الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه
هل هناك مبادئ فكريَّة متَّفق عليها بين العقلاء جميعاً ؟
مقدمة :هذا السؤال على بساطته الظَّاهريَّة صعب متضمِّن لإشكال، فإنَّ الذي نسمِّيه بأنَّه (عاقل) هو الذي عنده المبادئ العقليَّة الأولى، فلئن شكَّك أحد في هذه المبادئ مع كونه ذا فهم وتعقُّل وليس مجنوناً فهل نقول إنَّه عاقل لأنَّه يظهر على أفعاله وأقواله الانتظام والحكمة، أو غير عاقل لأنَّه يُنكر المبادئ التي لا يمكن أن يكون هناك فكر إلا بها، فلا يكون مفكِّراً على الحقيقة لأنَّه لا أساس للتفكير له! إلا أنَّ يقال إنَّ الفكر مستقلٌّ عن العقل، فلا يكون إلا نشاطاً صوريّاً محلُّه الدِّماغ بالتَّحليل والتركيب بين المعاني من غير ضابط، فيكون كالخيال والشعر والأصوات التي من غير معنى.
فينبثق عن السؤال السابق سؤال بأنَّ مَن أنكر ضروريَّة المبادئ الأولى هل نعامله على أنَّه عاقل؟ أو نعامله على أنَّه مجنون يُنكر أصل الفهم فننفض أيدينا منه؟ أو على أنَّه مكابر متغافل فنحرقه بالنَّار ليحسَّ بالحرارة فيقرَّ بإحساسه ثمَّ ليقرَّ بوجود النَّار ثمَّ ليقرَّ بمبدأ السَّببيَّة ؟! فسنجد أنَّ المنكرين للضَّروريّات مقسَّمين بين الأقسام الثلاثة، منهم مَن هم عقلاء ومنهم من هم مجانين ومنهم مَن هم مكابرون!
فالسوفسطائيَّة في قديم الزمان كان بعضهم عقلاء وبعضهم مكابرون، فقد كانت سفسطاتهم تختلف وتتنوَّع. وعدد من الملحدين في زماننا هذا من الطبيعيِّين التَّابعين للمذهب الوضعيِّ مكابرون، فهم يصحِّحون العلم التَّجريبيَّ دون ما به تُعلم العلوم التجريبيَّة!وإن شئنا أن نضرب مثلاً على مجنون فكلُّ المجانين حالهم من هذا! إلا أنَّه لم يُتح لهم التَّعبير عن جنونهم فلسفيّاً إلا إن جعلنا نيتشه منهم! فهو قريب من أن نُطلق عليه بأنَّه مجنون، لا بقصد انتقاصه، فهو من أكابر الفلاسفة المتأخِّرين، بل بناء على أفكاره ونتائجها، وعلى تاريخه في مستشفى الأمراض العقليَّة. فلا يبعد أن نسمِّيه فيلسوف المجانين ومجنون الفلاسفة! مع كونه من كبار الفلاسفة في العصور المتأخِّرة للأسف الشديد! والأسف يكون أكبر إذا ما تيقَّنَّا من أنَّ فلسفة نيتشة هي الطَّاغية في العالم بأسره بشكل مباشر أو غير مباشر، هذه الفلسفة التي أثَّرت –مع سياقها وسباقها- في قلب الفلسفة من أن تكون مبيِّنة للواقع إلى أن تكون هي المشكِّلة للواقع بحسب من يريد كما يريد.
فلذلك يقال إنَّ عصرنا هذا هو من شرِّ العصور فكريّاً! ولذلك وجب علينا أن يكون نقاشنا مع هؤلاء المتأثِّرين بسفسطات الفلاسفة المتأخِّرين بإثبات المبادئ. أي: هناك أصول فكريَّة ومبادئ عقليَّة مختلف فيها بين العقلاء، وفي نفس الوقت هي ما ينبني عليه الفكر. (((فالواجب علينا هو أن نبيِّن ضروريَّة المبادئ الأولى في أنفسها بغضِّ النَّظر عن المخاطَب))). صحيح أنَّ كثيراً من المبادئ لسنا بحاجة إلى إثباتها مع أغلب العقلاء، لكنَّا بحاجة إلى إثبات (ضروريَّتها) مع كثير منهم. ومع هذا فأكثر النَّاس مستغنون عن النَّظر الفكريِّ الأوَّليِّ لوضوح المطلوبات، وسيجدون بعض المقدِّمات التي ستذكر واضحة قد طُوِّل الكلام عليها من غير ما داعٍ، لكنَّ الدَّاعي هو أنَّا نخاطب من لا يعترف بـ(ضروريَّة) هذه المبادئ أصلاً!
أمَّا المذاهب الفكريَّة الأخرى كالمذهب الوضعيِّ فنحن بحاجة إلى نقضها، ونقضها بطريقين:
الأوَّل: إثبات ضروريَّة المبادئ العقليَّة في ذواتها، فإذا ما ثبت أنَّ الأصول الفكريَّة الحقَّة هي كذا وكذا فسيلزم أنَّ ما لم ينبنِ على هذه المبادئ فهو بلا أساس، وأنَّ ما يناقضها باطل في نفسه. فنحن في دراستنا للمبادئ الفكريَّة سنكون بالفعل ناقضين لتلك المذاهب.
الثَّاني: البرهنة على التَّناقض الدَّاخليِّ في هذه المذاهب، وذلك ليس ببعيد ولا صعب بحمد الله تعالى، لكن فليكن في موضع آخر بإذن الله تعالى.
وهنا يقال: لا بدَّ من الاعتراف مراراً وتكراراً بأنَّ هذا العصر فاشل فكريّاً! بل لا بدَّ من إثبات ذلك عمليّاً بتتبُّع نتائج أقوال أغلب المفكِّرين في هذا الزمان لنجدها لا ترقى لأن تُسمَّى فكراً إلا بالدعاية الكبيرة التي لها! فلذلك لا نستريب في أنَّ ما هو طاغٍ على السَّطح من نظريّات وفرضيّات فكريَّة –وحتَّى علميَّة نظريَّة كما في الفيزياء والبيولوجيا- إنَّما هو طاغٍ بسبب الدِّعاية لا بسبب أنَّه فكر متماسك في نفسه مطابق للواقع، فلا حجَّة في أيِّ قول بناء على أنَّه قول هيئة علميَّة أو عالم كبير في مجاله، حتَّى إن كان قوله في مجاله... فإنَّ المرجع هو النَّظر في الأمر في نفسه وعرض ما يقول الغير على ما أفكِّر فيه وما تفكِّر فيه، فإنَّ تلقين الحقائق مناقض للفكر، فلا يصحُّ عند من يرى أنَّه ينظر ويفكِّر أن يكون الحجَّة عنده قول أحد لنفس هذا الشَّخص أو لمكانته وإلا لكان مقلِّداً غير ناظر.
أمَّا الذي أفعله الآن فليس إلا عرضاً أراك أنت أيُّها القارئ الكريم قادراً على فهمه والحكم عليه بأنَّه حقٌّ أو باطل. فلئن رأيتَ ما فيه حقّاً فالواجب عليك الأخذ به، ليس لأنَّه كلام لي، بل لأنَّك نظرتَ فيه بنفسك وعرفتَ حقِّيَّته بنفسك، فيلزمك أن لا تناقض نفسك في الفكر بأن تخالف مبادئ أصليَّة، فأنت الذي وصلت إلى هذا حقِّيَّة هذه المبادئ وإن كان بوساطة شيء عُرض عليك. ولئن رأيت ما فيه باطلاً فهنا باب النقاش المفتوح على مصراعيه لمن يريد.
من أين نبدأ؟
نبدأ ممَّا لا يكون مختلفاً فيه بين الحيوانات فضلاً عن البشر... الإدراك.
فالإدراك هو أمر انفعاليٌّ محض خارج عن حقيقة النَّفس حاصل فيها.
فلنفرض شخصاً ما (جابر) خالياً تماماً من أيِّ علم سابق ليس من حوله أيُّ طريق إدراك، لا صوت ولا ضوء ولا حسَّ بشيء... وفجأة أصدرنا صوتاً.
فسيحصل انفعال في نفس جابر، سيظهر له (حدوث) شيء، ليس مهمّاً الآن معرفة حقيقة هذا الشَّيء، ليس مهمّاً معرفة محلِّه إن كان في النَّفس أو خارجها، ليس مهمّاً معرفة كون هذا الشيء شيئاً موجوداً أو خيالاً أو وهماً أو حلماً... المهمُّ إدراك (لوجوده)، ثمَّ ينتهي الصَّوت فينتهي إدراكه، فيدرك معنى (عدم) هذا الشيء، ويستحضر أنَّ هذا الإدراك كذلك له بداية، أي إنَّه كذلك قد سبقه (عدم).
إذن: أوَّل مُدرك هو (الوجود)، وبعده (العدم).
الوجود هو ذلك المفهوم البسيط الساذج، لا نريد به غير ذلك، والعدم كذلك بسيط هو فقط نفيٌ، نفيٌ فقط...
نعم – لا، 1- 0.
فإذا ما أدرك جابر هذين فهو سيدرك بنفس هذه الضَّرورة أنَّ الوجود (غيرٌ) للعدم، فقد أحسَّ بشيء ثمَّ حصلت حالة أخرى... (فالوجود هو غير العدم)، حالة الوجود غيرُ حالة العدم، هذا هو الإدراك الضَّروريُّ الثَّالث. فببساطة: أدرك جابر المفهوم البسيط للوجود، وأدرك المفهوم البسيط للعدم، فمفهوم الوجود ليس هو مفهوم العدم، فهما غيران.
والعدم هو اللا وجود، والوجود هو اللاعدم، فلو لم يكونا غيرين لكان الوجود هو العدم، فيكون الوجود هو اللاوجود، وهو ضروريُّ البطلان على ما سبق.
فاجتماع الوجود والعدم معاً لشيء واحد باطل (((بناء على فهم مفهوميهما))).
إذن: الشيء ليس غيره، ولو كان الشيء غيره لما كان هو ذاته.
فالشيء هو (هو)، وما دام هو (هو) فليس غيره.
(((وهذا مبدأ الذَّاتيَّة [الهويَّة])))، وهو مبدأ ضروريُّ الصِّحَّة.
فاجتماع الوجود والعدم باطل (لذاته).
فإنَّا لو قلنا: (ش) موجود معدوم معاً.
فهذا يعني أنَّ (ش) موجود لا موجود معاً، وهو باطل لما ذُكِرَ سابقاً من الضرورة.
واجتماع نفي كليهما [أي نفي الوجود ونفي العدم معاً] باطل، إذ إنَّ نفي الوجود هو العدم، ونفي العدم هو الوجود، فيلزم أنَّه يعود إلى إثبات الوجود والعدم معاً كما في الحالة الأولى!
أي إنَّا لو قلنا: (ش) ليس موجوداً وليس معدوماً.
فهذا يعني أنَّه معدوم (ليس موجوداً)، و (ليس معدوماً). فيكون معدوماً غير معدوم معاً، وهو باطل بالضرورة السابقة.
فلا يجتمعان معاً ولا ينتفيان معاً بالرجوع إلى مفهوميهما، فبين الوجود والعدم حالة (تناقض).
فيبثت بهذا ضروريَّة (((مبدأ منع التناقض))).
فمبدأ الهويَّة ومبدا منع التَّناقض هما أوَّل مبدأين ضروريَّين ثابتين بعين إدراكنا لمفهومي الوجود والعدم.
وعلى هذين المبدأين ضروريَّي الصِّحَّة يُبنى باقي المبادئ الفكريَّة بإذن الله تعالى
بقلم : محمد أكرم أبو غوش
تنبيه : لما رأيته من اطلاع واسع لصاحب المقال على الشبهات التي تأرق الباحثين عن الحقيقة، واطلاعه الواسع في امرور الفلسفة والالهيات، فقد طلبت منه إكمالها ووعدنني باتمامها، مع ان اثبات مبدأ الهوية والتناقض كاف للرد على منكري البديهيات لان البديهيات المعروفة كمبدأ العلية تقوم على هذين المبدأين، فنرجو ان يتيسر لصاحب المقال أن يكمل الخير الذي بدأه إن شاء الله...
يتبع إن شاء الله...
Bookmarks