويل بحسب ما تقتضيه اللغة مما ينحرس به محكم الكتاب ..وهي آيات نفي التشبيه ..وإجماع الأمة عليه ..وشهادة دلائل العقول التي أُثبِتَ بها الصانع إثباتا دلّ على أنه متى أشبه خلقَه ..دخل عليه ما يدخل عليهم ..فأحوجنا ذلك الى صانع يصنعه ..كما أحوجنا ذلك في مخلوقاته إليه ..لأنّ المثل ما سدّ مسدّ مثلِه ..وجاز عليه ما يجوز عليه ..
ولا قسم ثالث سوى التصريح بالتشبيه ..ومن صرّح به ..زعقتْ به أدلة الشرع و العقل ..فأخرسته عن مقالته ..فافهم ذلك ..فهو أهم ما صُرفتْ العناية إليه ..فإنه الأصل الذي يُبتَنى ..عليه أصول الفقه .
فصل : الدلالة على ما ذكرناه :
أنّ الله سبحانه قال : (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أمّ الكتاب )..وأمّ الشيء : أصله ..وإنما سُمي المحكم أصلا لأنه -كما تقدّم -يُرَدّ اليه المتشابه ..كما يردّ الفرع الى أصله ..كالولد الى أبيه .. والثمر الى الشجرة ..وكل شيء صدرَ عن أصل حتى المخلوق الى خالقه ..فكذلك الآيات المحكَمة متفق على حكمها ..يُردّ المتردّد المختلَف فيه لأجل تردّده إليها ..وهذا صورة ما قدّمنا مثاله :
فإذا قال : (ليس كمثله شيء)..ثم قال : (وهو السميع البصير )..فاشتبَهَ على السامع شأن السمع و البصر ..هل هو بجارحة..أو هو بمعنى العلم بما يسمعه السامع منّا ..والعلم بما يبصره الواحد منا ..أو هو إدراك بغير جارحة ليس بالعلم ..لكنه زائد على العلم ..أو هو كون الذات سميعة بنفسها..لا بمعنى هو علم ولا سمع ولا بصر ..فإذا حصل الاشتباه في ذلك ..ثم صدر عنه ما حصل من الاختلاف بين أهل العلم ..وجبَ على العالم الراسخ في العلم ..أن يردَّ هذا الى أول الآية وهو نفي التشبيه بقوله سبحانه : (ليس كمثله شيء)..فينفي من هذه الامور المشتبهة ما يخرج عن أول الآية - وهو الإحكام - ..فإذا نفى التشبيه ..قال : إنه سميع ..لا بمثل ما نسمع مِن جارحة وجهة من ذواتنا وحاسة ..إذ لو حٌمِل على ذلك لانتفى قوله (ليس كمثله شيء).. وذلك نفي صريح لا يتردّد ..فكيف نزيله بما يتردّد ؟ ..فحملنا المتشابه على المحكم ..فانتفى التشبيه ..وبقي الأمر متردداً بعد نفي التشبيه بين مذهبين لا بأس بهما عند المحققين من العلماء :
أحدهما : القول بأنه سميع بصير ..والامساك عما به يسمع ويبصر ..لا تشبيه ولا تأويل ..
والثاني : التأويل على أنه يدرك المسموعات والمبصَرات ..ولا نزيد على ذلك ..
وأما التأويل الذي لُقِّب صاحبُه بالزيغ ..فإنه الحمل له على ما يوجب الاختلاف والتناقض ..أو تأويلُ ما يعود على المحكم بالنفي ..من نوع تشبيه يعود بنقض أول الآية ..فهذا صاحبه زائغ ..وقوله : (وما يعلم تأويله إلا الله ) ..يعني -والله أعلم - :لا يعلم كنه هذه الاضافات إلا منْ وصفَ نفسه بها تارة ..وأضافها اليه تارة اخرى ..كما قال سبحانه : (هل ينظرون إلا تأويله )..ينتظرون معنى ما سمعوا من البعث و الحساب و المجازاة ..(يوم يأتي تأويله )..ينكشف وعد الله ووعيده ..بالمعنى الذي أخبرت به الانبياء صلوات الله عليهم ..(يقول الذين نسوه)..يعني تروه من قبل ..(لقد جاءت رسل ربنا بالحق)..فالتأويل المضاف الى الله سبحانه :المعاني التي تحت الألفاظ ..ولا يعلم ذلك إلا الله .
(والراسخون في العلم )..الثابتون على صحة المعتقد ..(يقولون آمنا)..صدّقنا..(به .كلٌّ من عند ربنا)..يعنون :المحكم الذي نفى التشبيه ..وهذا المتشابه الذي يوهم التشبيه ..هما ميعا من عند الله ..فنحن نؤمن بأنه ليس بحيث يتناقض كلامه ..ولا يكون المتردد قاضيا على النص الغير متردد ..بل هذا من مثل ذاك ..والله سبحانه لا تناقض في كلامه ..ولا تفاوت في خلقه ..فلم يبق إلا أنّ لهذا المتشابه معنى هو العالم به ..المستأثر بعلمه ..فحَدُّنا إذا لم نصل إليه أن نستطرح للتسليم والتصديق ..وكذلك يجب في كل مشتبه من أفعاله يعطي ما لا يليق به ..أنْ يُحمَل على ما يليق به من إحكام فِعله الذي لا تفاوت فيه .
وكذلك في الفروع : إذا جاءت آية مجمع على حكمها ..وآية مختلف فيها ..سُقنا المختلَف فيه الى المتفق عليه ..
فصل:
و(اعلم أنّ ) الناسخ ..والمنسوخ ..والحروف المقطَّعة ..لا يفضي الخلاف فيها و التأويل لها .. -وإن أخطأ المتأوِّل - ..الى تسمية خطئه زيغا في قلبه ..ولا فسادا في عقله ..وما يدخل تحته ما يجوز على الله وما لايجوز ..وما يجب له من الوصف ..يدخله الزيغ والانحراف بالخطأ .. ويحسن فيه التسليم والايمان عند الإحجام عن التأويل خوف مساكنة التعطيل أو التشبيه ..وكذلك المجمع على معناه مع المختلف فيه ..فإنه متى زال الاجتهاد عن موافقة الإجماع ..كان زيغا و ضلالا.




- فصل:أخبار الآحاد إذا جاءت بما ظاهره التشبيه


أخبار الآحاد إذا جاءت بما ظاهره التشبيه ..يجب قبولها حيث تلقّاها أصحاب الحديث بالقبول ..ويجب تأويلها لنقضها على ما يدفعها عن ظاهرها ..وإن كان من بعيد اللغة و نادرها ..وهذا هو اعتقادنا ..
والدلالة على وجوب قبولها : أنّ رواة هذه الأخبار ..والمتلقّن لها بالقبول ..هم العدول الذين رضينا بهم في إشغال الذمم الخالية من الحقوق و الأموال و الديون ..وأرقنا بهم الدماء المحقونة ..وأبحنا بهم الفروج المعصومة ..فلا وجه لرد أخبارهم مع إمكان تأويل ما جاؤوا به..وعدمِ استحاله التي توجب كذبَهم..لاسيما وقد عضد ذلك ما جاء في كتاب الله عز وجل مما يوجب ظاهرُه التشبيه ..كذكر اليدين ، والوجه ، والمجيء ، والإتيان ، والإقراض ، مع وصفه نفسَه بأنّ له كل شيء ، فقال : (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه ) ..وإضافة الاستهزاء والمكر والأذية إليه ، بقوله تعالى : ( يؤذون الله ورسوله )..وظواهر هذه الألفاظ كلها مستحيلةٌ على الله سبحانه..فحُمِلت بالتأويل على أذية رسوله..والاقتراضِ من الأغنياء من خلقه للفقراء ..فعبّر عن الفقراء بنفسه ..وعلى هذا كل ما جاءت به الأخبار ،مستبعداً من الشرائع وكتبها و رموزِها ومقدَّراتها و محذوفها و زائدها ..وسرُّ ذلك : أنه قصد امتحان العلماء ..ليجهدوا أنفسَهم باستخراج التأويل الصارف لها عن الظواهر التي تقتضي التشبيه بالنصوص التي في كتبه ..وبأدلة العقول التي منحهم ..
ولمعنى آخر و أدقّ ..وهو أن الله سبحانه علمَ أن أكثر الناس عبدوا المحسوسات ..وأنِسوا بها ..لمكان المجانسة في الحدث و الحسن ..فقوم عبدوا النجوم استحسانا لها ..ونظراً إليها بعين البقاء و الدوام ..ثم التأثيرات على ما توهّموه من الأحكام..وأضافوا الى كل نجم أمرا من الأمور من المنافع و المضار و الشرور و اتفاق الأمور ..وجعلوا جميع ما يحدث في العالم السفلي إنما بتأثير عنها ..وقوم عبدوا النور و الظلمة ..وأضافوا الخير الى النور ..والى الظلمة المضار والشرور ..وقوم عبدوا الملائكة ..وقوم عبدوا الأشخاص كعيسى و عُزَير ..وقوم عبدوا بعض البهائم كالبقر ..وقوم عبدوا الديكة ..وقوم عبدوا الحجارة المشكَّلة ..وكل من استحسن شيئا عبده..أو كلِفَ بشيء عظَّمه ..فأنست نفوس العالم الى المحسوس المقطوع بوجوده من طريق المشاهدة ..
فلو جاءت الشرائع بالتنزيه المحض ..لجاءت بما يطابقُ الجحدَ والنفي .. فلو قالوا : صِفْ لنا ربنا ؟ ..فقال : لا جسم ، ولا عرَض ، ولا حامل ، ولا محمول ، ولا طويل ، ولا عريض ، و لا بشاغل لمكان ولا لجهة من الجهات الست ، ولا متلوِّن ، ولا ساكن ، ولا متحرك ، ولا راض ، ولا غضبان ، ولا يحب ، ولا يبغض ، ولا يريد ، ولا يكره .. و لا يتخيَّل في النفوس ، ولا له صورة في القلوب من داخل ، ولا يدركه الإحساس من خارج ..لقالوا له : فهات حُدَّ لنا النفي ..بأن تميِّز ما تدعونا الى عبادته على النفي ..وإلا علمنا أنك دعوتنا إلى عبادة عدم ..وعيّرتنا بعبادة أشياء موجودة ..تأثيراتُها محسوسة ..فهذه الشمس تنضج الثمار، و تجفّف الحبوب ، وتعدل الأمزجة ..وهذه النجوم تؤثر الاهتداء و الاستضاءة ..وهذه الرياح تؤبِّر اللقاح ..وأنت قد أتيتنا بمحض النفي و العدم ..تدعونا الى تعظيمه ..فلما علم ذلك سبحانه بالعلم الإلهي ..والخالق أعلم بما خلق ..جاءهم بأسماء يعقلونها ..وصفات تعطي بلوغ الأغراض ..كل صفة تؤثر معنى من منافعهم ..فسميعٌ يعطي سماع أدعيتهم ..وبصيرٌ يعطي النظر الى ما يعرض لهم ..و رحيمٌ للتحنّن عليهم ..وغضبان يوجب الانتقام من المسيء المخالف لما وضعه من الشرائع لمصالحهم ..والى أمثال ذلك .




- فصل :


اعلم أنه لا يجب نصرة أصول الفقه على مذهب فقيه ، بل الواجب النظر في الأدلة ، فما أداه الدليل إليه كان مذهبه بحسبه ، وبناء على ذلك الأصل. ونعوذ بالله من اعتقاد مذهب ، ثم طلب تصحيح أصله ، أو طلب دليله . وما ذاك إلا بمثابة من مضى في طريق مظلم بغير ضياء ، ثم طلب لذلك الطريق ضياء ينظر أان فيه بئر أو سبع أو ما شاكل ذلك ، أو كان سليما .والذي يجبُ ، أن كون الدليلُ هو المرشد إلى المذهب .




- فصل : في شرح ما يُعلم بالعقل دون السمع ، وما لا يُعلم إلا بالسمع دون العقل ، وما يصح أن يُعلم بهما جميعا :


اعلم أن جميع أحكام الدين المعلومة لا تنفكّ من ثلاثة أقسام :
قسم منها :لا يصح أن يُعلم إلا بالعقل ، دون السمع .
القسم الثاني : لا يصح أن يُعلم بالعقل ، بل لا يُعلم إلا من جهة السمع .
القسم الثالث : يصح أن يُعلم عقلا وسمعا .
فأما ما لا يصح أن يُعلم إلا بالعقل ، دون السمع ، نحو حدوث العالَم ، وإثبات مُحدثِه سبحانه ، وإثبات وحدانيته سبحانه ، وإثبات صفاته الواجبة له ، وإثبات الرسالة وتجويزها عليه سبحانه ، وكل ما يتعلق على هذه الجملة مما لا يصح أن يُعلم التوحيد والنبوة إلا به .
والدلالة على ذلك أن السمع إنما هو عبارة عن كلام الله ، وما هو مرويّ عمّن يُعلم أنه رسولُه المخبرُ عنه ، وإجماع من أخبر رسوله أنه لا يُخطئ في قوله ، ولن يصح أن نعرف أنّ القول قول الله ورسوله وخبره ممن لا يخطئ إلا بعد أن نعرف الله ، لأن تلك الجمل كلّها فرع لإثبات الله سبحانه ، ومحال أن يَعلم وصف الله أو رسول الله من لا يعرف الله ، كما أن من المحال أن يعرف كلام زيد ورسول زيد من لا يعرف زيداً ، فوجب أن يكون العلم بالله وبرسوله من المعلوم عقلا لا سمعاً ...
وأما ما يُعلم بالسمع من حيث لا مساغ للعقل فيه ، فنحو العلم بكون التكليف حسنا وقبيحا ، أو حلالا وحراما ، وطاعة وعصيانا ، وقربة ، واجبا وندبا ، وعقدا ماضيا نافذا ، أو تمليكا صحيحا ، وكونه أداءً وقضاءً ، ومجزئا وغير مجزئ ، وتحريم كل مُحرم من فِعله على مراتبه ..
فأما ما يصح أن يُعلم بالعقل تارة وبالسمع تارة ، فهو كل حُكم - وقضية-عقلي ، لا يُخِل الجهل بهما بالعلم بالتوحيد والنبوة ، نحو العلم بجواز رؤية الله سبحانه بالأبصار ، وجواز الغفران للمذنبين غير الكفار، والعلم بصحة التعبّد بالعمل بخبر الواحد ، والقياس في الأحكام ، ومثال ذلك مما إذا جهله المكلف صح مع جهله به أن يعرف الله عز وجل ونبوة رُسُله عليهم السلام ..





- فصل :



الإكراه على ما غاب وبطن من القلوب ، فلا ، فعلى هذا لا يصح أن يُكره الإنسان على اعتقاد مذهب ، أو علم بمعلوم لم يعلمه ، أو بظن مما لم يتحصل له طريقُه ، أو عزم على ما لا يعرف ، أو الجهل ، قال سبحانه : ( إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا )(النحل :١٠٦) ، يعني من اعتقد الكفر ، وإنما لم يعف عن أعمال القلوب هاهنا ، لأن الإكراه لم يتسلط عليها ، ..فالإنسان لا يجهل ما علِمه ، ولا يعلم ما يجهله بالرشوة والاستمالة ، لكن يتَّبع في القول ، ويقلّد بالنطق من يستميله ، والقلب بحاله لا يغيره إلا المعاني التي يصل عملها إليه ، كالأدلة و البراهين أو الشُّبه وما شاكل ذلك .
وعندي أن كل فعل من أفعال القلوب صحّ دخوله تحت التكليف ، صحّ الإكراه عليه ، كالعلوم الاستدلالية يصح التكليف لتحصّلها بطريقها ، وهو النظر والعزم والندم ، هذا كلّه داخل تحت التكليف ، فيصحّ الإكراه على تحصيله بطريقه .




- في الظلم :

الظلم هو الانتقاص . ومن قال إنه وضع الشيء في غير موضعه فما خرج عن هذا الانتقاص . وقد غلب استعمال الناس الظلم في انتقاص حقوق الآدميين ، وانتقاص الحق الذي يجب به الذم شرعا . ولو كان الظلم ما كان انتقاصا من حق أدي ، لما كان الكفر ظلما . وقد قال سبحانه : ( إن الشرك لظلم عظيم ) ، لأنه انتقاص أكبر الحقوق ، وهو شكر المنعم الأول ، ومن نعمه يكون إنعام من بعده في الإنعام ، كحنين الوالد ، وإكرام الصديق . فإنه الممد بتحنين القلوب وتليينها .




- في قول النبي صلى الله عليه وسلم الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور متشابهات لا يعلمها إلا قليل ) ( استفت نفسك ، وإن أفتاك المفتون ، البر ما اطمأنت إليه نفسك ، والإثم ما حاك في صدرك )
لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم بالمتابهات ، ولا بما حاك في الصدر ، ما لا دليل عليه ، لكنه أراد ما كان في دليله غموض . والدلاة على ذلك قوله ( لا يعلمها إلا قليل ) ، ولو كان ما لا دليل عليه ، لما أضافه إلى القليل من العلماء ، وهم الذين زال الاشتباه عنهم لانكشاف الأدلة عنهم .





- فصل : في الفرق بين النسخ و البداء :


النسخ : هو رفع ما ثبت حكمُه بعد استقراره ، دون رفع مثلِ ما ثبت ، ودون بيان مدة انقطاع العبادة ، بما يغني عن الاعادة ، وذلك جائز في حكمته سبحانه ، وصواب في حكمته .فأما البداء ، فمعناه وحقيقته : أنه استدراك علم ما كان خافيا مستورا عمن بدا له العلم به بعد خفاء ..وإذا كان كذلك ، وكانت دلائل العقول والسمع قد قامت ودلت على أن الله سبحانه عالمٌ بما كان ، وما يكون ، وما لا يكون أنْ لو كان كيف كان يكون ، وبعواقب الأمور، ومن كان كذا ، ثبت أن البداء الذي شرحناه غير جائز عليه سبحانه.



- فصل ;


كل حجة فلا تخلو إذا وردت على النفس من أن تظهر أنها حجة ، أو لا تظهر ، فإن كان لا تظهر ، لم تخل الآفة في ذلك من ثلاثة أوجه :
إما لأنها مغيَّرة عن الحد الذي ينبغي أن تكون عليه .
وإما لاعتراض شبهة تدعو إلى فسادها .
وإما لأنها لم تُتأمل حقيقة التأمل كما يجب فيها .
فعلى هذه الأوجه الثلاثة مدار الآفة في الحجة التي توهم أنها شبهة .



- فصل :
الأمر من جهة الله سبحانه لا يقف على مصلحة المأمور . ويجوز أن يأمره بما يعلم أنه لا يعود بصلاح حاله .
في أدلتنا : فمنها أنه لو تخصص أمره بالأصلح ، لما أمر إبليس وفرعون ومن كانت حاله حالهما في التخلف عن الطاعة ، واعتماد المخالفة ، والتخليد في العذاب عند المؤاخذة والمجازاة . وقد أبان لنا عن الأصلح في بعض ما قصد فيه الأصلح . فأبان عن قتل الغلام في حق الخضر ، لما أنكره وأكبره موسى هليه السلام ، بأنه كان في المعلوم أنه لو بلغ ، لكفر وكفّر أبويه ، أمر بالأصلح لهم ، وهو قتله صغيرا . فما كان من هذا ، فقد كشف عن مراده سبحانه منه ، وهو الأصلح .
فأما إبليس ، حيث طلب الإنظار ، وخطب طول الأعمار ، أجابه سبحانه : ( إنك من المنظرين ) ، فلو كان أمره لإصلاحه ، وصلاح عاقبته ، لما أجابه إلى الإبقاء . وقد كشفت العاقبة أن إنظاره ، الذي أجابه الحق إليه ، وبال عليه وعلى من اتبعه . فلو كان الله سبحانه أراد حفظه عن الفساد ، وأراد به الصلاح ، وبغيره ممن علم أنه يغويه ، لفعل في حقه ما فعله في حق طفل الخضر . فعُلم أنه مطلق الأمر و المشيئة ، يفعل الأصلح لمن شاء ، وفي حق من شاء ، ويأمر من لا يريد صلاحه بما شاء .
فهذا طريق مَهْيَع ، قد ملأ كتابه الكريم بأمثاله ...( ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم ) ..( إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ) ..
فعُلم أن الله سبحانه يفعل الأصلح ، ويتعمده في حق من شاء . فأما أن يشترط الأصلح في أمره ، ويقف أمره عليه ، فمتى ذهب إليه ذاهب ، منعته هذه الآي ، وما شهدت به أحوال بعض المكلفين المأمورين ، من كون الأوامر والنواهي والتكاليف عادت بوبالهم في فساد عاقبتهم وفساد الأمة بهم .




- اعلمْ أنّ الخطاب من الله سبحانه لمن خاطبه من خلقه من ثلاثة طرُق :
سماع منه سبحانه بلا واسطة ..كخطابه موسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم .
وخطاب بواسطة الملَك ..كخطابه لجماعة من الأنبياء صلوات الله عليهم ..
وكل ذلك حروف وأصوات تنتظم عنى الخطاب ..الذي هو استدعاء لفعل أو ترك أو إخبار عن ماض أو مستقبل ..ملقى من لدن الله جلّت عظمته ..أو من الملَك على ما نطق به الكتاب العزيز ..
والثالث : ألقيَ الى قلوب الرسل ..إما إلهاما في اليقظة ..وإما مناما ..
والثلاثة اجتمعت لنبينا ..قال ه كفاحا و سماعا منه بلا واسطة (أمن الرسرل بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون)..كما في الحديث..
وقال له بواسطة جبريل : (اقرأ باسم ربك الذي خلق )..
وقال مما ألقاه في روعه ..(نزل به الروح الامين على قلبك لتكون من المنذرين)
فصل : طرق الخطاب من الرسول
فأما طرق الخطاب من الرسول صلى الله عليه وسلم لنا ، فبالنطق والإشارة المفهومة للحاضرين ، وبالكتابة للغائبين .. والإقرار الذي جعلته الدلالة ، كالقول والإذن في القول والفعل الذيْن يُقرّ عليهما . وقد جمع الله سبحانه فوائد الخطاب في قوله تعالى : ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبيّن لهم ) . ففائدة منثور الخطاب ومجموعه بيان ما كلّفهم .
فصل :
وأول متلقى به الخطاب الإصغاء ، ثم الفهم ، ثم الاعتقاد ، ثم العزم ، ثم الفعل ، أو الترك والانتهاء ، إن كان الخطاب أمرا أو نهيا ، والتصديق إن كان خبرا ، والرجاء الزائد على التصديق بالوعد ، ووالخوف الزائد على التصديق للوعيد . قال الله سبحانه : ( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين ) . فالحضور للسماع ، والإنصات للفهم ، والإنذار تبليغا لمبدأ الأمر : ( يا أيها المدثر . قم فأنذر ). والائتمار واجب ، ولا يتوصل إليه إلا بالاصغاء ، والفهم بعد السمع ، وما لا يتوصل إلى الواجب إلا به ، فهو واجب .



- فصل : في ذكر من تجب طاعته
اعلم أن الذي تجب طاعته هو الله سبحانه ، ومن أوجب طاعته ، من رسله صلوات الله عليهم ، والأئمة ، وخلفاء الأئمة ، والوالدين ، وسادة العبيد الذين ملّكهم رقّهم وأوجب عليهم بحكم الشرع طاعتهم . فأما ما عدا ذلك ، من مسلط بنفسه ، ومستعل بوضعه الاستعلاء ، لا بحكم الشرع ، فليس بواجب الطاعة ، وإن حسنت متابعته لاستعلائه والانقياد له ، فذلك مصانعة له حراسة للنفس ، بحكم الشرع أيضا ..
وهذا الفصل يبتنى على أن الحسن ما حسنه الشرع ، والقبيح ما قبحه الشرع ، خلافا للقدرية .-
فصل : في الدلائل على ذلك
وهو أن المخلوقين في الخلق والجنس والبنية الحيوانية ، المحتاجة إلى القوام من الأغذية سواء ، وكذلك في تسلط المضار عليهم . ولا فضل لبعضهم على بعض يقتضي طاعة بعضهم أمر بعض . وإنما رتبهم الشرع مراتب ، فجعل منهم أنبياء ، ورسلا، وأئمة ، وخلفاء ، ووالدين ، ومالكين . وفضل هؤلاء على من دونهم من المرسل إليهم ، كالرعايا ، والأولاد ، والعبيد . وجعل لهم تعلق الرتبة الشرعية الأمر الواجب والطاعة اللازمة في مقابلته . ولولا ذلك لم يك لأحد على أحد طاعة ، لأن ما عدا هذه الرتَب ، التي عظّمها الله سبحانه ، وجعلها سببا لإيجاب الطاعة ، إنما هي أوضاع لا لِحقّ ولا فضل علمناه سببا للإيجاب .


- فصل :
يجوز أن يأمر الله سبحانه بما يعلم إِنْ أمَرَه به لا يفعله . نص عليه أحمد في نهي الله سبحانه لآدم عن أكل الشجرة ، مع علمه بأنه سيأكل ، وفي أمره لإبليس بالسجود ، مع علمه أنه لا يسجد ، وهذا أمر نطق به الكتاب .
والدلالة على صحة قولنا ، أن الله سبحانه قد أمر الكفار بالإيمان . ولم يختلف في تكليفهم الإيمان إثنان .. والقول المخالف للإجماع لا يُلتَفت إليه . وقد أخبر الله سبحانه أنه أمر إبليس بالسجود لآدم .. ولم يقع منه السجود . وقد أجمع المسلمون على أنه عالم بامتناعه قبل وقوع الامتناع منه
فصل في شبههم :
وهو أن الأمر لمن يُعلم أنه لا يطيع عبثٌ ، والله سبحانه منزم عن العبث في قوله وفعله . ولأن التكليف والامر والنهي إنما يكون للمصالح والمنافع ، وهو التعريض للثواب واجتناب ما يوجب العقاب . فأما إذا صُرف بحق من لا يتحقق في حقه ذلك ، خرج عن حيز الأمر المشروع والقانون الموضوع على مقتضى الحكمة .
فصل في الجواب :
وهو أن هذا الكلام يردّه النص . ولا عبرة بما استدلوا به مع كون الإجماع انعقد على خلافه ، ونص الكتاب قضى بإبطاله . على أنه فاسد في نفسه ، لو ورد مع عدم الإجماع والنص . وهو أن والله سبحانه قد خلق مَن في معلومه أنه لا ينتفع بخلقه ولا يطيعه في أمره ليستحق الثواب ، فهو لا يسعى إلا فيما يوجب عليه العقاب . ولم يك في خلقه عابثا ، كذلك أمره له لا يكون به عابثا .
فإن قيل : إلا أنه يجوز أن يكون في خلقه مصلحة لغيره من المكلفين ، فيكونوا أقرب إلى الطاعة وأبعد عن المعصية .
قيل : فلعل في أمره الذي يعلم أنه لا يمتثله مصالح لكثير من المكلفين، ولا انفصال لهم عن ذلك .


- فصل تذكير :

وهو أن المسألة الجارية يجب أن يُحقَّق مراد المفتي فيها . فإن وقع للمجتهد الآخر ما وقع للمفتي الأول من المعنى استراحَا من الجدال . وإن خالفه في اللفظ دون المعنى اجتهد في حصول الموافقة في اللفظ الذي لا يكون فيه إبهام ولا تردد . فأكثر ما يجيء الخلاف بين المتفقيْن في المعنى من جهة تعلق أحدهما بلفظ متردد وتعلق الآخر بلفظ خاص غير مشترك يقع فيه وهم . مثل ( أصْدَق ) لا يتحقق فيه التزايد ، لان الصدق الخبر المطابق لمخبره فحين زاد او نقص خرج عن كونه صدقا ،.. فيقول أنه أكثر صدقا .. الخ






- فصل : هل يجوز الأخذ بالحديث الضعيف ;
قد أطلق أحمد القول بالأخذ به . فقا مهنّأ : قال أحمد : الناس كلهم أكفاء ، إلا الحائك والحجام والكسّاح . فقيل له ; تأخذ بحديث : ( كل الناس أكفاء إلا حائك أوحجام ) وأن ضعّفتَه ؟ فقال ; إنما ضعّفت إسناده ، ولكن العمل عليه .



- فصل :


معرفة الله سبحانه التي لا يتعقّبها طاعة في سائر ما أمر به ..منحبطةُ الثواب ..وعباداتُه التي لا تتقدمها المعرفة منحبطةُ ..كما أن الطهارة لغير صلاة غيرُ نافعة ..والمعرفة لغير طاعة وعبادة غيرُ نافعة ...بل من لا يعرف ولم تحصل له المعرفة غير مؤاخذ بترك المعرفة إلا لإهماله شرطها ..وهو النظر والإستدلال القادر عليهما ..فكذلك التارك للعبادات مؤاخذ بترك تقديم مالا تتحصل العبادة إلا به ..وهو الإيمان .




- في الكبائر :
الدلالة على معرفتنا لها أن الله سبحانه قد سمى كبائر ، وشرط إحباط كل سيئة غيرها باجتنابها ، فدل ذلك على أن لها غيرها . وشرع عقوبات ، وجاء بوعيد على معاص مخصوصة . فالاستدلال بعظم العقوبة على عظم الجريمة استدلال صحيح . فنستدل على الأكثر مأتما عند الله على الأثر عقوبة بوضع الله . كما نستدل على الفضل في أعمال الطاعات بما يرد من مقادير المجازاة عليها ، وشدة الحث على فعلها ، ومجيء الوعيد على تركها .



- في الرد على القائلين أن الحسن ما حسنه العقل والقبيح ما قبحه العقل:
نقول وبالله التوفيق :
إنه لا يخلو دعواكم حسن الحسن وقبح القبيح بالعقل معنى علمتموه ضرورة من جهة العقل ، أو بالاستدلال . فلا يجوز دعوى الضرورة ، لأننا وكثير من العقلاء مخالفون في ذلك ، وقائلون بأنا لا نعلم شيئا من ذلك إلا بالسمع . ولو جاز أن يختلف العقلاء فيما هو معلوم ضرورة ، لاختلفوا في حسن العدل ، وشكر المنعم ، فقال بعضهم إنه قبيح ، وحسّنه بعضهم . فلما يختلفوا في في حسن العدل ، وقبح الظلم ، ولم يجز وقوع الخلاف في ذلك ، ووقع الخلاف في طريق التحسين، فقال قوم (هو السمع ) ، و قوم (هو العقل ) ، بطل دعوى العلم بذلك من جهة الضرورة .
فإن قيل : الخلاف قد يقع عنادا ، كما عاندت السوفسطائية في جحد الحقائق ودرك الحواس . قيل : هذا أمر لا يختصنا . ولئن جاز مثل ذلك في حقنا ، وأنا نعاند ما نجده من تحسين العقل ، جاز ذلك في حقكم من معاندة ما اعتقدناه من أن التحسين ليس إلا من جهة السمع . ولا يجوز أن يكون من جهة الاستدلال بأدلة العقل ، لأننا وإياكم في النظر والاستدلال سواء . فلو جاز دعوى التقصير منا في أدلة العقل إلى أن يفضي بنا ذلك إلى جحد القبيح والحسن المؤدي إليها والعلم بها دليلُ العقل ، لجاز أن يذهب بعض الناظرين المستدلين إلى قبح العدل وحسن كفر المنعم ، لقصوره في النظر . وعلى أنا ، على ما كنا نجده في نفوسنا من إيلام الحيوان ، وقتل الآباء والأولاد ، وقطع الأرحام ، لأجل الكفر ، ونكابد نفوسنا في إيقاع ذلك مكابدة نجدها في نفوسنا ، نجدها اليوم بعد استقرار الشرع ولا عبرة بها ، لأجل أن الشرع حسّنها ، كذلك قبل الشرع . ومن هان عليه ذلك ، هان باستمرار العادة ، كالقصابين والمحاربين الذين صار ذبح الحيوان عندهم كتجارة ..ومع ذلك ، فلا عبرة بما نجده من ذلك مع تحسين الشرع له ، والأمر ببعضه ، وجعله في الهدايا والجهاد قربة وطاعة . ومعلوم أن هذا من أبعد المنافاة ، ما بين كونه في فطرة العقل قبيحا ، إلى كونه في الشرع حسنا وطاعة وقربة .



تم بحمد الله .